فهرست المحتويات
المبتدأ
■ أصالة "النومينولوجيا".. عَرَضيَّة الظواهر
محمود حيدر
الملف
■ ظاهراتيّة الدين
أحمد عبادي
■ فينومينولوجيا الوعي المضطرب
علي محمد أسبر
■ هرمنيوطيقا الظاهراتيّة الوجوديّة
مسعود فياضي
■ المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته في العالم الإسلامي
حميد پارسانيا / هاشم مرتضى محمد رضا
■بحث النظريّة البنيويّة من زاوية الحكمة المتعالية
د. حسن عبدي
■المنهجيَّة التَّفكيكيَّة... معاثرها وأسباب ظهورها وعوامل انتشارها
حمدان العكله
■ ما بعد بنيويّة جاك دريدا
مهدي عسكر زاده/ رسول رسولي پورا
■ الفينومينولوجيا بوصفها أنطولوجيا
سوزان عبد الله إدريس
■ فينومينولوجيا القيم المبتورة
منال محمد خليف
العالم الإسلامي والغرب
■ أبو المجد الأصفهانيّ ناقدًا الإلحاد الغربيّ الداروينيّة المتهافتة مثالًا
سامر توفيق عجمي
■ المفكّر المصريّ الأزهريّ محمّد فريد وجدي
عصمت نصّار
بحوث تأصيليّة
■ معالم الإحياء الحضاريّ الإسلاميّ المشروع الإصلاحيّ في فكر السيّد جمال الدين الحسينيّ الأفغانيّ مثالًا
السيد هاشم الميلاني
ترجمة ملخصّات المحتوى بالإنكليزيّة
المبتدأ
عَرَضيّة المنهج وأعراضه
حَاَرَ العقل الغربي الحديث بالميتافيزيقا، ولم يجد لأمرها مخرجاً إلا أن يستنزل الفلسفة من تعاليها، ويحيلها إلى علمٍ يأتنس لخرائط المنطق والتجارب الحسيَّة. حتى إذا أطلقت الحداثة مناهجها ومبانيها المستحدثة فإنما كانت لتسوِّغ جناياتها، وتمنح لملحمتها مشروعية تاريخية.
كانت الظاهراتية مبتدأ الانعطاف من الأنطولوجيا إلى الإبستمولوجيا. وما كان ذلك ليكون على هذا النحو الدرامي لولا أن قوَّضت العِلمويّة بنية التأمل الميتافيزيقي في المنظومة الفلسفية لحداثة الغرب. وعلى هذا المسرى ستجيء المفاهيم والمدارس والتيارات الَّلاحقة كامتداد منطقي للتفكير الفينومينولوجي، وإن اتخذ كلٌّ منها منهاجَه المخصوص، كما هو حال البنيوية والتفكيكية على وجه الخصوص.
تخالفت التنظيرات بصدد تحديد ماهيّة الفينومينولوجيا، وطرائقها في التعرُّف إلى موضوعاتها. ولسوف نرى كيف امتلأ المعجم الفلسفيّ الحديث بما لا حصر له من التعاريف. ومع أنّ كثيرين من "ظواهريي الغرب" سيعمد إلى استعمال الفينومينولوجيا ولواحقها كمرادف للواقعيّة، أو كإعراب عن الحقيقة الخارجيّة، سينبري جمعٌ من متأخِّري القرنين التاسع عشر والعشرين إلى تعريف المفهوم بأنّه "تحقيق توصيفيّ يشمل كلّ ما يرد على الذهن، سواء كان ذلك أمراً حقيقياً، أو مجرّد تداعيات وهمية...
ربّما لهذا السبب، سيُقال إنّ الفينومينولوجيا ومجمل المفاهيم المتفرعة منها لا تقدِّم نفسها كعلمٍ قائمٍ بذاته، وإنّما كرؤيةٍ وصفيّةٍ تحكي ما هو ظاهر، وتستحكي ما هو مستتر؛ لتستدلّ على واقعيّته أو إمكان ظهوره. فأنْ تكون الفينومينولوجيا وصفيّةً، إنّما هو تحصيلٌ حاصل.. إلّا أنّ ذلك لا يعني – كما يُبيِّن القائلون - أن تكون غايتها بناء المعنى، أو إعادة بنائه من منطلقِ ذاتٍ مفكِّرةٍ تجعلُ من ذاتها مركز كلّ دلالة.
إنّ تعريف الفينومينولوجيا على هذا النحو، يعني بصورةٍ أو بأخرى، تبرئتها من تَبِعات إصدار الأحكام. غير أنّ ادعاءً كهذا لا يلبث أن ينحدر إلى حقل التناقض حالما يتّخذ الفينومينولوجيّ سبيله إلى مختبر التجربة. في هذه الحال، لن يكون لأيّ منهج أن يزعم الحياد بذريعة أنّه يؤدّي مهمّةً توصيفيّةً. ذلك بأنّ كلّ توصيف يُجريه الفينومينولوجيّ حيال ظاهرة ما، هو في الناتج ضربٌ من حكمٍ شخصيٍّ يُصدرُه على الحالة الموصوفة، أنَّى كانت نسبة الموضوعيّة في حكمه. ولقد دلَّت أعمال الفينومينولوجيين على أنّ التحقيق التوصيفيّ للظواهر لا يتوقّف عند سطوح الظاهرة، لكونه يحظى بمفهوم أوسع مما جيء به في القاموس الفلسفيّ الحديث. فالتوصيف ليس مجرّد بيان الأوصاف، بما في ذلك الأوصاف الذاتية؛ بل يمتد إلى ما هو أعم من ذلك، أي إلى مجرّد تبيين النسبة بين أمرين متغيِّرين. فالسؤال عن الآثار والعلامات ونسبة ظاهراتيّة ظاهرة معيّنة إلى الظاهراتيات الأخرى، إنّما يُعدّ في الواقع حرثاً معرفيّاً في أرض التوصيف. وهذا يُحيلنا بداهةً إلى ما ذهب إليه نقّاد المسلك الفينومينولوجيّ لمّا رأوا أنّ التعريف الحقيقيّ لكلّ مفهوم يروم الوصول إلى حقيقة الشيء والتعرُّف على ماهيّته وهويّته. وهو -أي المفهوم- إلى جانب سيرته التاريخيّة -التي تدخل في خصائص كل المفاهيم- له أيضاً خصوصيّة الكشف واستيلاد المعرفة. أمّا حاصل هذا التنظير فمؤدَّاه: أنّ التعاريف الحقيقيّة وإن جاءت في مقام التوصيف، فإنّها تختزن خاصيّة الكشف عن حقيقة الشيء. ومن هنا تطرح مسألة الخطأ في التعريف، وإمكان التنازع في صحّته أو عدم صحّته. فالتعريف الذي يُذكر في الجواب على مطلب "ما"، ينبغي أن يكون مطابقاً لواقع هذا المطلب، وإلا وقع النزاع فيه وعُدَّ خاطئاً.
حيال هذا الاستفهام، دأب هوسرل ومن جاء من بعده على عدم الفصل بين "النومين" و"الفينومين"، بل جعلهما كينونةً واحدةً، يُمكن التعرُّف إليها حضورياً من دون توسُّط المفاهيم. اعتَقَدَ أنّ ذات الأشياء (النومين) هي نفسها التي تحضر، فيُدركها الفاعل المعرفيّ -أي الإنسان- حيث يحصل التطابق بين الذهن والعين من بعد أن كانا منفصلين. وهذا الاعتقاد جاء نتيجة فرضيّته التي تقول إنّ ذات الأشياء هي ماهيتها. أي هي نفسها الخصائص التي تميّزها والعناصر التي تكوِّنها وتبدو من خلالها للعيان. وبهذا المعنى، لن يكون ثمّة انفكاك بين الفاعل المعرفيّ وموضوع المعرفة، بل تطابق بين العارف والمعروف. حيث إنّ ذات الموضوع في هذه الحال، هو الذي يتبدَّى كعلمٍ حضوريٍّ لدى المدرِك خارج معياريّة المفاهيم ووساطتها. ذلك لأنّ المفاهيم تُقيم المسافة بين طرفي المعرفة، بينما يؤدّي التحرّر منها الى التعرُّف على ذات ماهيّة الشيء عبر شهودها في الواقع من جانب العارف.
هذه التأويليّة للظاهراتيّة لدى هوسرل، لم تجد الأفق الذي يفتح على تحقيق حُلمه الكبير في إخراج العلوم الأوروبيّة من مأزقها الأنطولوجي. وما ذاك إلّا لإصراره على جعل الفينومينولوجيا علماً قائماً بذاته ومستقلاً عن كل المسلَّمات الميتافيزيقيّة.
* * *
لقد أظهرت اختبارات الفينومينولوجيا ـ إلى جانب أخواتها من المدارس الحديثة كالبنيوية والتفكيكية على امتداد قرنين منصرمين، فقراً بيِّناً يحول دون إنجاز منظومةٍ تتجاوز المعاثر المعرفيّة، سواءً في عالم الأفكار أو في العالم الواقعي. ذلك بأنّ الكثير من المفاهيم والعناصر المعرفيّة التي تقوم عليها الظاهراتيّة تُركت على حالها حبيسة كهوف صلدة من الغموض والإبهام؛ فقد جرى الاكتفاء بمجرّد التعاريف الكلّيّة، ولم يجرِ تقديم مسار عمليّ محدّد وواضح لكيفيّة تطبيقها في الواقع. فالتوقّف في كهف التوصيف البحت، والغفلة عن البيان والتفسير، والقيام على المفاهيم الكلّيّة والمبهمة، أدّى بالفينومينولوجيا إلى فقدان كفاءتها بوصفها منطقًا لفهم الوجود.
لقد دأبت تاريخانيّة العقل الفينومينولوجيّ على اختزال كلّ ما له دلالة فطريَّة إيمانيّة لتُحيله إلى مجرّد أثرٍ له دلالة تاريخيَّة. لم يكن عند معظم الفينومينولوجيين أساسٌ ميتافيزيقيٌّ للدين يمكن معه تفسير الظواهر باعتبارها ظاهرةً لحقيقةٍ باطنةٍ (noumenal). ولكن النّزعة الشكيَّة ما بعد الكانطيَّة في الفلسفة الأوروبيَّة طفقت ترى إلى المعرفة الباطنة بوصفها معرفة وهمانيّة، ولا إمكان للعقل البشري أن ينفتح عليها، أو أن يقبلها كمعطًى واقعيّ.
وإذ يفصح الظواهرتيون عن غاية منهجهم باعتباره طريقًا لكشف المعنى الظاهر والوصول إلى الجوهر الباطن لماهيّة الظاهرة، - كما سعى إلى ذلك هوسرل وشيلر وهايدغر وفي موازاتهم ليفي ستراوس وديريدا- فإنّهم ما لبثوا أن وقعوا في التناقض. فهم إذ يرومون "كشف المخفيّ" مما يقع خلف البنيات الظاهرة، لا يكفُّون عن الدعوة إلى الإعراض عنه لإستحالة إدراكه. ثم إنّهم سينحدرون إلى خطأ آخر؛ إذ فضَّلوا وصف الطقوس والرموز والصور والأفكار باعتبارها انعكاساً لعالمٍ روحيٍّ بعينه يمتلك معناها.
مجمل القول، ثمّة جملة من الاختلالات التكوينيّة في بناءات التفكير الفلسفي الغربي أفضت إلى إحداث انفصالات عن المبدأ الميتافيزيقي المؤسِّس لكلّ ظاهرة فكرية، ووقوف فهمها على التوصيف البحت للآثار والأعراض. أما الحاصل المنطقي على امتداد أربعة قرون خلت، ففي الانسداد الذي آلت إليه اختبارات العقل الحديث وانكفائه أمام الإجتياح المريع للتقنية.
* * *
في هذا العدد من "الاستغراب" ملفٌ مركَّب يتناول بالنقد والتحليل الإتجاه الفينومينولوجي إلى جانب إتجاهين رديفين ينتميان إلى الفلسفات المضافة ويرتبطان بالاتجاه الظاهراتي ارتباطاً وثيقاً وهما البنيوية والتفكيكية. وجدير بالذكر أن إنجاز أبحاث ودراسات هذه الإتجاهات تمَّ بمشاركة وجهود عدد من الدّارسين المتخصّصين من العالمين العربي والإسلامي.