البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تأمّلات حول علم النفس والدين

الباحث :  الحاج محمد لغنهاوزن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  31
السنة :  صيف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 30 / 2023
عدد زيارات البحث :  600
تحميل  ( 547.304 KB )
الملخّص
يسعى الباحث في هذه الدراسة إلى تقديم معالجة تحليليّة معمّقة حول العلاقة بين علم النفس وبين الدين، وهي علاقة معقّدة ومتشعّبة، وقد اختلفت فيها أنظار علماء النفس والدين بشكل كبير، خاصّة أنّ حقل علم النفس يشهدُ تنوّعًا واسعًا في الاتّجاهات ومدارس الفكر والمفكّرين.
وقد قدّمت هذه المقالة مراجعةً انتقائيّة وموجزة للغاية حول تاريخ العلاقة بين علم النفس والدِّين من وجهة نظرٍ فلسفيّة، وذلك سعيًا نحو فهم أعمق للعلاقة بين الدين وعلم النفس، كما استعرض الكاتب بعض التنظير الفلسفيّ حول العلاقات بين علم النفس والدِّين.
ومن هنا فقد أشار الكاتب إلى أن بعض علماء النفس يرى أن الدين ظاهرة مؤذية للإنسان على المستوى النفسيّ، بينما رأى آخرون مثل وليم جيمز أنّ ثمّة نوعين من التديّن؛ أحدهما ضارّ ومَرَضيّ، والآخر نوع سليم من التديّن؛ وفي المقابل، فإنّ بعض المتديّنين ينظرون بريبة إلى علم النفس ونتائجه. ومن الموارد التي  يتصادم فيها الدِّين وعلم النفس ما يتربط بشفاء الأرواح، فلطالما كان هذا الأمر ميدانًا من ميادين الإرشاد الدينيّ، أمّا في المجتمعات العصريّة، فقد تولّى الطب النفسيّ هذه الوظيفة.
ويسعى الباحث في الختام إلى تأسيس علم نفس شفّاف دينيًّا، بحيث تتمّ الاستفادة من إيمان الإنسان بموجود أسمى يجذبه إلى التكامل والتعالي. وقد أبرز الكاتب الجهود التي بذلها المتصوّفة المسلمون في هذا المجال.

كلمات مفتاحيّة: الدين، علم النفس، التنظير الفلسفيّ، التجرية الدينيّة، العلاج النفسيّ.

المُقدّمة
العلاقاتُ بين علمِ النفس والدين مُعقدةٌ بعضَ الشيء. اتّخذت بعضُ أهمّ المؤلّفات التي أُنجِزت حينما برزَ علمُ النفس كحقلٍ بحثيٍّ علميٍّ في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الظواهرَ والمعتقدات الدينيّة موضوعًا لتحقيقها. لا يُمكن أن نفهم العلاقات بين علمِ النفس والدِّين بشكلٍ صحيحٍ إلّا إذا اطّلعنا على هذا التاريخ. من حُسن الحظّ أنّ أعمالًا ممتازة قد أُنجزت آخذةً هذا الهدف نفسه بعين الاعتبار، خصوصًا فيما يتعلقُ بعلم نفس الدين. مما لا شكّ فيه أنّ أفضل كتابٍ علميٍّ حول علم نفس الدِّين هو ما ألّفه ديفيد وولف تحت عنوان «علم نفس الدِّين: النظريّات الكلاسيكيّة والمعاصِرة»[2]. مع ذلك، فإنّ علم نفس الدِّين لا يستوفي دراسة العلاقات الموجودة بين علم النفس والدِّين؛ وذلك لأنّ الدِّين ليس مُجرد موضوعٍ للبحث النفسيّ. كثيرًا ما نجدُ في أوساط المفكّرين المتديّنين والمؤلّفات الدينيّة تأملاتٍ حولَ الظواهر النفسيّة، وعليه، وكما أنّ بإمكاننا مناقشة الدراسة النفسيّة للظواهر الدينيّة، فإنّه يُمكننا أن نُحقّق في الدراسة الدينيّة للظواهر النفسيّة أيضًا.
العلاقاتُ بين الدِّين وعلم النفس غير مُقيّدة بالدراسة المتبادلة للظواهر المذكورة. علمُ النفس هو حقلٌ علميٌّ للدراسة يشهدُ تنوّعًا واسعًا في الاتّجاهات ومدارس الفكر والمفكّرين الفريدين من نوعهم. الدِّينُ ليس علمًا بل هداية إلهيّة، وحتّى مَن لا يؤمنون يعترفون بأنّ الدِّين هو قاعدة كثيرٍ من الأبعاد المتعلّقة بحياة المؤمنين: الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، السياسيّة، النفسيّة، الأخلاقيّة، الروحيّة، الفلسفيّة، وما إلى ذلك. وعليه، ينبغي فهمُ إحدى أهمّ أبعاد العلاقة بين الدِّين وعلم النفس كفرعٍ من العلاقة بين الدِّين والعلم الطبيعيّ.
 يُمكن دراسة هذه العلاقة نفسها من وجهات نظر عدّة: نفسيّة، اجتماعيّة، أنثروبولوجيّة، تاريخيّة، لاهوتيّة، وفلسفيّة. في الفلسفة، يُمكن تناول موضوع العلاقة بين علم النفس والدِّين من وجهة نظر فلسفة العلم الطبيعيّ، بالأخصّ فلسفة علم النفس أو فلسفة الدِّين. ينبغي تناول العلاقة بين الفلسفة وعلم النفس أيضًا. أغلبُ العلوم تملكُ جذورًا في الفلسفة، وعلم النفس ليس استثناءً. بالفعل، ورُغم أنّ المتمرّسين في الطبّ قد طوّروا علم النفس بشكلٍ كبيرٍ في القرن التاسع عشر، إلّا أنّ الدراسات النفسيّة المبكّرة كثيرًا ما أُنجِزت على يد فلاسفة، نذكرُ منهم فرانز برنتانو (Franz Brentano) (1838-1917) في النمسا وويليام جيمز (William James) (1842-1910) في الولايات المتّحدة. حتّى غير الفلاسفة الذين كانوا روّادًا في النظريّات النفسيّة كثيرًا ما قاموا باتّخاذ موقفٍ فلسفيّ مُتميِّز في تنظيراتهم النفسيّة. وعليه، يُمكننا أن نُحقِّق في الكيفيّة التي أثّرتْ الآراء الفلسفيّة على تكوُّن النظريّات النفسيّة، وفي كيفيّة معالجة القضايا النفسيّة من قِبل فلاسفة مُتنوّعين في سياقٍ فلسفيّ أعمّ.
حينما نُناقشُ الدِّين، فإنّ المقصود غالبًا ليس الهداية الإلهيّة على يد الأنبياء، بل التنظيرات والممارسات الدينيّة للشعوب المختلفة، من ضمنها أنظمتها اللاهوتيّة وقوانينها وكتبها ورموزها. تأثّرت كثيرٌ من هذه أيضًا بآراء فلسفيّة مُحدّدة أو أنّها عبّرت عن هذه الآراء. وعليه، الفلسفة هي كجسرٍ يصلُ بين بعض الآراء الدينيّة والنفسيّة. على سبيل المثال، نجدُ علماء لاهوتيّين وعلماء نفس يعتمدون الفلسفة الوجوديّة. يُمكن للتراث اللاهوتيّ نفسه أن يُوفِّر أيضًا مُنطلقًا لنقد الآراء النفسيّة المختلفة أو لتفصيل رأيٍ عامٍ حول الكيفيّة التي ينبغي أن تتمّ من خلالها الدراسة النفسيّة[3].
حتى قبل أن يُسمّى علم النفس بذلك، قام الفلاسفة بمناقشة القضايا النفسيّة، ويُمكن أن يكتبَ المرءُ مجّلداتٍ في مراجعة تاريخ علم النفس في الفلسفة من زمن ما قبل السقراطيّين وصولًا إلى جيري فودور(Jerry Fodor). أطرحُ فيما يلي مراجعةً انتقائيّة بعض الشيء وموجزة للغاية حول تاريخ العلاقة بين علم النفس والدِّين من وجهة نظرٍ فلسفيّة، وبدءًا من القرن التاسع عشر فقط، يتبعها بعض التنظير الفلسفيّ حول العلاقات بين علم النفس والدِّين. تجهّزت الأرضيّة الفلسفيّة في القرن التاسع عشر لما يُمكن أن نعتبره تحليلاتٍ نفسية للدِّين. دخلَ علمُ النفس في القرن العشرين تحت ظلّ مُفكرّين مُعادين للدِّين من أمثال فرويد، يونغ، ليوبا، وسكينر؛ وحتّى المفكّرين الذين عبّروا عن مواقف أكثر ودًّا تجاه الدين من أمثال جيمز وإريكسون كانوا حذرين للتأكّد من خلوّ منتجاتهم العلميّة من الافتراضات الدينيّة. أُدافعُ في خاتمة هذه المقالة عن علم نفسٍ شفافٍ دينيًّا، حيث يتمّ التعبير عن الافتراضات الموالية أو المعادية للدِّين بشكلٍ صريحٍ ويتمّ توظيفها في التنظير والتطبيق النفسيّيْن.

شلايرماخر، هيغل، وفويرباخ
يحسنُ الافتتاح بهيغل كي نفهم كثيرًا من الأمور حول التطوّرات الفكريّة في القرن التاسع عشر، ليس بسبب التأثير الذي حقّقه من اعتنق أفكاره فقط، بل بسبب من قام بردّة فعلٍ ضدّها أيضًا. انغمسَ جورج فيلهلم فريدريك هيغل (1770-1831) في دراسة الدِّين خلال حياته المهنيّة، وحاضر بشكلٍ مُتكرِّرٍ في فلسفة الدين في جامعة برلين. كان فريدريك شلايرماخر (1768-1834) أيضًا ضمن هيئة تدريس جامعة برلين، وهو مؤسِّسُ اللاهوت الليبراليّ، ومؤيّدٌ لتجديد دراسة الهرمنوطيقيا. كان هيغل وشلايرماخر خصمَين لدودَين، وقد دارتْ أشدّ النقاط حدّةً في الصراع بينهما حول الدِّين وعلم النفس[4].
بعد أن قام كانط بهدم الأساس الميتافيزيقيّ التقليديّ للاعتقاد الدينيّ وحوّله إلى المجال الأخلاقيّ، سعى شلايرماخر لإيجاد موطئٍ أشدّ ثباتًا للإيمان من خلال الاحتجاج بأنّ التجربة الدينيّة تُوفِّرُ التبريرَ الكافي للإيمان بشكلٍ مستقلٍّ عن العلم الطبيعيّ والأخلاق[5]. احتجّ شلايرماخر أيضًا بأنّه ينبغي فهمُ جوهر الدِّين بالدقّة بالإحالة إلى التجربة الدينيّة: «جوهرُ الدِّين ليس التفكير أو العمل، بل الحدس والشعور»[6]. من خلال التوجُّه إلى التجربة الدينيّة، أُدخل عنصرٌ نفسيٌ إلى النقاش حول تبرير الإيمان الدينيّ. وفقًا لنينيان سمارت (Ninian Smart):
من خلال لفت النظر إلى الجانب الوجدانيّ والتجريبيّ للدِّين -الذي أُهمل غالبًا في النقاشات الفلسفيّة السابقة- حرّك شلايرماخر الاهتمامَ الحديث باستكشاف البُعد الذاتيّ أو الداخليّ للدِّين[7].
يذكرُ سمارت أنّ آراءَ شلايرماخر قد ألهمتْ مؤرّخي العهد الجديد للبحث في الوعي الدينيّ لعيسى (j) ممّا رفعَ القضايا النفسيّة إلى الواجهة مُجدّدًا. وعليه، فإنّ إرث شلايرماخر أدّى إلى التركيز على علم النفس بأنّه يكشِفُ الطابع المميِّز للدِّين، ويُوفِّرُ تبريرًا للإيمان الدِّينيّ، ويُقدِّمُ منهجًا لفهم الشخصيّات والنصوص الدينيّة.
 فهِمَ هيغل مُحاولةَ تأسيس الدِّين على إيمانٍ مُتجذّرٍ في النفس الداخليّة كخطوةٍ إيجابيّة نحو الاستقلاليّة؛ لأنّ تعريف الإيمان كحدسٍ مباشر، كمعرفةٍ داخليّة، له أثرٌ يتمثّلُ في إزالة كلّ سُلطة خارجيّة وكلّ تأكيد أجنبيّ، رُغم ذلك، عارضَ هيغل الميلَ لقَصْر المعرفة الدينيّة على الآنيّ النفسيّ. على خلاف هذا الميل الرومنطيقيّ لجعِل الدِّين مسألةً قلبيّة تمامًا، احتجّ هيغل أنّه لا يُمكننا أن نملك وعيًا محضًا بوجود الله من دون أن يترافق هذا الوعي مع معرفة هوية الله. الوعي والمضمون مُتلازمان:
في الواقع، إنّ هذا الرابط عمومًا، هذه المعرفة بالله وعدم إمكانيّة فصْل الوعي عن هذا المضمون، هو ما نُسمّيه الدِّين بشكلٍ عامّ. ولكن في الوقت نفسه، المعنى الضمنيّ لهذا التأكيد على المعرفة المباشرة هو أنّه ينبغي أن نتوقّف عند اعتبار الدِّين كذلك، بشكلٍ أدقّ، اعتبار هذا الرابط مع الله. لا ينبغي أن يحصل تقدّمٌ نحو المعرفة الإدراكيّة بالله، إلى المضمون الإلهيّ، لأنّ هذا المضمون سوف يكونُ إلهيًّا، أو جوهريًّا، في الله نفسه. بهذا المعنى، يُعلَنُ بشكلٍ إضافيٍّ أنّه يُمكننا أن نعرف علاقتنا بالله فقط، وليس هوية الله. «فقط علاقتنا» يدخل ضمن المقصود بالدِّين عمومًا[8].

لا يُنكِرُ هيغل نوع الوعي الفطريّ المباشر بالله الذي يفترضه شلايرماخر، ولكنّه يُصرّ أنّه لا يُمكن أن يمتلك مضمونًا إلّا إذا كان مُتوسَّطًا. ما هو موجودٌ لدى الوعي بالمعرفة الحضوريّة سوف يبقى مجهولًا حتى يُصنّف تحت الكلّيّات، وهذا يعني التوسُّط. يُمكننا أن نعرف فقط ما الذي نُفكِّر فيه حينما يكونُ التفكيرُ مُترافقًا مع توسُّط المفاهيم. نقطة هيغل الثانية هنا هي أنّه إذا لم نتمّكن من تجاوز المشاعر الخامّة للتجربة الدينيّة لكي نؤسّس حياتنا الدينيّة، سوف يكونُ ديننا فقيرًا ومقيَّدًا بالحقيقة المحضة لعلاقتنا المباشرة بالله.

رُغم ذلك، فإنّ هيغل ليس مُتشائمًا حيال نتائج علم الإلهيّات المتعلّق بالتجربة الدينيّة. بما أنّ هذا النوع من الإلهيّات قد أفرغَ نفسَه من المحتوى العقائديّ القاطع، بقي الطريقُ مفتوحًا للفيلسوف لكي يستكشف قضايا العقيدة من دون خوفٍ من التناقض مع علم الإلهيّات. التناقض الوحيد الذي يُمكن أن ينشأ هو حينما يُصرّ عالِم الإلهيّات على أنّ أيّ تأمّلٌ كهذا هو غير مسموح، ولكنّ هيغل يعتبرُ أنّ هذا هو مجرّد موقفٍ جدليّ. يتطلّبُ المنطق منّا أن نتأمّل بشكلٍ إضافيٍّ حول الألوهيّة. لا يوجد خلافٌ مع التجربة الدينيّة، ولكن ينبغي للتأمُّل أن يتجاوزها.
التجربة الطفيفة فحسب هي مطلوبة كي نرى أنّه حيث توجد المعرفة المباشرة ثمّة أيضًا معرفة مُتوسَّطة وبالعكس. المعرفة المباشرة، كما المعرفة المتوسَّطة، هي بذاتها أُحاديّة الجانب تمامًا. الحقيقيّ هو اتّحادها، معرفة مباشرة تقومُ بالتوسُّط كذلك، معرفة مُتوسَّطة هي في الوقت نفسه بسيطة داخليًّا أو هي إشارة مباشرة إلى نفسها. تلك الأحاديّة في الجانب تجعلُ هذه التحديدات محدودة. بقدر ما هي منفيّة من خلال هكذا رابط، هي علاقة من اللانهاية. الأمر كذلك مع الموضوع والفاعل، في الفاعل الذي يكون موضوعيًّا داخليًّا، تختفي أحاديّة الجانب؛ الاختلاف بشكلٍ مؤكّد لا يختفي لأنّه ينتمي إلى نبض حيويّته، إلى الباعث، الحركة، وتململ الحياة الروحيّة بالإضافة إلى الطبيعيّة. هنا اتّحادٌ حيث لا ينطفئ الاختلاف ولكن على حدٍّ سواء يتمّ نفيه والمحافظة عليه[9].
لا يرفضُ هيغل بشكلٍ كاملٍ التمييزات الكانطيّة بين النومينات (الحقائق الأساسيّة للشيء التي تكمن وراء الظواهر) والظواهر، أو بين الحدسيّات والمفاهيم، ولكنّه يعتبرها غير صافية ونِسبيّة وديناميكيّة. كذلك في دراسة الدِّين، لا يُنكرُ هيغل أهمّيّةَ العنصر النفسيّ للشعور، ولكنّه يعتبره مُرتبطًا بشكلٍ وثيق بالإدراك. مُقاربةُ هيغل فينومينولوجية، ما يعني أنّه يبدأ مُعالجته لموضوعٍ ما من خلال دراسة تطوُّر كيفيّة ظهور الشيء في الوعي. وعليه، ركّز هيغل، بما لا يقلُّ عن شلايرماخر، اهتمامه على العنصر النفسيّ للدِّين. مع ذلك، فإنّه قد أعاب على شلايرماخر ترك الإيمان على مُستوى الشعور بدلًا من تتبُّع تطوُّره في الفكر.
وفقًا لهيغل، وعيُنا بالله يبدأ مع الإيمان وهو شعورٌ باليقين. ثانيًا، ثمّة تركيز على موضوع الوعي كتمثُّل. ثالثًا، هناك الفكر. شُرحت هذه المراحل تباعًا بِدءًا بالمعرفة المباشرة. لا يقصدُ هيغل بالمعرفة المباشرة تلك المعرفة التي لا تخضعُ للتوسّط عبر التمثُّل أو الاستدلال، بل المعرفة حيث لا يُركّز المرء على التمثُّل أو الاستدلال، حتّى ولو نشأت المعرفة فعلًا بوساطة المفاهيم أو الاستنباط.
يشرحُ هيغل أنّ الإيمان يبدأ كنوعٍ من المعرفة المباشرة التي يُرافقها شعورٌ باليقين ومن ثمّ يتحوّل إلى شعور. كان هذا موضوعًا مهمًّا في زمن هيغل كما هو مهمٌ في يومنا الحاليّ؛ لأنّ كثيرًا من الناس يعتقدون أنّ الدِّين هو مجرّد مسألة شعور، وبالتالي لا طائل من الجدال حوله. يعتقدُ هيغل أنّ هذا الرأي ينشأ من تحليلٍ غير مُلائمٍ للشعور. أنواع المشاعر ذات الصلة هنا ليست مجرّد مشاعر حسّيّة كالآلام واللذّات، بل موضوع النقاش هي مشاعر الهيبة، الشعور بأنّ شيئًا ما هو على نحوٍ معيّن، المشاعر حول الله، حول ما هو صحيح، والمشاعر الدينيّة على سبيل المثال. يصفُ هيغل الشعور على أنّه ضلوعٌ ذاتيٌّ بمضمونٍ ما. قد يكونُ المضمون خوفًا، هيبةً، أو أنّ شيئًا ما هو صحيح. البُعد الموضوعيّ للمضمون غامضٌ وغير مُحدَّد، بينما البُعد الذاتيّ هو أكثر بروزًا وتحديدًا. حينما ننتقلُ من الشعور إلى الوعي بشيءٍ ما، يحصلُ إسقاطٌ للمضمون من صِلاته الذاتيّة إلى مقامٍ موضوعيٍّ مُستقلّ عن العالِم. تتطلّبُ العقلانيّة تحديدَ المضمون من خلال الفكر. وعليه، فإنّ طريقة وجود المضمون في الشعور هي غير مُلائمة. يُقدِّمُ هيغل الفكرة التطوُّريّة للعلاقة بين الشعور والفكر بمجاز: حتى لو عُثِر على بذرة مفهوم الله، على سبيل المثال، في الشعور، فإنّ التراب الذي تنمو فيه البذرة هو الفِكر.

لا شيء هو حقيقيٌّ أو شرعيٌّ ببساطةٍ لأنّه موجودٌ في الشعور، لو كان الشعورُ معيارًا لما وُجدت وسيلةٌ للحكم بين الخير والشر؛ لأنّ المشاعر تدفعُ إلى الجرائم كما تدفعُ إلى أعمال البطولة. يحتجُّ هيغل أنّ معايير الشرعيّة والحقيقة تكمنُ في التمثُّل والفكر.
ادّعى لودفيغ فويرباخ (Ludwig Feuerbach) (1804-1872) أنّ فلسفة هيغل حول الدِّين كانت آخر ملاذٍ للمعتقد التقليديّ. كردٍّ عليه، هاجمَ فويرباخ الدين على أساسِ تفسيرٍ قُدِّم بواسطة علم نفس الدِّين الذي يُفسّر الأفكار الدينيّة كمجرد إسقاطاتٍ نفسيّة. في كتاب «جوهر المسيحيّة»، ذكر فويرباخ أنّ فِكرَ هيغل التخمينيّ قد انقلبَ على نفسه وخسر كلّ اتصالٍ بالواقع. وفقًا لفويرباخ، جميعُ الأفكار الدينيّة هي أنماطٌ لـ«تغريب» الإنسان عن نفسه؛ لأنّه يعتبرُ أنّ الله هو فقط إسقاطٌ للطبيعة الباطنيّة للإنسان التي اعتُبرت بشكلٍ اصطناعيٍّ خارجيّة. وعليه، فإنّ نقد فويرباخ للمسيحيّة عُمِّم كنقدٍ لجميع الأديان، وفي الوقت نفسع كان نقدًا للميتافيزيقيا وخصوصًا لفلسفة هيغل التخمينيّة[10]. أُخذت أنواعُ الاحتجاجات نفسها التي استخدمها فويرباخ ضدّ الدِّين على أنّها تُقوِّضُ أُسُس المنظومة الهيغليّة. في مقالةٍ قصيرةٍ حول طبيعة الدِّين بعنوان «جوهر الدِّين» (1845)، حدّد فويرباخ أنّ الخوفَ من العناصر الطبيعيّة المجهولة يُشكّل المصادر الأساسيّة للإسقاط الدينيّ. بينما أسّسَ هيغل فلسفته على الروح، ادّعى فويرباخ أنّ «الروح» هي مجرد اسمٍ للأشياء التي يُواجهها الإنسان، ولكنّه لا يُدرك أنّها منتجاته الخاصّة، و«الطبيعة» اسمٌ جماعيٌّ آخر له[11]. الطريقة التي خلط فويرباخ من خلالها بين الروح والطبيعة ليست نقطة بحثنا هنا، بل نقطتنا هي أنّ أساس الهجوم على الدِّين والفلسفة التخمينيّة وُجِدَ في علمِ نفسٍ مُحدَّد حول الدين.
لم يُقِم فويرباخ نقدًا نفسيًّا للدين فحسب، بل كانت أفكاره مؤثِّرة أيضًا في التطوُّر اللاحق لحقل علم النفس. ادّعى سيغموند فرويد (1856-1939) أنّه أُعجِبَ بفويرباخ أكثر من أيّ فيلسوفٍ آخر. أنكرَ فرويد نفسه أن يكون لفويرباخ أي تأثيرٍ دائم على فكره، ولكنّ التشابهات بينهما مُتعدّدة بما فيه الكفاية لدحض محاولته التأكيد على أصالته الخاصّة[12]. استفاد إريك فروم (Erich Fromm) (1900-1980) أيضًا من تحليل فويرباخ في نقده الخاصّ لما أسماه الدين «المتسلِّط»[13].

جوناثان إدواردز وويليام جيمز
ادُّعيَ بأنّ المؤلِّف الأوّل الذي أقامَ ملاحظاتٍ تجريبيّة منهجيّة على الحالات والعمليّات النفسيّة في التجربة الدينيّة هو جوناثان إدواردز (Jonathan Edwards) (1703-1758). كتبَ إدواردز في كتابي «سرد وفيّ لفعل الله المدهش» (1737) و«رسالة حول العواطف الدينيّة» (1746) تقاريرَ موضوعيّة حذِرة حول الظواهر النفسيّة في الإحياء الدينيّ المسمّى «الصحوة الكبيرة» -وهي حركة لعب فيها إدواردز نفسه دورًا بارزًا. من الأمور ذات الأهمّيّة العظمى لإدواردز تجربة «التحوُّل» التي تعني التغيير الجذريّ من حياة الذنب إلى حياة الإخلاص لله، والتي تبعثُ عليها غالبًا اللقاءات الدينيّة التي تشهدُ التبشير الإنجيليّ وما يُعتقدُ بأنّه تأثيراتٌ من الروح القُدُس. لم يُكمَل عمل إدواردز حتّى القرن التاسع عشر.
بقي الاهتمامُ بالتحوُّل عاليًا في الكتاب الأوّل الذي حملَ عنوان «علم نفس الدِّين» من تأليف إ.د. ستارباك (E.D. Starbuck)، والذي طُبِع في 1900[14]. ميّز ستارباك بين ثلاثة أنواعٍ من التحوُّل: 1) الإيجابيّ أو الاختياريّ؛ 2) السلبيّ أو الاستسلام النفسيّ؛ 3) التلقائيّ. قام ج.أ. كوو (G.A. Coe) باتّباع ستارباك فدرسَ تأثيرَ الحالة المزاجيّة الفرديّة والقوى الاجتماعيّة على التحوُّل. أنجز إلمِر كلارك (Elmer Clark) تحليلًا إحصائيًّا لـ2,174 حالة من التحوُّل، ووجد أنّ 66.1% منها تتضمّنُ صحوةً دينيّة تدريجيّة، بينما 6.7% هي أمثلة واضحة عن الأزمة المفاجئة والتحوُّل.
ظهرَ كتاب «التنوّعات في التجربة الدينيّة» في العام 1902، وهنا أيضًا كرّس ويليام جيمز (1842-1910) اهتمامًا كبيرًا بظاهرة التحوُّل. توصّل جيمز إلى نتيجةٍ مفادها أنّ الروح «السليمة عقليًّا» تستشعرُ الدِّين من دون أزمة تحوّل، بينما «الروح المريضة» هي روحٌ مُنقسِمة تحتاجُ إلى أزمة تحوُّلٍ جذريّة لتحقيق التوازن. لم يستفد جيمز من الأبحاث الأمريكيّة حول التجربة الدينيّة المتمثّلة بالتحوُّل فقط، بل أيضًا من كتابات فيلهلم فونت (Wilhelm Wundt) (1832-1920) الذي اشتُهِر بأنّه الأب المؤسس لعلم النفس التجريبيّ، ولكن في علم نفس الدِّين، رفضَ فونت المقاربة التي تبنّاها جيمز والتي تتضمّنُ تجميعَ مجموعةٍ واسعة من حالات التجربة الاستثنائيّة. بدلًا من ذلك، أيّدَ فونت تحليلًا للأسطورة ونظريّةً تطويريّة حول كيفية تطوُّر الأسطورة إلى دِين. اختلفَ فونت عن جيمز وعن التقليد الألمانيّ في علم النفس حيث ركّز على علم النفس الاجتماعيّ. اهتمّ باحثون ألمان آخرون مُتخصّصون في علم نفس الدين بسبر أغوار المشاعر الدينيّة للأفراد من خلال الاستجواب المكثّف والاستقصائيّ، بينما جمع جيمز التقارير التي قدّمها أفرادٌ مُختلفون حول تجاربهم الدينيّة وحلّلها.
رُغم أنّ جيمز لم يُقيِّد التجربة بالحالات الباطنيّة التي يُنتجها الإدراك الحسّيّ، ويبدو أنّه كان مُشكِّكًا بمحاولات عزل الأبعاد الذاتيّة أو الداخليّة لحياة الإنسان عن باقي الحياة، إلّا أنّه قام في النهاية بالتمييز بين العناصر الموضوعيّة والذاتيّة للتجربة، وناصرَ بوضوح أولويّة البُعد الداخليّ. دافعَ جيمز عن فردانيّته بالادّعاء أنّه فقط من خلال العيش في نطاق الفكر المفتوح بأسئلةٍ مُحدّدة حول المصير يُصبحُ المرء عميقًا، وأنّه للعيش كذلك يعني أن يكون المرء مُتديِّنًا.
حينما نكونُ مُتديّنين، نضعُ أنفسنا في حيازة الحقيقة العليا عند النقاط الوحيدة حيث يُمنح لنا الواقع لحراسته. همّنا المسؤول في النهاية هو مصيرنا الخاصّ.

لقد رأيتم الآن لماذا كنتُ فردانيًّا للغاية خلال هذه المحاضرات، ولماذا بدوتُ عازمًا للغاية على إعادة تأهيل عنصر الشعور في الدِّين وتطويع قسمه الفكريّ. الفردانيّة مُرتكِزة في الشعور؛ وأعماقُ الشعور، الطبقات الأظلم والأعمى للشخصيّة، هي الأماكن الوحيدة في العالم حيث نقبض على الحقيقة الفعليّة أثناء صناعتها ونرى بشكلٍ مباشر كيف تحصلُ الأحداث وكيف يتمّ العمل فعلًا. مقارنةً مع هذا العالم من المشاعر الحيّة والمتّخِذة طابعًا فرديًّا، فإنّ عالم الأدوات المعمّمة التي يتدبّر بها الفِكر هو خالٍ من الصلابة أو الحياة[15].
أثّرَ جُهد جيمز ليس على علم نفس الدِّين فقط، بل على فلسفة الدِّين أيضًا، وبالتالي اكتسبتْ دراسةُ التجربة الدينيّة أهمّيّة في الحقلين. بعد عشر سنواتٍ من طباعة كتاب «التنوّعات» من تأليف جيمز صدرتْ دراسةٌ أخرى أساسيّة حول التجربة الدينيّة من تأليف أحد تلاميذ جيمز السابقين في هارفارد، وهو ويليام إرنست هوكينغ (William Ernest Hocking) تحت عنوان «معنى الله في التجربة البشريّة»[16]. مع أنّ هذا العمل كان ذا تأثيرٍ هائلٍ في زمانه إلّا أنّه تمّ تجاهله بشكلٍ كبيرٍ من قِبل مؤلّفين أحدث زمنيًّا، وهو كتابٌ فلسفيّ قطعًا أكثر من كونه كتابًا نفسيًّا. مع ذلك، كتبَ هوكينغ أيضًا عن العلاقة بين علم النفس والدِّين التي سوف نعودُ إليها أدناه.
لم تنحصر التجارب الدينيّة التي ناقشها جيمز وهوكينغ وآخرون بتجارب التحوُّل. التجارب المِستيكيّة، التي يُقصَد منها التجربة المباشرة لما يُعتقد أنّه حقيقة إلهيّة، خضعت لدراسةٍ نفسيّةٍ كبيرة أيضًا. كرّس جيمز أغلب كتابه «التنوّعات» للتجارب المستيكيّة، وأضحت الصفات الأربع للتجارب الدينيّة التي قام بتحديدها محورَ تركيزِ أبحاثٍ كثيرة إضافيّة وهي: اللاوصفيّ، الطابع العقليّ، المؤقّت، اللافاعليّ. اللاوصفيّ هو ما لا يُمكن التعبير عنه بشكلٍ وافٍ بالكلمات، كمذاق السكّر ومظهر اللون الأحمر. العقليّ، كما يستخدمُ جيمز المصطلح، هو ما يُقدِّمُ نفسَه للفاعل على أنّه معرفة. التجارب المستيكيّة مؤقّتة، فهي تنقضي بعد مدّةٍ زمنيّة قصيرة. يشعرُ الفاعل غالبًا أن لا سيطرة له على التجربة وأنّه غير فاعل خلالها.
رُغم أنّ جيمز قد اتّخذ موقفًا إيجابيًّا تجاه التجربة المستيكيّة، إلّا أنّ باحثين آخرين في علم نفس الدِّين قد سعوا لأن يُظهِروا بأنّ التجارب المستيكيّة وهميّة. لتحقيق هذا الغرض، سعى جيمز لوبا (James H.Leuba) (1868-1946) كي يُظهر أنّ بعض الحالات التي تحصلُ من خلال المواد المخدِّرة تتقاسمُ الصفات الأساسيّة نفسها مع الحالات المستيكيّة. أصدر لوبا أيضًا أوّل دراسةٍ نفسيّة حول التحوّل في العام 1896، ولكنّ كتابه «علم نفس المستيكيّة الدينيّة» هو الذي نالَ شهرة أكثر، وأضحى الأكثر إثارة للجدل بسبب موقف المؤلِّف المعادي للدّين.
ما زالت التجربة الدينيّة عمومًا، والتجربة المستيكيّة خصوصًا، مواضيعَ بحثيّة في كلٍّ من الفلسفة وعلم نفس الدِّين. وظّف علماءُ النفس مناهج مُتنوّعة لدراسة التجارب الدينيّة والمستيكيّة، ومن ضمنها إجراء التجارب في المختبرات، الدراسات الترابطيّة التي توظِّف الاستفتاءات والمقابلات، دراسات الحالات السريريّة، التأمّل الباطنيّ، الدراسات التاريخيّة والأنثروبولجيّة، فحص الوثائق الشخصيّة، وحتّى أنّه قد حصلت دراسات لعلم نفس الحيوان تسعى للبحث عن أدلّةٍ حول وجود المشاعر الدينيّة لدى الحيوانات. ينبغي أن نذكر من بين المواضيع التي بُحِثت في علم نفس الدِّين ما يلي، إضافة إلى التجربة الدينيّة والمستيكيّة: مراحل التطوّر الدينيّ في الفرد، العوامل الاجتماعيّة والمادّيّة المرتبِطة بالتديُّن، أنواع التديُّن، الصلاة والعبادة، الدِّين والخلود، الدِّين والتحيُّز، الدِّين والصحة العقليّة، الدين والتطوُّر الجنسيّ، ارتباط أنواع الشخصيّة بأنواع التديُّن، قوّة الرموز الدينيّة، وتجارب الاقتراب من الموت.

ديفيد م.وولف
هذا يكفي في نقاشنا التاريخيّ للعلاقات بين علم النفس والدِّين، وهو يمنحنا نظرةً إلى بدايات أنواع النقاشات الفلسفيّة واللاهوتيّة التي أصبحت لاحقًا أكثر أهمّيّة في تطوُّر العلاقات المعقّدة بين علم النفس والدِّين. كلّ من أراد أن يُتابع هذا التاريخ بتفصيلٍ أكثر ينبغي أن يقرأ كتابَ وولف. رُغم التفاصيل الموجودة فيه، إلّا أنّ كتابَ وولف هو ملخّص. يُنصَح بقراءته بسبب الإنصاف الموجود فيه؛ ولأنّه يأخذُ بعين الاعتبار الكتابات الفرنسيّة والألمانيّة حول الموضوع، بالإضافة إلى المؤلّفات باللغة الإنكليزيّة. عمّمَ وولف وجودَ ميلَين في الكتابات المبكّرة حول علم النفس والدِّين، وهي الوصفيّة والتفسيريّة. الباحثون الذين سعوا لشرح المعتقدات والظواهر الدينيّة بالرجوع إلى علم النفس كانوا يميلون لإبداء رأيٍ سلبيٍّ تجاه الدين، بينما كان رأيُ الوصفيّين أقلّ عدوانيّة[17]. من دون الاختلاف بالرأي، ينبغي أن نُشير إلى وجود كثيرٍ من الاستثناءات. ليس من الصعب العثور على باحثين وصفيّين كانوا مُعادين للدِّين (مثل لوبا)، وكذلك يُمكن للمرء أن يتقبّل وجودَ تفسيراتٍ نفسيّة لمعتقداتٍ وظواهر دينيّة مُتنوّعة من دون إنكار صحّة تفسيراتها الدينيّة.
 يستنتجُ وولف من دراسته للحقل أنّ البحث في علم نفس الدين «يستلزمُ بشكلٍ حتميٍّ اتّخاذَ موقفٍ أساسيٍّ فيما يتعلّقُ بالمحتوى الدينيّ»[18]. التحيُّز لصالح المذهب الطبيعيّ، المذهب المادّيّ، أو المذهب التجريبيّ ليس وحده ما يُمكن أن يُلوّنَ تأويلَ مكتشفات البحث، بل يُمكن أيضًا للحَرْفيّة الدينيّة أن تحدّ من تأويلَ هكذا بحث. يضعُ وولف علماءَ النفس على مقياسٍ وفقًا لمدى اعتراضهم الأساسيّ على الاعتراف بأيّ حقيقةٍ مُتسامية. يأتي في أسفل المقياس فرويد الذي شجب الدين بشكلٍ صريحٍ وسعى لتوفير شرحٍ نفسيٍّ للحالة المخدوعة للمؤمنين. أمّا في الطرف العالي من المقياس، فلا يذكرُ وولف علماءَ النفس الذين تستندُ أبحاثُهم بشكلٍ صريحٍ على مُعتقداتهم الدينيّة بل أولئك المستعدّين –بهدف فهم رعاياهم- لافتراض حقيقةٍ مُتسامية. أضافَ وولف بُعدًا آخر لمقياسه من خلال التفكّر في مدى أخذ الباحثين للتعبيرات الدينيّة بشكلٍ حرفيّ. ولكن في النهاية اعترفَ وولف أنّه من الصعب تصنيفَ كثيرٍ من علماء النفس بهذه الطريقة، وكمثالٍ لأحد علماء النفس الذين يصعبُ تصنيف آرائهم بشكلٍ استثنائيٍّ ذكرَ جيمز.

يذكرُ وولف أنّه حتّى في يومنا الحاليّ، ما زال لا يوجد إجماعٌ حول ما يجب أن تكون عليه أهداف علم نفس الدين أو المناهج التي يجب أن يُوظّفها. في الواقع، ليس هناك أملٌ بالتغلُّب على هذه «الأزمة»، ويبدو أنّ هذه ميزةٌ ثابتة للحقل.
يتمُّ التعبير عن وجهات نظر علماء النفس تجاه الدِّين من خلال المواقف السياسيّة أيضًا. ادّعى بعضُ علماء النفس أنّ الأزمة البيئيّة والانفجار السكّانيّ يتفاقمان بسبب نوعٍ مُحدّد من التديُّن. ينصحُ بعضهم بالتخلّي عن الدِّين ويقترحون ضرورة أن نهتدي بالعلم الطبيعيّ في هذه الأمور، واحتجّ آخرون أنّ موقفًا دينيًّا أكثر توجُّهًا نحو المستيكيّة هو مطلوبٌ للحصول على جوابٍ مُناسبٍ لهكذا قضايا. يتمُّ افتراضُ ما يُعتبرُ أنّه الجواب الصحيح لهذه القضايا، ومن ثمّ يتمُّ تقويم الدِّين ككلٍ أو بعض أشكاله على قاعدة ميل الأشخاص أو المجموعات الدينيّة أو عدم ميلهم لاتّخاذ نوع الموقف «الصحيح». يتمُّ كلُّ هذا من دون الاحتجاح الأخلاقيّ وبرفقة سُلطة الخبرة النفسيّة. ينصحُ وولف بضرورة دراسة علم نفس الدِّين بحذر، وأنّه يجب على القارئ أن يكون عالمًا بالتحيُّزات التي تدخلُ في الفاعليّة. أنا مُنقادٌ لشكوكٍ أكثر راديكاليّة حول الحقل، كثيرٌ ممّا طُبع تحت علم نفس الدِّين يُخبرنا عن ذهنيّة علماء النفس أكثر مما يخبرنا عن الدِّين، وعلماء النفس هؤلاء قد أبلغوا عن نتائج تُشيرُ إلى أنّ العداء تجاه الدين يُلاحَظُ بشكلٍ أكثر في أوساط علماء النفس من العلماء الطبيعيّين.
يذكرُ وولف أنّ ثيودور فلورنوي (Theodore Flournoy) (1920-1854) قد اقترحَ كمبدأٍ منهجيٍّ لعلم نفس الدِّين استبعادَ المتعالي، وكان يقصدُ منه أنّه على عالِم النفس أن لا يؤكِّد أو يُنكِر وجودَ الكيانات التي يفترضها الدين (الله، الملائكة، الأرواح الخالدة، الشياطين). يقترحُ وولف أنّه بالإضافة إلى هذا المبدأ، وبهدف تحقيق بعض التوازن معه، ينبغي إدخالُ مبدأٍ جديد وهو مبدأ ضمّ المتعالي والذي يقصدُ من خلاله أنّه يجب على علماء النفس أن يأخذوا بعين الاعتبار تجربةَ المتعالي. ما زال يتوقُ وولف إلى علم نفس موضوعيٍّ للدين يُحافِظُ على الحياد فيما يتعلّق بوجود الله، ولكنّه يُدركُ أنّه لا يُمكنُ تحقيق تقدُّمٍ في فهم المؤمنين المتديِّنين من دون الاعتراف باستشعار الإله أو «الموضوعات المتعالية».

مع كلّ الاحترام لوولف، أقترحُ علمًا نفسيًّا للدين يكونُ مُكرَّسًا بشكلٍ صريح. يتحتّمُ على علماء النفس الملحدين أن يذكروا مواقفهم المعادية للدين بشكلٍ صريح، أن يُقرّوا بأنّ الاحتجاج لصالح هذا الموقف هو خارج نطاق علم النفس، وأن يعترفوا بأنّ مُكتشفاتهم تستندُ إلى افتراضهم حول الإلحاد. سيكونُ الطريقُ مفتوحًا أيضًا لعلم نفسٍ للدين مُكرّس بصراحة ويبدأ من الفرضيّة التي تُفيدُ بأنّ المعتقدات الدينيّة المتنوّعة صحيحة. ما هو أساسيٌّ للعلم الطبيعيّ هو الدقّة والتعبير الصريح عن افتراضات الفرد إلى الحدّ الممكن، وليس إزالة الافتراضات. الشفافية ليستْ ضروريّةً للحكومة الجيّدة فقط، بل للعلم الطبيعيّ الجيّد أيضًا. الفكرةُ المثاليّة التي تُفيدُ أنّه يُمكن لعلم النفس الحياديّ أن يُقدِّم استنتاجاتٍ حول الدين تتمتّع بالحجّيّة، وهي مُستقلّة عن الاحتجاج الفلسفيّ أو اللاهوتيّ، هي خادعة وينبغي التخلّي عنها. عمليّة تحقيق المكاسب في مجال الدقّة والاعتراف بالافتراضات الشخصيّة والتعبير بشفافية عنها هي عمليةٌ لا تنتهي ويجب أن تتمّ بتواضع.
علمُ النفس الشفّاف دينيًّا يجعل من الأسهل أن نُقوّم بدقةٍ كيف تُشكِّل الافتراضات حول الحقائق الدينيّة والمتعالي الدراسةَ النفسيّة للظواهر الدينيّة. هذا يُسهِّلُ تقويمَ هكذا افتراضاتٍ كمبادئ منهجيّة. في الوقت نفسه، علم النفس الشفّاف دينيًّا سوف يُوفّرُ معلوماتٍ قيّمة للتأمُّل الفلسفيّ. ينبغي أن نُحدِّد: أيّ أنواع الظواهر تُشرَح بشكلٍ أفضل في أيّ إطارات من الافتراضات؟ وأيّ إطارات تؤدّي إلى برامجَ بحثيّة أكثر ثمرة؟ وأيٌ منها يبدو أنّها تُوفِّرُ فهمًا أعمق للظواهر التي تسعى لشرحها؟

المشاكل الفلسفيّة المتعلّقة بعلم نفس الدِّين
كثيراُ ما وظّف علماءُ النفس رداءَ العلم الطبيعيّ لتبرير الهجمات على الدِّين باسم علم النفس. ناقش وولف هذه الظاهرة بالتفصيل، وقد تنبّه لها إدغار شيفيلد برايتمان (Edgar Sheffield Brightman) (1952-1884) في وقتٍ أقدم بكثير. قام برايتمان بانتقاد لوبا بسبب تهريب الأخير لموقفٍ فلسفيّ مُعادٍ للدين تحتَ غطاء علم النفس. فيما يتعلّق بالعوامل اللاوعية التي تؤثِّرُ على التقوى، كتبَ برايتمان:
«إنّه شيءٌ واحدٌ أن نقول بوجود علاقةٍ لاواعية بين حب الله وحبّ الأب، وشيءٌ آخر تمامًا أنّ نقول بأنّ الإيمان بالله هو مجرّد عُقدةٌ أبويّة، وبالتالي فهو باطل. التعبير اللاحق هو تقويمٌ ونظريّة فلسفيّة محضة لا مكانَ لها في علم النفس... يتمثّلُ ميلُ علم النفس هذا (التابع لفرويد ويونغ) في اختزال كلّ تفكيرٍ دينيٍّ بالتسويغ؛ أي كثيرًا ما يعتبرُ أنّ المعتقدات الدينيّة تتألّفُ من احتجاجاتٍ اختُرِعت لدعم تحقيق رغباتنا اللاواعية بدلًا من كونها تفكيرًا موضوعيًّا صادقًا حول الحقيقة. ولكن بعد كلّ شيء، لا يُمكن الحكم على أيّ تفكير بأنّه صحيحٌ أو خطأ موضوعيًّا على أسسٍ نفسيّة محضة. يكمنُ هنا خلطٌ آخر بين علم النفس والفلسفة. لا يُمكنُ لعلم النفس أن يستولي على مكان المنطق أو فلسفة الدين، تمامًا كما لا يُمكنه أن يستولي على مكان الفيزياء من خلال دراسته للمشاعر[19].

حينما تُوضّح الافتراضات لصالح الدين أو ضدّه من قِبل علماء النفس، تماشيًا مع ما أُسمِّيه علم النفس الشفّاف دينيًّا، يبقى أمر تقويم هذه الافتراضات. وعليه، يُوفّر علم نفس الدين مخزونًا من القضايا التي تحتاجُ إلى الفحص الفلسفيّ. نحصرُ أنفسَنا هنا ببعض التأمّلات الفلسفيّة حول علم النفس على مسار الخطوط التي أنشأها ويليام إرنست هوكينغ (1873-1966) قبل أكثر من نصف قرن[20]، وفي هذه الأثناء سوف نجدُ مناسبةً للترويج لعلم النفس الشفّاف دينيًّا. في الماضي، اصطدمَ علم النفس والدِّين أكثر الوقت حينما اقترحَ عالِمُ النفس أنّ الاعتقاد الدينيّ أو التجربة الدينيّة هو ليس أكثر مما يدورُ في الذهن. عبارة «ليس أكثر» هي التي تتسبّبُ بالمشاكل. في علم نفس الإدراك الحسيّ، لا أحد يقترحُ أنّ كلّ ما في رؤية شجرةٍ أو جبلٍ ما هو حالةٌ ذهنيّة فقط. لا أحد يُمكن أن يقترح بأن يكون علم النفس الإدراكيّ حياديًّا فيما يتعلّقُ بوجود العالم الخارجيّ، وأن يحصرَ نفسَه بطبيعة التمثُّلات الذهنيّة. إذا كان إدراكنا الحسّيّ للشجرة يعتمدُ إلى حدٍّ ما على عوارض من تركيبنا وتدريبنا، فهذا لا يعني أنّه لا يملكُ صلاحيةً خاصّة به. أكثر المغالطات البدائيّة هي أن نظنّ بأنّ العلم بالحقيقيّ لا ينبغي أن يعتمد بأيّ طريقةٍ على طبيعة العالِم فضلًا عن المعلوم.
 من دون الله، يكونُ المعنى والغاية أدواتٍ من صناعةٍ بشريّة، والكون الفسيح يكونُ خاليًا من المعنى. أمّا مع الله، فيتنزّلُ المعنى من المتعالي إلى الدنيويّ. وفقًا لعلماء نفس السلوك، المعنى هو وظيفة قوس الحافز-الاستجابة. مع ذلك، يسعى الإنسان لمعنىً في الحياة يفوقُ ما هو قابلٌ لهذه التفسيرات. استنتجَ المؤلّفون المتديِّنون أنّه لا يُمكن أبدًا أن نرضى بالتفسيرات النفسيّة للظواهر الدينيّة، ولكن هل نقولُ أيضًا إنّه لا يُمكننا أبدًا أن نرضى بالتفسيرات النفسيّة لظواهر الإدراك الحسّيّ؟ لا أظنُّ ذلك، والسبب هو أنّنا نفترضُ أنّ التفسير النفسيّ للإدراك الحسّيّ لا يُنكِر أو يُقوِّض بأي نحوٍ من الأنحاء حقيقة ما يتمّ تحسُّسه. الفرق بين الحالات هو أنّه بينما تنحصرُ الشكوك حول العالَم الخارجيّ بالنقاشات الفلسفيّة، فإنّ الشكوك حول الدين قد ارتفعت إلى نسبٍ مُتفشية. وعليه، لا حاجة لعالِم النفس المتخصِّص بالإدراك أن يُصرِّح بأنّه يعملُ وفق الفرضيّة التي تُفيدُ وجودَ عالمٍ خارجيّ، ولكن فيما يتعلّقُ بالدراسة النفسيّة للظواهر الدينيّة، فإنّ الاعتراف الصريح أو الإنكار الصريح مطلوبٌ لتفادي المصادرة على المطلوب.

احتجّ بعضُ علماء النفس أيضًا أنّ الدِّين مؤذٍ. عوضًا عن التفكير بشكلٍ مباشر عمّا يُنتِجُ أكثر فائدة، يسعى الشخصُ المتديِّن كي يُناغِم أفعاله مع الإرادة الإلهيّة. لو لم يكن الله موجودًا، لكان يبدو أن هذا التمعُّن لا علاقة له بالموضوع في أفضل الأحوال، ولكن بما أنّ الله عزّ وجلّ موجود، فإنّ هذا التمعّن حكيمٌ ورشيد. احتجّ بعضٌ أنّ الدين مؤذٍ لأنّه يؤدّي إلى عدم التوازن النفسيّ. على خلاف هذه الفكرة، احتجّ جيمز على وجود طرقٍ مريضة ذهنيًّا وأخرى سليمة ذهنيًّا من التديُّن. رُغم ذلك، ما يُعدّ بالدقّة أنّه سليمٌ أو مريض سوف يعتمدُ أيضًا في بعض الحالات على المعتقدات الدينيّة للفرد. يعتبرُ كثيرون في المجتمع الغربيّ أنّ المراهقة السليمة والطبيعيّة تستلزمُ المواعدة (الغراميّة)، ويُعَدُّ الفرد اليافع الذي يمتنعُ عن المواعدة بسبب معايير أخلاقيّة أو دينيّة غيرَ مُنسجمٍ قليلًا. ولكن في نظر كثيرٍ من المتديِّنين، فإنّ الشخص السليم هو الذي يمتنعُ عن المواعدة (الغراميّة)، وأولئك الذين يُمارسون الجنس قبل الزواج هم غير المنسجمين أو -للتعبير بجملةٍ قديمة الطراز- «يعيشون في الذنب».

بينما قام بعض علماء النفس بمهاجمة الدين، قام بعض المفكّرين المتديّنين أيضًا بالنظر بريبة إلى علم النفس. بدأت معرفة الإنسان بنفسه واندهاشه بالحياة الباطنيّة أو الذهنيّة قبل وقتٍ طويلٍ من علم النفس. الفرق بين التأمّلات القديمة حول الموضوع وعلم النفس الحديث هو التطلّع إلى أن تكون الحالات الذهنيّة ظواهرَ يُمكن دراستها على نموذج الطريقة التي تدرسُ العلوم الطبيعيّة الظواهرَ الطبيعية. خابَ هذا التطلّع؛ لأنّ الحالات الذهنيّة هي خصوصيّة بشكلٍ معروف، بينما العلم الطبيعيّ يعتمدُ على الظواهر القابلة علنًا للملاحَظة وللتكرار؛ لهذا السبب، يُعرّف علم النفس أحيانًا بأنّه علم السلوك البشريّ عِوضًا عن علم الذهن والظواهر الذهنيّة. يُحاولُ علم النفس أن يتبّع العلومَ الطبيعيّة بهدف التنبّؤ والتحكُّم، وقد واجهَ العراقيل هنا أيضًا. يسعى علماءُ النفس إلى أن يجدوا القوانين للتنبّؤ بالأحداث، ولنستعرضَ مثالًا سوف نقتبسُ عن هوكينغ (الذي كتبَ هذه الكلمات خلال الحرب العالميّة الثانية):
«قصفُ المدنيّين من الجوّ سوف يُخيفهم ويتسبّب باستسلامٍ سريع» (إلّا إذا حقّق الأثر المعاكِس المتمثِّل بتحريكهم نحو مقاومةٍ أشدّ عزمًا. يبدو أنّ الشروط أحيانًا تُبطِلُ قيمةَ التنبّؤ[21]...

لقي علمُ النفس نجاحًا أكثر في النصيحة التي يُقدمها للتعليم والصناعة من تلك التي يُقدّمها حول السلوك الحربيّ، ولكنّ حالات فشله المتعلّقة بالحرب ليست مجرّد عدم القدرة على التنبّؤ بل استعداده لاقتراح ما هو غير أخلاقيّ تحت ستار حياديّته المزعومة. يتحتّمُ على علم النفس الشفّاف أن يُبيّن المبادئ الأخلاقيّة أو عدمها التي ترفدُ نصيحته. من خلال ذلك، ينبغي أن نُزيل بريقَ الخبرة المستخدم لتعقيم الفظائع المرتكَبة خلال الحرب.
ثمّة مجال آخر يبدو أن الدِّين وعلم النفس يتصادمان فيه، وهو يتعلّقُ بشفاء الأرواح. تقليديًّا، كان هذا الأمر ميدان الإرشاد الدينيّ، أمّا في المجتمعات العصريّة، فقد تولّى الطب النفسيّ والعلاج النفسيّ هذه الوظيفة. ليس النزاع مجرّد مُناوشة. يُلاحظُ هوكينغ أنّ:
ثمّة هذا الاختلاف، وهو أنّ الدِّين يُوسّع نطاقَ عذاب الروح. إنّه يُعلن أنّ الروح تكونُ في أشدّ حاجة للشفاء حينما تكونُ أشد رضى عن نفسها، وأنّه يُرجّح أن تعتبر بداية القلق أوّل مرحلة باتجاه التعافي من الخطر المميت[22].
النقطة هي ليست أن الدّين يُفضّل القلق، بينما علم النفس يسعى لشفائه، بل أنّه من وجهة نظرٍ دينيّة ليس كلّ القلق غير مرغوبٍ به. القلق الذي يأتي بسبب التعاطف مع الآخرين أو بسبب الإثم هو سليمٌ دينيًّا، حتّى ولو كان غير طبيعيٍّ نفسيًّا.
يذكرُ هوكينع ثلاث فوائد للطبّ النفسيّ على الإرشاد الدينيّ: أوّلًا، موضوعيّة المقاربة العلميّة تجاه المريض التي تُقلّل الأحاسيس بالذنب؛ ثانيًا، الطابع المنطقيّ للعلاج الذي يُركز على أسباب الداء عوضًا عن الإدانة؛ وثالثًا، رحمةُ الشفاء: الأدوية، الاندماج في المجتمع، عمليّة الدمج، ورفع الشأن بدلًا من التحوّل والتوبة والتكفير. الفرق بين المقاربة الدينيّة تجاه النفس والمقاربة النفسيّة هي أنّ الأولى أخلاقيّة وروحيّة جوهريًّا، بينما الأخيرة تدّعي أنها واقعيّة ولا تحكمها القيم.
من بين المضارّ التي أشار إليها هوكينغ، أنّ العمليّ هو الأهمّ. لا يُمكن تحقيق الاندماج الاجتماعيّ ورفع الشأن والدمج حسب الرغبة، والعلاج النفسيّ يوفّر مقدارًا ضئيلًا من النصيحة العمليّة حول كيفيّة تحقيق النتائج المرجوّة. كثيرًا ما تمّت مناقشة هذا النقد الموجّه للتحليل النفسيّ. يبدو أنّ فرويد كان يعتقدُ أنّ المعرفة بالنفس التي تتحقّق من خلال التحليل سوف تكونُ كافية كي تُتيح حصول التغيير المرجوّ. ما يُضيفه هوكينغ لهذا النقاش هو الادّعاء بأنّ الحافز المطلوب للتغيير لا يُمكن أن يُوفّره العلاج النفسيّ، بل يتطلّب التفكير بمعنى الحياة كلّه كما يفهمه المريض. الضعف الكامن في احتجاج هوكينغ هو أنّه يبدو أنّه يظن أنّ جميعَ المشاكل النفسيّة تتطلّبُ نظرةً مُلائمة إلى المعنى العالميّ ولا شيء أكثر من ذلك. يُخبرنا تقدُّم الطبّ النفسيّ منذ إصدار كتاب هوكينغ قصّةً مُختلفة. يُمكنُ معالجة كثيرٍ من المشكلات النفسيّة بفاعليّةٍ من خلال الدواء المناسب من دون الحاجة للرجوع إلى أيّ نظريّة صنف، سواء كانت نفسيّة أو دينيّة، ومن دون الحاجة لفهمٍ ذاتيٍّ من قِبل المرضى أكثر من ضرورة تناولهم الحبوب على الوقت.
رُغم هذا الخلل، تبقى هناك حالات حيث ما زالتْ تؤخذ نقاط هوكينغ بشكلٍ جيّد. ثمّة نزاعٌ بين علم النفس والدِّين حول المنطقة الرماديّة بين الذنب والاضطراب السلوكيّ. توجد حالاتٌ من التألّم الذهنيّ التي تتطلّبُ التفكير الروحيّ والأخلاقيّ بدلًا من التحليل النفسيّ أو الدواء. ما زلنا قادرين على مُلاحظة الحقيقة في تأييد هوكينغ لدعوى أفلاطون التي تُفيدُ أنّ السلامة العقليّة تتطلّبُ التنظيم المناسب للرغبات والقدرات. ينصحُ أفلاطون، بالإضافة إلى الإرشاد الدينيّ التقليديّ، بفطم الروح عن المحبوبات الشخصيّة واللذّات الجسديّة وإعادة توجيه الاهتمام نحو المتعالي. من جهةٍ مُقابلة، التحليل النفسيّ يرفضُ المتعالي ويبقى غارقًا في وحل خصوصيّات النفس الفرديّة. يدّعي هوكينغ أنّ الحافز المطلوب لإعادة تنظيم هذه النفس يُمكنُ أن يرتكزَ بفاعليّةٍ في العلاقة مع المتعالي فقط. يُمكن إنشاء هذه العلاقة عبر الفنون أو بعض أشكال الموسيقى إلى الحدّ الذي يوجِّه المرء نحو مثال الجمال الخارج عن مواضيع الرغبات الأساسيّة، ولكن يُقدَّم الجمال الأقصى كموضوع التفاني الدينيّ عوضًا عن الفنّيّ.

إضفاء الطابع الموضوعيّ على علم النفس يسعى أن يبقى حياديًّا فيما يتعلّقُ بمكان العثور على الحقيقة القصوى، وعليه لا يُمكنه أن يُوجّه مرضاه نحو أيّ حقيقةٍ مُتعالية. رُغم ذلك، يحتجُّ هوكينغ أنّه يُمكن العثور على حافز التغيير الراديكاليّ فقط من خلال علاقة المرء بهذه الحقيقة الإلهيّة والاعتراف بالمعنى المكتسب لحياة الإنسان حينما يُنظَر إليه على أنّه مُستمَدّ من المعنى الممنوح لكلّ الوجود من خلال الخطة الإلهيّة. يتمكّن علم النفس الشفّاف دينيًّا أن يتغلّب على مشكلة الحافزيّة هذه من دون أيّ تضحية بنزاهته العلميّة. لا يفترضُ علم النفس الشفّاف وجودَ الله كفرضيّة عمليّةٍ، ولكنّه يؤكِّد بشكلٍ صريحٍ افتراضات إيمانه الحيّ والعمليّ. ومن خلال ذلك فقط يُمكنه أن يُثير الحافزيّة المطلوبة لكي تكون أوامره ناجحة. يُمكن لآخرين أن يقترحوا أصنافَ علم نفسٍ إلحاديّة بصراحة طبعًا، ولكن إذا كان هوكينغ مُحقًّا، فإنّها لن تكون شديدة الفاعليّة. لكي يكون برنامج التغيير النفسيّ عمليًّا، ينبغي أن يُوفّر للمريض الحافزَ الكافي للتغيير، ويحصلُ حافزُ التغيير حينما تتّجه مشاعر المرء نحو المتعالي. يكتبُ هوكينغ:

يجبُ على علم النفس خصوصًا أن يعترفَ بأنّ الشعور هو ميتافيزيقيٌّ جوهريًّا، وأنّ تمام الحياة العاطفيّة للإنسان تتأثّر بذلك التململ الذي تحدَّث عنه أوغسطين حتّى يُرسّخ علاقاته مع الأشدّ حقيقةً[23].
يرفضُ هوكينغ تعريفَ (الفيلسوف المثاليّ الألمانيّ فيخته) أنّ الله هو النظام الأخلاقيّ للعالم، ويقترحُ بدلًا من ذلك أنّ الله يفعلُ في العالم من دون الإخلال بالنظام المادّيّ للسببيّة الفعالة من خلال ما يُسمّيه «قانون الحياة الذهنيّة الطبيعيّة».

ما نعنيه من ذلك هو أنّ الحياة التي تُعاش وفق الخطّة القاضية بالمضيّ من دون الله، من دون الشعور بالطلب الكونيّ، هي -سواء علمت به أم لا- مريضة، بعيدة عن الطبيعة، وقيمها مُصابة بالعفن الجافّ للفناء، وهي غير سعيدة داخليًّا لأنّها غير حقيقيّة، مدفوعة بشكلٍ لا واعٍ من حاجةٍ يتحتّمُ عليها أن تعترف بها وتُعرّفها في يومٍ من الأيام. هذا الدافع، الذي يُمكنُ أن يُسمّى نفسيًّا التأكيد الذاتيّ للطبيعة البشريّة الطبيعيّة، هو في طبيعته الحقيقيّة، عمل القانون الذي هو الله. إذا كان هذا هو الحال، يُمكننا أن نقول عن الله إنّه في نشاطٍ دائم، نشاطٍ لا يتدخّل بأيّ نحوٍ من الأنحاء مع الملاحظة العلميّة، ولكنه رُغم ذلك لا يُستغنى عنه في أيّ تعبيرٍ نفسيٍّ كاملٍ حول ماهيّة حياة الإنسان[24].
يؤكّدُ هوكينغ على الحاجة لدعامةٍ ميتافيزيقيّة لتوفير الحافز للتغيير النفسيّ، ويجدُ ذلك في فكرة المعنى الذي يمنحه الله لحياتنا والذي يُعرَف حينما نُوجّه أنفسَنا نحوه. في السياق الإسلاميّ، يُمكن استمداد التفصيل الإضافيّ حول هذا الموضوع من الميتافيزيقيا التابعة للملّا صدرا (1571 /1572-1640). وفقًا للملّا صدرا، يُمكنُ النظر إلى تمام الوجود على أنّه سلّم مُتدرّج تزيدُ شدّته من أدنى موجود إلى الأروع والأطهر والأنبل. اعتقد ملّا صدرا أيضًا أنّه بالإضافة إلى التغييرات في عوارض موجودٍ ما، يحصل التغيير أيضًا في الجوهر. ما يُثير الجدل أكثر هو أنّه اعتقدَ أنّ هذه الحركة الجوهريّة تسيرُ دائمًا نحو الوجود الأشدّ، نحو الوجود المجرّد، وبعيدًا عن الوجود المادّيّ. أفضى هذا الأمر إلى خلافاتٍ لاهوتيّة حول كيفيّة مُصالحة آرائه مع عقيدة المعاد الجسمانيّ. إحدى وسائل حلّ هذه المشكلة هو الاقتراح بأنّه يُمكنُ للحركة الجوهريّة أن تكونَ معًا إلى الأعلى والأسفل إن جازَ التعبير[25]. مع ذلك، ينبغي أن نُشيرَ إلى أنّه حتّى لو قبلنا بإمكانيّة توجّه الحركة الجوهريّة نحو شدّةٍ أكثر أو أقلّ، فلا ينبغي أن نعتبرَ المعاد الجسمانيّ نأيًا عن الكمال. لا ينبغي النظر إلى الجسمانيّة على أنّها تُشيرُ في كلّ حالة إلى وجودٍ أدنى. هذا يعني إنكار التوجّه القويّ في تاريخ الأفلاطونيّة الحديثة وإرثه في الفلسفة الإسلاميّة طبعًا. رُغم ذلك، هدفي هنا هو ليسَ مُناقشة القضايا اللاهوتيّة حول تدرّج الوجود أو الحركة الجوهريّة، بل اقتراح كيف يُمكنُ لهذه الأفكار أن تُنير علمَ نفسٍ إسلاميٍّ شفّاف.

 مع كثيرٍ من الفلاسفة المسلمين، يُمكن أن نفترض وجودَ جاذبيّةٍ طبيعيّة للأكثر نُبلًا، حيث يجذبُ الأقلّ نُبلًا نحو نفسه. فيما يتعلّق بالوجود التشكيكيّ، يُمكن أن نقول إنّ سلّم الوجود ديناميكيّ، وكل مُستوىً أعلى يجذب المستويات الأدنى إليه. النظام الطبيعيّ معناه أنّه ليست هناك حاجة كي تتحرّك هذه الكيانات بشكلٍ مُستمرٍّ وثابت باتجاه الوجود الأشدّ، بل الطبيعة البشريّة (الفطرة) هي على نحوٍ حيث يشعرُ المرءُ بحاجة، برهبة، بجاذبيّة، وبتبجيل نحو ما هو أشدّ وجودًا. يُمكنُ أن نُعبِّر عن هذا من خلال القول بوجود تيّارٍ طبيعيٍّ في الوجود باتّجاه الشدّة الأكبر. يتجلّى هذا في ما سمّاه رودولف أوتو (1869-1937) اللغز الساحر (mysterium fascinans)[26]. حينما يُذنبُ المرء، فإنّه يتحرّكُ عمدًا على عكس هذا التيّار. أمّا حينما يتحرّكُ المرء مع التيّار، فإنّه يكونُ مُتناغمًا مع القانون الإلهيّ. وعليه، يُمكن تفسير الحافز المقدَّم للإصلاح الروحيّ الذي يتحّدثُ عنه هوكينغ على أنّه مُستمدٌّ من هذا الانجراف الوجوديّ الأساسيّ. الإنسانُ مُحفَّزُ للإصلاح، ليس بسبب المعنى الموجود في الحياة الدينيّة فقط، بل لأنّ الإنسان ينجرُّ طبيعيًّا نحو حياةٍ مُتناغِمة مع الإرادة الإلهيّة وينجذبُ نحو التجلّيات الأكثر نُبلًا للوجود.
بعضُ الناس بشكلٍ طبيعيٍّ مُتأقلمون للغاية مع التيّار الإلهيّ، حيث يَعلقون فيه وينقادون معه، بينما يتحتّمُ على آخرين أن يتّخذوا أوّلًا خطواتٍ بطيئة ومدروسة لكي يُناغموا أنفسَهم مع الانجراف الوجوديّ.
يُقالُ في الكتب الصوفيّة إنّ أولياء الله هم على نوعين: الأوّل هو السالك المجذوب، والثاني هو المجذوب السالك. تعريفُ السالك المجذوب هو الذي يبدأ أوّلًا بسلوك الطريق، أي إنّه سالكٌ، ومن ثمّ يجذبه الل،ه بينما المجذوب السالك هو الذي يجذبه الله قبل سلوكه الطريق. كلاهما يُحبّان الله، ولكن حُبَّ السالك المجذوب يشتدّ (مع التقدّم) على الطريق، بينما شدّة حُب المجذوب السالك هي التي تحمله على الطريق[27].
في الواقع، يُمكن أن تتواجد كثيرٌ من أنواع الجاذبيّة أو القوّة الحافزة أو الكاريزما التي يستشعرُ أفرادٌ مُختلفون أنّها تُوجّههم نحو وجودٍ أشدّ. ما هو مهمٌّ نفسيًّا لنقاشنا هو أنّ هذه الجاذبيّة المحفِّزة نحو الوجود الأشدّ يُمكنُ أن تُوفِّر نوعَ القاعدة الميتافيزيقيّة نحو التغيير الروحيّ الذي يبدو أنّ هوكينغ يتلمّسه. وفقًا لهوكينغ، الحاجة للعثور على المعنى هي التي تُحفِّز في النهاية الجُهدَ الأخلاقيّ. يبدو قطعًا أنّ الحاجة للمعنى هي عاملٌ مهمّ، ويبدو أيضًا أنّ هوكينغ مُحقٌّ في الاعتقاد بأنّه لا ينبغي اعتبار الفهم والشعور عناصرَ مُستقلّة في علاقتنا بما يُوفِّر المعنى لحياتنا. في الختام، يُحدِّد هوكينغ بشكلٍ صحيحٍ أنّ الميتافيزيقيا (بالمعنى العامّ) هي شرطٌ لفهم هذا المعنى. مع ذلك، ما هو مُتناسبٌ مع كلّ هذا هو الاعتراف بأنّ الحافزَ للحياة الروحيّة والأخلاقيّة هو أقوى من ذلك الممنوح فقط من البحث عن المعنى والنفور من انعدام المعنى. ثمّة أيضًا انجذابٌ نحو الأنبل والأكمل لا يُمكن أن نُسمّيه غير الحبّ.
حينما يتوجّه هوكينغ نحو السؤال عن الكيفيّة التي يتصرّف بها الله كي يمنح الحافزيّة للروح نحو التغيير، فإنّه يُقارِنُ بين الاعتراف بالذنب وبين الأوصاف التي يُقدِّمها المرضى للمعالِج عن حالاتهم الذهنيّة. لعلّ في ذلك إشارة إلى مدى تجذُّر العلاج النفسيّ في الثقافة المسيحيّة؛ لأنّه لا وجود في الإسلام للاعتراف بالذنوب، بل إنّ هذا الاعتراف مُدانٌ بوضوح. ولكنّ عدم وجود الاعتراف لا يجعلُ الإسلامَ في موقع ضعف فيما يتعلّقُ بهداية الروح إلى التغيير الفعّال. بالفعل، فإنّ إحدى أبرز خصائص التراث الروحيّ الإسلاميّ هو الشروحات المفصّلة حول الكيفيّة التي ينبغي فيها إعادة توجيه الروح وتكميلها. هذا مُوثّقٌ بشكلٍ جيّد على وجه الخصوص في مؤلّفات المتصوّفة. في هذا الصدد، تكونُ مراجعةُ الضمير مُهمّةً بصورةٍ خاصّة. في كُلٍ من المسيحيّة والإسلام، مُراجعة الضمير هي شرطٌ ضررويٌّ مُسبَق للتوبة. تُسمّى هذه المراجعة الذاتيّة في الكتابات الصوفيّة: المراقبة. للمراقبة مُستوياتٌ كثيرة مُختلفة، وكُتِبتْ إرشاداتٌ عمليّة لمساعدة المبتدئ في تطوير هذه المهارة[28].
الآثارُ التي خلّفتها المؤلّفات الصوفيّة على علم النفس هي مُلفتة للغاية، إلى الحدّ الذي أُلِّف عددٌ من الكتب حول علم النفس الصوفيّ، وثمّة أيضًا مُزاولون نشطون لعلم النفس العياديّ الذين يأخذون النصوصَ الصوفيّة كمصدرٍ لمعلوماتهم الأساسيّة النظريّة. نجدُ في هذا مثالًا كاملًا حول علم نفس شفّاف مُكرَّس دينيًّا بصراحة، ومُكرَّس إسلاميًّا على وجه الخصوص. اعترفَ عددٌ من المعالجين النفسيّين المزاولين للمهنة بالحاجة لعلم النفس الشفّاف هذا[29]. ينبغي أن نذكر في هذا الصدد مؤلّفات الدكتور السيّد محمّد محسن جلالي طهراني[30] مؤسِّس الرابطة الإسلاميّة لعلم النفس الإنسانيّ، لَالِه بختيار[31]، أ. حميد علي وجمعيّته الرضوان[32]، وعلماء النفس العاملين في المراكز الاجتماعيّة للشفاء في كاليفورنيا[33]، وسلمى يعقوب التي يحسنُ أن نختتمُ بكلماتها:
كامرأةٍ مُسلمة وُلِدت وترعرعت وتعلّمت في إنكلترا، شعرتُ أحيانًا كمعالِجةٍ نفسيّة ببعض الانزعاج في تطبيق علم النفس الغربيّ. أرى في كثيرٍ من الأحيان مرضى أعتقدُ أنّهم يُمكن أن يستفيدوا من مُقاربةٍ أكثر شموليّة مع أخذ حاجاتهم الروحيّة، إضافة إلى حاجاتهم العاطفيّة والجسديّة، بعين الاعتبار، ولكن وكأنّ هناك محظورًا في مزج الإيمان بالمعالجة، فهو غير «مقبول» أو لا يُعتبر «مهنيًّا». في تدريبنا كمعالجين نفسيّين، بالكاد تُذكَر الروحانيّة، ولو ذُكرت فهو غالبًا بطريقةٍ سلبيّةٍ للغاية... من منظورٍ إسلاميّ، أيّ علم نفسٍ شاملٍ حقًّا لا يُمكن أن يتطوّر إلّا من مجموعةٍ مُختلفة للغاية من الافتراضات. عمليًّا، يُتطلّب نموذجٌ مُختلفٌ من المعرفة لكي تحصل «دارسة» حقيقيّة «للروح» ويبرز «علم نفس حقيقيّ» (تذكّر أنّ كلمة علم النفس تعني دراسة الروح) يتناولُ جميعَ أبعاد النفس؛ لهذا السبب أعتقدُ أنّه من المهمّ جدًّا للمسلمين أن يُعرّفوا علم النفس الإسلاميّ وأن يُطوّروه...لا يُمكنني أن أؤكّد بما فيه الكفاية أهمّيّةَ تطوير علم النفس الإسلاميّ؛ لأنّ الافتراضات النفسيّة حول طبيعة النفس وما يعنيه أن يكون الفرد إنسانًا لا تكمنُ فقط في أساس العلاجات النفسيّة بل أيضًا مقاربة الحكومات تجاه الرعاية الاجتماعية والتعليم... ينبغي أن نُطوّر بشكلٍ واعٍ حقلًا جديدًا من الدراسة -علم النفس الإسلاميّ- يتضمنُ الدمج النظريّ للمفاهيم الإسلاميّة حول النفس مع النماذج الغربيّة الحاليّة من علم النفس. ينبغي تطبيقُ هذا الإطار النظريّ في تطوير مُقاربة «إرشادٍ إسلاميّ» عمليّ مع عمليّاتها وتقنياتها المتميّزة الخاصّة. إنني واثقةٌ أنّ هكذا بحث لن يُفيد المسلمين فقط بل جميع الناس، فقد جاء الإسلامُ كرحمةٍ لكلّ البشر.[34]
مع أنّ أغلب المؤلَّفات النفسيّة التي تستمدُّ بشكلٍ صريحٍ من المصادر الإسلاميّة، وبالأخصّ الروايات الصوفيّة، قد تمّ توجيهها عياديًّا، فإنّ هذا العمل نفسه وتجربة علماء النفس العياديّين المسلمين يُظهرُ الحاجة لعلم نفس شفّافٍ دينيًّا؛ حيث لا يتمّ الاستمداد من علم النفس الحديث ونصوص الفلسفة الإسلاميّة والعرفان كمصادر مُستقلّة فقط، بل يتمُّ دمجُها في علم نفسٍ إسلاميٍّ صريح.

لائحة المصادر والمراجع
 David M. Wulff, Psychology of Religion: Classic and Contemporary, 2nd ed. (New York: John Wiley & Sons, 1997).
 Schleiermacher (1799), 22.
Ninian Smart, “Religion, Study of, Basic aims and methods, Philosophy of religion, theories of Schleiermacher and Hegel”. Encyclopedia Brittanica, CD 2002.
Georg Wilhelm Friedrich Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, One-Volume Edition, the Lectures of 1827, Peter C. Hodgson, ed., (Berkeley: University of California Press, 1988), 88.
Edgar Sheffield Brightman, A Philosophy of Religion (New York: Prentice-Hall, 1947), 35.
William James, The Varieties of Religious Experience (London: Longmans, Green and Co., 1928).
William Ernest Hocking, The Meaning of God in Human Experience: A Philosophic Study of Religion (New Haven: Yale University Press, 1912).
William Ernest Hocking, Science and the Idea of God (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1944).
Shahram Pazouki, “In Memory of the Beloved Master: Hadrat Mahbub ‘Alishah”, in The Sufi Path: An Introduction to the Ni‘matullàhي Sulىàn ‘Alيshàhي Order, ed. Shahram Pazouki, (Tehran: Haqiqat Publications, 2002), 118.
Laleh Bakhtiar, God’s Will Be Done: Traditional Psychoethics and Personality Paradigm, 3 vols., (Chicago: The Institute of Traditional Psychoethics and Guidance, 1993).

---------------------------
[1]*- مؤسّسة الإمام الخمينيّ للتعليم والأبحاث، قُم، إيران، 2006.
* العنوان الأصلي: REFLECTIONS ON PSYCHOLOGY AND RELIGION
* ترجمة: هبة ناصر.
[2]- David M. Wulff, Psychology of Religion: Classic and Contemporary, 2nd ed. (New York: John Wiley & Sons, 1997).
[3]- راجع على سبيل المثال مقالة «علم النفس» في الموسوعة الكاثوليكيّة.
[4]- راجع:
Terry Pinkard, Hegel: A Biography (Cambridge: Cambridge University Press, 2000), 536f., 612f.
[5]- في كتابه On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers، ترجمة Richard Crouter، إصدار مطبعة جامعة كامبريدج 1996، سوف نُشير إليه من الآن فصاعدًا بـ .(Schleiermacher (1799
[6]- Schleiermacher (1799), 22.
[7]- Ninian Smart, “Religion, Study of, Basic aims and methods, Philosophy of religion, theories of Schleiermacher and Hegel.” Encyclopedia Brittanica, CD 2002.
[8]- Georg Wilhelm Friedrich Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, One-Volume Edition, the Lectures of 1827, Peter C. Hodgson, ed., (Berkeley: University of California Press, 1988), 88
نُشيرُ إليه فيما يلي بـ Hegel (1827).
[9]- Hegel (1827), 99.
[10]- راجع
 Walter Jaeschke, Reason in Religion (Berkeley: University of California Press, 1990), 387.
[11]- راجع:
 Hans-Martin Sass, “Ludwig Andreas Feuerbach” in Routledge Encyclopedia of Philosophy, Version 1.0, London: Routledge.
[12]- راجع: Wulff (1997), 263.
[13]- راجع: Wulff (1997), 597.
[14]- Edgar Sheffield Brightman, A Philosophy of Religion (New York: Prentice-Hall, 1947), 35.
[15]- William James, The Varieties of Religious Experience (London: Longmans, Green and Co., 1928).
طُبِع لأول مرة في 1902، ص501-502.
[16]- William Ernest Hocking, The Meaning of God in Human Experience: A Philosophic Study of Religion (New Haven: Yale University Press, 1912).
أُعيدت طباعة إصدار 1924 المنقّح لهذا الكتاب في وايتفيش، مونتانا من قِبل إصدارات كيسنجر، 2003. رُغم أنّ هوكينغ تخرّج من هارفارد وقضى أغلب حياته المهنيّة التعليميّة هناك، إلّا أنّه درّس في جامعة يايل ومؤسّسات أخرى قبل الالتحاق بهيئة تدريس الفلسفة في هارفارد عام 1914.
[17]- Wulff (1997), 21ff.
[18]- Wulff (1997), 638.
[19]- Brightman (1947), 73 -74.
[20]- William Ernest Hocking, Science and the Idea of God (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1944).
[21]- Hocking (1944), 29.
[22]- Hocking (1944), 30.
[23]- Hocking (1944), 48.
[24]- Hocking (1944), 49.
[25]- راجع نقاش آية الله مصباح في كتابه:
Philosophical Instructions (Binghamton: Global Publications, 1999), 482ff.
[26]- ينبغي أن نتذكّر أيضًا بأنّ أوتو يصفُ المقدّس باللغز الرهيب (mysterium tremendum) بالإضافة إلى اللغز الساحر (mysterium fascinans). أُركز هنا على الجاذبيّة الإلهيّة التي تترافقُ عادةً مع الشعور بالرهبة.
راجع: Rudolf Otto, Das Heilige, 9th ed. (Breslau: 1922)
وقد ترجمه جون هارفي تحت عنوان: The Idea of the Holy (1923; 2d ed., Oxford, 1950).
[27]- Shahram Pazouki, “In Memory of the Beloved Master: Hadrat Mahbub ‘Alishah,” in The Sufi Path: An Introduction to the Ni‘matullàhي Sulىàn ‘Alيshàhي Order, ed. Shahram Pazouki, (Tehran: Haqiqat Publications, 2002), 118.
[28]- راجع المقالة من تأليف آية الله حاج ميرزا جواد ملكي التبريزي: المراقبات.
[29]- ينبغي أن نذكر أيضًا الرابطة النفسيّة الصوفيّة (الولايات المتحدة) ودوريّتها «علم الروح (الصوفيّة)»، جمعيّة تطوير علم النفس الإسلاميّ في باكستان، والواقع الذي يُفيدُ أنّ علم النفس الإسلاميّ يُدرَّس في جامعاتٍ في نيجيريا وماليزيا وبالطبع إيران.
[30]- http://www.ahpweb.org/involve/prison.html.
[31]- Laleh Bakhtiar, God’s Will Be Done: Traditional Psychoethics and Personality Paradigm, 3 vols., (Chicago: The Institute of Traditional Psychoethics and Guidance, 1993).
اطّلع أيضًا على موقعها: http://www.sufienneagram.com/.
[32]- http://en.wikipedia.org/wiki/A._H._Almaas.
[33]- http://www.communityhealingcenters.org/.
[34]- سلمى يعقوب، «نحو علم نفسٍ إسلاميّ»، قُدِّم في المؤتمر الدوليّ حول «النساء المسلمات في العلم: مُستقبلٌ أفضل»، فاس، المغرب، 22-24 آذار 2000، نظّمته الأكاديميّة الملكيّة للعلوم الاستئمان الدوليّ (RASIT) والمنظّمة الإسلاميّة التعليميّة والعلميّة والثقافيّة (ISESCO)، وقد حُصِّل نصّه في 9 نيسان 2006 على الموقع التالي:
http://www.crescentlife.com/articles/islamic%20psych/toward_islamic_psychology.htm
وأيضًا: www.quranicstudies.com/article42.