البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة في كتاب معرفة الدين

الباحث :  الشيخ لبنان الزين
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  31
السنة :  صيف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 30 / 2023
عدد زيارات البحث :  634
تحميل  ( 346.959 KB )
مقدّمة:
سعى الإنسان نحو البحث عن الدين الإلهيّ منذ أوّل عهده ووجوده؛ منجذبًا إليه بميل فطريّ مركوز فيه في أصل خِلْقته؛ قوامه حبّه للكمال ونفوره من النقص، وقد تجلّى هذا الميل فيه بدوافع عدّة؛ هي: حبّ المعرفة والاستكشاف، وشكر المنعم، وتحصيل النفع، ودفع الضرر. ولمّا كان النوع الإنسانيّ عاجزاً عن تحقيق متعلّقات هذه الدوافع من الوصول إلى تحقيق كماله المنشود؛ كان بذلك بحاجة إلى الدين بما يتضمّن من برامج إلهيّة تنظّم حركة الإنسان الفرد والمجتمع، وتستجيب لآماله وتطلّعاته وتوصله إلى تحقيق مبتغاه.
والذي يطالع تعاليم الدين يجدها عقلانيّة منسجمة تمام الانسجام في ما بينها: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[2]، تأخذ بيد الإنسان نحو الكمال والسعادة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[3]...

وأدنى تأمّل في الدين وتعاليمه يكشف عن عناية الدين بالحياة الدنيويّة بجميع مستوياتها الحيويّة؛ حيث لم يهمل الدين أدقّ التفاصيل التي يحتاج إليها الإنسان في بناء حياته الدنيويّة الحضاريّة الراقية، وكذلك حياته الأخرويّة!: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين)[4]، (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[5]، ...
فالدين سلوك في الحياة الدنيا يتضمَّن صلاح الدنيا، بما يوافق الكمال الأخرويّ والحياة الدائمة الحقيقيّة عند الله سبحانه وتعالى، فلا بدّ في الشريعة من قوانين تتعرّض لحال المعاش على قدر الاحتياج، وتكون وفق اقتضاءات الخِلْقة الإنسانيّة؛ ليتطابق التشريع مع الفطرة والتكوين[6].
وقد كثر البحث عن الدين في واقعنا المعاصر وتشعّبت الأبحاث فيه، وظهرت فروع بحثيّة وعلميّة؛ ومن الفروع المهمّة للأبحاث الدينيّة المعاصرة «علم فلسفة الدين» الذي يُعنى بالبحث عن النظريّات المفسّرة لمنشأ الدين والتديّن، وتنقيح مفهوم الدين، وبيان التطوّر التاريخي للتديّن والتجربة الدينيّة، وخصائص لغة الدين، والعلاقة بين الدين والعقل والعلم والدنيا، والتعدّدية الدينيّة بطروحاتها المختلفة، وغيرها من المسائل.

ويأتي هذا الكتاب «معرفة الدين» ليتناول بالبحث أبرز المسائل المطروحة في علم فلسفة الدين.
مؤلّف الكتاب[7]:

آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآملي فيلسوف، وفقيه، ومفسّر للقرآن الكريم، ومدرِّس في حوزة قم العلميّة، ومن مراجع التقليد المعاصرين.
ولد سنة 1312هـ.ش في مدينة آمل شمالي إيران، وكان والده من علماء الدين فيها.
شرع بدراسة العلوم الدينية في حوزة آمل العلميّة، وأكمل خلال خمس سنوات دراسة مرحلة السطوح؛ وهي دراسة الأدب العربي، والمنطق، والفقه، وأصول الفقه وتفسير القرآن، والحديث.
وفي سنة 1329هـ.ش شدّ الرحال إلى طهران وتابع دراسته في مدرسة مروي خمس سنوات، حيث حضر درس محمد تقي الآملي، وأبو الحسن الشعراني، ومهدي إلهي القمشئي، ومحمد حسين التوني، وكان إلى جانب الفقه والأصول يدرس الفلسفة والعرفان، وفي الوقت ذاته يدرِّس الدروس الحوزوية.
وفي سنة 1334هـ.ش توجّه إلى قم وأكمل مشواره العلمي للدروس الحوزوية في مراحله العليا عند علمائها آية الله البروجردي، وآية الله السيد محمد محقق داماد، والميرزا هاشم الآملي، والإمام الخميني، والعلامة الطباطبائي.
بدأ الشيخ الآملي تدريسه للعلوم الحوزوية منذ شبابه، ودرَّس ما يقارب ستّين سنة علومًا مختلفة، مثل: الفلسفة والعرفان، والفقه والتفسير، في حوزتَي قم وطهران.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية تولّى مسؤوليّات عدّة، فكان عضو المجلس الأعلى للقضاء، ومجلس خبراء تدوين الدستور، ورابطة مدرسي الحوزة العلمية بقم، ومجلس خبراء القيادة، وفي عقدي السبعينات والثمانينات للقرن الرابع عشر هجري شمسي كان إمام جمعة مدينة قم، كما أوصل رسالة الإمام الخميني إلى غورباتشيف في رحلة له إلى الاتّحاد السوفيتي سابقًا سنة 1367هـ.ش.
يشرف الشيخ الآملي على مؤسّسة الإسراء الدولية للعلوم الوحيانيّة، وهي من المراكز العلميّة في مدينة قم، والغاية منها بيان العلوم الإسلاميّة ونشرها، وتدريب باحثين في مجال العلوم الإسلامية، كما يشرف الشيخ الآملي على مؤسّسة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) للتعليم العالي في الحوزة، والتي تأسّست سنة 1387هـ.ش في مدينة آمل شمالي إيران.

وللشيخ الآملي مؤلّفات ومصنّفات كثيرة في مجالات مختلفة في التفسير والكلام والفلسفة والعرفان والفقه وغيرها؛ منها:
تفسير تسنيم في 80 مجلّدًا.
تفسير القرآن المجيد (16 مجلّدًا) في التفسير الموضوعي.
الحياة العرفانية للإمام علي(عليه السلام).

الحماسة والعرفان.
الإمام المهدي (عليه السلام) الموجود الموعود.
أدب فناء المقربين (شرح زيارة الجامعة الكبيرة) في ثلاثة أجزاء.
الإسلام والبيئة.
جمال المرأة وجلالها.
الحياة الخالدة في علم الأخلاق.
ولاية الإنسان في القرآن.
الحكمة النظرية والعملية في نهج البلاغة.
عليّ بن موسى الرضا ع والفلسفة الإلهيّة.
اختيار مناسك الحج.
الحج في مجلّدين.
مصدر الفكر في 4 مجلّدات.

وغيرها من المؤلّفات...
المحتوى الإجمالي للكتاب:

ضمّن آية الله الشيخ الآملي كتابه «معرفة الدين» مباحث عدّة في فلسفة الدين، ضمن ستّة فصول، تناول في فصله الأوّل تعريف الدين؛ كاشفًا عن أثر تباين الرؤى الكونيّة في بلورة مفهوم الدين.
ثمّ بحث في ثاني فصوله عن منشأ الدين وظهوره، مفرّقًا بين الدين والتديّن.
وتطرّق في فصله الثالث إلى مسألة تفكيك بعض تعاليم الدين وتقسيمها إلى جوهر الدين وصدفه؛ أي لبّه وقشره، وتقويم صحّة هذا التقسيم من عدمه.
وفي فصله الرابع تعرّض لبحث لغة الدين ولغة القرآن، وبيان اختلافها عن لغة العلم ولغة العرف، ومبيّنًا خصوصيّات النصّ القرآنيّ وخصائصه الأسلوبيّة في الخطاب.
ثمّ تناول في فصله الخامس جدل العلاقة بين الدين والعقل، والتطابق والانسجام بينهما.

وختم الكتاب فصوله بالتعرّض لطروحات التعدّديّة الدينيّة ونقدها.

أوّلًا: تعريف الدين
يرى الشيخ الآملي موضوع الإنسان والدين ونوع العلاقة بينهما من أهمّ المباحث في فلسفة الدين، ولا يمكن تحديد تلك العلاقة بشكل صحيح وواضح من دون الوقوف على حقيقة الدين وحقيقة الإنسان.
ولكنْ مع التباين الحاصل في الرؤى الكونيّة المطروحة الإلهيّة والإلحاديّة نجد صعوبة في الوصول إلى تعريفٍ موحَّد جامع وشاملٍ للدين!
ويقسِّم الشيخ الآملي الدين -بمعيار عام وكلّيّ- إلى قسمين:
الأوّل: الدين الإلهيّ الوحياني الذي يقوم على أساس الوحي والرسالة الإلهيّة، ولا دخالة للإنسان في صنع محتواه، وهو مكلَّف بمعرفته والاهتداء به والالتزام بتعاليمه على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ.
والثاني: الدين البشري الوضعي الذي هو من صنيعة الإنسان؛ بفعل ما ساقته إليه حاجاته النفسيّة وتجاربه الاجتماعيّة.

ثمّ يبيّن الشيخ الآملي أنّ المقصود بالبحث في فلسفة الدين هو الدين الإلهيّ الوحياني، ولا الدين البشري، ولا الأعمّ منهما.
وينبّه الشيخ الآملي على ضرورة عدم الخلط بين الدين والتديّن، أو بين الدين والإيمان في مقام التعريف، فالتديّن والإيمان وصفان للإنسان، بينما الدين حقيقة إلهيّة غيبيّة لهداية الإنسان.
وبما أنّ الدين عبارة عن مجموعة قواعد عقديّة وقيمية وأخلاقيّة وفقهيّة وحقوقيّة؛ فلا يمكن تعريفه تعريفًا ماهويًّا؛ لعدم وجود وحدة حقيقة له. نعم يمكن تعريفه مفهوميًّا منتزعًا من الرسالة الإلهيّة؛ بأنّه: «مجموعة عقائد وأخلاق وقوانين ومقرّرات أُنزلت لإدارة لإدارة الفرد والمجتمع وتربية الإنسان عن طريق الوحي والعقل». فالدين وفق هذا التعريف يشتمل على العقائد (الاعتقاد بحقائق الكون على أساس التوحيد)، والأخلاق (تهذيب النفس والسير والسلوك)، والأحكام (كلّ ما يرتبط بتنظيم علاقة الإنسان مع نفسه ومع ربّه ومع مجتمعه).

ومن ثمّ يميِّز الشيخ الآملي بين الدين الحقّ الذي تتطابق فيه تعاليم الدين ومقرّراته مع الواقع؛ كالدين الذي جاء به الأنبياء (عليهم السلام)، وبين الدين الباطل الذي يجافي بتعاليمه ومقرّراته الواقع؛ كأديان الطواغيت؛ من أمثال فرعون!
ويطرح معيارًا لهذا التمييز بين الدين الحقّ والدين الباطل من خلال النظر في العلل الأربع (الفاعليّة، الغائيّة، الصوريّة، المادّيّة) وانطباقها على الدين؛ ففي الدين الحقّ:

- المبدأ الفاعلي: هو الله تعالى
- والمبدأ الغائيّ: تحقيق سعادة الدنيا والآخرة
- والمبدأ الصوريّ: الكتاب والسنّة والعقل (الأدلّة العقليّة والنقليّة)
- والمبدأ المادّيّ: هو الإنسان
وأمّا في الدين الباطل:
- المبدأ الفاعلي: هو هوى النفس
- المبدأ الصوري: هو العقائد والأخلاق والأحكام الوهميّة والخياليّة
- المبدأ الغائي: هو السقوط في الجحيم
- المبدأ الصوري: هو الإنسان الضال

ونلاحظ أنّ المبدأ الفاعليّ للدين هو الله تعالى؛ وبالتالي؛ فإنّ الدين الحقّ واحد، لا يُمكن أن يتعدّد أو يتكثّر، بينما تتكثّر أديان الباطل؛ لأنّ مبدأها أهواء الإنسان وميوله ونزعاته المتفرّقة.
هذا ما ذكره الشيخ الآملي في فصله الأوّل من مسائل مرتبطة بتعريف الدين من منظار فلسفة الدين، ولكنْ يلاحظ عليه إغفاله وعدم تعرّضه لتعريفات الدين عند غيره من الفلاسفة والمتكلّمين والمفكّرين والباحثين، وكان من المناسب التعرّض لها وتحليلها ومناقشة ونقدها وتقويمها، وبيان اختلافات تعريفات الدين تبعًا لاختلاف الرؤى الكونيّة الإلهيّة والإلحاديّة.   

ثانيًا: منشأ الدين
يرى الشيخ الآملي أنّ هناك آراء مختلفة طُرِحَت في بيان المراد من منشأ الدين؛ وهي:
1. الرأي الأوّل: ظهور الدين: أي علّة ظهوره؛ فللدين وجود واقعي خارجي أرجعه الموحِّدون إلى المبدأ السماوي الإلهيّ، والملاحدة إلى المبدأ الإنسانيّ، وكلّ منهما صاغ جوابه استنادًا إلى رؤيته الكونيّة الخاصّة.
وانطلاقًا من الرؤية الكونيّة الإلهيّة ومبادئها، يتحتّم تدخّل الإرادة الإلهيّة في إظهار الدين للإنسان عن طريق الوحي.
في حين أنّ الرؤى الإلحاديّة التي تُرجع الدين إلى منشأ بشريّ، مختلفة في بواعث تشكّله الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والنفسيّة، وغيرها...، وهي بجميع تفسيراتها البشريّة تسير بالدين نحو الزوال والأفول!
وقد أورد الشيخ الآملي طرقًا خمسة لإثبات ضرورة النبوّة -نقلها عن الملا عبد الرزّاق اللاهيجي-؛ وهي:
- منهج الإمام الصادق(عليه السلام): إثبات ضرورة الوحي والنبوّة انطلاقًا من مقدّمات عدّة (خالقيّته تعالى للإنسان/ علمه تعالى بصلاح الإنسان وما ينفعه وما يضرّه/ حكمته تعالى وتنزّهه عن العبث/ احتياج الإنسان إلى من يدبّر له أموره ويدلّه على طريق الوصول إلى السعادة والنجاة من الخسران/ احتياج الإنسان إلى رسول من سنخه/ امتياز هذا الرسول عن غيره من بني الإنسان في الصفات والخصائص الروحيّة والمعنويّة).
- منهج المتكلّمين: من خلال القول بجواز بعثة الأنبياء الرسل (عليهم السلام) عند الأشاعرة، ولزومها عند المعتزلة والإماميّة؛ من باب اللطف واقتضاء الحكمة الإلهيّة وحسن التكليف.
- منهج الحكماء: حيث أثبتوا ضرورة الوحي والنبوّة من خلال مقدّمات عدّة (الإنسان مدني بالطبع/ أنانيّة الإنسان/ ظهور الاختلاف والتنازع بفعل أنانيّته/ الاحتياج إلى قانون إلهيّ/ اقتضاء الحكمة الإلهيّة إزال القانون وإيصاله إلى الإنسان).

- منهج العرفاء: يرى العرفاء أنّ غاية وجود الإنسان هي لقاء الله، وهي تتحقّق بالسير والسلوك ضمن مراحل أربعة؛ هي: السير من الخلق إلى الحقّ (القوس الصعوديّ)، والسير من الحقّ إلى الحقّ، والسير من الحقّ إلى الخلق بالحقّ (القوس النزوليّ)، والسير من الخلق إلى الخلق بالحقّ؛ وهذا السير مختصٌّ بالأنبياء والرسل(عليهم السلام)؛ فهم بعد شهودهم الحقائق التوحيديّة يعودون إلى الخلق؛ لهدايتهم إلى عين الخلود وإرجاع الكثرة إلى الوحدة الحقّة.
- منهج تهذيب الأخلاق: حيث يمكن إثبات ضرورة الوحي والنبوّة بمقدّمات عدّة (تحصيل ملكة العدالة مناط تماميّة كمال النفس الناطقة/ تتحقّق العدالة برعاية الاعتدال في أعمال النفس وأفعالها/ رعاية الاعتدال رهن بمعرفة آثار الأفعال من حيث الكمّيّة والكيفيّة على النفس/ معرفة هذه الآثار تحتاج إلى تشريعات وقوانين إلهيّة/  وصول هذه التشريعات والقوانين لا يتمّ إلا بإرسال الأنبياء والرسل(عليهم السلام)).
2. الرأي الثاني: علّة التديّن: أي علّة قبول الدين أو دواعي التديّن. وهذا المعنى من منشا الدين يختلف عن المعنى الأوّل؛ لأنّ التديّن غير أصل الدين؛ فالسؤال عن التديّن سؤال عن سبب تحقّق الدين عند الفرد والمجتمع؛ وتبعًا لذلك سوف يختلف الجواب عن سبب التديّن؛ فيُحال الجواب فيه إلى علم النفس أو علم الاجتماع.

ويرى الشيخ الاملي أنّ العقل والفطرة هما العلّة الرئيسة لتمسّك الإنسان بالدين في مقام الاعتقاد والنظر، ووظيفة الإنبياء(عليهم السلام) تكمن في إثارة عقول البشر وأداء ميثاق الفطرة. وأمّا العوامل الأخرى؛ كالعوامل النفسيّة والاجتماعيّة وغيرهما... فهي عوامل فرعيّة بمثابة العلل المُعدّة لتوجّه الإنسان نحو الدين وقبوله، من دون أن يكون لها دور في سبب قبوله للدين.
ومن العلل الفرعيّة لقبول الدين والتمسّك به: طريقة تقديم الدين وأسلوب عرضه على الناس، والشخصيّة القدوائيّة للمبلِّغ الديني، وانتهاج الرحمة في تبليغ الدين وتطبيقه بين الناس، والاهتمام بأمور المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعيّة...
ثمّ يحذِّر الشيخ الآملي من بعض العوامل التي قد تدفع الإنسان نحو النفور من الدين؛ كعدم تقديم رؤية صحيحة ومنطقية للكون والإنسان والدين، وتفسير الدين بشكل خاطىء...
3. الرأي الثالث: ضرورة التديّن: أي توجّه الإنسان نحو الدين وانجذابه إليه وتوقّعاته منه. وهو ما لم يفصّل الشيخ الآملي فيه، وأحال بحثه إلى كتابه «انتظار البشر من الدين» ضمن سلسلة مباحثه في فلسفة الدين.

نجد الشيخ الآملي في هذا الفصل «منشأ الدين»، على الرغم ممّا تعرّض له من مباحث قيّمة، غير أنّه لم يتعرّض بالتفصيل للنظريّات المطروحة في تفسير منشأ الدين ولا لقائليها (رسل/ فيورباخ/ أنجلز/ ماركس/ دوركهايم/ فرويد/ لوفافر/ ...)، واكتفى بإشارات إجماليّة لها! وكان من المناسب إيرادها ومناقشتها ونقدها، ومن ثمّ تقديم تأصيل قرآنيّ للنظريّة الإسلاميّة في منشأ الدين على المعاني الثلاثة المذكورة.

ثالثًا: جوهر الدين وصدفه
يقدّم الشيخ الآملي خمس تفسيرات للمراد من جوهر الدين وصدفه؛ وهي:
إن كان المراد من الدين هو التديّن؛ فجوهر الدين هو أصوله، وصدف الدين هي فروعه. وإنْ كان المراد من الدين هو مجموعة من القضايا العقديّة والأخلاقيّة والشرعيّة؛ فلا وجود لصدف، بل جميع المعارف العقديّة والأخلاقيّة والشرعيّة هي من الجوهر، وإنْ كانت متفرّعة ومترتّبة على أصل جوهري؛ وهو التوحيد.
جوهر الدين هو الهدف الأعلى للدين (وهو التوحيد)، وصدف الدين هو الأهداف الوسطى للدين (مقدّمات للهدف الأعلى)؛ كالحياة الأخرويّة، والعدالة الاجتماعيّة، وبناء مجتمع نموذجي، و...
جوهر الدين هو ذاتياته ومقاصده، وصدف الدين هو عرضياته والتطبيقات التاريخيّة من قِبَل المسلمين. ويُشكِل الشيخ الآملي على هذا التفسير بافتقاده إلى المعيار الواضح والدقيق في التفكيك بين ذاتيّاته وعرضيّاته، ويستلزم فتح المجال واسعًا أمام المزاج والذوق الاستحساني في تحديد ذاتيات الدين وعرضياته! فضلًا عن أنّ الكلام عن عرضيّات الدين يؤدّي إلى اعتبارها خارجة عن الدين! كما أنّ بعض تطبيقات المسلمين تاريخيًا ليست من الدين؛ كالبدعة، والوضع، والتحريف!

جوهر الدين هو الحقيقة، وصدف الدين هو الشريعة والطريقة. والصدف والقشر يحفظ اللبّ ويحرسه؛ كما أنّ الشريعة والطريقة تحفظ الحقيقة وتحرسها.
بعد عرضه للتفسيرات الأربعة المتقدّمة، يقدّم الشيخ الآملي تفسيرًا خامسًا لجوهر الدين وصدفه، أدقّ منها، ويمثّل لجوهر الدين بالنور القوي، ولصدف الدين بالنور المترشّح منه؛ فجميع الدين جوهر ونور، وإنْ اختلفت درجاته في القوّة والضعف؛ فأصول الدين مثلًا تُعدّ كالنور القويّ وفروعه كالنور الضعيف.

 ويؤكّد الشيخ الآملي على وحدة جوهر جميع الأديان؛ فجوهر الدين ثابت وأبديّ، وتعدّد الشرائع وتغيّرها هو من باب تكامل الدين في مقام التنزّل.

رابعًا: لغة الدين
يتناول الشيخ الآملي البحث في لغة الدين ضمن محورين اثنين:
- الأوّل: البحث في لغة الدين بشكل عام؛ حيث يبيّن خصائص لغة الدين العامّة؛ لجهة تناغمها مع باقي اللغات البشريّة، وكونها مفهومة لدى جميع الناس، وعدم رمزيتها أو غموضها؛ لتعارض ذلك مع الهدف والحكمة من إرسال الرسل(عليهم السلام) بالهداية الإلهية وإيصالها إلى الناس وبيانها لهم وإتمام الحجّة عليهم.
- الثاني: البحث في لغة القرآن الكريم؛ حيث يرى أنّ لسان القرآن واضح للجميع، ظاهر بنفسه، مُظهِر لغيره، وهو عالميّ قابل للفهم في جميع الأعصار والأمصار، فلسان القرآن ليس في لغته وأدبه اللفظي، بل في ما يحمله من ثقافة الفطرة الثابتة والمستقرّة والمشتركة بين الناس على اختلافهم في اللغات والقوميّات والأعراق...
نعم استفادة الجميع من القرآن الكريم ليست بنسبة واحدة؛ فالمعارف القرآنيّة مراتب متفاوتة، الاستفادة منها تختلف باختلاف القابليّات والاستعدادات الفطريّة والمعنويّة والفكريّة بين الناس.
ثمّ يبيّن الشيخ الآملي اختلاف أساليب الدعوة وبيان المعارف في القرآن وتنوّعها بين البرهان والحكمة والموعظة والجدال بالأحسن والقصص والأمثال...، تيسيرًا لفهمها، وتقريبًا لها إلى الأفهام.

ويقسّم الشيخ الآملي القضايا الدينيّة، إلى:
قضايا إخباريّة: وهي بدورها يقسّمها إلى: قضايا عقلانيّة استدلاليّة (بيان بعض الحقائق بالتحليل العقلي؛ كإثبات التوحيد والأسماء والصفات)، وقضايا متعلّقة بالمواضيع والعالم (بيان المادّة الأساسيّة للخِلقة)، وقضايا تاريخيّة (كقصص الأنبياء(عليهم السلام) وأخبار الأمم).

قضايا إنشائيّة: تتضمّن أوامر، ونواهٍ، ووعد ووعيد، ودعاء، واستفهام، وترجٍّ، وتمنٍّ.
قضايا تمثيليّة: تحكي بعض حقائق القرآن وتقرّبها إلى الأفهام؛ بتمثيل واقعي حقيقي لا رمزي خيالي، حتى لو لم نعثر له على مصداق في عالمنا؛ فتميل القرآن في هذه الحالة هو من التمثّل لحقائق غيبيّة بلغة المثال لتقريبها إلى الأذهان، وليس من باب المثال بأمر لا واقعيّة له.

ثمّ يردّ الشيخ الآملي على التعارض الموهوم بين لغة العلم ولغة الدين في بعض القضايا المرتبطة بالإنسان والكون، مرتكزًا إلى مجموعة من الأصول؛ هي: قابليّة الجمع بين لغة العلم ولغة الدين، وإمكانيّة رفع التعارض البدوي بينهما، وكون الاختلاف في المنهج أو الأسلوب أو الطريقة المعتمدة في العلم والدين ليس مستلزمًا للحكم بالتعارض بينهما! فكلّ منها له أسلوبه ومنهجه وطريقته في بيان المعرفة والحقيقة، وكلّ منهما له خصوصياته الإثباتيّة والإبطاليّة للقضايا، كما أنّ للعلم الحسيّ دائرته الضيّقة التي لا تخوّله الحكم على ما هو خارجها إثباتًا أو نفيًا!
وفي الختام يعرض الشيخ الآملي إشكالًا واردة في مباحث لغة الدين؛ وهو أنّ بعض القضايا الكلاميّة والعقديّة محمولاتها أوصاف وأفعال منسوبة إلى الله؛ كما هي منسوبة إلى الإنسان؛ كالعلم، والقدرة، والحكمة...! ثمّ يجيب عنه بأنّ هذه الصفات والأفعال لها معانٍ ومصاديق ذات درجات ومراتب؛ فحيقة العلم هي الكشف والحضور؛ سواء أكان حصوليًا أم حضوريًا، محدودًا أم غير محدود، متناه أم غير متناه، مسبوقًا بالجهل وملحوقًا بالنسيان أم لا، زائدًا على الذات أم لا... فكلّ هذه القيود غير داخلة في جوهر العلم، بل هي من خصائص مصاديقه. وعلى ذلك يكون فهم بقية الصفات والأفعال المنسوبة إلى الله والإنسان معًا. وليس صحيحًا أنّ استخدامها في الله هو على نحو التوسّع والمجاز أو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو ما شابه من توجيهات!

ويُلاحظ على الشيخ الآملي عدم بحثه في فلسفة اختيار اللغة العربيّة لتكون لغةً للقرآن الكريم؛ وهذه المسألة من المسائل المهمّة المطروحة في لغة الدين ضمن علم فلسفة الدين؛ فاختيار اللغة العربيّة لغةً للقرآن الكريم يرجع إلى نكات عدّة؛ أبرزها:

- اتّحاد لسان الرسول ورسالته مع المُرسَل إليهم: وهذا أصل عامّ وسنّة إلهية في الإنذار والتبشير: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[8].
- خصائص اللغة العربيّة اللفظيّة والمعنائيّة: حيث تمتاز اللغة العربية تمتاز عن اللغات الأخرى بأنّها واسعة جدًّا، ولها قدرة عالية على حكاية المفاهيم المعنوية العالية والسامية التي يطرحها القرآن، أكثر من غيرها من اللغات الأخرى[9].
- ثبات اللغة العربيّة: اللغة العربيّة وحدها من اللغات البشريّة التي احتفظت بخصائصها ومميّزاتها مع مرور السنين والقرون؛ بحيث لم يطرأ عليها تغيير أو تبديل جوهريّ في بنيتها؛ إلا ما ندر من دخول ألفاظ بفعل احتكاك الشعوب العربيّة بحضارات وثقافات أخرى، أو ظهور معانٍ جديدة لم تكن متداولة للألفاظ سابقًا؛ وهذا الأمر تستوعبه اللغة العربيّة؛ بما تشتمل عليه من خاصّيّة التعبير المجازي عن معانٍ لها نحو علاقة بالمعنى الحقيقيّ، وخاصّيّات أخرى؛ كالاشتِقاق والترادُف والتعريب... وغيرها من الآليَّات التي تستخدمها اللغة العربيّة لتُجدِّد خَلاياها حتى تُناسِب العصر والمُحدَثات، مع احتفاظها بأُصُولها وألفاظها وقواعدها؛ حتى غدت لُغة الأدب والعلم والحضارة.
- اللغة العربيّة لغة السهولة والوضوح: حيث أكّد القرآن الكريم على صفة كونه بلسان عربي في وجه مَنْ زعموا أنّ هناك شخصاً يعلّم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)[10]. ويُراد بـ«أعجمي»: أنّه غير صحيح، فـ«الإعجام: الإبهام. والعجم خلاف العرب، والعجمي منسوب إليهم. والأعجم: مَنْ في لسانه عجمة، عربيًّا كان، أم غير عربي»[11].

وورد في الحديث الشريف جوابًا عن معنى «لسان عربي مبين»: «يبيّنُ الألسُنَ، ولا تبيّنهُ الألسُنُ»[12].
ومن هنا، فالمراد بالعربية هو: بيان حقيقة أنّ اللغة العربيّة لغة الفصاحة والوضوح والخلو من التعقيد والإبهام، في مقابل الأعجمي المبهم وغير الواضح والمعقّد، وقد اختارها الله تعالى ليبيّن بها معارف وحقائق راقية؛ بلغة فصيحة وبليغة.

خامسًا: العقل والدين
طرح الشيخ الآملي مجموعة من الأسئلة والإشكاليّات المرتبطة بموقع العقل في الدين؛ كالسؤال عن اعتبار العقل في الدين؟ وحدوده؟ ودوره؟ وعلاقته بالإيمان؟... ثمّ عرض آراء مفكّري الغرب واختلافها في تبني أصالة الوحي، أو أصالة العقل، أو بأصالتهما معًا.

ثمّ انتقل إلى بيان العلاقة بين العقل والدين والإيمان في الإسلام، مبيّنًا اختلاف المسلمين في ذلك على فرق ثلاثة؛ هي:
- أصحاب الظاهر: وهم الذين يجمدون في الفهم على ظواهر النصوص الدينيّة ويقصون العقل.
- العقلانيّون: وهم الذين يقدّمون العقل ويحكّمونه على النص الدينيّ.
- العقلانيّون الذين يقبلون بالنقل: وهم الذين يعتقدون بالتناسق والتناغم بين العقل والنقل.
وينبّه الشيخ الاملي إلى أنّه لا تعارض ولا تقابل بين العقل والدين؛ لأنّ الدين هو مجموع معارف العقل والنقل؛ لذا طرح السؤال عن التعارض والتقابل لا بدّ أن يكون بين العقل والنقل، لا بين العقل والدين!
ثمّ يبيّن الشيخ الآملي بعض النقاط حول علاقة العقل بالنقل، ومعرفة العقل التي تحصل عبر مرحلتين؛ هما: العلم بالعقل والمعرفة العقليّة، والعلم بالقواعد والمفاهيم العقليّة.
ويعدّ الشيخ الآملي العقل والنقل جناحا الدين، وتختلف موقعيّة العقل باختلاف المسألة والقضيّة الدينيّة؛ ففي بعض المسائل يتقدّم العقل على النقل؛ كما في أصول الدين، وفي بعضها يتأخّر عن النقل؛ كما في بعض المسائل الأصوليّة؛ كأصالة البراءة أو الاحتياط أو التخيير أو نفي الحرج والضرر، وفي بعضها يتعاضد حكم العقل مع النقل ويؤيّد أحدهما الآخر.
ثمّ يقسّم الشيخ الآملي العقل إلى: نظري (خصوصيّته الإدراك والنظر للحكمة النظريّة والعمليّة معًا)، وعملي (خصوصيّته العمل ووظيفته العزم العملي لا الجزم العلمي)، ويبيّن أسس الحكمتين النظرية والعمليّة وموادّهما، وحجيّة إدراك العقل في الحكمة العمليّة عبر أحد طريقين اثنين هما: التبيين والتنبيه من خلال التجزئة والتحليل العقلي، أو التبيين والتنبيه من خلال النقل.
وكذلك يفرّق الشيخ الآملي بين البرهان العقلي والقياس الفقهي (التمثيل) لجهة الحجيّة؛ فالأخير قياسٌ يُقارن فيه جزئي بجزئي آخر، وينتقل فيه الذهن من حكم جزئي إلى حكم جزئي آخر، وهو غير منتجٍ معرفيًّا؛ لأنّ لكلّ جزئي خصوصيّاته التي لا تسري إلى غيره. في حين أنّ الأوّل؛ وهو البرهان العقلي يتعرّف عن طريق الجامع والكليّ على جزئيات ذلك الجامع.
ويميّز الشيخ الآملي بين العقل وبناء العقلاء، في أنّ الأوّل إنّما هو من سنخ العلم وليس العمل، وأمّا الثاني فهو من العمل، كما أنّ للعقل حجيّة ذاتيّة، وهي غير متوافرة في بناء العقلاء.

ثمّ يتعرّض الشيخ الآملي للعقل في علم الكلام، فيتناول مسألة الحُسن والقبح ومراحل البحث فيها، ويستعرض رأي الأشاعرة ويناقشها، ثمّ يذكر اللوازم والآثار المترتّبة على إنكار الحسن والقبح العقليين.
كما تناول الشيخ الآملي مباحث أخرى مرتبطة بالعقل والدين؛ كمسألة دخول العقل في ميدان الاجتهاد، وبحث الدليل العقلي في علم الأصول، والعقل الديني والعقل الفلسفي، والاستدلال العقلي في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، ودحض شبهة تعارض العقل مع الدين في بعض المسائل الدينيّة؛ كقمع الحريّات والقصاص و...؛ فيجيب عنها: بعدم إدراك العقل لجزئيات الدين، وضرورة التفريق بين العقل والوهم في مقاربة هذه الإشكاليّات!

وفي الجواب عن إمكانيّة الدفاع العقلانيّ عن الدين يرى الشيخ الآملي أنّ كلّيّات الدين تقبل الدفاع العقلانيّ، في حين أنّ جزئيّاته قد لا تقبل الاستدلال العقلي المباشر؛ لقصور العقل عن فهم مناط الحكم فيها     
ثمّ يختم الشيخ الآملي بحثه في «عقلانيّة الإيمان»، ويردّ الإشكالات النافية لها، تارة بأنّ الإيمان على الرغم من تعلّقه بالأمور الجزئيّة لا مانع من إثبات متعلّقه بالعقل؛ لأنّه مصداق لمفهوم وعنوان كلّي يقبل النظر العقلي. وتارة أنّ الإيمان وإنْ كان حصوليًّا غير أنّ متعلّقاته لها واقعيّات خارجيّة لا ترتبط بالأذواق، وبالتالي يمكن إثباته: إمّا بالحسّ والتجربة، أو بالتواتر النقليّ والتاريخيّ، أو بالبرهان العقليّ.

سادسًا: التعدّديّة الدينيّة
تُعدّ التعدّديّة الدينيّة من المسائل الكلاميّة الحديثة المطروحة في علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، وقد تناولها الشيخ الآملي بشكل موسَّع في كتابه، وأثار جملة من الأسئلة حولها؛ وهي:

1. هل المفترض هو تعدّد الأديان أو وجود دين واحد لا يقبل التعدّدية؟
2. هل يمكن ادّعاء تعدّد المعتقدات الحقّة؛ بحيث يمكن للإنسان اتّباع أي دين شاء، وسولك طرق عدّة لبلوغ مرحلة لقاء الله تعالى؟
3. هل بإمكان المتديّن أن يتعايش مع أتباع سائر الديان بسلام وطمأنينة؟
4. عندما تتعدّد الأديان، هل يمكن لأتباع كلّ واحد منها ادّعاء أنّهم سائرون في سبيل النجاة؟ أي هل يمكن لكلّ إنسان نيل النجاة وبلوغ المقصد المنشود بغضّ النظر عن الدين الذي يعتنقه والسبيل الذي يسلكه؟ هل من الممكن ادّعاء أنّ أتباع كافّة الأديان سائرون في الطريق الصحيح الذي هو طريق النجاة والسعادة؟

وأجاب الشيخ الآملي عن فرضيّة بين تعدّديّة الأديان بأنّها غير صائبة؛ نظرًا لثبات الحقيقة الإنسانيّة، وعدم مؤثريّة الزمان والمكان في ثبات الفطرة الإنسانيّة؛ وبالتالي لا بدّ أن يكون الدين الهادف إلى تربية الإنسان واحدًا لا أكثر.
ونلاحظ أنّ الشيخ الآملي ربط بحث التعدّديّة ببحث الأنثروبولوجيا ومعرفة الإنسان؛ وعليه، فلا داعي  عنده للبحث والكلام في تعدّديّة الأديان؛ طالما أنّ الحقيقة الإنسانيّة واحدة؛ فالدين المتكفِّل بتربية الإنسان وإيصاله إلى كماله لا بدّ أن يكون واحدًا.
ويناقش الشيخ الآملي طروحات التعدّديّة الدينيّة وأشكالها المختلفة، فيفنّد ما قام منها على ثنائيّة بُعدَي الإنسان الوجوديين (الروح والبدن) لاستحالة تحميل الأديان المختلفة على الفطرة البشريّة الواحدة؛ بما يستلزم وحدة الكثير، أو كثرة الواحد (وحدة المتعدّد وتعدّد الواحد).
ثمّ ينتقل الشيخ الآملي للكلام عن أنواع التعدّدية المتصوّرة (هدف واحد وسبيل واحد/ أهداف متعدّدة طوليّة/ أهداف متعدّدة عرضيّة/ وحدة الهدف وتعدّد السُبُل/ تعدّد الثقافات والأعراف والتقاليد) ويناقشها، ثمّ يؤيّد منها ما يُرجع الكثرات الوحدة، أو ينتهي إلى هدفٍ واحدٍ، مع رفضه ربط تعدّد الثقافات بتعدّد الدين؛ لخروج العادات والتقاليد عن نطاقِ بحث التعدّدية الدينيّة، مع تأكيده على عدم منافاة وحدة الدين مع إمكانيّة التعايش السلمي بين أتباع الأديان المختلفة.

ويتابع الشيخ الآملي إيراده لطروحات التعدّديّة الدينيّة، فيطرح نظريّة التعدّديّة التشكيكيّة أو نسبيّة الأديان، ويشير إلى أربعة عناصر معتبرة في التعدّدّية التشكيكيّة؛ وهي:


1. تعدّدية الحقيقة.
2. وحدة الحقيقة.
3. تعدّدية ترجع إلى وحدة حقيقيّة.
4. وحدة تسري إلى تعدّدية حقيقيّة.

ويرى الشيخ الآملي أنّ التعدّديّة الموجودة على صعيد الأديان والشرائع السماوية هي تعدّدية نسبيّة في واقع الحال، وهذه النسبيّة ليست حقيقيّة ولا معرفيّة، بل تشكيكيّة، فهي عبارة عن تشكيك على صعيد الحقائق الخارجيّة والمعارف البشريّة؛ لأنّ كلّ شريعة سماوية تتناسب مع متطلّبات العصر التي أقرّها الله تعالى له، والتعدّديّة التي تعود في أساسها إلى وحدة حقيقيّة تعتبر أمرًا حقيقيًّا من الناحية التشكيكيّة وليست مجازًا.
ثمّ تعرّض الشيخ الآملي لمناشىء الرؤية التعدّديّة وأسسها؛ معتبرًا الطرح التعدّدي وليد تيار الشكّ والسفسطة، وقد ربط بينه وبين نسبيّة الفهم وإيمان الشخص بنسبيّة الحقيقة، أو بينه وبين الفهم النسبيّ؛ تبعًا لتفاوت القابليات الفكريّة، وفنّد نسبيّة الفهم واعتبار الحقيقةَ أمرًا مطلقًا لا يُدرَك كنهه؛ فالحقائق الخارجيّة الإمكانيّة محدودة؛ وبالتالي يمكن إدراك كنهها. كما وفنّد القول بتأثّر الحقيقة بفهم الإنسان؛ لرجوع الإدراك إلى الروح التي ليس لها ارتباط بالزمان والمكان ولا دخالة للخصائص البدنيّة الماديّة فيه، وإنْ كانت لها وظيفة الإعداد والتهيئة لحصول الإدراك.

وتناول الشيخ الآملي العلاقة بين التعدّدية والمناهج المعتمدة لمعرفة الدين الحق؛ كالمنهج السوسيولوجي، والمنهج التاريخي، والمنهج السيكولوجي، والمنهج العقلي؛ مبيّنًا عدم جدوائيّة تلك المناهج وقصورها في إثبات الدين الحق، ومؤكّدًا على صحّة المنهج البرهاني العقليّ في معرفة الدين، ومبيّنًا عجز المنهج التجريبيّ وقصوره في هذا الصدد، ومفنّدًا الاستفادات الخاطئة للتعدّديين من بعض الآيات القرآنيّة، ومبيّنًا المراد الصحيح منها.
ثمّ ينتقل الشيخ الآملي لبحث التعدّدية المذهبيّة داخل الدين الواحد؛ ويعزو ظهورها إلى القراءات والتفسيرات المختلفة لأتباع الدين الواحد، لافتًا إلى إمكانيّة قبولها واحتمالها في حال توافرها على مجموعة من المبادئ التي تتبنّها المذاهب (الاعتقاد بصواب سائر المذاهب/ اعتبار الحقيقة أمرًا نسبيًّا/ الالتزام بمنهج تفسيري صائب)، عندها سوف ينحصر الخلاف بينها في مسائل فرعيّة فقط.
ويرى الشيخ الآملي جواز التعدّدية في المذاهب وأحكام الشريعة، مع تأكيده على مراعاة جانب الاحتياط. ثمّ يدفع إشكالًا متوهّمًا حول انسجام الرؤية العرفانيّة مع الرؤية التعدّديّة، ناتج عن الخلط بين التكوين والتشريع؛ فالعارف يرى عالم التكوين جميلًا ومتناسقًا؛ لأنّه من تجلّيات الحقّ تعالى، في حين أنّه يرى نفسه ملزمة بالأوامر واجتناب النواهي الإلهيّة من منظار عالم التشريع؛ فيميّز بين المطيع والعاصي والمؤمن والكافر والمنافق.

ثمّ يستنتج الشيخ الآملي جملة من النتائج الباطلة المترتّبة على نظريّة التعدّديّة الدينيّة؛ وهي: نسبيّة الأخلاق، ونسبيّة الفهم.
ويرى الشيخ الآملي عدم وجود علاقة بين الوحي والتجربة الدينيّة ونظريّة التعدّديّة الدينيّة، وكذلك بين التجربة الشهوديّة العرفانيّة والتعددّديّة الدينيّة، مبيًّنًا تغاير وحي الأنبياء(عليهم السلام) عن التجربة الدينيّة للمتديّنين؛ في أنّ تلقّي الوحي مقرونٌ بالجزم واليقين، وأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدرك الدين بالوحي، لا بعد حصول التجربة الدينيّة؛ كما هو حاصل للمتديّين. كما يُفرّق الشيخ الآملي بين الوحي والتجربة الشهوديّة عند العرفاء، من جهة ثبات الوحي والجزم فيه، وعدم اختلاف الأنبياء(عليهم السلام) فيما يُوحى إليهم، في حين أنّ العرفاء مختلفون في مشاهداتهم، مع احتمال حصول الخطأ فيها.
وفي آخر هذا الفصل يتناول الشيخ الآملي نظريّة التفكيك بين الشريعة والفقه لحلّ معضلة التعدّدية الدينيّة، ويردّها بأنّ التفكيك بينهما فرع إثبات وجود حدود فاصلة بينهما، وبالرجوع إلى القرآن الكريم والسنّة الشريفة نجد أنّ الفقه بالاصطلاح الفقهي الخاصّ يشكّل جزءًا من الشريعة (عقائد/ أخلاق/ أحكام)، وبالاصطلاح العام (معرفة أصول الدين وفروعه = فهم الدين) لا يختلف عن الشريعة (الشريعة مرادفة للدين)؛ وبالتالي لا حدود فاصلة بينهما؛ فيستحيل التفكيك!

ويُلاحَظ على الشيخ الآملي في بحثه لنظريّة التعدّديّة الدينيّة أنّه لم يتعرّض لمسارها التاريخيّ، ولم يذكر من نُسِبت إليهم، ولم يبيّن جذور التعدّديّة هل هي غربيّة أم يمكن إرجاعها إلى بعض الطروحات العربيّة؛ كيوحنا الدمشقي وغيره...
وفي الختام لا بدّ من التنويه بالكتاب الرائد والمميَّز «معرفة الدين» الذي تضمّن أبرز المسائل المطروحة في علم فلسفة الدين؛ هذا العلم الذي تفتقر المكتبة العربيّة والإسلاميّة إليه؛ كما أنّ ما وجد فيها إمّا لم يستقصِ جميع المسائل المطروحة فيه، وإمّا كانت معالجته منقوصة أو غير معمّقة. في حين نجد أنّ آية الله الشيخ الآملي قد أغنى المكتبة الإسلاميّة والعربيّة (بعد ترجمة كتابه) بطرح شامل ومعمّق في مسائل فلسفة الدين؛ وفق رؤية تأصيليّة إسلاميّة ترتكز على القرآن الكريم والسنّة الشريفة والعقل والعقلانيّة.

بطاقة الكتاب
* اسم الكتاب: معرفة الدين (ضمن سلسلة دراسات دينيّة معاصرة (1))
* تأليف: المرجع الديني الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
* تعريب: هاشم الميلاني
* بيانات النشر: ط1، النجف الأشرف، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجيّة التابع للعتبة العباسيّة المقدّسة، 1443هـ.ق/ 2021م
(235 صفحة، حجم الصفحة 17-24).

-------------------------------
[1]- كاتب وباحث في الفكر الإسلاميّ والدراسات القرآنيّة، من لبنان.
[2]- سورة النساء، الآية 82.
[3]- سورة الإسراء، الآية 9.
[4]- سورة النحل، الآية 89.
[5]- سورة الأنعام، الآية 38.
[6]- انظر: الطباطبائيّ، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، لا ط، قم، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، لا ت، ج2، ص130-133؛ ج16، ص193.
[7]- انظر: «السيرة الذاتية لسماحة آية الله جوادي الآملي من لسانه»، الموقع الإعلامي للحوزة العلمية:
 https://hawzah.net
و»الحياة العلمية والقرآنية لآية الله جوادي الآملي»، موقع مؤسسة الإسراء الدولية للعلوم الوحيانية: https://esra.ir
[8]- سورة إبراهيم، الآية 4.
[9]- انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج11، ص75.
[10]- سورة النحل، الآية 103.
[11]- الأصفهاني، حسين (الراغب): مفردات ألفاظ القرآن، ط2، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، قم، نشر طليعة النور؛ مطبعة سليمانزاده، 1427هـ.ق، مادّة «عجم»، ص549.
[12]- الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط5، طهران، دار الكتب الإسلاميّة؛ مطبعة حيدري، 1363هـ.ش، ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ح20، ص632.