البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هل دخل العالم مرحلة ما بعد العلمانية، التعددية تفترض نفسها غرباً

الباحث :  سيزار ميرليني - Cesare Merlini
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  934
تحميل  ( 323.556 KB )
أدت عودة الدين في العقود الأخيرة إلى مسرح السياسة العالمية ومن ثم التحوّلات التي حصلت في عالم الأديان إلى الحديث عن مصير العلمانية وانتقال العالم إلى مرحلة ما بعد العلمانية. إذ بدأت تتضح معالم التغيّرات في النظام العالمي الذي ساد منذ معاهدة وستفاليا، وأضحى العالم اليوم أمام سيناريوهين الأول يفترض انهيار النظام العالمي والدخول في حالة من الفوضى والنزاعات، وسيناريو آخر يتمثل ببقاء النظام الحالي متماسكاً.

يبيّن الكاتب الإيطالي سيزار ميرليني في مقالته هذه أن السيناريو الثاني هو الأكثر احتمالاً وأن الطروحات التي لا تؤمن بالتعددية لا مستقبل لها.

المحرر

تميّز العقدان المنصرمان بعودة الدين أو انبعاثه على المسرح العالمي. فقد صار تأثير مسيحيي الولايات المتحدة في الفضاء السياسي قوياً وملحوظاً وحاسماً أحياناً. وازداد عدد النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب للتعبير عن هويتهن في بلدانهن الأم أو في البلدان التي تستضيفهن. وإسرائيل آخذة في التحوّل إلى دولة يهودية. وبما أن قراءة هذا النوع من الظواهر يغري باستشراف النتائج المستقبلية، برزت صورة عالَم يتحول إلى بعد العلمانية، في عين تحوله إلى بعد غربي[2]. وقد ربط عدد من المؤلفين النشاط المتزايد للأديان الخاصة أو المنظمات الكنسية، بنشأة التطرّف الديني وما يتصل به من محاولات لفرض قراءة انتقائية للكتب المقدّسة الأساسية حول إدارة الشأن العام[3]. يبدو هذان التطوران متزامنين في الظاهر، لكن بعد التدقيق نكتشف أنهما يتمايزان غالباً ويتناقضان أحياناً، ولو من منظور الأديان التوحيدية الثلاثة على الأقل.

تحول المسيحية

تخضع المسيحية لتحولات عميقة، فالكناس الأوروبية، الكاثوليكية والبروتستانتية على حدّ سواء، تقترب على ما يبدو من فترة انحطاط على الرغم من وجود غنى روحى في بعض الدوائر. هناك بالتأكيد، برامج إعلامية ناجحة وجذّابة أحياناً، لكن الممارسات العبادية العادية تشهد إهمالاً متزايداً، فعندما يُسأل المستفتون عن الإيمان يكتشفون أن الإجابات الإيجابية في تناقص مستمر[4]. فقد كانت فضيحة الولع الجنسي بالأطفال، التي أصابت الكنيسة الكاثوليكية على نحو خاص، وما زالت، خطوة انحدارية في مسار تراجعي أصلاً. مازال للفاتيكان بعض التأثير، خاصة في إيطاليا، لكن المفاهيم المسيحية الأصيلة لعدد من الأحزاب الوسطية في غرب أوروبا بهتت إلى حد كبير. أمّا قضايا الكنائس الأرثوذوكسية فقد تختلف لأسباب تخصّها، لكن أدوارها في مصير المسيحية همّشت نسبياً. إضافة إلى أن انكفاء المسيحية الأوروبية التقليدية، يحدّ بشكل حاسم من التبشير الديني في الخارج، وهذا ما يثير أسئلة حول مصير البعثات التبشيرية السابقة. مقابل هذا الانكفاء في السنوات القليلة الأخيرة ظهر المبشِّرون البروتستانت الجدد، والخمسينيون وغيرهم، مما أظهر قدرة مذهلة في الوصول إلى الناس وجمع التبرعات، التي تخصّص للإحياء الديني المسيحي عالمياً. فقد نجح هؤلاء في أميركا اللاتينية، وفي شمال أميركا، خاصة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من النص الواضح في الدستور الأمريكي حول فصل الدين عن الدولة نلحظ تزايداً في التأثير السياسي للمنظمات البروتستانتية الجديدة خلال الربع الأخير من القرن العشرين، الذي كان في بادئ الأمر محلياً نتيجة تأثير الوعّاظ الشعبيين في شاشات التلفزة، ثم لاحقاً صارعالمياً. وهكذا تتابع المسار خلال العقد الأول من القرن الراهن[5]. ثم انتشرت طريقة التبشير الأميركية في أرجاء العالم، واعدة بالعون الإلهي في الرفاه الدنيوي والصحة، إذ استخدمت وسائل الإعلام على نطاق واسع، والشعارات التجارية والأموال الخاصة. وبعدها أُدخل نموذج الكنيسة الضخمة المنتصرة إلى البرازيل الناهضة، ونيجيريا الفقيرة؛ وهي تزدهر منذ بعض الوقت في كوريا الجنوبية الصناعية. ولكن على الرغم من تصوير بعضهم هذا التحوّل المسيحي في نقل التركيز والتأثير الرئيسي من النصف الشمالي من الكرة الأرضية إلى النصف الجنوبي منها، بعد التغيّرات الديموغرافية الموازية لانحدار الغرب، فإنه لم يكن في الواقع تحولاً نحو الجنوب، بقدر ما كان تحولاً نحو الغرب، أي من أوروبا إلى أميركا[6].

هذه الحركة الناشئة لا تشبه الأصولية المسيحية التي يمكن اقتفاء أثرها في القارة القديمة؛ فقد أعيد إدخال طائفة «اللاَّتائبين” الكاثوليكية التي أسسها الأسقف المحافظ لفبفر Lefebver عام 1970 عقب المجمع الفاتيكاني الثاني إلى الكنيسة على يد كبير الكهنة. في حين أن الذين يعارضون تعليم العلوم التطورية في المدارس، مثلاً، ينتمون عموماً إلى المنظّمات البروتستانتية الجديدة الأميركية. ومن الخطأ تسمية جميع هذه المجموعات أصولية، على الرغم من ميولهم المشتركة والمتكررة للاستشهاد بالكتاب المقدّس من دون مراعاة لترجمة النصوص الدينية وتفسيرها وتاريخها.

يتفاوت تأثير هذه التغيّرات في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. ففي الصراع ضد الإجهاض ووسائل منع الحمل في البلدان النامية تجد المحافظين ومنظمات البروتستانتيين الجدد في الولايات المتحدة متحالفين أحياناً مع المسلمين المتشدّدين ومع الكنيسة الرومانية. في الوقت الذي كان  فيه خطابهم الحاد المعادي للإسلام بخاصة بعد أحداث 11 أيلول، موضع اهتمام حتى للرئيس جورج بوش الأب، الذي يعلن عن نفسه بأنه من مسيحيي الولادة الجديدة born-again Christian. ويدعم “المسيحيون الصهاينة» الأميركيون الاستيطان بتمويل كبير في القدس الشرقية والضفة الغربية، الذي يشكّل أكبر  عقبة في طريق السلام بالشرق الأوسط. كما يعتقد كثيرون بعودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة شرطاً مسبقاً للعودة الثانية للمسيح، لإعادة مملكة يهودا المتّهم بالوشاية بالمسيح – وهو اعتقاد يشبه ما يؤمن به المسلمون الشيعة من ترقُّب لظهور الإمام الغائب إلى حد ما.

هل يوجد إسلامان؟

صُبغ فهم الإسلام في الغرب عموماً بالأشكال والممارسات الموجودة في الشرق الأوسط الكبير. فبالنسبة للأوروبيين يرتبط الأمر بالتاريخ، والجوار والهجرة، وبالنسبة للأميركيين بمسألة إسرائيل وأمن مصادر النفط وحديثاً الإرهاب. وفي هذه الجهة من العالم الإسلامي تنتشر خطابات الغضب. حيث تضاعف الشعور بالإحباط نتيجة لفشل معظم المحاولات في جعل بعض الدول أكثر ديموقراطية وعلمانية، تحت تأثير النماذج الغربية الاشتراكية والرأسمالية. وانسحبت النخب الإسلامية كما يقول البروفسور في جامعة جورجتاون جون ل. إسبوسيتو John L. Esposito. [7] فضعف الإصلاحيين والعلمانيين يقوّي بديلهما، وهو الهويات الدينية، التي تشرّبت طعم العداء للغرب إلى درجة وصلت إلى ما يصطلح عليه بـ”المقاومة»، وهي كلمة يربطها الأوروبيون بصراعهم الماضي مع الفاشية. فقد أيقظت الانتفاضة الشعبية غير المتوقعة في تونس التي بدأت في كانون الأول 2010 بالنسبة لكثيرين في الغرب شبحان توءمان لهما تأثير أحجار الدومينو والخطر الإسلامي. الأول تجسد بسرعة في مصر والبلدان الإسلامية الأخرى، لكن نتائج الصحوة الإسلامية بدت مشوّشة. فمن جهة عاد الإخوان المسلمون والأحزاب أو المنظمات الإسلامية الأخرى التي تمّ تهميشها إلى المسرح السياسي وهذا ما كان مكلفاً جداً للحكومات الديمقراطية ذات الصلة، وسبّب إحراجاً للغرب. ومن جهة أخرى، ركّزت المظاهرات على التمكين السياسي للمجتمع المدني المحلّي لا على ضرب المسيحية والغرب أو إسرائيل. فبدءاً بنهاية شباط لم يتصف الاستعراض الجماهيري للصلاة الذي قام به المحتجون بالتطرف الديني، ولم يظهر به أي ميل للإرهاب.

الإسلام في باقي آسيا قصة مختلفة. فقد طوّرت معظم الدول، سواء أكانت ذات أكثرية أو أقلية إسلامية، فاعلية وشرعية أكثر من بلدان الشرق الأوسط. وطغت العلاقات المغايرة للعلاقات مع الغرب(بين المسلمين والهندوس في الهند مثلاً) على مشكلة الهوية ومشكلات العرقية، وصارت العلاقات المتبادلة بين الإسلام والمؤسسات العلمانية أقل تصادماً. قد تكون المقارنة بين تحوّل الإسلام شرقاً والمسار الغربي في المسيحية غير متكافئة، لكن يبدو أن المسلمين الآسيويين(جنباً إلى جنب مع شركائهم في الوطن من غير المسلمين) أكثر استعداداً لمواجهة التحدّيات العلمية، والعولمة وتأثيرها العلماني من إخوانهم في الدين بالشرق الأوسط.

لا يمكن للأصولية الإسلامية التي تعرّف بأنها محاولة لفرض الشريعة على إدارة الشؤون الداخلية والدولية أن تتطابق مع البحث عن الهوية أو مع الدفاع عنها بواسطة الدين. فقد كشفت استطلاعات آراء المسلمين ومنهم مسلمو الشرق الأوسط عن  أكثرية ساحقة ترى في الدين مصدراً للهوية والإلهام الأخلاقي، لكنهم يؤيدون الديمقراطية وحكم القانون[8]. في المقابل يقدّر نقّاد السياسة وطرق العيش الغربية خاصة الأميركية، الحرية بشكل متزايد ويرون في الأصولية انعكاساً للرجعية والانعزال.

اليهودية وعودة إسرائيل

يتشارك معظم المسلمين في كل مكان بشعور الكراهية لدولة إسرائيل. فذكرى الهلوكوست والدفاع عن أرض الوطن التي منحها التاريخ لهم شكّلت عوامل هوية لا تنفصل بالنسبة لمعظم اليهود المعاصرين. في الشتات، تعبّر الصحوة الدينية عن نفسها من خلال عرض الرموز، مثل «الكيباه» أو «اليرموكة» والمشاركة في الطقوس الجماعية التي تتجاوز عادة الإيمان الديني الشخصي. وساد في إسرائيل انجراف منتظم تجاه طائفية الدولة الذي ظهر مثلاً في اقتراح قَسَم الولاء للدولة اليهودية، الأمر الذي يخالف المفاهيم العلمانية الأساسية لعدد من الآباء المؤسسين، ويعدّ مصدراً لتعميق الانفصال عن معظم النخب الثقافية.

إن فكرة التحوّل اليهودي جلية بذاتها. بعد ما يقارب العشرين قرناً من الشتات بين الأمم، والاضطهاد المنقطع النظير، وفي الوقت نفسه، التفاعل الثقافي فوق العادة مع الشعوب المضيفة. كان المتوقع أن يكون لعودة إسرائيل إلى أرض داود تأثير تحوّلي عميق في الثقافة اليهودية، وما نراه الآن ليس إلا بداية فقط.

الأصولية اليهودية بمعناها الديني راسخة عند الطوائف الأرثوذوكسية والأرثوذوكسية المتشدّدة، الناشطة بأشكال مختلفة في إسرائيل والشتات على حد سواء. لكن إلى جانب الدعم غير المشروط للحكومة الإسرائيلية، توجد بعض الطوائف الأرثوذوكسية التي تعارض الحركة الصهيونية، وما زالت تتبرّأ من نتائجها. وهناك نوع من الأصولية السياسية التي تعلن معارضة نقدية لأي قرار تتّحذه الحكومة ويهدد بقاء الدولة الإسرائيلية، وترى فيه تعبيراً عن معاداة السامية. هذه ليست وجهة نظر الأكثرية، لكن للذين يتمسّكون بها سلطة ونفوذ، بخاصة في الولايات المتحدة. إن هذا الجدل حول الأصولية السياسية وليس الأرثوذكسية الدينية هو الذي سيعيد تشكيل التحوّل اليهودي.

مصير الدولة الوستفيلية Westphalian state

إذا كان الدين عائداً بوصفه عاملاً حاسماً على المسرح العالمي، فمن أين يعود؟ كان الدين نظرياً موكلاً بدور هامشي على يد النظام السياسي للدولة العلمانية المستقلة التي تتمتع بامتياز خاص لاستخدام القوة وعدم التدخّل الخارجي، بما في ذلك الكنائس التي خرجت من معاهدة سلام وستفاليا[9] عام 1648 واستمرّت في لعب دور مهم حتى عام 1945، وهذا ما يعتبره كثيرون بداية لولادة العلمانية الغربية. لقد تمّ تبنّي نظام الدولة الأوروبي عالمياً بكل ما فيه من حسنات ومساوئ، واليوم العالم منقسم إلى حوالي 200 كيان دولة تعلن رسمياً وحصرياً السيادة الشرعية والاستقلال عن التدخّلات الخارجية مهما كان نوع نظام الحكم الذي تتبنّاه. 

مع ذلك ثمة إقرار بأن نموذج الدولة الوستفالية يتقوّض شيئاً  فشيئاً. وهذا ما يتبيّن من خلال المؤشّرات الثلاثة التالية: أولاً، السيادة المستقلة تتآكل، لا من خلال الخضوع لهيمنة القوى كما في الماضي، أو من خلال الضعف الجوهري للدولة الراهنة التي ضعفت أو تضعف، بل من خلال الاعتماد المتزايد وخاصة الاقتصادي المتبادل بين الأمم، وازدياد الاهتمام بالتحديات الدولية. ثانياً، تغيّر طبيعة الصراع العالمي، فقد أصبحت الحروب بين الدول التي كانت ميزة مشتركة في النظام بعد الوستفالي نادرة، وارتفع في المقابل عدد الصراعات التي تنخرط فيها القوى الداخلية التابعة للدولة أو التي لا علاقة لها بالدولة. وفي معظم هذه الصراعات تقريباً، يتبنّى واحد، على الأقل، من الأطراف عقيدة دينية. هذا وينتشر الشعور بعدم الأمان الذي لا يستطيع إزالته أي تقدير غير مبالغ فيه لقلة الكوارث على مرّ التاريخ رغم تزايد عدد السكان عالمياً. [10] وما يسهم في هذا الشعور هو ارتفاع الخسائر البشرية المدنية على نحو غير مسبوق. ثالثاً، صحيح أن انتهاك مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية من القوى المسيطرة صار أقل انتشاراً من الماضي، لكن هذا المبدأ يخضع لضغط متزايد عندما تهدّد الأفعال الوطنية البيئة الأمنية لفئة أكبر من الدولة، كما في حالة الانتشار النووي، أو عندما لا يتمّ التعامل مع الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان داخلياً، خاصة عندما يحصل ذلك في الدول الضعيفة أو الآيلة للسقوط. لذلك تأسّس منذ منتصف القرن العشرين، عدد كبير من المؤسسات الدولية المرتكزة على المعاهدة أو على الأقل عاشت بعد ولادتها، وتنامت الكيانات الوظائفية متعددة الجوانب (مقابل الكيانات المؤسساتية) مثل التجمّعات متعددة الأطراف التي تطمح للسيطرة العالمية. لكن هناك ميزة أخرى للنظام العالمي الجديد يجب أخذها بالحسبان: هي البعد التواصلي الداخل- مجتمعي المتزايد، والذي إلى حدّ ما يلقي ظلاله على البنية البين دولية الأساسية للعلاقات الدولية. فعندما تخضع المجتمعات المدنية لتحولات عميقة في كل أمة تقريباً، وتتواصل بشكل متزايد  وتتواجه، وأحياناً يقاتل بعضها بعضاً، يُترجم هذا التطور إلى تعدد الجماعات العابرة للأوطان، والجمعيات الذاتية والمنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى التجمعات الافتراضية على الإنترنت التي لا تشكّل الجماعات ذات الطبيعة الدينية إلا جزءاً صغيراً منها فقط، لكنه ليس فاقداً للأهمية.

عودة الدين إذاً هي فقط جزء من النظام البعد وستفالي بمعنى أنها ليست إعادة لتأثير الكنيسة داخل الدولة وبين الدول، بل هي تجديد لتأثير الاعترافات وطوائف الكيان السياسي العلماني. لكن، كما يرى المفكّر السياسي أوليفيه روا Olivier Roy إذا “كانت الصلة وثيقة بين العلمنة والصحوة الدينية، فالصحوة الدينية ليست رد فعل على العلمنة، بل هي نتاج لها»[11]. إذاً، يمكن أن يُرى النشاط المتزايد للكيانات الاعترافية على امتداد العالم على أنه نتيجة لانبثاق نظام عالمي جديد، هو بدوره نتاج المقاربة العلمانية التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تميّزت المرحلة، إلى حد بعيد، بالعقلانية والنسبية أكثر من الخطابات التوتاليتارية والقومية والإيديولوجية المستعارة من الدين خلال القرن التاسع عشر، ومن خلال القومية الميّالة للحرب التي دمّرت النصف الأول من القرن العشرين. كانت المقاربة العقلانية العلمانية من الأسس التي أدّت لهزيمة الإمبراطورية السوفييتية من غير اللجوء إلى «حرب حارة»، ونجاح الردع النووي على مدى أربعة عقود من هولوكوست نووي وشيك، نكاد ننساه الآن، وعملية الاندماج الأوروبي التي دفنت تاريخاً طويلاً من الصرعات الدموية التي أصبحت التجربة الأكثر تطوراً في مشاركة السلطة على الأرض، حتى في مولودها الهجين الحالي ودولتها غير المكتملة. في هذه الأحوال كانت إسهام القادة أصحاب الإرادة الخيّرة الملهمة من الإيمان بالله والأخوة الإنسانية ووصايا السلام مهمة بالتأكيد، لكن الجدير بالملاحظة أن أكثر هؤلاء ينتمون إلى أكثر التيّارات علمانية.

سيناريوان

ثمة سيناريوان متعارضان لمستقبل النظام العالمي يوضحان دائرة الاحتمالات، ولو بالمجازفة في التبسيط المفرط. يفترض السيناريو الأول انهياراً سابقاً لأوانه للنظام بعد الوستفالي. 

قد تتطوّر بعض التوترات الحادة الظاهرة راهناً وتتحوّل إلى صراع مفتوح وتقليدي بين الدول، وربما تصل إلى استخدام السلاح النووي. إذ يكون انهيار الاقتصاد العالمي والنظام المالي سبباً لهذه الأزمة، أو القابلية للانجرار التي اختبرناها سابقاً، وقد تكون تبعات الكساد الاقتصادي الكبير Great Depression الجديد الذي يلوح في الأفق على السلام والديموقراطية شبيهة بتبعات الكساد الاقتصادي الأول. ومهما كان السبب هناك احتمال في تضخّم الممارسة اللامحدودة للسيادة الوطنية وحصرية المصلحة الذاتية ورفض التدخل الخارجي، وربما القضاء على تعددية الأطراف بشكل كامل، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. لعدد من النزاعات الأكثر احتمالاً، مثل بين إسرائيل وإيران وبين الهند وباكستان، أبعاد دينية كامنة. ويمكن أن تصل النزاعات المرتبطة بالهجرة والتي لا تصل إلى حد الحرب إلى حد لا يطاق. وقد تتفاقم مسائل الاعتقاد والهوية المألوفة بطريقة أو بأخرى قد تجتنب عودة المطلقات الثيوقراطية التي تتنافس أو تتقاطع مع المطلقات العلمانية مثل القومية الجامحة.

أصبح بإمكاننا الحديث عن واحد من العوارض التي تجعل هذا السيناريو معقولاً. 

فقد عرّف عدد من المحللين الغضب أو القلق على أنه حافز مشترك لحركة حفلة الشاي Tea party movement (TPM) في الولايات المتحدة ونشوء أحزاب “رهاب الأجانب” xenophobic في أوروبا، ورأوا أنه قد يكون ناجماً عن الفهم الذاتي للتقهقر. كما أن الغضب (الموجّه نحو المستعمرين الجدد والغرب الموالي لإسرائيل - خاصة حديثاً - أو الأنظمة الشمولية المحلية) كان مرتبطاً بمعاناة الشرق الأوسط، بعد فشل الإصلاحيين والحركات العلمانية في السابق. [12] وعلى الرغم من التفاؤل العام نسبياً يمكن اقتفاء أثر الغضب في آسيا إلى جانب الشوفينية والشعور بعدم الاعتراف المناسب من الآخرين الناجم عن الفهم الذاتي لتأثير النهوض والسلطة.

السيناريو المقابل لا يفكر بمرحلة سلام وازدهار غير مسبوقين، بل باستمرارية في النظام العالمي متماسكاً لا ممزّقاً. فقد تمّ احتواء الصراعات الجارية والصراعات المحتمل اندلاعها بسبب التوترات القائمة، بالأدوات القهرية والدبلوماسية، وتمّ تجنّب الحروب الكبرى. وتم ضبط الأخذ والرد الاقتصادي والتجاري، وفسح المجال لتنافس عالمي أكثر استقراراً، بما في ذلك حماية الأمور العامة المتزايد مثل سلامة الكوكب. لا يلزم عن هذا السيناريو أن تصبح الولايات المتحدة حكومة عالمية، ولا أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى فدرالية، ولا أن تصبح الجمعيات شركات عالمية. لكن هذه المنظمات العالمية، التي أُصلحت لتحسين التمثيل والفاعلية سوف تبقى لتقوي دور القانون دولياً.

يمكن أن يكون النزوع نحو مزيد من التفاعل الاجتماعي أو حتى التعاطف عاملاً كبيراً في كشف هذا السيناريو. لكن هناك أيضاً مجازفة في أن هذا التحوّل قد يؤدّي إلى فوضى عارمة. محلياً، قد يصبح المجتمع المدني تحدياً للشرعية وفعالية البرلمانات في الديمقراطيات التمثيلية أو مسوّغاً للقمع التوتاليتاري. أمّا عالمياً، فقد يصبح الحكم أكثر صعوبة لو لم تكن الدول تحت السيطرة بشكل كامل. لكن الثورات الاجتماعية المدفوعة بالتطور العلمي والتكنولوجي (بشكل خاص تكنولوجيا الاتصالات والإنترنت) والتحسينات في وضع المرأة على المستوى العالمي (دخولها إلى سوق العمل والأهم من ذلك كله ضبط مسألة الإنجاب)، يمكن أن يعطي امتيازاً تدريجياً للعلاقات بين الدول والتفاهم والمقاربة التوافقية المتميزة للعلاقات الإنسانية على العلاقات الصدامية، مع الفروقات الواضحة ولكن ليس الجذرية بين أمة وأمة. [13] 

تبدو عودة الدين أكثر انسجاماً مع السيناريو الأول، وهذا ما قد يجعل هذا السناريو أكثر احتمالاً من الثاني. في عام 2007 شكّل الملحدون وغير المؤمنين 11% من سكان العالم. حتى إن العدد المشابه من الذين لا يعتبرون أنفسهم مرتبطين بأي دين، يبقون أقلية. لكن هذه النماذج هي ترتيب كمي أعلى من القرن الماضي ومن المتوقع تزايدها في المستقبل [14].

إضافة أنه وفقاً لمعطيات مركز غالوب Gallup فإن “نسبة التديّن ترتفع في البلدان الأكثر فقراً”، مهما كان الاعتقاد الديني[15]. ترتبط نسبة الذين أجابوا سلباً عن السؤال “هل الدين جزء مهم من حياتك؟” بشكل شبه تام بنسبة الدخل الفردي، من 5% لـ 2000$ أو أقل، إلى  52% لـ 25000$ أو أكثر. في الولايات المتحدة فقط 35% أجابوا بالنفي، خلافاً للتوقعات، لكن حتى أكثر من 16% عبّروا عن عدم وجود هوية دينية، العدد الذي تزايد تدريجياً منذ ثمانينات القرن الماضي بعد الارتفاع المفاجئ من 1% إلى 2% في الخمسينات والستينات. [16] تأكّد هذا التوجه من خلال استفتاء الأميركيين «الألفيين» millennials  (الجيل المولود بعد عام 1981) الذي أجراه مركز دراسات Pew Research Center. أن ما يناهز 26% وصفوا أنفسهم بأنهم «غير منتمين لدين» (1946-64). ست نقاط أعلى من الجيل السابق(1965-1980) وضعفي جيل(1946-1964)[17].

يشير هذا المنطق أنه كلّما حسّنت الأمة من وضعها الاقتصادي، فإن تدين مواطنيها يميل إلى التناقص. وتبيّن المعطيات أن هذا التوجّه يتناسب مع ازدهار المسيحية في البلدان الجنوبية من الكرة الأرضية. لذلك فإن استمرار اللامساواة الاجتماعية في الاقتصادات النامية (مثل اقتصادات أميركا اللاتينية) والأكثرية  الفقيرة في البلدان الأقل تطوراً (خاصة في أفريقيا) سوف تثير تحدياً للإنجيليين البروتستانتيين الجدد. على الرغم من نجاحاتها الجارية حالياً، فهي تعد بالغنى في هذه الحياة قبل الخلاص في الحياة الآخرة وقد تواجه مشكلات في تنفيذ وعدها. 

إلى جانب تحدّي علاقة الدين بالترف، تتميّز الولايات المتحدة بطرق أخرى. فمنذ ثلاثة إلى خمسة عقود، اعتبر جميع الأميركيين أنفسهم متديّنين تقريباً، مع ذلك كانت المقاربات المعتدلة والعلمانية للسلوك السياسي بما فيها السياسة الخارجية وأوقات الخطر في أثناء الحرب الباردة هي المسيطرة. لكن خلال العقدين المنصرمين تقريباً، ضعف الانتماء الديني الطائفي الرسمي، وزاد سياسياً الالتزام الديني ذو الطبيعة النضالية (على الرغم من أن الفروقات بين الأجيال لا توحي باستمرار هذا المسار).

تبيّن المعطيات، في المشهد العالمي، أن الصحوة الدينية ليست منافساً كبيراً للعلمانية في حد ذاتها ولا لتحوّل المجتمع نتيجة للترف. وهذا ما يتلاءم مع التجربة التاريخية؛ كما يرى روا Roy: “العلمانية بمعناها الدقيق لا تستلزم نزاعاً أو انفصالاً صارماً عن الدين، كما يمكن أن نرى في نماذج شمال أوروبا، والولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وحتى في تايلاند واليابان»[18]. لا تسمح علمانية بعد التنوير بدولة دينية، لكنها تسمح بالتعايش بين المؤمنين وغير المؤمنين. الطلاق الحاصل نابع من نماذج إرشادية ثقافية جديدة لا سياسية. يسأل روا «ما هذه النماذج الإرشادية الجديدة؟» الجواب «مواضيعها هي الجنس، المرأة، والإنجاب، ومكانة الفرد، وبالتالي الحرية، والحذر من أي نظام متعالٍ»[19]، للحذر من المتعالي علاقة بالتديّن الجديد أكثر من ال”نزاع” مع العلمانية، وتلعب المرأة والإنجاب دوراً أساسياً في التغير الاجتماعي، إلى جانب تكنولوجيا الاتصالات الجديدة آنفة الذكر. إضافة إلى أن الأهمية العالمية المتزايدة لمجتمعات شرق آسيا، حيث المعتقدات الفلسفية مثل الكونفوشوسية يرجح أن تسود على عقائد الخلاص المنهكة، جعلت إمكانية التركيز الحصري على الأديان التوحيدية الثلاثة أقل قابلية للاحتفاظ بها. إن بيئة علمانية مثل تلك التي يعمل بها النظام العالمي الحالي، هي أكثر ملاءمة للحوار حول حقوق الانسان وسيادة القانون بين الأمم والمجتمعات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة من بيئة يسودها الإيمان. إن فرضية أن الصحوة الدينية في عالمنا الراهن تبشّر بمرحلة جديدة ليست مدعومة بأدلة. فالمعطيات والتحليلات كلها توحي بنظام عالمي ثابت ومعقّد هرمي جمعي متعدّد الأقطاب لكنه معتمد على بعضه. أولئك الذين يتصرّفون من وحي المعتقد على المدى الطويل، مضطرّون لتبنّي المفاهيم العلمانية التي تعزّز أسس النظام العالمي لا بالطريقة المغايرة الأخرى.

---------------------------------------

سيزار ميرليني : رئيس مجلس أمناء المعهد الإيطالي للعلاقات الخارجية ـ روما.

*ـ يمكن نسبة مصطلح "بعد العلماني" للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، المحلل المعروف للعلاقة التبادلية بين عودة الدين ومصير العلمانية، السؤال الأساسي تثيره هذه العبارة هو: هل "عصر العلمنة" الذي ناقشه الفيلسوف البريطاني شارلز تايلور في كتاب
A secular Age الذي صدر عام 2007 عن جامعة كامبرج، وصل إلى نهايته؟

ـ العنوان الأصلي للمقالة: A post-secular World

ـ المصدر:

 www.brookings.edu/wp-content/uploads/2016 /06 /04_international_relations_merlini.pdf

ـ ترجمة ط. عسيلي.

[2]- يمكن نسبة مصطلح «بعد العلماني» للفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، المحلل المعروف للعلاقة التبادلية بين عودة الدين ومصير العلمانية. السؤال الأساسي تثيره هذه العبارة هو: هل «عصر العلمنة» الذي ناقشه الفيلسوف البريطاني شارلز تايلور في كتاب
A Secular Age  الذي صدر عام 2007 عن جامعة كامبرج؛ وصل إلى نهايته؟

[3]- See،  for example،  Olivier Roy،  Holy Ignorance: When Religion and

Culture Part Ways (London: C. Hurst & Co.،  2010).

[4]-المعطيات حول الدين متوقرة عن طريق:

 Pew Forum on Religion and Public Life،  http://pewforum. org/the-pewtempleton-

 For Europe in particular،

see for example the series of articles published by the French daily La Croix in 2007 under the title ‘Quel avenir pour le Chistianisme?’،  available at http://www. la-croix. com.

[5]- لمناقشة كيف أثرت المسيحية الإنجيلية على السياسة الخرجية الأميركي خاصة المتعلقة بأفريقيا انظر:

Asteris Huliaras،  ‘TheEvangelical Roots of US Africa Policy’،  Survival،  vol. 50،  no. 6،  December 2008–January 2009،  pp. 161–82.

[6]-أنظر مثلاً:

،  Scott M. Thomas،  ‘A  Globalized God: Religion’s Growing Influence in International Politics’،  Foreign Affairs،  November–December 2010. Transatlantic differences are discussed by P. Berger،  G. Davie and E. Fokas in Religious America،  Secular Europe? A Theme and Variations (Aldershot: Ashgate،  2008)؛ and by C. Merlini in ‘Not so Far Apart: Societal Change and its Impact on Transatlantic Relations’،  The International Spectator،  vol. 39،  no. 2،  April–June 2004،  pp. 61–78. 6 See John L. Esposito،  ‘Retreat from

[7]- See John L. Esposito،  ‘Retreat from the Secular Path: The Democracy– Secularism Debate in the Muslim World’،  Quaderni ISPI،  no. 12،  April 2010.

[8]- See ‘Support for Terror Wanes among Muslim Publics’،  17-Nation Pew Global Attitude Survey،  2005،  available at http:// www. pewglobal. org. Subsequent polls seem to confirm this trend.

[9]- على إثر سنوات طوال من الحروب الدينية في أوربا بين أبناء الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية اجتمع كبار قادة القارة فى وستفاليا عام 1648 حيث أقروا جملة مبادئ اتفقوا على أن تحكم العلاقات الدولية، آملين أن تحقق هذه المبادئ الاستقرار في العلاقات الدولية وأن يحول تطبيقها دون اندلاع الحروب الدينية من جديد، بكل ما جرته هذه الحروب على القارة من ويلات وصراعات دامية وأحقاد مستعرة، وكان أبرز هذه المبادئ ثلاثة هي: مبدأ الولاء القومي، مبدأ السيادة، مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول.

[10]-كتب Christopher J. Fettweis في مقال بعنوان: ‘Threat and Anxiety

in US Foreign Policy’ «العالم مكان أكثر امناً في أي زمن من التاريخ، إن نسبة الخسائر البشرية المدنية في الحروب قد تصل إلى تسع من عشر» “ المنشور في: Survival،  vol. 52. no. 2،  April–May 2010،  p. 64. لكن آدم روربرت شكّك في هذه النسبة في بحثه:

Victims Civilians?’،  Survival،  vol. 52،  no. 3،  June–July 2010.

[11]- Roy،  Holy Ignorance،  p. 2.

[12]- بيّن دومينيك مويزي بعبارات مختلفة قليلاً أن نتيجة العولمة كانت سيطرة الخوف على الغرب وشعر العرب والمسلمون بالاهانة مما أنتج ثقافة الكراهية، انظر:

The Geopolitics of Emotions: How Cultures of Fear،  Humiliation،  and Hope Are Reshaping the World (New York: Anchor Books،  2010). Hope is the prevailing ‘emotion’ in East Asia،  according to Moisi.

[13]- لقد ناقشت التأثيرين عن قصد عام 2004 انظر: Merlini،  ‘Not so Far Apart’.

 يبدو أن الزيادة الاستثنائية حديثا في مواقع الإنترنت على مستوى العالم بما في ذلك المواقع الإسلامية قد فرضت الدائرة العالمية ووسعتها. هذه النتيجة التي توصلت اليها.

[14]-أخذت هذه المعطيات من:

 Phil Zuckerman (ed.)،  Atheism and Secularity،  2 vols. (Westport،  CT: Praeager،  2009).

[15]- Gallup’s Global Report،  31 August 2010.

[16]-أنظر:

 ‘In U. S.،  Increasing Number Have No Religious Identity’،  Gallup Global Report،  21 May 2010.

[17]- Pew Research Center،  ‘Millennials. A Portrait of Generation Next’،  February 2010،  p. 85،

  http://pewsocialtrends. org/files/2010/10/millennials-confidentconnected- open-to-change. pdf.

[18]-Roy،  Holy Ignorance. الاقتباس وما يليه من: chapter 4،  p. 113.

[19]- Ibid.،  pp. 123،  124.