البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

السببية الناقصة

الباحث :  سارة دبوسي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  18
السنة :  السنة الرابعة -شتاء 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 8 / 2020
عدد زيارات البحث :  2469
تحميل  ( 358.787 KB )
تناول ديفيد هيوم مسألة السببيَّة بصيغة نقديَّة لشعوره بضرورة إخضاع النزعة التجريبيَّة التي أرساها سابقوه إلى الشكّْ، ومردُّ ذلك ربَّما إلى طبيعة مواقفه الرَّيبيَّة التي تُقرُّ باستحالة التوصُّل إلى حقائق نهائيَّة.
هيوم يرى أنَّ العقل عاجز عن تفسير العلاقة القائمة بين السبب والمسبِّب ليعطي بذلك الأسبقيَّة للخبرة والتجربة. أمَّا تعريتُه للسببيَّة من شرط الضرورة والاكتفاء، والقول أنَّها مجرَّد عادة وتكرار، فيفضي إلى القول بهشاشة العلم القائم عليها، ما جعل من العلم الحديث في رَيْبة من نتائجه.

المحرِّر
-----------------------------------
تنبَّه الفكر الفلسفيُّ، منذ غابر الأزمان، إلى أهمِّ الإشكالات الكبرى التي تؤرِّق وجود الإنسان في الكون، شأن البحث في سبب وجوده. وقد كان لسؤال: لماذا وُجِد؟ دورٌ مركزيٌّ في تأسيس العلوم والأفكار البشريَّة التي حفَّزت الإنسان على نبش جذور هذا العالم من أجل كشف حوادثه المختلفة، وإدراك نتائجه، ومثَّلت الفلسفة الحاضنة المتينة لجُلِّ الإشكالات التي أربكته وما زالت تُّطرح على بساط البحث حتى يومنا هذا، ووفَّرت لها التُّربة الخصبة.
بيد أنَّ الإنسان الأول لم يفقه إلَّا جزءًا من وجوده في العالم عن طريق الحواسِّ والذِّهن، لذلك كان البحث في الأسباب والمسبِّبات من أهم المشاغل التي استحوذت على تفكيره من أجل فكِّ الغموض المُحدِق به، ومنه اتَّجه نحو افتراض العديد من النظريَّات الفلسفيَّة والعلميَّة لتكون بذلك مسألة السببيَّة إحدى النظريَّات التي فكَّر فيها لتفسير غموض الكون. إنطلاقًا من ذلك، لسنا في حاجة إلى الكثير من تدقيق النَّظر في طبيعة الوجود البشريِّ، ولا التساؤل عن أهمِّ الإشكالات التي حيَّرته، حتى نتساءل عن دعاوى الحاجة إلى البحث في موضوع السببيَّة.
تُعدُّ السببيَّة من أهمِّ المواضيع الفلسفيَّة الدالَّة على ترابُط الظَّواهر الطبيعيَّة، وهي أيضًا من بين المواضيع المعرفيَّة التي تناولها العلم التجريبيُّ بالدراسة والتحليل. لذلك احتلَّت مكانة هامَّة لدى الفلاسفة والعلماء باعتبارها تُقدِّم تفسيرًا شافيًا للظواهر الطبيعيَّة من خلال بحثها في علاقة السبب بالمسبِّب أو العلَّة بالمعلول.
من هنا، فإنَّ التفكير في مفهومها يطرح العديد من الإشكالات المرتبطة بوجود الإنسان في الكون، خصوصًا أنَّ هذا المفهوم لم يكن وليد لحظة فلسفيَّة معيَّنة بل إنَّه ضارب في عمق تاريخ الفكر الإنسانيِّ، إذ حاز على مساحة كبيرة من هذا الفكر حتى أنَّه صار مبحثًا أساسيًّا ضمنه، وذلك من خلال تناول الفلاسفة له سواء بالقبول أم بالرفض، كما أنَّ له  مكانة خاصَّة في مجال البحث العلميِّ من حيث وضع القوانين وقراءة الظواهر الطبيعيَّة.
ولقد لقيت مسألة السببيَّة اهتمامًا واسعًا لدى فلاسفة اليونان ولاسيَّما أرسطو الذي تشكَّلت بداية ظهورها معه (العلل الأربع)، كما تطوَّرت في العصر الوسيط مع فلاسفة الإسلام لدى كلٍّ من الغزالي، إبن رشد، إبن سينا، ومع فلاسفة الحداثة لدى كلٍّ من جون لوك، بركلي وديفيد هيوم[1]، والذي هو محور مبحثنا الأساسيّْ. وبالتالي، فإنَّ السؤال المطروح هو: ماذا نعني بالسببيَّة؟ وهل أنَّ مبدأها لدى هيوم قائم على الضرورة أم على العادة فقط؟ وكيف تمكَّن من الزجِّ بها من مجال المنطق إلى مجال السيكولوجيا؟ وإلامَ أفضى تصوُّره الفلسفيُّ لها؟

1ـ في مفهوم السببيَّة:
قبل الغوص في ثنايا هذا المبحث ومدلولاته الكبرى، يتوجَّب علينا أن نولِّي أنظارنا جهة التذكير بتوجُّه هيوم الفكريِّ، حيث قامت فلسفته على عدم الثِّقة في التأمُّل الفلسفيِّ، ورأى أنَّ المعرفة البشريَّة تتأتَّى من الخبرة أي أنَّها خالصة من كلِّ إضافة عقليَّة. ويُعتبر المنهج التجريبيُّ الحسِّيُّ من أهمِّ الموضوعات التي شغلت تفكيره. هذا، ويتصدَّر اهتمامه بمسألة السببيَّة مجمع أبحاثه التجريبيَّة فقد أولاها اهتمامًا واسعًا يتجلَّى من خلال تحليله الدقيق والعميق الذي وجَّهه إليها. وربما سبب ذلك انتماؤه إلى المذهب الشكوكيِّ الذي بلغ نضجه
الفكريَّ في رحاب نظريَّاته العلميَّة والفلسفيَّة، لذلك، لا يمكننا أن نفهم نظريَّته في السببيَّة ما لم نفهم فلسفته في تشكيل الأفكار.
 من المفيد الإشارة إلى أنَّ السببيَّة تعني العلاقة بين السبب والمسبِّب، أي أنَّ لكلِّ ظاهرة سببًا يكمُن خلفها، وهي أيضًا أحد مبادئ العقل. ويرادف معناها معنى العلِّيَّة في العلاقة الجامعة بين أمرين بحيث يؤثِّر أحدهما في الآخر فينتج منه أمر آخر، وبالتالي يكون سببًا في وجوده.
أمَّا في الُّلغة، فإنَّ للسببيَّة أو العلِّيَّة المعاني التالية: «العلَّة إسم لعارض يتغيَّر به وصف المحلِّ بحلوله لا عن اختيار(...) ومنه سُمِّي المرض علَّة لأنه بحلوله يتغيَّر حال الشخص من القوَّة إلى الضعف، وكلُّ أمر يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال أو بانضمام الغير إليه، فهو علَّة لذلك الأمر، والأمر معلول له، فيتعقَّل كلُّ واحد منهما بالقياس إلى تعقُّل الآخر»[2].
ويُعدُّ لفظ السببيَّة من الألفاظ الأكثر شيوعًا في حياتنا ليس في مجال العلم والتجربة فحسب وإنَّما هو كامن أيضًا في عمق أعماق الفكر البشريِّ، حتى أنَّ الكلَّ يعود إليه في تفسيره لمجريات الأحداث التي تغمر حياتنا. فالقول أنَّ لكلِّ شيءٍ سببًا يعني أنَّ توق الإنسان إلى معرفة الأشياء بمسبِّباتها يظلُّ على الدوام قائمَ الذَّات، خصوصًا أنَّ الحياة البشريَّة مليئة بالأحداث والظواهر التي تفسِّر السبب الذي تتَّبعه النتيجة وجوبًا، فالعقل ماانفكَّ يفسِّر الطبيعة وفقًا لنظام ثابت من الأحداث لا الفوضى واللَّامعنى.
لا شيء يوجد من لا شيء، ذاك هو المحفِّز الأساسيُّ للفكر البشريِّ الذي ما فتئ يبحث في الطبيعة البشريَّة من أجل فكِّ لغزها الغامض، والذي هو مبدأ أساسيٌّ في كلِّ معرفة بشريَّة  سواء كانت علميَّة أم عاميَّة. ولم يكن هيوم أول من تناول هذا الإشكال باعتبار أنَّ الفلسفة اليونانيَّة قد سبقته في تناولها لهذا الإشكال لكنَّه كان سبَّاقًا من حيث تناوله له انطلاقًا من المنهج التجريبيّْ. ولكن ما المقصود بالسببيَّة في الاصطلاح الفلسفيّْ؟
إنَّها تعني تلك العلاقة الوطيدة بين السبب والمسبِّب، وهي أيضًا أحد مبادئ العقل.» هي العلاقة الثابتة بين السبب والمسبِّب. ومبدأ السببيَّة هو أحد مبادئ العقل، ويُعبَّر عنه بالقول: إنَّه لكلِّ ظاهرة سببًا أو علَّة، وما من شيء إلَّا وكان لوجوده سبب، أي مبدأ يفسِّر وجوده»[3].
وعلى الرغم من تحيُّزها على مكانة هامَّة في أعماق تاريخ الفكر الإنسانيِّ لا يزال الغموض يكتنف العلِّيَّة أو السببيَّة التي هي مقولة فلسفيَّة تدلُّ على الروابط القائمة بين الظَّواهر أي أنَّها تُعبِّر عن تلك العلاقة بين السبب والنتيجة بحيث يكون الحدث الثاني نتيجة للأول.     «وللعلَّة اصطلاح أخصُّ هو عبارة عن ذلك الموجود الكافي لتحقيق موجود آخر، ووجود المعلول يصبح ضروريًّا بواسطته»[4]. وهذه النظريَّة قديمة منذ أرسطو إلَّا أنَّها تطوَّرت أكثر على يد ديفيد هيوم.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ معظم الدراسات الفلسفيَّة والعلميَّة تذهب في تناولها لمبدأ السببيَّة  إلى القول بسِمَة الضرورة، وأنَّ عدم افتراض هذه الضرورة سيفضي حتمًا إلى عدم إمكانيَّة صياغة قوانين الطبيعة، ومن ثمَّ ستهتزُّ أركان العلم، فمن غير الممكن القول بأنَّ لمس النار مثلًا لن يؤدِّي إلى الحرق، وهذا ما يوصل إلى ضرورة التَّلازم بين السبب والنتيجة، إلَّا أنَّ تناول هيوم لهذا الموضوع سيزعج التصوُّرات العلميَّة السابقة له، وسيعمل على تغيير هذا القانون.

2ـ موقف هيوم من مسألة السببيَّة:
احتلَّت مسألة السببيَّة مكانة هامَّة في فكر هيوم، حيث تناولها بالدِّراسة والتحليل، وهذا ما جعل لها أثرًا بالغًا في الفلسفات اللَّاحقة له بصفة عامَّة، وأيضًا لها تأثير على منطق الاستدلال الاستقرائيِّ بوجه خاصّْ. كما أنَّها تُعدُّ أساس المعرفة العلميَّة التي تقوم على اقتران السبب بالمسبِّب.
ويشهد قانون السببيَّة على تمركُزها على ثلاثة أُسُس رئيسيَّة هي الاتِّصال، والأسبقيَّة، والضرورة، كما أكَّدت على ذلك معظم التصوُّرات العلميَّة السابقة. لكن هل سيظلُّ هذا القانون على حاله مع التصوُّر التجريبيِّ لهيوم لها، أم أنَّه سيشهد زعزعة لم يَعْهدْها من قبل؟
إنَّ تناول هيوم لمسألة السببيَّة بصيغة نقديَّة يعود إلى شعوره بضرورة إخضاع النزعة التجريبيَّة التي أرساها سابقوه إلى الشكِّ، وربما يعود ذلك إلى طبيعة مواقفه الرَّيبيَّة التي تقرُّ باستحالة التوصُّل إلى حقائق نهائيَّة. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل التالي: ماهي البراهين التي اتَّكأ عليها في نقده لمبدأَيْ العقل والتجربة في تفسيره لهذه المسألة؟

أ: رفض الدليل العقليّْ:
 كان هيوم تجريبيًّا بكلِّ معنى الكلمة، فقد سعى في طرحه الفلسفيِّ لتبيان أهميَّة التجارب التي تساعدنا على فهم السبب والنتيجة كأفكار مجرَّدة تساهم في تفسير العالم الطبيعيِّ ما يعني أنَّ فهمنا للعالم يصدر من معارفنا الحسِّيَّة، وأنَّ للسببيَّة ثلاثة ضروب أساسيَّة وهي» أنَّ فكرة العلِّيَّة قائمة على أُسُس ثلاث هي: الإتِّصال، الأسبقيَّة وكذا الارتباط الضروريُّ  (الضرورة)»[5].
لقد اعتبر هيوم أنَّ مسألة السببيَّة تُعدُّ عنصرًا أساسيًّا في حياة الإنسان وفي النظريَّات المعرفيَّة بصيغة إجماليَّة باعتبار أنَّ لكلِّ حادثة سببًا، ومعلوم أنَّ هذه النظريَّة التي سادت منذ أرسطو وصولًا إلى العصر الحديث تُقرُّ بأنَّ البحث في الأسباب هو مبدأ قائمٌ في العقل، وخاضعٌ لمبدأ الضرورة والفطرة ولا مجال لإنكار هذه المبادئ. فهل سيظلُّ هذا القانون على حاله في التناول الهيوميِّ له؟
في تحليله لهذا الموضوع أقرَّ هيوم بوجود عنصر الاتِّصال واعتبره أساسيًّا وجوهريًّا لتفسير مبدأ السببيَّة، وكذا هو الحال لعنصر الأسبقيَّة الزمنيَّة بين السبب والمسبِّب، إلَّا أنَّه رأى في عنصر الضرورة إشكالًا. وهو يقول «إنَّ تصوُّر العلِّيَّة تصوُّرٌ معقَّد وليس بسيطًا، إذ يتضمَّن ثلاثة أفكار هي: السبق، والجوار المكانيُّ، والضرورة». ولم يُثِر السبق والجوار مشكلة لديه ه إذ يقول: «لا توجد صعوبة في فهمها»، ولكنه رأى أنَّ «فكرة الضرورة في العلاقة العلِّيَّة فكرة تستلزم التحليل»[6].
لا بدَّ من القول أنَّ هذا الفيلسوف أنكر وجود فكرة الضرورة التي تشدُّ السبب بالمسبِّب أي الوجوب المنطقيَّ، كما ذهب إلى ذلك سابقوه من الفلاسفة العقلانيُّون، ليقرَّ بأنَّ هذه العلاقة هي مجرَّد تتابع وتكرار للانطباعات والأفكار التي وقعت في الماضي، مُعتبرًا أنَّ هذه الضرورة ليست منطقيَّة وإنما هي مجرَّد انطباع تجريبيٌّ فحسب خاضع للتَّتابع العاديِّ للأحداث والوقائع المرتبطة بالملاحظة الحسِّيَّة والذِّهنيَّة النابعة من صميم التجربة البشريَّة. 
وأنَّ ما يحدث في الطبيعة من أحداث تبدو منفصلة ومتتابعة شأن تحليل معنى الدفء الذي لا يتضمَّن عنصر النار أو حرارة الشمس، وتحليل معنى النار لا يتضمَّن عنصر الدفء وإنَّما معرفة العناصر الكيميائيَّة والطبيعيَّة التي أدَّت إلى وقوعها.
ففي تناوله لقضيَّة السببيَّة ضمن كتابه تحقيق في الذهن البشريِّ يذهب إلى إبراز شكوكه في عمليَّات الذِّهن منطلقًا في ذلك من الحالة الآدميَّة للإنسان الأول، ونظرته للشمس، وتلك الحيرة التي تنتابه حول إمكانيَّة شروقها مرة أخرى أم لا، خصوصًا أنَّه لا يمتلك دليلًا عقليًّا على ذلك، بل إنَّ ما يملكه يقتصر على العادة والتكرار. تفضي إذن المسلَّمة التي عالجها إلى القول بأنَّ المسألة لا ترتبط بالضرورة العقليَّة وإنَّما تعود للعادة والتكرار النابعين من التجربة»، ولا يمكن لعقلنا، إذا لم تسنده التجربة، أن يرسم أيَّ استنتاج يتعلَّق بالوجود الفعليِّ وبأمور الواقع»[7]. مايعني أنَّ حدوث الظواهر السببيّة يخضع للعادة والتكرار النابعين من صميم الحواسِّ لا المنطق العقليّْ.
يبدو التفسير الهيوميُّ للتجربة البشريَّة أسير الحواسِّ لا العقل، وهذا مايجعل من مسألة السببيَّة تتخذ عنده وجهة العادة والتكرار لا المنطق، وهو ما ينزع عنها سِمة الضرورة. فأن نُخضِع ظاهرة شروق الشمس مثلًا للعادة والتكرار فذاك يعني التغييب التامَّ للمنطق العقليِّ الذي افترضه سابقوه، وهذا ما جعل من نسَقَيه يختلفان عنهم.
في السِّياق عينه، رفض هيوم في تفسيره لعلاقة السبب بالمسبِّب القول بأنَّ العقل يمثِّل مصدرًا للمعرفة، معتبرًا أنَّه ليس بمستطاعه أن يمدَّ الإنسان بالمعرفة الكلِّيَّة، بل هو عاجز عن الكشف عن الأسباب والخلفيَّات التي تقع في الظواهر الطبيعيَّة التي يتعرَّض لها الإنسان.» إنَّ الأسباب والمفاعيل لا تُكشف بالعقل،(...) فلا أحد يتخيَّل أنَّ انفجار البارود،
أو جاذبيَّة حجر المغناطيس يمكن أن يُكتَشفا بواسطة حجَّة قبليَّة»[8]. وهذا يعني أنَّه لا يعترف بالمبادئ العقليَّة لمسألة السببيَّة كما اعترف بها أرسطو ولاحقوه من الفلاسفة العقلانيُّون.
إلى هذا، يرى هيوم أنَّ المعرفة التي يكتسبها الإنسان حيال ما يمرُّ به من ظواهر ووقائع لا تحمل في ثناياها السِّمة العقليَّة القبليَّة، ما يعني أنَّ العقل عاجز عن تفسير العلاقة السببيَّة القائمة بين السبب والمسبِّب ليعطي بذلك الأسبقيَّة للخبرة والتجربة، خصوصًا أنه انتقد الأفكار الفطريَّة للعقل البشريِّ معتبرًا إيَّاها مجرَّد انعكاسات للأحاسيس ليؤكِّد على صلابة الانطباعات ومدى تأثيرها على العقل البشريِّ مقارنة بالأفكار» بإمكاننا أن نقسِّم إدراكات الذِّهن جميعها إلى نوعين يتميَّزان باختلاف درجة القوة والحيويَّة، فالتي هي من نوع أقلَّ قوَّة وأقلَّ حيويَّة تُسمَّى في العادة أفكارًا أو أيديَّات، أما التي هي من النوع الآخر فتفتقر إلى اسم(...) فتأخذ حريَّتنا إذن ونسمِّيها انطباعات»[9].
وهذه الانطباعات تعني وفق هيوم  كلَّ معرفة يكتسبها الإنسان جرَّاء العواطف والأحاسيس الناجمة عن الحواسّْ» أعني إذن بلفظ انطباع كلَّ ما هو أكثر حياة في إدراكاتنا حين نسمع، نرى، نلمس، نحبُّ ونكره، ونرغب ونريد»[10]. وهذا يعني أنَّ الانطباعات مختلفة عن الأفكار ليقرَّ بأنَّ المعرفة الإنسانيَّة مرتبطة بالتجربة لا بالعقل. هذا فضلًا عن تقسيمه للإدراكات إلى بسيطة أي لا تتجزَّأ، وهي أيضًا جزء من الانطباعات، وأمَّا الأفكار المركَّبة فتتألَّف من الأفكار البسيطة المشتقَّة من الانطباعات، وتبدو في نظره مستمدَّة جميعها من التجربة.
لقد أقام هيوم هذا التمييز بين إدراكات الذِّهن ليقرَّ بأنها تتكوَّن من أفكار وانطباعات متمايزة من حيث القوَّة والحيويَّة، وليؤكِّد بالتالي على أنَّ الأفكار التي يحوز عليها العقل البشريُّ
ليست فطريَّة وإنَّما هي متولِّدة من الخبرة الحسِّيَّة المتأتِّية من التجربة ليقرَّ في النهاية بأنَّ العقل غير سابق للتجربة، والمعرفة الإنسانيَّة بَعديَّة وليست قَبليَّة وهي أيضًا مكتسبة وليست فطريَّة كما ذهب إلى ذلك الفكر السابق له.
يقف هيوم إذن ليؤكِّد على مسألة في غاية من الأهميَّة بنظره، وهي أنَّ المعرفة الإنسانيَّة صادرة من التجربة لا من الأفكار العقليَّة الفطريَّة، ومنه يبيِّن كيف أنَّ الطبيعة الجامعة بين السبب والمسبِّب قائمة على التجربة لا على العقل الذي يبدو بنظره عاجزًا عن تقديم معرفة يقينيَّة ما لم يستند إلى الانطباعات والعواطف. هذا يعني أنَّ المعرفة لا تتجسَّد إلَّا من خلال التجربة الصادرة من الحواسِّ أي أنَّها تمثِّل المصدر الرئيسيَّ لولوج العالم الخارجيِّ بحسب تفسيره.
ويتوغَّل هذا الفيلسوف في نقده للعقل من خلال اعتباره مجرَّد ملكة تساعد الإنسان على التذكُّر وإعادة صياغة الصور الحسِّيَّة، لينتهي بذلك إلى التأكيد على أنَّ المعرفة مصدرها حسِّيٌّ لا عقليّْ. ما يعني أنَّ العقل لا يحوز على أفكار فطريَّة،أي أنَّه بمثابة الصفحة البيضاء ولا توجد فيه أفكار ما لم تكن موجودة في العالم الحسِّيِّ، أي أنَّ معارف الإنسان تنبع من التجربة والخبرة لا غير.» مادام العقل لا يعلم إلَّا طائفة من الإدراكات الحسِّيَّة، كان من المستحيل أن يكون في عقولنا شيء ما يكون مخالفًا في نوعه للآثار الحسِّيَّة»[11].
لقد كان همُّه تبيان أنَّ العقل لا يحتوي على أفكار فطريَّة، أي أنَّه صفحة بيضاء تُخطُّ عليها التجربة  انطلاقًا من الانطباعات التي تحصل لديها من الحواسّْ، وبذلك يزعزع أفكار سابقيه من العقلانيِّين في رفضه القول بأنَّ المعرفة تحصل جرَّاء الأفكار الفطريَّة التي يحوز عليها
العقل ليعلن بذلك عن رفضه القاطع لفرضيَّة تفسير العلاقة الجامعة للسبب بالمسبِّب، والتي تُقرُّ بأنَّ العقل يمثِّل مصدرًا للمعرفة بها.
 يذهب هيوم إلى أنَّ كلَّ ما له صلة بالوقائع المرتبطة بتجارب الحياة يقوم على السببيَّة، أي علاقة السبب بالمسبِّب، وهذه العلاقة تجعل من الكائن البشريِّ يتجاوز تفسير وقائع العالم الطبيعيِّ بالحسِّ ليبرهن على ذلك بالتجربة التي تفضي إليها، أي أنَّنا نتكلَّم عن موضوعين مترابطين وهو ما يفضي بنا إلى استنتاج أحدهما من الآخر «فبعض الأسباب كلِّيَّة الانتظام والتواتر في إحداث مفعول مخصوص ما، ولم يُعثَر أبدًا على حال واحدة من حالات انخرام هذا الانتظام أو تعطُّله في عملها، فلا تزال النار محرقة للناس والماء مغرقة لهم»[12].
يتَّضح مما سبق أنَّ السببيَّة تعني تسلسُل الأحداث بصيغة منتظمة، وبتحليله لها أقرَّ هيوم بأنَّ مبدأها لا يعني البتَّة مجرَّد تتابُع لأحداث منفصلة عن بعضها البعض وإنَّما تقوم على علاقة ترابط مسؤول بين السبب والنتيجة يمكِّننا من التنبُّؤ المستقبليِّ انطلاقًا من ملاحظتنا للظَّواهر نفسها التي جرت في الماضي. يعني ذلك أنَّ التنبُّؤ بأحداث المستقبل لا تتمُّ إلَّا بشكل احتماليٍّ، وهذا ما أكَّده حول فكرة الاحتمال والسببيَّة مؤكِّدًا أنَّ ذلك لا يفضي إلى أي تناقضٍ عقليّْ.
في حديثه عن علاقات الدم مثلًا يقر هيوم بأنَّ للسببيَّة دورًا فعَّالًا في تفسير العلاقات ما بين الأفراد وفق عدد الأسباب التي يتمُّ ربطها بهم، إذ يعترف بأنَّ «العلاقة السببيَّة هي الأكثر شموليَّة، حيث يمكن اعتبار كائنين موضوعين في هذه العلاقة، وذلك عندما يكون أحدهما سببًا للآخر، كما هو الحال عندما يكون الأول هو سبب وجود الأخير»[13]، ما يعني أنَّ السببيَّة لا تستطيع تقديم تبرير عقليٍّ، وأنَّ ما تُعبِّر عنه هو مجرَّد تتابُع للأحداث صادر من الحواسّْ.
في هذا الإطار، يرى هذا الفيلسوف أنَّ الحواسَّ والخبرة هي المصدر الأساسيُّ لمعارفنا التي نحصل عليها ولا وجود لأيِّ رابطة ضروريَّة ما بين السبب والنتيجة ما يعني أنَّ فكرة الضرورة عنده مرتبطة بفكرة العادة، أي أنَّ الإنسان يفسِّر الأحداث بحسب ما تعود عليه كأن يتوهَّم أنَّ الحدث الأول سبب للثاني، وهذا ما يتعارض مع التجربة حيث يرى أنَّه لا يوجد رابطة ضروريَّة تجعل من النتيجة متضمَّنة في السبب ليعلن أنَّ التجربة الحسِّيَّة لا تفضي إلَّا إلى تكرار الوقائع» يبدو أنَّ جميع استدلالاتنا المتعلِّقة بالوقائع قائمة على العلاقة بين السبب والمفعول؛ إذ بواسطة هذه العلاقة يمكننا أن نذهب إلى ما بعد بداهة ذاكراتنا وحواسِّنا، فلو كان لك أن تسأل شخصًا عمَّا يجعله يصدِّق واقعة هو غائب عنها كأن (يعتقد) مثلا أن صديقه في الغاب، أو أنَّه في فرنسا، فسوف يعطيك سببًا، وهذا السبب سيكون بعض واقعة أخرى: رسالة تلقَّاها منه، أو معرفة سابقة بقراراته ومشاريعه»[14]. فالعقل بنظره لا يستطيع أن يرسم حقائق الوجود الفعليِّ وإشكالات الواقع ما لم تُسنده التجربة.
إذن، العلاقة بين السبب والنتيجة تبدو في نظر هيوم مجرَّد علاقة يتجاوز عبرها الإنسان حدود شهادة الحواسِّ وشهادة الذاكرة في تفسيره لوقائع العالم الطبيعيِّ، ما يعني أنَّ للخبرة والتجربة دورًا هامًّا في تفسير هذه العلاقة». وإن معرفة العلاقة لا تتحصَّل من تعليلات قَبْليَّة بل تتولَّد بأسْرِها من الخبرة حيث نجد أشياء معيَّنة تترافق بعضًا مع بعض بشكل مستمر»[15] ما يعني أنَّ الإنسان يستطيع معرفة العلاقة القائمة بين السبب والنتيجة من خلال الخبرة التي يكتسبها في الحياة.
وضمن حديثه عن مُستطاع العقل، يذهب هيوم إلى أنَّ العقل لا يستطيع فهم العلاقة بين السبب والنتيجة من دون مساعدة الحواسِّ والخبرة له. «على افتراض تماميَّة ملكاته العقليَّة، لم يكن بإمكانه أن يستدلَّ من سيولة الماء وشفافيَّته على أنَّه قد يخنقه، ولا من ضوء النار وحرارتها على أنَّها قد تحرقه، فليس ثمة شيء يكشف بخصائصه التي تظهر للحواسِّ لا عن الأسباب التي تحدثه، ولا عن المسبِّبات التي يتولَّد منها»[16]. هذا يعني أنَّ العقل لا يستطيع البرهنة على واقعة ما إن لم يستند إلى الحواسِّ والذِّهن، وبهذا نستخلص إلى أنَّ فكرة السببيَّة مع هيوم تخضع لمنطق التتابع لا غير. ومن ذلك يكون هيوم أول من نقلها من معانيها الأرسطيَّة إلى معنى التتابُع المجرَّد بين السبب والمسبِّب ما يشير إلى أنَّ السبب سابق لمسبِّبه كما دلَّت عليه التجربة.
إنطلاقًا ممَّا تقدَّم، يتبيَّن أنَّ رفض هيوم لفكرة السببيَّة القائمة على الضرورة بين السبب والمسبِّب من جهة ورفضه كذلك لصدورها عن العقل، نابع من نظريَّته للمعرفة القائمة على التجربة الحسِّيَّة التي تأكَّد على وجود تكرار متواصل بين الأحداث ونتائجها، وهو ما يدعو إلى القول بوجود علاقة ضروريَّة بين الحادثتين.
إنَّ اللُّغز الذي يختفي وراء دفاعه الكبير عن التجربة، قلَّما يجد أهميَّته في تصوُّره التجريبيِّ لمسألة السببيَّة، حيث أقرَّ بعدم قدرتها على تفسير العلاقة الضروريَّة القائمة بين السبب والمسبِّب، وأنَّ هذه العلاقة تقوم على التسلسل والتتابع، ما يعني أنَّ كلَّ ما يحدث في العالم الخارجيِّ هو مجرَّد عادة ذهنيَّة، وما يصدر من التجربة لا يمكن أن يكون إلَّا مجرَّد اقتران مطَّرد، وهذا ما أكَّده من خلال حديثه عن كرة البلياردو وهذا ما يبرهن على رفض هيوم للتبرير التجريبيِّ لمبدأ السببيَّة.
من هذا المنطلق، نتبيَّن أنَّه أقرَّ بعدم وجود ضرورة  في العلاقة السببيَّة مهما كانت سواء عامة أم خاصة، باعتبار أنَّ كليهما يخضعان إلى النتيجة نفسها، وأنَّ التجريبيَّة ليست ملزَمة بإثبات أو نفي وجود الضرورة في العلاقة السببيَّة، ومن ذلك رفع عن مبدأها سِمة الحتميَّة ليلقي بها في الاحتمال متجاوزًا بذلك ما أقرَّه سابقوه من الفلاسفة العقلانيِّين الذين أكَّدوا على وجود الضرورة.

ب:التحليل النفسيُّ للسببيَّة:
 يرفض هيوم القول بموضوعيَّة العلاقة الرابطة بين السبب والمسبِّب، مشيرًا إلى ارتباطها بانطباعات ذهنيَّة، ليقرَّ بأنَّها تتميَّز بطبيعة نفسيَّة، وذلك من خلال ما نسقطه على العالم الخارجيِّ من تصوُّرات، كأن نعتقد في تكرار الحدث والنتيجة عينها إذا كان لدينا العلاقة نفسها بين السبب والمسبِّب. كما هو الحال في تمدُّد الحديد والنحاس عندما نعرِّضهما إلى درجة حرارة معيَّنة، فنتبيَّن أنَّ الحرارة تمثِّل السبب، والتمدُّد المسبِّب(نتيجة)، وعند إعادتنا للكرَّة سنصل إلى النتيجة عينها، ما يعني أنَّ العلاقة السببيَّة بين الحرارة وتمدُّد الحديد والنحاس تعني اقترانهما.» إنَّ أول ظهور للموضوع لا يقدِّم أيَّ سبب لحدوثه، لكن يمكن اكتشاف هذا السبب في الذِّهن، كما يمكن أن نتوقَّع حدوث الظاهرة من دون تجربة، ونستطيع أن نحكم بيقين بخصوص ظهور هذه الظاهرة انطلاقًا من التفكُّر والتعقُّل»[17].
يبدو أنَّ  الاقتران بين السبب والمسبِّب الذي تكلَّم عنه هيوم، هو ما يبرهن على وجود تتابُعٍ مستمرٍّ ما بين أسباب ومسبِّبات الظواهر، ويلغي بالتالي فكرة الضرورة ليقرَّ بفكرة العادة، أي أنَّ حضور الفكرة الأوَّليِّ يؤدِّي إلى تعقُّب الأخرى. وبهذا يعترف بأنَّ أذهاننا تعوَّدت على إحداث هذا التلازُم بين السبب والمسبِّب كأن نلزم فكرة النار بفكرة الحرق مثلًا.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ ما يسمِّيه هيوم بالارتباط الضروريِّ هو ما يصدر من الذِّهن نتيجة العادة الكامنة به، والتي تدفعه إلى توقُّع حدوث ظواهر مقارنة لبعضها البعض، وكذلك أن يعتقد بضرورة وجودها وهو صادر في أصله من الاحساس أو الانطباع الذي تنبع منه فكرة التأثير. وهذا يعني أنَّ مسألة السببيَّة تقوم على ما يتوقَّعه الفرد من خلال تكرار علاقة الاقتران بين واقعتين متعاقبتين كالنار والحرق مثلًا.
حريٌّ القول أنَّ هيوم لم يقتصر في تناوُله لمسألة التحليل النفسيِّ لمبدأ السببيَّة عند مجال الظواهر الطبيعيَّة بل إنه تعدَّاها إلى مجال الملاحظة الذاتيَّة للنفس البشريَّة، لينبش في طبيعة العلاقة القائمة بين الحركة والإرادة، وليؤكِّد بذلك على وجود علاقة سببيَّة تربط الحركة بالإرادة، أي تربط العقل بالبدن، ولكنَّه رفع عنها سِمة الضرورة» فنسمِّيه موضوعًا متبوعًا بموضوع آخر، ويحمل ظهوره الفكر دومًا إلى ذلك الآخر»[18].
لقد كان ربطه لفكرة السببيَّة بالاستنتاج يعني أنَّ لكلِ سبب مسبِّبًا، وعليه، فقد صارت تُعدُّ من بين الشروط التجريبيَّة التي تسهم في ترابط الأفكار وتسلسُلها، وأنَّها تتشكَّل في الذات نتيجة الانفعالات والمشاعر المرتبطة بالجانب السيكولوجيِّ لا العقليِّ في الإنسان من خلال ما يعيشه من تجارب التَّكرار والعادة، أي أنَّها تخضع لمنطق المُعاوَدة والتتابُع ولا يمكنها أن تخضع لأيِّ مبدأ فطريٍّ في العقل البشريّْ.
نخلص هنا إلى أنَّ أصالة هيوم في تناوله لإشكال السببيَّة تكمن في نزعِه سِمة الضرورة عنها ليزجَّ بها في العادة، معتمدًا في ذلك على العديد من البراهين التجربييَّة التى تبرز ارتباط السبب والمسبِّب بالعادة، ما يعني أنَّه قد أخرجها من عالم المنطق إلى عالم السيكولوجيا الذي تحكمه العواطف والانفعالات لا الأحكام العقليَّة.
هكذا بدت العلاقة السببيَّة في التصوُّر الهيوميِّ لا يمكن أن تُبرَّر لا بالاعتماد على العقل ولا على التجربة، ما يعني أنَّ هذا الإشكال المعرفيَّ للمنهج الاستقرائيِّ للعلاقة السببيَّة لا يمكن
تبريره لا بالعقل ولا بالتجربة ليزجَّ بها في العادة والتكرار الناجمين عن الحواسِّ، وبالتالي يخرجها من دائرة الضرورة إلى الاحتمال.
إنَّ تعرية هيوم للسببيَّة من شرط الضرورة والاكتفاء بالقول أنَّها مجرَّد عادة وتكرار يؤدِّي من جهة إلى القول بهشاشة العلم القائم عليها، ومن جهة ثانية يظهره على شاكلة معتَقد ذي مرتكزات هشَّة، وهذا ما جعل من العلم الحديث في ريبة من نتائجه. فإخضاعه العالم لمنطق الاحتمال لا الحتميَّة له العديد التبعات الدينيَّة والأخلاقيَّة التي ستخضِع أفكاره لا محالة إلى النقد.

نقد موقف هيوم من السببيَّة:
انطلق هيوم في تحليله لمسألة السببيَّة برفضه القاطع لمبدأ التلازم الضروريِّ ما بين السبب والنتيجة، واعتبر أنَّ العقل لا يظفر بها بطريقة بديهيَّة كما فسَّرها الفكر السابق له، وهذا ما جعل من البعض يعتبر أنَّه بتصوُّره هذا قد وضع المسألة في إطارها العلميِّ الصحيح، لكن ذلك لم يُعفِه البتَّة من سجالات القبول والرفض، حتى أنَّ البعض اتَّهمه بالفكر الرَّيبيِّ والهدَّام خصوصًا أنَّه بقي أسير نسَقه الفلسفيَّ القائم على أساس سيكولوجيٍّ فحسب، وقطع مع عالم المنطق.
وإذا كان هذا الفيلسوف قد تحدَّث عن الانفصال القائم بين السبب والنتيجة، ولم يهتم بالاختلاف التام بينهما، فإنَّه سعى بذلك للقطع مع التصوُّرات السابقة المهتمَّة بهذه المسألة،  ما جعله يتَّجه نحو التطرُّف بدل مسايرة النَّسق، وهو ما سيوصل حتمًا إلى تهافُت تصوُّره الفلسفيِّ المبنيِّ على نزعة تجريبيَّة متطرِّفة، باعتباره يرفض أن يقوم قانون السببيَّة على العقل والتجربة ليزجَّ به في العادة والتكرار الصادرين من الحواسّْ.
والواقع أنَّنا إذا ما فحصنا موقف هيوم من السببيَّة سنجد أنَّه يقوم على ضرب من السفْسَطَة والمُغالَطة، باعتبار أنَّ قانونها هو قانون تلازم الكون ولا مجال لرفضه لأنَّ ذلك سيفضي حتمًا إلى إلغاء علل الأشياء ومسبِّباتها، ما يتنافي مع نواميس الكون القائمة عليه، خصوصًا أنَّ إلغاءه سيلغي أيَّ احتمال لوجود الكون. من هنا، إذا ما نظرنا إلى هذا الكون نتبيَّن أنَّ الله مصمِّمُه وواضعَ نظامه، وهو أيضًا علَّة ذاته وعلَّة الموجودات ككلِّ، ما يعني أنَّه لا مجال لرفض قانون السببيَّة والحال أنَّ الله وضع لكلِّ سبب مسبِّبًا ليجعل من هذا الكون متماسكًا ومترابطًا وخاضعًا في الآن ذاته إلى منطق السببيَّةلأن لا شيء يأتي من لاشيء.
لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ رفض هذا الفيلسوف للارتباط الضروريِّ بين السبب والنتيجة، وإرجاع العلاقة القائمة بينهما إلى العادة والتكرار، قد أوقعاه في العديد من الأخطاء المنهجيَّة التي جعلت منه موضوعًا للدراسة والنقد، باعتباره خرج عن مجاراة نسق سابقيه بأسلوب تعسفيٍّ رَيبيّْ. ولا شكَّ في أنَّ نزعه لِسمة الضرورة عن مسألة السببيَّة سيؤدِّي حتمًا بتصوُّره العلميِّ إلى الرَّيبيَّة باعتبار أنَّ هذا التصوُّر يفتقر إلى سند عقليٍّ لاسيَّما أنَّه أخرجه في صورة معتَقد ذي أساسيَّات هشَّة، وهذا ما يتنافى مع أساسيَّات البحث العلميِّ السليم، لأنَّه بإظهاره على شاكلة معتقَد قد يزعزع أركان العلم، وقد يكون له أيضًا العديد من التبعات الدينيَّة القائمة على العلاقة السببيَّة بين الله والكون، باعتبار أنَّ الله هو علَّة ذاته وعلَّة كلِّ الموجودات.

أ: التَّبعات الدينيَّة:
يمكن هنا توجيه سهام النقد للتصوُّر الفلسفيِّ العلميِّ والمنهج الاستقرائيِّ الذي أثاره هيوم في تناوله لمسألة السببيَّة، خصوصًا أنه رفض القول بالضرورة المنطقيَّة بين السبب والنتيجة وأرجع هذه العلاقة إلى العادة والتكرار والانطباعات المرتبطة بالحواسِّ، وهذا ما يتعارض وحقيقة تشكيل الوجود برُمَّته.
ولما كان قانون السببيَّة هو أحد الشروط التجريبيَّة التي تضمن ترابط الأفكار والأحداث التي تدور فيها جلُّ أفعال الإنسان داخل الكون، فإنَّ رفض هيوم لهذا القانون قد جعل منه حبيس نسَقِه الفلسفيِّ المنغلق على أفكاره التجريبيَّة المتطرِّفة، باعتبار أنَّ القول بإلغاء هذا القانون سيلغي معه أيَّ مسبِّبات لوجود الأشياء والكون، وهذا ما يبرز مدى تهافت تصوُّره الفلسفيِّ كون هذا الرفض لا يقوم على أُسُس دقيقة وإنما يعتمد على مبرِّرات هشَّة ولا تمتلك الحقيقة المطلَقة. كما أنَّ القول برفض قانون السببيَّة من قِبله سيفضي إلى عبثيَّة الكون ولامعناه علمًا أنَّه بُنيَ على أُسُس سببيَّة وضعها الخالق في ما خلق. هذا المفهوم يبدو جليًّا سواء في كتاب الله أم في العلاقات الانسانيَّة والاجتماعيَّة التي تشدُّها إلى بعضها بعض علاقات سببيَّة. فحتى الطبية وضعها الله وفقًا لعلاقات سببيَّة وهذا نتبيَّنه من قوله تعالى» وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته  حتى إذا أقلَّت سحابًا ثِقالًا سقلناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون»[19]، ما يعني أنَّ نزول الماء كان نتيجة لوجود السحاب، أي أنَّ هناك علاقة سببيَّة ضروريَّة بينهما، كما هو الحال في وجود علاقة سببيَّة بين خروج النبات والماء، وأيضًا في إخراج الموتى، ما يوحي أنَّ ثمة علاقة سببيَّة ضروريَّة تحكم بنيان الكون.
وفي الحديث عن إنكار هيوم للوجوب المنطقيِّ لمسألة السببيَّة، كما أقرَّ بذلك سابقوه من الفلاسفة العقلانيين، وإقراره بأنَّ هذه العلاقة هي مجرَّد تتابُع وتكرار للانطباعات والأفكار التي وقعت في الماضي، واعتبار أنَّ أحداث الطبيعة تبدو منفصلة ومتتابعة ولا تخضع لأيِّ منطق عقليِّ، فإنَّ هذا الأمر يتنافي وحقيقة الطبيعة التي أنشأها الخالق، كحديثه مثلًا عن الحالة الآدميَّة للإنسان الأول، ونظرته للشمس، وتلك الحيرة التي انتابته حول إمكانيَّة شروقها مرَّة أخرى أم لا، وإرجاعه هذه الظاهرة الطبيعيَّة إلى العادة والتكرار النابعين من صميم الحواسِّ لا المنطق العقليِّ، كلُّ ذلك  يخفي في طيَّاته ضربًا من الرَّيبيَّة والإلحاد.
ومن الأمثلة التي تؤكِّد المنطق العقليَّ لنظام السببيَّة  الذي اقتضته الطبيعة الإلهيَّة في الكون، ما نراه كلَّ يوم من وجود الشمس، فهي دومًا تشرق من المشرق وتغرب من المغرب وهذه سُنَّة الله في خلقه، أي أنَّ هناك نظامًا سببيًا ضروريًا ومنطقيًّا في تفسير هذه الظاهرة الطبيعيَّة.» قال نبيُّ الله ابراهيم «فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ  بها من المغرب فبُهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين»[20].
وحول رفض هيوم القول بالضرورة المنطقيَّة لمسألة السببيَّة نجد أنَّ الله ربط كذلك الثواب والعقاب بأسبابهما، فأن نتحدَّث عن السرقة مثلًا فإنَّنا نكون ملزمين بالحديث عن قطع اليد ما يعني أنَّ السرقة سبب لقطع اليد، وكذا هو الحال مع الاستغفار الذي هو سبب للتوبة. يقول الله تعالى:» والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما»[21].
ما نتوصَّل إليه هنا أنَّ الله أكَّد في كتابه الكريم على الضرورة المنطقيَّة في وجود مبدأ السببيَّة بين الأحداث والظواهر الطبيعيَّة، واعتبر أنَّ ما يشدُّ السبب إلى النتيجة هي الضرورة الحتميَّة النابعة من الأسباب الجعليَّة لا الذَّاتيَّة. ومن ذلك ندرك أنَّ هذه الأسباب بمسبِّباتها ترتبط بالقدرة الإلهيَّة لا البشريَّة، وهذا ما يجرُّنا مجدَّدًا إلى القول بريبيَّة التصوُّر الهيوميِّ وهشاشة منهجه العلميّْ.
من خلال قراءتنا لنقد هيوم لهذا القانون، نتبيَّن مَيلَه إلى الجانب السَّفسَطيِّ والمُغالطيِّ في موقفه من السببيَّة، فما إن يشرع في تفسير الظواهر والأحداث الطبيعيَّة حتى يتعرَّض إلى القول بالضرورة في تفسيره للأسباب والنتائج من دون أن يعلن عن ذلك، ففي تناوله لمسألة شروق الشمس وتفسيرها وفقًا للعادة مثلًا نراه  يتَّجه إلى السَّفسَطة من دون منازع باعتبار أنَّ شروق الشمس يظلُّ رهين الإرادة الإلهيَّة لا البشريَّة، فالله علَّة ذاته وعلَّة الموجودات ككلِّ، ومن الخطأ تجاهُل وجوده في علاقة سببيَّة مع الكون بما احتوى عليه من أشياء وظواهر طبيعيَّة عديدة، وهذا ما يعني أنَّ قانون السببيَّة قانون شامل وواضح المعالم لعالمَيْ الغَيب والشهادة ولا مجال لرفضه.
لم يُرجع هيوم السببيَّة إلى مصدر فاعل في الطبيعة كما ذهب إلى ذلك العديد من الفلاسفة العقلانيِّين كالغزالي الذي يرى أنَّ الله هو الفاعل، أي أنَّه القوَّة الفاعلة في الكون بأكمله، بل ترك المصدر مبهمًا، وهذا ما يجعل من تصوُّره هشًّا ويتَّسم بالرَّيبيَّة والسَّفسَطة، وجلب إليه العديد من الانتقادات.

ب: التبعات الأخلاقيَّة:
إذا كانت التناولات الهيوميَّة لمسألة السببيَّة تقف عند حدود الانطباعات وما يتأتَّى من الحواسِّ، ولا يتجاوز مجال الحسِّ، وقصرت بالتالي مجال المعرفة ضمن ما يتأتَّى من الحواسِّ، فقد أفضت بتصوُّره الفلسفيِّ للسببيَّة إلى العقم والرَّيبيَّة، حيث أنَّ تفسيره للوقائع والظواهر الطبيعيَّة بدت عاجزة تمامًا عن تقديم تفسير معقول ومقبول علميًّا ومنطقيًّا.
كما أنَّ هذه الفلسفة بدت عاجزة عن تقديم بديل معرفيٍّ يكون قادرًا على تقديم قراءة شافيَّة لهذه الظواهر، ولكنَّه اكتفى بالتفسير السفسطيِّ للواقع، ليصبح تناوله لمسألة السببيَّة محدود المعنى بل عاجزًا عن تقديم حلول نهائيَّة لأهمِّ الإحراجات التي مازالت تؤرِّق العقل البشريَّ إلى اليوم. فحين نتحدَّث مثلًا عن مسألة الإجرام سيكون هناك ترابط ضروريٌّ بين المجرم والجريمة بما هي أيضًا علاقة سببيَّة، لذلك لا يجب التسليم بغياب الضرورة عن مسألة السببيَّة.
من منظور آخر، يقر تصوُّره العامُّ لمسألة السببيَّة عن عدم اعترافه بوجود حقيقة مطلقة كامنة في الوجود إلَّا من خلال ما أدركه من خلال التجربة أو ما تأتَّى من الحواسِّ، وهو ما يضفي على تصوُّره الفلسفيِّ الغموض والرَّيبيَّة، رغم أنَّه اعتنى عناية فائقة بمسألة العلاقة السببيَّة لما لها من أهميَّة بالغة في حياة الإنسان ككلّ، باعتبار أنَّ هذه العلاقة هي التي تجعلنا ننتقل من قضيَّة لنا علم بها إلى قضيَّة لا نعلمها.
هكذا يحاول هيوم بكلِّ ما أُوتِيَ من جهد أن يقوِّض كلَّ تفسير يقول بوجود علاقة منطقيَّة ضروريَّة بين السبب والنتيجة في تفسيره لمسألة السببيَّة، ومن ثمَّ يصبح تفسير الظواهر والوقائع كلِّها عنده خاضعًا إلى الانطباعات والأفكار الصادرة من الحواسِّ أو التجربة لا العقل. فلا أهميَّة للعقل عنده إذن باعتبار أنَّ حقيقة تصوُّره غير كامنة به وإنَّما يُرجعها إلى الغرائز والرغبات لا العقل.
ما نُعيبه على التصوُّر الهيوميِّ هو إرجاعه الحقائق إلى الحواسِّ والرغبات والغرائز التي تُعتبَر ظرفيَّة وغير خاضعة لمنطق العقل، خصوصًا أنَّ الجانب المعرفيَّ الذي يدركه الإنسان من طريق حواسِّه محدود ولا يشتمل على جميع الكيفيَّات المحسوسة لفهم الأشياء ما يعني أنَّه غير قادر على تمكينه من إدراك المعرفة التامَّة التي يتعطَّش لبلوغها ورفع نقاب الجهل عنها.
في هذا الإطار، يبدو المذهب الفكريُّ لهيوم قائمًا على وجود غير عقلانيٍّ، ما دفع بالبعض إلى اعتباره عارًا على الفكر لنزوعه نحو تفسير الواقع من طريق الحواسِّ لا العقل، وهذا ما يتنافى والحقيقة، باعتبار أنَّ العقل هو الموجِّهُ الأساسيُّ للإنسان ولو لم يكن كذلك لما تميَّز به عن سائر الموجودات الأخرى، ولما تحمَّل عبء خلافة الله في الكون، وما تقتضيه من شروط.
ولمَّا كانت السببيَّة هي أحد الشروط التجريبيَّة التي تسمح بترابط الأفكار في ما بينها، فإنَّ إقرار هيوم بخلاف ذلك سيجعل من تصوُّره الفلسفيِّ ذا مرتكزات هشَّة ومختلفة عن تصوُّرات سابقيه من الفلاسفة العقلانيِّين لاسيَّما أنَّه قدَّم العديد من الاستدلالات من دون سندٍ عقليٍّ يقرُّ بوجود الضرورة ليقرَّ تاليًا بأنَّها مجرَّد عادة وتكرار، وبالتالي قد أخرج تصوُّره لمسألة السببيَّة على شاكلة معتقَد ذي أُسُس هشَّة، وهذا ما جعل العديد من الفلاسفة يصفونه بالرَّيبيَّة والدوغمائيَّة خصوصًا أنَّه أخرج هذه المسألة من العقل إلى السيكولوجيا بعيدًا عن كلِّ حقيقة منطقيَّة يفترض أن تجوب الوجود الإنساني.

خاتمة:
يُعتبر مبدأ السببيَّة مبدأ مهمًّا في الحياة البشريَّة، فانطلاقًا منه نستطيع تفسير الوقائع والأحداث التي نتعرَّض لها وغيرها من الظواهر الطبيعية الأخرى. وهو مبدأ يقوم على ثلاثة أُسُس هامَّة،هي: التجاوز والأسبقيَّة والضرورة. ولكن هيوم في تناوله لهذه المسألة رفض القول بالضرورة وأقرَّ بالتجاوز والأسبقيَّة وضمن وجودها من خلال العادة والتكرار لا التجربة. وهذا ما جعل تصوُّره الفلسفيِّ العلميِّ موضع جدل واسع نظرًا لأثر الرَّيبيَّة والسَّفسَطة عليه تصوُّره من جهة، وباعتبار أنَّه أحدث نوعًا من القطيعة مع تصوُّر العقلانيِّين السابقين له من جهة ثانية.
ما تجدر ملاحظته هو أنَّ تناول هيوم لمسألة السببيَّة وردَّه للتجربة البشريَّة إلى التجربة لا العقل، ورفضه تحليلها بالعقل واستنتاج النتيجة من السبب، كما هو الحال في باقي العلوم الصحيحة الأخرى، هذا التناول أبهر بعض الفلاسفة مثل كانط الذي أقرَّ بأنَّه قد أيقظه من سباته العقائديِّ. لكنَّ ذلك لم يمنعه من التصادم مع المسلَّمة الواقعيَّة الربَّانيَّة التي تُقرُّ بأنَّ كلَّ شيء يحدث في الكون له علاقة سببيَّة قائمة على الوجود الضروريِّ بين السبب والنتيجة ولا يمكن لأمرٍ ما أن يحدث من دون سبب لحدوثه.
على هذا الأساس، تظلُّ مقاربة هيوم لمسألة السببيَّة حبيسة تصوُّره الفكريِّ، وبعيدة عن الحق باعتبارها ترفض الإقرار بأهميَّة العقل في تفسيره للتجربة البشريَّة في الوجود، وبقائه أسير الحواسِّ والتجربة. وهذا ما جعل منه حبيس نَسَقه الفلسفيِّ المبنيِّ على نزعة تجريبيَّة شكِّيَّة متطرِّفة أفضت بتصوُّره الفلسفيِّ إلى التهافت، وبالتالي عدم مجاراة مبادئ الفلسفة العقليَّة التي تفسِّر الواقع بالعقل لا غير.
غنيٌّ عن القول أنَّه إذا كان هيوم قد أرجع تفسير التجربة البشريَّة للوجود إلى الحواسِّ والتجربة لا العقل، فإنَّ ذلك لم يكن من قبيل الصدفة وإنَّما يعود إلى موقفه التجريبيِّ المتطرِّف الذي ينزع إلى جعل مسألة السببيَّة تركيبيَّة لا تحليليَّة ليتجاوز بذلك الآراء الشائعة في عصره، ما يعني أنَّ كلَّ ما هو موجود ينبغي أن يكون له سبب ليقرَّ بأنَّ السببيَّة هي مسألة تركيبيَّة لا يمكن البرهنة عليها.
إنطلاقًا ممَا تقدَّم،  يبدو تناول هيوم لمسألة السببَّة محفوفًا بالنقائص شأنه شأن العديد من الطروحات الفلسفيَّة الأخرى بفعل تركيز اهتمامه على تفسير التجارب البشريَّة على التجربة والحواسِّ لا على الحتميَّة الكونيَّة التي أقرَّها الله في الكون. كما أنَّه أهمل الجانب الأخلاقيَّ في تصوُّره للسببيَّة خصوصًا أنَّ العالم يعجُّ بالعديد من القضايا الأخلاقيَّة القائمة على هذه المسألة. زد على ذلك، أنَّ تصوُّره الفلسفيَّ  يبدو متضاربًا في العديد من المسائل، وربما يعود ذلك بالأساس إلى شكِّه المستمرِّ في الأشياء والظواهر.
نختم بأنَّ ما طرحه هيوم بشأن مسألة السببيَّة يبدو بمثابة الزوبعة لأنَّه لا يزعزع أركان العلم فحسب، بل يظهره أيضًا على شاكلة معتَقَد زائف بعيد عن كلِّ حقيقة وجوديَّة خصوصًا أنَّه نزع عنه سِمة الضرورة، وأرجعه إلى العادة والتكرار، وهذا ما يتنافى وأخلاق العلم. كما أنَّ هذا الطرح جلب له العديد من التبعات الدينيَّة والأخلاقيَّة وذلك لإخراجه هذه المسألة من دائرة الضرورة والحتميَّة إلى دائرة الصدفة والعادة.

--------------------------------------
[1]- ديفيد هيوم (1711-1776) فيلسوف تجريبيٌّ اسكتلنديٌّ، أثَّر في تطوُّر مذهبين  فلسفيَّين حديثين هما: مذهب الشكوكيَّة ومذهب التجريبيَّة.
[2]- جميل صليبا، المعجم الفلسفيُّ جميل صليبا ج 2، دار الكتاب البناني، بيروت، د/ط، 1982، ص95.
[3]- جلال الدين سعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيَّة، دار الجنوب للنشر، تونس، 2007، ص213.
[4]- محمد تقي مصباح اليزدي1، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة ج2، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، دار التَّعارف للمطبوعات، بيروت، 1990، ص15.
[5]- عمرو علي بسيوني، الأُسس اللَّاعقليَّة للإلحاد: مشكلة مبدأ العالم نموذجًا، مجلَّة «براهين».
[6]- محمد فهمي زيدان،الاستقراء والمنهج العلميُّ، دار الجامعات المصريَّة، د/ط، 1977.
[7]- ديفيد هيوم: تحقيق في الذهن البشري، ترجمة محمد محجوب، المنظَّمة العربيَّة للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى،ص54، 2008.
[8]- المصدر نفسه.
[9]- ديفيد هيوم: مبحث في الفاهمة البشرية، ترجمة موسى وهبة، دار الفارابي بيروت،ط1، ص38،2008.
[10]- المصدر نفسه.
[11]- أيوب أبو ديَّة، العلم والفلسفة الأوروبيَّة الحديثة من كوبرنيق إلى هيوم، دار الفارابي، بيروت،ط1، 2009، ص231.
[12]- ديفيد هيوم: تحقيق في الذهن البشريِّ، ترجمة محمد محجوب، المنظَّمة العربيَّة للتَّرجمة، بيروت، الطبعة الأولى، ص89، 2008.
[13]-David Hme: A treatise of Human Nature. Part.SIV.Rcprunted from the Original Edition Three and Edited. By L.A Selbybigge, M. Alascford, clarendon press, 1739, p 47.
[14]- ديفيد هيوم: تحقيق في الذهن البشريِّ، ترجمة محمد محجوب، المنظَّمة العربيَّة للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، ص53، 2008.
[15]- ديفيد هيوم: مبحث في الفاهمة البشريَّة، ترجمة موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت، ط1، ص52،2008.
[16]- ديفيد هيوم: مبحث في الفاهمة البشريَّة، ترجمة موسى وهبة، دار الفارابي، بيروت، ط1، ص52،2008.
[17] -Hume, D. Enquête sur l’entendement humain. Paris, Edition Montaigne, 1947, p.110.
[18]- ديفيد هيوم: تحقيق في الذهن البشريِّ، ترجمة محمد محجوب، المنظَّمة العربيَّة للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، ص109، 2008.
[19]- سورة الأعراف:الآية 57.
[20]- سورة البقرة: الآية 258.
[21]- سورة الفرقان: الآية 68-70.