البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

القيم الأخلاقيّة في العصور الوسطى الغربيَّة في ألف عام

الباحث :  غيضان السيد علي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  31
السنة :  صيف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 30 / 2023
عدد زيارات البحث :  906
تحميل  ( 639.054 KB )
الملخّص
حاول الباحث في هذه الدراسة التركيز على القيم الأخلاقيّة في المجتمع الأوروبيّ في القرون الوسطى، محاولًا إبراز التأثير الكبير الذي أحدثه الفكر اللاهوتيّ والكنسيّ في البنية الأخلاقيّة في تلك الفترة، وذلك من خلال دراسة الرؤى الأخلاقيّة لكبار الفلاسفة واللاهوتيّين في تلك المرحلة التاريخيّة.
وقسّم الباحث دراسته إلى ثلاثة مراحلة زمنيّة؛ المرحلة الأولى وهي المرحلة التي تمتدّ ما بين القرنين الخامس والتاسع، ويعتبر القديس أوغسطين من أهمّ اللاهوتيّين الذين عاشوا في تلك الفترة، وكان له تأثير مهمّ جدًّا في هذا المجال.
وأمّا المرحلة الثانية فهي المرحلة التي اعتبرها الباحث مرحلة النضج والازدهار، وتمتدّ ما بين القرنين التاسع والثاني عشر، وكان من أهمّ روّادها ومفكّريها القدّيس أنسلم.
وأمّا المرحلة الثالثة فهي المرحلة الممتدّة ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، وكان من أهمّ فلاسفتها ولاهوتيّيها القديس توما الإكوينيّ الذي كان لآرائه شديد الأثر على القيم الأخلاقيّة في ذلك العصر.

ويمكن القول إنّ الطابع العام الذي يطبع الرؤى الأخلاقيّة لتلك المرحلة الزمنيّة هو النظر إلى الأخلاق باعتبارها تنفيذاً لأوامر الله، كما يبرز بشدّة تركيزهم على مسألة الخطيئة، واعتبار أنّ الإنسان يحتاج إلى الله ليخلّصه من تلك الخطيئة. فضلاً عن اعتبار أنّ الله محبّة، وأن الشر في العالم أمر عدميّ، وبالتالي فالله لم يوجد إلّا الخير، وبذلك يظهر مدى ارتباط القيم الأخلاقيّة في العصور الوسطى بالدين ارتباطًا وثيقًا.

كلمات مفتاحيّة: الأخلاق، الخطيئة، المسيحيّة، القرون الوسطى، أوغسطين، توما الإكويني، الخير، الشرّ.

المقدّمة
تتناول هذه الدراسة القيم الأخلاقيّة في العصور الوسطى في ألف عام، أي خلال الفترة التي تمتدّ -تقريبًا- منذ سقوط روما عام 476م وتنتهي بنهاية القرن الخامس عشر 1500م. وهي فترة غَفِلَ فيها كثيرٌ من الباحثين والدارسين ومؤرّخي الأخلاق والعصور الفلسفيَّة عن تناول مبحث الأخلاق؛ رغم أنَّ هذه الفترة تزخر بزخم أخلاقيّ كبير نتج عن دعوات الكتاب المقدّس -صعبة الحصر- إلى الالتزام بمكارم الأخلاق. ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما جاء على لسان السيّد المسيح: «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ».[انجيل متى 44:5]، أو ما جاء في المزامير: «صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّر، وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ، حِدْ عَنِ الشَّر، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا». [سفر المزامير 34: 14]. حيث تسود الإنجيل روح أخلاقيّة عامّة تدعو إلى حبّ الآخرين، والإحسان، والعفو، وعدم مقابلة الشَّر بمثله، والتمسّك بطهارة القلب التي هي العماد؛ وذلك بغية الوصول إلى الكمال الأخلاقيّ الذي وضعه المسيح أمام أتباعه؛ حيث وضع أمامهم طبيعة الله  الكاملة، قائلًا لهم : «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ». [متى 5 : 48].

ورغم ذلك اعتاد جُلّ المؤلِّفين والمصنّفين للكتب الأخلاقيّة وتاريخها أن يتناولوا الأخلاق والقيم في الفلسفة اليونانيّة في العصرين الهللينيّ والهلينستيّ ثمّ ينتقلون مباشرة إلى الأخلاق والقيم في عصر النهضة وما يليها. أمَّا دارسو العصور الوسطى، فقد انصبّ اهتمام معظمهم على مسائل بعينها؛ كالعلاقة بين الفلسفة والدين أو التوفيق بين العقل والنقل، وهل الحقيقة واحدة أم حقيقتان؟ أو الاهتمام بتقديم براهين على وجود الله تعالى، أو الاهتمام بالمشكلات الرئيسة التي انشغل بها الآباء والقساوسة من قبيل: مشكلة العلم الإلهيّ، أو مشكلة الصفات الإلهيّة (الإرادة والقدرة)، أو مشكلة الكلّيّات، أو نظريّة الوجود، في حين توارت دراسة القيم الأخلاقيّة، وجاءت بصور عارضة أثناء بحث هذه المسائل والمشكلات السابق ذكرها. ومن هنا أتت أهمّيّة هذا الدراسة التي حاولت إلقاء رؤية تحليليّة نقديّة على القيم الأخلاقيّة خلال هذه الفترة بعد أن عانت كثيرًا من الإهمال والتجاهل.
وتعالج هذه الدراسة -عبر منهج تحليليّ وآخر نقديّ- موضوع القيم الأخلاقيَّة في العصور الوسطى من خلال جانبين مهمّين: أوّلهما الجانب التاريخيّ وثانيهما الجانب الموضوعيّ؛ حيث يستعرض الجانب التاريخيّ جهود الباحثين في الأخلاق سواء أكانوا قساوسة أم آباء أو فلاسفة عبر ألف عام من خلال المراحل الثلاث التي مرّت بها فلسفة العصور الوسطى: وهي مرحلة النشأة والتكوين وهي المرحلة التي تمتدّ تقريبًا حتّى القرن التاسع الميلاديّ، ومن أشهر رجالها: أوغسطين، وديونيسيوس الأربابوجي، وبوئثيوس. أو مرحلة النضج والازدهار والتي تبدأ في الربع الأخير من القرن الثامن وتستمرّ حتّى نهاية القرن الثاني عشر الميلاديّ، ومن أشهر أعلامها: جون سكوت اريوجينا، وأنسلم، وأبيلارد. أو في مرحلة الانحطاط والتدهور التي تغطّي القرن الرابع عشر والنصف الأوّل من القرن الخامس عشر، ومن أشهر ممثّليها: ألبرت الكبير، وبونافنتورا، وتوما الأكويني، وجون دنس سكوت، ونيكولاس كوزانوس؛ بينما يتناول الجانب الموضوعيّ المبادئ والقيم الأخلاقيّة وقواعدها -كما ظهرت عند أعلام كلّ مرحلة- تناولًا تحليليًّا نقديًّا. وسوف يتمّ تناول الجانبين من خلال ثلاثة مباحث رئيسة نتناولها فيما يلي:

أوّلًا- القيم الأخلاقيّة في المرحلة الأولى (ما بين القرنين الخامس والتاسع)
تمتد هذه المرحلة تقريبًا حتّى القرن التاسع الميلاديّ، ومن أهمّ مفكّري هذه الفترة هم: القدّيس أوغسطين St. Aureluis Augustinus (354-430م) مؤسّس الأفلاطونيَّة المسيحيّة ومثقّف العصر الوسيط كلّه بمؤلَّفاته الزاخرة بالأدب والفلسفة واللاهوت. وديونيسيوس الأربابوجي Dionysius The Areopagit وكان أسقفًا سوريًّا مثقّفًا كبيرًا كتب باليونانيّة، فلاقت مؤلَّفاته ذيوعًا كبيرًا؛ حيث تُرجمت إلى اللاتينيَّة وصارت مرجعًا مهمًّا في الإلهيّات والتصوّف. وبوئثيوس  الذي كان مترجمًا عكف على دراسة وترجمة كتب أرسطو، خاصّة المنطقيّة منها. وقد تميزت تلك الفترة بقلّة الإنتاج نتيجة غزوات البرابرة على روما وإمبراطوريّتها. وما ترتّب على ذلك من انقلابات اجتماعيّة دُمّرت على أثرها المدارس وأُحرقت الكتب[2]. كما نذكر من أعلام هذه الفترة إيزودور الإشبيلي (570-636) والانجليزي بيد (672-735)، لكنّهما لم يكونا مؤثّرين مثل الثلاثة الكبار: أوغسطين، وديونيسيوس، وبوئثيوس Boethious ، وسوف نتناول فيما يلي الأخلاق عند هؤلاء المفكّرين الكبار الذين يمثّلون أهمّ أعلام هذه المرحلة:

1.  القيم الأخلاقيّة عند أوغسطين
ولد أوريليوس أوغسطين عام 354م في تاجيست Tageste في مقاطعة نوميديا Numidia في شمال إفريقيا من أب وثنيّ وأمّ مسيحيّة، وأتمّ تعليمه في شمال إفريقيا، وأكمل دراسته العليا في قرطاج عاصمة إفريقيا الرومانيّة، وبعد أن أتمّ تعليمه عمل بالتدريس، ثمّ عمل أستاذًا لكرسيّ الخطابة في قرطاج، وبعد عدّة سنوات من اشتغاله بالتدريس رحل إلى روما، ثمّ زار مدينة ميلانو وعمل بها أستاذًا للخطابة. اعتنق المسيحيّة في البداية بالوراثة ثمّ اعترته موجة من الشكّ فيها، فأخذ يتخلّى عنها تدريجيًّا في عام 386م، متّجهًا صوب البحث عن الحقيقة والحكمة تحت تأثير قراءاته لشيشرون Cicero الخطيب الرومانيّ المشهور. وتعرّف على المذهب المانويّ أكثر مذاهب الغنوصيّة شعبيّة وأوسعها انتشارًا حينئذٍ، آمن بمبادئها فترة من الزمن ثمّ سرعان ما تخلّص منها عندما تعرّف إلى القديس أمبروزو Ambrose St. راعي كنيسة ميلان. كذلك اطّلع على المؤلَّفات الفلسفيَّة لفلاسفة الأفلاطونيَّة المحدثة New platonic وقرأ تفسيراتهم الدينيَّة للدّيانة المسيحيّة وتأثر بالأفلاطونيَّة الجديدة تأثّرًا كبيرًا حتّى تأثّرت بها أفكاره الدينيَّة؛ حتّى أنّه لُقّب بأفلاطون المسيحيّ، حيث مال إلى الابتعاد عن العالم المادّيّ الخارجيّ وركّز على الحقيقة الروحيّة الداخليّة[3]. ثمّ اعتزل العالم منشغلًا بالحياة الدينيَّة حتّى وصل لمنصب الكهانة، ثمّ مساعدًا لأسقف مدينة هيبو Hippo المسمّى فاليروس Valerius، ثمّ أسقفًا خلفًا لفاليروس، ومنذ ذلك الحين بدأ يمارس مهام عمله كأسقف، حتّى وفاته عام 430م؛ أي بعد اثني عشر عامًا من سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة، تاركًا مجموعة من المؤلّفات القيّمة، أهمّها: «عن الثالوث المقدّس»، و«عن مجمع الأرباب»، و«مدينة الله»، و«الاعترافات» وهو أهمّ كتبه، وعلى ضوئه يتمّ تحديد الإطار الحقيقيّ لأيّ دراسة في فكره[4]. وقد احتلّت المشكلة الأخلاقيّة مكانًا بارزًا في فلسفته؛ حيث كانت المشكلة الأخلاقيّة هي المشكلة الأولى في المانويّة التي آمن بها فترة من الزمان قبل أن يصبح مسيحيًّا. كما كان اهتمامه بالأخلاقيّات أمرًا ضروريًا لاستقامة مذهبه الفلسفيّ؛ فبلوغ السعادة هو هدف فلسفته الأول، وبلوغ السعادة يعتمد على سلوكيّات الإنسان. علمًا بأن هذا الاهتمام لم يشكّل نظريّة خالصة في بادئ الأمر، إنّما كان اهتمامًا بالحياة الأخلاقيّة نفسها، باعتبار أنّ أوغسطين ينتمي إلى المفكّرين الذين يهتمّون بمناقشة وتحليل الأخلاقيّات أكثر من اهتمامهم بالناحية اللغويّة[5]. وقد تجلّت أفكاره الأخلاقيّة فيما يلي:

أ. الله هو مصدر الأخلاق: رأى أوغسطين أنّ كافّة الحقائق الموجودة على هذه الأرض مصدرها الله تعالى، فهناك علاقة وثيقة بين الله وسائر الحقائق، حيث إنّه هو مصدرها جميعًا، ومن ثمّ كان الله هو مصدر الأخلاق؛ فالحياة السعيدة هي النعيم في الله، ومن أجل الله، ولا شيء غير ذلك يمكن أن يُسمى سعادة. فالسعادة والحقيقة عند أوغسطين شيئان مترادفان، والذي يطلب الواحدة يطلب الأخرى؛ وذلك لأنّ مصدرهما واحد هو الله[6]. ومن ثمّ لم يكن غريبًا أن تعتمد معظم آراء وأفكار أوغسطين الأخلاقيّة على نصوص لاهوتيّة من القانون الإلهيّ الموحى به، ولا غرابة أيضًا أن يُجاهر أوغسطين بالقول بأنَّ الله هو الذي يحدّد الفضيلة، ويميّز بين الخير والشرّ، بل يرى أنّ الفضائل إذا انقطعت صلتها بالله كانت رذائل! ليصبح من الخطأ -حسب منظور أوغسطين- أن تطلب الفضائل لذاتها وليس من أجل غاية تقوم وراءها، فإنّ مثل هذه الفضائل لا تعدو أن تكون رذائل. وبهذا أصبحت الفضيلة لا تُطلب لذاتها، ولا من أجل نتائجها النافعة، وإنّما لأنّها تتمّشى مع إرادة الله؛ ولذلك رأت الكنيسة ضرورة التمسّك بالمعتقد الدينيّ والخلقيّ ولو لم يوافق العقل؛ فاتّصف الفكر الأخلاقيّ الكنسيّ بإلغاء العقل وعدم استعماله.

ب. حرّيّة الإرادة الإنسانيَّة: الإنسان عند أوغسطين حرّ، وما دام حرًّا فإنَّه أخلاقيّ؛ لأنّنا لا نستطيع أن نتحدّث عن الأخلاق في غيبة الحرّيَّة[7]. ويعرّف أوغسطين الحرّيَّة تعريفًا مغايرًا لما تعارف عليه الفلاسفة السابقون بأنّها القدرة على اختيار الخير الشَّر معًا، فهذا تعريف غير صحيح عنده؛ لأنّ هذا التعريف يجعل الله غير حرّ؛ لأنّ الله ليس له القدرة على اختيار الشَّر؛ لأنّ اختيار الشَّر نقص، والله منزّه عن كلّ نقص. ومن ثمَّ يرى أنَّ الحرّيَّة هي القدرة على قول: (لا)؛ لذلك فإنَّ الحرّيَّة شيء مطلق من جهة أنّها تتيح للإنسان أن يرفض أيّ شيء وكلّ شيء[8]. ومع إقرار أوغسطين بالحرّيَّة الإنسانيَّة عجز عن تقديم تبريرات مقنعة لما يترتّب عليها من نتائج وأسئلة محيّرة بل هرب منها، ومن أهّم هذه الأسئلة: كيف تتّسق الحرّيَّة الإنسانيَّة مع أسبقيّة العلم الإلهيّ؟ كيف نفهم الحريَّة الإنسانيَّة في ظل القانون الإلهيّ الذي لا يتغيّر ولا يتبّدل ويحكم سير العالم الذي يسير نحو غاية محدّدة اقتضتها الحكمة الإلهيّة؟

ت. القانون الأخلاقيّ إلهيّ سرمديّ: رأى أوغسطين أنَّ المعرفة وحبّ الله هما الغاية الأخلاقيّة؛ لأنَّ موضوعهما هو القانون الأبديّ الثابت الذي لا يتغيّر. حيث فرّق أوغسطين بين نوعين من القوانين: أوّلهما القانون الإنسانيّ، وهو المقياس الذي بواسطته يمكننا أن نمتدح أو نذمّ السلوكيّات الإنسانيَّة، وهو يتشكّل وفقًا لحاجات المجتمع وتطوّراته التاريخيّة؛ ولهذا كانت سمته التغيّر والتجدّد المستمرّ وفقًا لاحتياجات المجتمع التي تتغيّر وتتطوّر من عصر إلى آخر. وثانيهما هو القانون الإلهيّ، وهو الذي يظلّ ثابتًا لا تمسّه يد التغيّر والتردّد ويتّصف بالعموميّة والشموليّة، بحيث تدخل في نطاقه وتندرج تحت لوائه كلّ السلوكيّات البشريّة، وهو يأخذ مكانه في روح الشخص الحكيم، فيوجّهه ويرشده إلى الطريق القويم، وهو يساعد الإنسان على فهم الأشياء فهمًا جيّدًا. وإنَّ إدراك هذا النظام وفهمه هو الحكمة بعينها، وعلى أساسه يعمل العقل موجّهًا ذاته من ناحية والسلوكيّات الإنسانيَّة من ناحية أخرى وفقًا لذلك القانون السرمديّ[9]. وقد رأى أوغسطين أنَّ القانون الطبيعيّ والقانون الأخلاقيّ يندرجان تحت القانون الإلهيّ وينتسبان إليه؛ لأنّ مصدرهما هو الله؛ ولذلك فهما ثابتان لا يطرأ عليهما تغيّر أو تطّور. وهنا نلاحظ أنّ أوغسطين يجعل هذا القانون الأخلاقيّ من طبيعة القوانين الرياضيّة، فهو حقيقة أزليّة أبديّة كالحقائق الرياضيّة. وهذا القانون، لو نظرنا في تفصيلاته، لوجدنا أنّه الموجود في الكون، أمّا الآمر فهو الله؛ ولهذا يظهر هذا القانون بوصفه أمرًا أو نهيًا: أمرًا باعتباره يوجب السير تبعًا لمقتضيات النظام، ونهيًا باعتباره عكس ذلك[10]. لتظهر الأخلاق عند أوغسطين بوصفها قانونًا لا يمكن تصوّره دون طاعة، تلك الطاعة التي تحوّلت إلى طاعة عمياء لرجال الدين لا تقبل الجدال أو النقاش. كما يلاحظ أنّ فكرة النظام هذه أخذها أوغسطين عن الأفلاطونيَّة التي مزجها بالفلسفة الرواقيّة وبمذهب شيشرون الذي جعل القانون الطبيعيّ قانونًا إلهيًّا؛ ولذلك يمكن القول إنَّ رأي أوغسطين هنا ليس رأيًا أصيلًا له، وإنّما أخذه عن الفلسفات التي سبقته، ولا سيّما الفلسفة الرواقيّة.
ث. التوحيد بين الأخلاق والحقيقة: وحَّدَ أوغسطين بين الحقيقة والأخلاق، فكلاهما ينبعان من مصدر واحد هو الله، فالأخلاق تعتمد على الأوامر والتقارير الدينيَّة -مثل افعل ولا تفعل-، وكذلك على اللطف الإلهيّ الذي يمكّن الإنسان من تنفيذ مشيئة الله، ومن ثمّ فالأخلاق حقائق إلهيّة أوحى بها الله. فكما أنّ الحقيقة المطلقة تأتي من الله فقط لأنّها صنيعته، فكذلك الإنسان هو صنيعة الله، وهو يتمتّع بالسعادة عند رؤية الله، وفي هذه الرؤية وفي ظلّ تلك الوحدة يشعر الإنسان بالراحة ويخلد للسكينة باتحاده بالله وعشقه له. ويعبّر أوغسطين عن هذا المعنى في جملة لاتينيّة مستقيمة، موزونة عبارتها، سلس أسلوبها، فيقول مخاطبًا الله في بداية كتاب الاعترافات: «أنت الذي تحضّنا على أن ننعم بحمدك، لأنّك خلقتنا لك، ولأنّ قلوبنا لا تعرف الطمأنينة، حتّى تطمئنّ وتقرّ عندك»[11]. ولأهمّيّة الأحكام الخلقيّة عند أوغسطين نجده يصف القانون الأبديّ بأنّه شعاع صادر عن الحقائق الأبديَّة يتّجه نحو العقل البشريّ، وعلى هذا فإنّ نظريّة الإشعاع الإلهيّ كما نلاحظ قد ارتبطت عنده بالقيم الأخلاقيّة. وعلى ذلك فالضمير الإنسانيّ ما هو إلّا عقل يعرف جيّدًا القانون الأبديّ «فالقانون الداخليّ ينطبع في القلب ذاته»[12].
ج. الخير والشَّر: تعود كلّ المسائل الأخلاقيّة عند القدّيس أوغسطين -في النهاية- إلى مشكلتي الخير والشَّر، فقد حدّد أوغسطين الخير بأنّه السير على مقتضى القانون الإلهيّ أو الطبيعيّ، أمَّا الشَّر فهو مخالفة هذا القانون. فالخير شيء بالفعل، أما الشَّر فلا يمكن أن يعتبر وجودًا حقيقيًّا، بل هو سلب محض، أي أنّ الشَّر هو سلب للخير، أي سلب للنظام؛ ولهذا فإنّ علّة الخير شيء إيجابيّ وجوديّ، أما الشَّر فهو نقصان أو عدم؛ ولهذا يمكن تسمية الخير باسم الفعل، بينما الشَّر لا يمكن أن يوصف من ناحية العلّيّة إلّا بأنَّه النقص[13]. ولهذا فإنّ كلّ الموجودات ما عدا الله هي موجودات ناقصة، ومن ثمَّ لا بدّ أن يكون بها قدر من الشَّر، كثر هذا القدر أو قلّ. ولا شكّ أنّ أوغسطين هنا يتراجع عن رؤيته الأولى -عندما كان يؤمن بالمانويّة- لطبيعة الشَّر؛ إذ كان يرى أنّ الشَّر مبدأ للوجود. وقد تغيّرت رؤيته تمامًا تحت تأثير الأفكار الأفلاطونيَّة والمسيحيَّة التي جعلت من الشَّر عدمًا وسلبًا للخير فحسب.
ح. الحبّ هو رأس الفضائل: رأى أوغسطين أنّ غاية الفعل الصحيح هو تحقيق فضيلة العيش الحسن، وهي الفضيلة التي تعني العيش وفقًا لنظام الحبّ، ذلك النظام الذي يدعو إلى الحبّ الذي يمنع الإنسان من أن يحبّ ما هو غير جدير بالحبّ. إنَّ مثل هذا النظام القويم المتكامل الأركان يمدّ الإنسان بالنموذج الذي يساعده على معرفة ذاته من خلال العمل، كما رأى أوغسطين أنَّه إلى الحبّ ترجع الفضائل كلّها؛ فالحكمة والعفّة والشجاعة والعدل جميعها يعود إلى فضيلة عليا واحدة، هي فضيلة الحبّ، فهي التي توجِد ما عداها فبوجودها توجد الفضيلة وبغيابها تنعدم. وما دام الحبّ قد سيطر على الإنسان، فإنّه سوف يكون بلا جدال إنسانًا أخلاقيًّا، فالحبّ ينبوع كلّ الفضائل.  لكن الحبّ هنا ليس حبّ الذات أو حبّ الآخر، إنّما هو «حبّ الله»، فالإنسان السعيد هو ذلك الإنسان الذي يملك الحقيقة الأبديّة؛ أي أن يملك الله ويملكه الله، وكلّ ذلك عن طريق المحبّة، والإنسان الفاضل هو ذلك الإنسان صاحب القلب المحب الممتلئ بالمحبّة الإلهيّة المشتاق إلى معانقة الربّ. لكن سرعان ما تحوّلت أخلاق الحبّ إلى أخلاقيّات الخوف القائمة على الخطيئة الأصليّة.

2- القيم الأخلاقيّة عند ديونيسيوس
يعدّ ديونيسيوس الأريوباجي Dionysius The Areopagit أحد أهمّ المفكّرين المسيحيّين في هذه الفترة، والذي ذاع صيته بين أواخر القرن الخامس وبدايات القرن السادس الميلاديّ، ولا تقف المصادر على تاريخ محدّد لميلاده أو وفاته، وكان يقدّم نفسه بوصفه تلميذًا لبولس الرسول تبرّكًا بديونيسيوس الأوّل تلميذ بولس الرسول، وهو أسقف سوريّ متشبّع بالأفلاطونيَّة الجديدة، وقد حاول التوفيق بينها وبين المسيحيّة. وله كتب أربعة هي: «الأسماء الإلهيّة»، «المراتب السماويّة» أو الملائكة، «اللاهوت الصوفيّ»، «المراتب الكنسيّة». وهي مهداة جميعًا إلى «ثيموثاوس» تلميذ بولس، يضاف إليها عشر رسائل موجّهة إلى أشخاص من أهل القرن الأوّل، منهم يوحنّا الإنجيليّ[14]. وقد بدت آراء ديونيسيوس الأخلاقيّة واضحة من خلال هذه الكتب، نوجز أهمّ هذه الآراء فيما يلي:

أ. الأخلاق هي تنفيذ أوامر الله: رأى ديونيسيوس أنَّ الإنسان يصبح فاضلًا وأخلاقيًّا إذا قام بتنفيذ أوامر الله، ويصبح شريرًا أو غير أخلاقيٍّ إذا لم يقم بتنفيذ أوامر الله وارتكب الخطايا. فالخير الأخلاقيّ وإرضاء الله أمران لا ينفصلان، وفروض الله والقوانين الأخلاقيّة متلازمان[15]. ومن أهمّ سمات هذه الأخلاق عند ديونيسيوس أنّها تّتجه إلى مخاطبة القلب، وتقوم على الوجدان أكثر من العقل، وتعتمد على الإيمان بالله. ومن ثمّ تكون الفضيلة عند ديونيسيوس، كما هي عند سلفه أوغسطين، هي العمل بمقتضى أوامر الله، وأنّ الفضائل إذا انقطعت صلتها بالله صارت رذائل، وأنّ النفس عندما تتحرّر من الخطايا ومن كافّة المغريات الحسّيّة، فإنّها تدخل الغموض الإلهيّ، وهي أكثر إشراقًا من النور، وتبدأ في أن ترى وتعرف ذلك الذي هو أبعد من البصر والمعرفة العقليَّة حتّى ذاك الذي لا نستطيع رؤيته أو معرفته بذكائنا- وهذا هو الله[16].
ب. الخيريَّة مبدأ الأشياء جميعًا: رأى ديونيسيوس أنَّ الخيريَّة هي أصل الأشياء ومبدأها، وأنّ الأشياء صادرة عن الله لخيريّته. والله نور، وهو شمس العقول ومنيرها، وهو جميل أو هو الجمال بالذات، بينما جمال المخلوقات جميعًا جزء من جماله، فكلّ جمال مخلوق هو أثر من جماله اللامتناهي، وهو غير مُدرك ولا يمكن وصفه[17]. والله محبّة، وهو محبٌّ للبشر، فهو خلاص الموجودات وفداؤها وأنَّ الاتحاد به نعمة مجّانيّة، تسبقها وتهيّئ لها نِعمٌ مجّانيّة أخرى. والكتاب المقدّس يفضل هذا الاسم (الله محبّة) على اسم الودّ الذي قد يبدو للعامة أنقى وأصفى، والله محبّة ومحبوب معًا[18].
ت. الخير والشَّر: الخير عند ديونيسيوس، كما عند أوغسطين، هو الموجود بالفعل، أمّا الشَّر فلا يمكن أن يعتبر وجودًا حقيقيًّا، بل هو سلب محض، أي أنّ الشَّر هو عدم وجود، لا جوهر ووجود. كما يؤكّد على أنّ الشَّر لا يمكن أن يكون صادرًا عن الله، فالله خير لا يصدر عنه إلّا خير، فالشَّر إذن ليس موجودًا في الله ولا في مخلوقات الله. وهنا يجد ديونيسيوس نفسه في مهمّة للدفاع عن الأشرار بوصفهم مخلوقات لله تعالى. فيرى أنَّ الشياطين ليسوا أشرارًا بطبيعتهم! ولكنّهم صاروا أشرارًا بسقطة وخطيئة اقتضتها الحرّيَّة التي وهبها لهم الخالق[19].
ث. حرّيّة الإرادة والعدالة الإلهيّة: الإنسان حرّ عند ديونيسيوس؛ لأنّ الخُلقيّة تشترط وجود الحرّيَّة، فلا يمكن تبرير الخلقيّة دون وجود الحريَّة. كما أنّ فكرة الثواب والعقاب الأخرويّ في الأديان لا يمكن تبريرها ما لم يكن الإنسان حرًّا في اختيار ما يأتي أو يتجنّب من أفعال؛ ولذلك كان كلّ مخطئ يستحقّ العقاب، وكلّ مصيب يستحقّ الثواب، فالله هو العدل المطلق. وهو عظيم بسبب عظمته الذاتيّة التي تفوق كلّ عظمة، وهو السلام الذي يؤلّف بين الموجودات، فتبدو في نظام وانسجام. فالجزاء الأخرويّ في الفلسفة المسيحيّة دخلت العالم الغربيّ ولم تكن موجودة في الفلسفة اليونانيّة.

3. القيم الأخلاقيّة عند بوئثيوس
 يعدّ سفرنيوس بوئثيوس S. Boethious (470-525م) واحدًا من أشهر فلاسفة ومفكّري المسيحيّة في القرن السادس الميلاديّ؛ ولد لأسرة رومانيّة معروفة، وأُرسل صبيًّا إلى أثينا، فدرس بها الأدب والفلسفة، وفي سنة 510م صار وزيرًا لأحد ملوك المقاطعات الإيطاليّة، ثمّ اتُّهم زورًا بالتآمر على مليكه، واتُّهم بمزاولة السحر والتنجيم؛ فأودع السجن دون أن يتمّكن من الدفاع عن نفسه، وأعدم بعد تعذيبه عذابًا شديدًا[20]. وألّفَ في سجنه كتابًا أسماه «عزاء الفلسفة»، وهو الكتاب الذي اعتمدنا عليه في عرض مذهبه الأخلاقيّ، وهو مذهب غير متّسق؛ حيث لفّق فيه بين كثير من الآراء الأخلاقيّة المتعارضة. رغم أنّ الكتاب في مجمله عبارة عن محاولة لإقامة الإيمان على أساس عقليّ فلسفيّ. ومن أهمّ الآراء الأخلاقيّة التي جاءت في هذا الكتاب المهمّ ما يلي:

أ. الخير الأسمى: وهو «الخير الذي إذا بلغه الإنسان لم يسعه أن يصبو إلى أيّ شيء آخر»[21]، أي هو الخير المكتمل الذي ينطوي في داخله على كلّ ألوان الخير؛ لأنّه لو افتقر إلى أيّ شيء، لما كان الخير الكامل؛ إذ يبقى هناك شيء خارجه قد يكون مرغوبًا. وعلى ذلك تصبح السعادة -إذن- هي حالة من كمال الخير لاحتوائها على كلّ ما هو خير، وهي التي يسعى إليها جميع البشر[22]. والخير صفة متأصّلة في النفس الإنسانيَّة ُفطر عليها الإنسان منذ خلقه، وما يجعله يرتكب الشَّرور هو السير في الدروب الضالّة.
ب. اللذّة لا تحقّق السعادة: يرى بوئثيوس أنّ اللذّة الجسديّة لا يمكن أن تحقّق السعادة، فليست هي الخير الأسمى كما زعم أبيقور، فالسعي لنيل اللذّة محفوف بالهمّ، والشبع منها مملوء بالندم، أو كما يقول بوئثيوس: «كم أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقام وتباريح، وكأنّها ضرب من عقاب الإثم. لست أفهم أيّ سعادة في الشهوات إذا كان الأسى هو نهاية اللذّة. ويعرف ذلك كلّ من يتجشّم استعادة ذكرى انغماساته، فإذا قيل إنَّ لذّة الجسد يمكن أن تجلب السعادة، فلماذا لا نقول عن البهائم إنّها سعيدة، وهي لا تسعى في حياتها لغير إشباع حاجات الجسد؟!»[23].
ت. الدوافع الزائفة إلى السعادة: رأى بوئثيوس أنَّ المال، والمنصب، والسلطة، والشهرة، والمجد، والسعي للملذّات، وجمال الجسد وغيرها، ما هي إلّا دوافع زائفة للسعادة، لن تصل بنا للغاية التي وعدتنا بها، لأنّ الشَّرور التي تكتنفها هائلة: «فإذا أردت أن تدّخر مالًا فإّنك، لا بدّ منتزعه من حائزيه، وإذا أردت أن تتألّق في أبّهة المنص،ب فسوف يتعيّن عليك أن تنبطح لمن أنعم عليك به: أي أنّك إذا أردت أن تبزّ الآخرين في الكرامة، فسيكون عليك أن ترخّص نفسك وتهينها بالتزلّف. وإذا أردت السلطة فلا بدّ أن تعرّض نفسك لمؤامرات رعاياك وأن تتجشّم مخاطر جسيمة. وإذا استهوتك الشهرة والمجد فسوف تجد نفسك في مسلك وعر، تتقاذفك الدروب وتشتبه عليك المسالك إلى أن تضنيك الهموم وتمحوك... وصفوة القول إنَّ هذه الأشياء التي لا تأتي بالخير الذي وعدتْ به ولا تبلغ كمال الخير إذا اجتمعت، ليست هي الطريق إلى السعادة، ولا يمكنها بذاتها أن تجعل الناس سعداء»[24].  
ث. الله هو الخير والسعادة: يؤكّد بوئثيوس أنَّ المال، والمنصب، والسلطة، والشهرة، والمجد، والسعي للملذّات، وجمال الجسد وغيرها تقدّم للإنسان ظلال الخير الحقيقيّ فحسب. أمَّا الخير الحقيقيّ فهو الذي يوجد في الله الذي لا يفتقر إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء، ولكن يحتاج كلّ ما عداه إليه، فهو مصدر الأشياء جميعًا، وفيه فقط الخير الكامل، والسعادة الكاملة[25]. إذن على كلّ من يسعى للسعادة أن يصبح إلهيًّا، «فمن البيّن أنَّه من خلال امتلاك الألوهيّة يصبح الناس سعداء، فبالمنطق نفسه الذي به يصبح الناس عادلين بالعدل، وحكماء بالحكمة، فإنّ أولئك الذين يمتلكون الألوهة يصبحون إلهيّين. كلّ امريء سعيد هو إذًا إلهيّ. وبينما الله وحده هو كذلك بالطبيعة، فإنّ بوسع أيّ عدد تشاء من الناس أن يصبحوا إلهيّين بالمشاركة»[26].

وهكذا يتضح لنا أنَّ القيم الأخلاقيّة في تلك المرحلة الأولى كان تُردّ إلى الله، فالله هو مصدر الأخلاق، والفضائل تكمن في اتّباع الأوامر الإلهيّة والقرب من الله، أو يكون الناس إلهيّين على حدّ عبارة بوئيثوس.

ثانيًا- القيم الأخلاقيّة في مرحلة النضج والازدهار (ما بين القرنين التاسع والثاني عشر)
وتمتد هذه المرحلة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلاديّ؛ حيث تبدأ من النهضة التي بعثها شارلمان في الربع الأخير من القرن الثامن الميلاديّ، ثمّ استمرّت حتّى نهاية القرن التاسع. وقد تميّزت هذه المرحلة بازدياد عدد المدارس وانتظام التعليم العالي، ونبغ فيها عدد من العلماء. ومن ثمَّ شهد القرن التاسع حركة علميّة زاهرة كان أكبر روّادها «جون سكوت إريوجينا John Scotus Eriugena  (815-877م). بيد أنّ تلك الحركة الآخذة في الازدهار سرعان ما تعثّرت في القرن العاشر، وعادت إلى الهدوء مرّة أخرى، ونشطت الحركة العلميّة وظهر جدليّون ونبغ فيها لاهوتيّون كان على رأسهم القديس أنسلم Anselm (1033-1109م). وما أن حلّ القرن الثاني عشر، إذ بالحياة الاجتماعيّة قد استقرّت وانتعشت التجارة والصناعة وتقدّمت الفنون، وكانت هذه النهضة سببًا في ظهور عدد كبير من اللاهوتيّين والجدليّين الذين قدّموا أدبًا رائعًا متأثرًا بالآداب اليونانيّة واللاتينيَّة[27]. ومن أبرز مفكّري تلك المرحلة الذين اهتمّوا بالجانب القيميّ والأخلاقيّ: جون سكوت أريوجينا، والقدّيس أنسلم، وأبيلارد.

1. القيم الأخلاقيّة عند جون سكوت إريوجينا
ولد جون سكوت إريوجينا -على أرجح الأقوال- عام 815م في إيرلندا، نال تعليمًا في سنّ مبكرة في مدارس الرهبان، عاش في فرنسا فترة طويلة منذ أن دعاه الإمبراطور «شارل الأصلع» إلى باريس لكي يكون رئيسًا لمدرسة القصر، حيث نال شهرة واسعة حتّى دعاه رجال الدين إلى أن يكون مدافعًا عن الكاثوليكيّة ضدّ البدع التي قامت في ذلك العهد. وعلى أساس الأفلاطونيَّة الجديدة أبدع مذهبه الصوفيّ الذي عرض جوهره في مؤلّفه: «في الطبائع الإلهيّة». وقد تأثّر إريوجينا بالأفلاطونيَّة المحدثة، وبفكر أوغسطين الشاب، وديونيسيوس الأربوباجي الذي عاش في القرن الخامس الميلاديّ، بجانب كتب الكثير من الآباء من أمثال: ماكسيموس صاحب الاعتراف، والقدّيس جرجوار النوساوي، وببعض كتب أرسطوطاليس، وخصوصًا كتابي «المقولات» و«العبارة». وكانت نتيجة هذه الدراسات كلّها أن أخرج سكوت إريوجينا كتابًا بعنوان: «تقسيم الطبيعة»[28]. رفع العقل فوق مرتبة الإيمان، ولم يأبه قطّ بسلطة رجال الدين؛ ومع ذلك، قصد إليه رجال الدين ليكون حكمًا فيما نشب بينهم من خلاف[29]. وهو إلى الفلسفة أقرب من اللاهوت، حيث تتميّز آراؤه بنزعة عقليّة واضحة، وهو الأمر الذي سيبدو جليًّا في آرائه الأخلاقيّة التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

أ. حرّيّة الإرادة: آمن سكوت إريوجينا بحرّيّة الإرادة الإنسانيَّة، وانحاز إلى رؤية «هنكمار» رئيس أساقفة «ريمز» الذي كان يؤمن بمبدأ الإرادة الحرّة في خلافه مع «جوتياشوك Gotteachalk» الراهب الذي كان يأخذ بمبدأ الجبر. وكتب سكوت إريوجينا رسالة عنوانها «في الجبر الإلهيّ» أيّد فيها القول بحرّيّة الإرادة الإنسانيَّة بطريقة فلسفيَّة خالصة، ولم يؤيّد ذلك بعبارات الكتاب المقدّس، محاولًا إيصال رسالة فحواها أنَّ العقل والوحي كلاهما مصدران للحقيقة، ولا يمكن أن يقع بينهما اختلاف؛ لكن إذا حدث أن خُيّل إلينا ذات مرّة أنّهما مختلفان، كان العقل أحقّ لدينا بالقبول، وهو الأمر الذي استرعى أنظار الرقباء وأثار عليه عاصفة من الغضب، أنقذه من عواقبها الوخيمة قربه من الملك وتأييده له.

ب. الله هو الخير المطلق: رأى سكوت إريوجينا أنَّ الله هو الخير المطلق، وهو محبّة خالصة؛ ولأنّه كذلك لا يمكن أن يقبل الشَّر، ولهذا كان الشَّرّ، والموت، والضرر، والخطيئة، ليست من فعل الله. أمَّا فعل الشَّر فلا يأتي من قضاء سابق، بل يأتي من فساد الإرادة أو من ميل الإرادة الفاسدة. وبهذا استطاع إريوجينا أن يعمل على التوفيق بين الحريَّة الإنسانيَّة وبين القضاء السابق. وتبعًا لهذا يقول سكوت إريوجينا: إنَّ أفعال الناس لم تُقدّر قدرًا سابقًا من حيث الشَّر، وإنّما قُدّرت من حيث الخير فحسب. والإرادة الشَّريرة وحدها هي التي تفعل الخطيئة أو الشَّر، وفعلها ليس إيجابيًّا، بل هو نقصان وعدم للخير[30].

ت. الأخيار وحدهم هم الخالدون: رأى سكوت إريوجينا أنَّ الوجود الأرضيّ إذا ذهب لن يكون بعده نار؛ لأنَّ النار لا وجود لها إلّا في العالم الأرضّ،. شأنها شأن الشَّر الذي هو عدم محض، ولمّا كان الله لا يمكن أن يكون العدم موجود في تصوّره، فمعنى ذلك أنّه لن يبعث حين البعث غير الأخيار، أمَّا الأشرار فمصيرهم العدم المحض. ولا شكّ أنّ هذا الرأي يخالف المسيحيّة التي تؤمن بالثواب والعقاب الأخرويّ.
ث. الخطيئة الأصليَّة مجرّد رمز: رأى سكوت أنَّه لم يحدث بالفعل أن قد هبط شخص من الجنّة لخطيئة ارتكبها، بل وجد الإنسان أوّلًا في هذه الصورة، صورة الرجل والمرأة منذ البداية، باعتبار أنَّ الخلق قد تمّ من الطبيعة الخالقة غير المخلوقة عن طريق الطبيعة الخالقة المخلوقة، فصار هناك اتصال بين بين هذه المادّة والروح، هذا الاتصال هو الخطيئة، وتلك يجب أن تُفهم فهما وجوديًّا خالصًا، ويجب أن لا تُفهم فهمًا أخلاقيًّا، باعتبار أنّها كانت نتيجة خطأ ارتكبه فرد من البشر. ولكن الوجود منذ البدء يقوم بالخطيئة في اجتماع المحسوس بغير المحسوس أو الروح بالمادّة[31].
وهكذا بدا جون سكوت إريوجينا جريئًا كلّ الجرأة في النظر إلى العقائد المسيحيّة، وأسس رؤية أخلاقيّة حاول فيها أن يمزج بين الأفلاطونيَّة المحدثة والمسيحيّة، وحاول أن يؤوّل بعض العقائد المسيحيّة تأويلًا رمزيًّا في حرّيّة تامّة، وبناءً على رؤية عقليّة؛ مما جعل الكنيسة تنظر إليه بعين الريبة؛ ولهذا حُرِّمت كتب سكوت إريوجينا، وأصبح مطرودًا من الكنيسة.

2. القيم الأخلاقيّة عند القدّيس أنسلم
ولد القدّيس أنسلم عام 1033 في مدينة أوستا Aosta الإيطاليّة، ترك منزل والده بعد وفاة والدته قاصدًا دير بيك Bec في نورمانديا بقصد التعلم على يد المعلم لانفرانك Lanfranc صاحب الشهرة الكبيرة حينذاك. وفي عام 1060م أصبح راهبًا في هذا الدير، وعام 1078م، ثمّ أصبح رئيسا لدير بيك، وفي عام 1085م نال شهرة واسعة، وأصبحت هناك قاعدة عريضة من الناس في إيطاليا وإنجلترا وفرنسا يقرأون كتاباته. وفي عام 1903م أصبح رئيسًا لأساقفة كانتربري خلفًا للانفرانك، لكنَّه لم يكن راضيًا بهذا المنصب الرفيع نظرًا لأنّه أوقعه في الحرج نتيجة الصراع بين الكنيسة والملك. وتوفّي عام 1109م بعد أن ترك مجموعة من المؤلَّفات الخالدة منها: المونولوجيون (المناجاة)، البروسلوجين، عن النحويّ، عن الحقيقة، الإرادة الحرة، في سقوط الشيطان، في تجسّد الكلمة، لماذا صار الربّ إنسانًا، في الميلاد العذريّ والخطيئة الأصليَّة، في صدور الروح القدس، في اتفاق علم الربّ المسبق وعنايته بالإرادة الحرّة، الشذرات الفلسفيَّة.

وقد اهتمّ القديس أنسلم في هذه المؤلَّفات اهتمامًا كبيرًا بالموضوعات الأخلاقيّة، وقام بتقسيمها إلى أخلاق دينيَّة وأخرى فلسفيَّة. تناول في القسم الأوّل القضايا الكبرى في مذهب الإيمان المسيحيّ وهي: الخطيئة، والتجسّد، والفداء، والخلاص. في حين يتناول القسم الثاني: حرّيّة الإرادة، وفكرة علم الربّ المسبق، وفكرة القضاء والقدر، وفكرة العناية الإلهيّة. وفيما يلي نقدّم شرحًا موجزًا لتلك القضايا الأخلاقيّة سواء الدينيَّة أو الفلسفيَّة:
1. الأخلاق الدينيَّة: ويقصد بها القدّيس أنسلم تلك الموضوعات المتعلّقة بالخطيئة والتجسّد والفداء والحاجة الماسّة إلى الخلاص الذي ينقل الجنس البشريّ من المدينة الأرضيّة إلى ملكوت الربّ السماويّ. وقد اهتمّ أنسلم بموضوع الأخلاق الدينيَّة من أجل إقامة أخلاق مسيحيَّة على أساس دينيّ عقليّ على النحو التالي:

2. الخطيئة الأصليَّة: تعد الخطيئة الأصليَّة Original Sin محور الأخلاق المسيحيّة وجوهرها؛ وهي تعني وضع الخطيئة أو حالتها التي يولد كلّ إنسان عليها، وأصلها في عِصيان «آدم» لله عندما أكل من فاكهة شجرة معرفة الخير والشَّرّ. وقد انتقلت خطيئته إلى ذرّيته[32]، ويرى أنسلم أنّ الطبيعة البشريّة عن طريق آدم قد سُلبت الاستقامة التي كانت تمتلكها، ومن ثمّ فهي تفتقر للصلاح ما لم تتمّ مساعدتها لاستعادته. وعلى هذا تكون خطيئة آدم الشخصيّة قد مرّت من خلال جميع الأجيال التي تناسلت منه طبيعيًّا، وهي طبيعيّة فيهم؛ لهذا السبب تعتبر خطيئة أصليّة[33]. ورغم أنّ أنسلم يرى فرقًا كبيرًا بين خطيئة آدم الشخصيّة وخطيئة أبنائه التي انتقلت إليهم بالوراثة الطبيعيّة، وأنّ خطأ الأبناء أقلّ من خطيئة آدم، إلّا أّنه يرى أنّه لن يخلص أحد إلّا بموت المسيح على الصليب وسداد الدين الكلّيّ الذي سيُغفر من خلاله تلك الخطيئتين. كما يطلق أنسلم اسم الخطيئة على الأفعال المنحرفة كالزنا والكذب. ويرى أنسلم أنّ الخطيئة الأصليَّة التي ارتكبها آدم قد دنّست الجنس البشريّ كلّه -عدا نسل العذراء- فأصبح الجسد البشريّ أشبه بجسد الحيوانات المتوحّشة نتيجة للفساد وحبّ الشهوات، وأصبحت النفس الإنسانيَّة ضعيفة وفاسدة، فالجسد يشتهي ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد[34]. ومن ثمّ تمّ احتقار الجسد في المسيحيّة، فابتعد بعض المسيحيّين عن الطهارة، وبعضهم لم يغتسل طول حياته، وبعضهم كان يسبح في مستنقعات حتّى يقرص جسمه العاري ذباب سام. ونظر بعضهم إلى النساء على أنهنّ شرّ في ذاته، وأنّ مصادفتهن في الطريق أو التحدّث إليهنّ ولو كنّ أمهات أو شقيقات يحبط أعمالهم وجهودهم الروحيّة!

3. مشكلة الشَّر: إن الشَّر الملازم للخطيئة عند أنسلم هو عدم، ومن ثمَّ، فإنّ الانحراف عن السلوك المستقيم ليس شيئًا على الإطلاق، فهو مثل العمى، فما العمى في رأيه إلّا غياب البصر في حالة وجوب تواجد البصر. وبالمنطق نفسه، الشَّر هو غياب الخير، وإذا كان شيء ما شرًا فهذا يعني أنّه ليس له وجود، ولكن كيف يُحاسب الإله الإنسان على الشَّر إذا كان عدمًا؟ أي لا وجود له. يردّ أنسلم أنّه بالرغم من أنّ غياب الاستقامة هو عدم، وفي حالتي وجوب تواجد الاستقامة وعدم وجوب تواجدها، فإنّ الإله عندما يعاقب الإنسان لا يعاقبه على لا شيء بل يعاقبه على شيء. ويبدو هنا أنّ أنسلم وقع في مأزق منطقيّ، فكان عليه أن يسلك مسلك «جون سكوت أوريجينا» الذي جعل الثواب في الآخرة للأخيار دون الأشرار الذي يكون مصيرهم العدم لأن الشَّرّ عدم.
4. تجسّد المسيح: هي من العقائد المركزيّة في المسيحيّة، مفادها أنَّ الله أصبح إنسانًا على شكل المسيح، ابن الله والشخص الثاني في الثالوث المقدس. في المسيح تتداخل الطبيعتان الإلهيّة والبشريّة، لكن دون أن تتغيّر إحداهما أو تُلغى[35]. وهو شخص مبرّأ من الخطيئة الأصليَّة، وليس عليه خطيئة أو دين يستحق الأداء[36]؛ لأنّه من نسل العذراء تلك الطاهرة المطهّرة من الخطيئة التي جمَّلها الربّ وأعطاها النقاء الذي يفوق الفهم والتصوّر، ولا يعيه إلّا الرّب وحده؛ ولذلك كان المسيح يحمل استقامة أصليّة وليس خطيئة أصليّة، فهو يحوي طبيعة إلهيّة وأخرى بشريّة، كلّ من هاتين الطبيعتين متزامنة مع الطبيعة الأخرى في كلّ لحظة وفي كلّ حين، والنفس فيه متوافقة مع الإرادة. وما دام الله هو العادل كيف يحاسب الناس على خطيئة انتقلت إليهم بالوراثة الضروريّة؟! فهم لم يرتكبوها، والإله لا يطلب من أحد شيئًا أكثر مما هو مدان به، وبما أنّه لا يستطيع أيّ شخص أن يكفّر عن كلّ ما عليه، فإنّ المسيح نفسه هو الذي دفع هذا الدَين لمن خلصوا، فهو دفع أكثر مما هو مستحَقّ عليهم[37]؛ ولذلك كان الغرض الأساس من التجسّد هو التكفير عن الخطيئة الأصليَّة التي ارتكبها آدم، وهو المقدّمة الضروريّة للفداء الذي لن يكون إلّا من خلال التجسّد.
4. الفداء: وهو الذي يتمّ بعد أن يتجسّد الإله الربّ ويصبح إنسانًا كي يموت على الصليب، وبموته تتحقّق المعجزة، بأن تعود الحياة للعالم، ويتخلّص من وزر الخطيئة الأصليَّة التي تثقل كاهله، تلك الخطيئة التي لازمته منذ خطيئة آدم حتّى لحظة الصلب. فبموت الإنسان الإلهيّ يتحقّق الفداء عند أنسلم، ويتمّ مسح جميع الذنوب التي اقترفتها البشريّة منذ آدم حتّى قيامة المسيح من بين الأموات، وهو أكبر دليل على حبّ الإله للبشر؛ كما أنّ قبول الربّ الموت على الصليب هو قهر للشيطان نيابة عن البشر. وهكذا يتمّ الفداء بموت الإله على الصليب بإرادته. فقد حقّق الفداء عن الجميع حتّى هؤلاء الذين دفعوه للموت فقد خلّصهم بموته ودفع عنهم ذلك الدَّين[38]. ويبدو ذلك -من منظور كاتب هذه السطور- غير عقلانيّ، فكيف يُحاسب على الخطيئة من لم يقترفها؟! فلو تمّت محاسبة شخص ما على خطيئة لم يأتها، فهذا ظلمٌ بيّن. وهل عجز الإله حتّى لا يجد طريقة لتخليص عباده إلّا بقتل ابنه على الصليب؟! وهل بلغ الإله حًّدا من السفه حتّى يمكّن أعداءه من نفسه ليقتلوه على الصليب؟! وكيف يموت الإله؟!

وفي الحقيقة لم يستطع أنسلم أن يقدّم شيئًا جديدًا لهذه العقائد المسيحيّة وتناولها كما وردت في تراث الآباء الأوائل، هو حاول فقط أن يضفي عليها حسًّا فلسفيًّا كي يظهرها بصورة عقلانيّة، فوقع في تناقض كان أشهره أنّه ربط بين الخطيئة والإرادة الإنسانيَّة العاقلة، مما يعني أنّه يربط بين العقل والفساد الخلقيّ من جهة، ويخالف قصّة الشيطان الذي أوعز لآدم وحوّاء ليرتكبا الخطيئة من جهة أخرى. وعلى ذلك يكون تجسّد الابن المخلّص ليس بمقتضى الإرادة الإلهيّة (رغبة الآب)، بل بمقتضى الخطيئة الإنسانيَّة (إرادة الإنسان العاقلة)، كما أنّ توحيده بين الإله والملائكة وآدم قبل ارتكاب الخطيئة بأنّهم جميعًا أصحاب إرادة عاقلة يوقعه في تناقض، فقد سبق له الربط بين الإرادة الإنسانيَّة العاقلة وبين الخطيئة، كما أنّ حصره للخطيئة في الإرادة الإنسانيَّة العاقلة فقط شيء لا مبرّر له[39]. كما بدت كثيرًا من آرائه كمصادرة على المطلوب فكلّ همّه إرضاء الكنيسة والحفاظ على مكانته اللاهوتيّة الرفيعة، فبدا نسقه الأخلاقيّ مليئًا بالتناقضات.

ب. الأخلاق الفلسفيَّة: وهي تلك الأخلاق التي حاول فيها أنسلم أن يربط القضايا الفلسفيَّة بمبادئ اللاهوت؛ حيث يتناول فيه موضوعات ثلاثة هي:
1. علم الربّ المسبق وحرّيّة الإرادة: حيث يبدو التناقض بين علم الربّ المسبق بكلّ ما سيحدث وبين الحريَّة الإنسانيَّة؛ حيث إنّ ما هو في علم الربّ المسبق لا بدّ أن يحدث، وعندها يصبح لا مجال للحديث عن حرّيّة الاختيار. ولكن أنسلم يرى أنّه لا تعارض بين المعرفة الإلهيّة المسبقة وبين حرية الإرادة الإنسانيَّة؛ والاتّساق بينهما يأتي من طبيعة الأزليّة التي تحوي بداخلها كلّ الزمان وما يحدث في أيّ وقت وزمان دون أيّ إجبار يقع على الإرادة فيمسّ حرّيّتها. كما يؤكّد أنسلم على أنَّ ليس كلّ شيء يقع في علم الربّ المسبق يحدث وفق الضرورة، لكن ثمّة بعض الأفعال التي تصدر نتيجة الأفعال الحرّة[40]. وتظهر هنا تلك الصعوبة التي يريد أن يقدّم أنسلم فيه فكرته للتوفيق بين علم الربّ المسبق وبين حرّيّة الإرادة الإنسانيّة، فكان عليه أن يقول بالإقدار؛ أي إيتاء الله تعالى العبد قدرة على الفعل وعلى الترك، فتثبت له بذلك الحرّيّة التي هي مناط التكليف، ولن يكون في هذا ما ينافي قدرته تعالى، وهي المقدرة والواهبة القدرة، والتي تستطيع أن تسلب في كلّ حين كما تستطيع أن تهب.
2. العناية الإلهيّة وحرّيّة الاختيار: وتدور حول الإجابة على سؤال ما الوسيلة للخلاص؟ هل هي العناية الإلهيّة أم حرّيّة الاختيار؟ يرى الآباء الرسوليّون أنّ الخلاص يكون عبر العناية الإلهيّة التي يقدّمها الربّ للراغبين في ملكوته ولا دور للإرادة الحرّة في عمليّة الخلاص، في حين يرى أنسلم أنّ الإرادة الحرّة التي تتوفّر للإنسان مع البلوغ تبرّر العدل الإلهيّ، وعلى ذلك يتمّ الخلاص عند أنسلم عبر تلازم العناية الإلهيّة مع الإرادة الحرّة؛ وأنّ الانسجام بينهما هو السبيل الأوحد لخلاص الإنسان. تمامًا مثلما توجد الإرادة الحرّة مع علم الربّ المسبق وكما ستوجد الإرادة الحرّة مع القدَر المسبق.

3. فكرة القضاء والقدر وحرّيّة الاختيار: القدر المسبق هو ما يتحتّم حدوثه بقدَر مسبق من الربّ، ومن ثمّ لا مجال هنا لحرّيّة الاختيار عند الإنسان، وهو التناقض الواضح بين نقيضين يحاول أنسلم التوفيق بينهما، فيرى أنّ علم الربّ المسبق وقَدَره لا يتعارضان، فهو -أي الله تعالى- مثلما يعلم علمًا مسبقًا، يقدّر أيضًا قدرًا مسبقًا، فالأفعال التي تحدث بحرّيّة إرادة هي أيضًا أفعال تقع في علم الربّ المسبق، والأفعال التي تحدث وفق إرادة حرّة هي مقدّرة سلفًا أيضًا، فالربّ عند أنسلم يعلم سلفًا كما يقدّر سلفًا أنّ أحدًا ما يحافظ على طهارته بإرادته الحرّة بموجب الضرورة، أمّا ذلك الذي لا يحافظ على طهارته بإرادته الحرّة، فلا يستحقّ أن يكون طاهرًا[41].
وهكذا يتّضح غلبة المعالجة الدينيَّة على المعالجة الفلسفيَّة الخالصة ليس فقط في الأخلاق الدينيَّة ولكن في الأخلاق الفلسفيَّة أيضًا، فقد ظلّ أنسلم أسيرًا للنصوص المقدّسة؛ ولذلك فهو صاحب الإيمان الباحث عن العقل، فإن لم يوافق الإيمان العقل بقي مكانه، وما على العقل إلّا الطاعة والامتثال. فأكثر المعالجات التي قدّمها أنسلم لم تقدّم لنا لاهوتًا عقليًّا بقدر ما قدّمت فكرًا دينيًّا يسخر المعقول لصالح المنقول، فقد افترض يقين المقدّمات الدينيَّة المعتمدة على المنقول الذي له الأولويّة والمنزلة الرفيعة إذا ما قُورن بالمعقول.

4. القيم الأخلاقيّة عند أبيلارد
يمثّل بيتر أبيلارد Abailard  Peter (1079-1142) كمال الازدهار لفلسفة العصور الوسطى المبكرة، فقد كان ذا روح تأمّلّية عميقة، ولد سنة 1079 م في مدينة بالية Pallet بالقرب مدينة نانت Nantes. ودرس أوّلًا دراسة أدبيّة؛ لأنّ والده كان مولعًا بهذه الدراسة، وأراد منها أن تكون مقدّمة لدخوله السلك العسكريّ، إلّا أنّ أبيلارد اتّجه إلى الناحية العلميّة، وإن لازمته الروح العسكريّة في الناحية العلميّة[42]. بدأ بدراسة المنطق على يد جيوم دو شامبو Guillaume De Champeaux الذي كان يدِّرس في نوتردام وكان واقعيًّا متطرّفًا؛ ولذلك نقده تلميذه أبيلارد نقدًا عنيفًا حتّى ناظره مناظرة عنيفة انتهت بنصر مؤزّر للتلميذ على الأستاذ. وهنا بزغ نجم التلميذ واشتهر شهرة عظيمة، إلّا أنّه وقع في غرام «هلويزا» ابنة أخي الكاهن «فلوبير» فأمر الكاهن بخصْيه، وألزمه كما ألزم «هلويزا» بالانسحاب من الحياة العامّة، فلجأ «أبيلارد» إلى دير القدّيس «دنيس»، ودخلت «هلويزا» ديرًا للراهبات في» أرجنتيل»[43]. وبعد أن غادر الدير دخل مناظرة عنيفة مع القدّيس «برنار Bernard» حول المعتقدات الدينيَّة أوردها «أبيلارد» في كتابه: «مقدّمة في اللاهوت» سلَّم فيها «أبيلارد» لآراء خصمه بغرابة شديدة ولم يردّ عليه، وهو المناظر الذي لا يُشقّ له غبار،  فأرغمته مجامع «سواسون» و»سانص» على إحراق كتبه بنفسه، وإلى الرجوع عن معتقداته، وانتهى أمره بالرجوع إلى الدير، وبموته هنالك عام 1142م.
 ومن أهمّ مؤلَّفات أبيلارد: «اللاهوت المسيحيّ»، «المدخل إلى اللاهوت»، «المنطق»، «نعم أم لا»، «اعرف نفسك بنفسك»، «قصّة فاجعة أبيلارد»، «المحاورة بين يهوديّ وفيلسوف نصرانيّ»، «قصيدة إلى استرولابيوس». وقد حاول في معظم هذه الكتابات بيان التناقض الحاصل بين الكتاب المقدّس وآراء الآباء والقساوسة، فضلًا عن تحاليله العميقة للقيم الأخلاقيّة.

ويعدّ أبيلارد أحد أوائل الاسميّين Nominalists، وقد قدَّم دراسات أصيلة حول المنطق، والأخلاق، واللاهوت، وفلسفة اللغة، حتّى اعتبره بعض الباحثين أعظم مناطقة العصور الوسطى بأكملها المبكرة والمتأخّرة. أمّا دراساته حول الأخلاق فقد بلغت مرتبة عظيمة، حيث أكّد على دور نيّة الفاعل في خيريّة الفعل أو شرّيّته. كما أنّ كتاباته عن اللاهوت ولا سيّما عن مسألة «التثليث» أثارت عليه عاصفة قويّة من هجوم الآباء والقساوسة، ووُجه هذا الهجوم على كتابه: «في التوحيد والتثليث» الذي صدر عام 1118 وصودر في عام 1121م؛ حيث عمل فيه على زيادة استخدام التفكير العقليّ والحجج البرهانيّة حول هذه المسألة الشائكة. وقد وردت أهمّ آرائه الأخلاقيّة في كتابيه «اعرف نفسك بنفسك» و«حوار بين يهوديّ وفيلسوف مسيحيّ» اللذان أورد فيهما معظم آرائه الأخلاقيّة، والتي كان من أهمّها:

أ. القيمة الأخلاقيّة للفعل: يرى «أبيلارد» أنَّ القيمة الأخلاقيّة للفعل تحدّدها نيّة الفاعل؛ فهي أصل العمل وبها وحدها يجب أن يقوم العمل. ويجب ألّا تُفهم النّية على أنّها ما يُخّيل للإنسان أنَّه صحيح، بل هي ما يعتقد الإنسان أنَّه مطابق للواقع[44].
ب. الأفعال في ذاتها محايدة أخلاقيًّا: يقرّر «أبيلارد» أنَّ الفعل في ذاته لا يحمل قيمة أخلاقيّة، وإنّما تتحدّد قيمته بناء على نيّة الفاعل وحدها. ومن ثمّ عندما يُجبر إنسان على أداء فعل خاطئ فلا يجوز إيلامه على ذلك.
ت. الجهل بالخطأ لا يُخرج الفعل عن نطاق الأخلاقيّة: أي أنَّ الإنسان إذا ارتكب خطأً أخلاقيًّا وهو جاهل بحقيقته، فلا يجوز إيلامه على فعله من منطلق أخلاقيّ. وقد جادل «أبيلارد» انطلاقًا من مبدأه هذا بالقول إنّ صالبي المسيح  لم يكونوا أشرارًا عند صلبهم ليسوع. (ورَّط هذا المثال وغيره من الأمثلة المماثلة أبيلارد مع السلطات، ولا يخفى السبب على أحد). ولم يجعلهم جهلهم بطبيعة المسيح الإلهيّة في حدّ ذاته أشرارًا، كما أنَّهم لم يتصرّفوا بناءً على معتقداتهم (الزائفة والخاطئة) في صلب المسيح، ويبعد جهلهم الواضح اللوم عن أفعالهم[45].
ث. مخالفة الضمير هو الخطأ الأخلاقيّ: يرى «أبيلارد» أنّ مخالفة ما يعتقده الإنسان هو الأمر الشائن أخلاقيًّا، حيث يقول: «لو اعتقدوا أنَّ صلب المسيح كان مطلوبًا ولم يصلبوا المسيح؛ لكانوا مخطئين»؛ إذ إنَّ عدم التزام المرء بضميره في الفعل الأخلاقيّ يجعل الفاعل جديرًا باللوم، بغضّ النظر عن وقائع القضيّة[46].
ج. الطموح إلى الحياة الآخرة هو غاية الأخلاقيّة: يرى «أبيلارد» أنّ على الإنسان أن يعيش فاضلًا أخلاقيًّا حتّى يضمن له مكانًا بين الآخرين في الحياة الأخرويّة. وعليه أن يتصرّف وفقًا للقاعدة الذهبيّة، وهي (عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك)، وعليه أن يمتثل لمبادئ الدين المسيحيّ التقليديّ. ويقول بالتحديد: «إنَّ الحياة الآخرة تمثّل حالة يجب أن نطمح إليها، وأنَّها تطوير أخلاقيّ حتّى في الحياة الفاضلة في هذا العالم، وأنَّ الاعتراف بذلك هو أساس الرغبة في فعل مشيئة الله؛ أي العيش وفقًا للقاعدة الذهبيّة التي تضمن بقدر ما أن يحقّق أيّ شيء (التعلّق بالنعمة الإلهيّة) غبطتنا إلى ما بعد الموت»[47]. ومن ثمّ ندّد «أبيلارد» بفضيحة بيع الكهنة لصكوك الغفران، وأنكر على الأساقفة سلطان مغفرة الخطايا[48].

ويتبيّن لنا مما سبق أنّ الأخلاق التي يريدها «أبيلارد» لا يمكن الوقوف على حقيقتها، فالله وحده هو العليم ببواطن الأمور أو هو الأعلم بالنوايا. أو بعبارة أوضح: إنّه ما دامت النيّة التي تمّ بناءً عليها الفعل لا يمتلكها إلّا الفاعل، وبالتالي لا يمكن اصدار تقويم محدّد  بشأن الأفعال الأخلاقيّة، حيث يستطيع المجرمون تقديم كثير من الشواهد التي تفيد أنّهم ارتكبوا جرائمهم وهم حسنو النوايا. كما أنّ قول أبيلارد بالسعادة الأخرويّة للفضلاء في الدنيا، وهو أمر معروف ومسلّم به في المسيحيّة، ولذلك جاءت دعوتها في الزهد في اللذّات، ليتعذّر مع هذا أن نتحدّث في المسيحيّة عن مذهب في السعادة. كما أنّ دعوته إلى العمل الأخلاقيّ وفقًا للقاعدة الذهبيّة «عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك» هو تمثيل غير موفق ولا يصلح للتقعيد -كما يرى عبدالحليم محمود-، فإنّ من خواص القواعد أن لا تُخرق ولا تختلف نتائجها عند التطبيق، أمّا في هذا المثال فأدنى تأمّل يظهر ما فيه من عدم الاضطراد، إنْ في منطوقه وإنْ في مفهومه. ألا يحدث أحيانًا أن تكون طبيعة المرء تكره بعض أطايب المأكول والمشروب ثمّ يكون من المتعيّن عليه أدبيًّا أن يقدّمها أحيانًا لضيفه، وخصوصًا في الولائم العامّة. إنّ الأذواق تكاد تختلف بعدد اختلاف الأشخاص، وبالتالي ما يعجب هذا غير مستساغ في نظر سواه وبالعكس. وهنا تحتاج المعاملة إلى خبرة ودراية شخصيّة وبصيرة بالظروف والمناسبات. أمّا أن يقيس المرء بقياس شخصه، فأمر يدعو إلى الخلل في أدب السلوك. إذن لا يصدق هذا المثال إلّا بأمر جزئيّ، وهو أن تكون الأهواء والطبائع بين المتعاملين متّفقة، وأن يكون الأمر المحبوب لا تأباه الأخلاق ولا يحرّمه الشرع[49]. وهذه من أبسط الرؤى النقديّة التي يمكن تقديمها لآراء «أبيلارد» الأخلاقيّة والتي يمكن أن نفرد لها دراسة خاصّة.

ثالثًا- الأخلاق والقيم في المرحلة الثالثة (ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر)
تبدأ هذه المرحلة مع القرن الثالث عشر الميلاديّ حينما أخذ الغربيّون في الاطلاع على الشَّروح العربيَّة لفلسفة أرسطو وعلى الخصوص شروح ابن رشد. حين اتّصل هذا الفكر بالثقافة العربيَّة المزدهرة في الأندلس، وأنشأ رئيس أساقفة «طليطلة» لأول مرة ديوانًا للترجمة (1126-1151م) نُقلت بواسطته من العربيَّة إلى اللاتينيَّة معظم كتب أرسطو الذي عاد إليهم -كما يُقال- في عباءة عربيَّة. ثمّ تزايد الإقبال على إنتاج أرسطو، وزاحم الأفلاطونيَّة وزحزحها عن مكانتها عند القوم[50]. وكانت تلك الفترة عظيمة الشأن؛ حيث تكوّنت فيها مدارس: ألبرت الكبير، والقديس بونافنتورا، والقديس توما الإكويني، وجون دنس سكوت، ونيكولاس كوزانوس. فقد كانت فترة صراع، وتدقيق وغضب، وانقسامات دينيَّة، وضغط مختلف ألوانه. لكن كّل ذلك لم يغيّر من الفكرة الأساسيّة التي استمرّ تيّارها خلال العصور الوسطى، فقد استمر العهد القديم والعهد الجديد المقياس للحقيقة الأخلاقيّة. أمّا ما عداهما من فلسفة تؤيّدهما فليس إلّا أبهة من السهل التخلّي عنها، غير أنَّها مفيدة في إقناع الملحدين وضعاف الإيمان[51]. وسوف نعرض لأهمّ الرؤى الأخلاقيّة التي وردت خلال تلك الفترة عند الآباء والقساوسة المشهورين السابق ذكرهم أعلاه على النحو التالي:

1. القيم الأخلاقيّة عند ألبرت الكبير
وُلِدَ ألبرت الكبير Albertus Magnus عام 1200م في لينجن على الدانوب قرب أولم في بافاريا الألمانيّة لأب ألمانيّ واسع الثراء، والتحق بالتنظيم الدومينيكانيّ 1223م. وتعرّف على أعمال أرسطو وتعليقات ابن رشد في جامعة باريس، وقرّر أن يقدّم لمعاصريه الكيان الكامل للمعرفة الإنسانيَّة كما رآها أرسطو وشراحه[52]. درَّس في باريس بدءًا من عام 1240م، وبعد خمس سنين حاز لقب أستاذ في اللاهوت. وشرع في التعليم في جامعة باريس على أساس كتب أرسطو التي كانت محرّمة رسميًّا، فأصاب نجاحًا وشهرة، وحين عاد إلى كولونيا رُسّم أسقفًا عليه، ولُقب بالكبير تمييزًا له عن المشاركين له في الاسم، أي «ألبرت». إنّ شهرة ألبرت الكبير في التأليف جعلت قائمة كتبه طويلة جدًّا لِما نُحِل إليه من مؤلّفات، ومع ذلك فإنّ أعماله المتعدّدة والمتنوّعة تشمل شروحه على مؤلّفات أرسطو (المنطق، والطبيعيّات، وما بعد الطبيعة، والأخلاق، والسياسة)، وشروحه على الكتب المقدّسة وعلى مؤلّفات كثيرة في الفلسفة والأخلاق، كما تشمل المعارف والعلوم التي كانت سائدة في الفلسفة اليونانيّة، مثل الفلك وعلم الحيوان والرياضيّات. وقد طبعت مؤلّفاته في الغرب في (38) مجلدًا في نهاية القرن التاسع عشر وما تزال أعمال النشر مستمرّة لاستكمال مؤلّفاته، وإعطاء مسرد نقديّ لها[53]. فقد كان رجلًا موسوعيًّا اهتمّ بالعلم الطبيعيّ، والمنطق، والخطابة، والرياضيّات، وعلم الفلك، والاقتصاد، والسياسة، والميتافيزيقا، وأَولى الأخلاق عناية واضحة مؤمنًا بأهمّيّتها في تنشئة النشؤ تنشئة سليمة؛ مستهدفةً استقامة سرائرهم وعلانيّتهم. وتَزَعّمَ هو وتلميذه معارضة الروح الأفلاطونيَّة لصالح الروح الأرسطوطاليّة، لكنّه -مع ذلك- لم يتخلّص تمامًا من الآثار الغنوصيّة للأفلاطونيَّة المحدثة، وعُرف عنه ميله إلى آراء ديونيسيس وأبرقلس، وهم من رجالها، كما ورث الأكويني عن ألبرت الكبير نزعته العقليَّة الأرسطيّة، وورث آخرون من تلاميذه عنه النزعة الروحيّة الأفلوطينيّة[54]. وتوفي في 15 نوفمبر 1280م، وقُدّس في 16 ديسمبر 1931م، ويُحتفل بعيده في 15 نوفمبر. ومن أهمّ الرؤى الأخلاقيّة لألبرت الكبير ما نورده فيما يلي:

أ. الحقّ هو ما يحمله اللاهوت: رأى ألبرت الكبير أنّ الحقّ هو ما يحمله اللاهوت، أمَّا الفلسفة  فلها حدودها. وحين تتّفق الفلسفة مع اللاهوت يكون في ذلك خير كبير، أمَّا إذا اختلفت مع اللاهوت، فعذرها أنّ وسائلها إنسانيّة محدودة، بينما مصدر الحقّ في اللاهوت، فهو الوحي الذي لا يُناقش[55]. وإنَّ هذه التفرقة التي منحت اللاهوت موقعًا ممتازًا في صلب الحقيقة بوصفه وحيًا تقيم علاقة جدليّة جديدة بين النقل (الوحي) وبين العقل (الفلسفة)، ويبدو هذا التوفيق بين الدين والفلسفة متأثّرًا بالنهج الذي سلكه ابن رشد من قبل. علمًا أنّ ألبرت الكبير كان يملك موقفًا نقديًّا من أرسطو لمصلحة الدين أكثر مما هو لدى ابن رشد[56].
ب. الله هو مصدر الأخلاق: يرى ألبرت الكبير أنّ مصدر الأخلاق هو الله، وأنّ القيم الأخلاقيّة تكمن في اتباع الأوامر الإلهيّة. وتمثّلت القيم الأخلاقيّة عنده وقامت على الحبّ، إلّا أنّ تصوّره للخطيئة الأصليَّة -وهو التصوّر السائد في الفكر المسيحيّ- جعل أخلاقيّات الحبّ تتحوّل إلى خوف شديد من الطبيعة البشريّة؛ لأنّها ارتكبت الخطيئة، وبذلك انقلب الإنسان شرّيرًا لا حيلة له في إصلاح نفسه، ولا بدّ له من مخلّص إلهيّ، فالمسيح قدّم نفسه ليكفّر عن خطايا البشر، وبذلك أصبح تعذيب النفس وقتلها من صميم الفكر الكنسيّ[57]. وحاول ألبرت الكبير أن يسمو بالإنسان عن طريق صفاء الروح والابتعاد عن جميع الشهوات، لكنّه لم يستطع، ورأى أنّ الجسد وشهواته هو الحائل أمام نقاء الروح. 
ت. الجزاء الأخرويّ هو الحافز للعمل الأخلاقيّ: اعتمد ألبرت الكبير موقف أفلاطون من خلود النفس الفرديّة ورفض القول بالنفس الكلّيّة كما جاء عند أرسطو وشارحه العربيّ ابن رشد؛ حيث رأى أنّ النفس في حد ّذاتها؛ أي من حيث ماهيّتها، هي جوهر روحانيّ بسيط غير منقسم، وبالتالي غير فانٍ[58]. ومن ثمّ آمن ألبرت أنّ الجزاء الأخرويّ هو أكبر حافز على العمل الأخلاقيّ، وأنّ الأخلاق باعتبارها قانونًا لا يمكن تصوّرها دون طاعة، وأنّه لا يمكن الخلود في الفردوس السماويّ بغير التخلّق بالأخلاق الطبيعيّة الفاضلة والبعد عن الآثام والخطايا.

وهكذا كان ألبرت الكبير يرى دائمًا أنّ الحقائق الأخلاقيّة لا يمكن التوصّل إليها إلّا في تركيبها النهائيّ، أي في اللاهوت المقدّس. فكان يُرجع قرّاءه إلى كتاباته اللاهوتيّة إذا ما أرادوا الوقوف على فكره الحقيقيّ النهائيّ في أيّ مسألة؛ ولذلك كان من الطبيعي أن ينظر إلى أرسطو وفلسفته بعين المسيحيّ لا بعين الفيلسوف، فكان لا يتردّد في فضح ضلالات أرسطو وأغاليطه، فالمعلّم الأوّل ليس منزّهًا عن الخطأ؛ لذلك لم يعمل على التوفيق بين فلسفة أرسطو والمسيحيّة، وإنّما عمل على استبعاد أيّ رأي يتعارض مع العقيدة، معتبرًا إيّاه وهمًا وضلالًا.

2. القيم الأخلاقيّة عند بونافنتورا
وُلد القديس بونافنتورا Saint Bonaventure (1221-1274م) في إيطاليا سنة 1221م، واسمه الحقيقيّ هو «جون من باجينوريا John of Bagnoria»، لكنّه اتّخذ اسم بونافنتورا بعد إن أصبح راهبًا فرنسيسكانيًّا، ويعني «ذو الحظّ السعيد»، ويقال إنَّ القديس «فرانسيس الاسيزي» هو من أطلق عليه هذا الاسم عندما أخذه إليه والده وهو طفل لكي يصلّي له الاسيزي ليشفى من مرض عضال أَلمّ به، وذلك في عام 1221م[59]. ويعد بونافنتورا -على وجه العموم- عالمًا إيطاليًّا من القرون الوسطى وكاردينالًا، أُرسل للتعلّم في باريس، وكان من الطلبة الواعدين، حتّى أنَّه بدأ في إلقاء المحاضرات عام 1248م، وانتخب في عام 1257 كاهنًا عامًّا للفرينسسكان، وعالج خلافًا وليدًا مبدئيًّا بين أولئك الذين فضّلوا منهجًا صارمًا من الفقر والزهد وأولئك الذين يفضّلون نظام تغذية أوسع. توفي في 15 يوليه سنة 1274، وأصبح قدّيسًا في 14 أبريل عام 1482م، وعيده في 15 يوليو[60].

أمّا عن فلسفة «بونافنتورا» فهي إلى الوجدان أقرب منها إلى العقل. فهو يميل إلى أفلاطون بقدر ما يبتعد عن أرسطو، وهو يجعل العقل دائمًا في خدمة الدين، ويطالبه بأن يلجأ إلى الدين كي يستمدّ منه العون والهداية، وأن يكرّس العقل كلّ جهده للدعوة إلى الدين والتكامل به. أمَّا مهمّة الدين نفسها عند «بونافنتورا» فهي الاستشراف نحو العالم الروحانيّ؛ حيث الوصول والاتصال. ولا ينبغي للمرء أن يتشبّث بالعقل في كلّ آن؛ لأنّ من شأن ذلك تشويه الدين عند «بونافنتورا»، حيث يرى أنَّه بمجرّد أن ينظر المرء إلى نفسه أو إلى العالم المحسوس، فسوف يجد الله مباشرة، فمعرفة الله أمر يخبره كلّ إنسان بحدسه مباشرة[61]. فالعقل مَدين بقدر هائل من المعرفة للوحي. وانطلاقًا من هذه الرؤية العامّة لفلسفته كانت فلسفته الأخلاقيّة التي سنعرضها فيما يلي:
أ. التخلّص من الخطيئة شرط الحصول على السعادة: رأى «بونافنتورا» أنّ شرط الحصول على السعادة هو أن يكون الإنسان فاضلًا، ولن يكون الإنسان فاضلًا إلّا إذا استطاع التخلّص من الخطيئة، وهذه لا تتمّ إلّا عن طريق تطهير النفس ومجاهدتها، وعلامة التطهير هي حصول الفضائل ورسوخها في النفس، وبعد أن تثبت هذه الفضائل وتصير ملكة لدى صاحبها، حينئذ تأتي المواهب اللدنيَّة من قبل روح القدس؛ إذ إنَّها لا تحصل إلّا لمن يستحقّها من أفاضل الناس، ولا تحدث إلّا بعد المعاينة والمكاشفة والعناق كما يقول الصوفيّة[62]. ومن هنا كانت دعوة بونافنتورا إلى قتل كلّ ميل دنيويّ حتّى تموت فينا كلّ رغبة دنيويّة. وما أبعد ذلك عن روح المسيحيّة الحقيقيّة التي جاء بها المسيح، حيث إنّ كثيرًا من القساوسة والآباء والرهبان ابتعدوا عن روح الدين المسيحيّ وعطلوا كثيرًا من أصوله وفروعه، حتّى فقد روحه وجماله.
ب. الرغبة في السلام هي غاية الإنسان الأخيرة: يرى «بونافنتورا» أنَّ الإنسان في طلبه للسعادة عليه أن يكون فاضلًا؛ لذلك عليه أن يسلك كلّ سبيل تجاه ما هو فاضل وخيّر ويجتنب كلّ طريق نحو ما هو خطأ وشرير. وهذا كلّه وسيلة إلى الرغبة الأخيرة التي هي أُسّ كلّ الرغبات، وهي رغبة السلام، بمعنى أن يكون الإنسان خاليًا من كلً الشهوات، وقد وصل إلى درجة الطمأنينة التي يستطيع الإنسان عن طريقها أن ينعم برؤية الله. والمسيح حينما أوصى قال: «لقد تركت لكم السلام»[63].

ت. التحلّي بالفضائل الأخلاقيّة هي الطريق إلى الله: انطلاقًا من النقطة السابقة فإنَّ الإنسان الذي يتحلّى بالفضائل الأخلاقيّة ويتخلّص من كافة الشهوات والرذائل، فإنّه يصل إلى درجة الطمأنينة، وتتحقّق عنده رغبة السلام، ومن ثمّ يكون مسلك الإنسان في الحياة -عند بونافنتورا- رحلة إلى الله أو رحلة للتنعّم برؤية الله.

ث. لدى الإنسان نزوع فطريّ نحو الخير المطلق: يرى «بونافنتورا» أنّ لدينا جميعًا نزوعًا نحو السعادة أو نحو الخير، وهذا النزوع لا يقتصر على الخير كائنًا ما كان، بل يرتفع إلى الخير الأسمى والخير المطلق. فلدينا إذن نزوع فطريّ نحو الخير المطلق، كما أنّ لدينا نزوعًا نحو السلام الذي لا يتحقّق إلّا إذا كان أزليًّا أبديًّا ثابتًا، وذلك هو الموجود بمعناه الكلّيّ، أو هو الموجود المطلق. ومعنى ذلك أنّ لدينا نزعة فطريّة نحو الحكمة العليا ونحو الخير المطلق ونحو الموجود السرمديّ الثابت[64].

وهكذا ارتبطت الأخلاق عند بونافنتورا بالدين المسيحيّ وبتصوّراته اللاهوتيّة عن الله، فالله خلق الإنسان واستخلفه في الأرض ليختبر حسن استعداده وسلامة نيّته، وتكفّل بإرشاد البشر نحو الخير بواسطة الوحي المنزَّل، وبواسطة الوجدان يجعل كلّ واحد قادرًا على الشعور بالمبادئ التي ينبغي لها أن تسيّر أعمالنا. إنَّه يراقب عباده من سدّة عرشه السماويّ، وسيجازي الأشرار المخالفين، وسيكافئ الأبرار المؤتمرين بمشيئته العلويّة. وبما أنّ هذه المشيئة بلغت منتهى الصلاح؛ لذلك علينا أن نمتثل لها احترامًا لقراراته، وخوفًا من غضبه، وحبًّا لذاته. إنّ الله قد بيّن القواعد الأخلاقيّة الأساسيّة. والكنيسة قامت بشرحها عن طريق مجامعها المقدّسة، وآبائها الصالحين، وكهنتها المرشدين. ما على المرء إذًا، في كلّ حال من الأحوال، إلّا أن يستعلم عن واجباته لدى الكاهن، وبعدئذٍ فليُطع حتّى يُكتَب له الخلاص[65]! ومن ثمّ تحوّلت الطاعة إلى طاعة عمياء لأهواء ونزوات هؤلاء الكهنة والرهبان والقساوسة الذين تحوّلت رغباتهم إلى أوامر لا تقبل النقاش.

3. القيم الأخلاقيّة عند القدّيس توما الأكويني
وُلد توما الأكويني Thomas Aquinas عام 1225 في مدينة أكوينو الواقعة بين روما ونابولي، لأسرة إيطاليّة أرستقراطيّة ذات نفوذ سياسيّ في إيطاليا. وفي صباه أوفدته أسرته لدير الراهب «بنيديكتي Benedictine» في «مونت كاسينو Monte Cassino» لمدّة تسع سنوات متتالية تعلّم فيها العلوم المدرسيّة. وفي عام 1239 التحق بجامعة نابولي، حيث واصل دراساته الجامعيّة، والتحق بطريقة الدومينكان التي لم تكن محلّ ترحيب الأسرة. ونظرًا للضغوط الأسريّة سافر إلى باريس وتتلمذ على يد «ألبرت الكبير» الذي أعجب به أيّما إعجاب، حتّى نال لقب الأستاذيّة عام 1256م. وفي عام 1259م عاد «توما الأكويني» إلى روما ليتولّى التدريس في مدرسة البلاط البابويّ، وهناك درس أرسطو على «غليوم موريكا» من النصّين اليونانيّ والعربيّ والشَّروح التي وضعت على الأصل. وقد توفّي الأكويني عام 1274م مخلّفًا وراءه بعض المؤلَّفات المهمّة من أهمّها: الخلاصة عند الوثنيّين، الخلاصة اللاهوتيّة، ويعدّ هذا الكتاب الأخير أهمّ كتبه؛ حيث وجّه جهوده لمحاربة مذهب ابن رشد وأنصاره حتّى انتهى الأمر إلى تحريم الرشديّة فيما بين الأعوام (1270-1324)[66].  كما كان من مؤلّفاته أن شرح معظم مؤلَّفات أرسطو  والتي كان من بينها «كتاب الأخلاق» والذي قدّم من خلاله رؤيته الأخلاقيّة الخاصّة والتي كان من أهمّ مبادئها:

أ. الأخلاقيّات مقدّمة للغبطة والسعادة: يرى «الإكويني» أنّ الإنسان يحتلّ مرتبة وسطى بين الله والملائكة من ناحية، وبين الحيوانات من ناحية أخرى؛ لأنَّه مكوّن من روح وجسد، وتعتمد فيه الروح على الجسد، وعن طريقهما (الروح والجسد) يتّصل الإنسان بعالمي الطبيعة وما بعد الطبيعة، لكنّه لا يلج عالم ما وراء الطبيعة إلّا عن طريق اللطف الإلهيّ. والأخلاقيّات هي وظائف رئيسة تساعد في إعداد وتجهيز الطبيعة البشريّة لتبلغ الكمال عن طريق هذا اللطف الإلهيّ المنشود؛ والأخلاقيّات -بهذا المعنى- تكون مقدّمة للغبطة والسعادة[67] التي تتحقّق للإنسان في الدنيا لوصوله إلى الحقيقة وتمام معرفته بالله، وفي الآخرة حيث يتمكّن من رؤية الله التي تجلب له الغبطة والسعادة.
ب. غاية الإنسان هي معرفة الله: إنّ جميع المعارف الإنسانيَّة عند الإكويني تنشد معرفة الله، وما دام الله هو الغاية القصوى للإنسان، فإنّ ما اكتسبناه من معارف هي في النهاية معارف عن هدفنا وغايتنا القصوى. فكلّما زادت معارفنا ازددنا معرفة بالله، كما أنّ أجمل ما ندركه في هذه المعرفة هو الكمال الإلهيّ المنزّه عن كلّ نقص. وفي حدود هذا المفهوم؛ فإنّ الإرادة الإنسانيَّة ذات الشهوة العقليَّة تتحرّق شوقًا؛ حتّى تصل إلى العلم بالله[68]. فالله هو الكمال المطلق للخير، وهو كذلك أعلى الموجودات، وخيره كامل ولا متناه. ولقد وَسِع خيره كلّ شيء، بحيث لم يعد من الممكن حدّه بحدّ معيّ،ن فهو لهذا لا متناهٍ. والهدف الأسمى والغاية القصوى للإنسان تتمثّل في سعيه لمعرفة الله وإدراكه[69]، والهدف الأسمى لهذه المعرفة بالله للإنسان هو رؤية الله في الحياة الآخرة ممّا يجلب للإنسان الغبطة والسعادة.
ت. الأخلاقيّة تشترط حرّيّة الإرادة الإنسانيَّة: يرى القدّيس توما أنّ الإنسان صاحب إرادة حرّة لا جدال في ذلك، وأنّ من حقّ تلك الإرادة الحرّة أن تفعل أشياء مختلفة ومتباينة؛ وذلك لأنّ لجى العقل تصوّرات وأفكار مختلفة للخير. وهنا نلاحظ كيف أنّ الحرّيَّة الأخلاقيّة ترتبط بالأفكار عن الخير التي يحرّك بها العقل الإرادة. فالعقل والعقل وحده- كما يرى الإكويني- هو الذي يحدّد ما إذا كان الموضوع خيرًا أو شرًّا. وهو كذلك الذي يمكّن الإرادة من تأدية الأفعال. كذلك فإنّ درجات الخير متماثلة مع درجات الكينونة، هذا وفقًا لمقولة الأكويني بأنّ «الخير يماثل الكينونة»[70].
ث. الفعل يكون خيرًا إذا توافق مع العقل: أي أنّ الفعل عند الإكوينيّ يكون خيرًا أخلاقيًّا إذا كان متوافقًا مع العقل، أي وفقًا لما يراه العقل صحيحًا. كذلك تتحدّد القيمة الأخلاقيّة لأيّ فعل بالوقوف على غايته والهدف منه؛ ولذلك ينصح الأكوينيّ بتحكيم العقل؛ لأنّه هو الذي يحدّد غايات الأفعال؛ ولهذا نجده يدعو إلى المبدأ القائل بوجوب أن: «يحيا الإنسان وفقًا للعقل؛ لأنّ في ذلك خيره». وعندما يقول «الإكوينيّ» بضرورة الحياة وفقًا للعقل، فهذا يعني أن نفعل أفعالنا وفقًا لما هو صحيح، أي وفقًا لما يراه العقل صحيحًا[71]. وهنا يبتعد الإكوينيّ عما تراه الكنيسة التي تجعل أوامر الله هي معيار الصواب والخطأ الأخلاقيّ.
ج. ضرورة سيادة القانون الأخلاقيّ: يرى القديس توما أنّ من الضرورات الأخلاقيّة أن يلتزم المرء بالقانون الطبيعيّ الذي ينظّم ويحكم تصرّفات الأفراد، وأن ينجز أفعاله وفقا له، دون أن يعني ذلك أيّ نوع من الجبر؛ لأنّ من شأن القانون التوجيه والتنظيم للإرادة، والدليل على ذلك أن إرادة الإنسان حرّة، فهو يستطيع في أيّ وقت شاء أن يرفض وصاية القانون، ولكنّه سيدخل حينئذ في نطاق الفئة المعروفة باسم «الخارجين على القانون». وحيثما ساد القانون، وجدت الأخلاق، فالأخلاقيّات تمثّل حقيقة الإنسان الحقّة الخيّرة بوصفه مخلوقًا أنشأه خالق خيّر[72].
ح. مشكلة الشَّر: يرى «توما الإكوينيّ» أنَّ الشَّرّ عدم محض، ومن ثمّ يرى أنّ الله لا يمكن أن يفعل الشَّرّ؛ ذلك لأنّ الشَّرّ شيء سلبيّ محض، هو بالأحرى عدم وجود، أولى من أن يكون وجودًا. فإذا أضفنا إلى الله أنّه يخلق العدم، فهذا لا معنى له، وإنّما الشَّرّ يجب أن يفسَّر على أساس أنّه هذا الشيء الضروريّ الذي يفترق به المخلوق عن الخالق. فثمّة فارق في مرتبة الوجود بين الخالق والمخلوق، وإلّا لكان الخالق والمخلوق شيئًا واحدًا: وهذا الفارق في مرتبة الوجود هو الشَّر، والموجودات تترتّب تنازليًّا حسب درجة الشَّر، أعني بحسب النقص في المخلوق بالنسبة للخالق. فنجد في القمّة ما هو معقول صرفًا تقريبًا، ثمّ يليه ما هو أقلّ درجة في المعقوليّة[73]. وبناء على ذلك  يكون الشَّر الأخلاقيّ هو غياب الخير.
خ. الخطيئة الخلقيّة والرحمة الإلهيّة:  يرى القديس توما أنّ الخطيئة الخلقّية تُضيّع على مقترفها خلوده الأبديّ في النعيم؛ ولذا يحقّ عليه العذاب الأبديّ؛ ويستحيل على إنسان أن ينجو من الخطيئة إلّا برحمة الله؛ ومع ذلك فاللائمة واقعة على المخطئ إذا لم يرتّد عن خطيئته؛ فالإنسان بحاجة إلى رحمة الله حتّى يتمكّن من المضي في الخير، لكنَّ أحدًا لا يستحقّ المعونة الإلهيّة، وليس الله هو سبب اقتراف الخطأ؛ لكنّه يترك بعض الناس في خطيئتهم وينقذ بعضهم الآخر منها[74]. فارتكابهم الخطايا ناتج عن إرادتهم الحرّة.

وهكذا تهدف الأخلاق عند الإكوينيّ وتسعى للوصول بالإنسان إلى درجة الكمال. إنّ قوانين المجتمع البشريّ تحفظ قوامه، وتعتني بتنظيم العلاقة بين أفراده، وتسمو به ليبلغ درجة الكمال، ليشابه كمال الحياة الآخرة، أو الكمال الإلهيّ مع الفارق في التشبيه. ومن ثمَّ فالقوانين الأخلاقيّة هي الخيوط، وهي همزات الوصل التي تربط الكون وتنظمه وتحفظ دورته وتساعده على بلوغ الكمال الطبيعيّ مثالًا للكمال السرمديّ.

4. القيم والأخلاق عند جون دنس سكوت
ولد الفيلسوف الاسكتلنديّ واللاهوتيّ الفرنسيسكانيّ «جون دنس سكوت John Duns Scotus»، إمّا سنة 1266 أو سنة 1274. وتلقى علومه في جامعتي أكسفورد وباريس، وعلّم فيهما. وكانت حياته قصيرة؛ إذ توفّي عام 1208م. وتعدّ فلسفته طليعة انحلال الفلسفة المدرسيّة (الإسكولائيّة) بعد نهضة القرن الثالث عشر. تأثّر بالنزعة الأوغسطينيّة، وبالقدّيس بونافنتورا، وأفاد كثيرًا من أرسطو. وقد اطّلع على كتابات ابن سينا كلّها، وراجع أيضًا شروحات ابن رشد لأرسطو، وأشاد بصدقه وعقلانيّته. وبالمقابل، هاجم فلسفة الإكوينيّ، وعارضه في مسائل كثيرة، ونظرًا لمواقفه الاحتجاجيّة ومواهبه النقديّة لُقِّبَ بـ«الأستاذ الدقيق The Subtle Doctor». من أهمّ كتبه الفلسفيَّة وشروحاته: «المؤلّف الأكسفورديّ»، و«مسائل في ميتافيزيقا أرسطو»، و«المذكّرات الباريسيّة»، و«رسالة في النفس»، و«شرح على أحكام بطرس اللومباردي»[75]. و قد ورد فيها كثيرًا من آرائه الأخلاقيّة لعلّ أهمّها ما يلي:

أ. الله هو الخير الأعظم وهو كامل ولا متناهٍ: يرى «سكوت» أنّ الله هو الخير الأعظم، ومنه يأتي كلّ خير، وهو الكائن الكامل الذي لا يمكن أن يُتصور أكمل منه، حيث إنَّ الصفة الرئيسيّة التي ينسبها «سكوت» إلى الله هي اللاتناهي، فبعد أن كانت الصفة المميّزة لله هي أنّه علّة أولى أو مبدأ أوّل أو محرّك أوّل وذلك عند القدّيس توما، نجد أنّ «سكوت» يرى أنّ الصفة الأولى المميّزة لله هي اللاتناهي[76]. و«يصنّف دنس سكوت الصفات الإلهيّة في فئتين: فئة عرَّفها الفلاسفة القدامى بالبرهان الإنّيّ، مثل:(الله هو العلّة الفاعلة، الكمال الأسمى، الغاية النهائيّة)؛ وفئة لم يعرفوها وإنّما أضافتها المسيحيّة، مثل (الله هو كلّيّ القدرة، عادل، له عناية بالأشياء). فيقول: إنَّ هذه الصفات موضوع اعتقاد فقط، لا يرقى العقل إلى التدليل عليها. وما يسوقه من براهين عليها لا يعدو أن يكون حججًا محتملة، فإذا كان الله روحًا غير متّصل بأيّ مادّة ولا متعيّن بماهيّة، فهو لا متناهٍ بالضرورة، وهذه سمته الفريدة»[77].
ب. العالم ثمرة المحبّة الإلهيّة والحريَّة المطلقة: يرى «دنس سكوت» أنّ الإرادة الإلهيّة تسيطر على العالم سيطرة تامّة، فالإيمان بالحريَّة الإلهيّة هو الذي يجعلنا نتفادى ضرورة العالم كما تَصوّره فلاسفة اليونان والعرب، وما كان للفلاسفة أن يقولوا لنا الكلمة الأخيرة في هذه المسألة، وإنّما قالها القدّيس يوحنا في مفتتح إنجيله: «الله محبّة»، فحدوث العالم «تاريخ» مختار بملء الحريَّة[78].
ت. النفس خالدة: يرى «سكوت» أنَّ النفس خالدة، لكن هذا الخلود لا يمكن البرهنة عليه عن طريق البرهان القبليّ ولا البرهان البعديّ، ولا يمكن إثبات أو نفي خلودها؛ لأنّ المسألة برمّتها ترجع للإيمان، فهو وحده الذي يمنح اليقين بالخلود؛ وذلك لأنّنا لا نستطيع أن نقيم على أساس رغبتنا في الخلود ضرورة وجود هذا الخلود في الواقع، ومن ثمّ يقرّر «سكوت» أنّ كثيرًا من المسائل الغيبيّة لا يمكن تبريرها بالعقل المحض، وإنّما تجد يقينها في ميدان النقل لا في ميدان العقل.

وبهذا يأخذ سكوت من العقل ليعطي الإيمان، غير مدرك أنّ العقل أساس الإيمان، وأنَّه بهذا يسدّ على غير المؤمن معتقدات يمكن الوصول إليها بالعقل، ويفسد بالتالي المعاني التي اجتهد «الإكوينيّ» في توضيحها. فيضيّق نطاق العقل ويشكّك بقدراته وصحّة براهينه، وينسب إليها الاحتماليّة، ويوسّع نطاق اللاهوت ويدرج فيه المسائل التي ينسب إلى العقل العجز عن التدليل عليها، كما يجعل منه علمًا عمليًّا غرضه تدبير أفعال الناس وأحوالهم، لا تعريفهم بالحقائق، فيباعد بين الوحي والعقل، ويفتح الطريق إلى القول بتعارضهما، فيضيع العقل والوحي معًا[79]. وهذه أخطر نتيجة يمكن الوصول إليها.

5. القيم الأخلاقيّة عند نيكولاس كوزانوس
ولد نيكولاس كوزانوس Nicholas Cusanus عام 1400 بولاية «كوزا Cusa» بالقرب من نهر موسيل بألمانيا، نشأ في أسرة فقيرة يعمل عائلها على قارب صيد، لكن هذا الوالد لاحظ مظاهر نبوغ نجله الصغير فألحقه بالتعليم، وفي الخامسة عشرة من عمره أخذ يدرس الفلسفة في جامعة هيدلبرج، ثمّ انتقل إلى جامعة بادوفا في ألمانيا ودرس فيها القانون والرياضيّات والفلسفة. عمل أوّلًا بالمحاماة، ثّم عدل عنها إلى الكهنوت، فترقّى في مراتبه حتّى صار أسقفًا فكردينالًا. وكان صاحب منهج ورسالة تمّثل المنهج التوفيقيّ نحو إرساء دعائم الفكر اللاهوتيّ من أجل المحافظة على الثوابت العقديّة. وقد انطلقت فلسفته من تعاليم الكتاب المقدّس وكتابات الرسل والآباء. ومن أهمّ كتاباته: خطأ البوهيميّين في ممارسة المناولة، الاتفاق الكاثوليكيّ، الجهل العرفانيّ، البحث عن الإله، كونه ابنًا لله، تخمين الأيّام الأخيرة، من كلّ الأشياء، في سلام الإيمان، في رؤية الله، في البداية، ليس كآخر، تفنيد القرآن. وتوفّي عام 1464م. وقد تناثرت في هذه الكتابات آراء كوزانوس الأخلاقيّة التي نقف على أهمّها فيما يلي:

أ. الأخلاق لا تنفصل عن العقيدة المسيحيّة: رأى نيكولاس كوزانوس أنّ قضايا الأخلاق لا يمكن فصلها عن العقيدة المسيحيّة؛ فكليهما مكمّل للآخر وشرط لوجوده؛ إذ إنّ علم الأخلاق المسيحيّ ينظر للحياة نظرة شموليّة يتضمّن كلّ أبعادها وجوانبها. فقد تناول كوزانوس الأخلاق كما تشترطها العقيدة المسيحيّة، وراح يبحث في قوانين الحياة الأخلاقيّة وواجباتها المتمثّلة في طاعة الإله المسمى «الخير الأعظم». وعِلم الأخلاق المسيحي- كما يرى كوزانوس- هو نتيجة حتمية لتطور الفكر الأخلاقيّ العام على مر العصور والأزمنة؛ حيث إنَّ الله قد أعلن ذاته في شخص يسوع، فهو عامل مؤثّر في حياة الإنسان ومصيره؛ لأنّه يعطي قيمة جديدة لأهداف الإنسان وواجباته[80].
ب. الأخلاق ومشكلة الشَّر: الشَّر عند كوزانوس كما عند أسلافه أمر عدميّ لا وجوديّ، أي ليس له وجود حقيقيّ وإنّما هو فقدان أو غياب للخير. ويفسّره كوزانوس تفسيرًا منطقيًّا يبرّر وجوده دون أن يترتّب عليه شُبَه إلحاديّة، حيث يعتبره افتراضًا ضروريًّا وظيفته أن يحفّز الإرادة الإنسانيَّة للتغلّب على الشَّر من أجل الوصول إلى تحقيق الخير الأسمى. أي أنّ الشَّرّ فكرة سلبيّة ذات وجود إيجابيّ؛ حيث لا يمكن قيام حياة أخلاقيّة دون التصادم مع الشَّر، فهو العقبة التي على الإنسان الفاضل تجاوزها[81]؛ ولذلك يرى «كوزانوس» أنَّ الشَّرّ الأخلاقيّ ناتج عن الإرادة الحرّة للإنسان، وأنّ منع الشَّر يعني إلغاء حرّيّة الإنسان، فالشَّرّ بمثابة ضريبة ضروريّة لا بدّ أن يدفعها الإنسان نتيجة تمتّعه بالإرادة الحرّة. فالإنسان هو مصدر الشَّرّ، وما يرتكبه من خطايا وأفعال مذمومة تدلّ على مدى سيطرة الشيطان على هذا الإنسان[82].
ت. الخطيئة الأولى والأخلاق: يرى كوزانوس أنّ الخطيئة الأولى هي خطيئة آدم وحواء، وآدم بهذه الخطيئة جعل ذرّيّته كلّها في حالة انفصال وابتعاد عن الله، وكان نتيجة هذا الانفصال موت الإنسان، حيث دخل الموت إلى جميع الناس كعقاب للخطيئة. لكنّ الإنسان يمكنه التحرّر من تلك الخطيئة من خلال تطهّره من ارتكاب المعاصي والخطايا، ومن ثمَّ الدخول في الحياة الأبديّة؛ فالحياة الأبديّة رهن الإيمان والطاعة. كما أنّ التقرّب من الإله بالصلوات والعبادات يحمي الإنسان من الوقوع في الخطيئة، وهو طريقنا إلى الخلاص. أمّا من يقع في الخطيئة، فإنّه يخالف الناموس الإلهيّ. والخطيئة والمعصية هي كلّ ما يخالف تعاليم المسيح، وكلّ خطيئة دينيَّة هي عمل غير أخلاقيّ. فبدت الأخلاق عند كوزانوس وكأنّها قانون لا يمكن تصوّره دون طاعة، هذه الطاعة انتقلت من طاعة الربّ الخالق إلى طاعة عمياء لما يطلبه الأحبار والرهبان والقساوسة. 
ث. مصدر الخلاص هو الله المحبّ العظيم: ينطلق «كوزانوس» من أنّ «الله محبّة»، وأنَّه محبّ للإنسان الذي عمل على خلاصه من أوزار الخطيئة التي كانت تطوّق عنقه وتمنعه من معرفة الله والاتّحاد به؛ ولذلك -كما يرى كوزانوس- «أنَّ الله العظيم أحبّ العالم حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة»[83]. فبموت المسيح تمّ تحرير البشر من أوزار الخطيئة مما ترتّب عليه النجاة من دينونتها ومصالحتهم مع الإله وتمتّعهم بالحياة الأبديّة[84]. كما أنّ يسوع المسيح كان محبًّا للبشر -من منظور كوزانوس- حتّى أنه فضَّل الذهاب إلى الموت على الصليب من أجل إنقاذ المؤمنين من براثن الموت وعبوديّة الشيطان ودوافع الشَّرّ التي كانت ستعوق تحرّر المؤمنين لو كانت بقايا الخطيئة عالقة في حياتهم[85]. وهو الأمر الذي سبق لنا أن بيّنا بطلانه وعدم عقلانيّته.
ج. الفضلاء ينالون الخلاص بمساعدة العون الإلهيّ: يرى «كوزانوس» أنّ الخلاص لا يكون بالإيمان وحده، ولكن لا بدّ من وجود «الغفرانات» التي تتطلّب التوبة الصادقة، والاعتراف بالخطايا، والقيام بالأعمال الفاضلة. فالفضيلة -من منظور «كوزانوس»- مفطورة في البشر منذ بداية الخلق، لكنّ الشيطان يريد أن يبعد الإنسان عن ممارسة الفضيلة، ليظلّ دائمًا يرتع في الخطيئة حتّى يتمّ إبعاده دائمًا عن الخلاص أو الاتحاد بيسوع المسيح، لكنّ عون الله للعبد الفاضل هو من يمكّنه من الخلاص؛ لأنّ سعي الإنسان إلى الخلاص قد يفشل إن لم يساعده العون الإلهيّ وترعاه العناية المقدّسة لإكمال الطريق نحو الخلاص[86].
وهكذا لم تنفصل القيم الأخلاقيّة العامّة عند كوزانوس عن الأخلاق الدينيَّة المسيحيّة ليثبت أنّ علم الأخلاق لا يتناقض مع الأخلاق المسيحيّة؛ حيث إنَّ الفضيلة عنده هي العمل بمقتضى أوامر الله، فالفضيلة هي حبّ الله المحبّ للبشر، والسعادة أن يحبّ المرء الله ويكون محبوبًا منه، فلا سبيل للخلاص إلّا عن طريق العون الإلهيّ الذي يكون للفضلاء فقط.

الخاتمة (نتائج البحث)
وهكذا وبعد العرض التحليليّ للقيم الأخلاقيّة في الفترات الثلاث التي شغلت ألف عام تقريبًا، وبعد التعرّف على أهمّ مفكّريها وأهمّ رؤاهم الأخلاقيّة نجد أنّنا توصلها لمجموعة مهمّة من النتائج، نرصد أهمّها فيما يلي:
أوّلًا- إذا كان منظّرو الفكر المسيحيّ من الآباء والقساوسة قد رأوا أنّ الأخلاق هي تنفيذ أوامر الله، وأنَّ الفضيلة هي العمل بمقتضى أوامر الله، وأنّ طاعة الله والخير الأخلاقيّ أمران لا ينفصلان، فهذا أمر -من منظوري الخاصّ- لا غبار عليه؛ لكن أن تتحوّل تلك الطاعة إلى طاعة عمياء دون استعمال العقل -وبمعنى أدقّ إلغاء العقل- وعدم التفرقة بين أوامر الخالق وبين أقوال الخلق، فهذا أمر غير مقبول، إذ إنّها تتحوّل حينئذٍ إلى وبال على المرء، كما تؤدّي إلى حرج وضيق شديدين، وهو ما وقعت فيه الكنيسة في العصور الوسطى؛ إذ إنّها جعلت من أقوال الأحبار والرهبان أوامر لا تقبل الرفض أو النقاش وتستوجب الطاعة والإذعان فقط. 
ثانيًا- إنَّ الإنسان في الفلسفة المسيحيّة -كما بدا لنا خلال هذه الدراسة- خيّر بجسمه وروحه، ولا شرّ في المخلوقات بالطبع، فالإنسان مفطور على الخير منذ لحظة الخلق، وهو يعرف الخير، لكنَّه قد يجد نفسه مدفوعًا إلى ارتكاب الشَّرّ إلّا برحمة من الله، فهي وحدها التي يمكنها أن تثنيه عن فعل الشرّ. وبناء عليه فإنّ الإنسان لا يمكنه أن يكون فاضلًا اعتمادًا على قواه الذاتيّة، لكنَّه يمكن أن يكون فاضلًا كثمرة لعمل روح الله فيه. فالناس لن يستطيعوا -بالغة ما بلغت جهودهم- أن يتحرّروا من قيودها ويتخلّصوا من شرّها ويعيشوا حياة طاهرة، إلّا بوجود مخلّص إلهيّ يعينهم على الخلاص. وهكذا ينقلب الإنسان شرّيرًا لا حيلة له في إنقاذ نفسه، فخلاصه ليس بيده وإنّما بيد غيره. ومن ثمّ اعتقدوا أنَّ المسيح قد قدَّم نفسه قربانًا ليخلّص البشر؛ ليصبح تعذيب النفس وقتلها من صميم الفكر الكنسيّ.
ثالثًا- استندت الأخلاق الكنسيّة المسيحيّة إلى فكرة الخطيئة الأصليّة وجعلتها من ركائزها الأساسيّة، وهي فكرة غير مقنعة عقليًّا مع كونها تعدّ ظلمًا؛ فأبعد ما يكون عن العقل أن يعاقب إنسان على خطيئة اقترفها أحد أسلافه منذ زمن لا يعلمه إلّا الله، فكم يبدو غريبًا أن نحكم على طفل بالألم من أجل خطيئة لم يرتكبها ولا يعرف عنها شيئًا إلّا في التاريخ وبعد أن يكبر. كما أّنها فكرة تصوّر الإله في صورة العاجز الذي لم يستطع تخليص عباده إلّا بقتل ابنه على الصليب! أليس هذا تسفيهًا للإله الذي يُمَكِّن أعداءه من نفسه ليقتلوه!  إنّ هذه الفكرة وغيرها من الأفكار التي لا يستسيغها العقل كانت من أهم أسباب أفول نجم أخلاقيّات الكنيسة وظهور أخلاق علمانيّة جديدة مع بزوغ عصر النهضة، والتي حملت عداء شديدًا لكلّ ما هو كنسيّ. 
رابعًا- إنَّ الأخلاق المسيحيّة التي تدعو إلى الرحمة والمحبّة حتّى مع الأعداء، وتنبذ العنف في مختلف صوره وأشكاله؛ حيث تسود في الإنجيل فكرة الإحسان والعفو، وأنّ «مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا، وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضًا» [لو 6 :29] وهو الأمر الذي نلاحظه -أيضًا- في أوضح صوره في قول الأب أوريجانوس الشهير: «لا يمكن أبدًا أن يذبح المسيحيّون أعداءهم، حتّى لو كان أكثر الملوك والحكام والشعوب اضطهادًا لهم»،  وقد لاءم ذلك هوى الحكام المستبدّين في أوروبا في العصور الوسطى، لينشأ تحالف بغيض بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة عانى منه العقل الغربيّ معاناة شديدة، ولما بلغ السيل الزبى، بدأ هذا العقل يتململ، وينتفض، ويثور، ويزلزل الأرض تحت هذا التحالف المقيت ليطيح به. ليشهد عصر النهضة الأوروبيّ أخلاقًا جديدة وفلسفة جديدة في مناهجها ومنطلقاتها ووسائلها بل وفي غايتها. فقد أخذته ردّة الفعل العنيفة، فنبذ الدين وهو- في الأصل- يريد أن ينبذ تطرّف رجاله، فاتّجه كلّيّة إلى المادّة والمحسوس واستدبر الإيمان والغيب.

خامسًا- إذا كانت الأخلاق الكنسيّة قد جعلت من الجزاء الأخرويّ أكبر حافز على العمل الأخلاقيّ فهذا أمر مقبول -من وجهة نظرنا-، لكن ما هو غير مقبول أنّهم حدّوا من قيمة هذا الحافز عندما ابتدعوا تلك البدعة المنكرة التي أطلقوا عليها «صكوك الغفران»، كما أنّهم استخدموا ذلك الحافز السامي (الجزاء الأخرويّ) أسوأ استخدام حينما دعت الأخلاق الكنسيّة إلى قتل كلّ ميل دنيويّ ورغبة دنيويّة، والعيش في صمت وتأمّل دينيّ، بحيث ينسى المرء كيانه ونفسه. أو من خلال الدعوة إلى الرهبنة التي تخالف الفطرة الإنسانيّة وتكبتها بل وتئدها. هذا فضلًا عن أنّ الدعوة إلى الرهبانيّة قد ملأت الأديرة بالكسالى والعاطلين الذين يعيشون عالة على المجتمع، وكان الأفضل هو الدعوة للعمل لعمارة الأرض.
سادسًا- إنَّ أهمّ ما يميّز دراسة القيم الأخلاقيّة في العصور الوسطى هو ارتباطها بالدين ارتباطًا وثيقًا وتأثّر كلٍّ منهما بالآخر؛ حيث اهتمّت الأخلاق بدراسة القيم المختلفة من قبيل: الخير، والصدق، والأمانة، والعفّة، والخطيئة، والتجسّد، والفداء، والخلاص... إلخ،  وهي في الأساس قيم ومسائل دينيَّة، وترسيخ هذه القيم كانت مهمّة ملقاة على عاتق رجال الكنيسة الذين غالى معظمهم في تصوّر الفضائل والأخلاق الرفيعة، فجعلوها فوق طاقة البشر، ومن أمثلة تلك الفضائل التي غالى في تصوّرها رجال الدين في العصور الوسطى فضيلة العفّة، وهي في الأصل خُلق إنسانيّ نبيل إذا ما وضع في نصابه الصحيح دون إفراط أو تفريط، لكنّ رجال الكنيسة غالوا في تصوّره وبالغوا في هذا التصوّر، فدعوا إلى الرهبنة وأذاعوا تعاليم حولها فوق طاقة البشر، منها قولهم: «إذا نظرت عينك إلى معصية فاقلعها، فإنّه خير لك أن تفقد عضوًا من أعضائك من أن يُلقى جسدك كلّه في النار».
سابعًا- وفي الختام، أقول: إنّه لا يمكن أن يصادف القارئ عند فلاسفة العصور الوسطى في كلّ مراحلها من الروح الفلسفيَّة الخالصة إلّا قليلًا؛ فهم لا يبدأون الحِجاج ويتابعونه أنَّى سار مثل الفلاسفة القدامى أو المحدثين والمعاصرين. فهم لا ينشغلون ببحث لا يعرفون نتيجته مقدّمًا؛ بل تراهم قبل أن يبدأوا التفلسف ملمّين بالحقيقة المنشودة؛ لأنَّها حقيقة تفصح عنها العقيدة الكاثوليكيّة، فإن وجدوا حججًا يبدو عليها طابع الدليل العقليّ ليؤيّدوا بها بعض أجزاء العقيدة كان خيرًا، وإن لم يجدوا، فلا حاجة بهم إلى أكثر من الرجوع إلى الوحي؛ وليس للفلسفة -أبدًا- أن تبحث عن حجج تؤيّد بها نتيجة معروفة من قبل؛ وإنّما يكون ذلك من قبيل الدفاع عما تريد الدفاع عنه؛ وبناء على ذلك لا يمكن وضع فلاسفة العصور الوسطى المسيحيّة على قدم المساواة مع فلاسفة اليونان القدامى أو فلاسفة الإسلام أو فلاسفة العصر الحديث والمعاصر.

لائحة المصادر والمراجع
أ.س . ريوبرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة: أحمد أمين، بيروت، دار الكتاب العربيّ، 1979.
أغستينوس، اعترافات القديس أوغستينوس، ترجمة إبراهيم الغربيّ، بيروت، دار التنوير، د.ت.
إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ج3، (العصر الوسيط والنهضة)، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، د.ت.
أندريه كريسون، المشكلة الأخلاقيّة والفلاسفة، ترجمة: عبد الحليم محمود- أبوبكر ذكري، القاهرة، مطابع دار الشعب، 1979.
أندريه كريسون، تيارات الفكر الفلسفي من القرون الوسطى حتّى العصر الحديث، ترجمة: نهاد رضا،  بيروت- باريس/ منشورات بحر المتوسط- منشورات عويدات، ط2، 1982.
برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، ك2، (الفلسفة الكاثوليكية)، ترجمة: زكي نجيب محمود، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2010.
بوئثيوس، عزاء الفلسفة، ترجمة: عادل مصطفى، القاهرة، مكتبة رؤية، 2008.
بي بورات، تاريخ الروحانيّة المسيحيّة من زمن المسيح حتّى فجر العصور الوسطى، ترجمة: تكلس نسيم سلامة، القاهرة، مكتبة دار الكلمة للنشر والتوزيع، 2012.
جوناثان هيل، تاريخ الفكر المسيحيّ، ترجمة: سليم اسكندر - مايكل رأفت، القاهرة، مكتبة دار الكلمة - لوغوس، 2012.
حماده أحمد عبد اللطيف،  اللاهوت الفلسفيّ عند نيكولاس كوزانوس، رسالة ماجستير غير منشورة، كلّيّة الآداب – جامعة بني سويف، 2020.
ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، ترجمة: ماهر عبد القادر محمد، الإسكندريّة، دار المعرفة الجامعيّة، 1997.
حربي عباس عطيتو، في الفلسفة ومشكلاتها، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 2006.
زينب محمود الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1995.
عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، الكويت، وكالة المطبوعات/ بيروت، دار القلم، الطبعة الثالثة، 1979.
عبد الفتاح أحمد الفاوي، في الأخلاق،  القاهرة، دار الهانئ للطباعة والنشر، د.ت.
كامل محمّد محمّد عويضة، الفلسفة المسيحيّة في العصور الوسطى، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1993.
محمّد أحمد سليمان، اللاهوت العقلي عند القدّيس أنسلم، رسالة دكتوراة غير منشورة، قسم الفلسفة كلّيّة الآداب جامعة بني سويف، 2014.
محمّد عبد الله الشَّرقاوي، أحمد محمد جاد، محاضرات في الفلسفة العامّة، القاهرة، المجموعة المتّحدة للنشر، 1995-1996.
محمّد عثمان الخشت، معجم الأديان العالميّة، المجلّد الأوّل، القاهرة، مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، ط2، 2016.
نوال الصراف الصايغ، المرجع في الفكر الفلسفيّ- نحو فلسفة توازن بين التفكير الميتافيزيقيّ والتفكير العلميّ، دار الفكر العربيّ، د.ت.
يوسف كرم، تاريخ الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط، القاهرة، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، د.ت.

ثانيًا- المراجع الأجنبيّة
Nicholas Cusanus, On Peaceful Unity of Faith, Translated by Jasper Hopkins, library of Congress, U.S.A, 1990.
Nicholas Cusanus, The Bowling Game, Translated by Jasper Hopkins, library of Congress, U.S.A, 2000.
Nicholas Cusanus, A Surmise about The Last Days, Translated by Jasper Hopkins, library of Congress, U.S.A, 2000. 

ثالثًا- المراجع الإلكترونيّة
بيتر كينج وأندرو أورلينج، فلسفة بيتر أبيلارد، مقال إلكترونيّ منشور على موقع حكمة بتاريخ 14/ 10/ 2022 على الرابط الإلكترونيّ التالي:
https://hekmah.org/%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%B1%D8%AF
سوسن بيطار، دنس سكوت (جون) 1266-1308م، مقال إلكترونيّ على الرابط التالي:
 http://arab-ency.com.sy/ency/details/5374/9..
غسان فنيانوس، ألبرت الكبير (1206-1280)، مقال إلكترونيّ منشور على الرابط التالي:
 http://arab-ency.com.sy/ency/details/581/3 .


------------------------
[1]*- أستاذ الفلسفة المساعد بآداب بني سويف- جمهوريّة مصر العربيَّة.
[2]- حربي عباس عطيتو، في الفلسفة ومشكلاتها، الإسكندريّة، دار المعرفة الجامعيّة، 2006، ص75.
[3]- نوال الصراف الصايغ، المرجع في الفكر الفلسفيّ- نحو فلسفة توازن بين التفكير الميتافيزيقيّ والتفكير العلميّ، دار الفكر العربيّ، د.ت، ص133.
[4]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، ترجمة ماهر عبدالقادر محمد، الإسكندريّة، دار المعرفة الجامعيّة، 1997، ص12-13.
[5]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، ص55.
[6]- عبدالرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، الكويت، وكالة المطبوعات/ بيروت، دار القلم، الطبعة الثالثة، 1979، ص35.
[7]- كامل محمد محمد عويضة، الفلسفة المسيحيّة في العصور الوسطى، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1993، ص62.
[8]- م.س، ص58.
[9]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، ص61.
[10]- عبدالرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص35-36.
[11]- أغستينوس، اعترافات القديس أوغستينوس، ترجمة: إبراهيم الغربيّ، بيروت، دار التنوير، د.ت، ص 15.
[12]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، ص62.
[13]- عبدالرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص36.
[14]- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط، القاهرة، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، د.ت، ص 53.
[15]- أ. س. ريوبرت، مبادئ الفلسفة، ترجمة: أحمد أمين، بيروت، دار الكتاب العربيّ، 1979، ص77.
[16]- بي بورات، تاريخ الروحانيّة المسيحيّة من زمن المسيح حتّى فجر العصور الوسطى، ترجمة: تكلس نسيم سلامة، القاهرة، مكتبة دار الكلمة للنشر والتوزيع، 2012، ص245.
[17]- بي بورات، تاريخ الروحانيّة المسيحيّة من زمن المسيح حتّى فجر العصور الوسطى، ص243.
[18]- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط، ص54.
[19]- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط، م.س، ص55.
[20]- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط، ص54.
[21]- بوئثيوس، عزاء الفلسفة، ترجمة عادل مصطفى، القاهرة، مكتبة رؤية، 2008، ص129.
[22]- بوئثيوس، عزاء الفلسفة، م.س، ص130.
[23]- م.ن.
[24]- م.ن، ص151.
[25]- بوئثيوس، عزاء الفلسفة، م.س، ص164.
[26]- م.ن، ص166.
[27]- حربي عباس عطيتو، في الفلسفة ومشكلاتها، ص75.
[28]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص48.
[29]- برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، ك2، (الفلسفة الكاثوليكية)، ترجمة: زكي نجيب محمود، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2010، ص151.
[30]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص50.
[31]- م.ن، ص58.
[32]- محمد عثمان الخشت، معجم الأديان العالميّة، المجلد الأوّل، القاهرة، مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، ط2، 2016، ص375.
[33]- محمد أحمد سليمان، اللاهوت العقليّ عند القدّيس أنسلم، رسالة دكتوراة غير منشورة، قسم الفلسفة كلّيّة الآداب جامعة بني سويف، 2014، ص177.
[34]- م.ن، ص183.
[35]- محمد عثمان الخشت، معجم الأديان العالميّة، المجلد الأوّل، ط2، ص258.
[36]- محمد أحمد سليمان، اللاهوت العقليّ عند القدّيس أنسلم، ص193.
[37]- م.ن، ص195.
[38]- محمد أحمد سليمان، اللاهوت العقليّ عند القدّيس أنسلم، م.س، ص199.
[39]- م.ن، ص206.
[40]- محمد أحمد سليمان، اللاهوت العقليّ عند القدّيس أنسلم، م.س، ص215.
[41]- م.ن، ص220.
[42]- عبدالرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص79.
[43]- برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، ك2، ص206.
[44]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص84.
[45]- بيتر كينج وأندرو أورلينج، فلسفة بيتر أبيلارد، مقال إلكترونيّ منشور على موقع حكمة بتاريخ 14/ 10/ 2022 على الرابط الإلكترونيّ التالي:
https://hekmah.org/%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%B1%D8%AF
[46]- م.ن.
[47]- م.ن.
[48]- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ج3، (العصر الوسيط والنهضة)، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، د.ت،  ص92.
[49]- انظر: عبد الحليم محمود، هامش ترجمته لكتاب أندريه كريسون، المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، القاهرة، مطابع دار الشعب، 1979، ص148.
[50]- محمد عبد الله الشرقاوي، أحمد محمد جاد، محاضرات في الفلسفة العامة، القاهرة، المجموعة المتحدة للنشر، 1995-1996، ص134.
[51]- أندريه كريسون، المشكلة الأخلاقيّة والفلاسفة، ترجمة: عبد الحليم محمود- أبو بكر ذكري، القاهرة، مطابع دار الشعب، 1979، ص142.
[52]- محمد عثمان الخشت، معجم الأديان العالمية، المجلد الأول، ص103.
[53]- غسان فنيانوس، ألبرت الكبير (1206-1280)، مقال إلكترونيّ منشور على الرابط التالي:  http://arab-ency.com.sy/ency/details/581/3 (تمّ الدخول عليه في 23/ 2/ 2022).
[54]- محمد  عبدالله الشرقاوي- أحمد جاد، محاضرات في الفلسفة العامّة، ص135.
[55]- زينب محمود الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1995، ص 148-149.
[56]- غسان فنيانوس، ألبرت الكبير (1206-1280)، مرجع إلكترونيّ سبق ذكره.
[57]- عبدالفتاح أحمد الفاوي، في الأخلاق، القاهرة، دار الهانئ للطباعة والنشر، د.ت، ص 135-136.
[58]- زينب محمود الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، ص347.
[59]- جوناثان هيل، تاريخ الفكر المسيحي، ترجمة سليم اسكندر – مايكل رأفت، القاهرة، مكتبة دار الكلمة –لوغوس، 2012، ص170.
[60]- محمد عثمان الخشت، معجم الأديان العالمية، المجلد الأول، ص229-230.
[61]- كامل محمد محمد عويضة، الفلسفة المسيحيّة في العصور الوسطى، ص12.
[62]- م.ن، ص17.
[63]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص96.
[64]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، م.ن، ص106.
[65]- أندريه كريسون، تيّارات الفكر الفلسفيّ من القرون الوسطى حتّى العصر الحديث، ترجمة: نهاد رضا، بيروت - باريس/ منشورات بحر المتوسط- منشورات عويدات، ط2، 1982، ص25.
[66]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، ص76.
[67]- م.ن، ص139.
[68]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، م.س.
[69]- م.ن.
[70]- م.ن، ص140-141.
[71]- م.ن، ص142.
[72]- ترانثي وماركوس، مقالات في فلسفة العصور الوسطى، م.س، ص145.
[73]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص159.
[74]- برتراند رسل ، تاريخ الفلسفة الغربيَّة، ك2، ص240.
[75]- سوسن بيطار، دنس سكوت (جون) 1266-1308م، مقال إلكترونيّ على الرابط التالي:
http://arab-ency.com.sy/ency/details/5374/9 (تمّ الدخول عليه في 28/ 2/ 2023).
[76]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، ص177.
[77]- عبد الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، م.س.
[78]- يوسف كرم، تاريخ الفلسفة المسيحيّة في العصر الوسيط، ص186.
[79]- م.ن، ص187-188
[80]- حماده أحمد عبد اللطيف، اللاهوت الفلسفيّ عند نيكولاس كوزانوس، رسالة ماجستير غير منشورة، كلّيّة الآداب – جامعة بني سويف،2020، ص69.
[81]- حماده أحمد عبد اللطيف، اللاهوت الفلسفيّ عند نيكولاس كوزانوس، م.س، ص73.
[82]- م.ن، ص74.
[83]- Nicholas Cusanus, The Bowling Game, Translated by Jasper Hopkins, library of Congress, U.S.A, 2000, p1209. 
[84]- Nicholas Cusanus, On Peaceful Unity of Faith, Translated by Jasper Hopkins, library of Congress, U.S.A, 1990, p658.
[85]- Nicholas Cusanus, A Surmise about The Last Days, Translated by Jasper Hopkins, library of Congress, U.S.A, 2000, p4. 
[86]- Ibid, 4- 6.