البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التعددية الثقافية مفهوم يجب إعادة بنائه

الباحث :  ميشال فيفيوركا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1418
تحميل  ( 337.885 KB )
تهتم هذه المقالة بالتعرف إلى التعدد من وجهتين: وجهة مفهومية إذ يعمل الباحث على تأهيل نظرية الغيريّة على أنها مفهوم فلسفي وسوسيولوجي، ووجهة تطبيقية تاريخية إذ يقدم مجموعة من الأمثلة تفضي إلى بيان الكيفيات التي جرى من خلالها تطبيق المفهوم في مجتمعات ليبرالية تعددية.

المحرر

للتعدّدية الثقافية، اليوم، تاريخ يمتدّ إلى حوالى نصف قرن مضى. إنّ هذا التاريخَ فلسفيٌّ وسياسيٌّ، قانونيٌّ، مؤسّساتيٌّ. وهو، على العكس من ذلك، أقلُّ تجذُّرًا في عمل العلوم الاجتماعية، وعلى أيّ حال فهوعمل اختصاصي في نطاق علم الاجتماع. لقد شارك عدد من علماء الاجتماع في النقاشات التي أثارتها هذه المقولة، أو على نحوأوسع، أثارتها المشكلات التي عالجتها. لكنهم كانوا أقلَّ تركيزاً، وأقلَّ حزماً من مُثقّفين آخرين، بل لقد كانوا في المؤخرة. يبدو لي، على الرغم من ذلك، أنه قد آن الأوان لإعطاء أكبر قدر من الأهمّية لعلم الاجتماع، أوللعلوم الاجتماعية، أقول ذلك لا بدافع الحِرَفيّة (corporatisme) وإنما لسبب أساسي أشار إليه «وِلْ كيمليكا» (AKCILMIK LLiW) La citoyenneté multiculturelle، Paris، La Découverte، 2001): آن الأوان لتغذية النقاش بتحليلات عملية، لا فقط بمُلاحظات نظرية يوضّحها ببساطة، من وقتٍ لآخر، مثالٌ أوحدثٌ، مستوحى من الأحداث اليومية، ومعروض في وسائل الإعلام، ونحن، إضافة إلى ذلك، ننقده باستخفاف.
فالنقاش، في أغلب الأحيان، مَبنيٌّ من خلال تعارضات مُجرّدة، ومن خلال الصدمة، العنيفة أوالهادئة، بين مواقف، وقيم، ومبادئ مُتصارعة، ولكلٍّ منها أدلته الداعِمة، من دون أن يُرفَع النقاب عنها فعلاً من خلال معرفة صارمة بما يتمّ في نطاق الممارسة الاجتماعية. سأُضيف هنا، حيطةً، أنّ التعدّدية الثقافية (multiculturalisme) والنقاش الذي تثيره ليسا بصورةٍ واحدة من مُجتمع لآخر، وأنّ هناك فروقًا كبيرة، على وجه الخصوص، تَميز الدول الأوروبية من الهند ومن عدد من الدول التي بُنِيَت من خلال الهجرة التي حدثت مؤخّراً، نحوأميركا الشمالية وأستراليا وزيلندة الجديدة – أنا أُدرك جيّدًا خطر نزعة المركزية-العِرقية  (ethnocentrisme) التي تترصّد هنا كلامي.
في البداية، إنّ التعدّدية الثقافية تتمثّل كصيغة أوجملة صيغ مُمكنة يُفترَض أن تسمح بالإجابة عن السؤال: «هل بإمكاننا العيش معًا... مُختلفون لكن متساوون؟» – إنني أستعيد هنا عنوان أحد مُؤلّفات عالِم الاجتماع آلان توران (Paris، Fayard، 1997). إنّ التعدّدية الثقافية تنبع من مُلاحظةٍ مفادها أنه تُوجد في المجتمع المدروس فروق ثقافية، وترى أنّ الاعتراف بتلك الفروق أمر صائب أوعلى الأقل جميل وفي أدنى الحالات مُستَحبّ. في الحالة القصوى، تعتمد التعدّدية الثقافية على صورةٍ للمجتمع، هي صورة عدد من الفئات الثقافية المتمايزة، التي يُفترَض أنها تقبل بالعيش معًا ديمقراطيًّا، من خلال الربط بين تأكيد خصوصيّاتها، واحترام القيم العالمية (valeurs universelles) – القانون، العقل. إنّ الروح التعدّديَّة-الثقافيّة (esprit multiculturaliste) تكمن، تحديدًا، في هذا التمفصل الديمقراطي القائم على مبدأين يصعب، مع ذلك، المواءمة بينهما، هما الاعتراف (بالخصوصيات الثقافية) واحترام (القيم العالمية). وإذا كان النقد حاميًا غالبًا، فهذا أوّلًّا لأجل اتّهامها (التعددية الثقافية) بأنها تُشكّل الحاضن للجماعوية (النزعة الجماعية / (communautarisme، أي إنكار القيم العالمية انطلاقًا من انحرافات أوتصوّرات مُبالَغ فيها مُتعلّقة بحقوق مُقترنة بمبدأ الاعتراف.
لكننا لا نعيش في عالم مُجرَّد وحُلُمي (onirique). إنّ تطبيق التعدّدية الثقافية يصطدم بالضرورة بمشكلات كبيرة – إنّنا لا ننتقل فحسب من مبادئها الأساسية إلى تحقّقها الواقعي. ما قيل هنا عن التعدّدية الثقافية يصلح لكلّ نموذج، وكلّ نظرية وكل اقتراح مبدئيّ (principiel) عامّ. وأُشير بهذه المناسبة إلى أنّ أعداء التعدّدية الثقافية الأكثر تصميمًا، أولئك الذين نُسمّيهم في فرنسا «الجمهورويّين» (républicanistes)، يُقاومون باستمرار فكرة الأخذ في الاعتبار، من أجل تعزيز منظورهم، هذا النوع من الصعوبات: إذا كانت وعود الجمهورية لا تُنفَّذ من قبل المؤسّسات التي تعرضها، مع ذلك، بفخر على مداخلها (الجمهورية الفرنسية: حرية، مساواة، أخوّة) فهذا لا يُشكّل مُشكلة بالنسبة للجمهوريين، ولما يصبح ذلك مشكلة بصورة حتمية، نتيجة العنف مثلًا، كما شاهدنا خلال احتجاجات تشرين الأول وتشرين الثاني عام 2005، فإنّهم يتخلصون منها من خلال الخطابة التعزيمية (declamation incantatoire)، والدعوة إلى القمع بواسطة قوات الشرطة، أومن خلال التملّص من الرقابة حيث تَنوب العِرقية (racisme) والقومية (nationalisme) عن القيم العالمية.
لنقبل إذًا – أتكلّم بوصفي عالم اجتماع وقَفَ دائمًا إلى جانب التعدّدية الثقافية (انظر مثلًا الكتاب الذي أشرفْتُ على تأليفه بعنوان (Une société fragmentée. Le multiculturalisme en débat، Paris، La Découverte، 1997) – لِنقبلْ بمواجهة المُشكلات التي تجعل تطبيق التعدّدية الثقافية أمرًا عسيرًا. إنّ هذه المُشكلات تتعلّق، أولًا، بحدود ما نرى أنّه يُشكّل الثقافة، أوالهويّات الثقافية.
التعقيد الأولي
في الستينيات، حين أُطلق النقاش، لا سيما في كندا، كان واضحًا أنّ هناك أقلّياتٍ مُختلفةً يجب أن تُؤخذ بالحسبان. من دون الخوض في التفاصيل، ليس من العسير، بالنسبة للتجربة الكندية، التمييز في الحال بين الهنود الحمر وسكان كيبيك والفئات المُهاجرة قديمًا التي شاركت في صياغة تاريخ كندا، مثل الأوكرانيين، وكذلك أولئك الذين هاجروا مؤخرًا، وحتى الذين هم الآن في طور الهجرة، مثل الهايتيين. إّن الهنود الحمر، أيًّا تكن التسمية التي تُطلق عليهم، لا يطمحون بالضرورة إلى المشاركة في علاج تعدّدي-ثقافي، يُدخلهم في مجتمع يرون أنه قد دمّرهم، وبعضهم يطلب، على نحومُغاير جدًّا، العيش في عزلة، بصورة مستقلّة، مع أنظمتهم الخاصّة – نجد مثل هذا الموقف في بقاع العالم كلها، مثلًا لدى سكان أستراليا الأصليين (Aborigènes d’Australie) أوعند بعض مجتمعات الهنود الحمر في أميركا اللاتينية. إنّ الكيبيكيين، بالنسبة إلى قسم مهم منهم، يُريدون الاستقلال الوطني. ومن دون الذهاب بالضرورة إلى هناك، يبرز الكثيرون هوية وطنية لا ترتاح لأي تعدّدية ثقافية.  إنّهم يرفضون، إضافة إلى ذلك، الاعتراف بهذه التعددية الثقافية في فضائهم الوطني الخاصّ: البعض يرى فيها اختراعا أنغلوفونيًّا (anglophone) يهدف إلى إضعاف مواقفهم. إنّ الأقليات الصغيرة المُنبثقة عن موجات هجرة قديمة تنتظر بشكل خاصّ الاعتراف بإسهامها التاريخي في بناء البلد. والقادمون الجدد يمكنهم أن يرغبوا بالحصول على الاعتراف بخصوصيّاتهم الهويتية (identitaire) وفي الوقت عينه الحصول على العون الاجتماعي،سواء بالنسبة للوظيفة، أوالعمل، أوالسكن، أوالصحة أوالتعليم للأطفال.
إنّ ذلك يَحمل سلفًا بعض الدلائل القيّمة. إنّ مسألة الهنود الحمر، كما مسألة كيبيك، تُشير إلى أنّ التعدّدية الثقافية غير مُتكيّفة مع العلاج السياسي لجميع الفروق: بمجرد أنْ يتعلّق الأمر بالخروج من مجتمع وإعلان الاستقلال وحتى استقلال «أمة»، يصبح الرهان غير مُختصّ بالعيش معًا، على نحوديمقراطي، في ظل فروقنا. بمجرد أن نمسّ المسألة الوطنية يكون خطر الخروج عن العالم الافتراضي أوالحقيقي للتعدّدية الثقافية كبيرًا. إنّ مسألة الأقليات القديمة هي قبل كل شيء، وعلى نحوشبه حصري، ذات طابع رمزي، تاريخي، ثقافي، بينما لا تقتصر مسألة القادمين الجدد على ذلك لأنّه، إضافةً إلى مثل هذه المطالب المُحتَمَلة (والتي لا يشترك فيها الذين ينتمون إلى هذه الموجات الجديدة من الهجرة، وقد عبّر نيل بيسوندا (Neil BISSOONDATH) عن ذلك بوضوح شديد) هناك مطالب اجتماعية. هذا هوما يُفضي إلى تمييز أشرْتُ إليه في الماضي، والذي لن أعود إليه، أعني التمييز بين التعدّدية الثقافية المدموجة (intégré)، التي تتكفّل، بحركة واحدة، بمطالب الاعتراف الثقافي والتوقعات الاجتماعية، وبين التعدّدية الثقافية المُتفجّرة (éclaté)، التي تَفصل بين النبرتين (في دراستي بعنوان La Différence، Paris، Balland، 2000).
وهكذا، سلفًا، أوباكرًا جدًّا، ظهرت التعدّدية الثقافية، من جهة، محصورةً في بعض الرهانات، ومن جهةٍ أخرى، كعقدة بما أنّها يمكنها تغذية نوعين على الأقلّ من السياسات، «المُتفجّرة» أو«المدموجة».
دخول الدين في اللعبة
في الثمانينات والتسعينات، في كل مكان في العالم، برزت رهانات جديدة وأرهقت النقاش عبر إقحام العامل الديني. لأنّه، غالبًا جدًّا، حيثما يتمّ تجريب تطبيق التعدّدية الثقافية، تُوجد توتّرات حول الهويّات، لأنّ الهويّات تكتسي سياقًا دينيًّا.
فالدين ليس هو الثقافة، وإنما، كما كان يرى، خاصة، عالِم الإناسة كليفور غيرتز (Clifford GEERTZ)، بإمكانه الارتباط بها ارتباطًا قويًّا. حين نتكلّم مثلًا على «المسلمين» هل نُشير إلى اعتقاد الأفراد المعنيين، أوبالحريّ، وأيضًا نمط حياتهم، وتقاليدهم اللباسيّة، وعاداتهم الغذائية خارج المحرمات الصريحة التي وردت في القرآن الكريم؟ عندما نأخذ في الاعتبار فرنسا من المنظور الكاثوليكي، هل ما يُرى هو إيمان وممارسات دينية، أوبالحريّ، وأيضًا ثقافة تُؤثّر في الحياة اليومية لشعبٍ لا ينحصر بالمؤمنين وحدهم؟ حين نتكلّم على اليهود (Juifs)، هل نُشير إلى دين يجب، في حالته، أنْ يترك الحرف الكبير (Juifs) مكانًا للحرف الصغير (juifs)، أوهل نقصد شعبًا يضمّ أيضًا غير اللا مؤمنين (incroyants) وغير المؤمنين (non-croyants) واللا أدريين والمُلحدين منه؟ في بلدان عدة، ينفصل الدين، على الرغم من ذلك، عن الأماكن والشعوب والثقافات التي نشأ فيها، وكما قال غيرتز: «بينما كان الدينُ غالبًا، على مرّ التاريخ، البنية الثقافية الأكثر تجذّرًا محلّيًّا والأكثر تأثّرًا، في تعبيره، بالظروف المحلّية، فإنه أصبح أكثر فأكثر ـ وهويُصبح أكثر فأكثر غرضًا عائمًا، مجرَّدًا من كلّ ترسّخٍ اجتماعيٍّ في تقليد راسخ البُنية أوفي مؤسّسات قائمة» (في مقال «الدين، موضوع المستقبل»، ضمن كتاب «العلوم الاجتماعية في تحوّل»، إشراف ميشال فييفيوركا،أوكسير (Auxerres)، منشورات العلوم الإنسانية، 2007، ص. 428). إنّ معنى الدينيّ لا يمكن ردّه باختصار شديد إلى أبعادٍ ثقافيةٍ، كما لا يمكنه الانفصال عنها: إليكم ما يُعقّد بصورة فريدة مهمّة أولئك الذين قد يُريدون تطبيق تعدّدية ثقافية مُنفتحة على فئات مُعرّفة على الأقلّ جزئيًّا بمصطلحات دينية. لكنّ المسائل الدينية تستدعي علاجًا آخر غير مُتّصل بالتعدّدية الثقافية، لأنّ الإيمان والاعتقادات والمُمارسات المُقترِنة لا تُبرِز رهانات اعتراف، بالمعنى الذي صاغها فيه شارلز تايلور (Charles TAYLOR) (في «التعدّدية الثقافية والاختلاف والديمقراطية»، باريس، أوبيي (Aubier،1994). في الديمقراطية، يستدعي الدين، قبل كل شيء، أن يتمّ الفصل بشكل واضح بين الكنائس والدولة – هذا ما يُسمّيه الفرنسيون اللائكية. تتعقّد المسألة لأنّ الأمر في الماضي كان يتعلّق، بالنسبة لللائكية، بالإشارة إلى الفصْل بين الكنائس والدولة، بينما اليوم، تنتظر أديان جديدة أومُجدَّدةٌ، قبل كلّ شيء، اعترافًا مُعيَّنًا من الدول. وإذا تعلّق الأمر بالاعتراف مثلًا بالإسلام في فرنسا، فالقضية ليست بالضرورة أو فقط قضية جماعية، فالمسألة تتعلّق قبل كلّ شيء بمعرفة كيف يستطيع كل فرد أن يُمارس بحرية حريته في الاعتقاد وأن يَعيش وفق معتقده، ولا يتعلّق الأمر أكثر، أو فقط، بجعل الاعتراف بدين ما مُمكنًا، ممّا يتعلّق بجعل اعتناقه أمرًا مُمكنًا للإنسان– فرداً وذاتاً. ثمّةَ أمرٌ ملحوظٌ في أيّ ديمقراطية غربية يتمثّل في أنّها تخلق شروط احترام العامل الديني، وتجعل الحصول على اللحم الحلال ممكنا في المدرسة أو في السجون، وتخصّص أماكن للمسلمين في المقابر إلخ، وثمّةَ أمرٌ آخرُ يتمثّل في الحرص على أنّ كل شخص يرغب بالاستفادة من إمكانات كهذه، أن يتمكّن من ذلك، وذلك بحسب خياراته الشخصية وذاتيّته الخاصّة.
هكذا، يُدخِل العاملُ الديني في النقاش حول التعدّدية الثقافية جوانبَ إضافيّةً، بل ربما هي غريبة عن هذا النقاش. أنْ تُشكّل التعدّدية الثقافية فرصةً للتفكير بالعلاقة بين الهُويّات الجماعية والحقوق، وتُجبر على إدخال ذاتيّة الأفراد ضمن التفكير، فهذا أمر مُفيد للنقاش. لكنْ قد يكون من الخطأ اختزال الدين في أبعاده الثقافية فقط، فهو يثير مشكلات أخرى. إنّ الدين هو من جنس الإيمان والاعتقادات، لا من جنس الاستبطان البسيط لعناصر ثقافةٍ ما. لا يدخل الدين إلا جُزئيًّا في النقاش حول التعدّدية الثقافية، ليس هذا فحسب، بل هو يتجاوزها ويتمايز عنها من نواحٍ عدّة، لكنّه، بالنسبة للمجتمعات الغربية، بات يُشكّل انشغالًا أكبرَ من غيره من الانشغالات الأخرى، الثقافية المحضة. ثمّة ثلاثة توضيحات يجب أن تكون كافية هنا. التوضيح الأول فرنسي: لو ألغينا كل ما يمسّ الإسلام في النقاشات الأكثر حماوة منذ حوالي عشرين عامًا، إضافةً إلى المسائل المُتواترة المُتعلّقة بالحجاب، واليوم البرقع، فإن النقاش حول التعدّدية الثقافية يبدو باهتًا ومحدودًا. التوضيح الثاني حول كيبيك والاستنتاجات الرئيسية المأخوذة من العلاقة بوشار/تايلور (BOUCHARD/TAYLOR) حول «التسويات المنصفة» (accommodements raisonables): إنّ الكيبيك قلقة على هُويتها الوطنية، وهي تَعكِس قلقها، بصورةٍ مُتصنَّعة، على مشكلات ثانوية فعلًا، أو غير موجودة، يُحيل الكثير منها على الإسلام. ختامًا، أعطت سويسرا وتصويتها الذي جرى مؤخَّرًا (كانون الأول 2009) ضد بناء المآذن التوضيح الثالث، ويمكننا إضافة توضيحات أخرى منها مسألة الرسوم الكاريكاتورية في الدانمارك، واغتيال تيوفان غوغ (Theo VAN GOGH) في هولندة، إلخ. بالتالي، إنّ النقاش حول التعدّدية الثقافية هو، في الوقت عينه، مُخترَق ومُضلَّل بفعل هذا التركيز على الإسلام. وفي عدد من البلدان، التي يجب علينا التحدّث عنها أكثر للتفكير بالتعدّدية الثقافية انطلاقًا من تجارب واقعية، أعني على وجه الخصوص الهند، نرى المسألة الدينية ثقيلة الوطأة، لا سيما حول شكل عنيف – نراه في ما يتعلّق بالإسلام والسيخ والهندوسية – وتُحدّد، بالتضافر مع عوامل أخري الكثير من النقاشات حول التعدّدية الثقافية.
عودة العِرق
في الخمسينيات والستينيات، كان الحلم باختفاء العرقية (العنصريّة) مُمكنا: إنّ اكتشاف ما قادت معاداة السامية إليه من جرّاء النازية وفهمه، وإزالة الاستعمار، والحركات من أجل الحقوق المدنية، كانت تستطيع أنْ تغذّي هذا الأمل. في السبعينيات والثمانينيات بدا نوع من العرقية لا طعم له يتبلور أولًا، مُشيرًا إلى أهدافه أوضحاياه لا فقط بوصفهم مختلفين جسدياً، وبالتالي أدنى عقليًّا، وإنما بوصفهم غير مُتكيّفين ثقافيًّا، وعاجزين عن الاندماج في المجتمع السائد بشكل غير قابل للجبر: تحدّث عدد من علماء النفس والسياسة من أميركا الشمالية عن «عرقية رمزية» (symbolic racism) بخصوص هذه العرقية التي تأخذ على السود عدم استطاعتهم وعدم رغبتهم بالالتزام بالمبدأ الأميركي (credo américain)؛ وفي إنكلترا تحدّث عالِم السياسة مارتن باركر (Martin BARKER) عن «عرقية جديدة» (New Racism)؛ وفي فرنسا اهتمّ فلاسفة أمثال إيثيان باليبار (Etienne BALIBAR) وبيير-أندري تاغِياف (Pierre-André TAGUIEFF) بهذه العرقية الثقافية الجديدة، «الفروقية» (différentaliste). استطاعت المسألة العرقية، بنحوٍ ما، الاقتران تمامًا بالنقاشات حول التعدّدية الثقافية لأنّها كانت تستند إلى مضمونيات (thématiques) تكتسي سياقًا ثقافيّا.
لكن برزت ظاهرة جديدة أساسية من وجهة نظرنا هي، على الأقل في بعض البلدان، ما يمكن تسميته العودة المفارقة (paradoxal) للعرق. فلا يقف الأمر عند أنّ العرقية الفيزيائية أوالبيولوجية القديمة لم تمت، ولا عند أنّها تجد فقط هنا أوهناك أشكالا مُتجدّدة، من بينها الأشكال العلمية –يكفي قراءة The Bell Curve للمؤلّفين ريتشارد هرستين (Richard HERRSTEIN) وتشارل مورّاي (Charles MURRAY) (نُشرَ عام 1994) للظفر بتوضيح – بل نجد، أيضًا وخاصّةً، أنّ الشعوب المستهدَفة من قِبل العرقية تميل غالبًا إلى البروز عبر تقديم نفسها في الفضاء العامّ بوصفها معرَّفةً من خلال صفاتها البيولوجية أوالفيزيائية. في فرنسا مثلاً، ظهر المجلس التمثيلي للجمعيات السوداء (CRAN: Conseil Représentatif des Associations Noires) الذي أسهم إسهامًا حاسمًا في النقاش حول الإحصاءات المسمّاة إتنية. لا يتعلّق الأمر، بالنسبة لِفاعلين كهؤلاء، بإبراز ثقافة خاصة، وإنما بمحاربة أشكال التمييز عبر المطالبة بالاعتراف بالمعانَيَات التاريخية (النخاسة والاستعباد والاستعمار) ومن خلال تعريف الذات انطلاقًا من صفة فيزيائية هي، بالنسبة للسود، لون البشرة. إنّ تطبيع العلاقات الاجتماعية بل إسباغ الطابع العرقي عليها يُظهِر تغيّرات حسّية في النقاش العامّ، نرى ذلك في فرنسا، خاصّةً في ما يتعلّق بالإحصاءات المسمّاة «إتنية» أو«الخاصة بالتنوّع»، لأن بعض المطالب التي هي لصالحهم يمكن أن تتأتّى من لاعبين جماعيين يتحدّثون باسم هوية يمكنها أن تكون ثقافية، لكنها يُمكن أيضًا أن تنحصرَ في ذكْر خاصّية ثقافية - لون البشرة. هنا أيضًا، نجد أنّ النقاش حول التعدّدية الثقافية مُختَرَقٌ ومُتجاوَزٌ ومُفسَدٌ بفعل رهانات جديدة تحتلّ الطبيعة من خلالها، جُزئيًّا، مكان الثقافة، وذلك بألفاظ هي غالبًا تُترجم الخلط بين الأنواع (genres) أوالنبرات (registres): إنّ الحديث عن الإتنوية (ethnicité) أوالأتننة (ethnicisation) عن فئات إتنية (groupes ethniques)  على الخصوص هو، تحديداً، استخدام مقولات متعارضة أوغامضة لأنها كلها تتّصل في الوقت عينه بطبيعةٍ ما وبثقافةٍ ما.
الثقافةُ مُتحرّكةً
لمرّات عديدة في هذا التحليل، كان ينبغي علينا التوقّف أطولَ عند موضوعات مختلفة، هي كلُّها أعقد من القليل الذي قلناه حولها. إنّ مسألة السود التي برزت، مثلًا، في الجدل العامّ في فرنسا في سياق أعمال التمرّد التي وقعت في تشرين الأول وتشرين الثاني من عام 2005، والذي تجلّى في عبارات كانت في حالةِ تَكوُّنٍ منذ عدة سنوات، نقلت إلى حدّ كبير الجدلَ حول التعدّدية الثقافية: ماذا يعني أنْ يكون المرء «أسود»؟، ومن«الأسود»؟، ومن يُقرّر ذلك، أليس ذلك مقولة خطيرة وغير مُتكيّفة مع الواقع المعيش لِلّذين تُشير المقولة إليهم؟ هل يُفيد فهمُها؟ لِأيّ غايات، وكيف؟ وإذا كان ذلك مُفيدًا، فهل يعني ذلك مدْحُ جماعاتيّةٍ ما (communautarisme) هي نفسها مُدرَجة في انحرافاتٍ قد تكون نموذجية لتعدّدية ثقافية هي، إمّا غير مضبوطة بشكل جيد، أوغير قابلة للضبط أصلًا؟
لكن لنمضِ قدما في تفكيرنا العام. إن الخصوصيات الثقافية التي يُمكن أن يُبنى عليها هيكل تعدّدي ثقافي تستلزم ثباتًا ما، وكذلك إمكانية تحديدها من قبل القوة العامة بحيث يمكن تعريفها بقدر من الدقة يتعلّق بكلٍّ واحدة من تلك الخصوصيات. ثمة هنا ضرورة لا تتّفق، إلا قليلًا جدًّا، مع الحقائق. لأنّ الهويات الثقافية، في مجال الممارسة، مع كونها تُطالب أحيانًا بتقليد وماضٍ واستمرارية تاريخية، هي في تطور مستمرّ. في عام 1992، دعا إيريك هوبسباوم (Eric HOBSBAWM) وتيرانس رانجي (Terence RANGER) في مؤلَّفٍ أصبح كلاسيكيًّا، دعوَا إلى أخذ «ابتكار التقليد» (l’ivention de la tradition) بعين الاعتبار، وشدّدتُ أنا أيضاً منذ حوالي عشرين عامًا على القواعد المنطقية (logiques) لإنتاج الفروق، التي تبدولي أشدّ وطأة من القواعد المنطقية لإعادة إنتاجها. إنّ الهُويات الثقافية التي يمكن أن تجدَ فائدة في سياسة تعدّدية ثقافية هي، في الواقع، دائمة الحركة ومتغيّرة، وتتضمّن في داخلها عمومًا بُعدًا يمكن نعته بالأصولي أوالتقليدي. اليوم، بإمكان الأفراد الانتماء إلى هوية ثقافية قائمة، لكن مع إمكان التحرّر منها بشكل أسهل مما كان عليه الأمر في الماضي، كل واحد لديه خيارات ويأخذ قرارات، وتتطور الخصوصيات الثقافية بحسب تلك المُدخلات والمخرجات. في بعض الحالات، ما يهمّ في المقام الأول هو القدرة الإبداعية، إمكانية المزج، لاسم نُطلقه – المزج اللغوي (créolisation)، التهجين (hybridation)، التخليط الثقافي (métissage culturel)- وذلك يُخالف كلّ ترسيخ للهُويات، كما لا يمكنه إلا أن يُقاوم مشروع المشاركة الخاصّ بهيكل تعدّدي ثقافي. لهذا السبب، فإنّ الذين يقتربون أكثر من المواقف الجمهورية يرون أنفسهم أحيانًا مؤيّدين للقواعد المنطقية للمزج هذه التي تنسجم تماما مع موقعهم الفكري والسياسي. إنّ التعدّدية الثقافية تعترف بهويّات مبنيّة وقائمة، وهذا هو إسهامها الرئيس؛ لكنها لا تترك مكانًا للابتكارات، فهي تُجمّد الهويات أكثر مما تسمح بالمرونة والتغيّرات والتطوّرات، وهي ليست مُؤيّدة للخصوصيات الناشئة ولا شيء لديها تُقدّمه للأفراد والفئات التي تقوم بتغييرات وتضع قواعد منطقية للمزج، بل العكس، تُصبح سريعًا العدوّ لهم. وفي الحالة القصوى يحضُرُ دائمًا، إضافة إلى التعدّدية الثقافية، احتمالُ تعزيز الميول نحوالجوْهرة (essentialisation) أي نحوالفكرة القائلة بأنّ الثقافة تُعطى، مرة واحدة، وبالتالي فإنّها غير قابلة للتبسيط (irréductible)؛ لكن لنحذر مثل هذا اللوم أوالشكّ، الذي يمكن أن تكون أسسه إيديولوجية –هذا هوقلب العرقية المنعوت بـ «الفروقية» (différentialiste) المُتمثّل باتّهام السود في الولايات المُتّحدة بأنهم ثقافيًّا يرفضون المبدأ الأميركي، أو اتّهام بعض الأقلّيات في فرنسا، المتحدرة من الهجرة، بأنها مختلفة بصورة غير قابلة للتبسيط، وعاجزة كلّيًّا عن التكيّف مع المجتمع المُضيف، في حين أنّ أعضاءها، الراغبين بالاندماج، كانوا أساسًا ضحايا لِلاستبعاد والنّبذ العرقي (العنصريّ). عمليًّا، تُعدُّ التعدّدية الثقافية تقدُّمًا (progrès) كلّما قاوم مجتمعٌ ما الاعتراف بتنوّع الثقافات التي تُؤلّفه، وتُعدُّ التعددية الثقافية تراجعًا (regression) عندما تَميل هي نفسها إلى مقاومة عمل هذه الثقافات على نفسها.
لهذا السبب، يجب دائمًا على الأجهزة التعدّدية الثقافية حين توجد أن تتضمّن ضرورة التقييم، لكي تسمح تحديدًا، في أوقات منتظمة بالإشراف على هذا الضغط بين تقدّم الاعتراف، والانكفاء المُتعلّق بميول نحوالانغلاق الهويّاتي.
5 - العولمة وعمليات الهجرة
لكي يكون جهاز التعددية الثقافية فاعلًا وشرعيًّا يجب أن يشمل أيضًا هويّات ثقافية هي نفسها مُدرجَة في المحيط حيث تستطيع القوة العامة تحديدًا أنْ تؤثّر وأن تشرِّع، وأنْ تقترح إجراءات. منذ حوالي ثلاثين عامًا، تدفعنا العولمة والازدهار الهائل للظواهر المرتبطة بالهجرة، هنا أيضًا، إلى الحدثنة (aggiornamento). إنّ العولمة تُضعف الدول-القومية (Etats-nations) التي تُؤلّف الإطار الكلاسيكي للعمل العامّ والنقاش السياسي. منذ ذلك الحين شجّعت العولمة الهُويّات الثقافية على العيش بوصفها قائمة في فضاءات غير تلك التي تُطابق تمامًا هذا الإطار. وهكذا، اجتاح مفهوم الشتات، الذي كان في الماضي حكرًا على اليهود وحدهم، النطاقَ العامَّ وكذلك الجدلَ السياسيَّ والفكريَّ. إنّ الأشتات اليوم مُتعدّدة، ويجري الحديث عن ظواهر شتاتية، ويتكلّم بعض الباحثين على «أشباه أشتات» في ما يتعلّق بالصينيين والهنود الحمر بشكل أساسي.
إنّ هذا التطور غير قابل للانفصال عن ظواهر الهجرة، بحيث لا يمكن حصره في نموذج سادَ في الأمس، يعرَّف المهاجرُ وِفقه بأنّه فردٌ ترك مجتمعًا، ووصل إلى آخر يندمج فيه أو يتماهى به. إنّ هذا النموذج الذي لم يتّفق البتّة مع الواقع، يُعاد طرحه نتيجة عمليات الهجرة المُتعاقبة، ولكن أيضًا نتيجة النواعير (norias)، أي الانتقال الكثيف للأشخاص، الذي أسماه آلان تاريوس (Alain TARRIUS) «العولمة من الأسفل» (La mondialiastion par le bas) (وهوعنوان كتابه الذي نشرته دار «بالّان» Balland، باريس، 2003). إنّ التحليلات الكلاسيّة لا تهتمّ بالعبور (transit) الذي يمكن أن يستغرق عدّة أشهر، وحتى سنوات، وهي تُقاوم إلى حدّ كبير فكرة التعدّدية القومية (transnationalisme) التي يجري النقاش حولها منذ منتصف التسعينيات. تلعب عمليات الهجرة دورًا رئيسًا في تحولات الهويّات، سواء في المجتمعات المنعوتة بـ»المُضيفة»، وفي المجتمعات التي تعبرها، أوفي المجتعات الأصلية حيث تكون شديدة الوطأة على التغيير، وربما كان ذلك نتيجة إسهامها الاقتصادي – مثلًا: التحويلات المالية (remessas، remittances، remittances). تؤمّن شبكة الإنترنت والتلفون والتقنيات الرقمية والسينما عدّة اتصالات وتوصيلات بالشبكة تحتلّ الثقافة فيها مرتبة عظيمة كما بيّن ذلك عالِم الإناسة أرجون أبادوراي (Arjun APPADURAI). إنّ التعدّدية الثقافية، التي تقف في وجهها قواعد منطقية عالميّة (logiques globales) تتجاهل جزئيًّا على الأقلّ الحدود، قد لا تتكيّف وتكون عاجزة عن مواجهة رهانات عالمية أومُتعدّدة القوميات.
ثمّة ادّعاء بأنّ التعدّدية الثقافية هي، تحديدًا، عامل يقف وراء ميول معاصرة نحوإضعاف الدول-القومية، وأنها تؤدّي دورًا في الاتجاه نفسه، لكن من الداخل، ومن داخل الدول-القومية أيضًا – لقد تناولتْ كاترين أودار (Catherine AUDARD) هذا الموضوع: «إنّ التعدّدية الثقافية ]...[ تؤدّي إلى إضعاف الدولة-القومية وتأجيج الانقسامات وتهديد الإجماع الذي بدونه يبدو أنّ إعادة التوزيع والتماسك، في الديمقراطيات المعاصرة، لا تستطيع العمل» (Qu’est-ce que le libéralisme? Ethique، politique، société، Paris، Folio، 2009، p. 576). إنّ التعدّدية الثقافية، التي أضعفتها اليوم العولمة والطابع «العالمي» لِعمليات الهجرة، قد تصبح في الوقت عينه، بصورة مفارقة (paradoxalement)، عاملًا مُسهِمًا كتلك العمليات في إضعاف الدول-القومية. وثمة مفارَقة (paradoxe) إضافية تتمثّل في أنّ الذين ينقدون التعدّدية الثقافية من وجهة النظر هذه يمكن أن يكونوا ليبراليين، بالمعنى الأنغلو-ساكسوني للكلمة – الأمر الذي، كما أشارت كاترين أودار، يضعنا في مواجهة المشكلة التي هي، بالنسبة للفكر الليبرالي، مشكلة الوقوف على مسافةٍ إزاء إطار الدولة-القومية. مذْ ذاك، تلتحق نزعة ليبرالية بالنزعة القومية في ممارسة التعدّدية الثقافية، التي تُعبّر في النهاية عن الميول المعاصرة نحوالحداثة الفائقة وما بعد الحداثة.
إنّ التعددية الثقافية، وهذه مفارقة إضافية، يجب ألا تُجيب عن هذا النقد وحده، المزدوج، الذي يَقرنها بالقوى، التي تُدمّر أكثر مما تبني، للحداثة الأجدّ. يجب أيضًا على التعددية الثقافية أن تُقاتل على جبهة مقابلة حيث تُتّهم بأنها تُدافع في النهاية عن قيم تقليدية لصالح تجمّعات تَميل بالضرورة إلى الانطواء على ذاتها، وإلى تشجيع هيمنة الجماعة على الأشخاص –باختصار، إنّ التعدّدية الثقافية مُتّهمة أيضًا بنزعتها المُحافِظة، بل بأنّها تُمثّل إيديولوجيا رجعية ضدّ الحداثة.
6 – نحوحدْثنة (aggiornamento)
خلافًا لمقاربة مُختصرة، ينبغي ألّا تُقدَّم التعدّدية الثقافية بوصفها الواقع التعدّدي الثقافي لِمجتمعات معاصرة، وبوصفها «حدثا اجتماعيًا» (fait social) بتعبير كاترين أودار. لأنّ المجتمعات كلها، أوتقريبا كلّها، مُتعدّدة ثقافيًّا، لكنّ هذا لا يعني أنّها تحمل هذا المُعطى الحَدَثي في سياسة عامّة، وقوانين، وقانون، وأجهزة مؤسّساتية. بالنسبة لِما هوأفضل في التعدّدية الثقافية، وخلافًا للاتّهامات الأكثر سطحية، تهتمّ التعدّدية الثقافية لا بفصل الأقلّيات عن الأمة، بل بتنظيمها، ولا بالمقابلة بين العالميّ والخاصّ بل بالتوفيق بينهما. لكن، كما رأينا، تُواجه التعدّدية الثقافية صعوبات و«تحدّيات» بحسب تعبير كاترين أودار، تستلزم إحياء التفكير من الأساس للأخذ بعين الاعتبار الحقائق الأكثر واقعية.
الرهان الأول هوالانتهاء من الخيار غير المقبول بين عقبتين: إما العالمية (universalisme) المجردة، النافية للخصوصيات، أوالجماعاتية (communautarisme). لهذا، يُحتاج إلى تعدّدية معتدلة («ليبرالية» بحسب وِلْ كيمليكا (Will KYMILIKA)- لكن كلمة ليبرالي (liberal) بالفرنسية لا تعني الشيء نفسه بالإنگليزية) تتطلّب فئات تحضّها التعدّدية الثقافية على احترام القيم العالمية للقانون والعقل. من البديهي أنّ المطالبات التي تتأتّى من بعض الهويّات الجماعية يمكن ألّا تكون مقبولة من وجهة نظر القيم العالمية، وأن تصطدم بالعقل، وأن يكون بمقدورها أن تناقش في القانون. لكن في أغلب الأحيان، يُعمّم النقد ملاحظة كهذه، ويردّ كل ما يبدومُتعلّقًا بالتعدّدية الثقافية إلى الكثير من الهجمات ضدّ العقل والكوني. إنّ براهين كهذه تصلح لِبعض المهيمنين الذين لا يريدون سماع شيء غير وجهة نظرهم. إنّ هذا الأسلوب ليس بجديد في التاريخ، فهوقد سمح بحرمان النساء -اللواتي أُصِبْنَ بالهستيريا أوالمُشعوذات العاجزات في كل الأحوال عن إعمال العقل- من الحقوق الشرعية والامتيازاتن وحرمان الأطفال –الذين قد يعجزون عن التمييز- أوحرمان العمال -الذين قد يميلون إلى الفجور والتهاون-؛ وإن براهين ذلك الأسلوب قد سمحت بتعزيز سلطة الرجال والبالغين ورؤساء العمل. من المعلوم أنْ ليس كل شيء لا معقولًاً أوغريبًا عن القيم العالمية في المطالب التي صاغتها فئات يمكن أن تتعلّق بالتعدّدية الثقافية.
إن النتيجة المباشرة لهذه الملاحظة تتمثّل في أنّه يجب إعطاء معنًى دقيقٍ لفكرة «الحقوق الثقافية»: فالحقوق الثقافية يجب ألا تُسند إلا إلى أشخاص، لا إلى فئات وأقلّيات وجماعات، إلخ... إنّه لأمر مشروع أنْ نجعل ممكنًا أيَّ خيار فرديّ، وأن نسمح لأي فرد أن يكون سيد وجوده، وأن يتحكّم بتجربته، بما يشمل حقّه في أنْ يتقمّص هوية جماعية، وأن يتمكّن، بالتالي، من تبنّي خصائصها في ما يتعلّق بالثياب والغذاء والأخلاق، إلخ... لكن يمكن أنْ يكون خطيرًا أنْ نعهد بهذا الحق إلى مَن يحملون الهويات المَعنيّة. من وجهة النظر هذه، أتبنّى تحليل كاترين أودار التي أشارت إلى أنه، في ظروف مُعيّنة، يمكن إيجاد تلاؤم بين الحقوق الثقافية، الجماعية بالضرورة، والليبرالية (ص. 570).
ثمة رهان ثانٍ يقوم على حصْر فضاء التعدّدية الثقافية بحيث لا يجري خلْط جميع المشكلات وجميع التحدّيات التي تميل العبارة في أغلب الأحيان إلى جمعها. إنّ المسألة الدينية تُحيل أوّلًا إلى مبدأ آخر هومبدأ اللائكية؛ فيما تُحيل مسألة التمييز العرقي إلى صراع هوأيضًا خاصّ.
وهناك رهان ثالث له علاقة بفضاء الفعل. من الضروري إخراج التعدّدية الثقافية من الإطار الصارم للدولة-القومية، والتحرّر من «النزعة القومية المنهجوية» (nationalism méthologique) حسب تعبير أولريش باك (Ulrich BECK)، والتفكير «بصورة عالمية» (global). إنّ التعدّدية الثقافية تستدعي قواعد ومعايير وسياسات على عدّة مستويات، عالمي وإقليمي وقومي ومحلّي. إن التفكير بإمكانات إدراج التعدّدية الثقافية ضمن جميع هذه المستويات، وتنظيمها، يُمكّننا من السماح لها بالتكيّف مع العالم المعاصر.
ثمّةَ رهان رابع يتعلّق بالطابع المضطرب والمُتغيّر للمشكلات التي تُواجهها التعدّدية الثقافية. لهذا السبب من الضروري القبول بكون التعدّدية الثقافية هي أيضًا مَرِنة وتطورية، وذلك يمرّ بقبول مبدأين: مبدأ التجريب ومبدأ التقييم. إن التعدّدية الثقافية يجب أن تعتمد على التجارب والأخطاء، دون الحاجة إلى نسْخ نتائج تجربة محدودة بصورة آلية وحاسمة، ودون استبعاد العودة إلى خيارات، ومعايير، أيْ قانون. إنّ التقييم يجب أن يُفضي إلى انقطاع الجهاز، وإدخال تغييرات على القواعد.
إن التعدّدية الثقافية، بوصفها فلسفة سياسية، ولكن بوصفها سياسة أيضًا، قد فقدت بعض الميدان منذ التسعينات، خاصّة في الولايات المُتّحدة. انتقل البعض من مؤسّسيها إلى اهتمامات أخرى، ويسعى بعض القادمين الجدد إلى الجدل إلى المحافظة عليها أواستعادة روحها ويهتمّون على وجه الخصوص بفرضية «المواطنية العالمية المُتجذّرة» (cosmopolitisme enraciné) وبـ»أخلاق الهوية» –تلك هي فكرة كوام أنطوني أبيا (Kwame Anthony APPIAH) (The Ethics of Identity، Princeton University Press، 2005)- أو«أخلاق التنوّع» (éthique de la diversité) التي هي ليست ببعيدة جدًّا عنها، كما نرى ذلك مع آلان رونو(Alain RENAUT) (Un Humanisme de la diversité، Paris، Flammarion، 2009). إنّ مشروع توفيق المُتنافر والقيم العالمية والخصوصيات والليبرالية والفروق يبقى هدفًا واقعيًّا بشرط إعادة تحديد مفهوم التعدّدية الثقافية بالمعنى الذي أشيرَ إليه، مع الأخذ بعين الاعتبار عدة حقائق تُمثّل حقائق عالم اليوم.              

[1]*ـ مدير الأبحاث في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية (EHESS) ومدير مؤسّسة بيت علوم الإنسان - فرنسا
(Maison des Sciences de l'Homme).
ـ العنوان الأصلي: Le multiculturalisme: un concept à reconstruire.
ـ المصدر: raison-publique.fr/article222.html.
ـ ترجمة عماد أيوب. مراجعة: جمال عمار.