البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإرهاب الغربي ـ روجيه غارودي

الباحث :  أمل ناصر ناصر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  32
السنة :  خريف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 25 / 2024
عدد زيارات البحث :  622
تحميل  ( 411.674 KB )
في تصور استراتيجي مبني على الماضي وحضاراته، وعلى انبعاث الحاضر في رؤية استشرافية،
يقدم روجيه غارودي كتابه &quo t؛ الإرهاب الغربي "؛ في دعوة للعودة إلى الله، والترفع على كل انتماء باستثناء الإنسانية، وفي مواجهة التغرب، والتشيؤ الذي فرضته الرأسمالية على الإنسان، وجذوره الأصيلة.

قدم روجيه غارودي كتابه الإرهاب الغربي -الصادر عن دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، وترجمه عن الفرنسية سلمان حرفوش- في سبعة فصول انطلاقًا من سرد تاريخي للغرب، مع تفصيلات في انبعاث الديانة المسيحية، وتحولاتها إلى ديانة بولس، وبعدها يتكلم على عصر النهضة الغربية، وتصويره بوحوش الغابة، لينتقل في الفصلين الأخرين للكلام على رؤية عميقة عن إمكانية العيش بطريقة مختلفة اعتمادًا على الحضارات الشرقية القديمة من خلال عوالم الحكمة، وإعطائه تصورًا عن ضرورة قيام الدين الإسلامي متماشيًا مع التحولات الحديثة في دراسة نقدية حديثة للقرآن، وبعدها يتكلم على نظام عالمي جديدة يواجه النظام الحالي الذي ترأسه أمريكا في رؤية اقتصادية جديدة، جيوبوليتيكا جديدة.

في ظلِّ التَّبعيَّة المتزايدة للسِّياسة الأمريكيَّة، اتَّخذ المدلول العميق للاتِّجاه الَّذي يشكِّله القرن العشرون، وقبله التَّاسع عشر مواجهة تقسيم جديد: إمَّا عمالة، وإمَّا مقاومة، ما أوجد استحالة الفصل بين النِّضال الاجتماعيِّ، والنِّضال الوطنيِّ في ظلِّ الخضوع الكبير للمصالح الأجنبيَّة في كلِّ دول العالم ذات المشاريع الكبرى، والَّتي استثمرت رؤوس أموالٍ طائلة، وارتبطت بالمقاومة الوطنيَّة، والاجتماعيَّة لمنع خضوع الاقتصاد لإرادة المحتل مع التَّصدي الدَّائم للفوارق، واللَّامساواة. ولا يمكن لهذا النِّضال الاستمرار إلَّا بالوقوف في وجه المؤسَّسات، والقوى الاقتصاديَّة الأمريكيَّة، الَّتي تشكِّل حجر الأساس للهيمنة الأمريكيَّة على العالم، لتعطي شكل النِّظام الاستعماريِّ الجديد صفة العولمة الإمبرياليَّة القائم على مركز وحيد للاحتكار، والتَّفرُّد والقرار، ولأجل إعادة تفعيل المركز والقرار كان 11 أيلول طريقًا للاستمرار نظام الغرب الرَّأسمالي، الأمر الَّذي فاقم التَّخلُّف بكلِّ بقاع الأرض، حيث تموت الجموع الغفيرة تصدِّيًا لأيديولوجيا المهيمنين «عولمة الإمبرياليَّة»، ومعهم هزيمة مؤقَّتة للأمل الكبير مصدرها خيانة فكر ماركس، الَّذين لم يفهموا أنَّ الثَّورة الحقيقيَّة تحتاج إلى التَّعالي، وليس إلى الجبريَّة.
خمسة قرون من الاستعمار الغربيِّ، وخمسون عامًا من الهيمنة الإمبرياليَّة الأمريكيَّة بواسطة البورصة حاضنة الاحتكار، والعالم منكسر بين شمال وجنوب، وبين الَّذين يملكون، والَّذين لا يملكون، حيث نجحت أمريكا بتكديس نصف ثروة العالم على أطلال أوروبا النَّازفة في 1945.

يأتي التَّعليل الأيديولوجيُّ للهيمنات من خلال السَّقطات المتعصِّبة في الأديان، وتحالفها مع السُّلطات ما بين الإسلام، وأمثال بولس (مؤسِّس لاهوت الهمينة)، أوجد الطُّغاة ليصبح الدِّين المنحرف عن غاياته السَّامية ظهيرًا لهذه الفوضى الخلَّاقة.

تأخذ الهيمنة الغربيَّة متوسِّمة العولمة الصَّورة التَّامة لسلوك الغربيِّين لتثبيت هيمنتها بالقانون الإلهي للسُّوق معلِّلة ذلك باسم الحضارة الَّتي شرَّعت الحرق، واستعمار الشُّعوب الأخرى، والّتي ترتبط جذورها بأسطورة شعب الله المختار، وقد عمَّد طريق رسالتها اليوم قادة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة للإمساك بزمام العالم في ما يسمى بالدِّيانة الجديدة القائمة على ربوبيَّة السُّوق، الَّتي ولَّدت عالمًا تحت الاستعمار الأمريكيِّ، والأوروبيِّ يعاني من الجوع والبطالة. وبما أنَّ الوهم الغربيَّ القائم على ادِّعاء الامتياز العرقيِّ، يزعم أنَّ حضارته بحسب بول فاليري قامت على ثلاثة أعراف؛ الأخلاق المرتبط بالمسيحيَّة الكاثوليكيَّة، والقانون الممتدِّ من القانون الرَّومانيِّ، والتَّعليم المتجدِّد من العرف اليونانيِّ، وهكذا يزعم الغرب بفرادة هذا الجوهر، والمشكل تسمية الغرب، فإنَّ غارودي يربط هذه التَّسمية من بلاد الرَّافدين في مصر وآسيا وأفريقيا، وأنَّ هذه الحضارة المزعومة متعلِّقة بأسطورة الفرادة العبريَّة، والتَّاريخ المزعوم للعبرانيِّين وشرعة دولة إسرائيل، والَّذي لا يعدو كونه محض ميثولوجيا، وهو التَّاريخ الَّذي يريد حاخامات دولة إسرائيل استخدامه لتعليل ملكيَّة ما يعدُّونه بلدهم الأصلي، والَّذي وهِب لهم بصكٍّ يحمل توقيع اسم الرَّب، والأمر حقيقة أنَّه لا يوجد وثيقة تاريخيَّة تؤكِّد ادِّعاءاتهم، لكنَّ ديانات الغرب المسيحيَّة سعت إلى جعل تاريخ القبائل العبرانية تاريخًا عالميًّا شاملًا، وعمل الكثير من المؤرخين على تثبيت صدق الرِّواية التَّوراتيَّة، لكن معظم المؤرِّخين لا يجدون في أيِّ نصٍّ مصريٍّ، أدنى أثرعن الإقامة الطَّويلة للعبرانيِّين في بلاد الفراعنة، ولم يكن العبرانيِّون هم من ابتكر التَّوحيد في الهلال الخصيب ومصر، لكنَّهم كانوا يعدُّون أنَّ إلههم هو الأقوى وضامن النَّصر، واستحوذ العرف الكهنوني العبرانيِّ على النُّضج المديد للتَّوحيد في بلاد الرَّافدين، وأعاد كتابة التَّاريخ بعقليَّة عرقيَّة ضيِّقة جاعلًا بادئ ذي بدء من فلسطين مركز الخليقة «وأن أورشليم هو المكان الَّذي يختاره الرَّبُّ ليقع اسمه فيه».

إنَّ الدِّيانات على امتداد تاريخ الغرب الكامل هي نظام اجتماعيٌّ على صورة النِّظام الكونيِّ، وإنَّ القوَّة، والسَّيطرة المهيمنتان في هذه العبادة المسيَّسة سواء تعلَّق الأمر بـ«يهوه» ربِّ العساكر، الَّذي يعطي أمره بإبادة الشَّعوب المتمرِّدة على الإيمان به، أو زيوس الَّذي يحرِّك الصَّاعقة لقتل كلِّ من يفرض إرادته المطلقة.

الفكرة التَّوراتيَّة الّتي تقوم على الوعد القديم، الَّذي وعد به الرَّبُّ إبراهيم، يفضي بشرعيَّة الأمر الواقع للغزو الإسرائيلي لفلسطين، أو توسيع السَّيطرة الإسرائيليَّة في زمن حكم داوود. يعني أنَّ الوعد أُقحم في روايات الآباء كي يكون مدخلًا للعصر الذَّهبيِّ الدَّاووديِّ، والسَّليمانيِّ، في حين أنَّ حقيقة الوعد في ذاك الزَّمن كان مقصودًا به وعد استقرار حضريٍّ، ولم يكن هذا الوعد بهدف الاستيلاء السِّياسيِّ، والعسكريِّ على المنطقة، وفي الأصل إنَّ الوعد الَّذي أعطي للآباء لم يصدر عن يهوه، وإنَّما صدر عن الرَّبِّ أيل الكنعاني، فلم يكن لأحد آخر غير الرَّبِّ المحلِّي، مالك الأرض، أن يهب لجماعات العدوِّ بحق الاستقرار الحضريِّ فوق أراضيه، وإنَّ جميع الأقوام حصلت على وعود مشابهة، لاحقًا أعادت بعض العشائر البدويَّة المتحضِّرة تجمُّعها بالانضمام إلى قبائلَ أخرى لتشكيل شعب إسرائيل، واتَّخذت الوعود بُعدًا جديدًا. وكذلك يشهد البحث الأثريُّ بل يكذِّب وجود أطلال تشهد بولادة عصر جديد من الحضارة في فلسطين لدى مجيء العبرانيِّين، ولا يوجد أيُّ دليل مادِّيٍّ يثبت مجيء شعب جديد، وأنَّ الجماعات الإسرائيليَّة الَّتي توافدت كانت في جوهرها من البدو الرُّحّل، واستعاروا تجهيزات من سبقهم في تلك المنطقة، وإنَّ الثَّقافة الفلسطينيَّة كانت ثقافة كنعانيَّة بصورة جوهريَّة بحسب كاتلين كيفون، وهكذا تمكَّنت هذه الجماعات ومن خلال وعد يعتبرونه ذي قوَّة قاهرة أن تولَّد مفهومًا أخر للتَّاريخ صاغه حفظة الأعراف الَّذين يمجِّدون انتصارات ربٍّ أقوى من أرباب الأحلاف القبليَّة الأخرى، وهذه الانتصارات، وأعمال الإبادة على يد موسى ويوشع بن نون بحسب ما يزعمون، جعلت من بني أسرائيل الدَّولة الصَّهيونيَّة الَّتي تزعم أنَّها وريثته، لها شعب ليس كباقي الشُّعوب، وتقوم فكرة شعب الله المختار بشكل حتميٍّ على رفض الآخر، وهذا ما يتبدَّى بشكل، واضح وجليٍّ إذ استطاعت إسرائيل باسم ذاك التَّفوُّق نتيجة الاصطفاء الإلهيِّ رفض كلِّ قرارات الأمم المتَّحدة الإنسانيَّة، وترفض مطالب السُّكَّان المحليِّين الاسرائيليِّين لا وبل تقوم على التَّطهير العرقيِّ.

لقد ترتَّب على أسطورة شعب الله المختار نتائج تاريخيَّة، فإنَّ النَّصر الَّذي يمنحه إله يهوه لهذه القبائل، وجعلِها شعب الله المختار، ملزمًا إيَّاها بإبادة جميع أولئك الَّذين لا يؤمنون معه، هذا التَّصور «شعب الله المختار»، كان من أكثر التَّصوُّرات في التَّاريخ دمويَّة، والَّذي بدأ بأسطورة الفتوحات على يد يوشع، وباسم المبدأ نفسه «الإختيار الالهي» تمارس الولايات المتَّحدة سياسة الاستعمار بداية، ومن ثمَّ الاخضاع الشَّامل لقوانينها تحت ذريعة القدر السَّاطع لـ«الشعب المختار الجديد»، وهذا ما بيَّنته طريقة تعامل الإنكليز مع الهنود الحمر لدى وصولهم إلى البرِّ الأمريكيِّ؛ المستعمرون الَّذين أصبح أحفادهم من بعد مرور قرنين مؤسِّسي الولايات المتحدة، عدُّوا رحيلهم من إنكلترا خروجًا توراتيًّا جديدًا، والقائمة على دعمهم بالإبادة المقدَّسة الَّتي قام بها يوشع، وأطلقوا على أمريكا أرض الميعاد كي يبنوا فيها مملكة الرَّب، واستعانوا بالرِّسالة الرَّبانيَّة لقتل الهنود، وسرقة أرضهم، من هنا كان خطاب جورج واشنطن الأب المؤسِّس عن اليد الخفيَّة الَّتي تدير شؤون البشر، ومن ذاك الوقت كانت ثوابت سياسة شعب الله المختار الرَّب، والدولار هما حلمتا السُّلطة، وأنَّ هناك علاقة إلهيَّة من وراء وجود الدَّولة الجديدة، وهي الصِّيغة نفسها لدى العبرانيِّين تعليلًا للاعتداءات الوحشيَّة من قبل الولايات المتحدة؛ فإنُّ الرئيسين جيفرسون، ونكسون يعدان أنَّ الله يريد أن تتوَّلى أمريكا شؤون العالم.

في مقارنة تاريخيَة فإنَّ الرُّؤية الغربيَّة للعالم تعود إلى 3000 سنة قبل المسيح، وإنَّ قطيعة الغرب مع مصادره الشَّرقيَّة ألحقت الظآلة بالانسان، ويظهر هذا التَّضاد العنيف مع الرُّؤية الشَّرقيَّة للعالم الَّتي تجمع محبَّة الطَّبيعة، والتَّقوى حيال البشر، الَّتي تنبذ الفرديَّة الوهميَّة في محاولة للإنصهار مع الطَّبيعة، والغرب الممتدُّ خلف شواطئ الأورال يظهر استثناء بائسًا في الملحمة البشريَّة بسبب امتلاكه أسلحة ذات قوة تدميريَّة، لا تقارن أبدًا بقوَّة التَّدمير في الماضي، فكان عصر النَّهضة الغربيَّة عنده قائمًا على استعباد العالم، والسَّيطرة عليه بخنق جميع ثقافات العالم؛ هذه النَّهضة الَّتي تشكِّل أولويَّة الفرد، وانسجام المفهوم أحد ثوابت تصوراتها للعالم. هذا الغرب الَّذي استمرَّ حتَّى القرن الثَّامن عشر متماهيًا مع المسيحيَّة، ولم يكن له تعريف ممكن غير ذلك، حين تماهى مع السُّوق أي أنَّه لا يمكن فصل تاريخ الغرب عن تاريخ الكنيسة.

هكذا تتبنَّى الكنيسة تراث جميع أساطير التَّوليفة العبرانيَّة.
لقد تطعَّمت العقلانيَّة اليونانيَّة الأسطوريَّة لاحقًا في تعاليم بولس، وتعهرت المسيحيَّة بالفكر اليوناني، وأدخلوا الى الغرب مسيحيَّة حُرِّفت تحريفًا كاملًا، وهذه المسيحيَّة المؤسسيَّة الَّتي أعطت العالم المسيحيَّ شكلًا من أشكال الأمبراطور قسطنطين حتَّى يومنا هذا خرَّبها، وأفسدها التَّعليم اليونانيُّ، والتَّنظيم الرُّومانيُّ، خرَّبها وأفسدها الغرب. ومنذ ولادة العالم المسيحيِّ جُعلت المعرفة اللَّاتينيَّة الحجر الأساس في ثقافة الإنسان الغربيِّ، ولم يكن للرُّومان سوى خصلتين: القوة العسكرية وتنظيمهم البيروقراطي، فلماذا القول بتفوُّق حضاريٍّ؟

إنَّ الرِّسالة الوحيدة ليسوع هي إرشاد النَّاس للحياة الإنسانيَّة بحقٍّ، أي الإلهيَّة، لقد بين يسوع كيف تكون الإنسانيَّة الكاملة، وكما كتب بونوفر فكون المرء مسيحيًّا لا يعني أن يكون متديِّنًا، بل يعني أن يكون إنسانًا، ولقد بشَّر الفقراء بالنَّبأ الطَّيِّب، والدَّعوة الَّتي جاء بها يسوع لا لبس فيها.
إنَّ هذا الاختيار التَّفضيليَّ للفقراء نادرًا ما كان اختيار لاهوتيَّات السَّيطرة لدى القساوسة، وأسياد الأرض المرتبطين بدرجات متفاوتة بالسَّلطات عندما لا يكونون شركاءها، وإن التَّخلِّي عن الأنا الصَّغيرة هو شرط نشوء الوعي ويقظته، وهذا هو ثمن القيامة، وحقيقة الملكوت؛ فحقيقة الملكوت ذلك الملكوت الَّذي لا يكون الدُّخول إليه بالحرب الظَّافرة كما هو الحال مع داوود، إنَّما بالتَّخلِّي، والتَّرفُّع السَّامي، وهكذا إنَّ المسيحيَّة الكاثوليكيَّة الَّتي تتبنَّى الأساطير العبرانيَّة لم تكن مسيحيَّة حقيقيَّة، بل تتبع الصُّهيونيَّة الَّتي أتت بدين كاذب. وهذا ما عبَّر عنه نيتشه في كتابه المسيح الدَّجال، يقول عن يسوع الَّذي يعبر عن إعجابه به حمل النَّبأ الطَّيِّب فهو إنجيليِّ الحياة، وهو القطب المعارض للقدِّيس بولس الاإنجيليِّ الَّذي حمل نبأ السُّوء، وهذا ما يدخلنا إلى أنَّ مسيح بولس ليس يسوع.

تلتزم الكنيسة بموقف غير واضح حيال مسألة حجَّة التَّسلسل الزَّمنيِّ للنَّصوص الدِّينيَّة، فهي على حذر أن تقول للمؤمنين بأنَّ بولس أسبق عهدًا من الأناجيل الرَّسميَّة. ولقد عثروا في مصر العليا في 1945 على مجموعة في ما يطلق عليه اسم « إنجيل توما» إذ إنَّه لا يروي حياة المسيح، وإنَّما يقتطف أقواله لا غير، فتلك المجموعة دُفنت تحت الأرض عن طريق بعض التَّلاميذ ولهذا نجت من تدمير المعلِّمين الجدد.

إنَّ التَّعاليم الرَّسميَّة بأكملها كما قبلتها الكنيسة متأثرة تأثرًا واسعًا إن لم تكن محكومة بشخصيَّة وفكر بولس، فالنَّبأ الطَّيِّب في نظر بولس لا يتمثَّل في حياة يسوع الَّذي قطعت أقواله وأعماله كلَّ صلة بالماضي، وبخاصَّة باللآلهة أصحاب القدرة والبطش، وبالتَّالي إن نكوص القديس بولس بسبب الرُّؤيا على طريق دمشق، هذه الرؤيا موصوفه وصفًا يختلف لديه ولدى تلامذته في تارة «رؤية سماويَّة»، وطورًا «إعلان كشف»، وفي مرحلة ثالثة «لقاء/ إدراك»، يوضِّح بولس لم يكن اللِّقاء مع يسوع، وإنَّما مع «Christ» (التَّرجمة اليونانيَّة «المسيح» في لغة العبرانيِّين)، وهو يضيف دائمًا اسم Christ والَّتي هي صفة المسيح إلى اسم يسوع وهو اسم علم، ليبرهن على مصداقيَّة صفته الرَّسوليَّة كأحد شهود يسوع.

لقد سعى بولس لتوفير استمراريَّة العهد القديم في العهد الجديد، وأعمال الرُّسل توضيح بدون مواربة بأنَّ بولس «يتكلَّم ناموس موسى والأنبياء بأمر يسوع، وهكذا وبحسب رسائله تأكيد على مرجعيِّة الكتب يشير إلى الهمِّ الأكبر الَّذي يجعل بولس الحريص على إدراج يسوع ضمن العرف اليهودي المتوارث. وعلى هذا فلا تعود لحياة يسوع من قيمة، ولا موجب على الاطلاق للإشارة إليها. لقد ولِدت السِّياسة البولسيَّة من إرادة جعل داوود ملكًا بشهادة الله، وهذا ما رجعت إليه التَّعاليم الدِّينيَّة لعام 1992 وتبنَّته حرفيًّا، وللعلم فربُّ بولس، إله الكنيسة الرُّومانيَّة هو ما كان بحسب رأي دوستيوفيسكي «استمرارًا للأمبراطوريَّة الرُّومانيَّة الغربيَّة».

إنَّ الثغرة الهائلة الَّتي فتحها يسوع في تاريخ البشر هو التَّعالي ليس تعالي «العليِّ الأعلى»، وإنَّما تعالي «الخفيض الأخفض»، وهذا التَّعالي تحديدًا ما جرى التعتيم عليه، وقد تمَّ الرُّجوع بنكوص منهجيٍّ منظَّم إلى تصور الله الملك والملك الله.
إنَّ يسوع الَّذي يجعل «الله المستتر» منظورًا لم يزعم أبدًا بأنَّه الرَّب، وإنَّما رسول من كان يناديه الأب، أي الحبُّ بلا حدود، ولم ينسب إلى نفسه أيَّ معجزة، مكرِّرًا إلى الَّذين ينسبون إليه القدرة السِّحريَّة على المعجزة «إيمانك قد شفاك».

أعلن بيلاطس -بعد استجواب يسوع أنَّه لا يجد علَّة في هذا الانسان- لرؤساء الكهنة المتآمرين الَّذين راحو يردَّون على بيلاطس «ليس لنا ملك إلَّا قيصر»محتقرين حتَّى توراتهم الخاصَّة الَّتي لا تعترف بملك آخر لإسرائيل إلَّا الله بذاته، وهذا يبرهن على لامعقوليَّة النَّزعة اللَّاساميَّة في الكنيسة الَّتي تتَّهم «اليهود» بأنَّهم «الشَّعب القاتل لربِّه»، في حين لا تقع مسؤوليَّة موت يسوع إلَّا على محرِّكي اللُّعبة الرُّواد الأوائل الممهِّدين لصهاينة هذه الأيام لجمعيَّتهم AIPAC و LICR الَّذين لا يشكِّلون من مجموعهم 10% من الطَّائفة اليهوديَّة الَّذين أحلُّوا دولة إسرائيل محلَّ ربِّ إسرائيل، مؤسِّسين لأسس اللَّاساميَّة الإجراميَّة الَّتي تخلط الشَّعب اليهوديِّ مع المافيا، والَّتي ما تزال تتلاعب به حتَّى اليوم، وإنَّ مذهب بولس يستخدم الألاعيب نفسها، وهذا ما حقَّق له النجاح.

إنَّ بولس وانسجامًا منه في الوقت نفسه مع فكر اليهود، واليونان، أضفى على يسوع السِّمات التَّقليديَّة لقدامى الآلهة، وهذا التَّصحيح النُّكوصيُّ أعاد يسوع إلى مستوى آلهة القبائل، محوِّلًا إيَّاه على هذه الصُّورة إلى ربِّ القوَّة، بينما كان يسوع رسولًا في المقام الأوَّل إلى الفقراء، وطلب من تلاميذه التَّخلِّي عن كلِّ شيء.
الخلط بين تعليم يسوع، وتعليم القديِّس بولس أسَّس لاهوت التَّسلُّط ليدوم 20 قرنًا، وفق طرائق داوود، وكانت ولادة الدِّيانة اليهوديَّة المسيحيَّة. ولم يقم القديس بولس بإخفاء الصَّبغة اليهوديَّة على المسيحيَّة وحسب، بل ضمَّها إلى الهيلينيَّة أيضًا.

لم يكن بولس منظَّمًا موهوبًا لا غير، فخلق كنائس في المراكز الكبرى للشَّرق الأدنى، وكان ذا ثقافة إغريقيَّة، ويهوديَّة في الوقت ذاته، وتمكَّن من نشر إنجيله، وليس إنجيل يسوع على امتداد كلِّ الشَّتات اليهوديِّ، ولغته المزدوجة مع الثَّقافة اليونانيَّة-الرُّومانيَّة قُدِّر لها أن تكون من ثوابت الخطاب اللَّاحق للكنيسة الرَّسميَّة، وبعدها عَرفت المسيحيَّة المكتسبة حلَّة هلينيَّة نجاحًا تعاظم حتَّى أصبحت معه قوَّة في الأمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وهكذا يكون بولس قد أنشأ يهوديَّة إصلاحيَّة ليس فيها أيَّ قطيعة مع الملحمة الأسطوريَّة للشَّعب اليهوديِّ، لقد ابتدأ كلُّ شيء مع إنجيل بولس الَّذي استبعد كلَّ إنجيل سواه، لقد كان الشَّاغل الأعظم لبولس إدراج يسوع ضمن العرف اليهوديِّ في عقيدة اليهود، يحمي الرَّبُّ المؤمنين وإن يسوع على صليبه كان معرض سخريَّة عندهم، وعدُّوا أنَّ تخلِّي الله عن يسوع يمثِّل في نظرهم أنَّه ليس المسيح، ولكن بولس ردَّ تلك الحجَّة، وجعلها عقيدة الفداء.

إنَّ الكنيسة اليهوديَّة المسيحيَّة الَّتي نسب بولس إليها تراث «العهد القديم»، حملت الأساطير، وجميع المنظومات المتنوِّعة الَّتي تألَّف منها الماضي الخياليِّ. بولس الَّذي أسَّس المسيحيَّة الرَّسميَّة، ولاهوت السَّيطرة بدأت الكنيسة بعده بالانقسام، والسيطرة، وبدأت الكنيسة بالانقسام والتَّفكُّك، وكانت وحدة الكنيسة في مطلع القرن الرَّابع مهدَّدة بتبشير قس من الاسكندرية «آريوس»، لقد أتلفت الأرتوذكسيَّة أعمال، وتآليف أريوس لأنَّه كان يريد الحفاظ على وحدة الله تصدِّيًا للميل السَّاعي أن يحلَّ محلَّه يسوع إله، وبحسبه إنَّ يسوع فيض من الله، بشرٌ على صورة الله «صورته المثلى»، ونجح أريوس في تباشيره حتَّى انقسمت جميع كنائس الشَّرق، فرأى قسطنطين أنَّ القوَّة السَّبيل الوحيد لفضِّ هذا النِّزاع، فكانت إدانة آريوس في مجمع نيقية عام 325م، وأعلم الأمبراطور آباء المجمع أنَّ كلَّ من لا يقبل القرار النَّهائيَّ سوف يصار إلى نفيه مباشرة، وكانت المشكلة في أساسها مشكلة سياسيَّة، وانضباطًا، وليس مشكلة عقيدة، ففي نيقيه كان لزامًا الخضوع لأوامر الأمبراطور إذ كان الأمر الهامُّ لخلاص الأمبراطور هو أن يصير يسوع إلهًا مثل باقي الآلهة.

لقد وضع مجمَّع نيقية المسكونيِّ بصورة نهائيَّة أسسَ الأرثودكسيَّة البولسيَّة، وهكذا يؤسِّس النَّهج القسطنطينيُّ حقبة جديدة في تاريخ الكنيسة، وهي الحقبة القسطنطينيَّة، وأصبحت الكنيسة مؤسَّسة من مؤسَّسات الدَّولة. لقد ولِد النَّهج القسطنطينيُّ في نيقية، وجعل قسطنطين من رجال الدِّين موظَّفين في خدمة الدَّولة، وأصبحت الكنيسة في سدَّة الرِّئاسة الأمبراطوريَّة، والمسيحيَّة البوليسيَّة تحوَّلت إلى الاضطهاد بعد أن كانت مضطهدة، وهكذا كانت نيقية ولادة لاهوت التَّسلُّط.
منذ ذاك النَّاتج بدأ الفتح، مع ما رافقه من اضطهادات، ومن صنوف الفظائع، ولم يتمكَّن هذا القمع من الوقوف الكامل لتيَّار جماعة الطَّبيعة الواحدة، وإنَّ تأصُّل القول بالطَّبيعة الواحدة في شبه الجزيرة العربيَّة يفسِّر بدون غرابة التَّحوُّلات الكبرى باتِّجاه اعتناق الإسلام. اذ عدَّ دانتي في كتابه الجحيم أنَّ الإسلام هرطقة مسيحيَّة، ووضع محمَّد بين الأنبياء المنشقِّين في الجحيم.

إن هذه البوليسيَّة السِّياسيَّة الملائمة تمامًا للسُّلطات القائمة، وتحت أسماء متعدِّدة أدَّت بالكنيسة الشَّرعية ممارسة سياسة استبداديَّة، وقمعيَّة، وجهتها السُّلطة المطلقة على صعيد عقائديٍّ، وصعيد الحيازة الحصريَّة للشَّأن الرُّوحانيِّ، والصَّعيد السِّياسيِّ. هذا الادِّعاء الثِّيوقراطيُّ كانت من نتائجه حماية أعظم الجرائم الَّتي اقترفها سادة السِّياسة في الغرب من خلال السُّكوت عنها، أو التَّواطؤ من طرف الكنيسة سواء الحروب الصَّليبيَّة على المسلمين، أو الأعمال الوحشيَّة ضدَّ البروتستانت، أو إبادة الهنود الحمر، أو تجارة السُّود في أفريقيا، أو حتَّى التَّعامل مع الفاشيَّة في القرن العشرين.لقد ظهر تيَّار داخليٌّ في مواجهة النَّهج البوليسيِّ للكنيسة، وما كفَّ عن إحياء أجيال من المسيحيِّين لحقيقة يسوع تصدِّيًا لروما وأحبارها، ورجال الدِّين ذوي المراتب الرفيعة. هذه لاهوتيَّات التَّحرُّر المعقود عليها آمال كثيرة في عصرنا في أمريكا اللَّاتينية وأفريقيا وآسيا، واجهت نضالًا مشتركًا بين الكنيسة وال CIA وهو نضال له دلالاته.

وهكذا يمكن القول أنَّ واقع الحال في نيقية ليس قسطنطين هو الَّذي اعتنق المسيحيَّة، وإنَّما الكنيسة ذات المناصب هي الَّتي اعتنقت الأمبراطوريَّة، وهكذا كانت الرُّوح السَّائدة في نيقية متناسبة مع النِّظام الإمبراطوريِّ في روما إبَّان حكم قسطنطين، وعدَّت الكنيسة نفسها من بعد قسطنطين عندما سيطرت على الأمبراطوريَّة الرَّومانيَّة أنَّها سيطرت على العالم قاطبة، وهي الوحيدة المؤهَّلة لتنقل إلى الجميع تصوُّرها الأوحد عن الإيمان.
وشكَّلت الكنيسة ومصادرها (اليهود - اليونان - الرُّومان) الثَّقافة الغربيَّة الَّتي أتت بما يُسمَّى بنهضة القرن الخامس عشر، أتت هذه النَّهضة بفضل طريق الحرير الَّذي حمل البوصلة، والملاحة، والبارود، والورق، والمطبعات، وهذا ولَّد تنافسًا بين البشر في إطار السَّوق، وخلق أيديولوجيا أرست دعائم العلاقة بين البشر والطَّبيعة.

إنَّ هذه العلاقة الَّتي ميَّزت عصر النَّهضة هي علاقة غالب بمغلوب، تأسَّست النَّهضة فوق علاقة الإنسان بنظائره، علاقة فرديَّة بالمطلق، وإرادة تدفع إلى الرِّبح والقوَّة، وتمثَّلت في الفاتح للقارَّة الأمريكيَّة، وعبور حدود العالم، وتدمير قارَّات، وحضارات، وأنشأت هذه النَّهضة علاقة أخرى مع الله، وغدت الطَّبيعة تحت سيطرة التِّقنيَّة، وتمركزت العقلانيَّة في إرادة الرِّبح، والقوَّة، وقد ولَّد عصر النَّهضة ما يُسمَّى المتلازمة المشتركة للرَّأسماليَّة، والكولونياليَّة؛ لقد ولَّدت الرَّأسماليَّة إنسانًا متعطِّشًا لإرادة القوَّة والرِّبح، وجعلت الكولونياليَّة من ذاك الإنسان متنكرًا لجميع الثَّقافات غير الغربيَّة، وهكذا إنَّ ما يطلق غالبًا في المجتمعات الغربيَّة باسم التَّطوُّر محدَّد بمعايير ضيِّقة أحاديَّة الرُّؤية محض اقتصاديَّة بالفعاليَّة التِّقنيَّة، وحتَّى التَّخريبيَّة، إنَّها فعاليَّة قائمة على القمع، والتَّخريب، وولدت معها نظريَّة التَّطوُّر، والتَّخلُّف، وخلقت اختلالًا اقتصاديًا متعاظمًا بين الغرب، وباقي دول العالم، بعبارة أخرى التَّطوَّر والتَّخلُّف عنصران من المنظومة نفسها؛ المنظومة الرَّأسماليَّة، والَّتي قامت على إبادة الهنود الحمر، وتجارة العبيد، وإلغاء العبوديَّة، وبداية الكولونياليَّة، وتشكُّل تطوُّر شركات متعدِّدة الجنسيَّات، لقد أصبح كلُّ ما يُطلق عليه اسم نهضة يرفض كلَّ قيمة مطلقة، والنَّتيجة الحتميَّة لذلك فرديَّة العالم، فالنَّهضة هي ولادة الوحوش الضَّارية، وهي بتسمية أخرى إنَّها اغتراب الإنسان.

إنَّ زعم الغرب أنَّه النَّمط الأوحد للحداثة، والتَّقدُّم قائم على احتقار الثَّقافات الأخرى، وتدميرها، وإنَّ ما تسمِّيه كتب التَّاريخ المدرسية «الأزمنة الحديثة» ليست سوى إنكارًا الوحدة الإنسانيَّة والنقيض لها.
إنَّ الثَّقافة الغربيَّة المسيطرة منذ خمسة قرون ظنًّا منها بأنَّها الوحيدة المبدعة للقيم، وأنَّها المركز الوحيد للمبادرة التَّاريخيَّة، تقوم بجوهرها على مسلَّمات ثلاث للحداثة: مسلَّمة آدم سميث حول العلاقات مع باقي البشر، والَّتي تقول إنَّ إنقاذ كلِّ فرد مع مصلحته الشَّخصيَّة، فإنَّه بذلك يُسهم في الرَّفاه العامِّ، ومسلَّمة ديكارت في العلاقات مع الطَّبيعة، أن نجعل من أنفسنا أسياد الطَّبيعة، ومالكيها، وفي العلاقات مع المستقبل تتمثَّل بمسلَّمة فاوست الكاتب المسرحي الَّذي يقول: «بدماغك القادر، تحوِّل الإنسان إلى إله المتحكِّم بالعناصر جميعها، والمولى لها». قامت الحضارة الغربيَّة على هذه المسلَّمات الَّتي رآها البعض نهاية التَّاريخ، وعبَّرت عن فلسفات ثلاثة: الفلسفة الإنكليزيَّة من خلال مسلمة فاوست، والَّتي تدعو إلى تأليه السُّوق الموحَّد، والفلسفة الفرنسيَّة المتمثِّلة بفلسفة ديكارت، والَّتي تعطي الإنسان الحاسوب، والفلسفه الألمانيَّة الَّتي تضفي إلى عالم اللَّامعنى الَّذي يأتي تتويجًا للأيديولوجيا الأوليغارشيَّة الكولونياليَّة، وتغطِّي أيضًا جعل الإنسان سيَّد ومالك الطَّبيعة من خلال الامتداد، والحركة، وأوجد الحضارة التِّقنيَّة الَّتي حصرت وظيفة العقل في صنع الآلة كوسيلة للقوَّة والثَّورة، وهكذا يستبعد كلُّ معنى للحياة وكلُّ غائية فيها، وأوصلت أيضًا إلى تصديق قدرته على تسيير شؤون العالم محل الله، هذه التَّحوُّلات التَّاريخيَّة رفضت عزلة الأنسان عند فيخته، وفهم المحاولة لإيجاد التَّركيب بين النَّقيضين الشَّامل، والفردي عند هيجل جعلهما آخر فرسان الفكر للتَّخلُّص من الماديَّة، لنصل مع أوغست كونت إلى عالم بدون إنسان، وليوقِّع على بيان وفاة الفلسفة الَّتي كانت رسالتها البحث عن وغايات تفكير الإنسان ونشاطه العملي، حيث كان شعاره نظام، وتقدُّم. مع وضع الثَّورة الفرنسيَّة حدًّا للنِّظام الإقطاعي، والثِّيوقراطيِّ ورسَّخته في عصر العقل الصِّناعيِّ، بعدما تمحورت أفكاره حول العلم، والسِّياسة، والدِّين، ومعه لا محلَّ بعد اليوم إذن في تلك الفلسفة التَّاريخيَّة إلَّا للاكتشاف الكمِّيِّ الحاضر تنبؤًا بالمستقبل، ليكون أوغست كونت أبا المذهب العلميِّ الشُّموليِّ التِّكنوقراطيِّ، وصولًا إلى الإنسان الحاسوب الَّذي يؤمن بأنَّ العلم يمكنه الإجابة على جميع الأسئلة. وعلى هذا فقد فقد استطاع كونت أن يكون في الوقت ذاته التَّعبير المجيد عن ذروة فلسفة الوجود، وها قد بدأ الاختلاس الكبير إذ ٩٠٪ من ثروات العالم المادِّيَّة على أيدي من كانوا لا يعيشون إلَّا من أجل الذَّهب والقوَّة، وهذا تحديدًا ما يطلق عليه الغرب الأزمنة الحديثة؛ فالمؤرِّخون مكلَّفون في تعليم أيديولوجيَّتها للصِّغار، ووسائل الإعلام مكلَّفة بالبالغين.

كان بالإمكان أن نعيش بصورة مغايرة إذ لا ينفصل الإنسان عن الطَّبيعة، ولا ينفصل عن الله كي يصبح سيدًا مسيطرًا، وهذه الطَّريقة المغايرة هي نقيض المسلَّمات الثَّلاث الَّتي قامت عليها الحضارة الغربيَّة، ويأتي هذا النَّمط المغاير من خلال الحضارة الشَّرقيَّة الَّتي ترسى دعائمها على إعلاء القيمة الرُّوحيَّة عند الفرد، لقد قدَّمت الهندوسيَّة أوَّل نمط في التَّصوُّف، أي تقدُّم الفكر المنطلق ليس من إشراق يكتشف به إله منفصل عن الإنسان، ويدخل في علاقة معه، من خلال الأواصر والنَّواحي، وإنَّما من خلال وعي الإنسان في سبيل اكتشاف أعمق حقيقة له، في تماهيه مع المطلق بكلِّيَّته الَّتي لا يحدُّها حدٌّ، وبخلوده، وتعلِّمنا الأوبانيشاد أنَّها فلسفة أساس تمكِّن لكل أنسان العثور عليها في أعماق نفسه، شرط ألَّا يفسد تفكيره بعقلانيَّة تقلِّص الفكر إلى مستوى الذَّكاء لا غير، والحقيقة الواقعة إلى مستوى الوجود وحسب، لأنَّ هذا يجرُّ الإنسان داخل كون خانق، ومحدود، وأمَّا البوذيَّة فقد جاءت رد فعل على تحنُّط البراهمانيَّة الَّتي راحت تزداد شكلانيَّتها، فهي ليست انقطاعًا عن الهندوسيَّة، وإنَّما إصلاح دينيٌّ وجهته الرُّجوع إلى نقاء البداية، مع الأخذ ببعض الفروق العميقة في الرُّؤية إلى العالم، والحقبة الزَّمانيَّة، والنَّاس مع تعريف بوذا للدُّروب الثَّمانية: الحكمة الصَّالحة، الكلمة الصَّالحة، العمل الصَّالح، الحياة الصَّالحة، الجهد الصَّالح، الفكر الصَّالح، والتَّركيز الصَّالح. ويضمُّ الشَّرق دروب الحكمة اليوغا، والَّتي تعني اتِّحاد الإنسان مع الله عندما لا نعود مرتبطين بمتطلَّبات الحواس، ولا بالأعمال عندما نتخلَّى عن كلِّ مشروع يسعى إلى المنفعة الشَّخصيَّة نكون قد عبرنا درجات اليوغا. وفي الصِّين إنَّ التَّاوية مثل الهندوسيَّة تعني الانتقال من الذَّات الفرديَّة إلى الذَّات الكونيَّة، والتَّاو هو قواعد التَّناغم في أعماق الذَّات الفرديَّة بالخضوع الرَّاضي للإيقاعات الكونيَّة العميقة، وهو قانون الطَّبيعة، والأخلاق معًا. والتَّاو هو مصدر إلهام للعلوم الصينيَّة بما فيه من معنى التَّرابط المتبادل الدِّيالكتيكي بين الظَّواهر، ولقد قامت السِّياسة، والأخلاق في الصِّين على دعائم هذه الفلسفة، فالحدس المركزي في التَّاوية ينبع من رفض كلِّ ثنائية لـ «أنا» معزولة عن بقيَّة العالم، ولا وجود لكائنات حقيقيَّة متمايزة، وهذا ما يقع نقيض الحضارة الغربيَّة بشكلٍ تامٍّ. ويتأسَّس الانتظام الكوني عند التَّاوية على المبدأين الأساسين للتَّاو: الفراغ والديالكتيك، الين واليانغ، وهو الَّذي يحرِّك عمليَّة الكون، وإنَّ التَّاو أكبر من الوجود، والقياس باعتباره نبع لا نهاية له من الممكنات، وقد فهم اليسوعيون هذا وهم أوَّل من ترجم الإنجيل بحسب يوحنَّا إلى الصِّينيَّة.

تتمثَّل المراكز الرَّوحية الكبرى في آسيا في الهند والصِّين بأنواع الإيمان المختلفة، لكن نبوَّة زرادشت في إيران تشكِّل فرعًا أصيلًا من فروع الرُّوحانيَّة الشَّرقيَّة، ومع زرادشت جرى التَّأكيد في الوقت نفسه على تعالي الله، وحلوله وهذه الرُّؤية الجديدة لله أدَّت إلى رؤية جديدة للعالم. وأمَّا في أفريقيا فحفظت لنا أمُّ الأعراق، والبشر حتَّى يومنا هذا، تلك العلاقة الحيَّة بين الإنسان والعالم، وبين الإنسان وقومه، وبين الحقائق المرئيَّة، والحقائق اللَّامرئيَّة، وبالتَّأكيد لا توجد ثقافة إفريقيَّة وحيدة، ولكن هناك وحدة عميقة تفرض نفسها حول المعنى الإفريقيِّ للحياة بما يتجاوز ذلك جميع العروق والاختلافات. لم تكن تتبدَّى تلك الرُّؤى المضيئة عن الله والإنسان إلَّا في عيون الكتب المقدَّسة لبلاد الهند، أو الصِّين، أو في ومضات نيتشه، وتردَّدت بأكثر الصِّيغ تواضعًا، وأبلغها تأثيرًا، وعلى لسان أكثر النَّاس تواضعًا وتأثيرًا، لذا انطلاقًا من هذه الفلسفات كان بإمكاننا العيش بطريقة مختلفة، وكذلك يمكننا العيش بطريقة مختلفة.

في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين أضحى رأس المال -الَّذي تمَّ جمعه على امتداد خمسة قرون من التَّسلُّط الكولونيالي- طفيليًّا بالخالص، لأنَّ المال لم يعد يستخدم في خلق منتجات مفيدة، وإنَّما في خلق المال، وكلُّ هذا يسمُّونه تقدُّمًا، وحرِّيَّة، وديمقراطيَّة حيث تدمَّرت الطَّبيعة، وانقسم العالم بين الَّذين يملكون، والَّذين لا يملكون، وفسح المجال أمام أقوى، وأقسى الدِّيكتاتوريَّات لالتهام الأضعف، وأضحت العولمة تقوم على الانقسام الحادِّ بين الشَّمال والجنوب، ولقد أطلق اسم تطوُّر على النُّمو الاقتصاديِّ الَّذي تزداد سرعة إنتاجيَّته، سواء كان مفيدًا، أو غير مفيد كالتَّسليح، والمخدَّرات حتَّى أصبح هذا العالم عالم الجوع، والبطالة، والإقصاء، وخلق ديانة جديدة اسمها «ربوبيَّة السُّوق» الَّتي تولِّد استقطابًا متعاظمًا للثَّروة الاحتكاريَّة على أيدي حفنة، مقابل بؤس الجموع الغفيرة.

كان القرن العشرين مقبرة الآمال، الآمال الميِّتة لأحلام الَّذين داستهم الاضطهادات الاجتماعيَّة، والكولونياليَّة بعدما أفسد الاشتراكيَّة الَّذين زعموا أنَّهم أنجزوا التَّاريخ، واستنسخوا أنماط التَّنمية من أعدائها، ومن باعوا أوطانهم، فكانت النَّتائج ربوبيَّة السُّوق، والموت الإنسان، فكثرت العصابات، والمافيات، والعاطلون عن العمل في كلِّ البلدان الَّتي هي نتيجة اللِّيبراليَّة الاستبداديَّة، وإحياء الرَّأسماليَّة. وفقد الأمل مع محاربة مع محاربة الكنيسة لحركات لاهوتيَّات التَّحرُّر في أمريكا اللَّاتينيَّة بمباركة أوروبيَّة، وأطلق اسم نشر الإنجيل في أمريكا على إبادة الهنود الحمر، وهكذا حقَّقت أكثر الحركات الدِّينيَّة، والقوميَّة تعصُّبًا انتصارها في نهاية القرن العشرين لأنها لحقت بعصب الكولونياليَّة التي سعت إلى فرض اقتصادها، وسياستها، وجيوشها، وديانتها، وثقافتها على العالم، وقيَّمت العالم إلى مصطَفين، ومنبوذين، وكلُّ الحركات الدِّينيَّة انحرفت عن مسار أساس دينها الأصيل؛ فالمسيح الَّذي اختار الفقراء، مرَّغته العصبيَّة الاستبداديَّة للكنيسة، ورسالة القرآن العالميَّة انغلقت على تقاليد، وأعراف الشَّرق الأدنى، حتَّى انتهت بحركة طالبان، وحتَّى أمريكا اللَّاتينيَّة أصبحت ضحيَّة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وأفريقيا تعيش تحت وطأة أكثر الدِّيكتاتوريَّات دمويَّة بمساعدة قدامى المستعمرين الَّذين انضمت إليهم الولايات المتَّحدة، وأسيا خرَّبتها أوائل انفجارات الفقَّاعة الاحتكاريَّة، وأولئك الَّذين اقترفوا جرائم بحقِّ الإنسانيَّة من هيروشيما حتى أندونيسيا، وصولًا إلى الفيليبين، وأوروبا المستزلمة هي أوروبا المسترخيت، واليوم تصدِّر الولايات المتَّحدة بطالتها، وثقافتها المضادَّة عن طريق أفلامِ العنف، واحتكار الإعلامِ، وباسم حرِّيَّة التِّجارة تستبعد كلَّ منافسة بقوانين الحظر. وهكذا كانت كيفيَّة القرن العشرين فهل من الممكن القفز فوق هذه التَّجربة نحو القرن الواحد والعشرين؟

سيكون القرن والواحد والعشرين مسرح أكثر الحروب الدِّينيَّة حسمًا، فمطلع القرن كانت الدِّيانة السَّائدة في الغرب ربوبيَّة السُّوق، وقد توافرت لهذه الرُّبوبيَّة وسائط الإعلام، والمخدَّرات. إنَّ ٨٠٪ من مواردها هي من دول العالم الثَّالث، وتملك أمريكا ٥٠٪ من ثروة العالم، وكلُّ مساعدة تقدِّمها لدول العالم الثَّالث هي مساعدة مشروطة بعدما هبَّت بُعيد الحرب العالميَّة الثَّانية لرفع شارة النَّصر، وأعطتها اتِّفاقات بريتون وود صفة رسميَّة لتوحيد سعر صرف الدُّولار، وعدِّه مكافئًا للذَّهب، ليصبح بذلك العملة الدَّوليَّة. وكذلك أحكمت قبضتها إقتصاديًّا على السُّوق من خلال معاهدة مسترخيت الَّتي جعلت أوروبا أمريكيَّة، كذلك عسكريًّا من خلال حلف الشمال الأطلسيِّ، وتقييد العالم بواسطة صندوق النَّقد، هكذا أصبحت أوروبا مستزلمة وأصبحت أوروبا أمريكيَّة.

إنَّ تمجيد الفساد بواسطة الأوليغارشيَّة المهيمنة، وانتهازيَّة أرباب العمل، ورواج المخدَّرات خدمة لربوبيَّة السُّوق، وتنفيذًا لليبراليَّة الأمريكيَّة حيث تلاشى معنى الحياة، بعدما احتلَّ اقتصاد المخدَّرات موقعًا استراتيجيًّا، وهذا ما تنتهجه السِّياسة الأمريكيَّة في العالم ككل، حيث استخدمت لعبة الموت ليس فقط عبر الوسائل السِّياسيَّة، والعسكريَّة (صفر قتيل)، وإنَّما من الوسائل الثَّقافيَّة عبر الأفلام الكرتونيَّة مثل لعبة Pokémon، وهذا من شأنه التَّأثير على الأطفال كثيرًا. من هنا نحن أمام مشروع منهجيٍّ يقوم على التَّفسُّخ الإنسانيِّ، والرَّوحيِّ، وانحطاط في العادات، والتَّقاليد، وعلى جميع المستويات.

هذه الولايات المتَّحدة الأمريكية ذات العنف في السِّياسة الخارجيَّة والدَّاخليَّة، ولأجل مهمَّتها للاستيلاء على ثروات الدُّول أكثر، ستكون أكثر عنفًا في المرحلة القادمة. لكن بعد تدمير العراق، وأفغانستان لأجل مصالحها الحيويَّة، وبعدما تضامنت مع التَّطهير العرقيِّ في كوسوفو، وتجاهلته في فلسطين لأجل مصالحها فقط يؤكِّد أنَّ حلمتا السُّلطة في أمريكا هما الله والدُّولار. لذا لأجل مواجهة هذه الحالة من الهيمنة، والاستبداد علينا أن نعيد إحياء فرصنا الضَّائعة: عبقريَّة كارل ماركس، وإحياء الأسلام وانبعاثه.

قال ماركس في تنبُّوءاته التَّاريخيَّة إنَّ النِّظام الرَّأسماليِّ سيولِّد ثروات عظيمة، لكنَّه سيحدث بؤسًا عظيمًا، وذاك بتكديس الثَّروة في قطب من المجتمع بين يدي حفنة قليلة العدد، مقابل إفقار الجموع الغفيرة في القطب الآخر، في حين آدم سميث قال إنَّ الرَّأسماليَّة ستحقِّق المصلحة العامَّة، إذا ما لحق كلُّ فرد مصلحته الشَّخصية، وأُثبت على الصَّعيد العالميِّ أنَّ كارل ماركس كان محقًا لا آدم سميث. وأمَّا ما أصاب الإسلام في الآفة الَّتي أدخلته عصر الانحطاط عندما تحول العرف إلى فردانيَّة من خلال التَّوجه إلى تقليص مبادئ الإسلام، وعندما لم تعد الشَّريعة مبدأ قانون عالميٍّ، إذ قلَّصها المتزمِّتون للتَّأويل الحرفي لعدد من الآيات، وكانت في أساسها حالات خاصَّة، لذا يجب على الإسلام إذا أراد مواكبة الحياة الاغتناء بأعمال التَّفكير الانتقادي في تطور العلوم، وعليه الاغتراف من كبار مكتشفي الرُّوح، فإن الأمر المشترك بين الجميع هو الرِّسالة الإلهيَّة، وما أكثر ما يلحق بها من فساد، لكنَّها دائمًا تختصر في تعلُّم غاية بالبساطة بوحدة الله، ووحدة الإنسانيَّة. وهذا يعني على المسلمين واجب قراءة القرآن قراءة نقديَّة، أي نقد تاريخي لنزول الآيات وأسبابها، وكلُّ نهضة في الإسلام تكون سياسيَّة، وروحيَّة تتطلَّب قراءة جديدة للقرآن لتخليصه من التَّفسيرات الميِّتة والمميتة.
إنَّ هذه الهيمينة الأمريكيَّة على العالم، والانحطاط في الأديان كلِّها، وانحرافها عن مسار رسالتها الحقيقيِّ، هكذا سيطرت الحضارة الغربيَّة بحسب ما أطلقوا عليها اسمها، وفرضت أمريكا هيمنتها، حدث شرخ في الجيوبوليتيكيا مع ازدياد التَّبعيَّة الأوروبيَّة لأمريكا، جرى استثناء لآسيا، ووجد كلام كبير عن هذا الاضطراب الحاصل، وهذا المنطق اللَّاإنسانيُّ للنِّظام الأمريكيِّ، وكانت هذه المؤلَّفات ليست سوى أمثلة قليلة عن الرُّؤية الرَّسميَّة للعالم، والمفروضة من أسياد اللُّعبة الأمريكان بحيث ما يشكل ثلاثة أرباع الجنس البشريِّ ليست محسوبة على هذه المجموعة الدُّوليَّة، وهي كلمتها ليست مسموعة بل غدا القضاء عليها هدف الحضارة الغربيَّة، وهو الحلف المتواطئ (الإسلاميُّ الكونفشيوسيُّ)، وعدَّت الحضارة الغربيَّة أنَّ إيران والصين هما العدو الأول كما توضَّح في كتاب هنتينغتون صدام الحضارات.

إنَّ مشكلة المركزيَّة في هذا العصر ليست حول مستقبل الأمبراطوريَّة الأمريكيَّة، وأزلامها الأوروبيون فحسب، وإنَّما يخصُّ الأرض قاطبة، إذ تحتاج هذه الأرض إلى إعادة التَّوزان لهذا العالم، ويقتضي تصحيح مسار ٥٠٠ عام من الاستعمار الَّذي بمصادرته، وسرقاته، ومجازه، ولد التَّقسيم الكبير الحاكم على نصف العالم بالجوع، وعلى باقي العالم بالبطالة، ومن هنا تنبع مهزلة الدُّيون الَّذي يفرضون شروطًا سياسيَّة لتسديدها إلى FMI صندوق النَّقد الدُّوليِّ، أو البنك الدُّوليِّ، في حين أنَّ أمريكا غير مجبرة على دفع ديونها، وبخاصة أنَّها كانت سببًا في سرقة الذَّهب، والفضة من أمريكا اللَّاتينيَّة، وكذلك سرقة القطن الهنديِّ، والمصريِّ على أيدي الإنكليز، وغيرها في العالم كلِّه، ولكن لا شيء يعيد التَّوازن بعد هذا الخلل سوى المبادرات الاقتصاديَّة والَّتي هي ليست مستحيلًا.

لأجل إقامة جيوبوليتيكيا مختلفة في القرن الحادي والعشرين يجب تقديم اختبار حقيقيٍّ مختلفٍ عن العولمة الَّتي تمثِّل أشدَّ أنواع البطش الرَّأسمالي وحشيَّة، والمتمثِّل بهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وإنَّ مشاريع إيران والصِّين تمثِّل اختبارًا يصبُّ في هذا المجال، وهذه المشاريع ستنفَّذ لأجل إنقاذ مستقبل البشر، والكرة الأرضيَّة، لكن هذه الدُّول تشكِّل طفرات غير مألوفة، وتوازنات غير مستقرَّة باستثناء روسيا الشَّاسعة الَّتي لا يمكن لإنسان اليوم أن يتنبَّأ بيقين راسخ بمستقبلها، لكن بإمكاننا أن نرسم فرضيَّات العمل في بلدان آسيويَّة هي اليوم في خضن التَّغيير، والتي كان الغرب طيلة قرون قد استولى على التَّحكُّم بمستقبلها.

تأخذ نقاط التَّوازن فعاليتها بإعادة تفعيل القيم الأسيويَّة الأساس، والأعراف البراهميَّة، وقيم الفروسيَّة في اليابان، والحكمة البوذيَّة، وأن تضمَّ في الوقت نفسة القوى الجديدة للتِّقنيَّة، والتَّحكُّم بها، ووضعها في خدمة جميع البشر.

إنَّ النَّمط الغربيِّ الَّذي يعطي للسُّوق الدَّور المنظِّم للعلاقات الشَّخصيَّة، والاجتماعيَّة وضع الهند تحت الهيمنة الاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة بمجاعتها، وانقساماتها، وعرفت الفيتنام التَّصدير الفاضح للكولونياليَّة الفرنسيَّة، وأما اليابان متميِّز إذ جرَّبت الحفاظ على كنوزها الثَّلاثة: التَّوظيف أبد الحياة، وراتب الشَّيخوخة، ونقابة المشروع من خلال التَّطبيق الطَّاحن للعقيدة اللِّيبراليَّة، وهكذا يكون العامل قطعة يمكن رميها وإعادة شرائها بهشاشة.

سيظلُّ للعالم منكسرًا ما دامت مستمرِّة هذه المنظومة القائمة، فهي المسيطرة على السُّوق، إذن المطلوب لمحاربة ما يقومون به من تفتيت، وتفكيك، وذلك بالتَّسديد على قلب فعاليَّتهم الَّذي لا قلب له: السُّوق. والمطلوب من المثقَّفين تحليل تقنيات العبوديَّة، وفضحها مهما كانت المخاطر المحقَّة، حتَّى إعلاميَّة، وسياسيَّة، وقضائيَّة، وهذا الكفاح لا يمكن خوضه انطلاقًا من هدايات فرديّة، بل على المجتمع المدنيِّ أن يأخذ على عاتقه خلق سلطات مضادَّة في بلدان العالم الثَّالث، والَّتي عليها أن تأخذ بعين الاعتبار «جماعات الأساس» لاهوتيَّات التَّحرُّر في أمريكا اللَّاتينيَّة، وهناك أمثال كثيرة قادرة على التَّغيير والفعاليَّة، وهكذا انطلاقًا من مثل جماعات الإساس المؤسَّسة على أكثر الجوانب الإنسانيَّة يمكننا بناء مستقبل ذي وجه إنسانيٍّ ضمن وحدة الإيمان، وبما يتجاوز الحواجز المغلوطة بين الدِّيانات والأحزاب، وهكذا يتشكَّل نسيج اجتماعيٌّ جديد على صورة إنسانيَّة رغم التَّمزُّقات، والندوب في القرون السَّابقة، وهو أمر ليس بالسَّهل ولكن يمكن الشُّروع به.

وكذلك من المناسب نفض اليد من الإنشاء البالي المتحدِّث عن اليمين، وعن اليسار لأنَّ هذا الكلام لم يعد يسمح بمحاربة العدو الرَّئيس، ولأنَّ في هذا الإنشاء خضوع للأمريكيِّين ولسياستهم، أو مقاومة هذا التَّراجع الاجتماعيُّ والثَّقافيُّ.
هذه التَّحالفات الجديدة الَّتي قد تحدث تغييرات مبشِّرة بالخير في التَّصويت لغير صالح معاهدة مسترخيت، ويجب على المجهود الرَّئيس أن يكون مجهود توضيح نظريٍّ، كما يجب الشَّرح كيفيَّة استطاعة السَّيطرة على الأحداث في السِّياق الدَّولي، وواحدًا من أساليب المواجهة في مواجهة كلَّ عرف للثَّقافة الأوروبيَّة.

عملت الحضارة الأوروبيَّة على تخدير الذَّوق في جميع الميادين، وخلقت تربة خصبة للعنف، وللتَّردِّي الأخلاقي، والتَّخبُّط الثَّقافي للشَّباب واحدًا من أرهب تلك الفوضى الدُّوليَّة الجديدة، وأصبحت الأرض أرض البطالة، والتَّفاوت، والإقصاء، واللَّامعنى في العلاقات الدَّوليَّة، فإنَّ كلَّ كلمة ترفع شعار القطيعة مع تلك الفوضى يجب أن تشمل أيضًا القطيعة الثَّقافية. ويتطلب الأمر عدم الاستسلام للقبول الدِّيماغوجي خوفًا من التَّعامل كسلفيِّين.

وتصدِّيًا للسَّلفيَّة الكولونياليَّة في الغرب، والَّتي تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، وتريد فرضها على التَّعاليم، يجب التَّحرُّك ضدَّ كلِّ سلفيَّة متشدِّدة، لأنَّ هذه الحركات المتشدِّدة بقيت محصورة في الماضي، ولم تجد بديلًا منه، لذا إنَّ الاختيار بين تقليد الغرب، أو تقليد الماضي كالاختيار بين طريقين مسدودين.

وهكذا لأجل تحقيق التَّوازن لا بدَّ من إيجاد أسواق جديدة، يمكن لكلِّ المشاريع الإنسانيَّة أن يكون لها اليد العليا على الاستسلام لمزالق، وانحرافات أيديولوجيا رأسمال، والقوانين الإقتصاديَّة، وهذا مع تغيير مواقع الإنتاج، وهكذا على نظام قائم أن يعطي مبادرات تحمل اقتراحات، وحلولًا بديلة لتحقِّق إعادة التَّأهيل على الصَّعيد العالميِّ، وبهذا تتبيَّن وجوه الفوارق بين الرَّأسماليَّة، والاشتراكيَّة، الرَّأسماليَّة تتمثَّل بتنحية كلَّ سمة أخلاقيَّة لصالح اللُّعبة العمياء السَّوق، في حين أنَّ الاشتراكيَّة تتطلَّب في خط الانطلاق اختيارًا أخلاقيًا. لذا تتطلَّب المعركة في سبيل المستقبل اقتصادًا جديدًا يضع الحدَ للقرصنة الماليَّة الدَّوليَّة، ويعمل على نقيض بروتون وود، ويجب أن تتمَّ المعاملات الاقتصاديَّة في البلدان بعملاتها المحليَّة، إضافة إلى إسقاط مديونيَّة البلدان الَّتي مستعمروها القدامى هم المدينون الحقيقيُّون اتِّجاهها، وكذلك أن نتمكَّن من الوصول إلى الهدف الأعظم، هو فرض ضريبة شديدة الوطأة على كلِّ عمليَّة ماليَّة ذات طابع احتكاري بمعدلات باهظة بحيث يصبح من المستحيل عمليًّا اللُّجوء إلى مثل تلك المضاربات.هذه الإجراءات الثَّلاثة تؤدِّي إلى إعادة صياغة العالم، خدمة للوحدة المتناغمة لهذا العالم، وهي نقيض الشَّكل الإمبرياليِّ المتجانس للمنظومة، وفي هذه الإجراءات تكمن هزيمة العملاق الأمريكيِّ ذي القدمين الفخَّاريَّتين، هذا العملاق الأمريكيِّ الَّذي ينظر إلى الدُّول الَّتي تمارس الإرهاب دولًا ديمقراطيَّة ما دامت السُّوق الحرُّة الممهِّدة للغزو الاقتصاديِّ الأمريكيِّ لا تلاقي أيَّ عوائق. ولا نكتفي بذلك بل يجب على الإعلام أن يسهم في هذا الدُّول لأنَّ واحدًا من أهداف الحضارة الغربيَّة هي السَّيطرة المطلقة على الأعلام، والسُّوق، والمناهج التَّعليميَّة إضافة إلى دور الجيوش، والآلة الحربيَّة. لذا هنا علينا بلورة تعريف جديد للدِّيمقراطيَّة لأنَّ الدِّيمقراطيَّة الأمريكيَّة قائمة على أوليغارشيَّة الرِّقِّ، واستعباد السُّوق، وثقافة صفر قتيل، وهي للبيض وليس للسُّود، هي ديمقراطيَّة الموالين للهيمنة الأمريكية حتى لو مارسوا القتل والإرهاب. وهنا يطرح سؤال وجيه من هو الإنسان المقصود بالدِّيمقراطيَّة؟ لذا نحتاج إلى مشروع شرعة واجبات لكلِّ إنسان لأنَّ الإنسانيَّة جماعة واحدة، وكذلك لأنَّ الاقتصاد والسِّياسة مهمَّتها تنظيم العلاقات الاجتماعيَّة على جميع المستويات، لذا هناك بذور أمل في أيجاد نظام عالميٍّ جديد يمنح قدرة الشِّراء لجماهير العالم الثَّالث، ويجد حلولًا للهجرة، والبطالة ويعيد التَّوازن لكوكب الأرض.

إنَّ مشروع «طريق حرير» جديدة، والجسر العابر للقارَّات، هو أمل جديد يحقِّق وحدة العالم بمشاركة جميع الشُّعوب، وجميع الثَّقافات، وهذا المشروع هائل لإعادة تأهيل الأرض، وبناء خاصرة جديدة قويَّة، ومتينة، وعادلة، وهذا يمثل نهضة أسيويَّة جديدة بين إيران، وروسيا، والصِّين، وطريق الحرير، هذا وسيلة للتَّخلُّص من الاستبداد الاقتصاديِّ الَّذي تمارسه الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، والَّتي قامت على مصادمات العالم.

إنَّ الحلَّ الوحيد من خلال تطوُّر تضامنيٍّ للاستعاضة عن العولمة الإمبرياليَّة المجرمة بحقِّ البشر، والثَّقافات، وهو جسر حقيقيٌّ يربط ضفتيِّ الجزيرة الأوروآسيويَّة الكبرى، ويمهِّد لإعادة تشكيل عالم موحَّد بتفرُّعاته، وامتداداته من أفريقيا، وصولًا إلى موريتانيا للوصول إلى الشَّبكات التِّجاريَّة الأمريكيَّة، إضافة إلى المشاريع الَّتي يمكن لروسيا أن تقوم بها مع الجسر الأوروأسيوي يشكِّل البديل المتعارض مع العولمة، مع الأخد بعين الاعتبار قدرة السَّيطرة على المياه، والمناخ بدراسات إقتصاديَّة مؤثِّرة وفعَّالة، هناك ظاهرتان دوليَّتان الأوَّل متعلِّق بموقع إيران الجغرافيِّ، والَّذي يمكِّنها من تبوُّء مركز اقتصاديٍّ أساس لأنَّ المناطق المحيطة بها لا تملك منفذًا بحريًا باستثناء جورجيا، فهي مضطرة لاستخدام كلِّ الطُّرق الإيرانيَّة، وأيضًا للصِّين موقع جغرافيٌّ مفصليٌّ بسبب حدودها المشتركة مع آسيا الوسطى، وهذا يجعل الصِّين، وإيران تملكان موقعًا جغرافيًا مفصيليًا يمنحهما قوَّة إقتصاديَّة هائلة. ولا بدَّ لهذا الموقع أن يتوَّج بالرَّبط الحديديِّ الأوروآسيوي الَّذي يسهل نقل البضائع، والمبادلات التِّجاريَّة، وختامًا إنَّ حضارة المداريات الَّتي أسهمت الولايات المتَّحدة في تدميرها، وسرقة مقدَّراتها سيسمح لها وفق هذا النظام الجديد بالتَّكلُّم وإثبات نفسها وستكون على رأسها البرازيل.

-------------------------------
[1][*]- باحثة في النقد الأدبي، طالبة دكتوراه، الجامعة اللبنانية.