العدد 8

العدد 8

فهرس المحتويات

المبتدأ

■ ما بعد العلمانيّة .. منطق الحدث.. وفتنة المفهوم

محمود حيدر

محاورات

■ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس؟ هذا سبيلنا إلى مجتمع عالمي ما بعد علماني

حاوره: إدواردو مندياتا

■ المفكّر الفرنسي إدغار موران إصلاح الفكر هو إصلاح اجتماعي وذاتي في آن

أجرى الحوار: لورانس بارانسكي

الملف

■ فلترقدي بسلام أيتها العلمنة الوقائع تدحض النظرية الرمادية

رودني ستارك

■ دور الدين في الفضاء العمومي دراسة في تطوّر رؤية هابرماس الفلسفية

حسين غفّاري ـ معصومة بهرام         

■ العلمنة واللَّيئكة أوجه التمايز بين مفهومين تاريخيين

جان بوبيرو

■ العلمانية الفرنسية والحجاب الإسلامي تصدّع المنهج

طلال أسد

■ ما بعد العلمانية كحادثٍ تاريخي معاينة للاستثناء الأميركي

محمود حيدر

■ "ما قبل" "ما بعد العلمانية"

د. حميد لشهب

■ هل دخل العالم مرحلة ما بعد العلمانية التعددية تفترض نفسها غرباً

سيزار ميرليني

حلقات الجدل

■ ما بعد العلمانية في فكر يورغن هابرماس الدين في رحاب الحياة الليبرالية المعاصرة

آرمان زارعي

■ عنف الكنيسة الغربية اضطهاد العلماء وأثره في تطور العلمنة الشمولية

عامر عبد زيد الوائلي

■ ما بعد العلمانية وظاهرة الإلحاد رؤية نقدية في الحالة العربية

أحمد عبد الحليم عطية

■ اللائيكية والمجتمع ما بعد العَلْماني

روجيه مونجو

الشاهد

■ عبد الوهاب المسيري شاهداً تهافت مفهومات العلمنة في العالم العربي

عبد الوهاب المسيري

منتدى الاستغراب

■ إعادة النظر في مبدأ اللائيكية الفرنسية الحجاب الإسلامي إطاراً للنقاش

تارين مونت ألفرني

نحن والغرب

■ جدلية الصراع والتدافع بين الشرق الإسلامي والغرب العلماني قراءة في أفكار محمد عمارة

محمد عبد المهدي سلمان الحلو

نصوص مستعادة

■ ديالكتيكـ الدين والدنيا

خوسيه كازانوفا

عالم المفاهيم

■ معنى الكلمتين ما بعد العلمانية وما بعد العلماني

جان مارك لاروش

 ■محاولة تعريف بعد العلماني

كريستينا شتوكل

■ "تشكُّلات العلمانيّة" لعالم الأنثروبولوجيا طلال أسد لم يغادر الدين حداثة الغرب يوماً

خضر إبراهيم حيدر

■ "الثمن الباهظ للمادية" للمفكر الأميركي تيم كاسر خواء المعنى في حداثة الغرب

خ. إبراهيم حيدر

ترجمة ملخصات المحتوى (بالانكليزية والفرنسية)

 

المبتدأ

ما بعد العلمانية منطق الحدث.. وفتنة المفهوم .. ثم ماذا عن مفهوم ما بعد العلمانية؟..

حريٌّ أن نتنبَّه إلى فتنة المفاهيم من قبل أن نقترب من مفهوم يجيئُنا في زمن مكتظٍّ بالالتباس. لذا نجدنا بإزاء فكرة "ما بعد العلمانية" على شيء من الحذر. وما ذلك إلا لأن هذه العبارة أطلَّت من مصدرها الغربي وهي مثقلة بالأحمال، ومحمولة على أفهام شتى.

كسواها من المفاهيم التي استحدثتها الحداثة الفائضة مع نهاية القرن العشرين، يجري القول على "ما بعد العلمانية" مجرى النهايات، أي على بدءٍ جديد يلي انتهاءات مضت. والأحاديث عن موت المفاهيم في ثقافة الغرب عمرُها عمرُ الحداثة. أحاديث لم يتوقف سَيلُها منذ أول نقدٍ "لتنويرٍ" مالت شمسُه إلى المغيب مع المنعطف الميتافيزيقي الذي قاده كانط وهو يعاين معاثر العقل المحض وعيوبه. لم يكن شغف العقل الحداثي بختم المفاهيم والاعلان عن نهايتها، إلا لرغبة ببدءٍ جديد. فالتاريخ ليس حركة انتقال من الخواء إلى الملاء، وإنما هو امتدادٌ جوهريٌّ بين الماقبل والمابعد. فكل مقالة عن نهاية أمرٍ ما، إنما هي ضربٌ من إعلان مضمر عن بَدءٍ لأمر تالٍ من دون الحكم عليه بالبطلان. في ذلك شَبَهٌ ـ بنسبة ما ـ مع تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا ليُظهر أن إنهاءها هو التملك الفعلي لها وليس نبذها أو الإطاحة بها. فالانسحاب والتواري داخل السلالة الواحدة، لا فعليْن متناقضيْن يريد كلٌّ منهما إماتة نظيره.

والمسرى الامتدادي بين الماقبل والمابعد لا ينشط على سياق آليّ، كأن يتحرك من النقطة ألِف إلى النقطة ياء من دون أخذ وعطاء، فذلك ليس من طبيعة المسرى الذي نحن في صدده، وإنما هو فعالية متضمَّنة في جوهر حركة التاريخ التي تتأبَّى على الانقطاع والفراغ.

الأمر بالنسبة للمفاهيم هو على النشأة نفسها من الفهم، أي أنها أدوات معيارية للتعرف على الأحداث. فالحدث هو الذي ينشئ للمفهوم محرابه في عالم الفكر، ثم يعود الفكر ليؤلفه على نشأة أخرى بعد أن أضحى في قلب الحدث. ربما لهذا السبب راح الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر (1756-1841) يركز على الوقائع الحيَّة، ويطمِئن معاصريه من الذين يقولون بضرورة النظام المعرفي الجاهز، "أن المصطلحات والتعاريف لا تتخذ مسارها على خط مستقيم، بل تشكل دائرة تروح فيها المفاهيم وتجيء على نحو التكرار والتفاعل والتجدد. فليس المهم من أين يبدأ المرء، إنما  المهم هو أن توصلنا تلك المفاهيم إلى المركز".. إلى الغاية..

*  *  *  *  *

مثلما ولدت "ما بعد الحداثة" من فضاء المراجعات التي عصفت بالحداثة الأولى وأنوارها، كذلك  وُلدت "ما بعد العلمانية" كمجاوزة لما اقترفته العلمنة من معايب ظهرت قرائِنُها صورة إثر صورةٍ وحدثاً إثر حدث.

لم تتحول "مابعد العلمانية" إلى مقالة سارية في الزمن إلا بعدما أُشْبِعَت العلمنةُ جدلًا واختبارًا، حتى أوشكت أن تُهجر أو تُرمى في النسيان. والعلمانية شأن نظائرها الأخرى [كالأيديولوجيا والديمقراطية والحداثة والرأسمالية الليبرالية وسواها..] راحت تحفر السبيل إلى المابعد قصد التجدد والديمومة. وما كان ليتسنى لها هذا لولا أن كفّت عن الاستمرار في أداء وظائفها الكبرى. لكنّ القول بوصول العلمانية إلى خاتمتها، لا يعني في واقع الحال الحكم بموتها. فالختم هنا يدل على نهاية جيل تاريخي أدت العلمنة في خلاله مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتهيَّأ لتغيير مهمتها بما يناسب الزمن الذي حلّت فيه.

من أجل ذلك سينبري بعض علماء الاجتماع، بعدما أضناهم البحث عن تعريف مطابق لماهيتها، أن ينظروا إلى ما بعد العلمانية كحلقة مستأنَفة تتصل بما سبقها، وتنفصل عنه في الآن عينه. هكذا سيلغي «ما بعد العلماني» صُوَرَ التتالي (قبل - بعد، تغيير ـ محافظة، حركة  ـ سكون)، ويعرّف نفسه بوصفه حالة وعي معاصر تتعايش فيه الرؤى الكونية للدين مع الرؤى العلمانية للكون.

بهذا المعنى ليست "ما بعد العلمانية" نفيًا للعلمانية، وإنما استئنافًا لها بوسائط وشرائط وأنساق مختلفة. فلا يصح أن ينسلخ التاريخ عما قبله وعمّا يليه انسلاخًا قطعيًا. فهذا محال، لأن الماقبل امتدادٌ للما بعد وتأسيسٌ له. فلن تكتسب حقبةُ ما بعد العلمانية واقعيتَها التاريخية ما لم تُقِرَّ بنَسَبِها الشرعي لميلادها الأول. فلو لم تكن العلمانية حاضرة في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام على ما بعدها. الحاصل أن ثمة ضربًا من جدلية استتارٍ وكمون وانقشاع، تظهر فيها "ما بعد العلمانية" كمحصولٍ لتلك الجدلية المركبة.

من سمات ما بعد العلمانية مجاوزةُ ما هو قديم وراهن بمُحَدَثٍ تقتضيه ضرورات الزمان والمكان. ومن صفات المجاوزة وأفعالها تموضع المولود المتجدد في منطقة وسطى ينبني نظامها على الوصل والفصل من دون إقصاءٍ أو إبطال. فالفصلُ شرطٌ للتجاوز، والوصلُ ضروريٌ للاستمداد مما تقدم فعله وحضوره.

*  *  *  *  *

في حالة ما بعد العلمانية تنمو أسئلةٌ غير مسبوقة في معرض الكلام عن الأخطاء التي اقترفتها العلمنة على مدى أربعة قرون من اختباراتها في المجتمعات الغربية. ومثلما استهلت العلمنة رحلتها التاريخية بمقولتها العجول "إزالة السحر عن العالم"، استهلَّت "ما بعد العلمانية" مسارها بمقولة معاكسة: "إزالة العلمنة عن العالم". وبصرف النظر عن القصد من كلمة "إزالة" ـ سواء بما هي استراتيجية تطبيق أو كتوصيفٍ لواقع.. يظل حصاد التنظير واحدًا.

معنى «إزالة العلمنة من العالم» كما استعمله للمرة الأولى في بداية التسعينيات عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر Peter Berger، هو عودة الدين ليحتل مكانته في الغرب على حساب العلمانية. واللاَّفت أن بيرغر الذي كان مدافعًا قويًّا عن أطروحة العلمنة؛ كان أول من أقر بأنه كان مخطئًا عندما لم يعترف بأن "العالم ما زال شديد التديّن كما كان في السابق».  لقد كان قلقًا من  هجمة الأصوليين على النظام الحديث، وعودة ما قبل الحداثة إلى عالمنا المعاصر. بل إن ثمّة من قطع شوطًا أبعدَ ليرى أن: "إزالة العلمنة تعني أن عودة الدين تُسقط ركناً تكوينياً من أركان الحداثة، وبالتالي فإن الحداثة والدين متناقضان ولن يجتمعا أبدًا...". 

على الأكيد أن هذا التفسير لم يُضِف شيئًا مختلفًا عما درجت الحداثة عليه لمّا أمسكت بحضارة الغرب. لكنّ هذا الفهم لعودة الدين في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة، يبدو محدودًا جدًّا. وهو يترجم على الإجمال حالات تنتسب إلى "رجعيات علمانية" لم تستطع التكيف مع التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الغربي. فلقد تبيّن من معظم الدراسات الحديثة أن لا تعارض بين المسيحية الغربية والحداثة، بل يمكن القول أن المسيحيةَ جزءٌ من تراث الحداثة، وأن الحداثةَ وليدٌ شرعيٌّ للفلسفة المسيحية الحديثة. لذا يذهب التنظير "الما بعد علماني" إلى أن وضعية الدين في مجتمع

"بعد علماني" ليس هو ذاته في مجتمع "قبل علماني". وعودة الدين ليست رجوعًا إلى شيء كان من قبل، وإنما هو حضور جديد اتخذ سبيله إثر رحلة شاقة ومديدة بدأت مع الاصلاح البروتستانتي ولم تنته مع الانعطافة الكاثوليكية التي أجراها المجمع الفاتيكاني الثاني في ستينيات القرن الماضي.

المشكلة الحقيقية لمجتمعات ما بعد العلمانية لا تكمن في الفصل بين الدين والدولة، ولا في الثنائيات المتضادة بين المقرَّر اللاهوتي والقوانين الوضعية، بل في التعددية التي يعترف فيها الكل بحاضرية الكل. لهذا رأى المشتغلون على المصطلح أن الحديث عن ما بعد العلماني منطقيٌّ بقدر ما يُدخلُ في الحسبان موضوع التعددية، وعلى وجه التعيين، حضور الأديان الأخرى - الإسلام والأرثوذوكسية، واليهودية وغيرها ـ لتكون سواء بسواء ـ إلى جانب البروتستانتية والكاثوليكية... بهذا المعنى، تتغير أوروبا فعلاً: هنالك حضور كبير للإسلام، ومنذ سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية، صار أيضًا للمسيحية الأرثوذوكسية دور كبير. أما في الغرب الأوروبي فهناك تطوّر مطرد نحو قبول النظام التعددي.

مع أن «نظرية العلمنة» (Securalization theory) دخلت ضمن أعمال تعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فإنّ تتبّعَ الجذور الأصلية لفكرتها الأساسية متصلٌ بعصر التنوير الأوروبي. الفكرة كانت آنذاك في غاية البساطة: "إن التوجه نحو الحداثة يؤدي بالضرورة إلى تراجع، أو حتى انهيار الدين سواء في المجتمع أم في عقول الأفراد. هذه الفكرة تحديدًا هي ما ثبت خطؤها كما يلمّح كثيرون من المفكرين وعلماء الاجتماع المعاصرين. فلا شك أن الحداثة ترافقت مع توجهات واضحة نحو العلمنة (Securalization)، وفي أماكن معينة أكثر من غيرها، ولكنها أيضًا استفزت حركات قوية مضادة للعلمنة. بالإضافة إلى ذلك فإن العلمنة (Securalization) على مستوى المجتمع لا تعني بالضرورة العلمنة (Securalization) على مستوى الإدراك الفردي. لقد خسرت بعض المؤسسات الدينية قوتها وتأثيرها في الكثير من المجتمعات، ولكن في المقابل استمرت معتقدات قديمة وبرزت معتقدات جديدة لتلعب دورها في حياة الأفراد متخذة أشكالًا مؤسساتية في بعض الأحيان، ومؤدية إلى تفجُرّات كبيرة في الحماس الديني.

* * * * *

ضمن دائرة الجدل المستحدث حول العلمانية في الزمن ما بعد العلماني يميز علماء الاجتماع بين ثلاثة مفاهيم حول العلمانية:

الأول: العلمانية كحياد بالنسبة لجميع الأديان ووجهات النظر حول العالم.

الثاني: العلمانية كمنظور "علماني" بديل عن المعتقدات الدينية.

الثالث: العلمانية كنقد أو حتى معارضة ونقض للأديان.

ان معاينة هذه المفاهيم الثلاثة، والتمييز في ما بينها سوف يسهم في ضبط وتظهير السمات المميزة للمجتمعات ما بعد العلمانية.

*  *  *  *  *

لقد كان لنقد الدين في عصر التنوير ثلاثة ابعاد متمايزة بوضوح: بعد معرفي موجه ضد الافكار السائدة الميتافيزيقية وفوق الطبيعية؛ وبعد عملي – سياسي موجه ضد المؤسسات الكنسية؛ وبعد ذاتي تعبيري – جمالي – أخلاقي موجه ضد فكرة الله نفسها. وهذه الثلاثية النقدية شكلت الأركان الأساسية لنظرية المعرفة التي اعتمدها خطاب العلمنة حيال الدين. سحابة قرون متعاقبة.

في زمن الحداثة الفائضة لم تتبدد هذه الثلاثية، لكنها فقدت الكثير من جاذبيتها العلمية ووظائفها الايديولوجية. الآن لم تعد نظرية كوبرنيكس ـ على سبيل المثال ـ ذات أثر في مسيحية ما بعد الحداثة. مع ذلك فإن الصدام الحقيقي بين العلم والدين ما برح يكمن في مكان آخر. ذلك أن المعتقدات الجزئية التي كان على الكنيسة التخلي عنها ليس منها ما هو ضروري للدين. بل إن ما هو ضروري هو موقف معين يطلق عليه فيلسوف الأخلاق الأميركي والتر ستيس (Waltter Stace) النظرة الدينية للعالم. ولقد عبرت هذه النظرة عن نفسها في العالم الغربي بثلاثة اعتقادات:

-إن هناك موجوداً إلهياً خلق العالم.

-إن هناك خطة كونية أو غرضاً كونياً.

-إن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً.

هذه الاعتقادات حسب ستيس لا تتناقض مع المعتقدات الدينية: لا علم الفلك عند كوبرنيكس، ولا أية مكتشفات علمية أخرى مبكرة، ولا حتى أية مكتشفات علمية قد تظهر على شكل أعاجيب تدهش الألباب في المقبل المنظور وغير المنظور.

حتى أكثر الفلاسفة تشدداً في دنيويته كالفيلسوف الهولندي سبينوزا سيعود في لحظة صفاء وتأمل إلى الإقرار بحقيقة التلازم بين الدنيا والدين. فلطالما خَبِرَ سبينوزا العالم كمقدس. كانت رؤيا الله ملازمة للواقع الدنيوي الذي مَلأهُ بالرهبةِ والعجب. وكان يحس أن الفلسفة، والفكر هما  شكلان من أشكال الصلاة.

أما فيلسوف التاريخ الإيطالي جانباتيستا فيكو (Giambattista Vico) (1744-1668) الذي شكلت أفكاره حالة انعطافية في مسار الحداثة، فقد استشعر بكشوفاته المعمقَّة العالم الما بعد علماني منذ ثلاثة قرون خلت.

بدا فيكو ناقداً في الصميم للمنطق المادي المحض في استقراء العملية التاريخية. لقد حرص على التمييز بين شأن الخالق وشأن المخلوق، من دون ان يفصل بينهما فصلاً مطلقاً. على دور العناية الإلهية كحقيقة تاريخية. وعند هذه النقطة المفصلية بالذات يميز بين نوعين من الاعتناء الإلهي بالتاريخ البشري: منها:

أ ـ العناية الإلهية المتعالية المباشرة التي عبرت عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة. مشيراً إلى ما قام به الأنبياء والرسل حيث خصّهم الله بعطاءات وقدرات وأفعال لا تمنح لسواهم من البشر.

ب ـ العناية الإلهية الباطنية، أو تلك الكامنة في التاريخ التي تعمل وفق قوانين موحدة وتستخدم وسائل طبيعية وبسيطة، مثل العادات البشرية نفسها وهي ما كانت تمتلكه كل الأمم.

لعل القاعدة التي أخذت بها الفلسفة المسيحية عبر القديسين أوغسطين وتوما الأكويني على وجه الخصوص، سيكون لها الأثر اللاحق على ظهور عَلمانية بَعدية متحررة من واحديتها، ومتجهة نحو تعددية ينفسح فيها البعد الروحي والمعنوي لحضور الإنسان في الكون.

الشواهد المقتضبة التي مرّت كانت حاضرة في الولادات الأولى للحداثة. بل هي التي أسست لـ "المابعد" وإن احتجبت طويلاً في ردهة الانتظار.

كما لو أن نخب الغرب اليوم تعلن عن بدءٍ آخر. عن حقل ما بعد ـ ميتافيزيقي يتآخى فيه العقل والوحي لينتجا معاً حقائق واحدة. فإذا كان العقل والوحي يؤديان إلى الحقائق نفسها أنّى اختلفت تجليّاتها، فإن الحقيقة لا تناقض الحقيقة.

*  *  *  *  *

في العدد الحالي من "الاستغراب" مسعى للإحاطة قدر المتاح بفكرة "ما بعد العلمانية"، سواء من جهة استوائها كمفهوم ومصطلح في ميدان الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع، أو من جهة انبساطها في حقول التجربة والاختبار في عدد من المجتمعات الغربية المعاصرة.

محمود حيدر