البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حرب المئة عام بين إنكلترا وفرنسا

الباحث :  أحمد محسن الخضر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  32
السنة :  خريف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 25 / 2024
عدد زيارات البحث :  453
تحميل  ( 549.283 KB )
تشكِّل حرب المئة عام فصلًا مهمًّا من تاريخ أوروبا في نهاية العصور الوسطى، حرب أسهمت في تكوُّن أوروبَّا الغربيَّة بالمعنى العلمي للكلمة، فمنذ تلك الحرب تمَّ التَّخلِّي عن فكرة أوروبا المسيحيَّة بقيادة واحدة (بابوية – إمبراطورية)، كما ارتسمت معالم قوَّتين رئيستين في غرب أوروبا هما بريطانيا وفرنسا، وسيقع على عاتق هاتين القوَّتين قيادة أوروبا طوال العصور الحديثة. لقد كانت حرب المئة عام أوَّل حرب يتمُّ فيها استخدام الأسلحة النَّاريَّة بصورة فعَّالة في حسم نتائج المعارك، وكانت حرب المئة تبدُّلًا جذريًّا في مفهوم القتال في العصور الوسطى، فبعد أن كانت التزامًا إقطاعين، أمست مهنة سُمح من خلالها للبارونات أن يقوم حولهم روابط تبعيَّة أخرى مبنيَّة على المال، لكنَّ هؤلاء الجنود المرتزقة من المقاتلين صاروا يلتحقون بمن يؤمِّن لهم الأجر الأفضل، ينتقلون من معسكر إلى آخر بمثل سهولة انتقال فرق أدلاء الطُّرق، وشاعت ظاهرة أسر الأثرياء من أجل الحصول على الفدية، حتَّى أنَّ الأسرى كلَّهم صاروا مادَّة تجاريَّة تدرُّ أرباحًا جيِّدة على طرفي النِّزاع. بينما كانت فترات الهدنة خلال هذه الحرب فرصة لتفشِّي ظاهرة القرصنة، وانتشار قطَّاع الطُّرق، ففترات الهدوء تخلِّف مقاتلين عاطلين عن الحرب. لقد كان السُّكَّان المدنيِّون من الطَّرفين الخاسر الأكبر في هذه الحرب، ففي أيَّام القتال كانوا يتعرَّضون للقتل، والسَّلب، والنَّفي، والاغتصاب، وتتعرَّض أملاكهم للنَّهب والتَّدمير، وفي أيَّام الهدن كانوا يتعرَّضون للسرَّقة، والابتزاز، ودفع الرَّائب، والإتاوات دون أدنى رحمة، أو مراعاة للظُّروف السَّيِّئة الَّتي خلَّفتها الحرب، ولعلَّ هذه الظُّروف السَّيئة كانت سببًا في دخول البلاد في دوَّامات من الفوضى الخطيرة؛ وقد تسبَّبت في أكثر من مرَّة في انفجار أحداث عنف، ومواجهات خطيرة، أكل فيها الثُّوَّار لحم نبلاء القصور شواءً.

الكلمات المفتاحية: حرب المئة عام، القارة الأوروبيَّة، إنكلترا وفرنسا، الملك إدوارد، معركة كريسي.

أوَّلًا: المدخل إلى حرب المئة عام
لقد عادت الحرب أدراجها إلى ميادين القارة الأوروبيَّة بصورة لافته خلال القرن الرَّابع عشر، وسرعان ما اتَّخذت المظاهر الحربيَّة أشكالًا مختلفة عمَّا كان عليه الأمر سائدًا من قبل، ذلك أنَّ الدُّول المركزيَّة الَّتي كانت آخذة في النُّموِّ شيئًا فشيئًا نجحت في الحد نسبيًّا من الحروب الفيوداليَّة الخاصَّة، إلَّا أنَّها دخلت فيما بينها في حروب ذات صبغة وطنية، وكانت حرب المائة سنة بين فرنسا، وإنكلترا من أبرزها، إذ أعادت للواجهة الصِّراع الَّذي كان محتدمًا بينهما خلال القرنين الثَّاني عشر، والثَّالث عشر[2].
إنّ مصطلح «حرب المئة عام» الَّذي ابتكره المؤرِّخون المعاصرون، يطلق عادة على المئة سنة الأخيرة من مراحل الصِّراع بين إنكلترا، وفرنسا في العصور الوسطى؛ بين سنتي (1337م-1453م)، فمنذ أن احتلَّ غليوم الفاتح (دوق نورمانديا Normandie الفرنسية) انكلترا سنة 1066م والعداء يسود العلاقات الفرنسيَّة –الإنكليزيَّة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ النُّورمانديِّين استوطنوا إنكلترا، وامتزجوا مع أهلها وصاهروهم؛ فنشأ من جرَّاء ذلك التَّمازج؛ الشَّعب الإنكليزي الحديث، وسبب هذا العداء هو أنَّ ملوك إنكلترا النورمانديين الأصل؛ احتفظوا بأملاكهم في غرب فرنسا، وارتبط كذلك الكثير من كبار الإقطاعيِّين، الَّذين هاجروا إلى إنكلترا، بإقطاعاتهم في الأراضي الفرنسيَّة، وكانت لهم صلة قويَّة بدوق في مقاطعة نورماندیا.

في المقابل وجد ملوك فرنسا في تلك الممتلكات الإنكليزيَّة على حدودهم بلادهم الغربيَّة؛ خطرًا يهدِّد الكيان الفرنسي، ويحول دون وصول الفرنسيِّين إلى حدودهم الطَّبيعيَّة في المحيط الأطلسي، وهكذا لم يهدأ ملوك فرنسا، وظلُّوا يعملون لإزالة النُّفوذ الإنكليزي من غرب فرنسا، في حين تمسَّك الملوك الإنكليز بممتلكاتهم الفرنسيَّة، وقاتلوا الفرنسيِّين في سبيل الاحتفاظ بها. أمَّا السَّبب المباشر «لحرب المئة عام» فكان إصرار ملك إنكلترا إدوارد الثَّالث Edward III (1312- 1377م) على وراثة العرش الفرنسي بعد أن خلى بوفاة الملك شارلز الرَّابع سنة 1328م. وبالإضافة للنِّزاع بين الدَّولتين حول أملاك إنكلترا في غرب فرنسا، فإنَّ هناك أسباب أخرى؛ أهمُّها التَّنافس الإنكليزي –الفرنسي، السِّياسي والاقتصادي في القارَّة الأوروبيَّة وفي البحار[3]. والصِّدامات بين البحارة الإنكليز والفرنسيِّين، ورغبة إنكلترا في بيع الصُّوف الإنكليزي في المدن الاوروبيَّة، والأهمُّ هو تأييد فرنسا لاستقلال اسكتلندا في ثورتها الوطنيَّة سنة 1259م، الأمر الذي وتَّر العلاقات بينها، وبين فرنسا أكثر؛ إذ ساعدت فرنسا الزَّعيم الاسكتلندي روبرت بروس؛ زعيم الثَّورة الاسكتلنديَّة؛ وبفضل هذا الدَّعم انتصرت اسكتلندا عسكريًّا على إنكلترا[4].
إنَّ أهمِّيَّة مصطلح «حرب المئة عام» تتجلَّى في أنَّه يعيد إلى الذَّاكرة ديمومة الضَّربة العظمى، رغم أنَّه يتنافى مع الحقيقة في نواح كثيرة، لأنَّ الحرب لم تكن مستمرِّة بصورة دائمة، بل أخذت شكل هجمات متقطِّعة بين الطَّرفين، وقد تتابعت حوادثها المتكاملة طيلة قرن ونيف، وقد جرت في فترات انقطاع أعمالها العسكريَّة؛ منازعات على نطاق أضيق في بريطانيا، وإسبانيا، وهولندا. ورغم أنَّ الحرب ما تكاد تهدأ حتَّى تنشب من جديد، فقد تخلَّلتها فترات سلم مؤقَّتة؛ كانت بمنزلة استراحة المقاتل للطَّرفين. ضف إلى ذلك أنَّه في كلٍّ من القوَّتين المتحاربتين، كان هناك أحزاب متنافرة، انتهى التَّنافس بينها إلى حروب أهليَّة، هذا ناهيك عن ثورات الفلَّاحين، وفتن المدن، ومؤامرات الأمراء، ومغامرات الأسياد؛ الَّذين استغلَّوا ظروف الحرب وما تخلِّفه من فوضى، وتشرذم لإشباع رغباتهم الوضيعة، كما لا يجب أن يغيب عن بالنا الغارات الفجائيَّة للعصابات المسلَّحة، والقراصنة، واللُّصوص، وقطَّاع الطُّرق[5].

وهكذا يجد المؤرِّخ أنَّ المدنيِّين كانوا الفئة الأكثر تضرُّرًا من أحداث هذه الحرب، إذ عانوا من أسوأ النَّتائج من خلال تدمير ممتلكاتهم وبيوتهم، والاستيلاء عليها، وسلب أراضيهم، وإحراق محاصيلهم، وقتل أبنائهم من قبل جميع الأطراف المتصارعة؛ الخارجيَّة والدَّاخليَّة، لقد كان المدنيِّون الفرنسيِّون في هذه الحرب الشَّعواء أكثر تضرُّرا من المدنيِّين الإنكليز، علمًا أنَّ الأعمال الوحشيَّة الَّتي قام بها الفرنسيِّون، والإنكليز ضدَّ المدنيِّين الآمنين متساوية تقريبًا من حيث عنفها[6].
وممَّا لا شكَّ أنَّ الَّذي زاد عدد ضحايا هذه الحرب عمَّا سبقها من حروب العصور الوسطى السَّابقة، وأضفى شكلًا جديدًا عليها هو التَّطوُّر التكنولوجي، فرغم أنَّه كان بطيئًا، إلَّا أنَّه كان خارقًا، وتجسَّد في ظهور المدفع والبارود، بالإضافة إلى تطوُّر تقنيِّات الحصار. وقد أدَّت هذه المستجدَّات إلى تراجع تدريجي لدور القصور المحصنةles châteaux forts لصالح نوعين من الإقامات، أو المنشآت؛ وهما القصور الأرستقراطيَّة المخصَّصة للإقامة، والاستجمام، والقلاع الواقعة في ملكيَّة الملوك، أو الأمراء. وقد تميَّزت هذه المنشآت بقدرتها على الصُّمود أمام قصف المدافع[7].

ثانيًا: المرحلة الأولى من حرب المئة عام
تسهيلًا لدراسة تاريخ «حرب المئة عام» بين إنكلترا وفرنسا، قام المؤرِّخون بتقسيمها إلى ثلاثة مراحل؛ المرحلة الأولى، وعرفت بالحرب الإدوارديَّة، وتمتدُّ من سنة (1337م–1380م)؛ وخلالها انتصر الإنكليز على الفرنسيِّين، وكانت الكفَّة راجحة لهم[8]، وقد بدأت هذه المرحلة عندما استغل الملك الإنكليزي إدوارد الثَّالث وفاة ملك فرنسا شارلز الرَّابع في سنة 1328م بدون أن يخلف وريثًا ذكرًا يرث العرش الفرنسي، فادَّعى بأحقِّيَّته بالتَّاج الفرنسي؛ متذرِّعًا بكونه حفيد فيليب الجميل ملك فرنسا من ابنته ايزابيلا أخت شارلز الرَّابع، وتحالف مع أحد نبلاء مقاطعة الفلاندر الفرنسيَّة الرَّافضين للحكم الفرنسي، والَّذي تمكَّن من طرد الحاكم الفرنسي، وأيَّد مطالب الملك إدوارد الثَّالث. رفض الفرنسيِّون تلك الادِّعاءات، وحشدوا أسطولًا فرنسيًّا ضخمًا قبالة شواطئ نورمانديا سنة 1336م، فأعلن أدوار الثَّالث سنة 1337م الحرب على فرنسا، وسرعان ما بدأت العمليَّات العسكريَّة بين البلدين في صيف السَّنة ذاتها؛ عندما احتلَّت فرنسا مقاطعة جاسكوني Gascony (دوقية آكتاين Aquitaine) في 24 أيار 1337م، وهذه المقاطعة تشمل معظم الممتلكات الإنجليزيَّة الاقطاعيَّة في الأراضي الفرنسيَّة، وتربطها بإنكلترا علاقات اقتصاديَّة، وتجاريَّة مهمَّة[9].

لقد بادر الفرنسيِّيون بهجوم على السَّواحل الإنكليزية في 24 آذار 1338م، انطلاقًا من ميناء كاليه Calais إلى صولنت؛ حيث نزلوا، وأحرقوا مدينة بورتسموث ذات الأهميَّة الاستراتيجيَّة، وفيها تمَّ نهب المؤن، والامتدادات الإنكليزيَّة، وإحراق المنازل، والمخازن، والأرصفة، وقتل السُّكَّان المدنيِّين الآمنين، الَّذين لم يتسنَّى لهم الفرار، أو أنَّهم أسروهم، وأخذهم عبيدًا. ثمَّ هجم الفرنسيِّون على حاميات الجزر الإنكليزيَّة المنتشرة في القتال، وتمَّ إعدام أفرادها بدم بارد، كما تمَّ إعدام جميع أفراد طواقم السُّفن الإنكليزيَّة الَّتي وقعت في قبضة الفرنسيِّين. ردَّت إنكلترا بشنِّ غارات على طول السَّواحل الفرنسيَّة، إلَّا أنَّ المبادرة بقيت بيد الفرنسيِّين، الَّذين تمكَّنوا من مهاجمة مدينة ساوثهامبتون؛ ففرَّ سكَّانها إلى الريف، ولم تصمد سوى حامية القلعة، وسرعان ما سقطت المدينة، فكرَّر الفرنسيِّون مذابح بورتسموث؛ حيث تمَّ تدمير المدينة عن بكرة أبيها، وذبح الأسرى بدم بارد، ونهبت الأرزاق الَّتي تعادل آلاف الجنيهات، وبعد عدَّة مناوشات بين الأسطولين الفرنسي والإنكليزي، أجبر فصل الشِّتاء الفريقين المتنازعين على إيقاف عمليِّات القتال. بينما شهد العام الجديد (1339م) وضعا مختلفًا؛ فقد انتزع الإنكليز زمام المبادرة من الفرنسيِّين، بعد أن شكَّلوا أسطولًا بحريًّا خلال فصل الشِّتاء، وتمَّ استخدامه في الإغارة على الشَّواطئ الفرنسيَّة، واحراق مدينتيِّ أولت ولو تريبورت، وفي تدمير أسطول فرنسي في ميناء بولوني Boulogne.
لقد تمكَّن الأسطول الإنجليزي في تحقيق انتصارات استراتيجيَّة، ومهمَّة في هذه الحرب، بعد نجاح هجومه على جزيرة كادزاند Cadzand التَّابعة الى كونت الفلاندرز، وإبادة حاميَّتها العسكريَّة بوحشيَّة مفرطة. كما تمكَّن الأسطول الإنكليزي في 24 حزيران 1340م من تدمير الأسطول الفرنسي، وهزيمته في معركة سْلويْس Sluis البحريَّة، والاستيلاء على معظم سفنه، وقتل نحو 20 ألف رجل، ليؤكِّد الإنكليز بذلك سيطرته التَّامَّة على القتال الإنجليزي، ما منحهم المجال للنُّزول، ومهاجمة السَّواحل الفرنسيَّة[10].
أعلن الملك إدوارد من نفسه ملكًا على فرنسا في مدينة غنت في 26 حزيران 1340م بعد سلسلة من المعارك القصيرة، وغير الحاسمة؛ خاضها في الأراضي المنخفضة[11]، وبعد ستِّ سنوات (أي في تموز 1346م) قام الملك إدوارد بغزو فرنسا، عندما رست أحدى قوَّاته الحربيَّة في ميناء سانت فاست Vasst على السَّاحل الشَّمال الشَّرقي من شبه جزيرة نورماندي -وعلى بعد عدَّة أميال من هذا الموقع، نزلت قوَّات الحلفاء في الحرب العالميَّة الثَّانية- ومن المحتمل أن يكون تعداد القوَّات الإنكليزيَّة خلال هذا الإنزال قد بلغ خمسة عشر ألفًا، لكن اللَّافت للانتباه هو التَّشكيل الغريب لها، فبدلًا من الفرسان ثقيلي العدَّة بخيولهم، والَّذين كان من الصَّعب نقلهم عبر بحر الشِّمال العاصف، فإنَّ الجيش في معظمه كان يتكوَّن من الخيَّالة خفيفي التَّسليح، ورماة السِّهام الَّذين كانوا يحملون أقواسهم الطَّويلة القوِّيَّة، كان هدف إدوارد هو إجراء غارة سريعة، ووساعة النِّطاق عبر الأراضي الفرنسيَّة؛ لضرب معنويَّات خصمه، وتدمير موارده، وقد شقَّ الجيش طريقه متقدِّمًا ينهب، ويسلب، ويحرق القرى التَّعيسة الَّتي مرَّ بها في فالجونز، وكارنتان Carentan، وسانت لوى Sant- Lo الَّتي تحوَّلت إلى كتل من الحجارة بعد تدميرها تمامًا[12]. بينما كان الأسطول الإنكليزي يسير بمحاذاة السَّاحل، في موازاة الجيش البريِّ يعيث هو الآخر فسادًا في هذا السَّاحل، لمسافة تصل إلى ثماني كيلومترات في الدَّاخل، وقد استولى على كمِّيَّات هائلة من الغنائم. ثمَّ تقدَّم الجيش الإنكليزي إلى أن وصل إلى مدينة كان Caen؛ وبسبب إهمال تجديد تحصيناتها اللَّازمة للدِّفاع عنها، سقطت المدينة، فاستباحها الجيش مدَّة خمسة أيَّام، وذبح فيها نحو خمسة آلاف إنسان، وأسر عددًا من نبلائها، ثمَّ تحرَّك الجيش جنوبًا باتِّجاه باريس في الأوَّل من آب من السَّنة ذاتها.

سقطت مدينة كان في الوقت الَّذي كان فيه الملك فيليب قابعًا بالقرب من باريس، في جيش كبير ينتظر المواجهة، تقدِّم فيليب بغرض مبارزة الملك إدوار الثَّالث في المكان الَّذي يختاره، وكان هذا نوعًا من التَّحدِّي الشَّائع بين فرسان العصور الوسطى، إلَّا أنَّ إدوار كانت لديه أفكار أخرى، فقد نجح في إصلاح أحد الجسور المحطَّمة فوق نهر السين عند مدينة بواسي Poissy بعد أن أحرقها. زوحف الجيش الفرنسي رأسًا إلى الشَّمال الشَّرقي لتأمين إقليم الفلاندرز، كان الإنكليز قد وصلوا إلى موقع يشرف على نهر أيفيل Abbeville مستفيدين من عنصر الوقت، وهناك استغلُّوا مخاضة يسهل عبورها؛ عندما يكون مستوى ماء النَّهر منخفضًا بسبب الجزر، فاجتاز الجيش الإنكليزي النَّهر تحت حماية النِّيران الَّتي أشعلها رماة السِّهام. لكن عندما وصل فيليب إلى المخاضة نفسها، كان منسوب الماء في النَّهر قد ارتفع بفعل المدِّ، فتعذَّر معه عبور تلك المخاضة. وبينما كان إدوار قد تحصَّن بجيشه في مكان مرتفع؛ بالقرب من قرية كريسي Crécy، على حافَّة هضبة صغيرة يحيط بجوانبها كثير من الأشجار الكثيفة، كان الجيش الفرنسي المطارد فقد أعياه المسير، وشمس آب المحرقة، وغدوا في حال من الفوضى يرثى لها[13].
اصطدم الجيشان في الميدان في 26 آب 1346م، ولعلَّ هذه المعركة كانت أقسى الهزائم الَّتي مُني بها الجيش الفرنسي، وتكبَّد فيها خسائر فادحة، كما أنَّها تمثِّل ذروة انتصار الإنكليز بقيادة الملك إدوارد الثَّالث على الفرنسيِّين في المرحلة الأولى من حرب المئة عام، ولا تُفسر هزائم الفرنسيِّين في كريسي بفارق الشَّجاعة، أو العدد، بل بتفوُّق النبَّالين الإنكليز أوَّلًا، وبسوء توزيع الجنود الفرنسيِّين قبل المعركة ثانيًا[14]، والأهمُّ هو استعمال الإنكليز لسلاح البارود الَّذي قلب موازين المعركة؛ فقبل الاشتباك أخرج إدوارد الثَّالث سلاحًا جديدًا؛ هو عبارة عن أنابيب معدنيَّة من الحديد يبلغ طول الواحد منها خمسة أقدام، كان قد تمَّ حشوها بمسحوق أسود (البارود) وتمَّ إشعالها، فكانت تقذف كرات من الحديد، والحجارة يبلغ قطر الواحدة منها ثلاث بوصلات، فكان اللَّهب المقذوف من هذه البنادق، والانفجار الَّذي تحدثه، والكرات المندفعة تبدو للفرنسيِّين، وكأنَّها سحر شيطاني. ورغم أنَّ الخيَّالة الفرنسيِّين ولَّوا مدبرين إلَّا أنَّ وابل القذائف الإنكليزيَّة جعلهم يسقطون وسط الأحراش من على جيادهم المضطربة. ورغم أنَّ بعض الفرنسيِّين الشُّجعان وقفوا بين أكوام الموتى، وقليل منهم وصل إلى خطوط القتال الانكليزيَّة، إلَّا أنَّه لم يُقدر لأحد منهم أن يخترقها. وعند حلول الظَّلام انسحب ما تبقَّى من الجيش الفرنسي، بعد أن خسر ما يقارب ثلث جنوده، بما فيهم نخبة فرسان الفرنسيِّين؛ الَّذين تمَّ إحصاؤهم فيما بـ1542 ما بين لورد ودوق وكونت، يضاف لهم شقيق فيليب تشارلز الثَّاني وحلفاؤه: الملك جون من بوهميما، ولويس الثَّاني ملك نيفير، بينما نجا فيليب بنفسه[15].

لقد كانت معركة كريسي من المعارك الحاسمة في التَّاريخ، فقد نتج منها تدهور قوَّة فرنسا قرنًا من الزَّمان، كما كانت تلك المعركة نقطة البداية لتفوُّق النُّفوذ الإنكليزي في الشُّؤون الدَّوليَّة. ومن النَّاحية العسكريَّة كانت علامة فارقة على تدهور نظام الفروسيَّة، وحلول الأسلحة المتفجِّرة محلَّه، حيث حلَّت الأسلحة النَّارية محلَّ السَّيف والبلطة؛ الَّتي كانت تُستخدم في الاشتباك الفردي. وفي مجال القدرات الفرديَّة فإنَّ البسالة أخذت تخلي مكانها للذَّكاء، أو الدَّهاء في اختيار الأماكن الدِّفاعيَّة، والمحصَّنة، كما أصبح الفارس النَّبيل مجرَّد هاوٍ، وحلَّ محلَّه الجندي المحترف. والأهمُّ أنَّ الحرب أصبحت صنعة وعملًا تجاريًّا[16]، ما أثَّر تأثيرًا عميقًا في تكوين، وبنية الجيوش الأوروبيَّة، إذ سمح البارونات أن تقوم حولهم روابط تبعيَّة أخرى، مبينة على المال، وهكذا تعاقد البارونات الإنكليز مع فرق مأجورة من الجنود المرتزقة، وصار يتمُّ تنفيذ الحرب وفق عقود مع فرق من المرتزقة، ويتمُّ شنَّها في أيِّ مكان دون إقامة اعتبار للجنسيَّة. وهذا ما سينعكس سلبًا على المجتمع الأوروبي بصورة عميقة، لأنَّ هؤلاء الجنود المرتزقة من المقاتلين صاروا يلتحقون بمن يؤمِّن لهم الأجر الأفضل، ينتقلون من معسكر إلى آخر بمثل سهولة انتقال فرق أدلَّاء الطُّرق[17]، ولم يعد الفرسان أنفسهم يحاربون من أجل الالتزامات الإقطاعيَّة، أو الولاء، بل أخذوا يحاربون من أجل تحقيق المكاسب، وكان أعلى طموحهم أسر بعض النُّبلاء من أجل الحصول على فدية كبيرة من ذويهم[18].
لقد استراح الإنكليز بعد معركة كريسي يومين دفنوا خلالها قتلاهم، ثمَّ اكملوا طريقهم شمالًا في تدمير المدن، والبلدات الفرنسيَّة، بما في ذلك مدينة ويسان؛ ميناء الإنزال العادي للشَّحن الإنكليزي في شمال شرق فرنسا، وخارج هذه المدينة المحترقة عقد الملك إدوار الثَّالث مجلسه الحربي، وقرَّر أخذ ميناء كاليه البحري. لقد رأى الإنجليز بعد معركة كريسي أنَّ من حقِّهم الاحتفاظ بجاسكوني، ولما كان الإنكليز قد احتلُّوا ميناء كاليه في 3 آب 1347م بعد حصار ناجح، وحصلوا بموجب ذلك على ميناء بحري رئيس على القنال الفرنسي، أسكنه الملك إدوارد بالمستوطنين الانكليز، أدرك الفرنسيُّون صعوبة الموقف، لا سيَّما بعد انتشار مرض الطَّاعون الأسود في أوروبا؛ الأمر الَّذي دفع بالملك فيليب السادس Philip VI ملك فرنسا إلى عقد هدنة (كاليه) في الثَّامن والعشرين من أيلول 1347م[19]. لقد كانت معاهدة مُذلَّة لفرنسا؛ حدًّا دفعت قضاة كاهور البلديِّين؛ الَّذين أرغمتهم معاهدة كاليه على الاعتراف بإدوارد الثَّالث ملكا عليهم؛ ليصرخوا: «واعذاباه، ما أصعب التَّخلِّي عن السَّيِّد الطَّبيعي وقبول سيِّد أجنبي مجهول»[20].

إنَّ الأزمات الدَّاخليَّة الَّتي عصفت بإنكلترة، واضطراب الحكم، وخلاف الملك الإنكليزي مع أسقف كانتربُري، وإفلاس البيوتات الماليَّة؛ الَّتي كان يعتمد عليها إدوارد في تمويل حملاته، وانتشار مرض الطَّاعون؛ الَّذي أودَى بحياة 20٪ من السُّكان في سنة 1347م، دورٌ كبير في تراجع الملك إدوارد عن مشاريعه في فرنسا؛ إذ تخلَّى عن المطالبة بعرشها، مقابل منحه مقاطعة آكتاين بكاملها، وكانت من أغنى مقاطعات جنوبي غربي فرنسا[21]. وفي المقابل أرهقت الحرب الفرنسيِّين؛ فالحملات العسكريَّة الإنكليزيَّة خلال الرِّيف الفرنسي كان لها تأثير سلبي كبير؛ من خلال سياسة الأرض المحروقة، والسَّلب المنظَّم، وتدمير البيوت، وإتلاف الاقتصاد، وإحراق المحاصيل. كان الإنكليز يهدفون من هذه الوحشيَّة المفرطة قتل الرُّوح المعنويَّة عند الفرنسيِّين، وإجبارهم على الاعتراف بالهزيمة، وإجلاسهم إلى طاولة المفاوضات. إنَّ الإفراط في مهاجمة المدنيِّين من كلا الجيشين المتصارعين؛ كانت سياسة مدروسة؛ فالانتصار عليهم كان مضمونًا كونهم عُزَّل، ثانيًا كان الانتصار عليهم يعني نهب مواردهم، ثالثًا كان الانتصار عليهم هزَّة عميقة للتَّاج الَّذي يتَّبعون إليه؛ حتَّى أنَّ رجل الدِّين الفرنسي Honore Bonet كتب: «في هذه الأيَّام كلُّ الحروب موجَّهة ضدَّ الأناس الفقراء، وضدَّ حاجيَّاتهم»، بمعنى أنَّها لم تكن حربًا عادلة، بل كان سرقة على نطاق واسع، لذلك أدان كثير من المؤرِّخين تلك الحرب، حتَّى أنَّهم وصفوا الهجوم الإنكليزي الأوَّل على طول السَّاحل الفرنسي بأنَّه عمليَّة سرقة موصوفة، فبعد أن تقدَّم الجنود، والنَّبَّالون، والجنود المشاة على طول ساحل البحر؛ سرقوا ونهبوا كلَّ شيء، وكلَّ ما عجز الإنكليز عن سرقته أحرقوه، ما تسبَّب بأضرار كبيرة على الاقتصاد، والنَّقد الفرنسي ما بين سنتي 1350-1360م[22].
لقد تجدَّد القتال في سنة 1355م بعد أن كان الملك إدوارد الثَّالث قد اتَّخذ قرارًا بإرسال حملة عسكريَّة لغزو فرنسا تحت قيادة ابنه إدوارد أوف وودستوك Edward of Woodstock المعروف باسم الأمير الأسود، وكانت تلك المرَّة الأولى الَّتي يخرج فيها هذا الأمير قائدًا خارج إنكلترا، وكان عمره في ذلك الحين خمسة وعشرين عامًا، فقام بحملة على الجنوب الفرنسي؛ تمكَّن فيها من إحراز جملة من الانتصارات العسكريَّة، في عدَّة أماكن موزَّعة في جنوب فرنسا، وقد حرص على الاستيلاء على مواقع متجاورة نوع ما حتَّى يكوِّن منها جبهة واحدة. والويل للمدن الَّتي لا تشتري سلامتها بالمال؛ فقد أساء الأمير الأسود في هذه الحملة معاملة أهالي المدن الَّتي استولى عليها، ما بين حرق، وتخريب، وتدمير، مثلما فعل بمدينة كاركاسون Carracasson، ومدينة ناریون Narbonne، وكثير من الأراضي الفرنسيَّة الأخرى[23]، فكان الاستيلاء على مدينة يعني أباحتها للسَّلب، والنَّهب، وهكذا كانت الحرب غذاءً للحرب. وقد ترك لنا المؤرِّخون وصفًا لما قام به في إحدى قرى الرِّيف الفرنسي بعد أن دخلها، وكانت قرية غنيَّة بالمؤن والحبوب، فما كان منه إلَّا أن حطَّ الرِّحال فيها ليومين أو ثلاث، حتَّى أنعش جيشه وأراحه، ثم غادرها بعد أن دمَّر مؤن ساكنيها؛ فلا يستفيد منها خصومه، فثقب براميل النَّبيذ، وأحرق الحنطة والشُّوفان[24]، طبعًا بعد أن كان الجنود الإنكليز قد حملوا على ظهور خيولهم، الأمر الَّذي جعلها تعجز على التَّقدُّم، فعلى سبيل المثال كان باديفول لا يتنقل من مكان إلى آخر، إلَّا مصطحبًا عربته ذات العجلات الأربع، كي ينقل عليها ما نهبه من القرى الفرنسية، ودامت الحال على هذا المنوال حتَّى أوعز ملك نافار بقتله بالسُّم، ووضع يده على ثروته، وهكذا وجد المدنيِّون الفرنسيِّون أنفسهم الخاسر الأكبر أمام تقدُّم الجيوش الإنكليزيَّة[25]. أمَّا المدن الَّتي وجد الأمير الأسود صعوبة في النَّيل منها، وقبل أهلها شراء سلامتهم بالأموال، فإنَّه أجبر سكَّانها على تقديم الرَّهائن، ودفع ثمن سلامة مدنهم غرامات باهظة؛ استخدمها في تسليح جيشه، ودفع مرتَّبات جنوده[26]. لقد قاومت بعض المدن الفرنسيَّة تقدُّم الأمير الأسود، ما دفعه لفرض الحصار عليها؛ وحتَّى في هذه المدن كان المدنيِّون فيها هم الخاسر الأكبر أيضًا، فالرِّجال كان عليهم أن يتحمَّلوا أعباء حرب الحصار، وكانوا يتعرَّضون للقتل مع نسائهم، وأطفالهم متى سقطت مدنهم، الَّتي كانت تتعرَّض للنَّهب، ثمَّ للإحراق، والتَّدمير[27].

تقدَّم الجيش الإنكليزي في الأراضي الفرنسيَّة حتَّى وصل إلى نهر لورا في تور، وهناك فشلوا في الاستيلاء على القلعة، أو أحراق المدينة بسبب عاصفة مطريَّة غزيرة، سمحت هذه الأحداث بلحاق الجيش الفرنسي بالجيش الإنكليزي، وسرعان ما اصطدما في معركة بواتييه Poitiers في 19 أيلول 1356م، فكانت تكرارًا لما وقع في معركة كريسي، فقد انهزم الفرنسيِّون على الرَّغم من تفوُّقهم العددي على الإنكليز؛ الَّذين تفوَّقوا عليهم بتكتيكهم الحاسم[28]، لا بل إنَّ الإنكليز قد تمكَّنوا في هذه المعركة من أَسر جون الثَّاني John II (1350- 1364م) ملك فرنسا مع ابنه الصَّغير، والكثير من النُّبلاء الفرنسيِّين، إلى أن دفع الملك فدية كبيرة؛ فكانت أعنف خسارة تلقَّتها فرنسا، وأشدَّ صفعه تعرَّضت لها، حتَّى أنَّ البلاد صارت مسرحًا للفوضى[29].
إذًا وقع الملك أسيرًا، ووقع على ولي العهد الشَّاب، وعديم الخبرة إنقاذ الموقف، لقد دخلت البلاد في دوَّامة من الفوضى؛ ولعلَّ أبشع فصول تلك الفوضى هي ثورة ایتين مارسيل Etienne Marcel، نائب التُّجَّار في باريس، وروبرت لوكوك Robert Loqoc أسقف لاون Laon، حيث قاد مارسيل ولوكوك الثُّوار في باريس في نوفمبر ١٣٥٧م، ومارسوا عمليَّات العنف، والسَّطو على المناطق الرِّيفيَّة إبَّان السَّنوات الَّتي أعقبت هزيمة بواتييه، واستغلَّ العوامُّ هذه الأوضاع، وثاروا مطالبين ببعض حقوقهم الَّتي فقدوها، فقد قاد مارسيل هؤلاء الثُّوار المسلَّحين بعد أن تحوَّل زعيمًا للدهماء، وخطيبًا شعبيًّا يستغلُّ الاستياء العام لكسب النُّفوذ السِّياسي، وهكذا ووقعت فرنسا في حرب أهلية بين ولي العهد شارل وبين أنصار مارسيل، وما عقد الموقف أكثر أن مارسيل تحالف مع وليم كارل Karle زعیم ثورة الجاكري Jacquerie، وهي الثورة التي اشعلها الفلاحون في نهاية أيار ١٣٥٨م، والَّتي اتَّصفت بكلِّ صفات العنف والوحشيَّة[30].
فما هي ثورة الجاكري Jacquerie؟ بعد أن تكبَّد المدنيِّون الفرنسيِّون معظم مشاق الحرب من خلال العنف المباشر عليهم، وعلى أملاكهم، أو من خلال الإتاوات، ومصادرة الممتلكات، والعقارات؛ وحقيقة فشل طبقة النُّبلاء الفرنسيَّة في ساحة المعركة، وعدم قدرة الحكومة الفرنسيَّة إيقاف المرتزقة عند حدِّهم في نهب موارد السكَّان المدنيِّين، والضَّرائب المتزايدة الَّتي فرضتها الحكومة الفرنسيَّة لتمويل الحرب، وبالتَّالي حمَّل الفلَّاحون الفرنسيِّون الطَّبقة الأرستقراطيَّة مسؤوليَّة التَّعاسة الَّتي يعيشون بها، ولم يكن من المستغرب ذلك السَّخط الشَّعبي الَّذي نما بينهم، والَّذي سرعان ما تحوَّل إلى ثورة دامية عُرفت بثورة الجاكري؛ نسبة إلى قائدها جاك بون أوم Jacques Bonhomme، وهذا ما يكشف لنا أنَّ هذه الانتفاضة كانت سياسيَّة، واجتماعيَّة في الآن ذاته، وهي الانتفاضة الأكثر شهرة في تاريخ فرنسا[31].
لقد كانت شرارة الثَّورة الأولى بصدور قانون يلزم الفلاحين بحماية قصور النُّبلاء؛ الَّتي كانت هي بالأصل بمنزلة رمزٍ لقمعهم وحرمانهم، وهكذا بدأ الفلَّاحون بمهاجمة بيوت النُّبلاء بدلًا من حمايتها، والَّتي كان الكثير منها يشغلها الأطفال، والنِّساء فقط، بينما كان الرِّجال في جبهات القتال مع الإنكليز، وكثيرًا ما كان يتمُّ ذبح ساكني هذه القصور، ونهب ثرواتهم، وإحراق ممتلكاتهم في نوع من العربدة الَّتي لم تعرفها فرنسا من قبل. ومن أبشع الصُّور الَّتي وصلتنا؛ هي أن َّجماعة من الثُّوَّار قامت بقتل أحد السَّادة النُّبلاء، ثمَّ قام أفرادها بشواء لحم المغدور على النَّار أمام زوجته وأولاده، ثمَّ أمروا الزَّوجة أن تشاركهم في تناول هذا الشِّواء الآدمي للحم زوجها. ورغم أنَّ الثَّورة امتدَّت على رقعة واسعة من فرنسا، إلَّا أنَّها قمعت بعد أسبوعين فقط، وبمنتهى القسوة؛ إذ قام الجيش الفرنسي بمذابح رهيبة ضدَّهم، ونجح برجوازية باريس من قتل مارسيل[32].

وبالعودة إلى ساحة الصِّراع بين إنكلترا وفرنسا؛ استغلَّ الملك إدوارد حال الفوضى العامَّة في فرنسا؛ فجمع جيشه في كاليه في أواخر صيف سنة 1359م، وكان يهدف إلى الاستيلاء على مدينة ريمس Rheims، إلَّا أنَّ المدينة نجت من السُّقوط بفضل تحصيناتها، فاتَّجه الإنكليز في ربيع سنة 1360م صوب باريس، فتعرَّض الجيش لعاصفة هوجاء كادت أن تفتك بهم؛ فيما يعرف بـ«الإثنين الأسود»، حتَّى أنَّهم خسروا نحو ألف رجل، وستَّة آلاف حصان، ويبدو أنَّ هذه الخسارة دفعتهم للتَّنازل؛ وعقد السَّلام الأوَّل مع ولي العهد الفرنسي، فيما عُرف بمعاهدة بریتاني Brétigny سنة 1360م، والَّتي اضطرت فيها فرنسا إلى قبول الشُّروط الإنكليزيَّة، ومنها الاعتراف بسيطرة إنكلترا على مقاطعات واسعة من الأراضي الفرنسيَّة، ودفع فدية ضخمة من أجل إطلاق سراح جون الثاني[33].
في الواقع لم تكن هذه المعاهدة نهاية مأساة الحرب بالنِّسبة للمدنيِّين الفرنسيِّين، ففترة الهدوء الَّتي أعقبت هذه المعاهدة خلَّفت مقاتلين عاطلين، عن الحرب، ومرتزقة عاطلين عن العمل، ضف إلى ذلك انتشار اللُّصوص، وقطَّاع الطُّرق على طول الطُّرق السَّريعة، وفي الغابات، والمناطق غير المأهولة، فأخذوا يهاجمون المسافرين بدون رحمة أكثر من أيِّ وقت مضى، لا يسرقون المسافرين فقط، بل كانوا يتلذَّذون في قلع حناجرهم بدون رحمة، وهكذا حتَّى في أوقات السِّلم، والهدنة لم ينعم السُّكَّان المدنيِّون بالأمن والأمان[34].
لقد كان المرتزقة يتمنَّون دائمًا أن تطول الحروب وتستمرَّ، فقد قال جوابجون هوكوود لبعض الرُّهبان الذَّين تمنَّوا حلول السَّلام: «أتريدون أن يتمنَّى الله جوعا لي؟ فأنا أعيش من الحرب كما تعيشون أنتم من الصَّدقات»، أمَّا معاصره أيمريغو مارشيه فقد عبر لفرواسار عن أسفه لإنقاعه باكرًا عن «عمل الخير»؛ أي عن أعمال السَّلب والنَّهب، إذ كان يقول: «آه كم كنَّا سعداء؛ حين كنَّا نسير ممتطين خيولنا، ونجد في الأرياف كاهنًا غنيًّا، أو على الطُّرقات تاجرًا ثريًّا. كنَّا إذن نفرض الفدية على هوانا، وكنَّا كلَّ يوم نكسب مالًا جديدًا»[35]. في الواقع لقد أسهمت الأزمة الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة بدورها في تزايد عدد المشرَّدين، الَّذين كلَّما وجدت مجموعة منهم من يقودها، تحوَّلت إلى فرقة مسلَّحة، أو تنظيم عسكري، يقوم بعمليَّات سلب، ونهب أكثر بشاعة من العمليَّات الَّتي كان يقوم بها المحاربون النِّظاميِّون[36].

ويبدو أنَّ الأمير الأسود ولي عهد انكلترا لم يكتفِ بما حقَّق من مكاسب ومغانم، فوضع نصب عينيه إفقار فرنسا، بحيث تظلُّ عاجزة عن النُّهوض، وعملًا بهذه الخطَّة استقدم عصابات من انكلترا، أطلقتها في فرنسا تسلب، وتنهب، وتحرق القرى الفرنسيَّة؛ وقد استولت هذه العصابات على مدينة ليون Lyon، وكذلك على قلعة بريجنيه Brignais قرب ليون، وقد أحرزت فيها انتصار على القوَّات الفرنسيَّة، ثمَّ سيطرت على مدينة أفينون ونهبتها، وسيطرت كذلك على مدينة بون–سانت- اسبري Pont – Saint- Esprit، وذبحوا الكثير من نبلاء المدينة، وهتكوا أعراض النِّساء، واستولوا على ثروات كبيرة، ولكن عندما اتَّحدت هذه العصابات مع شارل السَّيِّئ Charles de Navarre (١٣٣٢-١٣٨٧م) ملك نافار؛ هُزمت هزيمة ساحقة على يد القائد الفرنسي برتراند دي جویسكلین Bertrand Du Guisclin في معركة كوشریل Cocherelفي نورمانديا سنة ١٣٦٤م[37].

ثالثًا: المرحلة الثَّانية من حرب المئة عام
لقد بدأت المرحلة الثَّانية من حرب المائة عام، والَّتي عرفت بتسمية الحرب الكارولينيَّة نسبة الى شارل الخامس Charles V ملك فرنسا، سنة 1369م، بعد أن ساءت أحوال الأقاليم الفرنسيَّة الَّتي سيطرت عليها إنكلترا بمقتضى معاهدة بریتاني، نتيجة كثرة الضَّرائب، وانتشار العصابات الَّتي تقوم بعمليَّات السَّلب والنَّهب، فشكا باروناتها لملك فرنسا شارل الخامس أمرهم؛ فطلب الملك الفرنسي من الأمير الأسود الحضور للبلاط الفرنسي للنَّظر في التظلُّم الَّذي رفعته مقاطعة أكويتين ضدَّ إدارته لها، فلَّما رفض الأمير الأسود الحضور عُدَّ ذلك عاصيًا لسيِّده الإقطاعي؛ بحسب ما تعارفت عليه العادات، والتَّقاليد الاقطاعيَّة آنذاك، ممَّا دفع بشارل الخامس إلى مصادرة المقاطعة في 30 تشرين الثاني 1369م، وإعلان نهاية معاهدة بریتاني، فاستأنف إدوارد الثَّالث ادِّعاؤه بالعرش الفرنسي، وعادت الحرب الى الاشتعال مجدَّدًا[38].
بدأ الفرنسيِّون باستهداف المدنيِّين الإنكليز على ساحلهم الجنوبي، وذلك من خلال الهجمات البحريَّة السَّاحليَّة، ففي سنة 1370م هاجم الفرنسيِّون السَّاحل الجنوبي الإنكليزي، وقاموا بسلب القرى والبلدات، وقد عانى الصَّيَّادون الإنكليز، وعائلاتهم الَّتي كانت تسكن ذلك السَّاحل من الهجمات الفرنسيَّة، ولعلَّ أشهر تلك الهجمات عندما هبط الفرنسيِّون على ساحل مقاطعة Sussex قرب حدود كنت Kent، وهي قرية كبيرة يقطنها صيَّادو الأسماك والبحَّارة، فسلبوا البلدة، وأحرقوها عن بكرة أبيها، ثمَّ أخذوا سفنها، وهكذا يظهر أنَّ الفرنسيِّين لا يختلفون عن الإنكليز في رغبتهم في مهاجمة المدنيِّين العزَّل، والآمنين، عمومًا لم يتمكَّن الفرنسيِّون من القيام بهذا العمل دائمًا، لأنَّ معظم الحرب كانت رحاها تدور في بلادهم، وبالتَّالي كانت هناك صعوبة كبرى في إرسال حملة عسكريَّة إلى إنكلترا دائمًا[39].

لقد خضعت مدينة ليموج Limoges للسَّيطرة الإنجليزيَّة وفقًا لمعاهدة بریتاني، وقد ولَّى الأمير الأسود أسقف المدينة عليها، وبما أنَّ معاهدة بریتاني انتهت، قرَّر الملك الفرنسي شارل الخامس، وقائد الجيش برتراند دي جويسكلين أن يستعيدوا مدينة ليموج مرَّة أخرى، قام الجنرال الفرنسي بحصار المدينة، وابتهج سكانها لقدومه، ورغم أنَّ أسقف المدينة رفض تسليمها في البداية، إلَّا أنَّه اضطرَّ، وعاد لتسليمها لدوق بریتاني ودوق بيري Berry ودوق بوربون Bourbon والسير جاي دي بلو Guy De Blois والعديد من اللُّوردات الفرنسيِّين، الَّذين دخلوا مدينة ليموج مزهوين في آب 1370م. أمَّا الأمير الأسود الَّذي بلغته أنباء سقوط لیموج بيد الفرنسيِّين؛ أزعجه الخبر، لا سيَّما أنَّه كان يعد أسقف لیموج صديقًا له، وكان محلَّ ثقته مثل والده، فكيف له أن يكون المساعد الأوَّل للفرنسيِّين ليستولوا على المدينة، حتَّى رجال الكنيسة لم يكونوا عند حسن ظنِّه بهم. لقد حقد ولي العهد الإنكليزي عليهم جميعًا، وعقد العزم على الانتقام منهم؛ جزاء الغدر والخيانة، وعلى الفور رحل من كوجناك في جنوب غرب فرنسا، ومعه ألف ومائتان من حمَلَة الرِّماح، والفرسان، والمساعدين، وألف من رماة السِّهام، وألف من المشاة، وبصحبته أخويه[40].

وصل الأمير الأسود إلى مدينة ليموج في شهر أيلول من السَّنة ذاتها، وبعدما استعصت عليه المدينة فكر في طريقة أخرى للسَّيطرة عليها، إذ حاصرها من جميع الجهَّات، وظلَّ نحو شهر، أو أكثر أمام أسوارها مرابطًا، وأمر الحفَّارين في جيشه بحفر نفق تحت أسوارها، وطوال هذه الفترة الَّتي شرع فيها الحفَّارون بأعمال الحفر، لم تحدث أيُّ مناوشات، أو قتال بين الفريقين، وقد حاول أهالي ليموج إعاقة أعمال الحفر بشتَّى الطُّرق، إلَّا أنَّهم فشلوا في محاولاتهم تلك، وبعد حوالي شهر أبلغ الحفَّارون أميرهم بانتهاء مهمَّتهم بنجاح، وأنَّه يمكن اقتحام المدينة، ودخولها بدون التَّعرُّض لأي خطر. وبالفعل أشعل الحفَّارون النَّار داخل الحفر، وفي صباح اليوم التَّالي تمَّ تدمير جانب كبير من السُّور، وعلى الفور قام المشاة باقتحام بوَّابة ليموج وتحطيمها، وإزالة كلِّ الدِّفاعات، والحواجز الموجودة فيها، بسرعة فائقة، وبشكل مباغت، بحيث لم يستطع أهل مدينة ليموج القيام بأيِّ عمل، أو مقاومة. بعد أنَّ استحكم الجنود الإنكليز بالمدينة قاموا بعمليَّات السَّرقة، والسَّلب، والنَّهب على أوسع نطاق، وقاموا بتنفيذ الأوامر الصَّادرة لهم من ولي العهد الإنكليزي بذبح جميع الرِّجال، والنِّساء، والأطفال، بدون أن يراعوا أنَّ ذلك يتناقض مع مبادئ الفروسيَّة، ويتَّفق مع أبشع صور الوحشيَّة والهمجيَّة. ومن المشاهد الَّتي يندى لها جبين الإنسانيَّة، هو مشهد الرِّجال، والنِّساء، والأطفال، وهم جاثون على ركبهم أمام ولي العهد، يلتمسون منه الرَّحمة، والشَّفقة، بينما كان يتَّقد غضبًا، وغيظًا، لم يلتفت إليهم، ولم يُعر توسُّلاتهم أيَّ اهتمام، بل أمر بقتلهم جميعًاب دون أدنى أن يرفله طرف، حتَّى الفقراء لم يرحم توسُّلاتهم، رغم أنَّه لم تصدر عنهم أيَّ خيانة، لقد ذبح في ذلك اليوم أكثر من ثلاثة آلاف إنسان ما بين رجل، وامرأة، وطفل بقطع رقابهم[41].

استمرَّت الحرب سجالًا بين الطَّرفين؛ وقد استطاعت الجيوش الفرنسيَّة بقيادة الجنرال برتراند دي جویسكلین استرداد كثيرًا من المناطق الَّتي كان الأمير الأسود قد سيطر عليها، حيث حرَّر الفرنسيِّون بواتییه ١٣٧٢م، وتعرَّض الجيش الإنجليزي لعدَّة هزائم في إقليم جاسكوني، فقد استفاد الفرنسيِّون من حال الفوضى العامَّة في الجيش الانكليزي، وارتباك جنرالاته، فاستولوا من جديد على الأراضي الَّتي كانوا قد تخلُّوا عنها[42]. أمَّا في البحر فقد تمكَّن الأسطول الفرنسي في السَّنة ذاتها، مدعومًا بنظيره الإسباني، من تدمير الأسطول الإنكليزي في معركة لاروشيل La Rochelle البحريَّة، وأخيرًا تمكَّن الفرنسيِّون بقيادة جيسكلن من هزيمة قوَّات إنكليزيَّة، وبريتونية في معركة كيز Chizé ليحتلَّ بعدها مدينة بريتاني، فاضطرَّت القوَّات الإنكليزيَّة المواجودة على الأراضي الفرنسيَّة إلى الانسحاب إلى إنكلترا[43].
ردًّا على ذلك أرسل الملك إدوارد الثَّالث حملة عسكريَّة جديدة في سنة ١٣٧٣م بقيادة ابنه جون أمير جنت John of Gaunt، نزلت في كالیه، وتوغَّلت في وسط فرنسا حتَّى وصلت إلى منطقة بوردو. لقد عانى المدنيِّون الفرنسيِّون من تقدَّم القوَّات الإنكليزيَّة في بلادهم؛ إذ كان لزامًا عليهم أن يقدِّموا المؤن للجيش الإنكليزي الَّذي اجتاح أراضيهم مرغمين، كما كانت محاصيلهم، وأملكهم مباحة للسَّلب من قبل هذه القوَّات بدون رحمة. ويبدو أنَّ المدنيِّين الإنكليز عانوا من حكومة بلادهم أيضًا؛ ولعلَّ أبرز الشَّواهد على ذلك هو ما حصل عندما صادر الجيش السُّفن التِّجاريَّة الإنكليزيَّة من أصحابها؛ من أجل نقل قوَّاته في سنة 1378م، إذ عانى ملاك هذه السُّفن خسائر فادحة، ونفقات كبيرة، إذ كان عليهم أن يصلحوا التَّلف الَّذي تتعرَّض له المراكب والسُّفن؛ من مراسي، وسواري، وسلاسل، بدون الحصول على أيِّ تعويض، هذا ناهيك عن السُّفن الَّتي غرقت[44]. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الاشتباكات استمرَّت متقطِّعة بين الدَّولتين طوال هذه المرحلة بدون أن يكون هناك انتصار حاسم لأحدهما على الآخر، وقد أنهك طول مدَّة الحرب اقتصاد البلدين وميزانيتهما، اذ انخفض تعداد السُّكَّان في انكلترا الى النِّصف نتيجة لخسائر حرب المئة عام البشريَّة، وموجات الطَّاعون الَّتي اجتاحت انكلترا بين عامي 1348-1349م، والَّتي استمرَّت بشكل متقطِّع حتَّى نهاية القرن الرَّابع عشر، وهو ما سبَّب ندرة الأيدي العاملة في الزِّراعة، وبالتَّالي اجتاحت البلاد فترات من المجاعة الخطيرة الَّتي أثَّرت بشكل كبير على عامَّة الشَّعب؛ الأمر الَّذي زاد من حال السَّخط، والغضب الشَّعبي في أرجاء انكلترا، وترك أثرًا مدمِّرًا على الدَّاخل الإنكليزي، ورغم أنَّ الفريقين أخذا يتطلَّعان للسَّلام؛ وعلى وقع هذه المآسي، وتمَّ عقد هدنة ليولينهينLeulinghen بينهما في 18 حزيران 1389م، لتكون نهاية المرحلة الثَّانية من الحرب، إلَّا أنَّ الانتفاضات الشَّعبيَّة كانت قد انفجرت في كلا البلدين[45].
رابعًا: الأزمات الدَّاخليَّة الَّتي عصفت بالبلدين لقد توفِّي الأمير الأسود في سنة 1376م، ثمَّ تبعه الملك إدوارد الثَّالث في سنة 1377م، وتولَّى حفيده ريتشارد الثاني Richard II ذو الأحد عشر عامًا العرش، وبسبب صغر سنِّه تمَّ تشكيل مجلس وصاية عليه لحين بلوغه السِّنَّ الَّتي تؤهِّله للحكم، وقد شهدت إنكلترا، وفرنسا تدهور الأوضاع الدَّاخليَّة في كلا البلدين؛ في الواقع لقد أهرقت الحرب كاهل انكلترا؛ وسرعان ما انطلق مسلسل الانتفاضات الاجتماعيَّة في لندن؛ بانتفاضة شعبيَّة ضدَّ الحكومة الإنكليزيَّة، بسبب عدم قبول، أو قدرة الحكومة الإنكليزيَّة على الدِّفاع عن جنوب انكلترا ضدَّ الهجمات الفرنسيَّة، والإجهاد المالي للحرب[46]؛ حيث انتشرت البطالة، وتردَّت أحوال النَّاس المعيشيَّة؛ فقد تحمل الفلاحون، وعامَّة الشَّعب العبء الأكبر من تبعات الحرب البشريَّة والماليَّة، إذ أجبروا على الخدمة في الجيش، وعلى توفير احتياجات الحرب الماليَّة المتمثِّلة بدفع ضرائب أكثر إلى السُّلطة الملكيَّة الَّتي عملت من جانبها على استحداث المزيد من الضَّرائب في محاولاتها المتكرِّرة لتغطية تكاليف الحرب.

ومنها ضريبة الرَّأس الَّتي صدرت في عهد الملك هنري السَّادس، والَّتي عرفت بضريبة «البول طاكس»؛ والَّتي فرضت على جميع من يبلغ من ثمانية عشر عامًا[47].
لقد بدأت الثَّورة بحركة عمَّاليَّة اندلعت في سنة 1381م؛ احتجاجًا على طبيعة قانون العمل الضَّاغط على العمَّال، واحتجاجًا على إقرار ضريبة الرَّأس، وسرعان ما وجد حرفيِّو، وعمَّال لندن من يتآزر معهم في الرِّيف الإنكليزي؛ ما أكسب انتفاضتهم زخمًا شعبيًّا قويًّا. كما وجدت الانتفاضة في شخص وات تايلر Wat Tyler زعيمًا محنَّكًا آزره رجل الدِّين جون بال John Ball صاحب المقولة المشهورة: «حين كان آدم يقلِّب التُّربة، وكانت حوَّاء تنسج، أين كان الجنتلمان؟». وقد كانت الانتفاضة عارمة، حيث تمكَّن القائمون بها من السَّيطرة على لندن لفترة وجيزة، ولكنَّهم فشلوا في مواصلة السَّيطرة على المدينة؛ نظرًا إلى القمع العنيف الَّذي جوبهوا به، ونظرًا لاغتيال زعيمهم[48].
لقد عانت فرنسا أوضاعًا مشابهة لتلك الَّتي تمرُّ بها إنكلترا، إذ توفِّي الجنرال جيسكلين في تموز 1380م، ثمَّ توفِّي الملك شارل الخامس في 16 أيلول من السَّنة ذاتها، فخلِفه ولده الصَّغير شارل السَّادس Charles VI، البالغ من العمر اثنى عشر عامًا، والَّذي كان يعاني من نوبات الجنون بين حين والآخر، فاشتدَّ التَّنافس بين أعمامه حول الوصاية على العرش، الأمر الَّذي أدَّى إلى دخول فرنسا في حرب أهليَّة، إثر ثورة شعبيَّة، في حزيران 1382م[49]. عرفت هذه الثَّورة باسم انتفاضة المطرقين les Maillotins، وهي لا تختلف في جوهرها، ومضمونها عن ثورة سنة 1360م، وقد لاقت الثَّورة الثَّانية مصير الثَّورة الأولى[50]، وتتلخَّص أحداثها في مواجهات شغب شعبيَّة قصيرة الأمد، لكنَّها كانت عنيفة جدًّا، انفجرتْ على إثر قرار السُّلطات الفرنسيَّة الحاكمة بإعادة إقرار مجموعة ضرائب؛ كان الملك شارل الخامس قد أسقطها، وهو يحتضر في شبنبر قبل سنتين. لقد عَمَد المنتفضون إلى تسليح أنفسهم بأعداد من المطارق الكبيرة الحجم des maillets؛ سطوا عليها من دار البلديَّة l’Hôtel de ville؛ حيث كانت مودَعة هناك استعدادًا لردِّ هُجوم كان يحتمل أن يقوم به الإنجليز؛ ولذلك نُعتت هذه الحركة باسم انتفاضة المطرقين[51].

خامسًا: المرحلة الثَّالثة من حرب المئة عام
بدأت المرحلة الثَّالثة من سنة 1415م وعرفت بالحرب اللانكسترية، نسبة إلى أُسرة آل لانكستر الإنكليزيَّة الحاكمة، واستمرَّت حتَّى سنة 1453م، وقد تجدَّدت الحرب فيها على يد هنري الخامس (1413-1422م) ملك إنكلترا وحليفه دوق بيرغونديا Burgundy، فغزا الإنكليز شمال فرنسا[52]، واستطاعوا تحقيق نصرٍ مهمٍّ على الفرنسيِّين في 25 تشرين الأول 1415م عند أجينكورت Agincourt، بفضل جيشهم المتفوِّق عدديًّا؛ إذ بلغت نسبته 2: 1، وهكذا تمكَّن الإنكليز من سحق القوَّات الفرنسيَّة الَّتي كانت تعاني الجوع، وسوء القيادة، وتمَّ في هذه المعركة أسر عددًا كبيرًا من النُّبلاء الفرنسيِّين[53].

لقد تمكَّن هنري الخامس من احتلال نورمانديا بعد أن خاض عدَّة معارك في الأعوام 1416- 1419م، لقد كان هدف هنري الخامس الأساس تقليل عدد الحصون الفرنسيَّة في الشِّمال، وحرمان فرنسا من المساعدات الَّتي كانت تصلها من طريق البحر، في الوقت نفسه الَّذي كان يسعى فيه لتأمين خطوط إمداده، وتموينه بصورة منظَّمة لحملاته المخطَّط لها عبر هذا البحر. أمام الضَّغط العسكري الإنكليزي اضطرَّ ملك فرنسا شارل السَّادس إلى توقيع معاهدة تروي Troyes مع هنري الخامس في 21 أيار 1420م، والَّتي كان من ضمن بنودها أن يتزوَّج هنري الخامس من كاثرين أوف فالوا ابنة شارل السَّادس، وأن يرث أبناء هنري الخامس منها العرش الفرنسي بعد شارل السَّادس. لقد أثار توقيع شارل السَّادس لمعاهدة تروي موجة من السَّخط الشَّعبي، والغضب في فرنسا، ورفض المعارضون الفرنسيِّون بنودها، واستمرُّوا في قتال الإنكليز، وفي عام 1422م توفِّي هنري الخامس ملك إنكلترا، فخلفه ولده الرَّضيع واصبح ملكًا على إنكلترا باسم هنري السَّادس Henry VI ، وبعده بشهرين توفِّي شارل السَّادس ملك فرنسا، فعين المعارضون الفرنسيِّون ابنه شارل السَّابع Charles VII ملكًا على فرنسا في أورليان Orleans، في حين أنَّ الإنكليز، والبروغنديين توجُّوا هنري السَّادس ملكًا على انكلترا، وفرنسا في باريس كما نصَّت على ذلك معاهدة تروي، وقد استمرَّت الموجهات بين الطَّرفين، وكانت الكفَّة راجحة للإنكليز حتَّى عام 1429م[54].
لقد عانى المدنيِّون الفرنسيِّون في المناطق الَّتي سيطر عليها الإنكليز -حتَّى في فترات عدم القتال- أشدَّ معاناة، لقد كانت أولى المشكلات الَّتي واجهوها هي مشكلة الولاء، أي عندما يكونون مع الطَّرف الخطأ في الوقت الخطأ، عندها كانوا سيعانون من التَّجريد من الأملاك، ومن النَّفي الدَّاخلي، وربَّما من القتل والتَّنكيل، فعلى سبيل المثال عانى جميع الفرنسيِّين الَّذين كانوا في الأراضي الَّتي احتلَّها الإنكليز، لا سيَّما أولئك الَّذين رفضوا أن يعترفوا بسيادة هنري الخامس ملك انكلترا عليهم؛ وأن يعترفوا به ملكًا على فرنسا، فعاقبهم بتجريدهم من ممتلكاتهم العقاريَّة، وأجبرهم على النَّفي الدَّاخلي ضمن فرنسا. في الواقع لقد كانت سياسة إنكلترا في عهد هنري الخامس تعتمد مبدأ التَّغيير الدِّيمغرافي في المناطق الخاضعة لسيطرتها في فرنسا، إذ اعتمدت إبعاد السُّكَّان المشكوك في ولائهم، وأتت بسكَّان أكثر ولاءً لها، وأجدر بالثِّقة، كانوا في غالبيَّتهم مستوطنين إنكليز. وهكذا تورَّط المدنيِّون في حال الحرب العامَّة، وواجهوا العديد من المشقَّات بسب حيادهم أو قلَّة ولائهم لهذا الطَّرف أو ذلك، ولعلَّ أبرز الأمثلة هي حال جان جورارد Jean Guerard الَّذي هرب من باريس مع زوجته الحبلى، فأُسر من قبل الإنكليز، ومن قبل الفرنسيِّين، وأضطرَّ أن يدفع الفدية للإنكليز والفرنسيِّين، بعد أن اتَّهمه كلُّ طرف بالولاء للآخر[55].

لقد كانت الفدية أمرًا رائجًا في حرب المئة عام، فهي الغنيمة الدَّسمة الَّتي يسعى لها السَّاعون وراء المكاسب، فقد خشي هنري الخامس أن يفسد انتصاره في أزنكور إذا ما أتاح لرجاله الوقت الكافي لجمع الأسرى، فأصدر أوامره بقتلهم، ولم يستثن من هذا التَّدبير سوى أرفعهم مكانة. وهناك بعض الفدى المشهورة في هذه الحرب نذكر منها: فدية الملك جان، وفدية دوغكلين، وفدية الكونت دي دينيا، وفدية شارل دورليان. وقد حدَّدت اجتهادات كثيرة مصير أسرى البحر أو البرِّ: «الأسير ملك آسره، ويجب أن يعاد إليه إذا ما فرَّ، وقبض عليه شخص ثالث؛ وتحديد قيمة الفدية بالمناقشة بين الأسير، و«سيده» كانت وفق التَّسعير متعارف عليه». وإذا قضى شرف الملك بإحسان معاملة أسيره، وبفرض فدية عليه للدَّفع، كان ينعم عليه بحريَّة مؤقَّتة كي يجمع المبلغ المطلوب، والقيمة اللَّازمة، لكن ما أكثر الَّذين لاذوا بالفرار بدون أن يدفعوا فديتهم. إلَّا أنَّ الأسير كان مادَّة دين وقد أمكن بهذه الصَّفقة الاتجار به[56].

إنَّ ما زاد الأوضاع سوءًا في فرنسا هو حاجة ملوكها لتغطية نفقات الحرب؛ ما دفعهم إلى تخفيض قيمة العملة بتزييفها، فارتفعت أسعار الحاجيَّات الأساس، وأدَّى الأمر إلى جميع الارتباكات الماليَّة الَّتي يقودها التَّضخُّم المالي، بما فيها انهيار النَّقد بين سنتي (1416-1430م)، فلجأ ملوك فرنسا إلى فرض ضرائب جديدة على الشَّعب؛ بوصفها ضريبة احتكار الملح وغيرها كثير[57]، فهذه هي جريدة «المواطن الباريسي» تشكوا في سنة 1421م من الضَّرائب الزَّائدة عن الحدِّ، وارتفاع الأسعار: «ففي كلِّ ليل، ونهار يسمع الإنسان منَّا في باريس وحدها الصَّرخات المتعالية، بسبب ارتفاع الأسعار، والنُّدرة في كلِّ شيء». حتَّى أنَّ الفقراء أكلوا النِّفايات الّتَي تحتقرها الخنازير، كما أكلوا أوراق الكرنب والأعشاب، وفي المستشفيات كان يتمُّ تكديس من يصارعون الموت مع الأموات، وسنة 1439م التهمت الذِّئاب الجوعى أربعة عشر شخصًا في المنطقة المحصورة ما بين مونت مارتر، وميناء سانت أنطون، وهاجمت رعاة الغنم مفضِّلة إيَّاهم على الأغنام الهزيلة[58]. هذا ناهيك عن الكوارث الطَّبيعيَّة الَّتي رافقت الحرب، والَّتي فتكت هي الأخرى بالسُّكَّان المدنيِّين، فعلى سبيل المثال أتت الحرائق في مدن انكلترا، وفرنسا، وألمانيا على أحياء كاملة، ساعدها على ذلك مواد بناء قابلة للحريق، وتكدُّس المنازل فوق بعضها، وهزال وسائل مكافحة النَّار، حتَّى أنَّ تولوز نفسها أصابتها ثلاثة حرائق خلال المرحلة الثَّالثة من حرب المئة عام[59].
أمَّا أشدُّ الأخطار الَّتي عانى منها المدنيِّون من جرَّاء الحرب هي انتشار قطَّاع الطَّريق في الرِّيف الفرنسي؛ وما قاموا به من أعمال القتل، والسَّرقة، والاغتصاب، فقد تحدَّث المؤرِّخون عن فِرَق الفرنسيِّين المعروفة بـاسم: skinners العاملة على حدود بيرغونديا خلال هذه الفترة، وكان هؤلاء يسبِّبون ضررًا كبيرًا بأخذ القلاع، والأنكى من ذلك أنَّهم كانوا يقتلون، ويسلبون، ويهتكون عرض كلَّ من وقع بأيدهم من المدنيِّين بدون تمييز، يعاملونهم بمنتهى الوحشيَّة كما لو أنَّهم أعداء فرنسا[60]. أمَّا في سنة 1444م فقد اتَّخذت جماعة كبيرة من اللُّصوص، ومن القتلة مكانًا لها خارج باريس تقيم فيه، وأخذت تستولي على الأغنام من أجل طعامها، وتقبض على الأشخاص لتحصيل على فدية من ذويهم، وقد عانى الرِّيف الفرنسي من الخراب، وتدمير الحقول المزدهرة، حتَّى أنَّ نورمانديا تحوَّلت إلى منطقة مليئة بالطَّحالب، والأعشاب البريَّة، والبوص، وتمَّ هجر كثير من الطُّرق الرَّئيسة، وتحطَّمت الجسور، وانسدَّت التِّرع، بينما امتلأت الموانئ بالطَّمي. وأخذت عصابات قطَّاع الطُّرق، والمحتالين تجوب القرى، تسلب كلَّ ما يقع تحت ناظريها بقوَّة السِّلاح، مقدِّمين حمايتهم لكلِّ من يدفع لهم، بينما كانوا يحرقون من يرفض تقديم الإتاوات لهم[61].
إنَّ معاناة المدنيِّين الأساس خلال هذه الحرب، هو أنَّ الجيوش الإنكليزيَّة، والفرنسيَّة كانت تسعى دائمًا للحصول على تجهيزاتها من موارد المدنيِّين، بحجَّة المجهود الحربي، أو أنَّهم كانوا يضعون يدهم عنوة على أرزاق النَّاس بدون أن يستأذنوهم بها. وحتَّى عندما يهدأ القتال كان السُّكَّان المدنيِّون يعانون الأمرَّين من الجنود، وجشع شركات الجباية في الرِّيف، وغالبًا ما كانت تعاني من هذا الوضع المدن، والبلدات الَّتي قبلت بدفع الفدية مقابل الحماية العسكريَّة، لكن الجنود أخذوا يكرِّرون طلباتهم للأموال منعًا لأحراق البلدة، تمامًا كما حدث في سنة 1437م عندما قبلت مدينة ريمس دفع الجزية للجنود الإنكليز. إنَّ البلدات الَّتي لم تدفع، أو أنَّها وافقت على الدَّفع ثمَّ رفضت، تعرَّضت لعقوبات، وحشيَّة، وقاسية جدًا، مثال ذلك ما وقع لأحدى البلدات الفرنسيَّة الواقعة بالقرب من مدينة بوا Poix، حيث وقَّعت المدينة اتفاقيَّة مع القوَّات الانكليزيَّة بقيادة إدوارد الثَّالث تعهَّدت فيها بدفع مبالغ ماليَّة كبيرة مقابل سلامتها، وعدم إضرام النَّار فيها من قبل الجيش الإنكليزي، لكنَّ سكَّانها عادوا، وتراجعوا عن دفع تلك المبالغ الضَّخمة، بعدما شاهدوا الجيش يبتعد عن بلدتهم، فما كان من الجيش الإنكليزي إلَّا أن أرسل لتلك البلدة ثلَّة من الجنود قامت بإحراقها، بصورة وحشيَّة يندى لها جبين الإنسانيَّة، لقد كان الإنكليز يهدفون من هذه الوحشيَّة المفرطة ضدَّ المدنيِّين هو إشاعة الرُّعب بينهم، وتوصيل رسالة لباقي البلدات الفرنسيَّة الأخرى؛ أنَّه لا تهاون في دفع الجزية، وأنَّه على المدنيِّين الدَّفع مهما كانت المبالغ كبيرة؛ إن كانوا يرغبون في البقاء على قيد الحياة، وهكذا كان يكفي أن يتقدَّم الجيش الإنكليزي حتَّى يذعن الرِّيف الفرنسي، ويقدِّم الإتاوات، حتَّى لا يكون سكَّانه في عداد القتلى[62]. إنَّ الإجرام الَّذي طبَّقه الجنود الإنكليز على المدنيِّين الفرنسيِّين سينعكس سلبًا عليهم، فبعد انتهاء هذه الحرب؛ شكَّل الجنود العائدين إلى الإنكليز عصابات، وتحولوا إلى قطَّاع طرق؛ بسبب قلَّة المال، واعتيادهم على العنف، والسَّلب، والنَّهب الَّذي تعلَّموه في فرنسا، وهكذا أخذوا يقطعون الطُّرق، ويسلبون المارَّة، والتُّجَّار، الأمر الَّذي جعل الطُّرق التِّجاريَّة في إنكلترا غير آمنة، وأثَّر سلبًا على الحركة التِّجاريَّة بين المدن الإنكليزيَّة، فأصبح هؤلاء الجنود يمثِّلون مشكلة خطيرة على المجتمع المدني الإنكليزي[63].
ولعلَّ أهمَّ فصول المرحلة الثَّالثة من حرب المئة عام هي قصَّة الفتاة جان دارك Joan of Arc، تلك الفتاة الفرنسيَّة الَّتي انتهى مصيرها بالإعدام حرقًا؛ بعد أن اتَّهمها الإنكليز بالهرطقة، بينما عدَّها الفرنسيِّون قدِّيسة، عمومًا لقد كانت أجواء الحرب بيئة خصبة لانتشار الخرافة[64]، ففي أحدى قرى اللُّورين؛ وهي قرية دومرمي Domremy القريبة من نانسي Nancy، كان يقطن أحد الفلَّاحين، وكان في دومرمي شجرة خاصَّة للجنِّ، ونافورة لها شهرة بالسِّحر. وكان لهذا الفلَّاح ابنة تعمل في الحصاد، ورعاية الحيوانات، وتقوم بما تقوم به النِّساء من أعمال الغزل، والنَّسج، وكانت أميَّة لا تجيد القراءة، ولا الكتابة، إلَّا أنَّها كانت فتاة ملتزمة دينيًّا تصرُّ على تناول العشاء المقدَّس كلَّ شهر[65]. وعندما بلغت الثَّالثة عشر من عمرها، أخذت تسمع أصواتًا من السَّماء تناديها، وهي ترعى أغنامها، وترى في منامها القدِّيس مخائيل، والقدِّيسة كاترين، وكانوا يطلبون إليها أن تبرح قريتها إلى مدينة أورليان الفرنسيَّة لتخلُّصها من الإنكليز الَّذين ضربوا الحصار عليها منذ أكتوبر 1427م، وبنوا حولها سلسلة من القلاع، وكانوا ينتظرون أن تفتك المجاعة بأهلها، لقد قلبت تلك الفتاة موازين الحرب لصالح الفرنسيِّين بعد أن هزمت الإنكليز في معركة باتي Patay في 18 حزيران 1429م، لتتوالى بعدها الانتصارات الفرنسيَّة في عدَّة مواقع. أمَّا المهمَّة الثَّانية فهي أن تصحب ولي العهد الفرنسي شارل السَّابع إلى مدينة ريمس حتَّى يتوَّج ملكًا في كاتدرائيتها، وحقَّقت جان دارك هاتين الرِّسالتين، إلَّا أنَّ الانتصارات الَّتي حقَّقتها جان دارك سرعان ما خبت جذوتها بعد أن أسر البروغنديين جان دارك في معركة كومبيين Compiegne في شمال مدينة باريس في 23 أيار 1430م، فسلَّموها إلى الإنكليز، ولم يحاول الملك الفرنسي إنقاذها، وتركها لمصيرها[66].

لقد كان الإنكليز توَّاقين للتَّخلُّص من هذه الفتاة، فدفعوها للمحكمة بتهمة السِّحر، والقيام بأعمال الشَّعوذة، وعدم الطَّهارة، لم يكن هدف المحاكمة هو اكتشاف الحقيقة، بل كان الهدف إيصال رسالة للرَّأي العامِّ أن جان فتاة مارقة، وأنَّها صنعت انتصاراتها بمساعدة الشَّيطان، وبعد ضغط استمرَّ خمسة أشهر، انهارت الفتاة، وقبلت التُّهم الَّتي نسبت إليها، ثمَّ تراجعت عنها، وهذا ما ألصق فيها صفة الهرطقة، وجعل منها مرتدَّة لا تستحقُّ الرَّحمة. وفي 30 أيار 1431م أعلن الأسقف كوشو Cauchon أنَّها مذنبة، وبدل أن يحيلها إلى محكمة مدنيَّة، كون المحاكم الكنسيَّة لا تستطيع أن تصدر حكمًا بالإعدام، فإنَّه سلَّمها للجيش الإنكليزي، فتمَّ اقتيادها إلى مكان السُّوق القديم في مدينة روان Rouen؛ وهناك نفَّذ فيها حكم الإعدام حرقا بالنَّار، ثمَّ ألقي رمادها في نهر السِّين[67].
يشكُّ كثير من المؤرِّخين أنَّ الأصوات الَّتي كانت تسمعها جان هي جزء من عمليَّة اختلطت فيها عمليَّة التَّخيُّل بمشكلات سن البلوغ، أو بأحلام البالغين، كما اختلط بالاضطراب النَّاجم عن اضطرابات الغدد الصُّم. وهناك من يقول أنَّها كانت تعاني من مرض السِّل؛ الَّذي كان يؤثِّر في فصوص المخ، ممَّا كان يسبِّب اضطرابًا جزئيًّا في وظائف المخ، كما أنَّ هلوسة جان الدِّينيَّة لا يمكن إرجاعها إلى قوَّة عقلها، ولا إلى معجزة؛ لأنَّ المعجزة تتنافى مع العلِّة، والمعلول، أو الصِّلة، والأثر، وببساطة فإنَّ جان جانبها الصَّواب في ما يخصُّ الأصوات الَّتي كانت تسمعها، فهي جاءت من داخلها لا من خارجها، كما أنَّها كانت عمليَّات هلوسة، وأوهامًا، وهناك احتمال ثالث هو أنَّها كانت تكذب إلى حدٍّ كبير لكي تجذب الانتباه إليها[68].

وختامًا كانت الانتصارات الَّتي حقَّقها الإنكليز في فرنسا محدودة النَّتائج، ولا تتناسب مع ما استنزفه من أموال وأرواح، حيث عادت بيرغونديا إلى محالفة فرنسا مرَّة ثانية، وانتهت فصول هذا الصِّراع بانتصار فرنسا، حيث تمكَّن شارل السَّابع؛ المعروف بشارل المنتصر، من استعادة كثير من الأراضي الَّتي سبق أن فقدتها فرنسا، إذ استعاد باريس سنة 1436م، ثم نورمانديا في سنة 1449م، وبعدها بايون سنة 1451م، وتأكَّد انتصار فرنسا في موقعة فورميني Formigny في نيسان 1450م، وفي 17 تموز 1453م خاض الفرنسيِّون، والإنكليز آخر المعارك الكبيرة في حرب المائة عام، وهي معركة كاستيلون Castillon الَّتي كانت محاولة أخيرة من الإنكليز بقيادة جون تالبوت John Talbot لاستعادة الأراضي الَّتي خسروها في فرنسا، إلَّا أنَّ الإنكليز تعرَّضوا لهزيمة كبيرة، وقتل القائد الإنكليزي تالبوت في المعركة، وتمكَّن الفرنسيِّون بعدها من السَّيطرة على معظم أراضيهم[69]. ولم تتمكَّن إنكلترا من استعادة زمام المبادرة بتاتًا بعد فشل هنري السَّابع في حملة على منطقة بولوني؛ فتخلَّت على إثر ذلك على جميع ممتلكاتها القاريَّة باستثناء مدينة كاليه، وبذلك انتهت فصول حرب المائة سنة، وإن لم يتمَّ ذلك بشكل رسمي الَّا في معاهدة بيكويني Picquigny في 29 آب سنة 1477م[70].
وربَّما أنَّ الوضع الَّذي كان يزداد تدهورًا في انكلترا هو الَّذي أجبر إنكلترا على عقد السِّلم مع الفرنسيِّين، والاعتراف لهم بالنَّصر ففي صيف سنة 1450م، أندلع في مقاطعة كنت الإنكليزية تمرُّد كبير يقوده جاك كيد الَّذي أطلق على نفسه تسمية جون مورتيمير، وطالب بمعاقبة الفاسدين في السُّلطة، والإصلاح الحكومي، ورفع الحيف عن طبقة الفقراء، والتَّحقيق بالإسراف المالي الَّذي يشهده بلاط الملك. وقد أخذ التَّمرُّد ينتشر بسرعة كبيرة في أرجاء إنكلترا، لا سيَّما بين عامَّة الشَّعب؛ نتيجة للسَّخط على فرض الضَّرائب المتكرِّر لتغطية تكاليف الحرب، وقد تصاعدت حدَّة هذا التَّمرُّد بعد أن تمكَّن جاك كيد من هزيمة قوَّة إنكليزيَّة أرسلت لمواجهته، ثمَّ زحف بجموع المتمرِّدين، الَّذين كان أغلبهم من الفلَّاحين، والعمَّال، والحرفيِّين، والتُّجَّار، يدعمهم عدد من صغار طبقة النُّبلاء إلى لندن، وقام بقتل عمدة لندن اللورد ساي. إلَّا أنَّ تصرُّفات أتباعه الوحشيَّة، وما ارتكبوه في لندن أدَّت لاستياء اللُّندنيِّين منهم، فأعادت حامية لندن تجميع قوَّاتها، وهاجمت المتمرِّدين، وتمكَّنت من هزيمتهم، وفي الوقت نفسه أصدر هنري السَّادس الَّذي كان لا يزال في اليستر عفوًا ملكيًا عن المتمرِّدين، فانسحب عدد كبير منهم بينما رفض كيد ذلك، فانهزم، وهرب خارج لندن فلاحقته قوَّات الملك، وألقي القبض عليه، وأعدم بدون محاكمة، وعلِّق رأسه على جسر لندن[71].

لقد أثبتت حرب المئة عام أنَّ الحدود غير الواضحة، ومبادرات الضُّبَّاط، والجنود في المعسكرين، وتصفية الحسابات المتوجِّبة؛ كانت منطقًا لمنازعات غالبًا ما تشعل نار الحرب، هذا ناهيك أنَّ الأمراء الَّذين هالتهم فكرة النِّزاع الدِّامي، وتشبَّثوا تشبُّثًا صبيانيًا بشرف الفروسيَّة؛ فكَّروا جدِّيًّا بتسوية نزاعاتهم في معركة فرديَّة، ومبارزات أحاديَّة. لقد حوَّلت حرب المئة عام الحرب إلى مهنة، استجابة للتَّقاليد الاجتماعيَّة، والظُّروف السِّياسيَّة، والضَّرورات الاقتصاديَّة، والمقتضيات التِّقنيَّة. لقد اتَّسمت حرب المئة عام في القرن الرَّابع عشر الميلادي بكثير من تقاليد العصور الوسطى المستوحاة من سذاجة آدب الفروسيَّة: مثل رسائل التَّحدِّي، وطلب المبارزة، والمعارك الفرديَّة، والهدنات المحليَّة، وذهنيَّة المحارب محدود الأفق، وتكوين الجيوش المبني على تفوُّق الفرسان النُّبلاء[72].

الخاتمة
إنَّ المطَّلع على أحداث هذه الحرب سيجد الوحشيَّة المفرطة الَّتي امتاز بها الفريقان المتصارعان، والَّتي غالبا ما كانت تمارس على المدنيِّين العزَّل بدون أدنى رحمه، أو شفقة. لقد مثَّل العوام في كلا البلدين وقود هذه الحرب من خلال تدمير أملاكهم، وسلبها، ونهبها، وفرض الضَّرائب عليهم، والفتك بهم. لم يرحم الملوك رعاياهم بل فرضوا عليهم كلَّ أنواع الضَّرائب، والإتاوات في سبيل تغطية نفقات الحرب، ما زاد من معاناة المدنيِّين. لقد كانت فترات الهدنة، ووقف القتال فرصة لانتشار القراصنة، وقطَّاع الطُّرق، وهم المرتزقة العاطلون عن الحرب، فكانوا يفتكون بالمدنيِّين، والمسافرين، والعزَّل، وعابري السَّبيل. لقد تميَّزت حرب المئة عام بشيوع ظاهرة الفدية، حتَّى رغبت جميع الأطراف المتصارعة في أسر الأثرياء، والنُّبلاء من أجل الحصول على مبالغ ماليَّة كبيرة لقاء إطلاق سراح المفدى. لقد أثبتت حوادث الشَّغب الدَّاخليَّة الَّتي نتجت من حرب المئة عام مدى الوحشيَّة المفرطة الَّتي واجه بها سكَّان البلد الواحد أنفسهم؛ حدًّا وصل إلى أكل لحوم البشر. لقد استهدف الجيش المدنيِّين بمنتهى الوحشيَّة ما أسهم في تأصيل هذه الظَّاهرة في الجنود الَّذين خدموا خلال هذه الحرب؛ حدًّا وصل إلى أنَّ الجنود الإنكليز مارسوا جميع وحشيَّتهم الَّتي كانوا يطبِّقونها على الفرنسيِّين على بني جلدتهم بعد أن انتهت الحرب، ما أفضى إلى اندلاع حرب الوردتين في إنكلترا في أعقاب حرب المئة عام.


لائحة المصادر والمراجع
إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، القرون الوسطى، ج3، ط2، نقله إلى العربيَّة: يوسف داغر و فريد داغر، منشورات عويدات، بيروت – باريس 1986م.
ثامر مكي علي، محاضرات التَّاريخ الحضاري للعصور الوسطى الأوروبية، الحاضرة السَّادسة، الجامعة المستنصرية، كلية الآداب-قسم التَّاريخ، المرحلة الأولى، الفصل الدِّراسي الثاني، 2018، 2019م.
جاك لو كوف: هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ تعريب وتقديم محمد حناوي، ويوسف نكادي، ط1، مطبعة مفكر زنقة السنغال، الرباط 2015م.
ماجد محي الفتلاوي، رشا الحاجم: حرب المائة عام (1337-1453م) وأثرها على انكلترا، مجلَّة العلوم الإنسانيَّة، كليَّة التربية للعلوم الإنسانيَّة، المجلد 42، العدد الثاني، حزيران 2017م.
موريس بيشوب: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة: علي السَّيد علي، المشروع القومي للتَّرجمة، المجلس الأعلى للثَّقافة، القاهرة 2004م.
نعيم فرح، تاريخ أوروبا السِّياسي في العصور الوسطى، ط6، منشورات جامعة دمشق، دمشق 2005م.
هشام الحسيني: الأمير الانكليزي الأسود وفترة حاسمة من العلاقات الإنكليزية الفرنسية (1364- 1370م).

لائحة المصادر الأجنبيّة
Whittington, K. E., The Social Impact of the Hundred Years War on the Societies of England and France., A thesis submitted in partial fulfillment of the requirements for the Honors in the Major Program in History in the College of Arts and Humanities and in the Burnett Honors College at the University of Central Florida 2016.


-------------------------------------------
[1]*- رئيس قسم التاريخ بجامعة دمشق/ سابقًا.
[2]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ تعريب وتقديم محمَّد حناوي، ويوسف نكادي، ط1، مطبعة مفكر زنقة السنغال، الرباط 2015م، ص186.
[3]- نعيم فرح، تاريخ أوروبَّا السِّياسي في العصور الوسطى، ط6، منشورات جامعة دمشق، دمشق 2005م، ص170.
[4]- ثامر مكي علي، محاضرات التَّاريخ الحضاري للعصور الوسطى الأوروبيَّة، الحاضرة السَّادسة، الجامعة المستنصرية، كليَّة الآداب-قسم التَّاريخ، المرحلة الأولى، الفصل الدراسي الثاني، 2018، 2019م، ص2.
[5]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، القرون الوسطى، ج3، ط2، نقله إلى العربيَّة: يوسف داغر و فريد داغر، منشورات عويدات، بيروت – باريس 1986م، ص495.
[6]- Whittington, K. E., The Social Impact of the Hundred Years War on the Societies of England and France., A thesis submitted in partial fulfillment of the requirements for the Honors in the Major Program in History in the College of Arts and Humanities and in the Burnett Honors College at the University of Central Florida 2016, p.54
[7]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ ص186.
[8]- نعيم فرح، تاريخ أوروبا السِّياسي، ص171.
[9]- ماجد محي الفتلاوي، رشا الحاجم: حرب المائة عام (1337- 1453م) وأثرها على انكلترا، مجلَّة العلوم الانسانيَّة، كلية التَّربية للعلوم الإنسانيَّة، المجلد 42، العدد الثَّاني، حزيران 2017م، ص2.
[10]- ماجد الفتلاوي، رشا الحاجم: حرب المائة عام، ص2.
[11]- الموسوعة العربيَّة، ص738.
[12]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة علي السَّيد علي، المشروع القومي للتَّرجمة، المجلس الأعلى للثَّقافة، القاهرة 2004م، ص358.
[13]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص359.
[14]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص501.
[15]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص360.
[16]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص360.
[17]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص534.
[18]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص360.
[19]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص2.
[20]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص477.
[21]- الموسوعة العربيَّة، ص738.
[22]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.55
[23]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود وفترة حاسمة من العلاقات الإنكليزية الفرنسية (1364- 1370م)، ص5.
[24]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.58
[25]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص503.
[26]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود، ص5.
[27]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.56
[28]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص362.
[29]- الموسوعة العربيَّة، ص738.
[30]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود، ص6.
[31]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.64
[32]- عمرو عبد العزيز منير، تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، ص98.
[33]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص3.
[34]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.63.
[35]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص502-503.
[36]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ ص168.
[37]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود، ص9.
[38]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص3.
[39]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.57
[40]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود، ص18.
[41]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود، ص21.
[42]- هشام الحسيني: الأمير الإنكليزي الأسود، ص23.
[43]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص3.
[44]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.62
[45]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص3+ ص6.
[46]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ ص183.
[47]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص7.
[48]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ ص183.
[49]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص3.
[50]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.64
[51]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ ص182.
[52]- نعيم فرح، تاريخ أوروبا السياسي، ص171.
[53]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص362.
[54]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص4.
[55]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, pp59- 60.
[56]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص504.
[57]- نعيم فرح، تاريخ أوروبا السياسي، ص171.
[58]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص363.
[59]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص505.
[60]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, p.62.
[61]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص363.
[62]- Whittington, K. E., Op. Cit., 2016, pp.58, 59.
[63]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص7.
[64]- نعيم فرح، تاريخ أوروبا السياسي، ص171.
[65]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص367.
[66]- نعيم فرح، تاريخ أوروبا السياسي، ص171.
[67]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص367.
[68]- موريس بيشوب، تاريخ أوروبا، ص368-369.
[69]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص4.
[70]- جاك لو كوف، هل ولدت أوروبا في العصر الوسيط؟ ص203.
[71]- الفتلاوي، الحاجم: حرب المائة عام، ص7.
[72]- إدوار بروي، تاريخ الحضارات العام، ج3، م.س، ص497.