البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ما بعد العلمانية وظاهرة الإلحاد، رؤية نقدية في الحالة العربية

الباحث :  أحمد عبد الحليم عطية
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  1640
تحميل  ( 326.977 KB )
في هذه الدراسة يبحث البروفسور أحمد عبد الحليم عطيّة في الحقل المشترك بين الإلحاد والعلمنة والنتائج المترتبة على ذلك. الحالة التاريخية العربية التي يعتمدها عطية أساساً لدراسته هي ظاهرة التلازم بين العلمنة بأطوارها ومعانيها المختلفة والإلحاد. يعرض في هذا السياق على سبيل المثال ثلاثة تيارات شكلت الصورة الإجمالية للتفكير العلماني الإلحادي في العالمين العربي والإسلامي: الأول:  ينطلق من المرتكزات المعرفية نفسها للإلحاد الغربي، كما في تجربة الأكاديمي المصري من أصل تركي إسماعيل أدهم. والثاني: في كتابات الأصولي السعودي عبد اللَّه القصيمي الذي ينطلق من أرضية وهابية ثم ليتمرّد عليها وينتقل إلى نقيضها. التيار الثالث: وهو ما لا يعتبره الباحث إلحاداً بالمعنى النمطي للكلمة، وعبّرت عنه مجلة “العصور” القاهرية لصاحبها إسماعيل مظهر في عشرينيات القرن الماضي.  يلاحظ الكاتب أن الجدل الذي احتدم منذ بداية القرن العشرين يعطي الكثير من المؤشرات على الزمن مابعد العلماني المتمثل بنقد عيوب العلمنة العربية على المستويين النظري والتطبيقي.

المحرر

منذ ما يقرب من عقدين من الزمن انفتح جدل نظري حول مجموعة من المصطلحات التي أنتجها الغرب وراحت تشغل البيئات الفكرية والأكاديمية في العالم العربي. وقد تصدى عدد من الباحثين إلى هذه القضية، منها على سبيل المثال لا الحصر ما قدمته الباحثة المصرية فريال غزول في مقالة لها تحت عنوان «ما بعد الكوكونيالية وما وراء المسميات»[2]. تحدثت الباحثة عن «المابعديات» موضحة أن المصطلحات التي تستخدم عبارة «ما بعد» في تركيبها تضاعفت بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة. فهناك «ما بعد البنيوية» و«ما بعد الحداثة» و«ما بعد الكولونيالية» و«ما بعد الماركسية» و«ما بعد النسوية» الخ.. وهو الأمر الذي دفع بعضهم للكلام على ما أسموه «هوس الما بعديات» في توصيف المشهد الفكري الراهن. أما السبب فيعود إلى أن هذه الظاهرة تدل على مشكلة جدية في تحديد ماهية المفاهيم التي تتدفّق نحو عالمنا العربي والإسلامي من دون وازع، مثلما تدل جهة آخرى على قلق معرفي جرّاء الركود النظري الذي يحكم عالم التقنية المحضة.

وما من شك في أن تعبير «ما بعد» يشير إلى الواصلة ما بين موقفين قد يبدوان متناقضين إلا أنهما أيضاً متلاحمان في الوقت نفسه. ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن صفحة العلمانية قد طويت وجاءت بعدها صفحة نقضت ما قبلها أو ابتدأت من نقطة الصفر، بل هي تدل على أن مفهوم العلمانية قد تفرع وتشعب وامتزج مع مداخل نظرية أخرى ليشكل أمرين: تشكيكاً في المفاهيم المتعارف عليها من جهة، وتوليفاً بين هذه المفاهيم وأخرى مستحدثة أو طارئة على هذا العالم.

في السياق لا مناص لنا من إضاءة توضح بعضاً من هذا الالتباس خاصة فيما يتعلق بالعلمانية وما بعد العلمانية، حيث انشغل الفكر العربي المعاصر خاصة في فترة الثمانينيات والتسعينيات بالكتابة والكتابة المضادة عن العلمانية باعتبارها أرضاً خصبة لنمو الإلحاد. فقد صار لدينا تراثٌ عربيٌّ يحتاج إلى دراسة مفاهيمية توضح جوانبه المختلفة. ولسنا ندعي أننا ننهض بهذه المهمة في هذه الدراسة التي هي أقرب إلى مدخل لتلك القضية التي تشغلنا وستظل تشغلنا كثيراً الآن وفي المستقبل المرئي.

كما مرَّ وذكرنا فإن ما كتب حول العلمانية عربياً شهد تنوعاً لافتاً في تياراته واتجاهاته. ودار الأمر بين داعٍ ومبشِّر بها أو ناقد ورافض لمنظومتها. نشير في هذا المقام إلى بعضٍ من تلك العنوانات التي تعاملت مع العلمانية نقدياً نظير ما كتبه العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين حول العلمانية تصلح حلاً لمشكلات لبنان المتعدد المذاهب والطوائف». فلقد فهم الشيخ شمس الدين العلمانية بما هي «النهج الحياتي الذي يستبعد أي تأثير أو توجيه ديني على تنظيم المجتمع والعلاقات الانسانية داخل المجتمع، والقيم التي تحتويها هذه العلاقات وترتكز عليها، ومن ثم فهي نهج حياتي مادي تكون نتيجة لنمو الفلسفات المادية اللاَّدينية، وهذا النهج هو الروح المحركة والموجهة في الحضارة الحديثة بجناحيها الرأسمالي والماركسي»[3].

تمثل وجهة النظر هذه الاتجاه النقدي الموضوعي الذي ينطلق من فضاء الدين وثوابته العقدية، ثم يتعامل مع المفهوم انطلاقاً من زاويتين: الأولى: تتناول الواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية في مواجهة الحضارة العلمانية الحديثة ومضامينها الإلحادية. والثانية: تجيب عن إشكالية مدى تلاؤم بعض النظريات العلمانية في المجتمع الإسلامي. ولعل هاتين الزاويتين هما من أبرز القضايا التي تدور الأسئلة حولها اليوم وسط الحديث عن الزمن مابعد العلماني.

في السياق نفسه جاء عمل الباحث عدنان محمد زرزور عن القومية والعلمانية (1992) ليبيِّن صلة العلمنة بالقومية الحديثة ثم تحول دساتير الدول العلمانية  الغربية إلى مصادر لتجشيع النزعات الإلحادية. في عمله هذا يعرض الكاتب الفكر العلماني الإلحادي ومناقضته للنظرة الانسانية والدين[4] ثم يخلص إلى بيان نتيجتين أساسيتين لأبحاثه، الأولى: رفضه مجملَ مسوغات الدعوة إلى العلمانية مع العالم الإسلامي، والثانية: قوله إن جميع الشروط التي قامت عليها العلمنة في المجتمع الأوروبي لا وجود لها في المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية.

مثل هذه الإشكالية سنجدها حاضرة بقوة في الكتاب المشترك الذي أصدره كل من عبد الوهاب المسيري صاحب «موسوعة العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» وعزيز العظمة في «حوارات القرن العشرين» الصادر عن دار الفكر عام 2000. يتناول المسيري في إطار ما كتبه عن مصطلح العلمانية مجموعة من العنوانات ذات البعد الانتقادي العميق لمضامينها الفكرية، الأخلاقية، منها على سبيل المثال: متتالية العلمانية وتطور المصطلح، التعريفات المختلفة للعلمانية، تعريفنا العلمانية، الإشكاليات الأساسية للعلمانية وهذه العنوانات كلها تدخل ضمن رؤية يصحّ لها أن تؤسس لزمن تحرري ما بعد علماني، أما العظمة فقد تناول العلمانية في الخطاب العربي المعاصر، وتعرض بالنقد والتحليل للكيفيات التي عالج فيها المفكرون العرب المعاصرون هذه القضية. وأهم هذه الكيفيات: السطحية في التناول، الاحتجاج بالغربة عن المجتمع، التناول الإيديولوجي للعلمانية، امتداد خطاب الأصالة إلى مجالات أرحب في الفكر العربي (ص155-224) ثم تعقيبات كل منهما على الآخر.

نجد الأمر نفسه على الضفة الأخرى من الجدل المستدام في التاريخ العربي المعاصر. ذلك بأن الداعين للعلمانية كثيراً ما يربطون بينهما وبين الأصولية. فالمفكر المصري د. مراد وهبه مؤسس الجمعية الفلسفية الآفرو آسيوية ومنتدى ابن رشد هو نفسه الذي تناول بالنقد أزمة التفكير العربي على هذا الصعيد لما تطرّق إلى المنطق المشترك بين نهج المطلق الأصولي والعلمانية في الشرق الأوسط.

أثر العلمنة في الظاهرة الإلحادية

اقتربت البيئة الثقافية العلمانية في مصر من الفكر الإلحادي إلى حدٍّ تبنيه في بعض أوساطها، وقد جرى ذلك في إطار الحياة الفكرية التي شهدتها الثقافة العربية منذ العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين. كانت مجلة العصور التي صدرت في القاهرة في العشرينيات هي الحاضنة للسجال بين التيارات العلمانية المختلفة. فقد أفردت صفحاتها لعرض الأفكار والاتجاهات العلمانية الإلحادية مثلما كانت في المقابل حاضنة لأفكار التيارات المضادة للإلحاد وتوجهاتها. وعلى سبيل المثال ففي حين كانت المجلّة المذكورة، التي يرأس تحريرها المفكر المصري إسماعيل مظهر تنشر دراسة برتراند راسل المعروفة تحت عنوان: «لماذا لست مسيحياً؟”، راحت تنشر (1891 ـ 1962) في المقابل دراسته «لماذا أنا مسيحي؟”. ويمكن لنا من خلال تقديم قراءة تحليلية لتلك المقالات، أن نقدم صورة مجملة لأفكار الذين تبنوا الإلحاد فكراً ومعتقداً ومعرفة، وكذلك الذين رفضوا الإلحاد ثقافة وفكراً وممارسة.

وهنا يمكننا أن نتخذ مدخلاً إلى ذلك ما قدمه إسماعيل أدهم في رسالته «لماذا أنا ملحد؟» بوصفه إطاراً منهجياً لمناقشة لغة الكتابة وآداب الحوار بين دعاة العلمانية الملحدة وخصومهم في الفكر العربي المعاصر.

تبدو لنا الصورة من معظم كتابات هذه المرحلة أن القضية لم تكن تنحصر بفكرة إنكار الإله. وهو ما قرَّره الفيلسوف الألماني لودفيج فويرباخ( Feurbach 1804-1872) الذي أعلن بوضوح ومن غير مواربة في مقدمة المجلد الأول من أعماله الكاملة أن قضية وجود الإله، أو عدم وجوده لا تعنيه مطلقاً، بل إن ما يهمه في المقام الأول هو وجود الإنسان، أو عدم وجوده[5]. هذا يعني أن الحديث عن ذات الإله لم يكن وارداً بوصفه موضوعاً للإنكار، بل إن تصورات المفكرين عن اللَّه هي التي كانت محور التفكير والإثبات أو الإنكار. وهي تصورات تتعدد حولها الأسئلة وتختلف التفسيرات بين الملحدين أنفسهم؛  الأمر الذي ظهر بوضوح في الكتابات العربية التي شاعت في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي يظهر لنا من تحليلها أنها لم تؤسس على الإنكار المحض للوجود، بل انطلقت بداية من التأثيرات التي حملها  التقدم العلمي في أوروبا خاصة في مجالي الفيزياء والبيولوجيا، وأيضاً في مجال الفكر والفلسفة من خلال ترجمة الكتابات الغربية التي نشرت الفكر العلماني وروَّجت للإلحاد الفلسفي[6].  يضاف إلى ذلك سعي بعض الجماعات المتأثرة بتيارات الإلحاد الأوروبي لتكوين فروع لها في العالم العربي. وهنا يمكن أن نحدد ثلاثة منطلقات فكرية كانت وراء ظهور الإلحاد وانتشاره مسبوقة بعوامل  سيكولوجية ناتجة من الثقافة الدينية المتشددة فضلاً عن الاستبداد السياسي والسيطرة الأبوية.

ولكي نقدم للقارئ إطاراً عاماً للكتابات العربية عن الإلحاد نتوقف في البداية عند المقالة الشهيرة التي كتبها إسماعيل أدهم تحت عنوان «لماذا أنا ملحد؟». المعروف أن هذه المقالة جاءت ردّاً على رسالة الشاعر أحمد زكي أبو شادي بعنوان: “عقيدة الألوهية». يتضح مما كتبه أدهم أن تربيته وقراءته كانتا من الأسباب القوية لتوجهه نحو الإلحاد. وهي أسباب تعود إلى عوامل سيكولوجية تظهرها تربيته وظروف عيش أسرته، ثم بعد ذلك لأسباب تتصل بتأثره بالثورة العلمية في أوروبا وإيمانه بنظرية داروين في النشوء والارتقاء.  كما كان لاسبينوزا الأثر الأكبر في تفكيره لجهة رفض الأخير لعقيدة الخلود. في هذا الإطار يخبرنا إسماعيل أدهم عن «جماعة نشر الإلحاد” بتركيا ومطبوعاتها المتعددة عن” الفرويدية، وماهية الدين، وقصة تطور الدين ونشأته، والعقائد، وفكرة الخلود. ويظهر من حديثه ارتباط هذه الجمعية بجمعية نشر الإلحاد الأميركية، إلى درجة أن اسم جماعتهم فيما بعد صار «المجمع الشرقي لنشر الإلحاد».

في السياق نفسه يشير أدهم إلى محاولة تأسيس جماعات للإلحاد في مصر ولبنان، ولكن المهمة فشلت، في حين استمرّت في النشاط شخصيّات من الأسماء التي أشار إليها في هذا الاتجاه، وتختلف في درجة حماستها. مثل إسماعيل مظهر صاحب مجلة «العصور» التي تمثل حركة معتدلة من وجهة نظره في الفكر والتفكير والدعوة إلى الإلحاد[7]، وعصام الدين حفني ناصف[8]. وإلى هاتين الشخصيتين هناك أحد الأساتذة اللبنانيين في جامعة بيروت لم يذكر اسمه ولعله الذي كتب كثيراً في مجلة العصور[9].

إسماعيل أدهم، من العلموية إلى الإلحاد

ولد أدهم عام 1911 وفارق الحياة بإرادته عام 1940.[10] وبهذا يكون له من العمر تسعة وعشرون عاماً فقط. قرأ أدهم كتاب داروين وخرج مؤمناً بنظرية التطور، كما قرأ لديكارت وهيوم وكانط وهيجل وسبينوزا في الرياضيات والهندسة، هذا كله وهو لم يتجاوز سن المراهقة.  أسس أدهم جماعة نشر الإلحاد التي تحولت فيما بعد إلى فرع من جمعية نشر الإلحاد الأمريكية. وكانت نتيجة هذه التجربة المستغرقة بالعلموية خروجه على الأديان وتخليه عن المعتقدات كلها وإيمانه بالعلم وحده. من أبرز مؤلفات أسماعيل أدهم: إضاءة الدرب ـ باللغتين العربية والأنكليزية ـ دراسة عن الشاعر أحمد زكي أبو شادي. دراسة عن طه حسين، ودراسة عن المفكر المصري إسماعيل مظهر، وفي عام 1992 بذل أحمد الهواري أستاذ النقد الأدبي جهداً ملحوظاً في نشر مؤلفات أدهم وكانت النتيجة ثلاثة مجلدات: (أدباء معاصرون ـ شعراء معاصرون ـ قضايا أدبية).

إثر دراسته «لماذا أنا ملحد؟» توالت ردود الفعل. فقد ردّ عليه أحمد زكي أبو شادي بمقالة تحت عنوان: (لماذا أنا مسلم؟) كما ساجله الشيخ الأزهري يوسف الدجوي عبر سلسلة مقالات تحت عنوان (حدث جلل لا يمكن الصبر عليه). وقامت النيابة بالتحقيق معه ومصادرة رسالته وتفتيش منزله فوجدت فيه رسالة (لماذا أنا ملحد؟)، وملفات أخرى تحوي بعض نسخ من بحوث متعددة عن فلسفة النشوء والارتقاء، وكتاب (لماذا أنا ملحد؟) لرسل. في رسالة (لماذا أنا ملحد؟) يستعرض أدهم تحولاته الفكرية وسيرته الذاتية ويبين أسباب إلحاده.

وكان الكاتب نقولا يوسف نشر سيرة إسماعيل أدهم ضمن كتابه (أعلام الاسكندرية)، موضحاً أنه لم يكن ملحداً تقليدياً فحسب، بل كان علمانياً متشدداً ومن ذلك الطراز التبشيري الذي يؤمن بالإلحاد بوصفه عقيدة  ينبغي أن يبشر بها.

ولا مناص من الإشارة في هذا المجال إلى لمحات ذكرها أدهم تفيد في وصف طبيعة إلحاده الذي يعد أقرب إلى العقيدة منها إلى رفضها، وهي ما تقربه هو وبعض ملحدي عصره من فويرباخ الذي أشرنا إليه في مفتتح هذه الدراسة.

يتبنى أدهم نظرية وحدة الوجود Pantheism كما نجدها في فلسفة اسبينوزا الذي احتفى به صاحب مجلة العصور ونشر حوله العديد من الدراسات[11]. يتجاوز أدهم هنا التحديد العلمي الذي يقدمه بخنر للإلحاد ويقبل تحديداً فلسفياً هو أقرب إلى ما يقدمه اسبينوزا في إطار وحدة الوجود. والحقيقة أن نظرية وحدة الوجود هي واحدة من ثلاثة تصورات أساسية للألوهية في علاقتها بالوجود وهي على التوالي: الألوهية Theism، وإنكار الألوهية أو الإلحاد Atheism، ووحدة الوجود Pantheism. كما يستشهد بقول الفيلسوف الألماني كانط: «إنه لا يوجد دليل عقلي أو علمي على وجود الله»،  كما أنه ليس هنالك دليل عقلي أو علمي على عدم وجوده». والحقيقة أن كانط يكمل ذلك مؤكداً، وهو ما لم يذكره أدهم، أن الدليل الوحيد على وجود اللَّه قلبيٌ إيمانيٌ عمليٌ وليس نظرياً.

2 - القصيمي: من الوهابية البطريركية إلى الإلحاد

لم تتوقف الكتابات في الإلحاد وعن الإلحاد في العالم العربي منذ دعوة إسماعيل أدهم السابق ذكرها. ونستطيع فيما يلي أن نشير إلى اتجاهين آخرين متمايزين، بالإضافة إلى اتجاه المفكر التركي الذي تمثّل الثقافة الغربية، كنقيض للفكر الديني. وبينما يمثل إسماعيل مظهر الاتجاه الأول، أي الدعوة إلى حرية الفكر، يمثل الكاتب السعودي عبد اللَّه القصيمي اتجاهاً مغايراً.

ينطلق القصيمي، خلاف أدهم من التعاليم الدينية نفسها، ولابد من التذكير بأنه (القصيمي) كان كتب ردّاً على العالم الأزهري الشيخ يوسف الدجوي في مرحلة مبكرة من هذا القرن دفاعاً عن قناعاته الدينية.

ظلّ القصيمي طيلة حياته (1907 ـ 1996) محرّضاً العرب على التنصّل الجذريّ من كلّ ما هو إسلاميّ.  ولعل المفارقة في هذا المضمار أنّه لم يأتِ من خارج المنظومة الدينية بل كان عالماً دينياً يتمتع بمكانة وازنة في سلم المذهب الوهابي. لم يتخفَّ ابن الصحراء وراء قناع، وقد أعلن إلحاده الصارم غير المهادن في مؤلّفات غدت اليوم من كلاسييات الإلحاد العربي المعاصر. أبرزها: «كيف ضل المسلمون؟ (1940)» مرورا بـ «هذه هي الأغلال (1946)» و«صحراء بلا أبعاد» و«أيها العقل من رآك (1967)؟ ووصولاً إلى «هذا العالم ما ضميره؟»  و«العرب ظاهرة صوتية (1977)»[12].

3 - إسماعيل مظهر: حرية الفكر بدلاً من الإلحاد

يمثل إسماعيل مظهر، الذي وصفه أدهم بــ»الإلحادي المعتدل» الشخصية العلمانية الليبرالية التي سعت إلى إفساح المجال أمام الاتجاهات الإلحادية والإيمانية على السواء لتتساجل وتتجادل على صفحات مجلة “العصور”.

يكتب  إسماعيل مظهر في العدد 9 مايو 1928، دراسة تحت عنوان علاقة الإنسان بالله ليست مباشرة بل بالوساطة. ويعرض فيها رأيين: الرأي القديم ويتضمن: أولاً: خلق اللَّه الإنسان على مثاله، ثانياً: إن اللَّه فضَّل الإنسان على سائر المخلوقات، ثالثاً: إن اللَّه أرسل الرسل والأنبياء ليهدوا الناس حباً بهم وشفقة عليهم، رابعا: إن الإنسان مركز الكون ومحور دائرة الوجود.

وأما الرأي الثاني الحديث فيصوِّر المشهد خلاف ما قرره الرأي السابق: فها هو ذا يكتب تحت “عنوان تُهم الهرطقة يرثها القرن العشرون عن العصور الوسطى” أن الصراع ليس بين العلم والدين ولكن، بين صور اللاّهوت المذهبي والعلم، كما يظهر في كتابات العلامة درابر في أميركا، والعلامة ليكي الإيرلندي في أوروبا، والعلامة الكبير جون ديكسون الذين اعتبروا أن الصراع لم يقم بين الدين والعلم وإنما بين صور اللاهوت المذهبي والعلم.

وحول اسبينوزا بمناسبة الذكرى 250 على وفاته يرى مظهر أن كتابه الإيثيكا Ethica يعد حتى اليوم من أعظم ما كتبه الغربيون، ومن أمتع ما أخرجه الفلاسفة في تاريخ الميتافيزيقا.  لم تفخر به الفلسفة وحدها، ولم ينل شرفه الفلاسفة بمفردهم ـ كما يضيف مظهر ـ، بل توجت به الإنسانية لأنها أنجبت اسبينوزا العظيم الذي شعَّ عقله الكبير بما بث في «الإيثيكا» من مبادئ، وفي عصور أخص ما اتصفت به حب السباحة في الظلمات (ص84). ويلاحظ  مظهر أن اتهام بايل وليبنتز وسيمون وغيرهم من الفلاسفة لاسبينوزا بأنه كان ملحداً، مجاراة للرأي السائد، لم يكن إلا وسيلة حاولوا بها أن يصرفوا النظر عمّا ذهب إليه بعض النقّاد المتعصبين من أهل الفلسفة والعلم. (ص86).

حسب مظهر، لم يقصر هؤلاء من المحدثين كلامهم في اسبينوزا على امتداح أخلاقه والعمل على نشر فلسفته، بل مضوا إلى أنه  أول رائد في ذلك الميدان الفسيح الذي ولجه مفسرو الأناجيل من بعده، عاملين على بث الكثير من التعاليم التي من أجلها دمغ اسبينوزا بالكفر والإلحاد خلال أيام من حياته، وخلال عدة من الأجيال بعد مماته. ص (86 - 87).

أما عن حقيقة معتقد داروين الديني، فيؤكد مظهر أنه كان على تمام الاقتناع بما ورد في كتاب “أصل الأنواع. وفي إحدى رسائله إلى طالب ألماني يظهر داروين بأنه كان كثير الشك فيما يمكن أن يكون وراء هذه الحياة من النعائم التي بشرت لنا بها الأديان. غير أنه على الرغم مما في هذه المقابلة من الفوارق البعيدة فإنها تدل بلا أدنى شكّ على نزعة الرجل الاعتقادية. فهو في الواقع رجل مؤمن بالله ولكنه إزاء الإيمان هو لا أدريٌ صميم. ولو أنه زادنا في خطاباته شيئاً ولو ضئيلاً يدل على متجهه الاعتقادي لقلنا إنه شكّي صرف إزاء الأديان وإن كان ثابت الاعتقاد بوجود مدبر يدبر هذا الكون. ولا جَرَمَ أن هذا هو معتقد كثير من المؤمنين الذين لم يستطيعوا أن يلغوا العقل، كما أنه معتقد العقلاء الذين لم يستطيعوا أن يلغوا الإيمان جملة.

تسفيه الإلحاد

في مثل هذا المناخ الجدالي يتوجه إبراهيم حداد إلى صاحب العصور برسالة نقدية حول حكايتين تتحدثان عن إلحاد بندلي البيلوني. وهو من الكتاب المعروفين في مجلة العصور:  الحكاية الأولى تكشف القناع عن سبب إلحاده، وفي الثانية تعريف الناس استعداده لنشر هذا الإلحاد. يقول حداد: “كنت لا أخالفه رأياً لولا سبق وبين القصد من هذا الإلحاد، وعما إذا كان بالإمكان الوصول إلى هذا القصد؛ وكما تعرفون أن تعشُّقَ المبادئ شيء، وتطبيقها على الحياة العملية شيء آخر.

ولا يخفى على المنكر ـ كما يضيف ـ أن هذا الدين الجديد خطر على الحياة الاجتماعية؛ لأنه يرمي إلى تقوية الأنانية الفردية عوضاً عن تقوية الأنانية الاجتماعية. فما يلقنه لتابعيه عدا عن مظهره الطبيعي يجعل الفرد لا يهتم إلا بأنانيته ولنفسه. (العصور، ع 11، ص 1284-1287).

أما ط. ه. حنين فقد ردّ على حداد مبيّناً تهافت المقولة الإلحادية لدى القائلين بها وتحت عنوان توضيحي “ما هو الإلحاد، ملاحظات على رد» يقول: قرأت الرد الذي تفضل به إبراهيم أفندي حداد على ما كتبه بندلي أفندي البيلوني، وكنت أود أن أنتظر حتى أرى ما يقوله صاحب الموضوع، ولكنه لسوء الحظ يبعد عنا مسيرة أسابيع طويلة؛ لذلك أريد أن أستفسر بعض أشياء من حضرة حداد أفندي. يسأل حنين: ما معنى «الإلحاد»؟ ويجيب: أليس هو عدم التسليم بصحة شيء؟ فإذا كان هذا هو المعنى، فكيف يكون الإلحاد قصداً؟ بل كيف يكون الإلحاد مبدأ، في حين أنه لا يخرج البتة عن أن يكون اعتراضاً على صحة شيء يقال؟ والطبع ليس لهذا الإلحاد سُنَنٌ ونواميس فهو بعيد كل البعد عن أن يكون معتقداً. ربما صح [كما يقول] بأن الإلحاد (معرفة) إلى درجة ما، لأن عدم التسليم بصحة فكرة اعتمادا ًعلى ما أثبتته التجارب، فيه شيء من المعرفة. وليس معنى أن داروين أثبت هذه النظرية أو تلك، أو أن فلاناً سفَّه تلك الفكرة أم هذه، وجود «اعتقاد له سنن ونواميس مثل ما لغيره من الاعتقادات». فالإلحاد ـ كما حنين ـ  سيخرج عن كونْه (نظاماً)، وبالطبع يجب ألا نسأل بعد ذلك عما إذا كانت فضائله تتعادل أو تنقص عن فضائل النظريات الأخلاقية الأخرى. من هذا يظهر أن لحداد أفندي فكرة أخرى عن الإلحاد لم يتفضل بعرضها بعد. و«الاعتقاد شيء، والمعرفة شيء آخر» والسؤال الذي يثار هنا هو الآتي: هذان الشيئان متعارضان، أو أنهما حقيقتان متممتان بعضهما لبعض؟ فلو كان ثمة من تعارض، فلابدّ في هذه الحال من درسه لاتباع الحقيقة أنّى كانت. أما إذا كانا متمِّمين بعضهما لبعض فلمَ هذا التناقض الموجود فيهما والذي يشعر بوجوده كل إنسان؟ ثم كيف ينتظر حداد أفندي من الإلحاد ـ وهو سلبي انتقادي وليس بمعاهدة ولا محكمة ولا مؤثر سيكولوجي ـ أن يبطل الحروب ويذهب بالشرور ويبدل حال الإنسان من تشاؤم إلى تفاؤل. إن معنى الإلحاد ينحصر في أن شخصاً من الناس لا يسلم بصحة رأي على أساس كذا وكذا (فقط لا أكثر) وأن شخصاً آخر أثبت أن تلك النظرية لا أثر لها من الحقيقة، وأن ثالثاً اكتشف أن هذا الأمر هو خلاف ما كان يدعيه الناس، فكل من اقتنع بصحة هذه البراهين أصبح ملحداً والعياذ بالله.

فالإلحاد استنكار قائم على تسفيه رأي لا يوجد مسوّغ منطقي أو تجريبي على التسليم به. إنه يستعين بما توصلت إليه مختلف العلوم من الحقائق لنفي ما يقوله الناس تخبطاً. وإذاً يمكن القول، أن ليس هنالك صلة بين الاعتقاد والإلحاد؛ لأن الأول مشيِّد، والثاني هادمٌ لما يظن أنه مشاد على خطئه.

نشير إلى أن “العصور” كانت نشرت من قبل بحثاً مقتضباً عن الفيلسوف الكبير برتراند راسل تحت عنوان «لماذا أنا ملحد؟». والحقيقة، هي أن اسم الكتاب «لماذا أنا غير مسيحي؟». ولقد اخترنا أن ننشر التلخيص بهذا العنوان تخفيفاً لوقعه في آذان إخواننا المسيحيين. ولم يكد النظر يقع على عنوان هذا الكتاب  حتى عادت الذاكرة إلى كتاب رسل، فقلت في نفسي ـ يقول كراسين ـ إن هذين الكتابين يُظهران ما تنطوي عليه هذه الحياة من تناقض غريب. رجل يشرح لماذا هو مسيحي، وآخر يحاول أن يُفهم الناس لماذا هو غير مسيحي. والفرق شاسع، وشقة الخلاف بعيدة. على أن كلا الرجلين يعيش عيشة راضية حسن الأخلاق بعيداً عن الإضرار بالناس، فهل يمكن أن يكون أساس الأخلاق في هذه الدنيا مسألة عقلية لادينية؟ وأن الدين عبارة عن خلاص الإنسان في الآخرة تلقاء أعماله في هذه الدنيا من غير احتياج إلى الاعتقاد بمجموعة من الأقوال والحوادث التي تتنافر مع العقل والعلم، تؤدي الباحث إلى حيث وصل «رسل»؟ والحقيقة أن الناس ما أضاعوا من وقتهم ومن جهودهم بقدر ما أضاعوا من الإجابة عن مثل هذه الأسئلة العقيمة التي لا تؤدي إلى شيء أصلاً.

العلمانية الإلحادية

ما من شكٍّ في أن العوامل التي قادت هؤلاء إلى اعتناق الإلحاد لم تكن لأسباب فكرية محضة، بل أيضاً لعوامل سوسيوتاريخية مرّت مع تدفق الحداثة على عالمنا العربي في عصر الاستعمار الجديد. لذا فإن هذه المجموعة من العوامل في زوايا الكيان الاجتماعي هي التي دفعت بعدد من الشخصيات والبيئات إلى الخروج عن حدود الاعتقادات العمومية فرأى هؤلاء ما رأوا من الخرافات والأوهام والكفر بإله الجماعة من الناس.

علينا إذن أن نؤكد استناداً إلى ما تقدم أن العلمانية مثل عدد كبير من المفاهيم المثيرة للتساؤل والتأويل والاشتباك، وبالتالي فلا يوجد من الباحثين من يدافع عنها دفاعاً منطقياً يقوم على الحجة العلمية، وإنما مجرّد استنكار لإيديولوجيات تحمّل الفكر الديني. هنا أتوقف عند بحث حاول التأسيس لها عند أبرز روادها، وصاحب المصطلح، من هنا لا بد من التوقف عند آراء أبرز رواد النظرية العلمانية وهو جورج جاكوب هوليوك ( G.J.Holyoake 1906-1817) لعله يوضح لنا بعض جوانب الجوانب، ويكشف بعض زوايا الالتباس. والمفكر الانجليزي هوليوك تأثر بالأفكار الاشتراكية لروبرت أوين Robert Owen الذي انضم لجمعيته «لكل الطبقات لكل الأمم» وقد سجن بتهمة إهانة المقدسات وكان آخر سجين بهذه التهمة. كتب في عدة صحف هي» وحي العقل»، «الحركة». «العاقل» التي تعد أحد أهم الصحف التي تعبر عن طبقة العمال في القرن التاسع عشر والتي قدّم من خلالها مفهوم العلمانية. ففي تلك الجريدة انتقد المسيحية واقترح نظاماً بديلاً مؤسساً على العقل والعلم أطلق عليه العلمانية Secularism. أصبح 1893 عضواً في النادي الليبرالي الوطني وأحد قادة رابطة الاصلاح الوطني.

يمكن تقسيم مؤلفاته إلى أقسام ثلاثة أولاً كتب أو مؤلفات عامة منها: العامل وحق الاقتراح 1859 في الموقف الليبرالي 1865 تاريخ التعاون في إنجلترا، الاعتماد على الذات في مائة عام، الحركة التعاونية اليوم، ستون عاماً من حياة محرض. وهناك ثانياً كتب في العقلانية منها العقلانية 1845 ومن المؤلفات التي كرسها للإلحاد وحدوده وطبيعته وكيف ينشأ «تاريخ آخر محاكمة للإلحاد أمام هيئة محلفين من إنجلترا: شذرة من السيرة الذاتية» وحدود الإلحاد أو لماذا يجب اعتبار المشكاكين مجرمين خارجين عن القانون» والنوع الثالث من المؤلفات عن العلمانية.

1)- المسيحية والعلمانية 1853 الكتاب حوار بين بروبين جرانب محرر في جريدة الكتاب المقدس والشعب ممثل الجانب المسيحي وهوليوك محرر مجلة العاقل صوت العلمانية في انجلترا ممثل الجانب العلماني في الحوار ويتناول فيه: طبيعة العلمانية وتعريفها من حيث كونها تعطي الأولوية لمقتضيات الحياة الدنيا عن الأخرة، وما مميزات العلمانية وتعريف العلمانية بوصفها علم حسن إدارة الحياة والعناية بها واستغلال الأخلاق عن الدين.

2)- مبادئ العلمانية. مصطلح العلمانية مبادئ العلمانية الطائفة العلمانية مكانة العلمانية.

3)- العلمانية الانجليزية الاعتراف بالإيمان «مستقلة عن الايمان».

4)- أصل العلمانية وطبيعتها الاعتراف بالإيمان ونعتقد أنه الكتاب السابق نفسه بموضوعاته وعنواناته وفصوله لا يختلف عنه سوى في الاسم.

يحدثنا هوليوك كما يذكر عبده كساب في كتابه «أصل العلمانية وطبيعتها» عن البيئة الثقافية والفكرية التي أدت إلى العلمانية ويردها للمذهب المادي وكذلك مبدأ استقلال الأخلاق عن علم اللاهوت والدور الذي تقوم به جريدة العاقل في نشر العلمانية ويؤكد دورَ التعليم الذي يؤكد أن ما يحصل عليه الانسان من معرفة ذو طابع علماني ولهذا فهمت كلمة علماني أو دنيوي Secular على أنها اختبار مبادئ السلوك بعيداً عن الاعتبارات الروحية. وكلمة علماني Secularist  التي ظهرت 1851 لوصف طريقة جديدة في التفكير (عبده كساب:ص9).

وبدأت تتوالى الدراسات في هذه المرحلة فنشرت دراسة تحت عنوان مستقبل العلمانية بمجلة العاقل 1852 لتشارلز فريدريك نيقولا الذي نشر ثانية عن «طبيعة المجتمعات العلمانية». كرست للحوار حول علاقة العلمانية بالمسيحية.

إن الحوار فيما يرى كساب هو الذي ساعد على قبول العلماء بما أكده من معايير منها البعد عن استخدام لفظ ملحد Atheist والبعد عن استخدام كلمة كافر imlidel التي تعد أكثر الكلمات خطراً على الحوار.

بواعث العلمنة الملحدة عربياً

بعد أن استعرضنا أهم اتجاهات الإلحاد العربي كما ظهرت على صفحات مجلة العصور، والتي تمثل نموذجاً لما أثير حول هذه القضية في الفكر العربي المعاصر، سيظهر لنا عدد من الأسباب التي وجدنا أنها أسهمت في نشوء هذه الظاهرة لدى عدد كبير من الكتاب والنقاد العرب من أقطار مختلفة. ويمكن القول إنّ هذه الظاهرة ولو لم تكن وازنة وواسعة الانتشار ارتبطت بالإعلان عنها بوصفها عقيدة مع  تقدّم العلوم في الغرب وخصوصاً في القرن التاسع عشر في مجال الفيزياء والبيولوجيا وسواها. كذلك مع توسّع انتشار دعاة التيار العلمي القائل بفصل الدين عن الدولة مما يظهر بدايات النزعة العلمانية لدى أصحاب هذا التيار.

لقد ارتبطت مسألة الإلحاد ارتباطاً وثيقاً في الفكر العربي المعاصر بالتقدم العلمي، وانتشرت مع الكتابات العلمية خاصة مع نظرية التطور عند داروين ووجدت قراءات وتفسيرات متعددة لها لدى اللبناني شبلي شميل، والمصري إسماعيل مظهر  مثلما نجد لها قراءة ثالثة متميزة لدى المفكر الإسلامي الشيخ طنطاوي جوهري وهو الوحيد الذي أنجز في بدايات القرن العشرين تفسيراً للقرآن  الكريم وهو “تفسير الجواهر”..

والحقيقة أنه ليس فقط نظرية التطور ولا ازدهار العلوم الحديثة هي التي أدّت إلى انبعاث الثقافة الإلحادية العربية، بل أيضا تطور علم الفيزياء خاصة ما قدمه أينشتاين في نظريته التي عرفت وروج لها وكتب عنها في العربية. وقد تناول بعض كتاب “مجلة العصور” المعتقد الديني عند أينشتاين مثلما تناولوا المعتقد الديني عند داروين باعتبارهما من أهل  الشك. إلا أن ما نريد تأكيده فيما يتعلق بالدعوة للإلحاد انطلاقاً من الإعجاب بتطور العلم هو الإشارة إلى مسألتين: الأولى أن الكتاب الذين أسسوا للإلحاد تأثّراً بما تحقق من إنجازات علمية في الفيزياء والأحياء في أوروبا غاب عنهم عدم التطوّر الهائل في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية التي لم يظهر الاهتمام بها إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. نخص في هذا الميدان علم النفس وعلم الاجتماع بنظرياته ومعارفه المختلفة، وكذلك  الثورة المعاصرة في مجال علم اللغة واللسانيات التي لم تظهر الا فيما بعد. مما يوضح أن المنهج في العلوم الفيزيائية قد لا يساعدنا كثيراً في فهم طبيعة الإنسان والمجتمع والأديان والمعتقدات، وبالتالي لا يشبع العلم تطلعات الإيمان الإنساني الذي يتجاوز التطور العلمي ولا يخضع له.

أما المسألة الثانية فهي مسألة مهمة لم ينبّه عليها كتاب هذه المرحلة المبكرة ولاسيما دعاة الإلحاد الذين تناولنا كتاباتهم في هذه المقالة، عنينا بها تحول العلم إلى معبود بالنسبة إليهم. حيث يستطيع حلّ المشكلات الإنسانية كلها مهما استعصت. والحقيقة أن العلم اتخذ اتجاهاً معاكساً حين صار مهدداً للطبيعة الإنسانية نفسها وأصبح في مقدور العلماء التدخل في الجهاز العصبي للإنسان، وبعدما صار الاستنساخ البشري ممكناً. أمست طبيعة الإنسان وماهيته تحت رحمة التجارب العلميّة الخطيرة مما يقضي علي ذلك الجانب الأخلاقي الروحي الوجداني الإيماني.

النقطة الأخرى التي نتمنى التعليق والتعقيب عليها في هذه الخاتمة وهي عبارة وردت سريعاً في رسالة إسماعيل أدهم عن انتمائه للجمعيةالشرقية لنشر الإلحاد التي أصحبت فيما بعد فرعاً للجمعية الأميركية لنشر الإلحاد والتي حاولت القيام بدور مماثل في الواقع والفكر العربي، خاصة في مصر ولبنان. مما يثير علينا التساؤل الآتي: هل كان الإلحاد رؤية وموقفاً شخصياً لمعتنقيه ومعتقد لأصحابه؟ أو أن الأمر تجاوز ذلك إلى تنظيمات وجمعيات ودعوات منظمة تدعو لنشر الإلحاد وتسعى إلى توسيع قاعدته وتوظيفه والتبشير به بين بلدان العالم الإسلامي؟ الحقيقة أن هذا التساؤل يفرض نفسه بشدة لأسباب متعددة واضحة للعيان في كون مصدر الثقافة الإلحادية هو الأفكار والكتابات الغربية من جهة وتأثير الكتابات العلمية والفلسفية التي تنقل لنا تجارب إلحادية غربية شجعت من كتبوا عن الإلحاد لكي يحذوا حذوها، سواء ممن تعرضنا لأعمالهم أو ممن لم تسمح حدود قراءتنا بتناول مواقفهم مثل الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، والمفكر المصري عبدالرحمن بدوي الذي كتب في بداية حياته عن تاريخ الإلحاد في الإسلام.

ونشير إلى قيام عدد كبير من كتاب مجلة العصور بتفنيد دعاوى التيار العلماني الإلحادي عبر نقد فكري وفلسفي راقٍ للرد على الإلحاد ليس فقط باعتباره دعوات غربية ترتدي ثياب العلم بل باعتبارها أفكاراً مستحدثة وتجارب حياتية تقوم على معتقدات خاطئة.

نأتي أخيراً إلى مسألة كنا أرجأنا  الحديث عنها وتتنافى مع الزعم بأن مصدر الإلحاد غربي فقط وهي حالة وإن كانت خارج تحليلاتنا التي تنصب على دراسات مجلة العصور، إلا إن من المهم تناولها في هذا السياق وهي كتابات عبد الله القصيمي الذي كان يعد من كبار أئمة الدعوة الوهّابية في السعودية ثم تحول عن الإيمان ليصير ملحداً، وهو ما يحتاج في نظرنا إلى دراسة تحليلية من مداخل متعددة ليس فقط سيكولوجية  أو سوسيولوجية بل أيضاً من مداخل سياسية؛ فلقد تبيَّن لنا أن القراءات المبتورة للإسلام صارت في حاجة شديدة لإعادة النظر والإجتهاد، والسلفية الوهابية المعاصرة منها على وجه الخصوص.

----------------------------------

أحمد عبد الحليم عطية : مفكّر وأستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة – جمهورية مصر العربية.

[2] - فريال جبوري غزول : ما بعد الكولونيالية، قضايا فكرية القاهرة الكتاب التاسع عشر والعشرين أكتوبر 1999 ص 383-384.

[3] - محمد مهدي شمس الدين – العمانية: تحليل ونقد للعلمانية محتوى وتاريخاً – المؤسسة الدولية للدراسات والنشر – بيروت 1996 – ص 7.

[4]- {د. عدنان محمد زرزور : القومية والعلمانية مدخل علمي مؤسسة الرسالة 1992}.

[5] - فويرباخ: مقدمة المجلد الأول من الأعمال الكاملة، انظر دراستنا: الإنسان عند فويرباخ، دار التنوير، بيروت، 2005.

[6] - حديث فيلسوف في الإلحاد والإيمان، بقلم ديدرو الفيلسوف الفرنسوي المعروف. ترجمه ميخائيل بشارة داوود، العدد 8 (ص877-890). وهو مثل من الأمثلة في المناقشة المهذبة التي تدور حول أجل الموضوعات وأدعاها للمباغضة انصرف بعدها المتحادثان على أصفى ما يكون من الود. وذلك نموذج لما تهدف إليه المجلة، أي الحوار العقلي الهادئ، الذي لا يهدف إلى ازدراء الأديان، ولا هدم أركان المجتمع، ولا البطش بالمخالف في الرأي.

[7] - إسماعيل مظهر(1891-1962) هو مفكر مصري علماني. يُعتبر أحد رواد النهضة العلمية المعاصرة في مصر والعالم العربي، وأحد رواد الفكر والعلم والترجمة. درس علم الأحياء بجامعة لندن، وقام بترجمة كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز داروين ونشره عام 1918، وأعيد طبعه عام 1928. كما ترجم كتاب «نشوء الكون» و«حياة الروح ‏في ضوء العلم». وعمل بالتأليف وأصدر مجلة «العصور» عام 1927، وترأس تحرير «المقتطف» ما بين عام 1945 و1948، ومن مؤلفاته: «قاموس الجمل ‏والعبارات الاصطلاحية الإنجليزية والعربية» 1951، و«قاموس النهضة: انجليزى -عربى» عام 1954 و«معجم مظهر ‏الانسيكلوبيدي» وقد طبع منه ثلاثة أجزاء. «كان ناقدًا ومفكرًا ومصلحًا اجتماعيًا دارت أفكاره حول ‏معنيي الحرية الفردية والمثل الأعلى».

[8] - عصام الدين حفنى ناصف (1899 ـ 1969) واحد من روّاد الحركة الوطنية المصرية في مطلع القرن العشرين. نشأ في كنف والده حفنى ناصف الذى كان من رفاق أحمد عرابي في ثورته. تميَّز في أنّه ثابر بنشاط على العمل الوطني في ميادينه كلها، إضافة إلى الجهد الفكري الذى جعل منه أحد المفكرين العلمانيين في تلك المرحلة، باسم الاشتراكية التي كتب عنها وعن تاريخ نشوئها، متأثرا بماركس وإنجلز، ومتأثرا في الآن ذاته ومعمماً أفكار داروين في النشوء والارتقاء. وهو يتوقّف في بحث مطوّل عن الاشتراكية بعد أن يستعرض تاريخ بروزها في أوروبا بأنواعها وأسمائها المختلفة، يتوقف عند ما سمّاه «الاشتراكية التطورية»: تنقسم إلى (1) الاشتراكية الداروينية (2) اشتراكية ماركس وإنجلز (المادية. الأولى تنقل بعض القوانين الداروينية في العلوم الطبيعية إلى الحياة الاجتماعية بمعنى أنّ الترقي الضرورى للجمعية سيسير بها إلى أسمى أشكال الاشتراكية.

[9] - كتب إسماعيل مظهر دراسة موسعة حول اسبينوزا لنفي تهمة الإلحاد عنه وتأكيد حرية الفكر، وأفسح صفحات مجلته للعديد من الدراسات حوله. ومن اسبينوزا انطلق كل من بيير بايل في القرن الثامن عشر، وفويرباخ في القرن التاسع عشر، وليو شتراوس في القرن العشرين، من أفكاره ونظرياته في تحديد موقفهم من الدين والإيمان.

[10]ـ راجع: حسني السراج، الإلحاد من فكرة إلى عقيدة ـ الحوار المتمدن ـ العدد 3413.

[11] - عبد اللَّه القصيمي (1907 - 9 يناير 1996) مفكر سعودي يُعتبر من أكثر المفكرين العرب إثارة للجدل بسبب انقلابه من موقع النصير والمدافع عن السلفية إلى الإلحاد. وبسبب مؤلفاته المثيرة للجدل ومن أشهرها كتابه: «العرب ظاهرة صوتية».

[12] - تظهر في لغة كل من كتب عن الإلحاد أو انتقد الداعين له مع الحجة العلمية والبرهان الفلسفي، اللغة الأخلاقية التي تحترم الآخر وتؤكد حرية الاختلاف وحق كل صاحب رأي في التعبير عن رأيه دون إسفاف أو تدنٍّ أو تكفير وإقصاء. فنجد ط. ه. حنين أفندي فيما كتبه ردا على إبراهيم حداد أفندي، هذه اللغة التي يتحدث فيها عمن خالفه في الرأي ويشير إليه بكلمة حضرته في قوله «حتى يحاول حضرته، أو كما يظن حضرته، أو يدخل حضرته»، مما يؤكد الرقي في الحوار والسمو في اللغة والثقة في المعتقد.