البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مارسيل غوشيه قارئاً عالم الميديا (ضرورة التفكّر بمجتمع وسائل الإعلام)

الباحث :  مارسيل غوشيه
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  1040
تحميل  ( 330.203 KB )
انطلاقاً من العمل المنجز في إطار نشر عددين من مجلة Le Débat (عددي 138 و139)، يقترح الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه تناول الميديا واجتياحاتها عالمَنا المعاصر بمنهجيه جديدة. فقد حدّد الأسئلة الأساسية التي تسمح بترقية إمكانية فهم فكرة «مجتمع وسائل الإعلام»، وعكف على تعميق استبيانين أو ثلاثة أساسية، للإحاطة بتأثير وسائل الإعلام في السياسة.

هل صحيح أنّ «السلطة الرابعة» تقدّمت على السلطات الأخرى؟ ما طبيعة هذه السلطة؟ كيف تكيّف الطاقم السياسي، مع هذه البيئة الجديدة،  أليست الحقيقة، أن وسائل الإعلام، تمارس تأثيراتها السياسية، الأكثر عمقاً، من خلال برامج التسلية؟ ألم يحن الوقت، لتقييم مدى تأثير الكلام العام، الذي ينقله الطيف الإعلامي؟

هذه الأسئلة يجيب عنها مارسيل غوشيه في هذه المطالعة.  

المحرر

-----------------------------------------------------

إنني هنا، في وضعية غير عادية قليلاً، لأنني سأعبّر عن رأيي، ليس بوصفي مؤلفاً فحسب، ولكن أيضاً بوصفي ناشراً لمجلة Le Débat، التي خصَّصت عددين لوسائل الإعلام، تحت هذا العنوان «التفكّر بمجتمع وسائل الإعلام» الذي اخترنا أن نستعيده في المؤتمر الراهن. 

هذا هو البرنامج، الذي أريد أن أعلنه وأوضّحه، لن أتكلم بوصفي اختصاصياً، لن أناقش أبداً، لن أقول شيئاً عن الأسئلة التي لست أهلاً لها، ولكنني سأحاول جهدي أن أستخلص الرهانات العامة، الإشكالية التي يعرف الجميع أهميتها. 

سأنطلق من ملاحظة أوليّة، متعلّقة بفكرة مجتمع وسائل الإعلام، لقد اخترناها عمداً، وإذا تكلمت بصيغة الجمع، فذلك لأنني أتكلم على المجموعة الصغيرة، التي تمثّل هيئة تحرير مجلة Le Débat ـ لحياديتها البيانية، مفضّلةً على عدة أفكار ممكنة، أفكاراً تحمل جميعاً، ضرر نقل افتراضات مسبقة وقوية، مثل «مجتمع الإعلام»، الفكرة الأكثر انتشاراً في أيامنا الراهنة، «مجتمع التواصل» أو أيضاً «مجتمع الشبكات» عنوان كتاب مهم لـ مانويل كاستيل Manuel Castells عن الموضوع واستعراضه باختصار، ليس أمراً دون فائدة2. 

مفردات لغة 

إن فكرة «الإعلام» تحدث لبساً، بشكل عام، بين القيمة العادية للإعلام، الإعلام بالمعنى العادي، الصحفي، ونظرية الإعلام بالمعنى الذي قصدته كلود شانون Claude Shannon. الالتباس3 موجود في «مجتمع الإعلام» الذي يركّز على الطبيعة البانية للسرعة، و على تعدد مصادر المعارف، التي نأخذها من العالم المحيط. إنها تستدعي عالم التزامن الجديد، حيث كل شيء يُعرف في الحال، في زمن حقيقي (قياسي) كما يُقال. وهذا لا يصحّ فقط بالنسبة للإعلام (الأخبار) بالمعنى الصحفي، وإنما أيضاً يصحّ، بالنسبة للمعارف بالمعنى العلمي، من حيث تتواصل فكرة مجتمع الإعلام مع كل مجموعة الأفكار الملحقة، التي تشهد اليوم نجاحاً كبيراً: اقتصاد العلم، اقتصاد المعرفة، اقتصاد الإدراك Cognitive. من هذا المنظور، تشمل وسائل الإعلام، كل ما اصطلح على تسميته تقانات (تكنولوجيات) الإعلام والتواصل، والمسألة تكمن في معرفة، إذا ما كانت خصوصية وسائل الإعلام، تتفكّك في هذا الركام التقني. 

 مجتمع الشبكات يركّز على الشكل الجديد للعلاقات الاجتماعية، التي تُمليها أو تفرضها تقنيات الإعلام والتواصل الجديدة. إنها تلحّ ضمناً، على أفقية العلاقات الاجتماعية المرتبطة بهذه التقنيات على لا محدوديتها ما بين ـ فردية ـ الشبكات، وهي من حيث التعريف مفتوحة، من دون حدود سواء كانت هذه الحدود جغرافية، أو اجتماعية أو تراتبية داخل هذه الشبكات. 

إننا، بالتأكيد، نستطيع تعميق هذا التفحّص. أريد بالتحديد، إشعار الآخرين، بالحد الذي تبلغه، أهمية الكلمات، في هذا المجال، وكم هي مهمة السيطرة على المعاني الضمنية، التي تنقلها، إذا ما أردنا فهمها بوضوح، مع العلم أنّ ثمة كثيراً من الأشياء المفيدة والصحيحة في هذه المعاني الضمنية، ولكنها أشياء يقتضي بالتحديد مساءلتها واستيعابها. 

بث الرسائل 

“إن مجتمع الإعلام”  ـ بعودتنا إلى الفكرة التي اخترناها ـ يملك الأفضلية، في تحرير الذهن، من هذه التصورات، مع الإشارة إلى أن ما يبدو، إجمالاً، الأكثر أهمية: خصوصية الواقعة الإعلامية، داخل هذا الركام من تقنيات الإعلام والتواصل الجديدة، خصوصية النشاط، الذي يصرّ على إرسال رسائل لمتناوَل الجمهور، في حين أنك، عندما تقوم بالتواصل عبر هاتفك المحمول فإنما ترسل رسالة لمتناوِل خاص. 

ندخل إلى ميدان وسائل الإعلام، إذ نرسل رسالة استهدافها عام، أي إنها موجّهة افتراضياً لكل الناس، حتى  لو لم يتلقها إلا عدد محدود جداً، ومن حيث المبدأ، يمكن أن يفهمها أيّ كان. وسواء أرسلت الدولة هذه الرسائل، أو كان مصدرها  المؤسسات الخاصة، التي تبغي من خلالها الربح، المنفعة الماديّة، المنفعة التجارية أو الفائدة المعنوية والدعائية ـ فالظاهرة تبقى هي نفسها، والتحديد الأخير المهم: هذه الرسائل ذات الاستهداف العام، يمكن أن تكون رسائل إعلام أو رسائل للتسلية. 

فكرة وسائل الإعلام هذه هي حديثة في استخدامها الشائع: برزت مع التلفاز، والمؤلف الأول الذي كرّسها حقاً، المنسي اليوم، عن غير وجه حق، والذي يُستفاد دائماً من قراءته، هو مكلوهان Mcluhan. هذه الكلمة العلمية انتشرت في الاستخدام الشائع، بمقتضى ظاهرة محدّدة، توافقت مع مرحلة، من حياة وسائل الإعلام، عملت على إنشاء نسق، على إقامة دائرة وحيدة، تحت سلطان الوسيلة الأقوى، التي هي، بالتأكيد، التلفاز. 

لقد استمرت، الصحف، والإذاعة، والتلفاز مدة طويلة، في مجالات مستقلة نسبياً، ثم في لحظة معينة، حصل تكامل، انعكاس بين وسيلة وأخرى من الوسائل الكبيرة. وسائل الإعلام تعمل، اليوم، بنسق، بحسب دارة حيث أن الصحيفة المكتوبة الصباحية، أو في مرحلة ما بعد الظهر، تجد لها، ارتداداً من خلال جريدة التلفاز المسائية، التي تشكل، جدول أعمال الإذاعات في اليوم التالي، وهكذا دواليك. إنها ظاهرة مدهشة جداً لإسهاب الكلام المتبادل حيث مختلف الخطوط يردّ بعضها على بعضها الآخر. وبمقتضى نسق الإعلام هذا فرضت كلمة إعلام4 نفسها في الحياة الاجتماعية. هذا التكامل لمختلف وسائل الإعلام، فيما بينها، يمتلك اليوم، أداته التقنية، مع الإنترنت، الذي أدخل كامل الكتابات، والصور، والأصوات، في العلبة نفسها والمسار نفسه مع تأثيرات ينبغي استنطاقها. 

ما الذي ينبغي تفكّره، على وجه الخصوص، في مجتمع الإعلام؟ من البديهي أننا لا نستطيع بصدد هذا السؤال، إلّا أن نلاقي الحدس، الذي تترجمه مختلف الأفكار التي أثرتها: الإعلام يقولب مجتمعه، يُثقل على وظيفته، يحدّد أنماط وجوده، أو على أي حال، يحدد قسماً متنامياً منها، ولكن بماذا؟ كيف؟ وإلى أي حد؟ هذه هي المسألة كاملة. 

السؤال ليس جديداً، لقد سمعتم من قبل، كلاماً كثيراً بصدده. وإنما ما هو جديد، هو الطريقة التي يُثار بها. ولهذا السبب، يبدو لنا، من المفيد، استعادة المسألة مجدّداً، بنضارتها، من أساسها، بتواضع وبمنهجية، عاملين على وضع جردة، لهذه الكلمات الجديدة التي تَمْثلُ فيها. 

ولتحديد هذه الجدّة، بالطريقة الأكثر عمومية، يمكن أن نقول، إنه كان ثمة مرحلتان طويلتان، لدراسة وسائل الإعلام والتفكّر فيها، وبأننا ندخل في مرحلة ثالثة. 

اختراع وسائل إعلام الجماهير 

المرحلة الأولى، توافق ما يمكن تسميته بزمن الشمولية: 

من شروطها الأساسية هجمة لسياسة الجماهير واختراع وسائل إعلام الجماهير، وكل هذه الظاهرات كانت مترابطة. 

من وجهة نظر التواصل، كان يسودها نموذج، يتلخّص بكلمة واحدة، هي الدعاية (البروباغندا). وإذا كان ينبغي، ذكر كتاب واحد فقط، يلخص على نحو ممتاز، روحية هذه المرحلة، سيكون المؤلف المشهور لـ تشاكوتين Tchakotine الذي يعود لثلاثينيات القرن الماضي، وعنوانه: اغتصاب العامّة بالدعاية السياسية Le viol des foules par la propagande politique حيث يحتوي الشرح وحده برنامج عمل. وبعد ذلك امتد النموذج، فالتوترات القصوى انهالت خلال السنوات ما بين 1950 و1960، ومعها مفردات جذر نموذج paradigme التأثير. استمر السؤال فعلاً، خلال هذه المرحلة، سؤال تعبئة العقول التي تستطيع وسائل الإعلام القيام بها. ،استعرضنا الدراسات، التي لا تحصى، والتي أثارت هذا الموضوع، فمن الصعوبة بمكان، التحقّق من أنها توصّلت إلى استنتاج سلبي. ليس لوسائل الإعلام هذه السلطة السحرية، التي محضناها إياها، باقتحامها العقول وقولبتها. ذلك أن المواد، موضوع التعبئة، هي أكثر مقاومة بكثير مما كنا نعتقد.         وبالمقابل، فإن الوظيفة الحقيقية، التي يمكن أن نعترف بها، لوسائل الإعلام، في المجال العام، هي تحديد جدول الأعمال الجماعي ـ ثمة توافق واسع، للاختصاصيين حول هذه النقطة، إنهم لا يقولون للمواطنين، وللأشخاص ما ينبغي عليهم، التفكير فيه، ولكنهم يقيمون تراتبية للمسائل، يميّزون ما هو مهم، وما هو غير مهم، وما هو في المخطّط الأوّل، وما هو في المخطّط الثاني، إنهم يضعون قواعد لحالات الطوارئ، التي هي في ذاتها إخضاع كبير للعمل العام. يمكن أن نعتقد أن مسألة معينة هي موضوعياً شديدة الأهمية، ولكن في الواقع، على أي مسؤول، على أيّ درجة كان، أن يبدأ بالدرجة الأولى، بمناقشة الملف الذي يفرضه عليه، جدول الأعمال الإعلامي كأولوية. 

صناعة الرابط الاجتماعي 

المرحلة الثانية، التي يمكن أن نرجعها إلى السنوات 1970 ـ 1980 توافق دخول الديمقراطية في الأعراف الاجتماعية، إنها ترافق ما أُطلق عليه علماء السياسة، الموجة الثالثة للديمقراطية: الأولى هي تلك التي تلت الحرب العالمية الأولى، الثانية هي التي تلت الحرب العالمية الثانية، والثالثة هي التي بدأت في العام 1970مع ثورة القرنفل، في البرتغال، والتي وضعت حداً للديكتاتوريات في جنوب أوروبا ـ بقايا الفاشية في اليونان وإسبانيا والبرتغال ـ وامتدّت إلى أميركا اللاتينية حيث أطاحت بالأنظمة العسكرية، ووصلت إلى بلدان الاشتراكية الحقيقية، في أوروبا مع التأثيرات التي نعرفها. 

كان النموذج السائد إبّان المرحلة الثانية لدراسة وسائل الإعلام هو نموذج التواصل. وما استحوذ على الاهتمام كله، هو دور وسائل الإعلام، بوصفه صانعاً للرابط الاجتماعي، وبدلاً من علاقة فرض الدعاية التي تمّ التركيز عليها، في المرحلة السابقة، والتي كانت قد أوحت، على سبيل المثال، بكل الدراسات حول الدعاية، عكفنا على مساءلة التفاعل بين نسق العرض والطلب، للجمهور، وهو نموذج مختلف بعمق. كان حينذاك زمن الاعتراف الكبير بالرأي في السياسة، وذلك مع وصول فكرة إشكالية ديمقراطية الرأي، مع الانحرافات والصعوبات، التي أشارت إليها.  

ولنذهب سريعاً (لا أقصد عرض تاريخ، عن الدراسات حول وسائل الإعلام، إنما أريد بالضبط إثارة بعض الأسئلة)، يبدو لي أننا خرجنا، من تشاؤمية النموذج الأول، الذي يركّز على القدرة التعبوية للدعاية (البروباغندا)، أو على قدرة تأثير وسائل الإعلام، كما من تفاؤلية النموذج الثاني، إذ كان يُعترف بوسائل الإعلام، كأداة اجتماعية في خدمة الديمقراطية، في مختلف معانيها. إننا، اليوم، في لحظة يجبر فيها، تطور الظاهرة نفسها، النظر إلى الأشياء بعين مختلفة، إننا مدفوعون، إلى إعادة، تقييم دور وسائل الإعلام، في الحياة الاجتماعية، التي لم يعد أي شخص يستطيع تجاهل، أنها أصبحت جهازاً مركزياً. وذلك سيقاس بسهولة بأموال موظّفة وبوقت مكرّس. ولكن كيف يعمل بالضبط هذا الجهاز؟ 

لا يوجد، اليوم، خطابات جدّية، حول المجتمع كما نعرفه، من دون تقييم الوظيفة التي تشغلها وسائل الإعلام داخله. إن ذلك أحد المقاييس التي، انطلاقاً منها، نستطيع القول، إننا في زمن سوسيولوجي جديد: إن النظريات عن المجتمع، من دون نظرية عن وسائل الإعلام، اليوم، تفتقد بوضوح عنصراً مفتاحاً لعمل المجتمع. إن النظريات التقليدية تملك النزر اليسير لتقوله حول الموضوع، كما نعلم. ولكن في الوقت عينه، تبدو طبيعة وظيفة وسائل الإعلام هذه، صعبة جداً على الفهم، إنها اليوم، أكثر غموضاً من أي وقت مضى، فإذا كان الدور شاملاً، فإن الوظيفة صفيقة. 

نستطيع منذ البداية، استبعاد بعض الأفكار المحفوظة، ليست وسائل الإعلام المحطة الواضحة المعالم للإيديولوجية السائدة، ليست أداة دكتاتورية السلعة، ولا أفيون الشعب الجديد، ولا آلة لإفساد عقول الجماهير. إن أحد التطورات المهمة، للمرحلة الأخيرة، هي إعادة تقييم ثقافة الجمهور، لقد كان لديه صحافة سيئة جداً: النظرة الجديدة، ترى مستواها إلى ارتفاع. الخطاب التهويلي، أن إمبراطوريتها تراجعت إلى حدٍ كبير جداً. وسائل الإعلام، ليست في الاتجاه الآخر، الآلة التي تعبّر عن حلم الشفافية الديمقراطية، والتفاعل بين القاعدة والقمة، المقدّر لها أن تقارب بين المحكومين والحاكمين، بين الشعب وممثّليه.. المتحمسون لا يقنعون عالماً واسعاً، إذ يقدّمون وسائل الإعلام، كما لو كانت قمة، فيما يمكن أن نتخيّله، في مجال التبادل الشامل بين الأفراد. 

إذا كان ينبغي، في هذا الموقف، اقتراح فكرة مؤلِّفة (من إلفة) ، فإنني أختار فكرة الثقافة الإعلامية، هذا هو الدرس الذي استخلصته من العمل، الذي أنجزناه، لبناء عددي مجلة Le Débat و من اتصالات من شتّى الأنواع، مع مهنيي المجال، واختصاصيي المسألة، التي كشفوها أمامي. 

هذه هي الفرضية، التي أُردت تحرّيها، وسائل الإعلام هي مخلوقات ثقافات، ثقافات تتداخل فيما بينها، (ليس المقصود أن أنسب لها الحصرية، أو أيّ استئثار في هذا المجال). 

تضيف وسائل الإعلام، إلى الثقافات الموجودة، من قبل، جداول من المطالعة والثقافات، أي بالمعنى القديم والتقليدي، عادات عقلية مؤسسة على قيم، وعلى أنساق من المعايير والتقييم. إنها تضع قيد التداول، أنماطا لكشف الحقيقة: إنها تشجّع مواقف، وتدخل تطلّعات، وتقترح نماذج سلوكات يتّسع تواترها، ومكانها داخل مجتمعاتنا. 

لتوضيح ما قصدته، سأستعرض، بادئ الأمر، وبسرعة بعضاً من هذه الثقافات التي خلقتها وسائل الإعلام على وجه التحديد. بعد ذلك، سأعود بشكل أكثر إطالة، في ضوء ذلك، إلى تأثير وسائل الإعلام في الحياة السياسية. 

ثقافات تحثّ عليها وسائل الإعلام 

سأعطي الأفضلية لثلاثٍ، من هذه الثقافات، أو ما دون ـ الثقافات (التعبير ينطوي على شيء من التحقير) التي هي، على علاقة مباشرة، مع المجال السياسي، وسأترك جانباً، ما يشكل بطريقة ما، الجزء الأكبر، لتحليل الانعكاسات الثقافية لوسائل الإعلام: تحليل الثقافة الجديدة للصورة، التي فرضت نفسها، في اقتفاء عالم التلفزة، والتي تخصّ، اليوم، كل سجل من سجلات التجربة، سواء تعلّق الأمر، بعلاقة كلٍّ منها، بصورته الخاصة، وهذه ظاهرة، أصبحت على أهمية قصوى أو بمن يؤمن بالحياة الجماعية، أو كان الأمر يتعلّق بموقع الكتابة في عالمنا، الكتابة، هي، بالفعل صورة من نوع خاص، تقيم مع الصورة، بمعناها الشائع، علاقات ملتبسة، تطورت كثيراً في المرحلة الراهنة. 

الكتاب الأكثر إيحاءً، الذي نستطيع قراءته في هذا المجال هو بالتأكيد بحث ريجيس ديبري Regis Debray، «موت الصورة وحياتها» Vie et mort de l’image الفكرة الرئيسة للكتاب، هي أن الانتصار الظاهر للصورة، يخفي في الواقع، عدم أهلية الصورة، أو هبوط مستواها، الناتج من وفرتها نفسها، والمثل الضمني، الذي يعتمد عليه ريجيس ديبري، هو تهميش الصورة السينمائية، من خلال الصورة المتلفزة، وهو بذلك ينطوي في خط التفكير، لناقد السينما، الذي لعب دوراً كبيراً، في الحياة الثقافية، خلال السنوات العشرين الأخيرة، وهو سيرج داني Serge Daney. إنني أعتقد أنّ هذه المقولة، غير صحيحة: لا أعتقد، أننا شاهدنا موت الصورة، أو هبوط مستواها، ولكننا بالتأكيد، نشاهد إعادة تشكيل جذرية لمكانتها، ودورها، سأشير إلى مزيتين لألحظ جدّة هذه المكانة وهذا الدور. 

الصورة القديمة، التقليدية، كانت ذاكرة. وكانت الصورة معدّة لتحفر في العقول، أكثر بالتأكيد من أية مرسلة كلامية، إننا لا نستطيع، حفظ ما سمعناه، ولكننا نتذكر ما رأيناه. وفي نظام الصورة الجديد، الأمر معكوس، الصورة تُكوّن لتطرد صورة أخرى. إننا إزاء دفقٍ من الصور، حيث لا تتّضح أية واحدة منها. مملكة الصورة، هي مملكة حاضر يتجدّد، من دون انقطاع، ويتسبب بالنسيان، إن لم يكن بفقدان الذاكرة. 

الصورة القديمة بحسب المزية الثانية، كانت تنتشر تحت تأثير ثبات المفتاح (الكود)، واستدامة الرموز. لقد كانت تستدعي، على نحو مثالي، إجماع التفسير، وكان المثل المناسب مثل الكاتدرائية، حيث الصور تآلف بين المتعلمين وغير المتعلمين، وفي النظام الجديد للصورة، كان على العكس، يسود تعدّد المعاني للكلمة الواحدة، التي لا يمكن القبض عليها: لا أحد يستطيع أن يتوقّع ما سيكون مقروءاً في الصور. إنني أشير إلى هذه النقطة، لأنها تحدّد بالضبط، حدود أي استراتيجية تواصل، كما أي محاولة تعبئة. الصورة هي ما يفلت من الذي ينتجها، إنها تفرض العيش، مع هذا اللايقين. نستطيع عند الاقتضاء، تصحيح صورة بصورة أخرى، نعتقد أننا نتحكّم بها، ولكن المساق لا نهاية له. 

وفيما يتعدى هذه التوضيحات المختصرة، سأترك المسألة جانباً، لأنها مفرطة الاتساع، وتستدعي بذاتها عرضاً، لا أحسّ أن لديّ، الكفاءة الخاصة للقيام به، ومن المؤكد، أنّ ذلك هو أحد ورش أبحاث العقود القادمة، مع مشكلة أخرى ملحقة: أي شيء صار المخيال، في الثقافة الجديدة للصورة؟ هل ما زال ثمة مخيال، خارج هذا الاستغراق في الصورة؟ نستطيع إثارة السؤال. 

سأجتهد، في المقابل، أن أكون أكثر دقّةً، فيما يتعلّق بثلاث ثقافات، أو ما دون-الثقافات التي تتدخل مباشرة، في المجالين المدني والسياسي، سأميّز فيما بينها، في التحليل، ومن الطبيعي أن كل شيء، هو على علاقة مع كل شيء، في هذا المجال ولكن من أجل وضوح الغاية، من الأفضل تمييز واحدها من الآخر. 

ثقافة المشاهد 

الثقافة الأولى، التي سأذكرها، يمكن أن تُدعى ثقافة المشاهد. كان حتى وقت قريب، الاستعلام والتسلية يقتضيان القيام بنشاط: كان يجب طلب ذلك، وكان هذا النشاط عاماً. إذا بقينا في المنزل، لا نكون على علم، بما يجري، ولا نتسلّى كثيراً. لنستعلم أو لنتسلّى. كان يجب أن نتفلّت من عالمنا الخاص، وأن نتشارك مع آخرين، مشروعاً تمّت مناقشته. لقد أصبحنا شهوداً، لانقلاب كامل في هذا المجال. الأخبار تأتي إلينا وكذلك التسلية، من دون ترك المنزل. وسهولة الوصول إلى المعلومات، كما إلى التسلية، لا تكفّ عن الاتساع، إن محبّاً للسينما، اليوم، يستطيع مشاهدة ثلاثة أفلام، في منزله، في الليلة نفسها، في حين أنه كان فيما مضى، ينتقل كي يراها. هذا أصبح نشاطاً جماهيرياً عادياً تماماً. لا أحد بحاجة ليلتزم، أو يتشارك مع آخرين من أجل ذلك. 

انطلاقاً من هذا العرض، نما موقف مميز للفرد المعاصر: عدم الالتزام، وعدم التشارك لا يحتاج المرء لمشاركة أحد، ليكون على علم بما يجري، وليكون حاضراً في عالمه. أتكلم على ثقافة المشاهد، لأن في هذا الموقف، تتضح أفضلية وجهة نظر الشاهد، بالمقارنة مع وجهة نظر الفاعل. الفائدة في السياسة، يمكن أن تتضح مثلاً، من حقيقة، متابعة حملة انتخابية، دون الذهاب للاقتراع. هذا يشكل مفاجأة، للذين درسوا الممتنعين عن التصويت، في المرحلة الجديدة، باكتشافهم، على نقيض كل جداول التحليل، أن عدداً لا بأس، به، من هؤلاء، لديهم فائض من المعلومات، وهم على علم بما يجري، ولكن ليس لديهم الرغبة في الاقتراع. إنهم يفضّلون مشاهدة ما يجري، ويحلّلون. إن ابتعاد المشاهد، أصبح سلوكاً جماهيرياً، يزداد اتساعاً، وانطلاقاً من ذلك، نستطيع أن نفهم مكانة ثقافة التسلية، التي تشكل حالةً قصوى، لظاهرة ثقافة المشاهد، لأن من وجهة نظر المشاهد، كل شيء يمكن أن يصير تسلية. ويمكن أن تجد حملة انتخابية، على التلفاز، أكثر تسليةً، من تلك التي تقدّم لك كمشاهد في الخارج، دونما الخروج من المنزل. 

 وبشكل عام، إن الدراسات عن عالم وسائل الإعلام، تعطي أهمية خاصة للإعلام، وتركّز على قطاعه العام. وعليه، فإن الجوهري في الاستهلاك الإعلامي، لم يعد هنا، اليوم، إنه إلى جانب التسلية، وفي هذا الاستهلاك، تتشكل النماذج، الأكثر أهمية، للحضور في العالم، إلى حد أنه، لم يعد الكثير من الأفراد، يتزودون بالمعلومات، انطلاقاً من البرامج الإخبارية، كما بيّنت دراسة حديثة، إنها تنشئ معلومات تحكم بصدقيتها، من خلال مختلف برامج التسلية، ومن هنا، تستخلص المعلومات، التي تقدّر أنها الأكثر صلاحية، لاستخدامها في الحياة اليوميّة. 

الثقافة المجانية 

الثقافة الثانية التي تستحق التفحّص، هي الثقافة المجّانية: كانت المعلومات والتسليات، حتى وقت قريب، سلعاً نادرة وغالية، ولكن عالم وسائل الإعلام المعاصرة، جعلها وافرة ومجّانيّة من وجهة نظر المتلقي، وعليه، إن المعلومات في الحقيقة، تبقى سلعاً نادرة، ويبقى إنتاجها غالياً كما التسلية. وهذا لا يمنع، أنّ من وجهة نظر المشاهد، أصبح الوصول المجاني إليها، نموذجياً بشكل خاص، بنظر الأجيال الفتيّة، إنّه يمثّل توقّعاً اجتماعياً في غاية الانتشار، مع كل أنواع المشكلات مع حلولها ـ لقد بدأنا التحقّق من ذلك، مع النقاشات حول الشحن من بعيد للأنترنت، أو مشكلات الترخيص الشامل، وكذلك أيضاً مع انتشار الصحافة المجانية، الظاهرة الكبيرة في السنين الأخيرة. 

إذا كان ثمة مشكلة، ذلك لأن المجانيّة، هي بالتأكيد طُعم من الناحية الاقتصادية، ما يقدّم مجّاناً وفي الواقع كلفته باهظة، يُدفع ثمنه بطرق أخرى، الإعلان الدعائي يتكفّل الأمر، خالقاً وهماً لدى الناشط الاجتماعي، ينبغي أن نرى فيه وهماً نموذجياً، الأشخاص أنفسهم، الذين يحتجّون ضد الدعاية يطالبون مع ذلك، بتوسيع عالم السلع المجّانية. 

الدعاية لا تُدخِل تطلباتها فقط، وإنما أيضاً عقلها. دور الدعاية الأكثر أهمية، في وسائل إعلام اليوم من المحتمل أنه يكمن في نماذج مستهدفيها، الذين تعرضها عليهم، وتدفعهم لتلبيتها. لقد صُمِّمت للتأثير في أكبر عدد منهم. عليه وسائل الإعلام، هي نفسها أيضاً، تستهدف أكبر عدد ممكن من تلك النماذج، لتستفيد، بالتحديد، إلى أقصى حد، من الوصفة الدعائية. ومن الطبيعي، أنها تفعل ذلك، لتدخل مرسلاتها الخاصة، في فلسفة المرسلات الدعائية. إن المضمون المقدّم مجّاناً، ليس أيّ مضمون كان. 

ليس ثمّة موضوع أكثر أهمية، في المستقبل من الشيء الدعائي، لن يكون مسألة بسيطة، إفهام المواطن المستهلك، أنّ ما هو مجّاني، يحظى مع ذلك، بذوق جماعي مرموق. ثمّة، هنا خميرة للاّتسييس وللارتهان المعارض، الذي لم يكن يُشعر تأثيراته، نستطيع أن نضع، عدم الفهم بين المسؤولين الذين يدفعون ثمناً، والمستهلكين، الذين يطلبون المجانية، من بين مواضيع المستقبل. 

ثقافة التجاور 

الثقافة الثالثة، التي سأدرسها، ثقافة التجاورالتي تُشرك أيضاً بشكل أكثر مباشرةً مستقبل السياسة. 

إن قوة الصورة المتلفزة التي لا شبيه لها هي إرساء وساطة، ليس لها مظهر الوساطة، وساطة لا تُرى، إلى حدّ تترك لدينا، انطباعاً أنها شفّافة، إنّ في ذلك طُعماً. ولا حاجة للإلحاح في ذلك: الصورة المتلفزة هي موضوع إخراج، وإنتاج واختيار. لا بدّ، من عمل ضخم على الصورة لتترك انطباعاً، أنّها طبيعية ومباشرة. 

هذه الوساطة غير المرئية، خلقت دائماً، لدى الأفراد المواطنين، نسق اعتقادات، وتوقّعات حيال أشخاص القطاع العام، أيّاً كانوا سياسيين أو غير سياسيين، طلب علاقة شخصية ومباشرة، وتطلّب علاقة دونما وساطة، آلت إلى إنشاء نماذج أعيد بمقتضاها، تعريف المرسلة السياسية بعمق. فضلاً عن ذلك، توقّف الكلام عن الدعاية السياسية: أصبحت الكلمة بذيئة تقريباً، لم يعد ثمة مجال، إلا للتواصل السياسي، الذي أصبح نموذجه المثالي، تواصلاً ما بين شخصي. 

لقد ركّزنا كثيراً، على الشخصنة في الحياة السياسية، التي نتجت منه، مع كل تأثيراتها المنحرفة. إنني أريد أن أنوّه، ببعدٍ نلمحه قليلاً وهو ردّ الفعل المباشر عليه. نحن هنا، عند مصدر سوء الفهم الكبير، الذي ينتشر بين رجال السياسة والمواطنين، بين الممثِّلين والممثَّلين بين القادة والمقادين، سوء الفهم هذا، يتشكل بمظهر مفارقة، كلما ازداد ظهور السياسيين قرباً في الصورة وسهل الوصول إليهم «مثل كل الناس»، ازداد اعتبار المواطنين، لهم بعيدين، عن همومهم، وازدادت شكواهم من عدم الإصغاء لهم وسماعهم. ذلك أن التجاور مُخادع، لأن الموضوع السياسي، جوهرياً، غريب عن العلاقة المباشرة، بين شخص وآخر، السياسة تعالج ما هو مشترك، بين الجميع، موضوع السياسة، من حيث التعريف، بعيد بل بعيد جداً، هو هموم كل فرد من الناس، كلّما أظهر المسؤولون السياسيون قرباً من الناس، ظهرت السياسة، التي يتعهدونها بعيدة عنهم. السياسة هي التي ينبغي جعلها قريبة من الناس، إذا أردنا معالجة شعورهم بالحرمان وليس الذين يعتنقونها. 

تأثير وسائل الإعلام في السياسة 

وصلت إلى النقطة الثانية، التي كنت قد أعلنت عنها: تأثير وسائل الإعلام في السياسة، سأدرسها من زاويتين، الأولى تنظر بالحري، إلى الحاضر والأخرى إلى المستقبل، وسأعاين بدايةً، تحوّلات السلطة ـ المضادة التي تمثّلها وسائل الإعلام، وسأتفحّص بالتالي، تشظّي الفضاء العام، الذي يبدو، واقعاً تحت تحريضها، وفي ذلك ميل جنيني، ولكن يمكن أن يصير، انطلاقاً من الإنترنت، إحدى المشكلات الأساسية، لعمل الديمقراطيات. 

 ليس من قبيل الصدفة أن كلمة «سلطة”، تصل اليوم إلى طاولة التداول، ما إن نلفظ كلمتي «وسائل الإعلام». ما إن تقول وسائل إعلام حتّى يتبادر إلى الذهن «سلطة وسائل الإعلام». إنها ذات قيمة أكيدة في بورصة الإدانة. إذا أردت أن تكسب مجموعة صغيرة من الناس، ما عليك سوى إدانة سلطة وسائل الإعلام. 

في الحقيقة إذا نظرت إليها عن كثب، تبدو هذه السلطة، عصيّة على الفهم، سألخّص المسألة باقتراحين: 

1 ـ وسائل الإعلام لديها سلطة، أو لأكون دقيقاً تماماً ،هي تمارس تأثيرات السلطة. 

2 ـ وسائل الإعلام ليست سلطة. ومن السهولة بمكان، أن نقيس ذلك، على قاعدة أربعة معايير بسيطة. 

ـ إنّها لا تصدر عن الدستور: سلطتها تُمارس على نحو غير رسمي. 

 ـ هي متعدّدة ومبعثرة، في حين أن السلطات، من حيث التعريف، مركّزة ويمكن تعريفها. 

ـ القسم الأكبر منها الآن، ملك القطاع الخاص، ويخضع لمنطق الشركة والربح، حتى لو لم يكن ذلك، الهدف الحصري للذين يمتلكونها. 

ـ أخيراً، ليس لوسائل الإعلام، القدرة على الالتزام، في حين أنّ ذلك ما يعرّف «السلطات» بالمعنى السياسي، إنها تحتكر العنف الشرعي، القدرة على احتجاز الأشخاص وإخضاعهم، بوضعهم في السجن على سبيل المثال.. وسائل الإعلام لا تمتلك هذه الوسيلة. تستطيع أن تدمّر سمعة، وهي بذلك، تذهب بعيداً جداً ولكن هذا شيء مختلف. 

وسائل الإعلام تمتلك سلطة، إنها ليست سلطة 

هذه هي المشكلة، التي حاولت، فكرة السلطة المواجهة contre pouvoir حلّها، تقليدياً، إنها بالفعل تجيب جيداً على ضلعي المسألة. وسائل الإعلام تمارس سلطةً، لأنها تستطيع عرقلة السلطات، ولكنها ليست سلطة، لأنها لا تُعرَّف إلا بالسلب، بالنسبة لسلطات، تأسست بالإيجاب. وسائل الإعلام هي سلطة مواجهة contre pouvoir، وُجِدت لضبط السلطات، وببساطة من خلال الإعلان، عن ممارساتها وانحرافاتها المحتملة، وذلك يسمح للمواطنين، بأن يكونوا في وضع معاقبتها انتخابياً. وبكلام آخر، وسائل الإعلام هي سلطة مواجهة، بقدرتها على المراقبة، التي تعطي المواطنين وسائلها. 

نعلم جيداً أنّ هذه الصيغة التقليدية، لا تكفي ـ وهذا لا يعني أنها غير صالحة: أنها لا تسمح بالقبض، على كل جوانب المسألة. ثمة شيء آخر، وأكثر من السلطة ـ المواجهة هذه، في وسائل الإعلام المعاصرة ـ ومنه هذا الهوس بهذه السلطة الإعلامية، العصية على الفهم، التي تسكن الوعي اليوم. 

ينبغي الكلام برأيي، على توسّع السلطة ـ المواجهة وتحولها، التي جعلت منها ما اقترح تسميته، لفقدان تعبير أفضل، ميتا ـ سلطة، سلطة ما ـ فوق وما ـ وراء السلطات السياسية، وهي من طبيعة أخرى. هذه الميتا ـ سلطة لا تحلّ محلّها، فضلاً عن ذلك، لا تقول لها ماذا عليها أن تفعل، ولا تأمرها. 

تتركها سليمة، بمعنى ما، ولكنها تحدّد ممارستها، وتضعها تحت صفعة المحاكمة. هذه الميتا ـ سلطة هي أكثر من سلطة مواجهة، لأنها تسمح للسلطة بأن تعمل. تلك هي الجدّة الكبيرة. 

كان لرجال السياسة، حتى وقت قريب، قنوات اتصالاتهم الخاصة، مع القوى الاجتماعية، التي كان حزبها السياسي في شكله الحديث منذ قرن، الشكل المناسب. كان المسؤولون السياسيون، يستطيعون التوجّه مباشرة إلى ناخبيهم، وإلى الرأي العام، وإلى البلد من خلال قنوات يسيطرون عليها. كل شيء الآن، يمرّ من خلال وسائل الإعلام. كل العلاقات الحيوية، للمنتخبين مع ناخبيهم، في أي حال، على المستوى الوطني (وهذا يمكن أن يُناقش على المستوى المحلي)، تمرّ من خلال الميدان الإعلامي، ليس بطبيعة الحال، دون أن يفرض هذا إلزاماته الواضحة ـ نحن جميعاً شهود على ذلك ـ مثلاً، في مسار اختيار مرشحين، لتحديد أشخاص يُعتبرون جديرين للمباراة في منافسة كبيرة، كالانتخابات الرئاسية، في فرنسا وفي غيرها من البلدان. 

نستطيع القول، ليس فقط أنّ وسائل الإعلام، تشكل حينئذٍ، البنية التحتيّة للمسار الانتخابي، بنقلها إليه قنواتها الحيويّة، للتحرّك بين الممثِّلين والممثَّلين، ولكنها تشكل في آن، بنيته الفوقية وسأتجرأ لأقول تقريباً «أناه الأعلى». 

وسائل الإعلام أسست وضعاً للسلطات العامة، جعلتها فيه تحت الرقابة الدائمة، التي غيّرت بعمق، شروط ممارسة السلطة. نستطيع من النظرة الأولى، تبادل التهاني لتعزّز الديمقراطية. وعلى أي حال، الحديث عن الديمقراطية التمثيلية، يستدعي رقابة الممثِّلين، وهذا لا يستبعد أن تٌقاس جيداً، تأثيرات العرقلة والشلل والعجز، التي تصدر عن تلك الرقابة، وهي لا تذهب بالضرورة باتجاه الديمقراطية، إذا كانت الديمقراطية هي سلطة الشعب، فما معنى ديمقراطية من دون سلطة؟ 

التجلّي الأكثر مشهديّة لهذه التأثيرات، يمكن أن يُلخّص بعبارة، هي بلا شك مفرطة القوة قليلاً، ولكنها تقول ما ينبغي قوله، عدم شرعية الولاية التمثيليّة. الرقابة الدائمة تفرغ من المعنى، فكرة أنّ السلطة، معهود بها لمنتخبين لمدة محدّدة. منذ اليوم الأول بعد الانتخابات توضع ولاية المنتخبين موضع رهان، في كل لحظة، ومع كل قرار مهم أو ببساطة أي قرار كان. وتكون محل مساءلة من خلال مجابهتها الدائمة، لعرض سياسة في فترة زمنية، تصبح إشكالية، خصوصاً إذا أضفنا إليها، وظيفة وسائل الإعلام، بتحديد جدول الأعمال وفهرسته، وهي لا تكتفي بتحديد سلّم الأولويات، بل تبثّ في الجسم الانتخابي، فكرة أنه يجب التثّبت، من شرعية كل قرار، وفي كل لحظة. 

ومن المناسب، أن نتساءل، إذا ما كانت المراقبة، لا تنحو لتنقلب، إلى نوع من نزع شرعية مبدأ السلطات، في الديمقراطية. إنها تفرز عدم شرعية متمدّدة، تجعل ممارستها، على ازدياد مستمر في صعوبتها، باستحضار اتهامات ضدها. هذه هي الحجة، التي من أجلها أثيرت مسألة معرفة، إذا ما كان تحوَّل وسائل الإعلام إلى هذه الميتا ـ سلطة، لا يخبئ في النهاية سلطة مضادة، لا تنزع لتحل محل السلطات السياسية، وإنما لتفكّكها. 

تشظي الفضاء العام 

فضلاً عن ذلك، سنبدأ لنكون مواجهين بمشكلة من نوع آخر، تستطيع إظهار المشكلة السابقة، التي ليست عديمة الأهمية، لتصبح ثانوية في مستقبل ليس بعيد، المقصود تشظي الفضاء العام. 

كان القرن العشرون، قرن وسائل إعلام الجماهير: راديو معدّ طبيعياً للوصول في وقت واحد، إلى جماعة، وتلفاز وسّع أيضاً، هذه السطوة الجماعية، مضيفاً إليها قوة الصورة. وقد أسهمت وسائل الإعلام في توسّعها التاريخي، لإرساء فضاء عام موحّد، جماعة ذات مرجعية، بين المواطنين كلهم بالمقارنة مع تنافر المجتمعات السابقة، وتجزئتها الاجتماعية والجغرافية واللسانية، فضلاً عن اختلاف أعرافها، المؤرخ الأميركي، إيجن ويبر Eugen weber استطاع هكذا وصف «تحوّل الفلاحين في فرنسا»، كما قال،5 بفضل المدرسة والصحافة، وهذا لم يحدث تلقائياً: فرنسا العام 1880 لم تكن قد أصبحت، بعد بلداً يوجد فيه فضاء جماهيري موحّد. كان يوجد فضاء جماهيري مثقّف محدود، مديني، مختص بنخبة، تترأس جمهوراً هائلاً، من جماعات محلية غريبة عن الفضاء العام. وما حصل في القرن العشرين، ونسمّيه عموماً «دمقرطة» وهو بالتحديد إرساء تناغم المرجعيات، من خلال فتح البيئات الاجتماعية، الواحدة على الأخرى، بدلاً من انغلاق الجماعات على نفسها. وبهذا الصدد، إن الحركة خلال قرن، قد مالت دائماً، نحو مزيد من الدمقرطة، وخاصة في المدة الأخيرة، مع اتساع تآلف جماهير الصورة السمعية ـ البصرية. 

ليس من المستبعد، أن نجد أنفسنا في الوقت الراهن، في نقطة من انحناء القوس. ومن المحتمل أننا نشهد انقلاب الميل: تضاعف العرض، وشخصنة الطلب، هما ربّما في طريقهما لتفكيك هذه الوحدة النسبية، وإرساء بعثرة للجماهير، وتفجّر للميدان الإعلامي، وإعادة لتوزيع الجماهير، في جماعات صغيرة، بطريقة مختلفة كلياً عن الماضي، ولكنها تؤدي بنا مع ذلك، إلى تنافر المجتمع السياسي. 

المولود الجديد لوسائل الإعلام، الإنترنت، شبكة الشبكات، الشبكة التي توصل ما بين الشبكات ولو أردنا مناقشة شرعية تسميتها، بالوسيلة الإعلامية، فهي تستطيع جيداً، أن تلعب الدور الحاسم للميل باتجاه التشظي. لا يرتهن كل شيء لها وليس المقصود أنها مصدر التشظي الوحيد. ثمّة ما هو مستقلّ تماماً عنها، تضاعف العرض الإعلامي، الذي يدفع في هذا الاتّجاه على أي حال، من جانب الإذاعات والتلفزيونات. وهذا أقلّ بكثير، من جانب الصحافة، المكتوبة ثمّة تجزئة للجماهير وتخصّص تيمي thématique يذهبان في اتجاه بعثرة الجماهير. ولكن الإنترنت، يضيف بعض الخصائص الإضافية التي تغيّر طبيعة ومقياس الظاهرة. 

هنا أيضاً يوجد شيء غير منتظر، ومفارق كلياً، في هذا الميل لأن الانترنت، في معنى من المعاني الموحِّد الكبير، الدامج، الذي يقفل نسق وسائل الإعلام على ذاته بربطه الصورة، الكتابة، والصوت في مستند وحيد، يجعل الأشياء كلها متساوقة ويسمح بالانتقال، من ميدان إلى آخر من دون أدنى صعوبة. ولكنه في الوقف نفسه، يدخل انقلاباً في موازين القوى، بين المرسل والمتلقي. 

إنه يفتح فضاء البرمجة الذاتية في اتجاهين مختلفين: يكسر ارتهان مصدر المرسلات واضعاً المستخدِم في وضعية يستطيع معها، أن يشكّل اللائحة، على هواه انسجاماً مع اهتماماته الخاصّة، وليس ذلك فقط: يضعه في وضعية الادّعاء، كمبدع للمحتوى بتكلفة ضعيفة جداً. 

لتوسيع المسألة إلى دينامية المجتمعات المعاصرة، ينبغي إضافة أنّ الإنترنت، هو الوسيلة الإعلامية، لإنجاز صيرورة الفردنة individualisation ولكنه أيضاً وسيلة الهويّات، وسيلة الاختيار لأولئك الذين نؤلف معهم جماعة. 

الميل التاريخي، لوسائل الإعلام كان حتى وقت قريب، تعميمي، أي ينحو باتجاه فضاء عام حيث بالتحديد، يلتقي فيه المرء بالآخر المختلف، ذي الرأي المعارض، المتناقض، وحتى بالخصم السياسي أو الأيديولوجي، أو المعتنق إيماناً دينياً آخر. الميل الجديد، على العكس، يمكن أن يكون انكفاء نحو الشبيه، انكفاء نحو جماعة الإيمان والاعتقاد والقناعات والاهتمامات المشتركة، واللامبالاة تجاه الآخرين. وفي الوقت نفسه، تكمن فيه إمكانية الانفتاح، على كل الآخرين، وكل شيء، الإنترنت يوفّر لمستخدميه، إمكانية تجنّب، كل ما لا يجيدون أنفسهم فيه، واللقاء حصرياً مع أشباههم. 

المسألة الكبيرة هي معرفة إذا لم تكن هذه الإمكانية ستنتصر على نحو مميّز، مع تأثيرات مخيفة على الديمقراطية. لأن من البديهي، أنّ أحد شروط الديمقراطية كي تعمل، هو وجود جماعة ذات مرجعية، بين المواطنين، تسمح بالنقاش على قواعد واضحة، انطلاقاً من معطيات، ووقائع مشتركة، وليس من المؤكد أن شرط النقاش الديمقراطي، سيكون محقّقاً بطريقة فضلى، أو مرضية في مستقبل قريب، فمن الممكن لتناقص وسائل استعلامنا، وإمكاناتنا للمعرفة، أن تطيح بهذا الشرط، وتضعنا في مواجهة واقع سياسي، قلّما تحلم به القلّة المستغلة، التي تسيطر على محيط من الخصوصيات، التي لا رابط بينها إلّا الشبكات التقنية وتنظيم الأسواق. 

تلك إذاً بعض الحجج الجيّدة دون غيرها ـ كان يمكن لي أن أذكر حججاً كثيرة إضافية ـ تسوّغ على ما يبدو لي، التساؤل المتجدّد حول مجتمع وسائل الإعلام. المجتمع الذي سيكون من واجبنا، أن نتعلّم معه، التخلّص من الورطة، لأن الأسئلة الأكثر إلحاحاً لهذه المشكلات، ليست إلا في بداياتها.