البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التّخلُّفُ الثقافيّ العَام فِي أُوروبّا خِلالَ أَلفِ عَام

الباحث :  نبيل علي صالح
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  31
السنة :  صيف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 30 / 2023
عدد زيارات البحث :  802
تحميل  ( 519.132 KB )
الملخّص
يتمحور هذا البحث حول دراسة التخلّف الثقافيّ الذي عاشته أوروبا في القرون الوسطى وحتى عصر النهضة فيها، وقد جرى التركيز على أهمّ معالم تلك الثقافة وخصائصها العمليّة التي اصطبغ بها التاريخ الغربيّ القروسطيّ.
 لقد كانت ثقافة القرون الوسطى عمومًا ثقافة متخلّفة، وكانت الشعوب في تلك الفترة الزمنية تفتقد أدنى مقوّمات الاشتراك في عمليّات الإنتاج والتطوير الاقتصاديّ، وذلك في ظلّ هيمنة قيم اجتماعيّة سلبيّة تعاني الانحطاط القيميّ، كالفوقيّة والطبقيّة والعبوديّة.
ومن المعالم الأساسيّة التي طغت على الثقافة في تلك العصور سيطرةُ الخرافات والسرديّات الأسطوريّة، والتي ظهرت وبرزت في التماثيل الأثريّة، والتقاليد الشعبيّة، والعادات الاجتماعيّة.. وهي بغالبيّتها حكايات تتحدّث على الدوام عن حالة صراع وتنافس مستمرّين بين الآلهة الذين يخلقون الكون بمختلف عوالمه، وبين الأشرار العمالقة الذين يهدفون إلى تدميره، مضافًا إلى الأساطير التي تدور حول النبلاء والفرسان، بالإضافة إلى هيمنة الجهل والأمّيّة وثقافة السحر والشعوذة.. ومن جهة أخرى طغت أسطورة الإسلام الدمويّ المخيف، حيث كان ينظر إلى هذا الدين على أنّه دين دمويّ انتشر بالسيف، وهو دين بشريّ يشجّع على الشهوات والقتل.
كما ركّز البحث على انعكاس هذا التخلّف الفكريّ والثقافيّ على مجمل الفكر الدينيّ المسيحيّ في تلك العصور، حيث تمّ تكريس أخلاق منفصلة عن الواقع، ولا تراعي حاجات الإنسان، فضلاً عن تكريس حالة الخوف من الدين والطاعة العمياء للعقائد الدينيّة دون تأمّل أو نظر.

كلمات مفتاحيّة: التخلّف الثقافيّ، المسيحيّة، القرون الوسطى، أوروبا، الأسطورة، الكنيسة.

المقدّمة
اعتمدَ المؤرّخونَ تحقيبًا تقليديًّا لتاريخِ أوروبّا الغربيّة، فقسّموا الزمن الغربيّ -بوقائعه وتحوّلاته وأشخاصه- إلى ثلاث مراحل: عصور قديمة، وسيطة، وحديثة.. وموضوع بحثنا هنا في هذه الدراسة يعودُ زمنيًا إلى المرحلة الوسيطة أو ما يُعرف بتاريخ العصور الوسطى.
أُطلقت التسمية على تلك المرحلة الزمنيّة من التاريخ الأوروبيّ التي تمتدّ من لحظة انهيار وسقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة الغربيّة المحدّدة زمنيًّا في نهاية القرن الخامس الميلاديّ، إلى البدايات التبشيريّة الأولى لانبثاق (وتفجّر) عصر النهضة الغربيّة، عصر العقل والعلم والاكتشافات، والمحدَّد زمنيًّا حوالي القرن الخامس عشر الميلاديّ.
إذن تغطيتنا الوصفيّة البحثيّة هنا ستمتدُّ لحوالي ألف عام، وهي مرحلة زمنيّة طويلة، شهدتْ ولادة وتفجُر الكثير من المظاهر والمفردات والتحوّلات والأحداث الثقافيّة والحضارية الغربيّة التي عبّرت عن واقع حال تلك المجتمعات.
سنسلّطُ الضّوءَ في هذه الدراسة على أهمّ معالم تلك الثقافة وخصائصها العمليّة التي طبعت الزمن الغربيّ القروسطيّ بطابع التخلّف على وجه العموم نظرًا للواقع المرير الذي عكسته في الاجتماع السلوكيّ للسكّان، وأساليب عيشهم الرثّ والمتخلّف.

المبحثُ الأوّل: تفكيكُ مفهوم «التّخلف الثقافيّ»
توصيفٌ تاريخيّ تحليليّ لمفهومِ التّخلف الثقافيّ الغربيّ خلال مرحلة القرون الوسطى
إذا كانت الثقافةُ تعني -من جملة ما تعنيه- وعي الشعوب لوجودها أو الأمم لذاتها في سياقِ تفاعلها (التبادليّ المنتج) مع محيطها وجوارها الحضاريّ، فما هي هذه الثقافة والهويّة «الثقافيّة» (في قيمها ومعاييرها الروحيّة والعمليّة) التي سادت مجتمعات الغرب في العصور الوسطى، وجعلت الناسَ يعيشونَ من خلالها في أتون أسوأ واقعٍ اجتماعيّ واقتصاديّ وحياتيّ عامّ، عَانوا الأمرّين من خلاله في عيشهم ووجودِهم، فجَاعوا ومَرضوا، وانتُهكت حرماتهم (الإنسانيّة)، وعَاشوا التخلّف بأفظعِ أشكاله ومعانيه.. حتى قيل: إنّ أوروبّا العصور الوسطى كانت تتسيّدها ثقافة بدائيّة متخلّفة بكلّ معنى الكلمة.
لقد سادت الثقافةُ المتخلّفة في كافّة مواقع ومستويات مجتمعات الغرب إبان العصور الوسطى، وهيمنت على وعي شعوبه وسلوكهم وعلاقاتهم وتعاملاتهم، ووقفتْ حجر عثرة في طريق ازدهار وتقدّم حاملي رايتها ومعتنقي مبادئها وقيمها، بل وأخذت بتلابيبهم، ودفعتهم للارتماء في أحضان البدائيّة والهمجيّة والتبعيّة والاستنقاع الحضاريّ..

نعم، لم تكنِ الثقافةُ الغربيّة خلالَ مرحلة «العصور الوسطى»[2] على ما يرام من حيث المضامين الحيّة والبنية الذاتيّة المتقدّمة والمآلات المجتمعيّة المفيدة وذات المردوديّة الإنتاجيّة على صعيد واقع حياة الفرد والمجتمعات الأوروبيّة.
ولا شكّ أننّا لا نستطيعُ الحكم بالمطلق على كلّ ذلك التاريخ الغربيّ الممتدّ لألف عامّ بالموات الثقافيّ (وغير الثقافيّ)، فقد برزتْ فترات تاريخيّة مهمة ناهضة ومضيئة على المستويات الفكريّة والفلسفيّة، خصوصًا في المراحل المتأخّرة زمنيًّا من العصور الوسطى، حيث يمكن اعتبار القرن الثالث عشر عصرَ ازدهار ثقافة العصور الوسطى.. بما يعطينا فكرة أن الحُكم على العصور الوسطى اختلف اختلافًا كبيرًا خاصّة في القرون القلائل التي أعقبت نهايتها، مثلما اختلفَ الحكم على غيرها من التواريخ والأحداث والثقافات..[3].
لكن كلّ هذا الجدل لا يلغي أنّ ثقافة القرون الوسطى عمومًا كانت ثقافة متخلّفة، يعتقد أتباعها بالخرافة، وتسود بينهم الفوارق الطبقيّة، مما تسبّب بمعاناة وآلام شديدة للكثرة الكاثرة من الناس.. وقد امتدَّ هذا التخلفُ الثقافيّ إلى المجال والواقع السياسيّ نفسه الذي كانت تهيمن عليه طبقات اجتماعيّة ثريّة، لا يهمّها سوى تكريس نفوذها السياسيّ بالدرجة الأولى، ومراكمة ثرواتها وأراضيها، والتعامل مع المجموع البشريّ لتلك المجتمعات كمجرّد أعداد وأرقام من خدم وحشم وعبيد، لا قيمة لهم سوى بما يقدّمونه من خدمات لطبقة النبلاء وحواشيهم من الإقطاع الاجتماعيّ والسياسيّ (والدينيّ).

كما أنَّ الوضع الاقتصاديّ للمجتمعات الغربيّة في القرون الوسطى، تأثّر ويتأثّر بدوره بمستوى الوعي والحالة الثقافيّة، حيث كانت الثقافة السائدة والتي استغلّتها واستثمرتها الطبقة الغنيّة المترفةُ اتكاليّةً، لا مبالية، خنوعيّة، الأمر الذي جعل الفرد البشريّ إلى طاقة سلبيّة استهلاكيّة، لا تمتلك أدنى مقوّمات الاشتراك في عمليّات الإنتاج والتطوير الاقتصاديّ، خاصّة مع هيمنة قيم اجتماعيّة غاية في السلبيّة والانحطاط القيميّ، كالفوقيّة والطبقيّة والعبوديّة.

المبحثُ الثّاني: مَظاهرُ التّخلف الثقافيّ الغربيّ خلالَ العُصورِ الوسْطى
عندما نحلّل تاريخيًّا حالة التخلّف الثقافيّ للغرب في القرون الوسطى، فإننا لا بدّ أن نسلطَ الضوء على ما أنتجته وولّدته تلك الثقافة المتخلّفة من معالم وسلوكيّات في واقع الناس وحياتهم على المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؛ كون الثقافة تحوز على موقع القلب في أيّ فعاليّة وجوديّة بشريّة كما قلنا آنفًا.. وكونها أيضًا وقائعٌ وأحداث ومعتقدات وأفكار وسلوكيّات وعلاقات وآليّات تعامل ووعي، وو إلخ.
ويمكن القول هنا إنّ صورة العالم الأوروبيّ التي ارتسمت خلال المرحلة الأولى والثانية من العصور الوسطى (300-1000-1300) ميلاديّة تبدّلت ملامحها السياسيّة والاقتصاديّة-الاجتماعيّة والفكريّة (الثقافيّة) في المرحلة الثالثة والأخيرة من العصور الوسطى (1300-1500) ميلاديّة[4].. حيث إنّ الإنتاج الثقافيّ الأوروبيّ اختلف في القرون الثلاثة الأخيرة من هذه العصور، وجاءت النتاجات الثقافيّة من أدب وروايات وشعر وملاحم عملًا ابتكاريًّا؛ حيث كانت اللغات الوطنيّة المحلّيّة قد بلغت درجة من النضج سمحت لها بالتعبير عن المعارف والمشاعر -من حبّ وكراهية وخوف وأمل ويأس- في صورة قصص امتاز بالحيويّة والخصب[5].

أوّلًا- الأساطيرُ المؤسِّسة للتفكير الثقافيّ الغربيّ خلال القرون الوسطى (عصر الظّلمات)
1. سرديّات الثّقافة والملاحم الشّعبية الأسطوريّة:
الأسطورة هي تلك القصص والحكايات والسّرديّات التي شكّلت «ثقافة» مجتمعات كانت في أطوار التطوّر الحضاريّ الأولى، وكانت تتحدّث عن الأعمال التي تقوم بها إحدى الآلهة في العقائد القديمة، أو إحدى الخوارق الطبيعيّة من الأبطال، حيث تظهر فيها محاولاتُ الإنسان (وتفكيره البسيط الأوّليّ) لتفسير ظواهر كثيرة كان يشاهدها ويعيش معها، في علاقاته بالكون والعالم الكبير من حوله، أو تفسير وجود بعض العادات والنظم الاجتماعيّة أو الخصائص المميّزة للبيئة التي يعيش فيها خالق الأساطير نفسه.. وهي تنطوي على فهمٍ دينيّ معيّن بالنسبة للشّعب الذي رواها.. والفولكلور، أو القصص الشعبيّ، يروي تراث البشريّة في أطوارها الأولى من عادات وعقائد، وقصص، وفنٍّ و...، في حكايات بدائيّة لها أصلها الأسطوريّ دون شكّ، ولها قيمها الفنّيّة والجماليّة الخالصة أيضًا.. هذه الحكايات أو الأحداث الأسطوريّة تتعلّق بكثير من أحداث الحياة كالحبّ والولادة والموت، أو بالعناصر الطبيعيّة مثل: الهواء والماء والأرض والنار.. أمّا الحكايات القديمة، فهي قصص وقعت أحداثها في أماكن حقيقيّة، وتتعلّق في الغالب -وإن لم يكن دائمًا- بأشخاص حقيقيّين[6].. فما هي أبرز تلك القصص أو الروايات والأحداث الأسطوريّة التي شكّلت جزءًا رئيسًا ومهمًّا من مشهد ثقافة القرون الوسطى؟!..

تعدّدت الأساطير في مجتمعات العُصور الوسطى، وتنوّعت في أشكال التعبير عنها، واختلفتْ في مضامينها الحكائيّة. وقد كان لكلّ بلد أساطيره وحكاياه التي كانت تعطي فكرة عن ثقافته السائدة وتقاليده الشعبيّة، لكنّها بالعموم كانت تركز (أي تلك الأساطير) على تصوّر وجود كائنات أو أشخاص يقومون بأفعال خارقة للعادة والمألوف السائد. وتعتبرُ الأساطيرُ التي ظهرت في الدّول الاسكندنافيّة (النرويج والسويد والدانمارك وآيسلندا) الأساس الثقافيّ لمعتقدات وأساطير القبائل الجرمانيّة الشماليّة التي انبثقت عن الوثنيّة النرويجيّة، وتضمّنت تلك الأساطير الكثير من القصص عن الآلهة المختلفة والمخلوقات الغريبة والأبطال الخارقين للعادة، وهي عمومًا مأخوذة عن مصادر مخطوطات ثقافيّة متعدّدة سواء قبل العهود الوثنيّة أو بعدها، من ضمنها مخطوطات العصور الوسطى، وقد ظهرت وبرزت في التماثيل الأثريّة، والتقاليد الشعبيّة، والعادات الاجتماعيّة.. وهي بغالبيّتها حكايات تتحدّث على الدوام عن حالة صراع وتنافس مستمرّين بين الآلهة الذين يخلقون الكون بمختلف عوالمه، وبين الأشرار العمالقة الذين يهدفون إلى تدميره.. طبعًا في العالم المسحور حيث تحدث هذه الأساطير، نواجه أنهارًا مضطربة وجبالًا مهيبة وغابات كثيفة وعواصف وشتاءً قارسَ البرودة، وحيوانات غريبة مرعبة.. إنّها حكايات تمتدّ من بداية الكون وولادة البشر إلى تدمير الكون والمستقبل الأسطوريّ[7].. وهذه الحكايات البرّاقة عن الخلق والدمار والموت والولادة والحياة، تقدّم نظرة للعلاقة بين الأسطورة والتاريخ والثقافة[8].
وقد تحدثت تلك النصوص والمخطوطات القديمة عن كثير من الآلهة، كحامل المطرقة وحامي البشر (الإله ثور)[9]، الذي استمر في محاربة الشر حتى قضى على رموزه وأعدائه بلا هوادة. وكذلك الإله أودين (ذو العين الواحدة) المتسلط على الغرباء، والذي استطاعَ الحصول على المعرفة ببراعة من العوالم المختلفة، وهو الذي أنعم بالأبجديّة على العالم والأمم كلّها؛ وكذلك الجميلة صاحبة الرداء المكسوّ بالريش، الإلهة «فرييا» التي كانت تجتاح المعارك لتختار المقاتلين الأشاوس، مضافًا إلى إلهة التزلج «سكادي» التي ارتبطت بفكرة «الانتقام»، وكانتْ تنقلُ عواءَ الذئاب من الجبال الشتويّة إلى شواطئ البحار، بالإضافة إلى نيورد، فريي، أيدون، هيمدال، فريغ، لوكي وبالدر، والعديد من الآلهة الأخرى.. والملاحظ أنّه خلال هذه المرحلة (القرون الوسطى) كان ثقافة الخوف تهيمن على المجتمعات الأوروبيّة التي كانت داخلة في صراعات سياسيّة وعسكريّة بين أقوام وقبائل وممالك كثيرة مختلفة المصالح والاتجاهات والانتماءات، ونتيجة للجهل أيضًا كان الخوف الأكبر يأتي مما كانوا يعتقدون أنّه صراع الآلهة مع الوحوش والكائنات المخيفة الغريبة التي كانت تسيطر على تفكيرهم وتصرّفاتهم، وكانوا يعتبرون أيضًا أنّها (أي تلك الوحوش) تعيشُ في جميع القارّات دونما أيّ استثناء، وليس في قارّتهم الأوروبيّة فقط؛ لذلك احتوت رسوماتهم وخرائطهم صورًا لمخلوقات غريبة عجيبة تعيشُ في أماكن نصف أسطوريّة. والأدلّة على ذلك كثيرة، ففي القرن الثالث عشر، قام أحد الفنّانين الإيطاليّين برسم خارطة للعالم آنذاك، واضعًا عليها أنواعًا متعدّدة ومختلفة من أشكال الحيوانات المنتشرة حول شتّى أنحاء وأركان الكرة الأرضيّة، وخاصّة في شبه القارّة الهنديّة والحبشة. وعلى سبيل المثال توجد في تلك الخارطة، وفي الهند تحديدًا، صور تظهر مخلوقًا عجيبًا يقف على ساق واحدة، وقد أطلق الفنان على هذا الرسم اسم (ذو الساق الواحدة).. كما كانت الخارطة تضم أشكالًا لأقزام أيضًا، ولعمالقة، ولأناسٍ مشوّهي الخلْقة، ليس لهم أفواه، ولأناس على هيئة حيوانات كالأُسود أو وحيدي القرن، أو رجال لهم آذان مبالغ في أحجامها وأشكالها، مع رسومات لآكلي لحوم البشر، وغيرها[10].. إضافة إلى قصص المستذئبين (werewolf)، وهم بشر يتحوّلون إلى ذئاب مفترسة متوحّشة، ومصّاصي الدماء (vampire) الذين هم في العادة وحوش تعيش على شرب دماء الأحياء، والزومبي (Zombie)، وهم أموات تُعاد لهم الحياة.. يعني هي حالة من الجهل الثقافيّ والتخلّف الاجتماعيّ كانت تتحكّم بقارّة أوروبا كلّها تقريبًا، في ظلّ انكفاء دينيّ مسيحيّ عن مواجهة هذا التخلّف المستحكم، وانعدام أيّ إجابات واضحة وحقيقيّة لديها عن أسئلة فكريّة كثيرة كانت تُطرح من قبل بعض الناس حول حياتهم وواقعهم وأسباب بؤسهم وتخلّفهم، في محاولة لمعالجة مخاوفهم من واقع ثقافيّ واجتماعيّ متخلّف ومرير..

2. ثقافة الفروسية والفرسان النبلاء:
كانت مجتمعاتُ العصورِ الوسطى مكوّنة من عدة طبقات اجتماعيّة تتمايزُ الواحدة عن الأخرى بالعلوّ والمكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة، وهي من الأعلى إلى الأسفل: طبقة رجال الدين، طبقة النبلاء والفرسان المحاربين[11]، وطبقة الفقراء والفلّاحين المحرومين الذين يعملون في المزارع والحقول، ويعانونَ التخلّفَ، وقسوة التّعامل، وشظف العيش، والجهل الحياتيّ الخاصّ والعامّ.
وكانت قد خرجت من بيئة الطبقة الإقطاعيّة-الدينيّة، طائفة من الأفكار «الأخلاقيّة»، تتمثّلُ فيما أسموه بقيم وأخلاق الفروسيّة، في جملة الفضائل التي يجب أن يتحلّى بها الفارس.. وكانت هناك ثلاثة أنواع من الفروسية، الفروسيّة الإقطاعيّة نمت فيها الأفكار الأساسيّة من أسلوب الحياة التي كان يعيشها النبيل الإقطاعيّ، والفروسيّة الدينيّة (الفتوّة) التي مثّلت مفهوم الكنيسة عن الفارس المثاليّ، والنوع الثالث الذي غذّته أفكار ورؤى ومزاجيّة الفرسان أنفسهم، أو جرى إطلاقها -من قبل النساء والرجال- على عشق الفرسان، في حرصهم الشديد على إرضائهم[12].

وكانَ من أهمّ وظائف طبقة الفرسان النّبلاء المتحالفة مع الإقطاع السياسيّ والاجتماعيّ الدفاع عن مصالح الطبقة الأولى في مواجهة الأعداء من المتمرّدين الداخليّين أو غيرهم.. هذا يعني أنَّ النظامَ الإقطاعيّ الذي نشأ في أوروبا اعتمدَ على طبقةِ الفرسان وميّزهم مكانةً ومالًا.. ويرجعُ أساسُ هذا النظام الإقطاعيّ في أوروبا -في جذوره الأولى- إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديّين، وامتدَّ خلالَ القرن العاشر والحادي عشر.. ورغم وجهات النظر المختلفة حولَ تعريف الاقطاع، إلّا أنّها تؤدّي إلى معنى واحد، وهو تجزئة الملكيّة والسيادة، لأنَّ المتقاسمينَ، الأمير وتابعه أو الملك وتابعه، يعيشان كشريكين، ولا يمكن تصوّر وجود أحد الشريكين دون الآخر[13]؛ ما يعني أنّ هؤلاء الفرسان كانوا مجرّد «عسكر» حربيّين، وكانت أخلاق الحروب والفروسيّة التي زعموا التزامهم بها ممزوجة بالأساطير الدينيّة والشعبيّة، وما يسمّى بأدب الملاحم الأسطوريّة.. وكانوا يقومون بوظيفة حراس مقابل أجر، وليسوا كما تمّ تصويرهم في بعض مناهج التاريخ الأوروبيّ، فرسانًا نبلاء مضحّين وأصحاب نخوة وكرامة ونُبل أخلاقيّ رفيع..
أي أنّ أفعال الفرسان لم تعكسْ حقيقة «التصوّر الثقافيّ» للفروسيّة المعبّر عنه أو الذي أريد التعبير عنه عمليًّا وسلوكيًّا بوصفه صورة رفيعة للحياة الدنيويّة، ومثالًا جماليًّا يتّخذ صورةَ مثالٍ خُلُقيّ. ويُشكّلُ الخيالُ البطوليّ والعاطفة الرومانتيكيّة أساسه ودعامته.. وبحيث تكون قيمتا التقوى والفضيلة جوهر الفروسيّة وحياة الفارس.. بل بالعكس من ذلك: كانت حياةُ الفرسان حياة رفاهيّة كاملة[14]، وأقرب إلى حياة الابتذال الدنيويّ المتمثّل في ارتكاب الرذائل والفضائح والموبقات الثقافيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة كما قلنا، يعني أنّهم فشلوا في بلوغ تلك المهمّة أو الوظيفة الفكريّة والقيمة الثقافيّة لمعنى وجوهر فكرة الفروسيّة؛ ذلك أنّ مصدر الفروسيّة هو مصدر أرضيّ يشدّها إلى أسفل، وهو الكبرياء المتطلّع إلى الجمال، كما أنّ الكبرياء المسبوك في قالب شكليّ يتولّد عنه تصوّر (مفهوم) للشرف، هو في الواقع قطب الرحى للحياة النبيلة. يقول المؤرّخ كارل بوركهارت[15]: إنّ عاطفة الشرف، الخليط العجيب بين الضمير والأنانيّة ستقيم مع رذائل كثيرة، كما أنّها تتّسع لخداعات مسرفة[16].

3-أسطورة الإسلام الدمويّ المخيف (تكريس ثقافة الخوف من الآخر):
تعكسُ صور الإسلام -ونبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)- في التاريخ الثقافيّ للقرون الوسطى سذاجة فكريّة وأبعادًا خياليّة (أسطورية) عن حقيقة هذا الدين في مبناه ومعناه، وقد كرّستها عقليّة الكنيسة القروسطيّة في مفاهيمها وعقيدتها الدينيّة، ورسخّتها قصص وروايات وأعمال نثريّة وقصائد شعريّة (ومجمل التراث الفنّيّ والأدبيّ الأوروبيّ)؛ وهي بالإجمال العام صور قبيحة منفّرة ومزيّفة بعيدة عن الواقع، وأقرب ما تكون للخيال والاختلاق والتلفيق؛ إذ كانت الصور الأسطوريّة النمطيّة تقدّم -مثلًا- الرسول الكريم محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه رجلًا مسيحيَّ الأصل والجذور، تزوّج امرأةً ثريّة!.. كما كانت تلك الصور الأسطوريّة تقدمُ الإسلام كدينٍ بشريّ، وليس كدين إلهيٍّ سماويٍّ، أي أنّه من إلهام البشر وصنعهم، ولا علاقة له بالوحي الدينيّ والإرادة الإلهيّة، وكانت تقدّم المسلمين بوصفهم عبدة للأصنام والأوثان، يمارسون مختلف أعمال القتل والعنف[17]..
وقد توسّعَ كثيرٌ من المؤرّخين والباحثين الغربيّين وغير الغربيّين في الحديث عن هذا الجانب[18]، وعملوا على مقاربته علميًّا وموضوعيًّا، مؤكّدين أنّ تلك الصورة النمطيّة السلبيّة عن عالم الإسلام والمسلمين -التي تكونت لدى الغربيّين، شعوبًا ونخبًا- هي محض افتراء وأساطير، وهي -بالتدقيق الوصفيّ التاريخيّ- تشكّلت في القرن الثاني عشر الميلاديّ، وكانت نتاج الانتصار الأوّل للفرسان الصليبيّين في عدوانهم على بيت المقدس (وديار المسلمين) الذي ادعوا أنّ لهم فيه مواريث حضاريّة لا تؤخذ إلّا بالقوّة.. وقد جُمعتْ أجزاءُ هذه الصور في جنوبي فرنسا؛ وأسهم في تركيبها في الغالب الفرسان العائدون، والكهنة والرهبان؛ ممن لم يعرفوا جبهات القتال عن كثب.. لقد كان هؤلاء يزوِّدونَ المخيّلة الأوروبيّة (المستعدّة أساسًا لتقبُّل مثل هذه السُّموم الفكريّة والخيالات المريضة) أمام مواقد النار في الشتاء بطرائف (أساطير مكذوبة) عن الشرق والإسلام والنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).. ووصلتْ هذه الصورةُ الخياليّة (الأسطوريّة) المتكوِّنة إلى المدارس والأديرة الوسيطة بعد وضعها في شكل مدرسيّ يشجّع على قبولها. وأدّى ذلك في النهاية إلى (تركيز وتثبيت) انطباع شعبيّ مروّع وعجيب في قدرته على البقاء (والتمدّد)، ومقاومته لكلّ المعلومات الصحيحة ونصف الصحيحة التي توالت فيما بعد[19].

ويمكنُ القول هنا إنّ من أهمّ أسباب تجذُّر ورسوخ تلك الصورة الثقافيّة الخياليّة (المُختلقة) المتخلّفة عن الإسلام والمعبّرة عن ثقافة منحطّة وعقيمة الفعاليّة الإنتاجيّة:
ألف- تخلُّف البيئات الاجتماعيّة والثقافيّة السّائدة آنذاك، وقلّة تدبّرها العقليّ، وجهلها الحياتيّ العامّ، وعدم معرفتها بأيّ شيء اسمه «آخر» مختلف عنها، ورفضها له، ورؤيتها لكلّ شيء من مرآة ذاتها المريضة بطبيعة الحال..
باء- العداءُ التاريخيّ الغربيّ للإسلام كدين «منافس» وحضارة قويّة فاتحة، حيث تمكّنتْ -خلالَ أقلّ من قرنين- من الحضور العالميّ في الفكر والثقافة والإنتاج العلميّ المادّيّ، وبحيث باتتْ مركزًا حضاريًّا عالميًّا ومرجعيّة لكثير من حضارات العالم علمًا وفكرًا ومعرفة إنسانيّة.. بما يعني أنّها حالة «عداوة ثقافيّة» –إذا صحّ التعبير- تتأصّل برؤية الغرب ذاته عن نفسه (كمركز وقطب وحضارة عليا وذاتٍ مفارِقة سيّدة على غيرها)، وليس بالضرورة بسبب ما إذا كان الإسلام نفسه يشكّل تهديدًا فعليًّا للمسيحيّة أو لعموم الغرب.. وهو لم يشكّله بالمطلق، لا في سلوك الفاتحين المسلمين وآليات حكمهم، (وهو أمرٌ شهدت لهم به، في تسامحهم وانفتاحهم وإنسانيّتهم، كبار عقول الغرب الثقافيّة والحضاريّة)[20]، ولا في رؤيةِ هذا الدين المفاهيميّ الذّاتيّ القائم على الحوار والاعتراف بالآخر المختلف.
وهذه قضايا ومفاهيم إنسانيّة عمليّة كانت غائبة كلّيًّا في تلك المرحلة (القرون الوسطى) عن الثقافة الغربيّة التي كانت تضجُّ بالتّخلف والهمجيّة وهيمنة السلوك اللاإنسانيّ ومعاداة الآخر دونَ أنْ تفهمه وتنفتحُ عليه وتعي أفكاره مفاهيمه، فالانغلاقُ سمةُ الموقف والهويّة، والعداء طابعهما العمليّ للأسف[21]..

ثانيًا- هيمنةُ السّحر والشعوذة وثقافة الموت
لقد كانَ للانحطاط الثقافيّ والتّخلّف العلميّ والعقليّ الوسيطيّ آثاره السلبيّة على كافّة مواقع تلك المجتمعات في كلّ ما يتّصل بشؤونها ومعايشها وعلاقاتها، وهو في حقيقته تخلّفٌ واسع وعميق لم يؤدِ فقط إلى شيوع الخرافات والأساطير، بل أدّى أيضًا إلى تفشّي كثير من العادات والسلوكيّات وأنماط العيش والنظم الحياتيّة التي لا علاقة لها بأيّ منطق عقليّ وتوازن نفسيّ وروحيّ وعقليّ..
يضافُ إلى ما تقدّم من مظاهر العدميّة الاجتماعيّة والحياتيّة (المستندة على ثقافة متخلّفة وواقع اجتماعيّ مفكّك ليس فيه أدنى روابط قويّة قيميّة ثقافيّة ودينيّة رصينة ومعياريّة إنسانيّة)، حضور وطغيان ثقافة الموت في تلك المجتمعات، إلى حدّ يمكن اعتباره حضورًا ثابتًا وقويًّا وواسعًا؛ والأسباب الكامنة وراء هذا الحضور المؤثّر متعدّدة وكثيرة، فالتناقضات الاجتماعيّة والصراعات العسكريّة كانت تجري على قدم وساق، والأمراض الجسديّة كانت تفتكُ بالناس نتيجة التخلّف والجهل والاعتماد على السحر وطقوس المشعوذين في العلاج (انتشار مرض الطاعون)، وهذا ما جعلَ تلك المجتمعات تتمسّكُ بالموت كحالة اعتقاديّة تشكّل حقيقة واقعة من حقائق وجودها وحركتها إلى أنّه تمّ توصيف العصور الوسطى عمومًا -من جملة ما تمّ توصيفه بها- بأنها عصور الموت والعتمة (الظلمات).

لقد انتشرَ مرضُ الطَّاعون في أوروبا العصور الوسطى، وقضى على ملايين –وربما عشرات ملايين- البشر، وسُمّي بالمَوت الأسود.. وقد شكّلَ هذا الحدثُ المخيف جدًّا، واقعًا قاسيًا وضاغطًا بطريقة غير مسبوقة على واقع تلك المجتمعات والدول، حيثُ إنّ الناسَ بدتْ خائفةً جدًّا على مصيرها ووجودها إلى درجة أنَّ الأخَ لم يكن يقتربُ من أخيه المُصاب، والأب كانَ يخافُ ملامسة ابنه المصاب، والزوجة تفرُّ من زوجها، ولم يتمّ التعرّف على العوامل المسبّبة للمرض إلّا في القرن التاسع عشر، حيث تمَّ اكتشاف أنَّ السببَ عبارة عن عصية جرثوميّة (عصية يرسين نسبة لمكتشفها العالم الفرنسيّ السويديّ الكسندر يرسين) تنتقل إلى الإنسان من خلال البراغيث التي تحملها القوارض[22].. ولكن الواضح أنَّ الذي أسهمَ بقوّة في انتشار وتفشّي ذلك المرض القاتل والمرعب هو عدم توفر البيئة الصحّيّة السليمة للعيش البشريّ في العصور الوسطى، حيث كانتْ أعداد كبيرة من سكّان تلك العصور تتشاركُ وتتقاسم البيوتَ نفسها مع الحيوانات المدجّنة كالأحصنة والخراف والخنازير وغيرها.. وفي مثل هكذا بيئات حيويّة طبيعيّة يتّصلُ فيها الإنسانُ بسهولة وبشكل شبه يومي مع الحيوانات، فتتوفّرُ التربةُ الملائمة الخصبة لنموّ ووصول الجراثيم للإنسان، خاصّة مع هيمنة الجهل والتخلّف وانعدام أيّ معرفة علميّة ووقائيّة، والاكتفاء بالأفكار التقليديّة الأسطوريّة والسّحريّة.

ثالثًا انتشار الجهل والأمّيّة في مجتمعات القرون الوسطى
لم يختلف كبارُ المؤرِّخين كثيرًا حول توصيف طبيعة حياة الناس في مجتمعات وبلدان العصور الوسطى -في أحداثهم ووقائعهم وفعاليّاتهم- من حيث إنّها كانتْ حياةً بدائيّة عاش فيها الناس في قلب لجّة الجهل والفقر والحرمان، وأنّ أفكارهم وثقافتهم وعاداتهم كانت موغلة في البدائيّة والهمجيّة، تتسيّدها قيم التعصّب والجهل، كما لم يختلف أحدٌ منهم تقريبًا على اعتبار النظم الاجتماعية التي سادت هناك، قائمة على الظلم والعبوديّة، نظرًا إلى طغيان العلاقات والبنى الاجتماعيّة الإقطاعيّة، وكان أهمّ ما ميّزها صلة الدم المعزّزة بوشائج الولاء والطاعة البعيدة كلّ البعد عن معايير القيم والأفكار الإنسانيّة المعياريّة الكبرى.. فعوام الناس كانوا يعملون تحت إمرة وسلطة ما يسمى بـ«طبقة النبلاء»، وهي الطبقة الحاكمة في المجتمع، كذلك لم تكن سطوة «الإقطاعيّين» بأقلّ من سطوة النبلاء من حيث التحكّم بالفلّاحين، ووضعهم بنمط أشبه بالعبوديّة الرومانيّة في العصور القديمة.
لقد عانتْ مجتمعاتُ القرون الوسطى من الأمّيّة التعليميّة والثقافيّة على وجه العموم، بحيث سادت فيها الصراعات والتناقضات السياسيّة والمجتمعيّة، وسيطرَ التخلّفُ والجهل التعليميّ والثقافيّ عليها، واقتصرَ التعليم لعدة قرون على الكنيسة والكتاب المقدّس، أي أنّه أُخضع التعليم إخضاعًا تامًّا وكلّيًّا للسيطرة الكنسيّة نتيجة لانحلال السلطة الزمنيّة وازدياد نفوذ البرابرة في المجتمع الغربيّ[23].
.. ومن مظاهر ذلك الجهل المُعمّم والشامل في العصور الوسطى، الحياة العمليّة التي عاشتها المرأة الغربيّة وماهيّة النظرة إليها من قبل الفكر المسيطر والنخب الحاكمة، حيث لم تكن المرأة تعني شيئًا يذكر، فقد تمّ تقييد حرّيّتها، ولكنّها في مجال العمل الشاقّ والصعب، كانت تعمل في المزارع والحقول وتربية الحيوانات، إلى جانب الرجل[24].

رابعًا- تأثيرُ سيطرة الوثنيّة والآلهة المتعدّدة على مجمل المظاهر الثقافيّة الحضاريّة خلال القرون الوسطى
عندما نزلت الرسالاتُ السّماويّة واجهها بعض الناس (من أصحاب القوّة والنفوذ) بالرفض، كونها كانت تشكّل خطرًا على مصالحهم الدنيويّة.. حدثَ هذا مع نبيّنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته الإسلاميّة، وحدث أيضًا مع بقيّة أنبياء الله الكرام(عليهم السلام).. وعندما جاء المسيح بن مريم (عليه السلام) برسالته الدينيّة، واجهها اليهود ورفضوها بشدّة، وفعلوا الأفاعيل لإسقاطها، واعتبروها مناقضة لرسالة النبيّ موسى(عليه السلام)؛ وقد تحمّل بعضُ الأتباع الكثير من المعاناة، ومات دون رسالة المسيح(عليه السلام) ودينه، وهناك من فرّ وهرب، ولكن ثمّة كثيرون آخرون استخفّوا بديانتهم ولم يصمدوا، فلا شوكة تحميهم وتحفظ كتبهم وديانتهم. ووسط هذه الاضطهادات التي واجهها المسيحيّون تمّ تدوين أناجيلهم الأربعة التي يؤمنون بها وبقدسيّتها، ودُوّنَت أيضًا رسائلهم..

وقد توسّع الكثير من الباحثين المسلمين وغير المسلمين في الحديث عن تلك الجوانب الوثنيّة التي ظهرت وبرزت في العقائد المسيحيّة.. ولعلّ أهمّ وأبرز دليل هو ما تحدّث عنه القرآن الكريم في إشارته إلى بعض الجذور والأصول الوثنيّة للعقيدة المسيحيّة.. يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة/ 30).. وأصل الدليل هنا قوله تعالى: «يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي يشابهونهم.. وهو مأخوذ من قولهم: إمراةٌ ضهباء، أي لم تحض (من الحيض) تشبيهًا بالرجال.. وتعني الآية -في إجماع معظم المفسّرين- أنّ قول النصارى المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله، وأنّ الملائكة بنات الله، ويضاهي قول عبدة الأوثان في اللات والعزّى ومناة[25]، أو يضاهي قول كلّ من أشرك وكفر بالله من الأمم الكافرة، كما قال في مشركي العرب: ﴿كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (البقرة/118).. وحتى عقيدة التثليث التي رفضها القرآن والإسلام، وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة/آية73: ﴿...لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ..﴾ (سورة المائدة/93)، (وعقيدة الابن والحلول) كانت معروفة قبل المسيحيّة عند البراهمة والبوذيّين، وفي الصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريّين واليونان والرومان[26]..
وهذا ما ذهب إليه أيضًا صاحب تفسير الميزان العلّامة الراحل السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ، حيث اعتبر أنّ قوله تعالى: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ﴾ تنبئ عن أنّ القول بالبنوّة منهم مضاهاة ومشاكلة لقول من تقدّمهم من الأمم الكافرة، وهم الوثنيّون عبدة الأصنام، فإنّ من آلهتهم من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، ومن هي إلهة أم إله أو زوجة إله، وكذا القول بالثالوث مما كان دائرًا بين الوثنيّين من الهند والصين ومصر القديم وغيرهم، وقد مرّت نبذة من ذلك فيما تقدّم من الكلام في قصّة المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.. ويؤكّد أن تسرُّب العقائد الوثنية في دين النصارى ومثلهم اليهود، هو من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: ﴿يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ﴾.. وقد اعتنى جمعٌ من محقّقي هذا العصر بتطبيق ما تضمّنته كتب القوم، أعني العهدين: العتيق والجديد على ما حصل من مذاهب البوذيّين والبرهمائيّين، فوجدوا معارفَ العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل، حتّى على مستوى كثير من القصص والحكايات الموجودة في الأناجيل، فلم يبقِ ذلك ريبًا لأيّ باحث في أصالة قوله تعالى: ﴿...يُضَاهِئُونَ...﴾ في هذا الباب[27].

أمّا موضوع التثليث، الذي سرى إلى المسيحيّة من الحضارات القديمة[28]، فإنّ القرآن الكريم يرفضه بشدّة، يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْۚإِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌسُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لنْ يستنكِفَ المَسيحُ أنْ يكُونَ عبدًا لله ولا المَلائكةُ المُقربونُ.....﴾ (سورة النساء/ 171-172).

حيث يُلاحظُ أنَّ الآيات القرآنية السابقة -وغيرها، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (سورة آل عمران/ 59)- التي تناولت النبيّ عيسى (عليه السلام)، كلّها كانت تركّزُ الحديث والتوصيف والشرح على بشريّة عيسى، وتستعرض الخصائص البشريّة في وجوده، منذ ولادته إلى أن رفعه الله إليه، ثمّ تفيض وتتوسّع الآيات في وصف ولادته وما أحاط بها من العوارض التي عرضت له في حياته، كجسد يتأثّر بكلّ ما يتأثّر به الجسد في دائرة الحياة والموت، مما يتنافى مع أيّ طبيعة إلهيّة..

المبحثُ الثالثُ: المنعكسات المجتمعيّة للثقافة والأخلاق في مجتمعاتِ العصور الوسطى
مقاربةٌ نقديّة في أنظمة المَعنى والقيم ومبادئ السّلوك الثقافيّة وأساليب التفكير المهيمنة
تنعكسُ ثقافةَ أيّ مجتمعٍ في سلوكِ أفراده وعلاقاتهم ونتاجاتهم، وهي التي تُحدّدُ لهُم -من خلال أنظمة القيم العمليّة التي تفرزها- أفقهم الحياتيّ في الحاضر والمستقبل، وبها يمكن أن يتعرّفوا ويدركوا كثيرًا من معالم وجودهم ومعانيه وغاياته؛ وهذه العناصر الثقافيّة المادّيّة والروحيّة المشكّلة للتراث العقليّ والروحيّ تأتي من خلال ما بذله الأفراد من جهود فكريّة وعمليّة مستمرّة، وراكموها في مسيرتهم الحياتيّة، وما أكسبوه لثقافتهم من معانٍ واتجاهات ومعارف وعادات وتقاليد..
ولعلّ التمظهر الأكبر للتراث الثقافيّ لأيّ أمّة أو شعب أو حضارة، يتجلّى في منظومتها الأخلاقيّة ومعانيها الهادفة الغائيّة التي توجّه أفكار الأفراد والمجتمعات، وتدفعهم إلى العمل والإبداع والتميّز.. من هنا تأتي علاقة التراث بالأخلاق، وهي علاقة مباشرة، تنطلق من عادات المجتمع وسننه وتقاليده ومقاصده العليا.
وعندما يعيشُ النّاسُ في أجواء قلِقة تناقضيّة صراعيّة، وفي ظلِّ أوضاع اقتصاديّة صعبة، يعانونَ فيها من الحرمان الدائم وقساوةِ العيش في تأمين حاجاتهم ومتطلّبات وجودهم، تتغيّرُ عاداتُهم وطرائقُ عيشهم، تسوءُ معها طبائعهم وقيمهم، وتنحطّ أخلاقيّاتهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة مع بعضهم (ومع غيرهم بطبيعة الحال)، فيقلّ إنتاجهم وعطاؤهم الفكريّ، ويتلاشى نشاطهم الإبداعيّ إلى مستوى العدميّة تقريبًا، وهذا أمر طبيعيّ جدًّا، فالإنسانُ ابن بيئته، وهو مرهونٌ لحاجاته أكثر مما هو مرتهن لقيمه وأخلاقيّاته، لأنَّ الانشغالَ الأساسيّ لهمْ يتركّزُ حول العيش وتأمين الطعام والشراب ليس إلّا..!!. أي تأمين وجودهم العضويّ الفيزيولوجيّ فحسب..

فما هي تلكَ البُنى الثقافيّة وأنظمة القيم والأخلاق العمليّة التي تمَّ تكريسُها في العصور الوسطى، والتي يمكنُ أنْ تعطينا فكرة واضحة عن حالة الترهّل والتخلّف الثقافيّ العمليّ التي سادت وهيمنت على كلّ شيء، في تلك العصور؟!:

أوّلًا- تكريسُ الخوف من الدّين والطّاعة العمياء للعقائد:
كانت تعاليم الكنيسة ونصوص لاهوتها الدينيّ -المستقاة من تفاسير رجالاتها- هي التي تفسِّرُ العالمَ والكونَ من خلالِ تصوّراتها الدينيّة التي وضعَها الأساقفة والباباوات في مجامعهم الدينيّة التي بدؤوها منذ أيّام الرومان الأخيرة بعد الاعتراف بسلطة الكنيسة كعقيدة للدولة الرومانيّة[29]، وكانت تلك المفاهيم تعطي للناس أجوبة على كثير من أسئلة الحياة والوجود والاجتماع البشريّ.. أي كانت تفسّر للناس كلّ شيء من خلال مفاهيمها «المقدّسة»، وتطرح عليهم إيمانًا يناقض العقل؛ وقد أدّى هذا الخلط الفكريّ والعقائديّ بسبب الاستعانة بأفكار الوثنيّين وغيرهم إلى الوقوع في تناقضات كثيرة، اضطرت أن تصبح اعتقاديّة (دوجماتيّة) تأخذ بالمذهب الاعتقاديّ الحتميّ، ذلك أنّها حين يئست من بلوغ حلول أخرى لخلافاتها الفكريّة التجأت إلى الاستبداد التعسّفيّ[30].

وكانَ من أهمّ نتائجِ الحتميّة العقائديّة التي فرضَتها الكنيسة، التسليم والإذعان بكلّ مفاعيل الإيمان الكنسيّ المناقض للعقل..
في الواقع إن الله تعالى لم ينزل الدين -سواء أكان المسيحيّة أم الإسلام أم غيرهما- ليكون عقبةً في طريق الإنسانيّة ومشوارها الكفاحيّ الطويل للبناء والإعمار الحياتيّ، بل جاء ليكون حلًّا لمشكلة الوجود البشريّ، ودواء لمعالجة أمراضه النفسيّة والسلوكيّة التي قد تظهر في المسيرة الحياتيّة التكامليّة للبشريّة؛ ولهذا رأينا كيف يصفُ القرآن الإسلام مثلًا بأنّه دين يسر وليس دين عسر، دين تفاؤل لا يأس يقول تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرِ..﴾ (سورة البقرة/ 185)، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (سورة الشرح/ 5)، ﴿ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ (سورة البقرة/ 178)، وهي آيات تناغم العقول وتيسّر الأمور عن البشر.

ومن مظاهر ومشاهد هذا اليسر العمليّ، تسامح الإسلام مع الجميع، حتّى مع المخالفين والمعترضين.. يقول تعالى في أوضح وأجلى تعبير عن قيمة وأخلاق التسامح وعدم الإكراه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (سورة الأعراف/ 199)، وقوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾( سورة الزخرف/ 89).

ثانيًا- الأخلاق العمليّة والانفصال عن الواقع
كانت الأخلاقُ المَفروضة في العصور الوسطى تجريديّة منفصلة عن الواقع الثقافيّ والاجتماعيّ وغير الاجتماعيّ القائم، وبعيدة عن أصالة المعاني الفطريّة للقيم والأخلاق الإنسانيّة، أي أنّها لم تكن منسجمة مع هذه الفطرة الإنسانيّة التي أودعها الله تعالى في الإنسان، والتي تقوم على التوازن الدقيق والعميق بين الرّوح والمادّة.. فمثلًا، عُرفَ عن المسيحيّة دعوتها إلى أن تقوم العلاقات بين الناس في المجتمع على أساس أخلاق التسامح والمحبّة والعفو والزهد التي شكّلتْ خطًّا روحيًّا ومفاهيميًّا في صُلبِ فكر الكنيسة ومنظومتها القيميّة.. فماذا كانت نتيجة هذه الدعوة؟! وهل تمثَّلَ الناسُ معانيها والتزموا بمفاعيلها ومقتضياتها؟ أم أنّها كانت مثاليّة بعيدة عن الواقع؟! وهل منعتْ تلك القيمُ الناسَ من الوقوع في براثن الخطأ والخطيئة وارتكاب المعاصي بحسب مفهوم الكنيسة ذاتها؟!..
لقد كانَ نظامُ العملِ في العصور الوسطى مرتكزًا على أخلاقيّات المجتمعات آنذاك، وهي انعكاس لأخلاقيّات النخب الحاكمة دينيًّا وسياسيًّا اقتصاديًّا في علاقاتها مع الناس وسلوكيّاتهم ومصالحهم، وهو نظام قام على نظام الأقنان (العبوديّة)، ولم تتمكّن المسيحيّة من تعديله أو مواجهته أو إنهائه، رغم أنّه كان ظالمًا بحقّ المجتمعات، والناس لم تتحرّك لمواجهة مضطهِديها؛ لأنّها كانت مدجّنة لا تفكّر سوى بيوميّاتها؛ تؤمن بخرافات الكنيسة ومقولاتها الدينيّة حول أخلاق التسامح والغفران الدينيّ!! فالناس كانت فعليًّا بسيطة ساذجة لم يتمّ تعليمها وتثقيفها لتحرّك عقولها، بل لتبقيها ساكنة مستريحة، بحيث لا يفكّر الناس من خلالها إلّا بما يرضي الدين ورجالاته الذين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الرب، ومالكين للحقيقة الكلّيّة سواء أكانت دنيويّة أم أخرويّة، معتبرينَ أنَّ أيَّ مصدرٍ آخر غيرهم، وغير ما تحت أيديهم -من كتب (ومقولات) مقدّسة في نظرهم- لا قيمة ولا معنى لها، ولا يعتدُّ بها، بل عاقبوا كلّ من تسوّل له نفسه التفكير بالخروج عليهم.. وكانوا يضيقون ذرعًا بأيّ معرفة غير معرفتهم، ولا يثقون بأيّ فكر لم يصحّحوه أو يراقبوه، (ما يعني أنّهم) نصّبوا أنفسهم (محتكرين للعلم والحقيقة)، للحدّ من العلم الذي كانت غيرتُهم منه بادية للعيان، وكانَ أيُّ نشاطٍ عقليّ غير نشاطهم يعدُّ في نظرهم نشاطًا وقحًا[31].

..كما أفرزت تلك الأخلاق الكَنسيّة التقليديّة أيضًا أفكار وسلوكيّات الزّهد والرهبنة القائمة على تكريس الابتعاد عن الدنيا كلّيّا، والانزواء بعيدًا عنها في أديرة وأمكنة قصيّة بعيدة عن الناس للعبادة والصلاة والقيام بواجبات الدين والكنيسة، رغم أنّ كثيرًا من أصحاب تلك الفكرة كان غارقًا في مستنقعات هذه الدنيا وملذّاتها وشهواتها على عكس ما كانوا ينشرونَ ويعتقدون ويؤمنون ويدّعُون، والأشنع من هذا أنّ هؤلاء نصّبوا أنفسهم حراسًا لتلك القيم والأخلاق الدينيّة، في تناقض صارخ وفاضح وعجيب، يجمع المتناقضات في بوتقة واحدة؛ إذ كيف تدّعي الإيمان والفضيلة والأخلاق، وتغالي في تصوّراتك عنها، وتجهد في الدعوة إليها، وإلزام الآخر بها، (وترفعُ مقامَها إلى أعلى علّيّين)، ولكن من جهة ثانية، تنغمسُ في أتونِ محارقِ الغرائز الدنيويّة لتمارس الأقبح وترتكب الأسوأ؟!..
لقد أخطأ رجالات الكنيسةُ كثيرًا في وعيهم لمسألة القيمة والمبدأ الأخلاقيّ عندما وضعوا لها شروطًا ومعايير ومواصفات لا يمكن لأيّ إنسان خوض غمارها والاستجابة لمعانيها العمليّة، بل إنّ غالبيّة البشر كانت تنوءُ -كما أثبتت التجارب- بحملها وتحمّل أعبائها، وربما لا يستطيع تمثّلها واستكمالها -عدا الملائكة- إلّا حفنة ضئيلة من البشر تتمتع بمزايا غير عاديّة، ولا يصحّ أن تُتخذ مقياسًا لسائر بني الإنسان.. وحتّى لو جرى الضغط لتطبيق وتمثّل تلك القيم -بعيدًا عن التوازن والواقعيّة- سيكون الأمر دافعًا للانحراف السلوكيّ حتّى ضمن دائرة من يدّعون الطهارة والعفاف..
إنّ هذا الانحراف والتحريف طالَ العقائدَ والمفاهيم والأخلاقيّات العمليّة، وكما ذكرنا سابقًا، وصل حدود بناء صياغات نظريّة وسلوكيّة سلبيّة لمفهوم الزهد كقيمة أخلاقيّة.. بحيث إنّه رغم كلّ مناشدات الزهد ودعوات الرهبنة لم تشهد أوروبا العصور الوسطى سوى الفشل القيميّ السلوكيّ، والانحطاط والتدهور الأخلاقيّ السافر. وقد أسهب الكثير من الكتاب والمؤرّخين في رصده ووصفه واستعراض أحداثه التي وصلت حدَّ أن ينزع منها صفة البشريّة..
أمّا الدين الإسلاميّ، فقد نظر للأخلاق عمومًا ولهذه القيمة الأخلاقيّة بالذات، نظرةً موضوعيّة واقعيّة، فهو من جهة لم يرفضها بالمطلق، بل دعا إليها من خلال قيمة التقوى والتزام حدود الله في ألّا يجدك (الله) حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، ومن جهة ثانية حدّد ونظّم شروطها ومعاييرها بعيدًا عن تعذيب النفس، أو تحريم ما حلّله الله للإنسان، والإلقاء به إلى التهلكة سواء في الدنيا أم في الآخرة..

نعم، حضّ الإسلام على التقوى ومجانبة الشهوات وترك المحرمات وقيام الإنسان بمقتضيات الإيمان الحقيقيّ لتحقيق التكامل الروحيّ والعمليّ، ولكنّه رفض رفضًا قاطعًا مفهوم الزهد بالمعنى القائم في الذهنيّة الكنسيّة والفكر المسيحيّ التقليديّ (والمسمّى بالرهبنة) التي هي الانقطاع الكلّيّ إلى العبادة، وترْك الكسب الحياتيّ والفعل الوجوديّ، وهجر الحياة الاجتماعيّة وغير الاجتماعيّة، بل كان (الإسلام) واضحًا وصريحًا في اعتبار الرهبانيّة مظهرًا من مظاهر الزيف وبدعة ابتدعها المسيحيّون في قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (سورة الحديد/ 27)، وكذلك في الحديث الشريف القائل: «لا رهبانيّة في الإسلام»[32] الذي يُستدلُّ به عادةً على تحريم الرهبانيّة في الإسلام.
وأمّا أهل البيت(عليهم السلام)، فقد اعتبروا أنَّ الزهدَ لا يعني الابتعاد عن مباهج الحياة الدنيا ونِعَمِ الله تعالى فيها، وما أخرجه للناس (عباده) من الطيبات والزينة والسرور والسعادة؛ والحال أنّ الزهد هو كما ورد عن أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام): «الزهد بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾.. ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي؛ فقد أخذ الزهد بطرفيه»[33].. هذا الكلام لا يعني أنّ الإمام عليّ(عليه السلام) كان عدوًّا للدنيا طبعًا، فهو نظر إليها بوعي ومسؤوليّة، كساحة لرضى الله تعالى، يعني هو أحبّها رغم تحذيراته الكثيرة من مغرياتها وزخارفها، ولكن عندما تكون في خطّ طاعة الله، وفي خطّ رضوانه وتقواه، وهو قدّرها عندما كانت متجرًا لأولياء الله، ودارَ عبورٍ للفعل والاكتساب بما يرضي الله تعالى.. ولذلك قال(عليه السلام): «إنَّ الدّنيا دار صدقٍ لمن صدَّقها، ودار عافيةٍ لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها»[34].
وتجدرُ الإِشارةُ هنا إلى أن نقدَ الإسلام للفكر المسيحيّ لا يعني البتّة أنّه ينتقد النصرانيّة ذاتها كدين ورسالة إنسانيّة صافية في التزاماتها القيميّة الأخلاقيّة الذاتيّة الهادفة لبناء مجتمعات الإيمان والمحبّة والتسامح والتشارك الإنسانيّ.. والدليل على ذلك أنّ المسيحيّة وُجدت في بلاد العرب قبل نحو مئتي سنة من مجيء الإسلام ونزولِ الرسالة المحمّديّة، وكان للمسيحيِّين -في جميع أنحاء البلاد التي صارَت فيما بعد إسلاميّة- أديرة كثيرة، وكان الرهبان المسيحيُّون يَجُوبون الصحراء ويطوفون القرى، كما كانوا موضع احترام وتقدير الناس في بلاد العرب وغيرها، وقد سجَّل الشعرُ الجاهليّ كثيرًا من مناقبهم[35].. بل إنّهم كانوا موضعَ احترام المسلمين على عهد الرسول الكريم نفسه، فقد ورَدَت الأخبار بأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يُجلّهم ويحبُّ مجالستَهم والتحدّث إليهم، وكانَ الخلفاء يَحترمون الرهبان، وينهونَ عن اضطهادِهم، ويدعون للتعامل الإنسانيّ معهم، ولِمَ نذهب بعيدًا والقرآن نفسه صريح في مدح المسيحيِّين والثناء على رهبانهم.. حيث يقول: ﴿لتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ*وَإِذَا سَمِعُوا مَا أنُزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (سورة المائدة/ 82).

ثالثًا- صكوك الغفران
كان البابا يقدّم نفسه على أساس أنّه «وكيل» الله في الأرض، بل ظلّه والناطق باسمه.. بطبيعة الحال لم يرضِ هذا السلوك الفوقيّ الملوكَ والأباطرة، بل حاولوا مواجهته ومنعه بشتّى السبل، ودخلوا في سجالات وصراعات عديدة وطويلة مع الباباوات والمجالس الدينيّة حول دور الكنيسة والبابا والسلطة التي يجب أن يحوزوا عليها.. ولكن كلّ محاولات الملوك باءت بالفشل، مما اضطرهم للالتفاف والمناورة، فعقدوا مع السلطة الروحيّة -ممثلة بالبابا- اتفاقًا ضمنيًّا أبديًّا يقوم على تبادل المنافع والمصالح، وترسيخ الحقّ الإلهيّ في الحكم لكلّ من سلطتي البابا والملوك.. لكن هذا الصراع خلق -من جهة ثانية- شكلًا من أشكال الاستبداد الدينيّ باسم السماء، وأصبحت الكنيسة ممثّلة بالبابا تمارسُ دور الوصيّ والرقيب على الإنسان باطنًا وظاهرًا.. وكان من مظاهر هذا الاستبداد والوصاية على الناس، ابتداع ما يسمّى بـ«صكوك الغفران» التي تُعتبرُ أيضًا مظهرًا من مظاهر ثقافة التخلّف في العصور الوسطى.. حيثُ إنّه نتيجة لانهماك الناس في البحث عن خلاص روحيّ وجسديّ لهم من عوالم الخوف والخطيئة الدائمة التي أوقعتهم فيها ثقافة الكنيسة، وغذّتها فكريًّا تعاليم الكهنة والقساوسة وممارساتهم الناظرة للإنسان كمخلوق تابع منفعل لا قيمة له أمام وصاياهم وقيمهم ونصوصهم «المقدّسة»، ابتدعَ رؤوساء الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة ما سمّي بصكّ الغفران (Indulgence)، وهو عبارة عن «ورقة-وثيقة» كانت تصدرها الكنيسة لأيّ شخص (يبحث عن رضى الربّ، ويأمن عقابه)، يطلبها مقابل الحصول على مبلغ ماليّ يختلف صعودًا ونزولًا باختلاف درجة الذنوب (فلكلّ ذنب وخطيئة درجة ومقابل ماليّ)، والغرض منها الإعفاء الكامل أو الجزئيّ للشخص من العقاب على الخطايا والآثام المرتكبة التي يتمّ العفو عنها.. وأمّا ضمان صكوك الغفران فقد كان يأتي من الكنيسة بعد أن يحضر الشخص إلى الدير أو الكنيسة ويقف خاشعًا معترفًا مقرًّا بالإثم، وبعدها يتلقّى البراءة أو الإبراء.

لقد ظهرَ هذا السلوك الدينيّ خلال المجمع الثاني عشر الذي انعقد في روما عام 1215م، وتمّ فيه الإقرار بأنّ «الكنيسة البابويّة تملك الغفران، وتمنحه لمن تشاء»[36].. وقد حاولت الكنيسةُ إسناد هذا المعتقد الدينيّ إلى مجموعة من النصوص الواردة في الإنجيل، ولكن هذا كلّه لم يمنع قيام جبهة رفْضٍ له تركّز على أنّ رجال الكهنة هم أنفسهم يخطئون، وبالتالي يجب ألّا يمتلكوا حقّ إصدار قرار الغفران..؛ ولهذا ووجِه قرار المجمع باحتجاجات طويلة من الذين رفضوا أن يكون قرار الغفران بيد رجال الكهنة الخاطئين، ولاحقًا ثار بعض أصحاب العقول الإصلاحيّة على هذه الفكرة-المعتقد، الأمر الذي أثار حفيظة الكنيسة، فأصدرت أحكامًا جائرة بحقّهم وصلت حدود الردّة والتكفير وإحراق الجسد.. وهو عمل بربريّ يذكّرنا بالوحشيّة البدائيّة لأتباع الوثنيّات القديمة من الأقوام الذين مرّوا على أوروبا وعلى غيرها في العصور الغابرة[37]..

وجاءت القشةُ التي قصمت ظهر البعير عندما أصدرَ البابا في روما كمّيّات هائلة من وثائق صكوك الغفران التي وقّع عليها وختم عليها بخاتمة الرسميّ لتباع للعامّة الذين يرغبون في غفران ما ارتكبوا من ذنوب، فكان ممثّل البابا يطوف على المدن والقرى يبيع صكوك الغفران التي تمحو ذنوب المشتري؛ لأنّ البابا هو ممثّل الله في الدنيا، ولا بدّ لله أن يحترمَ وعده بالغفران..!!. وعندما نجحت هذه الفكرة في الاستحصال على كمّيّات هائلة من الفضّة والذهب للكنيسة، تفتقّت ذهنيّة البابا عن فكرة أخرى (مضحكة وهزليّة) وهي: شراء صكوك الغفران باسم «الأقرباء الميّتين» كي تساعدهم على دخول مملكة السماء، يعني توزيع الجنّة وعرضها للبيع في مزاد علنيّ مع كتابة صكوك ووثائق .. وهذا ما دفع القسّ الألمانيّ المشهور مارتن لوثر إلى أن ينطلق في عمليّة الإصلاح اللوثريّة (نسبةً إليه) من خلال نشره في أواخر الصور الوسطى لرسالته الشهيرة (95 بحثًا) التي تتعلّق أغلبها بلاهوت التحرير ورفْض سلطة البابا في الحلّ من «العقاب الزمنيّ للخطيئة».
ورغم أنَّ البابا «ليون العاشر» طلبَ من «لوثر» التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين، لكن لوثر رفض طلب البابا، الأمر الذي دفع البابا إلى إرسال طلب إلى الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة ممثّلة بالإمبراطور شارل الخامس لنفي مارتن لوثر وإلقاء الحرم الكنسيّ عليه بعد إدانته مع كتاباته بوصفها مهرطَقة كنسيًّا وخارجة عن القوانين المرعيّة في الإمبراطوريّة .. وكانَ جواب مارتن لوثر في خطاب شهير قال فيه: «ما لم اقتنع بالنصوص المقدّسة أو العقل الصريح، فأنا ملتزم بالنصوص المقدّسة التي أوردتها، وبما يمليه عليّ ضميري الذي هو أسير لكلمة الله، لأنّي لا أثق فـي البـابا أو المجالس وحدها، فهؤلاء غالبًا ما يخطئون ويناقضـون أنفسهم.. أنا لا أستطيع ولن أستطيع أن أرجع عن أيّ شيء، لأنّه ليس صحيحًا ولا صدقًا أن يخالف الإنسان ضميره، أنا لا أستطيع أن أفعل غير ذلك»[38].

والمشكلة الأهمّ التي تبرز من الناحية الاجتماعيّة والسلوكيّة كانعكاس عمليّ لثقافة «صكوك الغفران»، إذا صح التعبير، أنّ الشخص الذي كان يتسلّمُ صكّ غفرانه من الكاهن أو القسّيس يعتقد أنّه قد أبيح له كلّ محظور وحلّ له كلّ حرام، وسمح له بأن يزني ويسرق ويقتل ويلحد ووإلخ، وأن يرتكب كلّ الموبقات باسم المسيحيّة وباسم السيّد المسيح؛ لأنّه يملك صكّ غفران مقدَّم له من ممثّل الإله على الأرض، فهو الذي يدين ويحاسب..!!. ولكن كيف يمنحُ الناسُ المغفرة ثمّ يحاسبهم على الذنوب؟!.. ثمّ إذ قد اطمأن المشتري إلى هذه النتيجة، فقد بقي لديه ما ينغّص الفرحة، ويكدّر الغبطة، ذلك أنّ والديه وأقرباءه قد ماتوا وليس معهم صكوك[39]..!!!. لكن الكنيسة (الأمّ الرؤوم لكلّ المسيحيّين) شملت الكلّ برحمتها، وأتمّت الفرحة لزبونها، فأباحت له أنْ يشتري لمن أحبّ (صكّ غفران)، وما عليه بعد دفع الثمن إلّا كتابة اسم المغفور له في الخانة المخصّصة، فيغادر المطهّر فورًا، ويستقرّ في ظلال النعيم مع المسيح والقدّيسين.. أمّا الشّقي النّكد عديم الحظّ، فهو ذلك القنّ الذي لم يستطع أن يحصل من سيّده الإقطاعيّ (المغفور له) على ما يشتري به صكًّا من قداسة الآباء أو المريض المقعد الذي لا يجد عملًا يخول له الحصول على المغفرة، أو الفقير المعدم الذي يعجز عن استدانة دينارين يشتري بها جنّات النعيم، هؤلاء يظلّون محرومين من هذه الموهبة مهما بلغت تقواهم، وعظم حبّهم للمسيح وتعلّقهم بالعذراء[40].
لقد رفضَ الإسلامُ هذه الصكوكُ الكهنوتيّة، ولا يوجدُ شيء في منظومته المفاهيميّة والعقائديّة الدينيّة اسمه غفران وصكوك وخلاص عقائديّ بالمعنى السائد في الذهنيّة الكنسيّة.. فالإنسان المؤمن لا يحتاج إلى حالةٍ كهنوتيّة تصله بربّه؛ لأنّ هذه الصلة بين العبد وربه قائمة ومتحقّقة سلفًا بلا واسطة، وهي تحتاج للعمل والتقوى الذاتيّة التي يلتزمها الفرد في حياته وسلوكه وعلاقاته فقط، ويوجد وعدٌ من الله تعالى للإنسان المؤمن الملتزم بأنّه سينال الجنّة في الآخرة جزاء عمله الصالح في الدنيا، في فعله وسلوكه التّقوائيّ، والتزامه بالخيرات في علاقاته مع الناس.

إذًا التقوى، وليسَت صكوك الغفران، هي الفكرة والقيمة والمعتقد الإسلاميّ.. جاءَ في كتاب الله تعالى حول التقوى: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة/ 183).. والتقوى هنا هي من الوقاية، وقاية النفس.. وعمومًا هي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه.. يعني حفظ النفس عما يؤلم وذلك بترك المحظور، ويتمّ ذلك بترك بعض المباحات؛ لما روي من أن «الحلال بيّن والحرام بيّن ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه[41].. ويقول الإمام عليّ(عليه السلام) عن التقوى كأساس للعمل الصالح ونيل رضى الله: «إنّ تقوى الله حَمَتْ أولياءَ الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرتْ لياليهم، وأظمأتْ هواجرهم»[42].. إنّه يؤكّد على أهمّيّة الالتزام بجوهر التقوى قولًا وعملًا بما يؤدّي إلى التأسيس لتلك الحالة المعنويّة العالية التي يصل إليها الإنسان من خلال عمق انفتاحه على الله، وإيمانه بقيمه، والالتزام بأوامره ونواهيه التي تمنعه من اتباع الهوى والانحراف عن جادّة الحقّ والصواب.. وهو يشير أيضًا إلى أنّ مخافة الله أثر إيجابيّ كبير من الآثار العمليّة لحركيّة الالتزام بجوهر التقوى. والخوف الوارد في هذا الحديث لا يساوي التقوى، ولا يعبّر عنها أبدًا.. وإنّما التقوى تجعل مخافة الله تلازم القلب على الدوام، لتكون حاضرة مع الإنسان في كلّ مواقعه، وحركاته.
ومن المعروف أنَّ أصلَ البلاءِ والشّرور ينطلق من ذات الإنسان نفسه في هيمنة القوى الشهويّة على الإنسان، وسيطرة النوازع الذاتيّة على العقل والأخلاق وتحكّمها بها.. فذات الإنسان مشكّلة ومركّبة من قوىً عديدة تسير كلّها ضمن نظام خاصّ، ولو اختلّ هذا النظام بإفراط أو تفريط، زيادة أو نقيصة، خرج المركب عن حدّه وبطلت الغاية في أصل التركيب، والغاية هي سعادة الإنسان المندرجة تحت كماله الممكن له.. والتقوى هي المعيار وهي السلّم الذي يقي هذه القوى من الخروج عن حدّ الاعتدال؛ ولذا نجد أمير المؤمنين الإمام عليّ(عليه السلام) يجعلها محورًا في كثير من كلماته وعظاته التي وجدت في نهج البلاغة.. يقول(عليه السلام): «اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَلَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ؛ أَلَا وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا وَبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى»[43].

وفي قولٍ آخر يعتبرُ الإمامُ علي(عليه السلام) أنَّ التّقوى «دواءُ داء قلوبكم، وشفاءُ مرض أجسادكم، وصلاحُ فسادِ صدوركم، وطهور دنس نفوسكم»[44]. والواضح هنا أنَّ الإمام(عليه السلام) يُرجع شقاء البشر -ومعاناتهم، وآلامهم، وابتلاءاتهم- إلى عدم فهم القيمة العظيمة للتقوى، ومن ثمّ عدم الالتزام بها.. وهو بذلك يكرّس وجود الإنسان في الحياة، وطبيعة الدور الرساليذ الملقى على عاتقه، والأهداف الكبرى التي يُراد له أن يحقّقها في حياته.
وتقوم تلك النظرة على اعتبار أنّ المحتوى الداخليّ للإنسان هو الأساسُ في حركة الوجود الإنسانيّ كلّه، من حيث ضرورة ابتنائه على قيمة ومعنى التقوى، والإيمان بالله تعالى. والإسلام نفسه سمّى عمليّة بناء المحتوى الداخليّ للإنسان -على قيم ومبادئ الإسلام الأصيل- بالجهاد الأكبر.

من هنا يكون التغيير الداخليّ للإنسان -استنادًا إلى ركيزة التقوى- هو القاعدة الأساسيّة المطلوبة لتغيير سلوكه الخارجيّ على صورة معطيات ومضامين هذا الداخل.. كما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد/11). وعندما يصلُ الإنسانُ إلى مرحلة التقوى الذاتيّة الداخليّة، فإنّه يكون مقتنعًا بحدوده، وراضيًا بحقوقه، ومالكًا لروح مطمئنة، هادئة ومستقرّة، وقلب سليم معافى.. أي أنّه يكون متصالحًا مع نفسه ووجوده، ومنسجمًا مع توجّهاته الفكريّة، وأن لا يعيش مع ذاته حالة التناقض والانفصام، ولا تشغله الأطماع والغرائز، بما يؤثّر سلبًا على عمره وجسده.. ويقلّل من مستوى وحجم ونوعيّة كسبه وإنتاجه في الحياة.

لائحة المصادر والمراجع
أوّلًا- المراجع العربيّة والمترجمة:
أحمد شلبي، مقارنة الأديان، مكتبة النهضة، مصر/ القاهرة، عام 1988م، طبعة أولى.
أبو العلا عفيفي، التصوّف: الثورة الروحيّة في الإسلام، مؤسّسة هنداوي، مصر/ القاهرة، طبعة عام 2020م.
الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، دار القلم، الدار الشاميّة، سورية/ دمشق ولبنان/ بيروت، عام 2009م، طبعة أولى، مجلد1.
إي اتش. غومبريتش، مختصر تاريخ العالم، ترجمة: ابتهال الخطيب، مراجعة: عبد الله هدية، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، الكويت، العدد 400، أيار/ مايو، عام 2013م.
ادغار ويند وأندريه نايتون وكارل غوستاف يونغ، الأصول الوثنيّة للمسيحيّة، ترجمة: سميرة عزمي الزين، منشورات: المعهد الدولي للدراسات الإنسانيّة، عام 1991م، طبعة أولى.
السيد الباز العريني، الحضارة والنظم الأوروبيّة في العصور الوسطى (القسم الأول)، دار النهضة العربيّة، لبنان/ بيروت، طبعة عام 1963م.
أميمة شاهين، الخطيئة الأولى بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، دار زهراء الشرق، مصر/القاهرة، طبعة 1970م.
أحمد علي عجيبة، أثر الكنيسة على الفكر الأوروبيّ، دار الآفاق العربيّة، مصر/ القاهرة، عام 2004م، طبعة أولى.
أحمد عجيبة، البابوية وسيطرتها على الفكر الأوروبيّ في العصور الوسطى، مكتبة المهتدين الإسلاميّة، مصر/ القاهرة، 1991م، طبعة أولى.
أحمد علي عجيبة، الخلاص المسيحيّ ونظرة الإسلام إليه، دار الآفاق العربيّة، مصر/ القاهرة، عام 2004م، طبعة أولى.
بولس فغالي، أعمال الرسل، دار المشرق، لبنان/ بيروت، عام 2006م، طبعة سادسة.
ت. إس. إليوت، ملاحظات حول تعريف الثقافة، ترجمة: شكري محمد عياد، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، مصر/ القاهرة، عام 2014م، طبعة أولى.
توفيق الطويل، مدخل لدراسة تاريخ الفلسفة (ضمن كتاب: العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبيّ ودراسات علميّة أخرى)، دار النهضة العربيّة، مصر/ القاهرة، عام1968م، طبعة أولى.
توفيق الطويل، قصة النزاع بين الدين والفلسفة، مكتبة الآداب، مصر/ القاهرة، طبعة عام1993م.
تييري هنتش، الشرق المتخيّل؛ رؤية الغرب إلى الشرق المتوسّطيّ، دار الفارابي، لبنان/بيروت، طبعة 2004م.
جون ليندو، الأساطير الإسكندنافيّة: دليل الآلهة، الأبطال، الطقوس والمعتقدات، مطبعة جامعة أوكسفورد، انكلترا، عام 2001م، طبعة أولى بالإنكليزيّة.
جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، ترجمة: عزرا مرجان، دار الثقافة، مصر/ القاهرة، عام 1990م، طبعة أولى.
جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، دار الطليعة للطباعة والنشر، لبنان/ بيروت، عام 2006م، طبعة ثالثة.
جاد المنفلوطي، تاريخ المسيحيّة: المسيحيّة في العصور الوسطى، الناشر: الكنيسة الأسقفيّة، مصر/ القاهرة، عام 1978م، طبعة أولى.
دنتسغر هونرمان، الموسوعة العربيّة المسيحيّة (الكنيسة الكاثوليكيّة في وثائقها)، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، ترجمة: يوحنا منصور، منشورات المكتبيّة البولسيّة، لبنان/بيروت، عام 2001م، طبعة أولى.
روبرت. س. جوتفريد، الموتُ الأسود: جائحة طبيعيّة وبشريّة في عالم العُصور الوسطى، ترجمة وتقديم: أبو أدهم عبادة كحيلة، المركز القوميّ للترجمة، مصر/ القاهرة، عام2017م، طبعة أولى.
ريتشارد سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة: رضوان السيّد، دار المدار الإسلاميّ، لبنان/ بيروت، عام 2006م، طبعة ثانية.
زيغريد هونكه، شمسُ العربِ تسطعُ على الغرب (أثر الحضارة العربيّة في أوروبة)، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار الجيل (ودار الآفاق الجديدة) للطباعة والنشر والتوزيع، عام 1993م، لبنان/ بيروت، طبعة ثامنة.
سعيد عبد الفتاح عاشور، أوروبا العصور الوسطى (النّظم والحضارة)، مطبعة النهضة المصريّة، مصر/ القاهرة، طبعة عام 1959م.
سكوت إتيش هندريكس، مارتن لوثر، مقدّمة قصيرة جدًّا، ترجمة: كوثر محمود، مؤسّسة الهنداوي للتعليم والثقافة، مصر/ القاهرة، عام 2014م، طبعة أولى.
سليمان مظهر، أساطير من الغرب، دار الشروق، مصر/ القاهرة، عام 2000م، طبعة أولى.
سفر الحوالي، العلمانيّة (نشأتها وتطوّرها وآثارها في الحياة الإسلاميّة المعاصرة)، مطابع جامعة أم القرى، مركز البحث العلميّ وإحياء التراث الإسلاميّ، السعوديّة/ مكّة المكرمة، عام 1982م، طبعة أولى.
سعيد عبد الفتاح عاشور، أوروبا في العصور الوسطى، مكتبة الأنجلو المصريّة، مصر/القاهرة، طبعة عام 1966م.
شارل جنيبير، المسيحيّة: نشأتها وتطوّرها، ترجمة عبد الحليم محمود، منشورات دار المعارف، مصر/ القاهرة، عام 2022م، طبعة سابعة.
عليّ بن محمد الماوردي البغدادي، النكت والعيون، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود، دار الكتب العلميّة، لبنان/ بيروت، طبعة عام2012م.
عبد القادر أحمد اليوسف، العصور الوسطى الأوروبيّة (476-1500م)، المكتبة العصريّة، لبنان/ بيروت، 1967م، طبعة أولى.
كرين برنتن، أفكار ورجال: قصّة الفكر الغربيّ، ترجمة: محمود محمود، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر/ القاهرة، عام 2020م.
لبيب بيضون، تصنيف نهج البلاغة، الناشر: مركز النشر-مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران/طهران، طبعة عام 1986م.
محمد أبو الفضل ابراهيم (ابن أبي الحديد المعتزليّ)، شرح نهج البلاغة، دار الأعلميّ للمطبوعات، لبنان/ بيروت، طبعة عام 1998م.
محمّد بن الحسين (الشريف الرضي أبو الحسن)، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ)، شرح محمّد عبده، منشورات دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان/ بيروت، طبعة بلا تاريخ.
مجدي كامل، أشهر الأساطير في التاريخ، الناشر: دار الكتاب العربيّ، سوريا/ دمشق، مصر/القاهرة، طبعة 2014م.
مفيد الزيدي، موسوعة تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى (476-1500م)، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن/ عمّان، 2009م، طبعة ثالثة.
محمّد حسين الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان/بيروت، عام 1997م، طبعة أولى.
محمّد أبو زهرة، محاضرات في النصرانيّة، طبعة: الرئاسة العامّة لإدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعوديّة/ الرياض، عام 1981م، طبعة رابعة.
محمود سعيد عمران، معالم تاريخ أوروبا في العصر الوسيط، دار المعرفة الجامعيّة، مصر/القاهرة، عام 2013م، طبعة أولى.
محمّد بن طاهر التنير البيروتي، العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة، تحقيق: محمد عبد الله الشرقاوي، دار الجيل، لبنان/ بيروت، طبعة عام1998م.
محمّد سهيل طقوش، تاريخ الحروب الصليبيّة (حروب الفرنجة في المشرق)، دار النفائس، لبنان/ بيروت، عام 2011م، طبعة أولى.
متى المسكين، شرح رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، مطبعة دير القديس أنبا مقار، مصر/ القاهرة، عام 1996م، طبعة أولى.
نعيم فرح، تاريخ الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى، منشورات جامعة دمشق، سوريا/دمشق، عام 2000م، طبعة ثانية.
نور الدين حاطوم، تاريخ العصر الوسيط، دار الفكر المعاصر، سورية/ دمشق، عام 1968م، طبعة أولى.
هوبرت هيركومر وجيرنوت روتر، صورة الإسلام في التراث الغربيّ، ترجمة: ثابت عبد، تقديم: محمد عمارة، طبعة دار نهضة مصر، مصر/القاهرة، عام 1999م.
هـ. ا. ل. فيشر، تاريخ أوروبا، العصور الوسطى، ترجمة: محمد مصطفى زيادة، السيد الباز العريني، دار المعارف، مصر/ القاهرة، عام 1966م، طبعة خامسة.
هـ. ج. ولز، معالم تاريخ الإنسانيّة (في المسيحيّة والإسلام والعصور الوسطى)، ترجمة: عبد العزيز جاويد، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، مصر/ القاهرة، بلا تاريخ، طبعة ثالثة.
وليام مونتغمري وات، تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى، جسور للترجمة والنشر، لبنان/ بيروت، عام 1976م، طبعة أولى.
يوهان هويزنجا، اضمحلال العصور الوسطى (دراسة لنماذج الحياة والفكر والفنّ بفرنسا والأراضي المنخفضة)، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، تقديم: مصطفى النشار، المركز القوميّ للترجمة، مصر/القاهرة، سلسلة ميراث الترجمة، العدد 2606، عام 2015م، طبعة أولى.

ثانيًا- المراجع الأجنبيّة
Rodney Stark, The Rise of Christianity, Princeton, N. J, Princeton University Press, 1996.

ثالثًا- الموسوعات
هيئة الموسوعة العربيّة، الموسوعة العربيّة، سورية/ دمشق، عام 2001م، المجلّد الثاني، طبعة أولى.

رابعًا- المجلّات
مجلّة نزوى العمانيّة، سلطنة عمان/ مسقط، العدد 79، شهر تموز عام 2014م.


----------------------------
[1]- باحث وكاتب سوريّ.
[2]- وهي تسمّى أيضًا باسم قرون أو عصور الظلام (خاصة بين عامي 500–1000)م، بسبب هيمنة مظاهر الفقر والفاقة والمرض والظلم الاجتماعيّ والسياسيّ وغيره من ألوان الاضطهاد والمعاناة المادّيّة والنفسيّة.
[3]- كرين برنتن، أفكار ورجال (قصّة الفكر الغربيّ)، ترجمة: محمود محمود، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر/ القاهرة، 2020م، طبعة أولى، ص184.
[4]- نعيم فرح، تاريخ الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى، منشورات جامعة دمشق، سوريا/ دمشق، عام2000م، طبعة ثانية، ص8.
[5]- سعيد عبد الفتاح عاشور، أوروبا العصور الوسطى (النظم والحضارة)، مطبعة النهضة المصريّة، مصر/ القاهرة، عام 1959م، طبعة أولى، ج2، ص247.
[6]- سليمان مظهر، أساطير من الغرب، دار الشروق، مصر/ القاهرة، عام 2000م، طبعة أولى، ص5 وما بعدها.
[7]- مجدي كامل، أشهر الأساطير في التاريخ، الناشر: دار الكتاب العربيّ، سوريا/ دمشق، ومصر/ القاهرة، طبعة 2014م، ص7.
[8]- للتوسّع يمكن مراجعة كتاب: جون ليندو، دليل الميثولوجيا الإسكندنافيّة، سانتا باربرا، كاليفورنيا، طبعة عام 2000م.
[9]- هو من أهمّ وأقوى الآلهة وأكثرها شعبيّة في الأساطير النرويجيّة منذ أيام العصور الوسطى (بلغت شعبيّة ثور وشهرته ذروتها خلال عصر الفايكنغ 790-1100م).. وكان إلهًا للرعد والعواصف ومقاتلًا شرسًا وقويًّا لا مثيل له بقفّازيه الحديديّين ومطرقته الطائرة «ميولنير».. وكان أقوى الفرسان، لم يكن هناك أحد يقف أمامه، كان يضرب بالمطرقة، ويتحكّم في الرعد والبرق، وكان يمتلك عربة يحركها ماعز. (راجع: جون ليندو، الأساطير الإسكندنافيّة: دليل الآلهة، الأبطال، الطقوس والمعتقدات، مطبعة جامعة أوكسفورد، انكلترا، عام 2001م، طبعة أولى بالإنكليزيّة).
[10]- منير يوسف طه، الأصول الحقيقية لأهمّ الأساطير الغربيّة، مجلّة نزوى العمانية، العدد: 79، شهر تموز عام 2014م، ص248.
[11]- الفروسيّةُ كلمة تشتملُ على معنى مفهوم النّخبة المُسلّحة، وهي نمط الحروب ورمز السلوك العسكريّ حيث الشرف الشخصيّ هو الهدفُ الأسمى، وقد كانتْ داخل المجتمع اختلافات واضحة لمنزلة النبيل، فقد عملَ الأقلّ شرفًا إلى الأعظم، ومع ذلك كانتْ هناكَ جالية القيم المشتركة، وجميع أعضاء ذلك المجتمع ابتهج في عنوان الفارس كنوع من رمزيّة العضويّة. (راجع: ج. ج. كالتون، عالم العصور الوسطى في النظم والحضارة، ترجمة وتعليق: جوزيف نسيم يوسف، دار المعارف، مصر/ الإسكندريّة، طبعة عام 1967، ص131).
[12]- السيد الباز العريني، الحضارة والنظم الأوروبيّة في العصور الوسطى، دار النهضة العربيّة، لبنان/بيروت، طبعة عام 1963م، القسم الأوّل، ص4.
[13]- هـ. و. ويفز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة: عبد الحميد حمدي محمود، دار المعارف، مصر/ الإسكندريّة، عام 1951م، طبعة أولى، ص111.
[14]- أنظر: إي اتش. غومبريتش، مختصر تاريخ العالم، ترجمة: ابتهال الخطيب، مراجعة: عبد الله هدية، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، الكويت، العدد 400، أيار/ مايو، عام 2013م، ص177.
[15]- مؤرّخ سويسريّ عاش بين عامي 1818-1897م، ويعدّ واحدًا من أهمّ مؤرّخي التاريخ الحضاريّ للأمم البشريّة. ومن أشهر كتبه: «حضارة عصر النهضة في إيطاليا»، (وهو يقع في مجلّدين)، وكتبه عام 1867م.
[16]- يوهان هويزنجا، اضمحلال العصور الوسطى (دراسة لنماذج الحياة والفكر والفنّ بفرنسا والأراضي المنخفضة)، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، تقديم: مصطفى النشار، المركز القوميّ للترجمة، مصر/ القاهرة، سلسلة ميراث الترجمة (العدد 2606)، عام 2015م، طبعة أولى، ص71.
[17]- ولم ينجُ من محاولات طمس الحقائق وترسيخ الأباطيل والبهتان حتّى من هُم في عداد كبار الفلاسفة في الغرب القروسطيّ، ومنهم -على سبيل المثال لا الحصر- الفيلسوف «توماس الأكويني» الذي يعدُّ من الشخصيّات المفكّرة الدينيّة والفلسفيّة الكبرى المعتدلة والواعية في دنيا الغرب والحضارة الغربيّة، ولكنّه في موضوع الإسلام كان مثل أيّ رجل آخر يدين بالولاء التقليديّ الأعمى لدينه ونصوصه ولاهوته المسيحيّ وصنميّاته الفكريّة –إذا صحّ التعبير، حيث لم يتورّع هذا «المفكّر الفيلسوف» عن محاولاته في التزييف والكذب والتحريف وإلصاق التهم الباطلة بالإسلام ونبيّه وقرآنه، مثل أيّ لاهوتيّ مسيحيّ تقليديّ قادم من أديرة العصور الوسطى.. وقد ذكر في بعض كتبه أنّ النبيّ فشل في دعوته ولم ينجح سوى مع البدو وأهل الصحراء من بسطاء العقول، وأنّ هؤلاء الذين آمنوا به كانوا متوحّشين وتائهين في الصحراء... وأنّ الإسلام انتشر ليس فقط بحدّ السيف، بل لأنّه شجّع الشهوات البهيميّة عند الإنسان، ووفّر الأجواء لإطلاق مشاعر اللذّة والجنس بين المسلمين، وو إلخ. راجع:
 Thomas d Aquin, summa contra genils, livre 1, chapitres 6 trad. Anton c pegis. University of notre dame press, 1975, p73- 75
[18]- للاستزادة حول الموضوع، يمكن العودة إلى كثير من المراجع المهمّة في هذا الصدد، نختار منها:
وليام مونتغمري وات، تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى، جسور للترجمة والنشر، لبنان/ بيروت، عام 1976م، طبعة أولى.
هوبرت هيركومر وجيرنوت روتر، صورة الإسلام في التراث الغربيّ، ترجمة: ثابت عبد، تقديم: محمد عمارة، طبعة دار نهضة مصر، مصر/القاهرة، طبعة عام 1999م.
أليكسي جورافسكي، المسيحيّة والإسلام، ترجمة: خلف محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت/ الكويت، العدد 215، نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1996م.
تييري هنتش، الشرق المتخيّل؛ رؤية الغرب إلى الشرق المتوسّطيّ، دار الفارابي، لبنان/ بيروت، طبعة 2004م.
سعيد عبد الفتاح عاشور، أوروبا في العصور الوسطى (النظم والحضارة)، مكتبة النهضة المصرية، مصر/ القاهرة، طبعة عام 1959م.
محمّد سهيل طقوش، تاريخ الحروب الصليبيّة (حروب الفرنجة في المشرق)، دار النفائس، لبنان/ بيروت، عام 2011م، طبعة أولى.
[19]- ريتشارد سوذرن، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى، مصدر سابق، ص65-66.
[20]- تقول المستشرقة «زيغريد هونكه» في كتابها القيم: «شمس الله تسطع على الغرب»: «إنَّ هذه القفزة السّريعة المدهشة في سلَّم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء، والتي بدأتْ من اللا شيء لهي جديرةٌ بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنسانيّ.. إنَّ انتصاراتهم العلميّة المتلاحقة التي جعلتْ منهم سادة للشعوب المتحضّرة لفريدة من نوعها، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها، وتدعونا أن نقفَ متأمّلينَ: كيفَ حَدثَ هذا؟!.. نعم، إنّه الإسلامُ الذي جعلَ من القبائل المتفكّكة شعبًا عظيمًا، آختْ بينه العقيدةُ، وبهذا الروح القويّ الفتيّ شَقَّ العربُ طريقهم بعزيمةٍ قويّة تحتَ قيادةٍ حكيمة وضعَ أساسها الرسولُ بنفسه.. أو ليس في هذا الإيمان تفسير لذلك البعث الجديد؟! والواقع أنّ روجر بيكون أو جاليليو أو دافنشي ليسوا همُ الذين أسّسوا البحثَ العلميّ.. إنّما السبّاقون في هذا المضمار كانوا من العرب الذين لجأوا -بعكس زملائهم المسيحيين– في بحثهم إلى العقل والملاحظة والتحقيق والبحث المستقيم.. لقد قدّمَ المسلمونَ أثمن هديّة، وهي طريقة البحث العلميّ الصحيح التي مهّدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلُّطه عليها اليوم.. وإنّ كلّ مستشفى وكلّ مركز علميّ في أيّامنا هذه إنّما هي في حقيقة الأمر نُصبٌ تذكارية للعبقرية العربية.. وقد بقي الطّبُّ الغربيّ قرونًا عديدة نُسخةً ممسُوخة عن الطّبّ العربي.. وعلى الرغم من إحراق كتب ابن سينا في مدينة بازل بحركة مسيحية عدائية، فإنّ كتبَ التراثِ العربي لم تختفِ من رفوف المكتبات وجيوب الأطباء، بل ظلّتْ محفوظة،ً يسرقُ منها السّارقونَ ما شاءَ لهم أنْ يَسرقوا. (راجع: زيغريد هونكه، شمسُ العربِ تسطعُ على الغرب (أثر الحضارة العربيّة في أوروبة)، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار الجيل (ودار الآفاق الجديدة) للطباعة والنشر والتوزيع، عام 1993، الطبعة الثامنة، لبنان/ بيروت، ص148-169-315-354)، وراجع أيضًا: غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر/ القاهرة، عام 2013م، طبعة أولى، ص583 وما بعدها.
[21]- غوستاف لوبون، حضارة العرب، مصدر سابق، ص587.
[22]- روبرت. س. جوتفريد، الموتُ الأسود: جائحة طبيعية وبشريّة في عالم العُصور الوسطى، ترجمة وتقديم: أبو أدهم عبادة كحيلة، المركز القوميّ للترجمة، مصر/ القاهرة، عام2017م، طبعة أولى ص17 وما بعدها.
[23]- سعيد عبد الفتاح عاشور، أوروبا في العصور الوسطى (النظم والحضارة)، مصدر سابق، ج2، ص123.
[24]- فرضَ الاقطاعُ الأوروبيّ على الناس نظامًا عبوديًّا ظالمًا للعمل في أراضيه وأملاكه، لم يميّز فيه بين المرأة والرجل، فالغاية عنده جمع الغلّة الوفيرة من مال ومحاصيل ومنتجات حيوانيّة... (أنظر: مفيد الزيدي، موسوعة تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، مصدر سابق، ج1، ص107 وما بعدها).
[25]- أورده الماوردي في تفسيره.. راجع: علي بن محمد الماوردي البغدادي، النكت والعيون، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود، دار الكتب العلميّة، لبنان/بيروت، طبعة عام2012م، ج2، ص353.
[26]- محمّد بن طاهر التنير البيروتيّ، العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة، تحقيق: محمد عبد الله الشرقاوي، دار الجيل، لبنان/ بيروت، طبعة عام 1998م، ص34.
[27]- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان/ بيروت، عام 1997م، طبعة أولى، ج9، ص244.
[28]- راجع: محمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانيّة، طبعة: الرئاسة العامّة لإدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعوديّة/ الرياض، عام 1981م، طبعة رابعة، ص190.
[29]- في القرن الرابع الميلاديّ، وبعد أنْ توسّعتْ نطاقات الكنيسة وزادَ عددُ منتسبيها ورجالاتها من كهنة وأساقفة ومطارنة، صارَ يشرف على جميع هؤلاء من رجال الدين في العالم المسيحيّ عدد من البطاركة يقيمون في روما وأنطاكية والقدس والإسكندرية وقرطاجة.. وكانت تتمّ دعوة هؤلاء الأساقفة والمطارنة إلى عقد اجتماعات (مجامع دينيّة) لمناقشة كلّ شؤون الكنائس التابعة لهم، لدراسة أوضاعها وعلاقاتها وتفسير نصوص كتابهم المقدّس وغيره. (للمزيد راجع: شارل جنيبير، المسيحيّة، نشأتها، تطوّرها، ترجمة عبد الحليم محمود، مصدر سابق، ص150، وراجع أيضًا: نعيم فرح، تاريخ الحضارة الأوروبيّة في العصور الوسطى، منشورات جامعة دمشق، مصدر سابق، ص169).
[30]- هـ. ج. ولز، معالم تاريخ الإنسانيّة (في المسيحيّة والإسلام والعصور الوسطى)، ترجمة: عبد العزيز جاويد، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، مصر/ القاهرة، طبعة ثالثة بلا تاريخ، المجلّد الثالث، ص902.
[31]- هــ. ج. ولز، معالم تاريخ الإنسانيّة (في المسيحيّة والإسلام والعصور الوسطى وعصر النهضة)، مصدر سابق، المجلد الثالث، ص905.
[32]- جاء في الحديث أنّ امرأة عثمان بن مظعون جاءت إِلَى النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عُثْمَانَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ.. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مُغْضَبًا يَحْمِلُ نَعْلَيْهِ حَتَّى جَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي.. فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم).. فَقَالَ لَهُ: يَا عُثْمَانُ لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ، وَلَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ، أَصُومُ وَأُصَلِّي وَأَلْمِسُ أَهْلِي، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي، وَمِنْ سُنَّتِيَ النِّكَاحُ». (راجع: أبو جعفر محمد بن يعقوب الكُليني، كتاب الكافي، دار الكتب الإسلاميّة، إيران/ طهران، عام 1945م، طبعة أولى، ج5، ص494).
[33]- لبيب بيضون، تصنيف نهج البلاغة، الناشر: مركز النشر-مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران/ طهران، 1986م، رقم الخطبة 158، ص406-408.
[34]- محمد أبو الفضل ابراهيم (ابن أبي الحديد المعتزلي)، شرح نهج البلاغة، دار الأعلميّ للمطبوعات، لبنان/ بيروت، عام 1998م، طبعة أولى، ج18، خطبة127.
[35]- أبو العلا عفيفي، التصوّف: الثورة الروحيّة في الإسلام، مؤسّسة هنداوي، مصر/ القاهرة، عام 2020م، طبعة أولى، ص63 وما بعدها.
[36]- أحمد شلبي، مقارنة الأديان، مكتبة النهضة، مصر/ القاهرة، عام 1988م، طبعة أولى، ص212.
[37]- راجع: ادغار ويند وأندريه نايتون وكارل غوستاف يونغ، الأصول الوثنية للمسيحيّة، ترجمة: سميرة عزمي الزين، منشورات: المعهد الدوليّ للدراسات الإنسانيّة، عام 1991م، طبعة أولى، ص21.
[38]- الموسوعة العربيّة، هيئة الموسوعة العربيّة، سورية/ دمشق، عام 2001م، المجلّد الثاني، طبعة أولى، ص624.
[39]- للتوسّع أكثر حول موضوع صكوك الغفران يمكن العودة لكتاب: دنتسغر هونرمان، الموسوعة العربيّة المسيحيّة (الكنيسة الكاثوليكيّة في وثائقها)، سلسلة الفكر المسيحيّ بين الأمس واليوم، ترجمة: يوحنا منصور، منشورات المكتبيّة البولسيّة، لبنان/بيروت، عام 2001م، طبعة أولى.
[40]- سفر الحوالي، العلمانيّة (نشأتها وتطوّرها وآثارها على الحياة الإسلاميّة)، مطابع جامعة أم القرى، مركز البحث العلميّ وإحياء التراث الإسلاميّ، السعوديّة/ مكّة المكرّمة، عام 1982م، طبعة أولى، ص110.
[41]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، دار القلم، الدار الشامية، سورية/ دمشق ولبنان/ بيروت، عام 2009م، طبعة أولى، مجلد1، ص530.
[42]- الشريف الرضيّ أبو الحسن محمد بن الحسين، نهج البلاغة (خطب الإمام علي)، شرح محمد عبده، منشورات دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان/بيروت، طبعة بلا تاريخ، الخطبة رقم 114، ص260.
[43]- الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين، نهج البلاغة (خطب الإمام علي)، مصدر سابق، خطبة رقم 157، ص341.
[44]- مصدر سابق نفسه، خطبة رقم 198، ص496.