البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إشكاليَّة العنف والحريَّة في ضوء فلسفة ما بعد الاستعمار

الباحث :  دعاء عبد النبي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  32
السنة :  خريف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 25 / 2024
عدد زيارات البحث :  647
تحميل  ( 371.554 KB )
الملخص
إنَّ إشكاليَّة العنف، والحريَّة من الإشكاليات ذات الخصوصيَّة في الفلسفة الأفريقيَّة الحديثة والمعاصرة، وهي إشكاليَّة ليست وليدة العصر بل تمتدُّ بجذورها في تاريخ الفكر الفلسفيِّ. وتعدُّ العلاقة بين العنف، والحريَّة علاقة، وثيقة نظرًا لما يفرضه العنف من قيود تحدُّ من حريَّة الإنسان، وقد تناولت الفلسفة الأفريقيَّة إشكاليَّة العنف، والحريَّة بالدِّراسة، والبحث في إطار النِّضال ضدَّ مستعمر جرَّد كلَّ مستعمراته من القيم الإنسانيَّة. لذلك تدور الدِّراسة حول ظاهرة العنف، وقضيَّة الحريَّة من منظور الفكر ما بعد الاستعماري، متمثِّلة في رؤية الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمي، والَّذي أسَّس نظريَّته في الفكر ما بعد الاستعماري على نقد المركزيَّة الأوروبيَّة، كما أعطي اهتمامًا بالغًا للعنف، وتأثيره في سياسة الموت، وأيضًا أعطى اهتمامًا للحرِّيَّة وما تعنية في الفكر الأسود.

لقد حظيت ظاهرة العنف بالاهتمام، والمناقشة لما لها من أثار سلبيَّة على الفرد، والمجتمع، وقد يتَّخذ العنف أشكالًا متعدِّدة مثل القوَّة، والعدوانيَّة، والسُّلطة، والقانون، كما أنَّ له مجالات عديدة مثل العنف الاجتماعي، والعنف الدِّيني، والعنف السِّياسي. ناقش مبيمبي ظاهرة العنف متتبِّعًا التَّطوُّر التَّاريخي لها من المنظور السِّياسي، وعلاقتها بالسِّياسات العدائيَّة، وأثرها على مفهوم الحريَّة لدى الفكر الأسود، والَّتي عدَّها الزُّنوج نضالًا ضدَّ كلِّ معتدٍ يبغي فرض الهيمنة، والسَّيطرة على العقل الأفريقي.

كلمات مفتاحيَّة: العنف، الحريَّة، الاستعمار، الفلسفة الأفريقيَّة، أشيل مبيمي، الحداثة الغربيَّة.

نظريَّة ما بعد الاستعمار ونقد المركزيَّة الأوروبيَّة
لقد ارتبط مصطلح ما بعد الاستعمار في العصر المعاصر إلى حدٍّ كبير بعمل النَّاقد الأفريقي أشيل مبيمبي، والَّذي كتب العديد من المؤلَّفات حول كيفيَّة عمل السُّلطة، والقمع فعليًّا في دول ما بعد الاستعمار في أفريقيا[2]. تهدف نظريَّة ما بعد الاستعمار إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، أي التَّكوين العقلي، والتَّمثيلات، والأشكال الرَّمزيَّة الَّتي كانت بمنزلة البنية التَّحتيَّة للمشروع الإمبراطوري، إنَّها تسعى لكشف مخزون الأكاذيب الَّتي بدونها كان الاستعمار بصفته تكوينًا تاريخيًّا للقوَّة سيفشل. فيمكن للمرء أن يقول إنَّ فكرًا ما بعد الاستعمار هو من عدِة جوانب فكرة عالميَّة حتَّى ولو لم تستخدم هذا المفهوم في بدايتها، كما يمكن عدّ ما بعد الكولونياليَّة هي أيضًا حلم لشكل جديد من أشكال الإنسانيَّة، ومن أجل وجود سياسة عالميَّة من الضَّروري الاعتراف بالحقِّ العالمي لكلِّ فرد في وراثة العالم بأكمله، وأخيرًا الفكر ما بعد الاستعماري ليس مناهضًا لأوروبا، بل إنَّه يدعو إلى قراءة بديلة لحداثتنا، كما يدعو أوروبا إلى فتح آفاق المستقبل باستمرار بمسؤوليَّة عن نفسها وعن الآخر، وقبل الآخر، لذلك لم تعد أوروبا مركز العالم[3]، وهي نظرة تختلف تمامًا عن نظرة أوروبا لنفسها بعدِّها المركز. كما يدعو أوروبًا إلى فتح آفاق المستقبل بصفتها مسؤولة عن نفسها وعن الآخر، وبخلاف ما تراه أوروبا فهي لم تعد مركز العالم.

يعدُّ العرق القوَّة الهائلة، والمدمِّرة في صنع العالم الحديث، لقد فصل الأسياد عن العبيد، والمستعمِرين عن المستعمَرين، والمستوطنين عن السُّكَّان الأصليِّين، ردًا على ذلك، ساهمت النِّضالات التَّاريخيَّة ضدَّ العنصريَّة، وتفوُّق البيض في تعميق الرَّكائز المعياريَّة الأساس للنِّظام الدَّولي الحديث. فقد تمَّ تعميم حقوق مختلفة بما في ذلك حقَّ تقرير المصير. فكانت المفاهيم الأساس للحياة الحديثة مثل الحريَّة، والعدالة، والمساواة بين جميع البشر، أو الاعتقاد بأنَّ السُّلطة السِّياسيَّة تهدف إلى حماية الإنسان. فقد كانت القناعة مستمرَّة بأنَّ الدِّيمقراطيَّة هي أفضل شكلًا من أشكال تحقيق الحريَّة الإنسانيَّة، ترجع إلى النَّقد الدَّائم للحكم العنصري من قبل مختلف الحركات المناهضة للعبوديَّة، والمناهضة للاستعمار، والحقوق المدنيَّة[4].
العقل الزِّنجي ليس منفصلًا عن العرق؛ لذلك نجد نقد هذا العقل من منظور مبيمبي ما هو إلَّا الوجه الآخر لنقد الحداثة الغربيَّة برمَّتها. موضِّحًا أن َّمنطق العرق هو نتاج ميتافيزيقا الحداثة الغربيَّة، وهو الطَّريقة الَّتي نظر بها الغرب إلى العالم، ويقسِّمه مع وجود أوروبا في مركزه، يعمل هذا المنطق من خلال وضع شخصيَّة جوهريَّة في حال العرق الأبيض، بوصفها أعلى في مبادئها، وأسسها، والَّتي وفقًا لها يتمُّ هيكلة العالم، وينتهي هذا المنطق بأنَّ العرق يكون أسطورة خياليَّة تمَّ إنشاؤها حول الذَّات، والآخر من وجهة نظر الرَّجل الأبيض، وقد تزامن إنشاء العرق مع مشروع أوروبا، والتَّوسُّع الغربي، حيث واجه الغرب الآخر باستخدام الاختلاف المطلق للتَّمييز بين البشر مع تصنيف غير الأوروبيِّين على أنَّهم أقلُّ من البشر[5].

كانت الحداثة هي الاسم الآخر لمشروع التَّوسُّع الأوروبِّي من القرن الثَّامن عشر، وبداية القرن التَّاسع عشر؛ حيث أصبح القرن التَّاسع عشر هو قرن الإمبرياليَّة العظمى الَّتي فرضت فيها أوروبَّا على الشُّعوب الأخرى. لذلك فإنَّ نقد الحداثة الغربيَّة لم يكتمل إلَّا بفهم ظهورها مقترنة بظهور مبدأ العرق، وأهمِّيَّته للتَّقسيم، والاختلاف البشري، والمجنَّد لأغراض الإقصاء، والَّتي من خلالها يتمُّ القضاء على مجموعة بشريَّة فيزيقيًّا. وكان الاستعمار، أو الإمبرياليَّة إحدى الوسائل الَّتي يتجلَّى من خلالها التَّطلُّع الأوروبِّي للهيمنة على العالم، ويشكِّل الاستعمار نمطًا من السُّلطان المؤسِّس للمنطقيَّات الثَّلاث: منطق العرق، منطق البيروقراطيَّة، منطق التِّجارة. يعمل العرق في النِّظام الكولونيالي بعدِّه مبدأ الجسد السِّياسي، أمَّا البيروقراطيَّة هي ترتيب هيمنة، ومن ثمَّ تحلُّ القوَّة محلَّ القانون[6] لذلك يرى مبيمبي أنَّ تاريخ الحداثة الغربيَّة هو تاريخ العقل الأسود.

العنف ودورة في السِّياسات العدائيَّة
يقدِّم أشيل مبيمبي تحليلًا نقديًّا لسياسات العنف من خلال تتبُّع الأشكال الاستعماريَّة، وعندما يناقش مبيمبي فينومينولوجيا العنف، فإنَّه يتحدَّث عن الموت؛ وإنَّ أفريقيا الحاليَّة هي الَّتي تخطر بباله، ليس لكونها أرض الموت، والجنون الخارج عن السَّيطرة أكثر من أيِّ مكانٍ آخر، بل لأنَّ أفريقيا الحاليَّة تظهر في الخطاب الحديث، والمعاصر مثل الظَّلام مجرَّدة من الوعي[7]. ويهدف مبيمبي إلى تسليط الضَّوء على فهم مختلف لسياسات العنف في أفريقيا المعاصرة، وعلى وجه الخصوص في دولة «فلسطين» المحتلَّة، وما يقوم به المحتلُّ من فرض سلطته، وهيمنته على الأراضي الفلسطينيَّة؛ باستخدام أساليب العنف المختلفة، ونتيجة ذلك؛ ازدياد العنف، والإرهاب تحت مسمَّيات مختلفة. أيضًا يستعرض مبيمبي في تحليله للسِّياسات العدائيَّة تطورًا تاريخيًّا لمفهوم الحرب، وما يطرأ عليها من تغييرات في الطُّرُق، والأدوات المستخدمة، والَّتي من شأنها رسم خريطة جديدة لمفهوم الموت والحياة.[8] يقترح مبيمبي التَّفكير في الموت مثل استراتيجيَّة، وتأثيره على السُّلطة، ويطرح سؤال عمَّا إذا كانت فكرة السٌّلطة الحيويَّة ستكون كافية للتَّعامل مع الأشكال المعاصرة من العنف، إلَّا أنَّه عدَّها غير كافية، ويقترح مفاهيم الموتى، والمقابر للتَّفكير في أشكال جديدة من خضوع الحياة لسلطة الموت، ويقوم بتحليل فترات الاستعمار، والحروب المتأخِّرة، وبخاصَّة في البلدان الأفريقيَّة، وفي منطقة قطاع غزَّة.

تفترض السِّياسات العدائيَّة (سياسات الموت) لدي مبيمبي أنَّ التَّعبير النِّهائي للسِّيادة يكمن في السُّلطة، والقدرة على اختيار الَّذين يعيشون، والَّذين يجب أن يموتوا، لكن تحت أيِّ ظروف يمارَس الحقُّ في القتل، والسَّماح بالحياة، ومن هي الذَّات الَّتي تمارس هذا الحقَّ. وللإجابة على ذلك يتعلَّق الأمر بمفهوم السُّلطة البيولوجيَّة، وعلاقتها بمفاهيم السِّيادة[9].
يبدأ مبيمبي من فكرة الحداثة، والَّتي كانت الأساس للمفاهيم المتعدِّدة عن السِّيادة، وكذلك للسُّلطة البيولوجيَّة. ويرتكز اهتمام مبيمبي في أشكال الهيمنة الَّتي لا يكون موضوعها الأساس الصِّراع من أجل السُّلطة، وإنَّما موضوعها تحويل الوجود الإنساني إلى أداة معمَّمة، وإلى التَّدمير المادِّي للأجساد البشريَّة، والشُّعوب، وهذه السِّيادة مثل معسكرات الموت الَّتي تشكِّل القانون للمكان السِّياسي، أي الحدود التي نحن بصدد العيش فيها. إنَّ التَّجارب المعاصرة للتَّدمير البشري تشير إلى إمكانيَّة تطوير قراءة للسِّياسة، والذَّات؛ مختلفة عن تلك الَّتي ورثت من الخطاب الفلسفي للحداثة، فبدلًا من حسب العقل حقيقة الذَّات، يمكن النَّظر إلى فئات أخرى مثل الحياة والموت. وللدَّلالة على تلك الفكرة لا بدَّ من مناقشة للعلاقة بين الموت والتَّحوُّل إلى الذَّات[10].

ويمكن توضيح هذا المفهوم على النَّحو التَّالي. إنَّ تناول هيغل لمفهوم الموت يرتكز على السَّلب المزدوج، حيث يقوم الإنسان بنفي الطَّبيعة أوَّلًا، وهو نفي موجَّه للخارج، لتطويع الطَّبيعة لاحتياجاته الخاصَّة، وثانيًا يقوم بتحويل العنصر المنفي من خلال العمل والنِّضال، وفي إطار تحويل الطَّبيعة؛ فإنَّ الإنسان يبدع عالمًا لكنَّه في تلك العملية يتعرَّض لسلبه الخاصِّ، ومن ثمَّ في النَّسق الهيغلي يكون موت الإنسان إراديًّا نتيجة الأخطار الَّتي تعيها الذَّات، فالإنسان وفقًا لهيغل ينفصل عن مرحلة الحيوانيَّة، ويصبح ذاتًا في النِّضال، والعمل الَّذي يواجه من خلاله الموت، وبالتَّالي فهناك صيرورة بين أن تصبح ذاتًا، وتدعم عمل الموت، هذا الدَّعم هو الَّذي يحدِّد حياة الرُّوح، فكما يقول هيغل إنَّ حياة الرُّوح ليست هي الحياة الَّتي تخاف من الموت، وتخلِّص نفسها من الدَّمار، ولكن هي تلك الحياة الَّتي تفترض الموت، وتعيش معه، فالرُّوح لا تصل إلى حقيقتها إلَّا بالعثور على ذاتها في التَّفكُّك المطلق[11].
وبعد أن قدَّم مبيمبي السُّلطة بوصفها عمل الموت، ينتقل إلى السُّلطة بوصفها الحقَّ في القتل، ويدرس المسارات الَّتي توضح أنَّ حال الاستثناء، وعلاقة العداوة هي المعيار الَّذي يعطي الحقَّ في القتل، وفي مثل هذه الحال تشير السُّلطة بشكل مستمرٍّ إلى حال الاستثناء، والطَّوارئ، والسُّؤال المطروح هنا ما هي العلاقة بين السُّلطة والموت في ظلِّ هذه النُّظم الَّتي لا تعمل فقط إلَّا في حال الطَّوارئ؟

في صياغة فوكو للسُّلطة البيولوجيَّة، يتمُّ تقسيم النَّاس إلى أولئك الَّذين يجب أن يعيشوا، والَّذين يجب أن يموتوا، هذه السُّلطة تعرِّف نفسها من خلال الحقل البيولوجي الَّذي تسيطر عليه، وهذه السَّيطرة تفترض مسبقًا توزيع النَّوع البشريَّة في مجموعات، وتقسيم المجموعات إلى مجموعات فرعيَّة، ووضع حدٍّ فاصل بين المجموعات بعضها بعضًا، وهذا ما يطلق عليه فوكو مصطلح «العنصري»، هذه العنصريَّة في السُّلطة البيولوجيَّة مبرَّرة تمامًا، وبحسب فوكو فإنَّ العنصريَّة تقنيَّة تهدف إلى السَّماح بممارسة السُّلطة البيولوجيَّة، وهي الحقًّ السِّيادي القديم بالقتل (إشارة إلى مرحلة المزرعة، والمستعمرة من بعدها)، وفي الاقتصاد السِّياسي للسُّلطة البيولوجيَّة، فإنَّ عمل العنصريَّة يكمن في تنظيم الموت، وجعل أفعال الدَّولة الإجراميَّة ممكنة[12].
وفقًا لفوكو تُعدُّ الدَّولة النَّازيَّة المثال الأكثر اكتمالًا للدَّولة الَّتي تمارس حقَّ القتل، حيث جعلت الإدارة، والحماية تتعايش مع الحقِّ السِّياديِّ في القتل، وبواسطة الاستنتاجات البيولوجيَّة حول موضوع العدو السِّياسي، وتنظيم الحرب ضدَّ الخصوم، وفي الوقت نفسه تعرِّض المواطنين للحرب، وطَّدت الدَّولة النَّازيَّة الطَّريق الهائل للحقِّ في القتل، والَّذي تُوِّج بمشروع الحلِّ النِّهائيِّ، وهي بفعلها هذا أصبحت النَّموذج الأصلي لتشكيل السُّلطة الَّتي تجمع بين خصائص الدَّولة العنصريَّة، والدَّولة القاتلة، والدَّولة الانتحاريَّة، هذا الخلط بين الحرب، والسِّياسة، والعنصريَّة، والقتل، والانتحار هو أمر فريد من نوعه خاصٌّ بالدَّولة النَّازيَّة. يرى مبيمبي أنَّ تصوُّر الآخر مثل تهديد مميت يعزِّز قدرتي على الحياة، والأمن واحدًا من العديد من اعتبارات السِّيادة المميِّزة للحداثة المبكرة، والمتأخِّرة أيضًا، ويدعم الاعتراف بهذا التَّصوُّر معظم الانتقادات التَّقليديَّة للحداثة[13].

إنَّ الرَّوابط بين الحداثة، والإرهاب تنبع من مصادر متعدِّدة، وتظهر بوضوح في سرديَّات مختلفة، يرتكز معظمها على فهم التَّنوير للصَّواب والخطأ، وللحقيقي والرَّمزي. يرى مبيمبي أنَّ الانقسامات الطَّبقيَّة، وازدهار الدَّولة يفترض التَّعدُّديَّة البشريَّة، وهي العقبة الرَّئيسة أمام تحقيق الغايات التَّاريخيَّة المحدَّدة سلفًا، لذلك فإنَّ الذَّات في الحداثة الماركسيَّة على سبيل المثال هي في الأساس ذات تريد إثبات سيادتها من خلال شنذِ قتال حتَّى الموت، كما هو الحال مع هيغل، فإنَّ سرديَّة السَّيطرة، والتَّحرُّر ترتبط بوضوح بسرديَّة الحقيقة، والموت، ومن ثمَّ يصبح الإرهاب، والقتل وسيلة لتحقيق الأهداف الحتميَّة تاريخيًّا[14].

إنَّ التَّتبَّع التَّاريخي لظهور الإرهاب الحداثي؛ يبدأ من تناول مسألة الرِّقِّ، والعبوديَّة، والَّتي تعدُّ أولى حالات التَّجريب السِّياسي للسُّلطة البيولوجيَّة، فالرَّقيق تنتج من خسارة الوطن، وفقدان الإنسان العبد الحقوق على جسده، وفقدان الحال السِّياسيَّة، وهي تتطابق مع الهيمنة المطلقة، والاغتراب منذ الولادة، والموت الاجتماعي؛ أي الطَّرد من الإنسانيَّة تمامًا. ولأنّض العبد يخضع لسيِّده، يتصرَّف فيه كيفما يشاء، ولأن للعبد سعرًا، وقيمة بوصفه أداة للعمل، وبوصفة ملكيَّة، يحافظ السَّيِّد على حياته، ولكن في ظلِّ عالم مشبع بالقسوة الشَّديدة، والكلام البذيء، في هذا المشهد الأليم الواقع في جسد العبد، يصبح العنف عنصرًا من السُّلوكيَّات، مثل جَلد العبد، أو قتله: فعل تدمير محض، يهدف إلى نشر الرُّعب، فحياة العبد هنا شكل من أشكال الموت حيًّا. وفي حال الاستعمار، وفي نظام الفصل العنصري، تأتي سياسات القسوة لتكون تشكيلًا إرهابيًّا غريبًا، الميزة الأكثر أصالة في هذا التَّكوين للإرهاب كما يبيِّن مبيمبي هو تسلسل السُّلطة البيولوجيَّة، وحال الاستثناء، وحال الحصار. أي إنَّ الشَّيء الحاسم في هذا التَّسلسل هو العرق، فإنَّ الاصطفاء العرقي، وحظر الزَّواج المختلط، والتَّعقيم الإجباري، وحتَّى إبادة الشُّعوب المهزومة، تجد منبعها الأوَّل بالطَّبع في العالم الاستعماري، ووفقًا ل حنا ارندت، فإنَّ الغزو الاستعماري كشف احتمالًا للعنف لم يكن معروفًا من قبل. وبحسب فوكو فإنَّ النَّازيَّة، والستالينيَّة لم تقدِّم سوى توسُّع الآليَّات الموجودة من قبل في المنظومات الغربيَّة الأوروبيَّة الاجتماعيَّة، والسِّياسيَّة، وبرغم ذلك؛ يمثِّل الاستعمار في الفكر الحداثي، والممارسة، والخيال السِّياسي الأوروبي المكان الَّذي تتشكَّل فيه السِّيادة بشكل أساس من ممارسة السُّلطة خارج القانون[15].

إنَّ الحقَّ السِّيادي في القتل لا يخضع لأيِّ قانون في المستعمرات، فالحروب الاستعماريَّة ينظر إليها بوصفها تعبيرًا عن العداوة المطلقة، والَّتي تضع المستعِمر أمام عدوٍّ مطلق، فكلُّ تجلِّيات الحرب، والعداوة الَّتي همِّشت من قبَل الخيال القانوني الأوروبي تجد لها مكانًا في المستعمرات. يتَّفق مبيمبي مع فوكو في أنَّ فهم آليَّات السُّلطة البيولوجيَّة مقيَّدة في الدُّول الحديثة، لكنَّه يذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث ينظر إلى إمكانيَّة قتل الآخر على أنَّها عنصر أساس لسلطة الدَّولة في الحداثة تحت ما يسمَّى بحال الاستثناء، ومن المنظور التَّاريخي يدِّعي مبيمبي أنَّ الرَّبط بين الحداثة والإرهاب؛ الَّذي تجسِّده النَّازيَّة يأتي من عدّةَ مصادر منها العبوديَّة الَّتي تعدُّ المظهر الأوَّل لحالة السُّلطة البيولوجيَّة، والَّتي تعني أنَّ العبد لم يُقتل بالمعنى البيولوجي، ولكنَّه يبقى على قيد الحياة، ولكن في صورة مهينة تتخلَّلها عمليَّات القسوة البذيئة، والَّتي تخضع لهدف اقتصادي، كما أنَّ المستعمرة، ونظام الفصل العنصري أيضًا يتخلَّلها السُّلطة البيولوجيَّة، وحال الاستثناء، والحصار، وتشكُّل مناطق حرب، وفوضى.

سلطة الحياة والموت في ظلِّ الاحتلال الاستعماري الحديث والمتأخِّر
إنَّ سلطة الاستعمار تعني أنَّ الاحتلال الاستعماري نفسه يقصد به الاستيلاء على المناطق الجغرافيَّة، ورسم الحدود، وممارسة السَّيطرة على هذه الأرض، وفرض وضع جديد من العلاقات الاجتماعيَّة، والمكانيَّة، والَّتي أصبحت في نهاية المطاف بمنزلة إنتاج الحدود، والتَّسلسل الهرمي؛ وتصنيف النَّاس وفقًا لفئات مختلفة، واستخراج الموارد، وصناعة مخزون كبير من التَّخيُّلات الثَّقافيَّة، أدَّت إلى ممارسة السِّيادة، حيث أصبح المكان المادَّة الأوليَّة للسِّيادة، والعنف الَّذي تحمله معها، فالسِّيادة تعني الاحتلال، والاحتلال يعني وضع المستعمرين في منطقة ثالثة بين الذَّات والموضوع، وهذا هو الوضع في حال نظام الفصل العنصري «الأبارتايد»[16] في جنوب أفريقيا[17] .

يصف قانون الاحتلال الاستعماري؛ بأنَّه ينطوي على تقسيم المكان إلى أجزاء منعزلة، ويرسم حدودًا داخليَّة تتمثَّل في مراكز الشُّرطة، كما أنَّه ينظَّم من خلال لغة قوَّة خالصة، وحضورٍ فوري؛ والأهمُّ من ذلك هو إنَّه يحدِّد الطَّريقة الَّتي تعمل بها سلطة الموت. ويختلف الاحتلال الاستعماري في الحداثة المتأخِّرة كثيرًا عن الاحتلال في الحداثة المبكرة، ويعدُّ الشَّكل الأكمل لسلطة الحياة، والموت في الاحتلال الاستعماري المعاصر في «فلسطين»؛ حيث تستمدُّ الدَّولة الاستعماريَّة مطالبها الأساس بالسِّيادة، والشَّرعيَّة من سلطة سردها الخاصِّ للتَّاريخ والهويَّة، انطلاقًا من رواية مدعومة بفكرة الدَّولة عن الحق الإلهي المقدَّس في الوجود، وهي رواية تتناقض مع رواية أخرى تستند إلى المكان المقدَّس ذاته،...[18].
إنَّ الاحتلال الاستعماري المعاصر لفلسطين؛ هو أنجح أشكال الموت، حيث ينتهج العنف، والسِّيادة من منطلق مقدَّس، أي منطلق ديني، ويتمُّ تصوُّر الهويَّة الوطنيَّة على أنَّها هويَّة ضدَّ الأخر، لذلك؛ فإنَّ الآليَّات تختلف عن نموذج الاستعمار القديم، ويعدُّ العنف الدِّيني من أخطر أنواع العنف لما يترتَّب عليه من إبادات جماعيَّة لقبائل، وشعوب، والقضاء على هويِّات تلك الشُّعوب.

لقد ظهرت روابط جديدة بين صنَّاع الحرب، والآلات الحربيَّة، واستخراج الموارد الاقتصاديَّة، وتعدُّ آلآت الحرب مندرجة في تكوين اقتصادات محليَّة، أو إقليميَّة عابرة للدُّول، وفي معظم الأماكن إنَّ انهيار المؤسَّسات السِّياسيَّة الرَّسميَّة تحت ضغط العنف، يتَّجه إلى تشكيل اقتصاد الميليشيات، وتصبح آلآت الحرب في ظلِّ هذه الحال (الميليشيات وحركات التمرد)، آليَّات منظَّمة تنظيمًا عاليًا من أجل الاستيلاء، وفرض ضرائب على الأراضي الَّتي تحتلُّها، وعلى السكَّان. ومن هذا المنطلق لم تعد الحرب تُشنُّ بين جيوش دولتين ذات سيادة، بل يتمُّ شنُّها من قبل جماعات مسلَّحة تعمل خلف قناع الدَّولة ضدَّ جماعات مسلَّحة ليس لها دولة، بل تسيطر على مناطق متميِّزة جدًّا، وفي حال فشل المنشقِّين المسلَّحين في الاستيلاء الكامل على سلطة الدَّولة، فإنَّهم يحرِّضون على تقسيمات إقليميَّة، وينجحون في السَّيطرة على مناطق بأكملها يديرونها على غرار الاقطاعات[19].
وهنا يلقي مبيمبي الضَّوء على إحدى السِّياسات الخطيرة الَّتي يتبعها الغرب مع أفريقيا؛ حيث يكشف دور الاستعمار في صورته المعاصرة، والَّذي يعتمد على المتمرِّدين في الدُّول المراد تفتيتها، ودعمهم بالأسلحة، والتِّقنيَّات المتفوِّقة تكنولوجيًّا في تحقيق الأهداف المطلوبة داخل تلك البلاد، وبتدقيق النَّظر إلى الدُّول الممزَّقة في الوقت الرَّاهن سنجد أنَّ الميليشيات موجودة بشكل أساس في تلك البلاد، وإن اختلفت المسمَّيات مثل طالبان في أفغانستان، الدَّواعش في ليبيا، وغيرهم من الميليشيات المنتشرة بمساعدة القوى الاستعماريَّة، والَّتي تمدُّهم بالسِّلاح والمال، ومن الجدير بالذِّكر أنَّ تلك الجماعات المسلَّحة بجانب عمليَّات القتل، والإرهاب تقوم بطمس معالم التُّراث الإنساني من خلال تدميره، ومن ثمَّ طمس معالم الهويَّة الحضاريَّة، والثَّقافيَّة للشُّعوب.

إنَّ المركزيَّة الأوروبيَّة ما زالت موجودة في ظلِّ الاحتلال الحديث، والمعاصر لدولة فلسطين، ولكنَّها تتَّخذ شكلًا آخر لها، وهو الشَّكل المقدَّس، لذلك أصبحت عنصريَّة اليهود ضدَّ الفلسطينيين عنصريَّة دينيَّة، واحتقارًا للجنس الآخر، لم يكن على أساس اللَّون بل على أساس المعتقدات الدِّينيَّة، وما يترتَّب عليها أخطر أنواع العنف، وهو العنف الدِّيني فيكون لديهم الحقُّ في قتل، وإبادة فئات من البشر تحت مسمَّى الحفاظ على الهويَّة الدِّينيَّة.

مفهوم الحريَّة عند أشيل مبيمبي
يؤمن هيغل بأنَّ أحداث الماضي كلُّها كانت تتَّجه نحو تحقيق هدف الحريَّة، ففي مقدِّمة كتابة فلسفة التَّاريخ يقول: إنَّ تاريخ العالم ليس إلَّا تقدُّم الوعي نحو الحرِّيَّة. ذلك عكس المفهوم اللِّيبرالي الكلاسيكي للحرِّية. حيث يرى اللِّيبراليُّون أنَّ الحرِّيَّةَ عامَّةً تعني غيابَ القيود؛ فأنا حرٌّ إذا لم يتدخَّل الآخرون في شؤوني، ولم يجبروني على فعل شيء لا أرغب في القيام به؛ أنا حرٌّ عندما أقوم بما يحلو لي. أنا حٌّر عندما يَدَعُني الآخرون وشأني. هذا هو مفهوم الحرِّيَّة الَّذي أطلق عليه أشعيا برلين «الحرِّيَّة السَّلبيَّة» في مقاله الشَّهير «مفهومان للحرِّيَّة». إلَّا أنَّ هيغل في مفهومه للحرِّيَّة كان مخالفًا لآراء اللِّيبراليِّين؛ فهو يرى أنَّ فكرتهم لا تعبِّر عن النُّضوج التَّامِّ، لأنَّها لا تتضمَّن أيَّ تلميح إلى الإرادة الحرَّة كلِّيًّا، والحقَّ، والحياة الأخلاقيَّة، وغيرها[20].
إنَّ الحرِّيَّة تعني التَّحرُّر من كلِّ أشكال الاسترقاق والعبوديَّة، ويناقش مبيمبي فكرة الحرِّيَّة من خلال مقارنة بين المفهوم في الفكر الغربي، والفكر الأسود. ويعتقد أنَّ الرَّغبة المستمرَّة في حرِّيَّة الإنسان كانت هي السَّؤال الرَّئيس الَّذي انكشف حوله أفضل ما في الفلسفة الغربيَّة. بغض النَّظر عن كيفيَّة تصوُّرها، كانت الحرِّيَّة هي المفهوم السِّياسي الأكثر أهمِّيَّة في النَّظريَّة السِّياسيَّة الحديثة، والتَّنويريَّة، وهي تقع في قلب العلاقات الاجتماعيَّة، وتغذِّي المفاهيم ذات الصِّلة بالحقوق، والالتزامات، والعدالة، والمسؤوليَّة. علاوة على ذلك، كما ذهب فوكو، بقدر ما تعدُّ الحرِّيَّة نمطًا من النَّشاط والفكر، فإنَّ ممارسة الحريَّة تتطلَّب أخلاقيَّات رعاية الذَّات. والذَّات الَّتي تدور في ذهن فوكو ليست الفرد المجرَّد لنظريَّة الدَّولة اللِّيبراليَّة للطَّبيعة، بل هو كائن اجتماعيٌّ بحاجة إلى مجتمع[21].
فالحريَّة إنتاج يستلزم البناء، ويقتضي إنتاجها الأمن والحماية، إلَّا أنَّ فوكو في نظر مبيمبي قد نسي أن يوضح أنَّ عبوديَّة الزُّنوج مثَّلت على مدار التَّاريخ تدميرًا للحرِّيَّة[22]. لذلك كانت العلاقة بين الاهتمام بالذَّات، ومعرفة الذَّات محورًا حاسمًا لفهم ليس فقط العلاقة الفلسفيَّة بين الذَّات، والحقيقة، ولكن أيضًا طريقة، ومسألة الحريَّة نفسها. فقد كان مشروع الحرِّيَّة هو الأفق الَّذي تطوَّر ضدَّه نقد الحداثة بوصفه نقدًا للحاضر. والجزء الجوهري من نقد الحداثة نفسها إمَّا يتعلَّق بفشلها في تحقيق الحرِّيَّة للجميع، أو حول ميلها إلى استخدام الحريَّة مثل قناع لغايات سياسيَّة ساخرة، ولتقدِّم مفهومًا للإنسان يمنح امتيازًا لعرق واحد[23].

إنَّ مشروع الحريَّة في المنظور الغربي ما هو الَّإ قناع لتغطية السِّياسات الاستعماريَّة الغربيَّة، كما أنَّها أيضًا غلاف للعنصريَّة الأوروبيَّة، وتفوق الجنس الأبيض. إنَّ فلاسفة التَّنوير في مناقشتهم للحريَّة لم يقدِّموا أيَّ نقد، أو تنديد للعنصريَّة ضدَّ السُّود، ومن ثم كان عصر التَّنوير الأوروبي ما هو إلَّا عصر ظلام على أفريقيا. إنَّ قيم الحريَّة، والعدالة، والمساواة في الفلسفة الغربيَّة لم تطبَّق على أفريقيا والزَّنوج، وإنَّ فلاسفة عصر التَّنوير هم أنفسهم من قدَّموا الأفكار العنصريَّة، والنَّظرة الدُّونيَّة للأفارقة والزُّنوج، لذلك يمكننا القول إنَّ فلاسفة التَّنوير قد ناقضوا أنفسهم، وإنَّ قيم التَّنوير ما هي إلَّا قيمًا خدمت الأهداف الاستعماريَّة.

ما يميِّز الفكر الفلسفي الغربي حول الحريَّة؛ هو التَّعبير عن الحريَّة مع ديالكتيك السَّيِّد، والعبد من ناحية، ومع الاختلاف من ناحية أخرى. بعبارة أخرى، في المدخل الأعمق للتَّفكير الفلسفي الغربي حول الحريَّة، يفترض الاختلاف بعدِّه الأرضيَّة النِّهائيَّة الَّتي يستند إليها معنى الحرِّيَّة، ويزعم مبيمبي أنَّ الفصل بين طريقة الحريَّة ومادَّتها، هذا التَّشعب بين التَّفكير السِّياسي للحريَّة، والتَّفكير الفلسفي للموضوع نفسه، هو السِّمة الغالبة لنظريَّات الحريَّة الغربيَّة. على العكس من ذلك، تكمن أصالة الفكر الزنجي الحديث في التَّوفيق بين نقد أسلوب الحريَّة، ونقد موضوعها. العرق هو ما يسمح لهذه المصالحة، العرق بمعناه المزدوج لشكل من أشكال الحرب، والقانون، والخروج على القانون من ناحية، والفضاء الفارغ الَّذي يشكِّل علاقات الخضوع الاجتماعيَّة، والنِّظام السِّياسي نفسه من ناحية أخرى. الادِّعاء الرَّئيس للنَّقد الزنجي هو أنَّه في سياقات الإرهاب العنصري، يتمُّ ربط عقدة الحريَّة في الموت، أو على الأقل في التَّهديد بالقتل، الأساس النِّهائي الَّذي بدونه لا يمكن للوعي أن يفكِّر ويفهم نفسه[24].
إنَّ ما يطلق عليه مبيمبي (الفكر الزنجي) هو ظاهرة حديثة تمامًا، وهو أيضًا ظاهرة الشَّتات. فالفكر الأسود شتات ليس بالضَّرورة لأنَّه متجذِّر في مفاهيم الإطاحة من مكان المنشأ، في هذه الحالة أفريقيا نقطة مرجعيَّة خياليَّة في بناء الهويَّة السَّوداء، ولكنَّ الأهم من ذلك؛ لأنَّه يتشكَّل في عوامل متعدِّدة، وينتقل عبر دوائر الثَّقافة، والمعنى الَّتي تستمرُّ في التَّقارب، والتَّباعد في نفس الوقت. لذلك، هناك متغيِّرات من الفكر الزِّنجي أكثر تعبيرًا عن الظُّروف التَّاريخيَّة لأولئك الَّذين يمكن أن نطلق عليهم السُّود الغربيِّين، أو الأميركيِّين من أصل أفريقي، ومسألة الرِّق على سبيل المثال[25].

بالتَّدقيق في الفجوة الَّتي تفصل بين العبوديَّة، والحريَّة. من المهم أنَّ الخطوة الأولى للحريَّة، في مثل هذا السِّياق، هي استعادة الكلام، أو اللُّغة. فرانز فانون على سبيل المثال، خصَّص الفصل الأوَّل من كتابه بشرة سوداء قناع أبيض Black Skin, White Masks لمسألة اللًّغة. في الواقع، في ظلِّ الاستعمار كان أوَّل شكل من أشكال الاحتياج البشري يتمثَّل في حقيقة أنَّ المستعمر لم يكلِّف المستعمر نفسه عناء الرَّد؛ لأنَّ الرَّد سيعني إضفاء مكانة إنسانيَّة معيَّنة على الشَّخص الَّذي يتحدث إليه. في ظلِّ هذه الظُّروف، فإنَّ أوَّل موقع للنِّضال من أجل الحريَّة هو بالتَّالي ميدان الكلام واللُّغة. يوضِّح فانون أنَّ اللُّغة هي أوَّل حال يستبعد منها المستعمر. إنَّ استبعادك من عالم اللُّغة يعني استبعادك من عالم الإنسان، وهو المجال الَّذي يتمُّ فيه التَّعامل مع البشر بصفتهم بشرًا، وتشكيلهم على هذا النَّحو. في ظلِّ ظروف العبوديَّة أيضًا، أصبح الكلام، واللُّغة الوسيلتين الرَّئيستين لإعادة ترتيب العلاقة بين حريَّة الإنسان، وجوهر الإنسان[26].
ولأنَّ اللُّغة من السِّمات الأساس في تحديد الهويَّة الثَّقافيَّة؛ عمد الاستعمار إلى حرمان الأفارقة من التَّعامل بلغتهم الأصليَّة، وإجبارهم على تعلُّم، والتَّعامل بلغة المستعمِر، بل عمد إلى حرمان الزِّنجي منذ تجارة الرَّقيق من إمكانيَّة التَّعبير والكلام، ذلك بأنَّهم إذا تكلَّموا سيصبح لوجودهم قيمة، ومن ثمَّ سعى الاستعمار إلى نفي أيِّ قيمة للسُّود حتَّى لو بالكلام. ولأهميَّة اللُّغة سعى الفلاسفة الأفارقة أمثال بولين هونتودجي، وكواسي وريدو إلى محاربة الاستعمار المعرفي، وتأكيد دور اللُّغة في عمليَّة إنهاء هذا النَّوع من الاستعمار، ولأهميَّة اللُّغة أيضًا نادى الشَّيخ أنتا ديوب بالعودة إلى اللُّغات الأفريقيَّة، وضرورة وجود لغة أفريقيَّة موحَّدة.

هناك تقليد طويل الأمد للفكر الأسود يحدِّد الحريَّة في عالم الجماليَّات. هذا نوع من الحريَّة يمكن أن نطلق عليه الحريَّة الأصليَّة. تظهر الجماليَّات، بهذا المعنى، على أنَّها المجال الَّذي نصنع فيه تجربة القوى المتعدِّدة للعقل البشري، والطُّرق الَّتي تستدعي بها هذه القوى أنماطًا مختلفة من الإدراك في آن واحد: العقل، الفهم، العاطفة، المتعة، التَّعاطف. وهنا تتمثَّل الحريَّة في المقام الأوَّل في الإرادة للاعتراف بنفسه على أنَّه حرٌّ. وهذا يعني التَّنشئة الواعية لبنية عميقة للعلاقة الذَّاتيَّة. في الواقع، في تجربة السُّود، كانت الحريَّة بالضَّرورة نتيجة لنوع معين من النِّضال – النِّضال من أجل أن تصبح. وكما يوضح فانون، فإنَّ الهدف من الحريَّة هو استمرار، وتحسين الظُّروف الَّتي تجعل هذا الصِّراع ممكنًا، وهو شيء يتضمَّن الوسائل الَّتي من خلالها تخلق الذَّات نفسها (خلق الذَّات – اكتشاف الذَّات). هذا هو السَّبب في أنَّه أشار إلى الحريَّة على أنَّها تجربة سابقة، وهي محاكمة لا نهاية لها تفترض مسبقًا أخلاقيَّات معيَّنة للذَّات، وطريقة معيَّنة في الاهتمام بالذَّات، وطريقة معيَّنة لتفسير الذَّات[27].
وعن الرَّؤية الأفريقيَّة، والتَّجربة السَّوداء يرى مبيمبي أنَّ النَّقد الفلسفي الأسود تأثَّر بالحداثة، وبالتَّجربة التَّاريخية للأسر، والعبوديَّة، والقهر الاستعماري والعنصريَّة. كان التَّقليد الفرنكفوني الأسود (سنغور، وسيزير، وفانون، وغيرهم) في طليعة هذا النَّقد. يكشف التَّقليد الفرانكفوني الأسود أيضًا عن محاولًات الغرب لممارسة احتكار العقل، ويكشف القناع عن المعتقدات غير العقلانيَّة المركزيَّة لأيِّ مشروع للهيمنة العرقيَّة. هذا بالضَّبط ما فعله فرانز فانون. أظهر مدى استعداد القوَّة الغربيَّة للدِّفاع عن المعتقدات غير العقلانيَّة الَّتي تشكِّل أساسًا لأيِّ شكل من أشكال العنصريَّة، إذا لزم الأمر، من خلال سياسة الوحشيَّة، والإبادة الجماعيَّة كلُّ ذلك باسم «الحضارة» والإنسانيَّة. عدم قدرة القوَّة الغربيَّة على التَّفكير بشكل نقديٍّ في نفسها في ما يتعلَّق بالقسوة الَّتي تُلحقها بالأخر، وهذا الميل إلى إراقة دماء الآخرين باسم الحضارة، والحريَّة، والإنسانيَّة، لقد كان هذا في قلب النَّقد الأسود للحداثة. يجادل النَّقد الأسود ضدَّ حقيقة أنَّ القوى الغربيَّة، في سعيها للسَّيطرة على السِّيادة على العالم، تخفي خصوصيَّة تمَّت صياغتها بشكل مميَّز من حيث القيم العالميَّة. ومع ذلك فهي عالميَّة تقوم على مفهوم عنصري لما يشكِّل الإنسان، وتظهر التَّخيُّلات السُّود للحريَّة كردِّ فعل على دافع الموت هذا الَّذي يخفي نفسه تحت ستار الحضارة والإنسانيَّة[28].

هناك نسخة أخرى من التَّحرر نواجهها في الخيال الأسود. التَّحرير بصفته حركة تضحية هو عمليَّة مستهلكة للغاية. من خلال الإرادة البشرية المطلقة، تتمُّ التَّضحية بالذَّات من أجل الصَّالح العام في المستقبل. هذا ليس بعيدًا من الاستشهاد. يتمُّ قتل شكل من أشكال الحياة من أجل الحفاظ على شكل آخر. في الواقع، السَّعي من أجل الحريَّة هو محاكمة الموت، وإذا لزم الأمر، قبول مسؤوليَّة موت المرء كما أوضح نيلسون. الموت في هذه الحال هو باب الحياة الَّذي يفتح حقيقة الحياة، الحياة الَّتي تعيش بالتَّضحية بنفسها. إنَّها تضحية تتمُّ عن الجميع، ومن هنا جاء طابعها التَّعويضي، الموت من مارتن لوثر إلى مانديلا، هذه السُّلطة المطلقة الممنوحة للموت، أو إمكانيَّة الموت، هذه الحريَّة الأخرويَّة، هي جانب أساس من السَّرد الأسود الحديث للخلاص. هناك العلاقة بين الحريَّة والعنف. سواء كان ذلك من النَّاحية النَّظريَّة أو لا، فإنَّ ممارسة العنف باسم النضال من أجل التَّحرير أو في هذا الصَّدد، كان البقاء سمة مشتركة للعديد من الحركات السِّياسيَّة. إنَّ قتل العدو هو نقطة الصُّفر للحريَّة[29].

الحريَّة إذن بالنِّسبة للأفارقة تعني النِّضال من أجل الاستقلال، والكفاح ضدَّ العنصريَّة الغربيَّة المتغطرسة، كما أنَّها في المقام الأوَّل تكمن في الإرادة، والاعتراف بالنَّفس على أنَّها حرَّة، كما أنَّها بالنِّسبة للسُّود تبدأ من قتل العدو، حين التَّخلص من عدوِّي، والَّذي يمثِّل خطرًا واضحًا لوجودي، وهويَّتي، فإنَّني بذلك أكون قد خطوت الخطوة الأولى نحو الحريَّة. إنَّ الحريَّة لا تعني فقط التَّخلُّص من العدو بصورة جسديَّة، بل التَّخلص منه أيضًا في الصُّورة الثقافيَّة والمعرفيَّة، والتَّخلُّص من كلِّ الرَّواسب الَّذي خلَّفها المستعمر. وخلاصة القول يكشف مبيمبي عن العنف كونه متأصِّلًا في فكرة معيَّنة عن العقل، ويدعوا إلى قراءة بديلة للحداثة، كما يرفض العنف بجميع أشكاله، وينادي بإنسانيَّة واحدة تحترم جميع البشر بمختلف ألوانهم ومعتقداتهم. لذلك يمكننا القول إنَّ أشيل مبيمبي يقدِّم نموذجًا للسَّلام العالمي يضاهي دعوة كانط حول السَّلام العالمي مع اختلاف مبيمبي عن كانط في دعوة مبيمبي باحترام العقائد، والمقدَّسات، والتي حسبها كانط سبب العنف والدَّمار في العالم.

لائحة المصادر والمراجع
المصادر العربيّة
مبيمبي، أشيل. (2021). السِّياسات النكراوية أو سياسات الموت. ترجمة: أبو رحمة، أماني. أوراق فلسفية، العدد 77-78.
مبيمبي، أشيل. (2022). ما بعد الاستعمار(أفريقيا والبحث عن الهويَّة المسلوبة).( ط1). ترجمة: الأيوبي، أمين، مراجعة خالد قطب. بيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع.
مبيمبي، أشيل. (2019). سياسات العداوة. (ط1). ترجمة: ميلود، طواهري. بيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع.
سينجر، بيتر. (2014). هيغل. ترجمة: السَّيد، محمد ابراهيم. مؤسسة هنداوي.

المصادر بالأجنبيّة
Mbembe, Achille. (2003). Necropolitics. Translated by Libby Meintjes, Public Culture, Duke University press, Vol 15, n 1.
Mbembe, Achille. (2004). Faces of freedom: Jewish and Black experiences. Published in the wiser review. vol. 7(3).
Mbembe, Achille. (2011). Fragile Freedom (Experiences of Freedom in postcolonial literatures and cultures). Routledge Taylor& Francis Group, London and New York, first published.
Mbembe, Achille. (2015a). Apartheid futures and the limits of racial reconciliation. Johannesburg: witsinstitue forsocial and economic research.
Mbembe, Achille. (2021a). Out of the Dark Night. Columbia University Press, New York.
Ashcroft, Bill; Griffiths, Gareth; and IFFIN, Helen T. (2007). Post- Colonial Studies the key concepts. Routiedge, London and New York, second edition.
Gerber, Schalk. (2019). toward a postcolonial universal ontology: nots on the thought of Achille Mbembe.
Pele, Antonio. (March 2020). 'Necropolitics' of Achille Mbembe. Key word in Critical Legal Thinking. Research Gate.

--------------------------------------
[1](*)- باحثة في الفلسفة السِّياسيَّة- جامعة القاهرة- جمهورية مصر العربيَّة.
[2]- Ashcroft, B., P175- 176.
[3]- Mbembe. 2021. P72: 76.
[4]- Mbembe. 2015. P1.
[5]- Gerber, S., 2019, P11.
[6]- نقد العقل الزنجي، ص83-87.
[7]- الأيوبي، أمين، 2022، ص233.
[8]- Pele, A., 2020, P2.
[9]- Mbembe, A., 2003, P11.
[10]- الأيوبي، أمين، 2022، ص105.
[11]- Mbembe, A., 2003, P14.
[12]- مبيمبي، 2019، ص109.
[13]- أبو رحمة، أماني، 2021، ص131.
[14]- أبو رحمة، أماني، 2021، ص133.
[15]- سياسات العداوة، ص114-118.
[16]- هو نظام الفصل العنصري الَّذي حكمت من خلاله الأقليَّة البيض في جنوب أفريقيا من عام 1948 وحتَّى تمَّ الغاء النِّظام بين الاعوام 1990-1993 وعقب ذلك انتخابات ديمقراطية عام 1994. وقد هدف هذا النِّظام إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصاديَّة والسياسيَّة ذات الأصول الأوروبيَّة. قامت قوانين هذا النِّظام بتقسيم الافراد إلى مجموعات عرقيَّة أهمُّها السُّود البيض»الملونين», والآسيوين (الهنود والباكستاينين) وتم الفصل بينهما. منع هذا النِّظام حق الاقتراع كما تمَّ فصل أجهزة التَّعليم والصِّحة والخدمات المختلفة وكانت الأجهزة المخصَّصة للسُّود أسوأ وضعًا بشكل عام. ومنذ السِّتينات أخذت الاعتراضات الدَّولية على هذا النظام ممَّا أدَّى إلى نبذ جنوب أفريقيا ومقاطعتها من قبل غالبيَّة الدُّول هذا بالإضافة إلى المعارضة الدَّاخليَّة والَّتي أدت إلى انهيار هذا النَّظام بعد أربعة عقود.
[17]- Mbembe, A., 2003, P25.
[18]- Mbembe, A., 2003, P26.
[19]- أبو رحمة، أماني، 2021، ص135.
[20]- السيد، محمد، 2014، ص41-42.
[21]- Mbembe, A., 2011, P13.
[22]- أبو رحمة، أماني، 2021، ص118.
[23]-Mbembe, A., 2011, P14.
[24]- Mbembe, A., 2011, P16.
[25]- Mbembe, A., 2011, P19.
[26]- Mbembe, A., 2011, P20.
[27]- Mbembe, A., 2011, P29.
[28]- Mbembe, A., 2004, P296.
[29]- Mbembe, A., 2004, P298.