البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدين والذكاء الاصنطاعي ، لمن الأصالة: للإنسان أم لإبداعه؟

الباحث :  علي رضا قائمي نيا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  994
تحميل  ( 377.055 KB )
يتناول هذا البحث واحدةً من القضايا المعرفيّة التي أخذت مساحةً بيّنةً من الجدل منذ عصر التنوير إلى يومنا هذا، عنينا بها علاقة الدّين بالتحوّلات العلميّة الكبرى ولا سيما ما يعني قضية الذكاء الاصطناعي.

يتمحور البحث حول السؤال المركب التالي:

ما هو التأثير الذي يتركه الادّعاء القائل: (إنَّ الحاسوب الآلي يفكّر، أو إنّ الشيء الوحيد الذي يستطيع التفكير هو الحاسوب الآلي)، في بعض معتقداتنا الدينيّة؟ وبالتالي، هل يتعارض هذا الادّعاء مع مضامين النصوص الدينيّة؟

المحرر



في ما يتعلّق بالذكاء هناك ادعاءان هامّان، وهما: إن البعض يدّعي أنّ الحاسوب الآلي يفكّر بالمعنى الحقيقيّ للكلمة (فرضيّة النظام الرمزي). والبعض الآخر يدّعي أنّ الذي يفكّر إنّما هو الحاسوب الآلي (فرضيّة النظام الرمزي القوي). كما أنّ النصوص الدينيّة تستند في بعض الموارد إلى التفكير والتعقّل. فهل يُستعمل التفكير في كلا الموردين بمعنى واحدٍ؟ وهل يمكن للدّين والنصوص الدينيّة أن تُظهر بعض الاختلافات بين الإنسان والحاسوب الآلي؟

الكلمات المفتاحيّة: الدّين، الذّكاء، الذّكاء الاصطناعي، فرضيّة النّظام الرّمزي، فرضيّة النّظام الرّمزي القويّ، التعقّل، الغرفة الصينيّة.

إنّ الذكاء الاصطناعي الذي يُطلق عليه في بعض الأحيان (AI) اختصاراً، يُعدّ واحداً من أكثر الفروع الفلسفيّة التحقيقيّة إثارةً للانبهار والتعجّب. وقد أحدث ظهور الحاسوب الآلي قفزات ملحوظةً جداً في حياة البشر، وكان لحقل الفلسفة نصيبه من ذلك. فقد أثار الفلاسفة تساؤلاتٍ فلسفيّةٍ كثيرةٍ حول اختلاف ذكاء الإنسان عن ذكاء الحاسوب الآلي، وقد أفضت جميع هذه التساؤلات إلى طرح بحث .

إنّ الغاية من هي فهمُ طبيعة الذكاء البشري من خلال دراسة تركيبة البرامج الحاسوبيّة، وطريقة حلّ المسائل بواسطة الحاسوب الآلي. يذهب المتخصصون في هذا الحقل إلى الاعتقاد بأنّ من شأن هذه الدراسة أن توضّح أسلوب وطريقة عمل وجزئيات الذكاء البشري.

إنّ دراسة العلاقة والصّلة بين هذا الحقل والدّين يعدّ من أحدث حقول أبحاث . وقبل الدخول في هذا البحث لا بدّ من بيان بعض الأمور العامة والكليّة بشأن الذكاء الاصطناعي.

مصطلح الذكاء

يجب قبل كلّ شيءٍ بيان مراد المتخصصين في الذكاء الاصطناعي من مصطلح ؛ وذلك بسبب الاختلاف التام لرؤيتهم تجاه مقولة الذكاء والمفاهيم المرتبطة به، مثل: العقل والذهن وما إلى ذلك. واليوم نجدُ في العلوم الراهنة استعمالاً واسعاً لمصطلح الذكاء في علم النّفس، حيث يبحث علماء النّفس في حظوظ الأشخاص من الذكاء والأمور المرتبطة به. وأمّا في الذكاء الاصطناعي فهناك توظيفٌ واستعمالٌ مختلفٌ لهذا المصطلح (Desouza, 2002, p. 27).

في الذكاء الاصطناعي يتمّ ـ قبل كلِّ شيءٍ ـ تقديم تعريفٍ عمليٍّ للذكاء. وفي العادة يبدي الفلاسفة ميلاً أكبر إلى التعاريف المفهوميّة، ويسعون إلى إيضاح مفهوم الذكاء والعقل وما إلى ذلك. في حين أنّ المتخصّصين في الذكاء الاصطناعي ـ ولأسبابٍ تخصّهم ـ يميلون إلى التعريف العملي. ومن بين تلك الأسباب أنّ النّزاعات المفهوميّة لا تنطوي على فائدةٍ تذكر، وغالباً ما تكون نتائجها عقيمة. فإذا أردنا العثور على طبيعة وماهيّة العلاقة والارتباط بين و من خلال تعريف مفهوميهما، لنرى ما إذا كان الذكاء هو التفكير أم لا، فإننا سندخل حينها في نزاعٍ لفظيٍّ لا نهاية له. إذ لا شكّ في وجود اختلافٍ مفهوميٍّ بين هاتين المفردتين، ولا يمكن لهما أن تشيرا إلى شيءٍ واحدٍ، وبذلك فإنّهم لا يدّعون التساوي المفهومي بين هاتين الكلمتين. بل إنّهم ـ كما سيأتي توضيحه لاحقاً ـ يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ هذين المصطلحين يشيران إلى حقيقةٍ قابلةٍ للتقييم.

وفي إطار تحديد معنى الذكاء قدّم ألان تورينج ـ وهو من طلائع بحث الذكاء الاصطناعي ـ في معرض بيان الأهداف العمليّة التي ينشدها من وراء الذكاء الاصطناعي، تعريفاً مقبولاً بالنسبة إلى الجميع. وكان الدافع من وراء طرح هذا الملاك يرمي ـ كما أسلفنا ـ إلى تجنّب النّزاعات اللّفظيّة والأبحاث الفلسفيّة العقيمة. لقد أدرك تورينج أنّه لا يستطيع من خلال الخوض في الأبحاث الفلسفيّة السائدة بشأن هذه الكلمة أن يقيم ارتباطاً بين وظائف الآلات والذهن البشري. ومن هنا يقترح تورينج التخلّي عن المسائل اللفظيّة والمفهوميّة في هذا الشأن، وتقديم اختبارٍ بسيطٍ في هذا المجال، ونعمل بعد ذلك على دراسة ذات الآلة بشكلٍ عينيٍّ وملموسٍ. كما توقع أنّ أجهزة الحاسوب الآلي ستخرج ـ حتى عام 2000 م ـ من هذا الاختبار بنجاحٍ، وأنّ التعاريف المخالفة ستبدو عندها فاقدةً للمعنى.

إنّ اختبار تورينج يقوم على أساس لعبةٍ اسمها . وفي هذه اللّعبة هناك ثلاثة أشخاصٍ غرباء، اثنان منهم ـ وهما الشاهدان ـ من جنسين مختلفين (ذكر وأنثى)، والثالث هو السائل. وفي هذه اللّعبة يسعى السائل من خلال طرح الأسئلة إلى التعرّف على جنس الشاهدين، وإن أحد الشاهدين ـ وهو الرجل ـ يحاول إخفاء جنسه، في حين أن الشاهد الآخر ـ وهو المرأة ـ يجيب عن الأسئلة بكلِّ صدقٍ وصراحةٍ. فإن أمكن للسائل أن يصل إلى الإجابة الصحيحة تكون المرأة هي الفائزة، وأمّا إذا لم يصل إلى الإجابة الصحيحة يكون الفائز هو الشاهد الرجل. ولكي لا يحصل السائل على أيِّ أدلّةٍ تساعده على حلِّ اللّغز والتعرّف على الجنسين، من قبيل الأصوات والوجوه وما إلى ذلك، يتمّ توجيه الأسئلة والأجوبة عبر الآلة الكاتبة ومن وراء الجدار. تقوم رؤية تورينج على القول بأنّنا لو استبدلنا الحاسوب الآلي بالشاهد الرجل، وأدركنا أنّ هذا الجهاز يستطيع أن يستغفل السائل بشكلٍ ذكي، فإنّه سيخرج من هذا الاختبار بنجاحٍ (Haugeland, 1985, p. 6).

كيف أصبحت هذه اللعبة العجيبة والغريبة اختباراً معتبراً للذكاء؟ إنّ الاستفادة من الآلة الكاتبة البعيدة والرجل الذي يسعى إلى خداع السائل وما إلى ذلك، يمثّل في مجموعه ـ بحسب الحقيقة والواقع ـ كواليس وديكور الاختبار. وأمّا أصل وأساس الاختبار فهو الحوار. فهل يمكن للحاسوب الآلي أن يتكلّم مثل الإنسان؟ أم أنّ هناك فرقاً واختلافاً بين الإنسان والحاسوب الآلي؟

بحث الاختبار

إنّ المشكل الرئيس لهذا النّوع من الاختبارات يكمن في أنّ للذكاء درجاتٌ متفاوتة. فإنّ درجة ذكاء الأشخاص تختلفُ من واحدٍ لآخر، بحيث يمكن لنا تقييم ذكاء الأفراد وبيان الفارق بينهم في الذكاء. بيد أنّ هناك شكّ في قول ذلك بالنسبة إلى الحاسوب الآلي. والذي يمكن قوله بشأن هذه الأجهزة هو أنّ بإمكانها العمل بدقّة طبقاً لبرمجتها الخاصّة. وبعبارةٍ أخرى: إنّها إنّما تعمل على أساس البرمجة، ولكنّها هل تفكّر حقاً؟ وفي معرض الجواب نجدُ المتخصصين في الذكاء الاصطناعي ـ من أمثال تورينج ـ يعرّفون مفهوم أو بحيث يشمل الآلة أيضاً. إلاّ أنّهم بدلاً من حلّ المسألة، يُدخلون فرضاً خاطئاً يؤدّي إلى المصادرة على المطلوب.

خصائص الذكاء الاصطناعي

إنّ الذكاء الاصطناعي يتّبع برنامجاً خاصاً لحلّ المسائل. إنّ الالتفات إلى خصائص الذكاء الاصطناعي ينفع في مقام الاستفادة من هذا النوع من البرامج. وهناك خمس خصائصٍ منها تحظى بأهميّةٍ خاصّة (بونيه، 1993 م، م، ص 15 ـ 20)، وسوف نشرحها على النحو الآتي:

1 ـ الحسابات الرمزيّة: الخصيصة الأولى هي أنّ الذكاء الاصطناعي يعتمدُ في حلِّ المسائل على الرموز العدديّة. إنّ الذكاء الاصطناعي يعمل في حل المسائل على أساس منظومةٍ ثنائيّةٍ قوامها الصفر والواحد. ومن هنا ذهب بعض المخالفين إلى القول بأنّ أهمّ نقصٍ يعاني منه الذكاء الاصطناعي يكمن في أنّه لا يفهم غير الصفر والواحد. وبعبارةٍ أخرى: إنّ الحاسوب الآلي لا يفهم غير ، ولا يمكنه فهم الحالة المتوسّطة بين هذين المفهومين.

وفي الطرف المقابل قال أنصار الذكاء الاصطناعي: إنّ الذكاء الطبيعي (ذكاء الإنسان) يفهم الظواهر والأمور بدوره على أساس منظومةٍ ثنائيّةٍ أيضاً، فلو درسنا وحلّلنا الخلايا العصبيّة للإنسان، سندرك أنّ الفهم البشري يقوم على حالةٍ ثنائيّةٍ، وأنّ الجهاز العصبي يحوّل المفاهيم والتصورات إلى حالاتٍ ثنائيّةٍ. وبطبيعة الحال فإنّ بيان طريقة هذا التحويل في المفاهيم والإدراكات المعقّدة أمرٌ صعبٌ، بيدَ أنّ دراسة برامج الذكاء الاصطناعي قامت بتذليل هذا الأمر الصعب.

2 ـ أسلوب الكشف: الخصيصة الثانية في الذكاء الاصطناعي تعود إلى نوع المسائل التي يقوم بحلّها. في العادة ليس لهذه المسائل طريقة حلٍّ لوغاريثميّة. ومرادنا من اللوغاريثم سلسلةٌ من المراحل المنطقيّة التي تؤدي إلى حلِّ المسائل. إنّ الذكاء يطوي هذه المراحل خطوةً بخطوةٍ، حتّى يصل إلى حلِّ المسألة. وبعبارةٍ أخرى: إنّ طيَّ هذه المراحل في اللوغاريثم يضمن الوصول إلى النتائج بشكلٍ طبيعيٍّ. إنّ المسائل التي يعمل الذكاء الاصطناعي على حلّها ليس لها طرق حلٍّ لوغاريثميّة، بمعنى أنّنا في العادة لا نستطيع لحلِّ هذه المسائل اللوغاريثميّة أن نعثر ـ بعبارةٍ أخرى ـ على سلسلةٍ من المراحل المنطقيّة التي تضمن الوصول إلى النتائج. وعلى هذا الأساس فإنّ الذكاء الاصطناعي يعمل في حلِّ المسائل من خلال الاعتماد على أسلوب الكشف، أي أنّه يعتمد على أسلوبٍ لا يمكن لسلوكه أن يضمن الوصول إلى النتائج. في أسلوب الكشف هناك طرقٌ متعددةٌ لحلِّ المسائل، وإنّ اختيار أحدها يُبقي الباب مفتوحاً أمام اختيار الطرق الأخرى، وإنّ اجتياز بعضها لا يحول دون اجتياز الطرق الأخرى. وبالتالي فإنّ البرامج ذات الحلول الضامنة لا تُعدّ جزءاً من برمجيات الحاسوب الآلي؛ إذ لا يوجد لها حلٌّ لوغاريثميٌّ خاصٌ.

إنّ برامج لعبة الشطرنج شكّلت أرضيّةً ميمونةً للذكاء الاصطناعي؛ إذ لا يوجد أسلوبٌ معروفٌ لتعيين أفضل نقلةٍ في مرحلةٍ خاصةٍ من هذه اللعبة الفكريّة، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: إنّ عدد الاحتمالات الموجودة في كلِّ حالةٍ من الكثرة بحيث لا يمكن استيعابها ورصدها بأجمعها.

ثانياً: إنّ إدراكنا لمنطق الخيارات والحركات التي يقوم بها اللاّعبون منخفضٌ جداً. وإنّ عدم الإدراك هذا يعود إلى اللاّوعي بشكلٍ وبآخر، وعلينا ألاّ نغفل عن أنّ اللاعبين قد يتعمدون عدم الكشف عن منطقهم أحياناً.

بالالتفات إلى النكتة أعلاه، ذهب هيربرت دريفوس ـ أحد المخالفين للذكاء الاصطناعي ـ إلى الادّعاء بعدم وجود أيِّ برنامجٍ للوصول إلى مستوى لاعب الشطرنج الجيّد (Dreyfus, 1972). بيدَ أنّ ظهور البرامج المتطوّرة في لعبة الشطرنج منذ عام 1985 م، أثبت عدم صوابيّة هذا الادّعاء من دريفوس.

3 ـ التظهير المعرفي: إنّ برامج الذكاء الاصطناعي تختلف عن البرامج الإحصائيّة في ، بمعنى أنّ برامج الذكاء الاصطناعي تعبّر عن تطابق العمليات الاستدلاليّة الرمزيّة للحاسوب الآلي مع عالم الخارج. ويمكن لنا إيضاح هذه النقطة من خلال مثالٍ بسيطٍ:

إنّ عنوانٌ لمجموعةٍ من المسائل المعرفيّة، من قبيل:

1 ـ ما هي المعرفة المنشودة للذكاء الاصطناعي، وما هي أنواعها وما هي بنيتها؟

2 ـ كيف يمكن تظهير المعرفة من خلال الحاسوب الآلي؟

3 ـ ما هو نوع المعرفة التي يعمل التظهير المعرفي على بيانها؟ وما هو الشيء الذي يتمّ التأكيد عليه فيها؟

4 ـ كيف يمكن الحصول على المعرفة، وكيف يجب تغييرها؟ (Stillings & Weisler, 1995, p. 141).

4 ـ نقص المعلومات: إنّ الذكاء الاصطناعي يصل إلى حلِّ المسألة في حالةٍ لا تتوفر فيها جميع المعلومات التي تمسّ الحاجة إليها. وهذه الحالة تحصل في الكثير من الموارد الطبيّة، فإنّ المعلومات المتوفّرة لدى الطبيب لا تساعده في الغالب على تشخيص المرض، ولا تتوفر له فرصٌ كبيرةٌ للعلاج، ولذلك يتعيّن عليه الإسراع في اتخاذ القرار.

إنّ الافتقار إلى المعلومات اللاّزمة يجعل النتائج الحاصلة غير يقينيّةٍ أو أن يكون احتمال الخطأ فيها وارداً. ونحن في حياتنا العمليّة نتّخذ قراراتٍ لا تستند عادةً إلى المعلومات، وعليه تكون هذه القرارات عرضةً للخطأ دائماً.

6 ـ تناقض المعلومات: يمكن للذكاء الاصطناعي عند تناقض المعلومات وتعارضها، العثور على حلٍّ مناسبٍ للمسألة. إنّ الذكاء الاصطناعي في مثل هذه الموارد يقدّم أفضل الحلول للمسألة ويعمل بذلك على رفع التناقض.

تغيير الّرّموز

إنّ الحاسوب الآلي عبارةٌ عن منظومةٍ تعمل على التصرّف في الرموز وتغييرها. يعمل الحاسوب الآلي طبقاً للبرامج المقدّمة له على التحكّم في الرموز ويغيّر من أوضاعها، ويعمل البرنامج المنشود على بيان وإيضاح جزئيات التدخّل والتصرّف خطوة بخطوة، ويعمل الحاسوب الآلي على طبقها بشكلٍ دقيقٍ. إنّ هذه الرموز يتمّ صنعها في ذاكرة الحاسوب الآلي بواسطة الكهرباء. لنفترض أنّ هذه الرموز مؤلفة من الرقمين: الصفر والواحد (وفي الحقيقة فإن برامج الحاسوب الآلي تكتب بهذين الرقمين)، وعلى سبيل المثال نبيّن الرموز المنشودة من خلال الأسطر الأربعة أدناه:

1101

1001

0001

0011

يقوم الحاسوب الآلي بإجراء عملياتٍ على طبقِ الرّموز (في الأسطر الأربعة أعلاه) في ضوء البرامج المقدّمة له. والمثال أدناه برنامج لتغيير الرموز.

1 ـ استنسخ محتوى سطرٍ خاصٍ في سطرٍ آخر.

2 ـ احذف رموز سطرٍ خاص.

3 ـ اكتب سلسلةً من الرموز المحددة في سطرٍ خاص.

4 ـ قارن بين رموز سطرين محددين.

5 ـ استعمل رمزاً خاصاً لتسمية سطرٍ محددٍ.

في البرنامج المنشود يتمّ تحديد ما الذي يتعيّن على الحاسوب الآلي أن يقوم به وعلى أيّ سطرٍ. إنّ هذا النوع من عمليات تغيير الرموز يسمّى بـ (العمليات الجذريّة). وعليه يمكن تعريف الحاسوب الآلي بأنّه (منظومةٌ أو جهازٌ يستطيع القيام بعددٍ من العمليات الجذريّة).

فرضيّتان في الذكاء الاصطناعي

في الذكاء الاصطناعي يتمّ إخضاع الكثير من الفرضيّات إلى البحث. ومن بين تلك الفرضيّات هناك فرضيّتان تحظيان بالأولويّة. والفرضيّة الأولى أكثر اعتدالاً من الفرضيّة الثانية حيث تشتمل على الحدّ الأدنى من الادّعاء. وهاتان الفرضيتان عبارةٌ عن:

1 ـ فرضيّة النّظام الرمزي: مفاد هذه النّظرية كالآتي:

.

والتقرير الآخر للفرضيّة أعلاه: .

2 ـ فرضيّة النّظام الرمزي القوي: ومفاد هذه الفرضية كالآتي:

.

واضح أنّ الفرضيّة الثانية أكثر تطرّفاً من الفرضيّة الأولى، حيث تشتمل على الحدّ الأعلى من الادّعاء. إذ إنّ كلَّ شيءٍ يفكّر في ضوء هذه الفرضيّة ـ حتى الكائنات الطبيعيّة ـ يجب عدّه نوعاً من الحاسوب الآلي. وبذلك يكون الذهن البشري آلةً شاملةً وجامعةً من الرموز، وأنّ التفكير البشري من الناحية الماهويّة لا يختلف عن التفكير المستعمل بالنسبة إلى الحاسوب الآلي، فالتفكير في كلا الموردين عبارةٌ عن قدرة التصرّف والتغيير في أوضاع الرموز.

استدلال الغرفة الصينيّة

يطرح هذا السؤال نفسه في ما يتعلّق بمدّعيات الذكاء الاصطناعي، إذ يقول: بأيِّ أسلوبٍ يجب الإجابة عنه؟ فهل ينبغي في إطار العثور على الجواب المناسب، اللجوء إلى التجربة وجمع الشواهد؟ أم أنّ لهذه الأسئلة ماهيّةٌ فلسفيّةٌ بحتةٌ، وفي سياق الإجابة عنها يجب انتهاج الأساليب الفلسفيّة؟ حاول المتخصصون في الذكاء الاصطناعي الإجابة عنها وإثباتها من خلال الأسلوب التجريبي وجمع الشواهد التجريبيّة.

يذهب جون سيرل ـ وهو من الفلاسفة البارزين في العصر الراهن ـ إلى الاعتقاد بأنّ المتخصصين في الذكاء الاصطناعي قد سلكوا طريقاً خاطئاً باعتبارهم هذه المسائل أموراً تجريبيّة. فإنّ مسألة ، ليست مسألةً تجريبية، ولا يمكن لجمع الشواهد أن يحمل إجابةً لذلك. وادّعى أنّنا نستطيع الآن إبطال فرضيّة أنظمة الرمز دون الالتفات إلى هذه الشواهد. إنّ هذه الفرضيّة ـ من وجهة نظره ـ تنكر حقيقةً تحليليّةً (من قبيل: )، مع فارق أنّ إدراك خطأ هذا المثال في غاية البساطة؛ إذ يمكن إثبات عدم صوابيّته من خلال الرجوع إلى المعاجم اللّغويّة. وأمّا إبطال فرضيّة أنظمة الرمز، فهو بحاجةٍ إلى بحثٍ فلسفيٍّ دقيقٍ. وقد طرح سيرل استدلالاً على ردّه، وهو الاستدلال الذي عرف لاحقاً بـ استدلال الغرفة الصينيّة.

قلنا: إنّ الحاسوب الآلي هو الجهاز الوحيد الذي يعمل على تغيير الرموز، وكلُّ ما يقوم به هو المقارنة بين الرموز، أو يعمل على حذفها أو استنساخها وما إلى ذلك. وسرعان ما يطرح هذا التساؤل نفسه: هل يمكن للحاسوب الآلي أن يفهم؟ بمعنى: هل يمكنه أن يفهم جملةٌ في لغةٍ طبيعيّةٍ بعينها (من قبيل اللّغة العربيّة مثلاً)؟ يجيب سيرل عن ذلك بالقول: إنّ الحاسوب الآلي لا يستطيع فهم عبارات اللّغة الطبيعيّة. وقد أجاب بألفاظٍ فنيّةٍ، إذ يقول:

(Searl, 1989: p. 31).

إنّ الكفاءة في النحو تعني القدرة على التصرّف والتغيير في الرموز اللغويّة، وهذا لا يعني بالضرورة الكفاءة والقدرة على فهمها. إنّ الحاسوب الآلي هو أستاذٌ في قواعد النحو؛ بمعنى أنّ برامج الحاسوب الآلي ليست سوى مرشدٍ للقيام بسلسلةٍ من الخطوات النحويّة. ومن هنا فإنّه لا يستطيع التحرّر من قيود النحو، والانطلاق في فضاء معرفة المعاني.

إنّ استدلال سيرل معقّدٌ إلى حدٍّ ما، ويحتاج إلى تقريرٍ بسيط ٍنسبياً. لنفترض أنّنا عملنا على تصميم برنامجٍ لفهم القصص. إنّ هذا النّوع من البرمجيات في الذكاء الاصطناعي يعرف بـ (Sam) اختصاراً لـ (Script Applier Mechanism). فلو عملنا على تزويد هذا البرنامج بقصّةٍ، وطرحنا عليه أسئلةً بشأنها، فإنّه سيجيبنا عنها بأجوبةٍ مناسبةٍ دون تردّدٍ. سبق لنا أن ذكرنا أنّ برامج الحاسوب الآلي تكتب على طبق منظومةٍ من الأعداد الثنائيّة هي (الصفر والواحد). وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ مرحلةٍ من هذا البرنامج تبدو على شكل سطرٍ من أعداد الصفر والواحد، ويمكن لنا ترجمتها على شكل قاعدةٍ. نستعرض السّطر الآتي على سبيل المثال:

00000011 0111 1100

ففي هذا السطر نجد الرمز (0111) الذي يشير إلى العدد 7، والرمز (1100) الذي يشير إلى العدد 12، والرمز (00000001) [الذي يشير إلى العدد 1]، يمثل أسلوباً كي نقول للحاسوب الآلي: (قارن). وعلى هذا الأساس فإنّ السّطر أعلاه يُترجم إلى هذه القاعدة:

.

لو كتبنا كلّ برنامجِ الـ (Sam) على طبق هذا الأسلوب، بمعنى أن نعيد كتابة جميع سطوره على شكل قواعدٍ في إطار لغةٍ طبيعيّةٍ، سوف تكون لدينا مجموعةٌ من الكتب المشتملة على القواعد. إنّ هذه المجموعة ستحتوي على مجلداتٍ كثيرةٍ، وإنّ عمليّة إكمال هذه المجلّدات سوف تستدعي شهوراً بل سنواتٍ طويلةٍ وصبرٍ أطول. لنفترض أنّنا قد أمكن لنا العثور على مثل هذا الشخص الصّبور الذي أبدى استعداداً للقيام بإعادة كتابة هذه المجلدات، فسوف يتعيّن على هذا الشخص الفذّ والاستثنائي أن يحبس نفسه في مكتبةٍ زاخرةٍ بالكتب ذات الصّلة بقواعد هذه الكتابة. كما يجب أن تحتوي هذه المكتبة على الكثير من الأوراق البيضاء وآلاف الأقلام. وإنّ وسيلته الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي ستكون عبارةً عن كوّتين صغيرتين إحداهما للاستقبال والأخرى للإرسال. يقوم المختبرون بإرسال قصّةٍ مرفقةٍ بأوراق الأسئلة عبر كوّة الاستقبال، ليحصلوا على الأجوبة من خلال كوّة الإرسال ضمن فترة قصيرةٍ جداً. إنّ هذا الشخص لا يمارس الخداع أو التمويه في إعداد وتقديم الإجابات. وإنّ جميع القصص والأسئلة قد كتبت باللّغة الصينيّة، وهو لا يعرف هذه اللغة، بل إنّه لا يدرك أنّ الاستقبال والإرسال في الأصل عبارةٌ عن جُملٍ في لغةٍ خاصةٍ. إنّ جميع هذه الأمور والنماذج بالنسبة له فاقدةٌ للمعنى. إلاّ أنّه بمجرد الحصول على قصّةٍ مرفقةٍ بأسئلةٍ من كوّة الاستقبال، يراجع كتاب قواعده ويعثر للرموز المنشودة على سلسلةٍ متناسبةٍ من أعداد الصفر والواحد. إنّ عليه القيام بآلاف التعديلات وملء الأوراق البيضاء بسلسلةٍ من أعداد الصّفر والواحد. وبالتالي فإنّه سيصل إلى الصفحة الأخيرة من كتاب قواعده التي وضعت أرقاماً خاصة بإزاء الأبجديّة الصينيّة. وبعدها يقوم بإرسال الإجابات الكاملة إلى الخارج عبر كوّة الإرسال. إنّ هذه الأبجديّة من وجهة نظر المختبرين دقيقةٌ للغاية، في حين أنّها من وجهة نظر ذلك الشخص القابع في المكتبة المغلقة لا تعدو أن تكون مجرد خبطاتٍ عشوائيّةٍ وغير مفهومةٍ.

يرى سيرل أنّ هذا الشخص لا يفهم القصّة ولا الأسئلة، وأنّ الاستقبال والإرسال بالنسبة إلى هذا الشخص يتألّفان من مجرّد رموزٍ اعتباطيّةٍ فاقدةٍ للمعنى. ولكنّه في الوقت نفسه يقوم بجميع المهام التي يقوم بها الحاسوب الآلي، ويقوم بأداء برنامج الـ (Sam) بدقّة كاملة. ولكن حيث إنّ القيام بهذا العمل لا يستوجب أن يفهم هذه اللّغة، فإنّ الحاسوب الآلي بدوره من خلال قيامه بهذا البرنامج لا يفهمها أيضاً.

وبشكلٍ عامٍ فإنّ استدلال الغرفة الصينيّة يثبت وجود جهازٍ يعمل على مجرّد تغيير الرموز، ولا يمكنه أن يفهم شيئاً، أو أن يعتقد بشيءٍ، أو أن يفكّر في شيءٍ. وعليه فإنّ صدق هذا الاستدلال يستلزم كذب فرضيّة النظام الرمزي.

إنّ استدلال الغرفة الصينيّة قد أثار الكثير من الأبحاث بشأن الذكاء الاصطناعي، حيث أدلى الكثير من المخالفين والموافقين بدلائهم في هذا المجال. من ذلك أنّ ـ على سبيل المثال ـ قام بنقد هذا الاستدلال. إذ يرى أنّه يحتوي على مغالطةٍ دقيقةٍ، وهي من قبيل: (مغالطة الجزء والكلّ). عندما نسأل الشخص الحبيس في الغرفة الصينيّة: هل العمل على تغيير الرموز يدفعه إلى فهم الأسئلة الوافدة إليه عبر كوّة الاستقبال؟ سيكون جوابه هو النفي. وبذلك فإنّ سيرل يستنتج من هذه المقدّمة أنّ تغيير الرموز لا يكفي في الوصول إلى الفهم. يرى كوبيلاند أنّ مشكلة سيرل تكمن في أنّه يتصور وجود مجرّد شخصٍ واحدٍ في الغرفة الصينيّة، وأنّ وظيفته تتلخّص في تغيير الرموز. في حين أن هناك شخصاً آخر يجلس إلى جوار ذلك الشخص، ولكنّه يتواجد هناك بشكلٍ سرّيٍّ، ويمكن القول أنّه نِتاجُ أعمال الشخص الأوّل. فهو من خلال تغيير الرموز يعمل على إيجاد ذلك الشخص الخفي. إنّ الشخص الأول لا يعتريه التّعب، ويقوم لذلك بإنجاز الكثير من الأعمال، إلاّ أنّ الشخص الثاني يتحدّث اللّغة الصينيّة بشكلٍ جميلٍ وطليق، ويمتلك القدرة على الخروج من قيود الشخص الأول، ويتعرّف على تفاصيل ودقائق اللّغة الصينيّة. ومن هنا لا بدّ من سؤال سيرل عن سبب توجيه السؤال إلى خصوص الشخص الأول بشأن فهم الرموز؟ فهو لا يشكّل سوى جزءٍ من هذه الآلة. وأمّا إذا وجّهنا هذا السؤال إلى الشخص الثاني فإنّه سيقول: إنّ المهام التي يقوم بها الشخص الأول تمكّنه من فهمها. وعليه يمكن صياغة استدلال سيرل على النحو الآتي:

ـ مهما بالغ هذا الشخص في تغيير الرموز، لن يستطيع أن يفهم النتائج المرسلة والمكتوبة باللّغة الصينيّة (المقدمة).

ـ مهما بالغ هذا الشخص في تغيير الرموز، فإنّ المنظومة التي يُعتبر هو جزءاً منها، لن تمكّنه من فهم النتائج المرسلة والمكتوبة باللغة الصينيّة (النتيجة).

إن هذا الاستدلال غير معتبرٍ، إذ لا يحتوي على صلةٍ منطقيّةٍ بينه وبين النتيجة (Copeland, 1993: p. 6 - 125).

يسعى كوبيلاند إلى إثبات أنّ هذا النظام وإن كان في بعض أجزائه لا يستطيع فهم اللّغة، إلاّ أنّه بمجموعه يستطيع ذلك، وأنّ سيرل لم يثبت غير القول بأنّ جزءاً منه لا يفهم اللغة. إنّ كلام كوبيلاند لا يبدو مقنعاً؛ إذ لا يزال هذا السؤال مطروحاً: كيف يمكن لتغيير الرموز أن يجعل مجموع المنظومة قادرةً على فهم اللغة؟ ثم أنّ ما هو الفرق بين هذا الكلّ والجزء الذي يجعل من كلّ المنظومة مجموعاً يفهم اللّغة الصينيّة؟ يُثبت سيرل أنّ كل ما يحدث في المنظومة هو تغيير الرموز، وهذا لوحده لا يكفي لفهم اللّغة. وأمّا كوبيلاند فيدّعي أنّ هذا الأمر يجعل كلّ المنظومة قادرةً على فهم اللغة. وعليه لا بد من إثبات هذا الادّعاء.

الدين والفهم الميكانيكي للتفكير

إنّ أبحاث الذكاء الاصطناعي مرتبطةٌ بالمعتقدات الدينيّة في الكثير من الموارد، وهي تثير الكثير من الأسئلة في هذا الشأن، ويمكن بيان بعض هذه الأسئلة على النحو الآتي:

1 ـ هل الفهم الموجود في الذكاء الاصطناعي ينسجم مع الدين؟

2 ـ ألا تثير الفرضيات القائمة في الذكاء الاصطناعي نقاشاً حاداً حول تفوّق الإنسان على سائر الكائنات؟

3 ـ ألا يكتسب أسمى نشاطٍ بشريٍّ ـ وهو النشاط المتمثّل بـ (التفكير) ـ في ضوء الذكاء الاصطناعي صبغةً ماديةً وطبيعيّةً؟

4 ـ هل يُثبت الذكاء الاصطناعي أنّ جميع النشاطات البشريّة الكبيرة قابلةٌ للتفسير بشكلٍ طبيعيٍّ؟

يبدو أنّ أسئلةً من هذا النوع ترتبط في نهاية المطاف بالسؤال الأول، وأنّ السؤال الأول أكثر جوهريّةً منها. ومن هنا سنكتفي بطرح هذا السؤال ومناقشته من المنظار الديني.

إنّ جوهر هو الفهم الميكانيكي للتفكير؛ وإنّ التفكير لا يعدو أن يكون مجرّد القيام بخطواتٍ ميكانيكيةٍ تتمثل بـ (تغيير الرموز). وهذه هي العمليّة التي تقوم بها الآلة. ومن هنا فإنّ التفكير بمعناه الحقيقي لا يختص بالبشر، أو بعبارةٍ أخرى: إنّ التفكير من مختصات الآلة.

في الرؤية الدينيّة يمتاز الإنسان من سائر الموجودات في العالم بميزةٍ خاصةٍ. وإنّ هذه الميزة لا تُختزل بطاقاته الروحيّة والمعنويّة فقط، بل هي مرتبطةٌ بقواه الفكريّة والعقليّة أيضاً. وإنّ اتصاله بعالم الغيب والتوصّل إلى دور الله سبحانه وتعالى في مصيره يكمن إلى حدٍّ ما في قواه وطاقاته الإدراكيّة والعقليّة.

لقد اختزل سيرل الفارق الهام بين الذكاء الاصطناعي والعقل الطبيعي للبشر في فهم اللّغة. إنّ القدرة على فهم اللغة تختصّ بالطاقات العقليّة الخاصة. وإنّ اللّغة ظاهرةٌ هامةٌ للغاية إلى الحدّ الذي قام معه بعض الفلاسفة بتعريف الإنسان بأنّه . ولكننّا بالرجوع إلى آيات القرآن الكريم نجد أنّه يشير إلى امتيازاتٍ أخرى للبشر، ويمكن لهذه الامتيازات أن تكون هي الوجه والفارق الهام الذي يميّز الإنسان من الآلة. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى موردين منها:

1 ـ فهم التاريخ والاعتبار به: يمكن للإنسان أن يفهم الظواهر التاريخيّة، وأن يستلهم منها الدروس والعبَر. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الحقيقة في سورة يوسف إذ يقول في محكم كتابه الكريم:

 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

إنّ لهذه الآية أجزاء متنوّعة، يمكن بيانها على النحو الآتي:

أولاً: إنّها تتحدّث عن السيرة التاريخيّة للنبي الأكرم (ص).

ثانياً: إنّها تأمر المخاطبين بالضرب والسير في الأرض من أجل الاعتبار بعواقب ومصائر الأمم السالفة.

ثالثاً: إنّها تتحدّث عن عالم الآخرة والتقوى.

وفي نهاية المطاف تعمل على توبيخ المخاطبين بسبب عدم توظيف العقل والتفكير. وإنّ الدعوة إلى التفكير واستخدام العقل ترتبط بمختلف مضامين وأجزاء الآية.

والقسم الثاني من الآية يدعو إلى التأمّل في الآثار الباقية في الأرض عن الأمم السابقة. وإنّ المخاطَبَ من خلال تدبّره في آثار الماضين والسير في الأرض، ومن خلال حركته الميكانيّة ينتقل إلى الأزمنة الماضية، ويأخذ دروس العبر منها (كموني، ص 2 ـ 101، 2005 م).

لا يمكن لأيّ نشاطٍ ميكانيكيٍّ أو لتغيير الرموز أن تكون له القدرة على الوصول إلى مثل هذا التفكير. ولا يمكن للذكاء الاصطناعي الخوض في البُعد الزماني من خلال البُعد المكاني والمعلومات المستنتجة من خلال الآثار المتبقّية على الأرض، وأن يحصل منها على العبر بالنّظر إلى الأزمنة الماضية.

2 ـ فهمُ القوانين الطبيعية: إنّ العقل البشري من الناحية الدينيّة لا يقبل التقليل إلى مستوى التغيير في الرموز، وإنّ له الكثير من النشاطات الأخرى التي لا يمكن لنا أن نتوقعها من الذكاء الاصطناعي أبداً. إنّه يستطيع فهم قوانين الطبيعة وارتباطها بالله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

إنّ الحياة والموت الطبيعي يمثّل نوعاً من الظواهر الطبيعيّة والمرتبطة بقوانين الطبيعة. وإنّ هذه الآية تدعو الجميع إلى التدبّر والتأمّل في هذه الظاهرة والتعرّف عليها. إنّ هذه الظاهرة هي من جملة الآيات الإلهيّة التي تستحق التأمّل والتدبّر. وكذلك قال تعالى في سورة الحج: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.

إنّ حياة الأرض تبدأ بهطول المطر، ثم تخرج النباتات الجميلة من بطنها. إنّ هذه القوانين البسيطة هي التي تحكم الطبيعة، والتي تُعدّ من ناحيةٍ أخرى من الآيات الإلهيّة، ومن هنا نجد القرآن الكريم يدعو الجميع إلى التدبّر فيها.

إنّ الذكاء الاصطناعي لا يستطيع القيام بما هو أكثر من تغيير الرموز. ومن الواضح أنّه في كلّ مسألةٍ يروم حلّها يتعيّن عليه قبل كلّ شيءٍ أن يُترجمها بنحوٍ مناسبٍ إلى رموزٍ قابلةٍ لفهمه، وهي لغة الصفر والواحد. إنّ التأمّل في قوانين الطبيعة وفهم الآيات الإلهيّة يستتبع على الدوام نوعاً من الحيرة، ويرتبط بمستويات أعلى من التفكير البشري. إنّ هذا النوع من الأمور يستحيل صبّه في قوالب رموزٍ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفهمها.

يعمد الوجوديون عادةً إلى التفريق بين السرّ والمسألة. إنّ المسألة تندرج في دائرة العلوم، ويمكن مقاربتها وحلّها بواسطة العقل الحسابي، وعليه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعمل على حلّ هذه المسائل، وتغدو ترجمتها إلى لغة الرموز وتغييرها في مثل هذه الموارد ناجعة. وأمّا السرّ فيتعلّق بالشؤون الجوهريّة من حياة الإنسان، من قبيل: الموت والفرح والحزن وما إلى ذلك. إنّ الخلفيات العقليّة التي نواجهها في الدين هي من قبيل السرّ، ولا شك في أنّ الذكاء الاصطناعي لا يستطيع التسّلل إلى حريمها. قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }.

يمكن للإنسان أن يتدبّر في الحياة الدنيويّة وأن يكتشف النواحي السلبيّة فيها. وإنّ هذه النواحي تجعل من الحياة الدنيويّة مجرّد لعبٍ ولهوٍ. ولكن يمكن للعقل أن يفهمها ويتخلّى عنها. إنّ هذا النوع من الأمور يعتبر من الأسرار، ولا يمكن لنا حلّها بواسطة الذكاء الاصطناعي. إنّ من بين مشاكل التفكير الحديث تحويل العقل إلى مجرّد عقلٍ حسابيٍّ، وهو الذي يمثّل حقيقة التفكير في الذكاء الاصطناعي. إلاّ أنّ النصوص الدينيّة تقدّم نوعاً آخر من التفكير الذي يستحيل تحويله وتقليله إلى مجرّد عقلٍ حسابيٍّ.

المصادر العربيّة:

القرآن الكريم.

بونييه، ألاين، الذكاء الاصطناعي واقعه ومستقبله، نقله إلى اللّغة العربية: علي صبري فرغلي، عالم المعرفة، الكويت، 1993 م. وهو ترجمة لكتاب:

Bonnet, Alain. Artificial Intelligence, Prentic Hall, (1985).

كموني، سعد، العقل العربي في القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005 م.

المصادر الأجنبية (الإنجليزية)

Copeland, Jack, Artificial Intelligence, A Philosophical Introduction, New York: Blackwell (1993).

Desouza, Kevin. Managing Knowledge With Artificial Intelligence, London: Westport, (2002).

Haugeland, John. Artificial Intelligence, The Very Idea, Massachusetts, The MIT Press. (1985).

Searl, John, Minds, Brains and Science, London: Penguin, (1989).

Stillings, Neil & Weisler, Steven. Cognitive: An Introduction, New York: Massachusetts, Institute of Technology, (1995).