البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المبدأ الإنساني وجدل العلم والدين

الباحث :  جون بولكينغهورن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  780
تحميل  ( 348.701 KB )
يتحدّثُ العالِمُ الفيزيائيّ واللاهوتيّ البريطانيّ المعاصر جون بولكينغهورن في هذا البحث عن موقعيّة الإنسان في النشأة الكونيّة انطلاقاً مما قدّمته علوم الفيزياء الحديثة، كما يربط بين معطيات هذه العلوم والأسس اللاهوتيّة في إطار الجدل المفتوح بين الدين والعلم. في مستهل مقالته يبيّن بولكينغهورن أنّ الحياة الكربونيّة يمكنها فقط أن تتطوّر في كونٍ قدّ تمّ تعيينه بشكلٍ ملحوظٍ بما أُعطي من قوانين الطبيعة. التفسيرات المحتملة لهذا الإتقان المُحكم إما أنْ تميل إلى التخمين بتعدّد الأكوان أو إلى مفهوم الخَلْق. تُحاكِمُ هذه الورقة هذين التفسيرين المتنافسين.

المحرر



نشأ الكون الذي نلاحظه اليوم، قبل ما يقرب من الـ13.7 مليار عام، في حالةٍ فريدةٍ من الكثافة العالية والحرارة الشديدة جداً التي عند العامّة من الناس نُسميها "الانفجار الكبير". كان الكون في بدايته الأولى من الناحية التركيبيّة بسيطاً جداً، موجوداً تقريباً على هيئة كرةٍ متوسّعةٍ موحّدةٍ من المادّة/ الطاقة. أحد الأسباب التي تسمح لعلماء الكونيات بالتحدّث بدرجةٍ معقولةٍ من الثقة عن العهد الأول للكون هو أنّ الأشياء كانت غيرَ معقدةٍ، وبالتالي من السهولة نَمْذَجَتُها. لكن بعد ما يقارب الأربعة عشر مليار عام من الصيرورة التطوريّة فإنّ الكون أصبح شديدُ التركيب، بما يحتويه من مخّ الإنسان (بخلاياه العصبية الـ1011  وأكثر من 1014 من الوصلات)، ذلك النظام الأكثر تعقيداً الذي صادفه العلم في مسيرة استكشافه للعالم.

تتضمن الصيرورةُ التطوريّة تفاعلاً بين ناحيتين من العالم الطبيعي، التي يمكن على طريقة الشعار تسميتها "الصدفة والضرورة". نسبةٌ قليلةٌ جداً فقط مما هو ممكن نظرياً حدث فعلياً وتمثل ”الصدفة“ التفاصيل المحتملة للأحداث الفعليّة. فعلى سبيل المثال، في بداية الكون الأولى كانت هناك تقلباتٌ قليلةٌ في توزيع المادّة. قدّمت عدم التجانسات هذه البذور العشوائيّة التي منها ستنمو في النهاية البنية الحُبُوبيّة للمجرات والنجوم. التفاصيل الفعليّة لهذه البنية الكونيّة كانت مسألةَ صدفة، لكن الصيرورة كذلك تضمّنت ”الضرورة“ القانونيّة التي تمثلت في فعل الجاذبيّة. فقليل من المادّة "هنا" تتضمن قليلاً من استقطابٍ جاذبيٍّ باتجاه "هنا"، تُنشئ صيرورةً متضاعفةً من، خلالها تتكثّف المجرات.

الرؤية المركزيّة للمبدأ الإنساني ((Anthropic Principle (AP) هي أنّ الطبيعة الخاصة للضرورة القانونيّة يلزم أنّ لها صورةً خاصةً جداً عادةً ما يُعبّر عنها بصورةٍ مجازيّةٍ "اتقانُ الصُنْع" (fine-tuning) لقوانين الطبيعة. هذا إذا كان ما سيؤول إنسانياً ( anthropoi) ممكناً أساساً على أمد التاريخ الكوني. بعبارةٍ أخرى، الاستكشاف التطوريّ البسيط لما يمكن أن يكون (صدفةً) لن يكون كافياً إذا ما كان الانتظامُ القانونيُّ للكون (الضرورة) لم يأخذ صورةً محددةً جداً كانت مطلوبةً للإمكانيّة الحياتيّة. كان عمر الكون مليارات السنوات قبل ظهور الحياة فيه، لكنّه كان محمولاً بتلك الإمكانيّة من البداية.

العديد من الرؤى العلمية تتشارك في المسير نحو هذه النتيجة غير المتوقعة. تتصل هذه الرؤى بالصيرورات التي حدثت في مراحل متعددةٍ من التاريخ الكونيّ، من اللحظات الأولى للانشطار الثاني بعد الانفجار الكبير، مروراً بالجيل الأول للنجوم والمجرّات، إلى الصيرورات الفاعلة اليوم في الكون. سيكون كافياً أن نشير إلى بعض الأمثلة التي توّضح نوعَ التأملات المُتضمّنة. وللمعالجات التفصيليّة والشاملة، يمكن الرجوع إلى عددٍ من الدراسات التفصيلية.

التحديد الإنساني

إذا كانت الحياةُ الكربونيّة ممكنةً، فإنّ القوانينَ التي تعمل في الكون ستكون موضوعاً لجملةٍ من المحدّدات.

الطبيعة المفتوحة

يعترف العلم بشكلٍ متصاعدٍ أنّ ظهور إبداعٍ حقيقيٍّ يعتمد على وجود أنظمةٍ يمكن القول عنها أنّها "على حافة فوضىً". والمقصود من ذلك أنّ الانتظام والانفتاح، النظام والفوضى، فيها، مترابطةٌ بشكلٍ حاذق. هي أنظمةٌ حيث يسيطر النظام الصلب بشكلٍ شديد المرونة ليسمح للظهورٍ الجديد حقًّاٍ. إعادةُ ترتيب العناصر الموجودة أمرٌ ممكن، لكنه لن يكون إبداعاً حقيقياً، إلا أنّ الأنظمة التي تكون شديدةَ الفوضى في طبيعتها تتعرض لعدم الاستقرار وهذا يعني أن لا شيءَ جديداً يمكنه الاستمرار إلى الأبد. والقصّةُ المألوفة للتطوّر البيولوجي تُبيّن الفكرة التي قدّمناها. فإذا لم يكن هناك تغييرٌ جيني، فإنّ الحياة لن تُطوِّر أبداً أشكالاً جديدة؛ وإذا كان هناك تغيّرٌ جيني كثير، فإنّ الأنواع لن تتأسس بحيث يمكن للانتخاب الطبيعي أن يعمل.

الطبيعةُ الأساسيّة لقانون الفيزياء هي الميكانيكا الكميّة، بالنتائج التي تتضمن كلاً من الاعتماد (reliability) (أيّ؛ استقرار الذرات) والانفتاح (openness) (أيّ: عدم القابلية للتخمين للعديد من النتائج). وإنّ من المعقول أنّ هذه المميزات كانت ضروريةً لظهور الحياة التي كانت ستكون مستحيلةً في كونٍ محكومٍ بالحتميّة النيوتنيّة.

الترتيب العام

إنّ استقرار المدارات الكوكبيّة كضرورةٍ واضحةٍ لتطوّر الحياة في أحدها، تَنبع من حقيقة أنّ الجاذبية تطيع قانون التربيع العكسي. فإنّ قانون التكعيب العكسي في المقابل، على سبيل المثال، كان سيجعل النظام الشمسي غير قادرٍ على التماسك ولو للحظة. فإن الطبيعة التربيعيّة العكسيّة للجاذبية متصلةٌ بأبعاد الفضاء، فلو كان الفضاء ذا أربعةِ أبعادٍ بدلاً من ثلاث، فإنَّ الجاذبية في الواقع كانت ستكون تكعيبيةً عكسيّة.

التحديد العددي

أربع قوى أساسيّة للطبيعة تعمل في كوننا. تتحدد قواها الذاتيّة بقيم أربعة ثوابتٍ متناظرةٍ للطبيعة. ثابت البناء الدقيق (????) يُحدّد القوّة الكهرومغناطيسيّة؛ ثابت الجاذبيّة لنيوتن (????) يحدد قوّة الجاذبيّة؛ وثابتان يحدّدان قوةَ القوى النوويّة، (????s) للقوة الشديدة التي تمسك النواة ببعضها، و(????w) للقوة الضعيفة التي تسبّب بعض الاضمحلال النووي وأيضاً تتحكم بتفاعلات النيوترونات. مقاديرُ هذه الثوابت قد تحدّدت بشكلٍ دقيقٍ جداً من أجل تمكين الكون على إنتاج الحياة.

لو أن (????w) كانت أصغر قليلاً، لكان الكون في بدايته تحوّل كلُّ ما فيه من هايدروجين إلى هيليوم قبل أنْ تَبْرُد تحت الدرجة التي تتوقف فيها صيرورة الطاقة النووية الكونية. لا يعني هذا فقط أنّ الماء الذي هو أساسيٌّ جداً للحياة لن يوجد، بل وأيضاً سيعني أنّه لن يوجد إلا النجوم المحترقة بالهيليوم، والتي لن تعيش لفترةٍ كافيةٍ لدعم تطوّر الحياة في أيٍّ من كواكبها. ولو أنّ (????w) كان أكبر بعض الشيء لما حصلت الانفجارات النجميّة العظيمة.

للحقيقة السابقة نتائجٌ مهمّةٌ جداً بالنسبة للصيرورة الدقيقة والمتوازنة بشكلٍ حساسٍ تلك التي من خلالها تم إنشاء المواد الكمياوية الخام للحياة. ذلك أنّ الكون في بدايته الأولى كان بسيطاً، أنتج فقط عنصرين بسيطين هما الهايدروجين والهيلوم، وهما كميائياً لا يمكنهما تأسيس حياةٍ بل يتطلب الأمر أكثر من عشرين عنصراً مميّزاً، على رأسهم الكربون، من الذين يتّسمون بخصائصٍ كميائيةٍ تسمح لصورةٍ من الجزئيات المترابطة الطويلة التي تتحمل الأساس البيولوجي الكيميائي للحياة. والمكان الوحيد في الكون الذي يمكن فيه صناعة الكربون هي قعر الأفران النوويّة للنجوم. كلُّ المخلوقات الحيّة صُنِعَت من غبار النجوم. فَكُّ سلسلة التفاعلات النوويّة التي من خلالها تمّ إنتاج الكربون والعناصر الأثقل منه كانت إحدى انتصارات الفيزياء الفلكيّة للقرن الواحد والعشرين. فرد هويلي (Fred Hoyle)، الذي كان رائداً في هذا العمل، رأى أنّ إنتاج الكربون النجمي ممكنٌ فقط لأنّ رنيناً يحدثُ في طاقةٍ معيّنةٍ في الكربون، وكذلك هناك ضمورٌ لمثل هذا الرنين في الأوكسجين الذي حال دون ضياع الكربون لأنه جعلها كلّها تتحوّل إلى أوكسجين. هذه الخصائص النوويّة التفصيليّة تعتمد على قيمة (????s)، ولو أنّ هذه القيمة كانت بعض الشيء مختلفةً، لما كان، إذاً، ممكناً وجود الكربون، وبالتالي الحياة الكربونية. عندما كَشَفَ عن ذلك، هويلي، والذي كان ملحداً، اُسْنِدَ إليه أنّه قال أن الكون كان ”مؤامرةً“. لم يكن يستطيعُ تصوّر أنّ مثل هذا الإتقان البالغ الأهمية كان مجرّد حدثٍ عبثي.

لا يمكن داخل النجم إنتاجُ عناصرٍ بعد الحديد، الأكثر ثباتاً من بين الأنواع النووية. وهنا مشكلتان: كيف يمكن عمل عناصر أثقل، بعضها ضروريٌّ للحياة، وكيف يمكن إخراج العناصر الأخفّ خارج النجم الذي صنعها؟ الانفجار النجميُّ العظيم يعالج المشكلتين، ذلك أنّ التفاعلات النيوترينوية التي تصاحبه هي الأخرى تَصْنَعُ عناصر أثقل من الحديد، مع الأخذ بالاعتبار أن (????w) تتخذ قيمةً مناسبة.

للنجوم دورٌ آخر تؤديه في تمكين الحياة، وذلك ببساطةٍ من خلال تقديم مصادر من الطاقة طويلة الأمد (مليارات من السنوات) وثابتة نسبياً لتكون وقوداً للصيرورة. وهذا يتطلب نسبةً من الطاقة الكهرومغناطيسية للجاذبية (???? - ????) لتكون ضمن حدودٍ قريبةٍ - عدا ذلك فإنّ النجوم إما أنْ تحترق بشكلٍ شديدٍ بحيث لا يمكن العيش إلا بضع ملياراتٍ من السنوات أو تحترق بشكلٍ ضعيفٍ بحيث تكون غير قابلةٍ للاستخدام.

العديدُ من المحدّدات الإنسانية الأخرى يمكن ذكرها أيضاً. إحدى تلك المحددات الأكثر دقةً تلك التي تتصل بالثابت الكوني (????)، المعامل الذي ينتمي للنوع المضاد للجاذبية، الذي يقوم بتنافر المادّة. شخّصَ آنيشتاين إمكانيّة اللاصفر لـ (non-zero ????) لكن العلماء من بعد تَنظّروا أنه لو وجدت أساساً فإنّها ستكون صغيرةً جداً، لأنّ البديل عن ذلك هو أنّ الكون كان سينفجر بشكلٍ سريعٍ جداً. ونحن نعلم اليوم، أنَّ قيمة ???? يلزم ألاّ تكون أكثر من 10-120 مما يفترض أن يكون من قوتها المتوقعة. وهذا يمثل درجةً استثنائيةً جداً لإحكام الصُنع الضروري.

الظروف الأولى وغيرها

التاريخ الكونيّ عبارة عن كرٍّ وفرٍّ في حربٍ بين اتجاهاتٍ متقابلةٍ من شدٍّ انقباضيٍّ للجاذبيّة (شدّ المادة ببعضها) ومجموع الآثار الانبساطية (مثل تلك السرعات الأولى بعد الانفجار الكبير مع الآثار الأخرى، مثل تلك الراجعة للحالة اللاصفرية لـ????). هذان الإتجاهان يلزم أن يكونا متوازنين بشكلٍ قريبٍ جداً إذا ما أُريد للكون أنْ يبقى ولا ينهار بسرعةٍ إلى حالة ”الانقباض الكبير“ (big crunch)، أو يُصبح بشكلٍ سريعٍ جداً خفيفاً جداً بحيث تكون الصيرورة المنتجة لتشكّل الكون مستحيلة. وفي الواقع، عندما يعود علماء الكونيات إلى عصر بلانك؛ عندما كان الكون بعمر10-43 ثانية، فإنّهم يستنتجون أنّ الاختلاف كان يمكن أن يكون فقط جزءً واحداً في 1060. سنعود لهذه النقطة تحديداً لاحقاً مرةً أخرى.

يؤكد روجر بنروز (Roger Penrose) حقيقة أنّ الكون يبدو أنّه قد بدأ في حالةٍ من النظام العالي جداً (أو العشوائية المنخفضة ”low entropy“). هذا ما يُظنّ أنّه متصلٌ بشكلٍ وثيقٍ بخصائص الديناميكية الحراريّة للكون، بل ومن الممكن أن يكون متصلاً بطبيعة الزمن. يُقدّر بنروز أنّ احتماليّة حدوث هذا بالصدفة هو واحد في عشرة مرفوع بقوة 10123.

الضرورة الإنسانية الأخرى هي حجم الكون المُلاحَظ، بمجرّاته الـ10١١ كلّ واحدةٍ منها تحتوى بمعدل 1011 نجم. على الرغم من أنّ مثل هذه الضخامة يمكنها في بعض الأحيان أن تبدو مُرْعِبَةً للسكان الذين يمثلون نقطةً في هذا الغبار الكوني، لكن علينا ألاّ ننزعج من ذلك، لأنّ كوناً على الأقلّ بحجم كوننا يحتاج إلى البقاء لأربعة عشر مليار سنة لكي يصبح بإمكان البشريّة الظهور على مسرح الحياة. أما لو كان الشيء أصغر من ذلك بشكلٍ كبير فسيكون له تاريخ قصير جداً.

الاعتبارات البيولوجيّة

تعقيدً علم الأحياء (البيولوجيا) بالمقارنة مع الفيزياء يجعل استنباط المحدّدات الإنسانية بشكلٍ مباشرٍ من تفاصيل الصيرورات البيولوجيّة أمراً أكثرَ صعوبة. إلا أنّه من الواضح أنّ الحياة تعتمد من عدّة جهاتٍ على تفاصيل خصائص المادة في عالمنا. المثال البسيط لذلك هو الخاصيّة الغريبة للماء بأنّه يتمدّد عند تجميده، وبالتالي يمنع البحيرات من أنْ تتحول إلى ثلوجٍ صلبة من عمقها إلى أعلاها الذي يؤدّي إلى قتل أيّ حياةٍ ممكنةٍ داخلها. التغييرات في قيمة ???? يؤدّي إلى تغيّرٍ في هذه الخصائص.

قدّم هذا القسم مخططاً عاماً للاعتبارات التي جعلت من الواضح أنّ الكون الإنساني هو كونٌ خاصٌ جداً في واقع الأمر. كما أنّه من النافع الالتفات إلى أنّه في الوقت الذي تُحدّد الشروط المتعدّدة ثوابت الطبيعة، فإنّ هناك مجموعةً من القيم وبشكلٍ متسقٍ تتناسب معهم جميعاً؛ حقائق ملحوظة في حدّ ذاته عن تكوين العالم.

التفسير

يتفق جميع العلماء أنّ النسيج الفيزيائي للكون عليه أن يتّخذ شكلاً محدداً إذا ما أُريد للحياة الكربونية أن تتطوّر ضمن تاريخ الكون. يبدأ الاختلاف بينهم عند مناقشة ما الذي قد يكون مهماً لهذه الحقائق الملفتة للنظر.

بالنسبة للعديد من العلماء، إحكام الصُنع الكوني يأتي كصدمةٍ غير مرحبٍ بها. مهنياً، يطمح 

العلماء نحو التعميم، وهذا يجعلهم حذرين بشكلٍ مفرطٍ من التخصيص، وهمْ يميلون للإيمان بأنّ كوننا مجرد عيّنةٍ نمطيّةٍ مما يمكن أن تكون عليه الأكوان. لكن المبدأ الإنساني يُبيّن أنّ المسألة ليست كذلك، بل إنّ كوننا خاص، واحدٌ من تريليون، كما يقال. الإعتراف بذلك يبدو كأنه مضادٌ للثورة الكوبرنكية. صحيحٌ أنّ الإنسان لا يعيش في وسط الأكوان، لكن البنية الفيزيائية الجوهرية للعالم عليها أنْ تتقيّد ضمن حدودٍ ضيّقةٍ إذا ما أريد لتطوّر الحياة الكربونيّة أنْ تكون ملائمة. البعض يخشى أيضاً أنهم يكتشفون هنا خطراً غير مرحّبٍ به للإيمان. فإذا كان الكون موهوباً بإمكانية مُحكمة الصُنْع، فإن هذا يشير إلى أنّ هنالك مُحكِماً إلهيّاً للصنع.

بذلك، فإن شكلاً جديداً جداً من حجّة التصميم على وجود الله أدرجت في القائمة. الرؤية الداروينية قد سلبت قوّة الشكل القديم لحجّة التصميم على وجود الله، والتي تمّ تبنّيها في السابق من قبل البعض كجون راي (John Ray) ووليام بالي (William Paley). فهم قد أكّدوا على الاستعدادات الوظيفيّة للكائنات الحيّة، لكن التفكير التطوّري بيّن كيف يمكن أنّ تؤدي تجمعات عرضية وغربلات لاختلافاتٍ صغيرةٍ إلى ظهور تصميمٍ من غير استدعاء تدخّلٍ مباشرٍ من المصمّم الإلهي. توصّل اللاهوتيون إلى أنّ النوع السابق لعلم اللاهوت الطبيعي قد ارتكب خطأً بوضع نفسه منافساً للعلم في مجاله الشرعي، وذلك بمحاولة التعامل مع أسئلةٍ مثل أصل النظام البصري لعيون الثديات، التي أجوبتها توجد بشكلٍ معقولٍ ضمن القدرة البيولوجية. هذا النقد لا يمكن توجيهه للشكل الجديد للحجّة؛ الإمكانية الإنسانية. فعلم اللاهوت الجديد يسعى ليكون متكاملاً مع العلم بدلاً من أن يكون منافساً له. ذلك أنّ اهتمامه هو قوانين الطبيعة ذاتها، الشيء الذي لا يمكن للعلم الصادق تفسيره باعتبار أنّ عليه افتراضها باعتبارها أسساً غير مشروحةٍ لتفسيراته التفصيلية للحوادث. جادل ديفيد هيوم بقبول خصائص المادة باعتبارها حقيقةً بهماء، لكن سمة الطبيعة المحكمة الصنع تجعل الأمر غير مُرْضِي فكرياً أن يتوقف السؤال للفهم عند هذه النقطة. انتقد ديفيد هيوم الشكل القديم لحجّة التصميم باعتبارها مُجسّمة (أو مشبهة) جداً، كما لو أنّ عمل الخالق يمكن أن يقارن بشكلٍ ملائمٍ مع عمل النجارين في صنع سفينة. هذا النقد لا يمكن توجيهه للحجّة الإنسانيّة، باعتبار أنّ المادة الموهوبة بإماكنياتها الذاتية ليس لها قياسٌ بشري. بمصطلحات الكلمات العبريّة المستخدمة في العهد القديم، فإنّ إحكام الصُنع تتطابق مع البارا (bara) (الكلمة المختصة بالفعل الإلهي)، بدلاً من آسا (asah) (الصنع، التي تستخدم لله وللإنسان).

الخطوة الأولى في الاحتجاج حول تفسير هذا الإحكام في الصُنع هو بالتفريق بين عدّة صياغاتٍ للمبدأ الإنساني. الصياغة الأكثر اِعتدالاً هي المسمّاة بـ“المبدأ الإنساني الضعيف“ (Weak Anthropic Principle، WAP)، والذي ببساطةٍ يطرح الرؤية الآتية: إنّ سمة الكون الذي نلاحظه يلزم أن يكون متناسقاً مع وجودنا كملاحظين له فيه. بالنظرة الأولى، قد لا تبدو هذه الفكرة نقطةً مثيرةً فكرياً بما فيه الكفاية، ذلك أنّه من الواضح، على سبيل المثال، أنّ من غير المفاجئ أن نرى كوناً بعمر أربعة عشر مليار سنة، لأن كائنات معقدة مثلنا ما كانت يمكن أن تظهر لمسرح الحياة في الحقب الأولى. هذا؛ لكننا رأينا في القسم السابق أنّ البحوث العلمية قد بيّنت أنّ الشروط الإنسانية الكاملة التي تحقق المبدأ بعيدةٌ جداً عن أن تكون بديهيّةً. ومرجع ذلك أنّها تتضمنُ نوعاً من التحديدات التي تجعل الحدود ضيقةً في القيم المطلوبة من ثوابت الطبيعة التي تحدّد النسيج الفيزيائي للعالم.

آخرون مالوا لتعريف ”المبدأ الإنساني الصلب“ ((Strong Anthropic Principle (SAP)، الذي يزعم بأنّ الكون بالضرورة كان يلزم به أنْ يكون لديه مثل هذه الخصائص باعتبارها ستسمح بالحياة في وقتٍ ما أن تتطوّر في داخله. المشكلة مع هذا الطرح تتمثل في محاولة النظر في أنه ماذا يمكن أن يكون مصدر هذه الضرورة المؤكدة. المبدأ الإنساني الصلب هو بشدةٍ مقولةٌ غائية. كمؤمنين متدينين، سيكونون سعداء بتأسيس هذه الضرورة تحت إرادة الخالق، لكن وضع المبدأ الإنساني الصلب كإدعاءٍ علمانيّ صرف يعتبر غامضاً، فهو بالتأكيد لا يبدو متأسساً في العلم بذاته.

هناك صياغتان أخريتان للمبدأ الإنساني عادةً ما تُناقشان. المبدأ الإنساني التشاركي (Participatory Anthropic Principle (PAP) الذي يؤكّد بأنّ الملاحظين يمثّلون ضرورةً لإيجاد الكون في الوجود. بعضُ ما يطرح هنا كتفسيرٍ مستمرٍّ للنظريّة الكميّة التي تتحدث بحيثيّة ”الملاحظ الخالق للواقع“، لكنّه من الصعب الاعتقاد بأنّ الكون لم ”يوجد“ حتى ظهر الملاحظون. هنالك أيضاً المبدأ الإنساني النهائي ((Final Anthropic Principle (FAP)، والذي يدّعي بأنّه منذ أن بدأت الصيرورة المعلوماتيّة الذكيّة في الكون (intelligent information-processing)، فإنه يلزم أن تستمر إلى الأبد. وهنا مرة أخرى، يبدو من الصعوبة بمكان أن نجد مصدراً علمانياً لهذه الضرورة المزعومة. المبدأ الإنسانيُّ التشاركيُّ والمبدأ الإنسانيّ النهائيّ يبدوان أقل إقناعاً من المبدأ الإنساني الصلب.

المسار الآخر من الهجوم على الاستدلال الإنساني لخاصيّة الكون يحاول إبطال مدّعى الخصوصيّة الكونيّة، وذلك بالقول بأننا فعلياً ليس أمامنا إلا كوناً واحداً قابلاً للدراسة، فكيف يمكن للمرء أن يستنتج كلّ ذلك من عيّنةٍ واحدة؟ إلا أنّه بخيالاتنا العلميّة يمكننا زيارة أكوانٍ ممكنةٍ أخرى تشابه كوننا إلى حدٍّ معقول. والاعتبارات التي ذُكرتْ في القسم السابق في المقال عن العوالم التي ثوابتها الطبيعيّة تتخذ قيماً مختلفةً عن تلك التي في هذا الكون تصلح أن تكون مثالاً على إمكانية المعرفة. ومن خلال المجموع النظري من المعلومات حول العوامل الجارية لنا، نجد أنّ مجموعةً قليلةً جداً منها فقط يمكنها أن تشاركنا الإمكانيّة الإنسانيّة. وبكلِّ تأكيدٍ فإنّ هذا كافٍ لتأسيس درجةٍ من التحديد التي تستدعي نوعاً من الفهم الماوراء علمي (metascientific) للإمكانية الإنسانيّة.

مقاربةً أخرى تقترح أنّه في الحقيقة قد يكون هنالك فقط عالمٌ واحدٌ ممكن، ذلك الذي، بالضرورة، تتخذ فيه القوى القويّة القيم التي نحن نلاحظها فعلياً. مؤيّدوا هذه الأطروحة يستندون إلى الصعوبة التي يجدها الفيزيائيون في الجمع بنجاحٍ بين النظرية النسبيّة العامة والنظرية الكميّة، وهم يقترحون أنّه من الممكن وجود النظرية الموحدة الكبرى (Grand Unified Theory) التي تحقّق ذلك، والتي تحدّد قيم كلّ الثوابت الطبيعية. حتى لو كان الأمر كذلك - وهو يبدو بالنسبة لكثيرين أنه من غير المحتمل أن النظرية الموحّدة الكبرى ستكون كُلّياً متحررةً من مقياس المُعاملات - فإنّ على المرء أنّ يقدّم تفسيراً لماذا النظريّة النسبيّة والنظريّة الكميّة يُتعامل معها باعتبارها معطيات مسلّمة. فهما بكلِّ تأكيدٍ يبدوان ضرورات إنسانية، لكنّهما ليسا بأيِّ معنىً حتميات منطقية. مضافاً إلى ذلك، لو كانت هنالك واقعياً نظريةٌ موحّدةٌ كبرى متميّزة، فإنّ الصدفة الإنسانية الأعظم بالنسبة للجميع ستكون بكلِّ تأكيدٍ أنّ هذه النظرية المحدّدة على أسس التناسق المنطقي تُثبت أيضاً أن تكون أساساً لعالمٍ قابل على أن تكون الأحياء المتطوّرة قادرةً لفهم ذلك التناسق.

الأطروحة الأكثر اعتدالاً وواقعيةً تلك التي تقترح أنّ بعض الصدف الإنسانية يمكنها أن تكون نتائج لنظريةٍ أعمق، وبالتالي هم لا يتطلبون إحكام الصُنع. المثال الفعلي لهذا الاتجاه ربما يُقدّم في حالة التوازن الحساس بين الآثارات الانبساطيّة والانقباضيّة في البدايات الأولى للكون التي ناقشناها سابقاً. إنّه من المعتقد اليوم أنّ الكون عندما كان عمره  10- 35 ثانية قد حدثت مرحلة التحوّل الكوني (نوع من الغليان في الفضاء)، الذي بالنسبة لفترته القصيرة انفجر الكون بسرعةٍ مذهلة. هذه الصيرورة، والتي تسمى بالتضخّم، قد تكون وسّعت الكون وخلقت توازناً دقيقاً بين الاتجاهات التوسّعيّة والانقباضيّة التي نلاحظها اليوم. إلا أنّه وعلى الرغم من ذلك، فإنّ التضخّم بحدّ ذاته، إذا ما كان سيعمل بشكلٍ صحيحٍ، يتطلّب أنْ تعمل النظريّة الموحدة الكبرى في الكون بشكلٍ محدّدٍ جداً، وبالتالي فإنّ الخاصيّة الإنسانية لم تُفقد لكن دفعت إلى مستوى أعمق في نسيج العالم.

يمكن للمرء في المقابل أن ينظر إلى نوعٍ من المبدأ الإنساني المعتدل، الذي يلاحظ سمةً خاصةً للكون ويعترف أنها من المفترض ألاّ تُعامل كحدثٍ اعتباطي، ولذلك فإنها تتطلّب بعضاً من التفسير.

قُدّمت مقاربتان نقضيتان ما وراء - علمية في مقابل المبدأ الإنسان. يروي جون لسلي 

(John Leslie)، الذي يحب أن يتفلسف بالشكل الاحتمالي، قصةً تُبيّن بشكلٍ تخطيطيٍّ المسائل. أنت على وشك أن يُنفذ فيك حكم الإعدام، وبنادق الخبراء الرماة مصوّبة على صدرك. أُعطيَ ضابطٌ الأمرَ بإطلاق النار… ثم تجد نفسك لا تزال على قيد الحياة! هل تقوم وتمضي بعيداً فحسب، وتقول: ”كادت أن تقع!؟“ بالتأكيد لا، وذلك لكون الحدث ملفتاً جداً للانتباه، والتالي بكلّ تأكيدٍ يستدعي تفسيراً. لسلي يقترح أنّ هذا يلزم أحد شكلين. إما أنّ هنالك العديد من الإعدامات جرت في هذا اليوم، ولأن الرماة عادةً ما يَغفلون عن أحدٍ ما، فأنت بالصدفة ذلك الذي غفلوا عنه من بينهم. وإما أنّ هنالك أموراً أكثر من ذلك تجري وراء الكواليس وأنت لست واعياً بها - كأن يكون الرماة يقفون في صفك وقد غفلوا عنك عن قصدٍ وسابق اصرارٍ وتصميمٍ. هذه الحكاية الساحرة قد ترجمت إلى المقاربتين التاليتين في تناول مسائل المبدأ الإنساني بما يناسبها من الجديّة.

الأكوان المتعدّدة.

تقترح هذه المقاربة أنّه من المحتمل أنْ يكون هنالك العديد من الأكوان المختلفة، كلُّ واحدٍ منها يحتوي على أنواعٍ مختلفةٍ من قوانين الطبيعة. في هذا السجل الهائل للكون، بمجرد الصدفة هناك كونٌ واحدٌ قابلٌ لتطوير الحياة الكربونيّة، وهذا بالطبع كوكبنا، حيث إننا نتمتع بحياةٍ كربونية. فالمبدأ الإنساني الكوني ببساطةٍ مجرد تذكرةٍ نادرةٍ رابحةٍ في اليانصيب المتعدد الكوني.

النسخة الأكثر اعتدالاً لهذه الفكرة تفترض أن هذه العوامل المختلفة هي فعلياً مجالاتٌ ضخمةٌ ضمن كونٍ فيزيائيٍّ منفرد. فالطريقة التي من خلالها انشطر تناظر النظرية الموحّدة الكبرى في بدايتها؛ كتوسّعٍ برّد الكون ومن ثم ولّد قوىً هي التي تعمل فعلياً اليوم، لا يلزم أن ينظر إليها على أنّها حرفياً كونيةٌ عامة لجميع الأكوان المحتملة. بل في المقابل يمكن أن يكون الكون فسيفساء من مجالاتٍ مختلفةٍ بحيث يكون فيها انشطار التناظر قد سلك صُوَراً مفصّلةً مختلفةً عن الأخرى. ونحن غير واعيين لذلك، والسبب أنّ التضخّم الذي حدث للكون الأول قد سلك بكلِّ مجالٍ في حيّزٍ خارجٍ عن حيّز الآخر وبالتالي خارج عن مجال رؤيتنا، ومجالنا الذي نحن فيه هو ذلك الذي بات نتيجةً لانشطار التناظر الذي يتناسب مع ضرورة المبدأ الإنساني. هذه الفكرة معقولة، لكنّها في واقع الأمر مجرّد تعديلٍ إلى درجةٍ ما لمتطلبات الخصوصيّة، ذلك أنّه لا يزال ضرورياً أن تتخذ النظرية الموحّدة الكبرى المتأصلة شكلاً، عندما ينشطر تناظره، يمكن أن يسفر عن قوىً قويةً مناسبة.

أيّ مقترحٍ أكثر تطرفاً من هذا سيأخذ بالمرء إلى حقلٍ من التخمين خارج مجال التفكير الفيزيائي الرصين. هذه المحاولات المهزوزة تلجأ لقناعات مختلّةٍ التحديد للكونيات الكموية بالتعاضد مع فرضياتٍ خاصة للفوارق المتطرفة بين السمات القانونية للعوالم مفترضةً على أنها تعمل بهذه الطريقة. نظرية الأكوان المتعدّدة بهذه الصورة ليست أكثر من تخمينٍ ميتافيزيقيٍّ لإسرافٍ وجوديٍّ مفرط - يُلجأ إليه، كما يبدو - بشكلٍ جزئيٍّ من أجل منع أنّ يكون الإيمان منتمياً للمقاربة الثانية.

الخلق

يمكن للمؤمن أن يعتقد بأن هنالك كوناً واحداً فقط تعكس فيه السمات الإنسانية ببساطةٍ هبة الإمكانيّة الممنوحة من خالقه من أجل أن يكون للكون تاريخٌ مثمر. هذه الفكرة هي الأخرى تعدّ تخميناً ميتافيزيقياً لكنه، في مقابل نظرية تعدّد الأكوان، يؤدي العديد من الوظائف التفسيريّة الأخرى بالإضافة إلى معالجته لمسائل المبدأ الإنساني. على سبيل المثال، فإن قابلة العالم للفهم وروعته الأخّاذة المدهشة جداً للعلماء يمكن فهمها على أنّها انعكاسٌ لعقل خالقه. المشاهدات الإنسانية الشائعة للتجارب التي تتصل بالتلاقي مع الواقع المقدّس يمكن فهمها على أنها نابعةٌ من الاستقبال الفعلي للوجود المحتجب لله. بفهم الأمور بهذه الطريقة، فإن المحددات الإنسانية لعالمنا لا يُدّعى لها أنّها تقدّم حجّةً صلبةً منطقياً للإيمان بالله بحيث يُعدّ المنكِرُ لها أحمقَ، بل إنّها تساهم بتقديم بصيرةٍ للحالة التراكميّة للإيمان، وذلك باعتبارها التفسير الأفضل لطبيعة العالم الذي نقطنه.