يتضمن العدد الأول التجريبي من فصلية "الاستغراب" سلسلة من الأبحاث والمقالات التخصصية، وهي تندرج في نطاق الاستراتيجيا المعرفية التي تنسجم وغايات الفصلية، والأهداف التي تسعى الى تظهيرها.
في ما يلي عروض موجزة حول أبرز ما تضمنته موضوعات هذا العدد من أفكار ورؤى.
1 - خُصِّصت افتتاحية العدد الأول لبيان الغاية من صدور هذه الفصلية والأهداف التي تسعى اليها، وذلك انطلاقاً من تأصيل معرفي لمصطلح "الاستغراب" بما هو "علم فهم الغرب"، والنظر الى هذا العلم برؤية معرفية انتقادية. كما عرضت الى الدواعي التي حملت الهيئة المشرفة على المشروع لاتخاذ عنوان "الاستغراب" تسمية له.
* * * * *
اما الموضوعات والأبحاث التي ضمها هذا العدد فقد تم إدراجها وفقاً لترتيب الأبواب على النحو التالي:
2 - باب "محاورات": ضم مقابلتين مع كل من الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه والفيلسوف الإيراني سيد حسين نصر. في الحوار مع غوشيه الذي أجراه الباحث في مجلة فيليت (Philitt) ماتيو جيرو إجابات حول مجموعة من القضايا الإشكالية التي يختبرها الفكر الغربي المعاصر، وخصوصاً تلك المتعلقة بمثلث التواصل شديد التعقيد بين الدين والحداثة والعلمنة. يضاف الى هذا إضاءات وردت في إجابات غوشيه وتوقفت عند الجدل العميق الذي ينعقد حول امكانية اللقاء والمصالحة بين الإيمان الديني والعلمنة في زمن ما بعد الحداثة. كما تضمن الحوار توضيحات غوشيه حول نظريته القائلة بأن الحداثة هي خروج من الدين وعودة إليه في الوقت نفسه.
أما في الحوار الذي أجراه الباحث الإيراني حامد زارع مع الفيلسوف الإسلامي الايراني سيد حسين نصر، فسنقرأ في خلاله نقداً للعلمنة التي حوّلت الغرب الى حضارة بلا روح. كما تطرق الحوار الى جملة من القضايا المتصلة بالتناظر بين الاسلام والغرب سواء ما يتعلق بنظرية صدام الحضارات وتداعياتها الفكرية والثقافية، او في ما يعني ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي إستشرت بين نخب المجتمعات الغربية بصورة غير مألوفة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
* * * * *
3 - في الملف الذي جاء تحت عنوان "أيّ معرفة ينتجها الغرب؟.. نقرأ الأبحاث والمقالات التالية:
الفيلسوف السياسي الفرنسي ادغار موران كتب مقالة بعنوان: -"أزمة المعرفة – عندما يفتقر الغرب الى فن العيش"، ويتناول في خلالها قضية جد مهمة وتتصل بالسجال الدائر اليوم في المجتمعات الأوروبية الغربية حول ما يسمى بـ "أزمة المعرفة". يدخل موران الى معالجة هذه القضية من باب سوسيو-معرفي حيث يدعو الى ضرورة التعرف على التعقيد الذي يملأ فضاء الغرب في زمن ما بعد الحداثة.
عالم الاجتماع اللبناني د. خليل أحمد خليل يكتب تحت عنوان "اندهاشات المسلمين أمام تحديات العقلنة والمكننة". في هذه المقالة يسعى الى تأصيل ظاهرة الاندهاش الفكري التي وقع فيها المثقف العربي والاسلامي في مستهل القرن المنصرم، لما تلقى صدمة الحداثة الآتية من أوروبا عبر الاستعمار المباشر المتزامن مع حركة الاستشراق. يضيء الكاتب على أصل تأسيسي من أصول الاستغراب السلبي الذي أصاب بشظاياه المعرفية شرائح واسعة من نخب العالمين العربي والاسلامي في ما عرف آنذاك بـ "صدمة الحداثة". ثم يعرض بالتحليل المعمَّق الى ظاهرة الدهشة التي عصفت بالعقل الثقافي المسلم، مبيناً الأسباب التي أدت الى ذلك، والنتائج المعرفية والسوسيولوجية والحضارية المترتبة عليها.
- الباحث السنغالي دودو دِيان كتب مقالة تحت عنوان "أزمة الهوية في العالم الغربي" وتحدث فيها عن أعراض أزمة الهوية والانتماء في مجتمعات العالم الغربي، والصور التي تتجلى فيها على صعيد العلاقة مع الذات من جهة، وموقف الذات تجاه الآخر القريب والبعيد من جهة اخرى. في سياق مقالته يسأل ديان ما يلي: هل العالم الغربي في خطر؟ ثم يعلق قائلاً: ان هذا التساؤل يثير طائفة من التساؤلات وخصوصاً لجهة التعريف الدقيق لكل من مصطلحاته الثلاثة: العالم، الغرب، الخطر. وهو يدعو بكل الأحوال ليس فقط إلى إعادة النظر في موضوعه الرئيسي، أي أزمة معرفة الذات الجمعية لدى أهل الغرب، إنما ايضا الى التساؤل عن الدلالة القلقة والمتعذّر تعريفها لكلمة الخطر. فتفكيك هذا الموضوع الرئيسي، يكشف عن العمق التاريخي والثقافي للقضية الأساسية في السؤال الا وهي علاقة الغرب بالعالم.
- الأكاديمي اللبناني البروفسور سهيل فرح يكتب حول "الحداثة الغربية المعولمة"، عارضاً الى سبعة تحديات حضارية يواجهها العالم الغربي في زمن العولمة. ومما يشير اليه الكاتب في مقالته، ان العالم في عصر الحداثة وما بعدها يعيش حالة من الاغتراب عن ذاته تتمثل في غياب الثقة بالحاضر والمستقبل، وتجعل الحضارة الكوكبية وكأنها تعيش في مناخ هزة أرضية شاملة. في هذا البحث تضمين لأفكار وتصورات مستقبلية لسبعة أجناس من الكوارث المجتمعية التي عصفت بمجتمعات الحداثة في الغرب على امتداد القرنين المنصرمين. ولإنجاز هذه المحاولة التنظيرية يدعو الباحث الى توسيع دائرة المعاينة والنظر الدقيق في القضايا الاساسية من خلال تنشيط العقل الفلسفي التكاملي بغية رسم التصورات المطابقة لاستراتيجيات النهوض المعرفي في العالم العربي والإسلامي. وفي معرض كلامه على الكوارث المحدقة بالعالم يرى انها تتموضع بشكل أساسي في ميادين الاقتصاد والديموغرافيا والبيئة والعائلة والعقل التقنوي والعلموي فضلاً عن اشكاليات القوة والسلطة.
- المفكر الأميركي اللاتيني خوليو أولالا يتصدى لواحد من أبرز العناوين الإشكالية التي تحكم تحولات الحركة الفكرية المعاصرة في الغرب. عنينا بها إشكالية المصالحة بين القيم الأخلاقية وثورة التكنولوجيا التي تجتاح بدايات القرن الحادي والعشرين. أما الأفكار الرئيسية التي سعى الكاتب الى تظهيرها تحت عنوان مركزي هو "أزمة العقل الغربي" فهي في رأيه أزمة متأتية من السمة الاختزالية لعقلانية ما بعد الحداثة.
مقالة أولالا التي جاءت بعنوان: "أزمة العقل الغربي" تحاول الإجابة على هذا الطرح انطلاقاً من فرضيتين تشكلان قوام المأزق الذي يعيشه عقل الغرب في أزمنة الحداثة وما بعدها، وهاتان الفرضيتان هما: العلموية من جهة والهيمنة القهرية على الآخر من جهة ثانية.
* * * * *
4 - في باب "حلقات الجدل" نقرأ ثلاث مقالات: الاولى للفيلسوف والمفكر السياسي الفرنسي آلان دي بينوا تحت عنوان "نقد الايديولوجية الليبرالية". والثانية للباحث الاميركي وأستاذ العلوم السياسية في جامعة برنستون يان فرنر مولر وهي تحت عنوان "فشل المثقفين الأوروبيين". والثالثة للباحث من المغرب عبد العالي العبدوني الذي كتب تحت عنوان: "نقد المبنى التكويني للموجود الأنكلوسكسوني" – الأطروحة الثقافية الأميركية نموذجاً.
- في المقالة الاولى يقرر آلان دي بينوا جملة من الأحكام الواقعية في معرض نقده للإيديولوجية الليبرالية بصيغتها التقليدية والمابعدحداثية. في رأيه أن الليبرالية مصطلح اشكالي حتى لجهة تعرّفه، والسبب في ذلك عائد الى الكم الهائل من التأويلات التي شهدتها عصور الحداثة ابتداء في القرن الرابع عشر الميلادي وحتى يومنا هذا.
يجيب دي بينوا في مقالته عن سيل من التساؤلات في هذا المضمار. فهو يرى أن الليبرالية لم تظهر يوماً على شكل مبدإ موحد، ذلك لكونها ليست وليدة جهود شخص واحد. لقد فسّرها كتاب ليبراليون مختلفون بطرق مختلفة، بل متناقضة. مع ذلك، يجمع هؤلاء على ما يكفي من النقاط المشتركة لتصنيفهم جميعاً كليبراليين، وهي نقاط تسمح أيضاً بتعريف الليبرالية على أنها مدرسة فكرية. فمن جهة، الليبرالية مبدأ اقتصادي يجعل من نموذج السوق الذاتي التنظيم مثالاً للواقع الاجتماعي برمته. من جهة اخرى، تعتبر الليبرالية مبدأً قائماً على انثروبولوجيا فردانية، بمعنى أنها تنبني على مفهوم الانسان باعتباره كائناً غير اجتماعي بشكل أساسي.
- أما في مقالة يان فيرنر مولر التي جاءت تحت عنوان "فشل المثقفين الأوروبيين" فسنقرأ اتهامات جريئة للمثقفين الأوروبيين بالفشل في إعادة ثقة أوروبا بنفسها. ومثل هذه التهمة نشأت– كما سيتبين لنا من هذه المقالة، بسبب من الاهتزاز الذي عصف بها إثر الأزمات المتعاقبة. وكما يظهر في هذه المقالة، فإن الدعوات الى إضفاء طابع الشرعية على ما تقوله أوروبا عن نفسها – بالإضافة الى الحنين الى عصر أوروبا الذهبي – يظلان ملتزمين بمنطق بناء الأمم الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر. وبإزاء هذه المعضلة يبقى السؤال الإشكالي: ماذا يجب أن يفعل المثقفون الأوروبيون حيال واقع شديد الاستعصاء ويتمثل بغياب اليقين من فضاء حضاري أوروبي تضربه العواصف من كل جانب. وهكذا تلقي هذه المقالة الضوء على هذا التساؤل وتقارب القضية بوجهيها النظري والتطبيقي في ضوء التطورات التي طرأت على المجتمعات الأوروبية حيث ضعفت الى حد لافت القيم التي بواسطتها تستعاد الثقة بالذات الحضارية لأوروبا.
- أما المقالة الثالثة للباحث المغربي عبد العالي العبدوني فهي تحاول مقاربة التغول الأميركي انطولوجياً ومساءلة ثقافته وسياساته في العمق من دون كثير احتكاك بالشواهد. ذلك لأن ثبوتية وضعه - كما يقول الكاتب – تعفي من كثرة الاستدلالات. تحدث الكاتب عمّا يسميه بالعقلية الأميركية التي تقوم على الإرتهان الى رؤية "السامري الشهم" وهي التسمية التي أطلقها الصحافي الأميركي هنري لوس خلال الأربعينيات من القرن المنصرم، مستحثّاً الأميركيين على السعي لإظهار صورة أميركا كقوة عالمية ومحطة لتوليد مُثُل الحرية والعدالة. ويؤكد أن معضلة العقلية الأمبراطورية عند الأنكلوسكسون البيض الأميركيين هي أنها لا ترى أي تنوع في العالم إلا في إطار الاستتباع القهري.
* * * * *
5 - "باب الشاهد" خصَّصناه للتعريف بشخصية فكرية ذات حضور وتأثير على نطاق حضاري مخصوص، أو على نطاق عالمي، كما هو حال عدد وازن من العلماء والمفكرين المسلمين والغربيين الذين أَثْروا الحضارة الإنسانية بأعمالهم ومعارفهم ونظرياتهم العلمِيّة. وفي هذا العدد نسلط الضوء على الفيلسوف وعالم النفس الأميركي من اصل الماني اريك فروم، حيث ندرس سيرته الذاتية وتحولاته الفكرية والوجدانية من خلال أعماله ومؤلفاته.
بين يدينا هنا، مساهمتان لتغطية سيرة فروم. الأولى كتبها اللاهوتي والفيلسوف الألماني راينر فانك وهو متخصص بأعمال فروم واحد تلاميذه، والمساهمة الثانية للباحث أحمد الفقيه المتخصص بالفلسفة الغربية.
المقالة الاولى حملت عنوان "مطالعة في حياة وأعمال اريك فروم". في سياقها يشير الكاتب الى المزايا التي انفردت بها شخصية اريك فروم لجهة إحداث حراك معرفي عميق في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن أعماله المترجمة الى العربية واللغات الشرقية الأخرى ويمكن القول انه من بين كل علماء النفس الذين حاولوا ان يصيغوا نظاماً أكثر ملاءمة من نظام فرويد للتعامل مع حياتنا المعاصرة، لا يوجد – كما يقرر كاتب المقال - من كان أكثر منه إنتاجية او اوسع تأثيرا. حتى لقد كان على جون هومر تشار – وهو أحد أعتى نقاد فروم – أن يعترف بأن كتابات فروم تبرز إسمه في أي نقاش جاد حول المشاكل الاجتماعية الحديثة.
في المقالة الثانية حول شخصية اريك فروم وجاءت تحت عنوان "الشاهد الأخلاقي على اغتراب الغرب"، يبين الباحث في الفكر الفلسفي الغربي أحمد الفقيه "أن اريك فروم قد يكون من بين القلة من مفكري ما بعد الحداثة، الذين وظَّفوا اختصاصاتهم العلمية في نقد الحضارة الغربية المعاصرة. فهو لم يحصر التحليل النفسي الذي برع فيه، في المجال العيادي العلاجي، كما في التدريس الجامعي، بل جعله ركيزة في عملية تشخيص أزمات المجتمع الحديث وبالتحديد واقع الانسان في هذا المجتمع. كذلك فعل الشيء نفسه حين توجه بالنقد الصريح لتطورات الحداثة في الغرب من منطلق كونه فيلسوفاً أخلاقيّاً وعالمَ اجتماع. يقول الكاتب: لو نحن أخذنا على سبيل المثال قضية الاغتراب التي تعامل معها فروم كمفتاح مفهومي لبناء مشروعه الفكري، لتبيَّن لنا كيف أن هذه القضية تشكل محور هذا المشروع. نقرأ في هذه المقالة، مطالعات في المشروع الفكري عند اريك فروم وعرض لأهم مفاصل هذا المشروع مركزاً على مقولة "الاغتراب" كمقولة مركزية في الاستراتيجيا الفكرية للفيلسوف فروم.
* * * * *
6 - في باب "منتدى الاستغراب" لدينا أربعة أبحاث تدرس "الاستغراب" كمفهوم وممارسة تاريخية.
- البحث الأول، للمفكر الإيراني البروفسور أحمد كلاته ساداتي وجاء تحت عنوان "العالم الاسلامي وعلم الاستغراب النقدي". تهدف هذه المقالة – كما يذكر الكاتب - إلى تقويم "علم الاستغراب = علم معرفة الغرب" تقويمًا نقديًّا، استنادًا إلى الأرضيّة الثقافيّة والتاريخيّة في المجتمعات الإسلاميّة. وحسب الكاتب، تفيد المعطياتُ المتوافرة أنّ "الاستغراب = علم معرفة الغرب" هو مقولةٌ وضعيّة نقديّة بشكل عام، مضادّة للاستشراق. أمّا الوجه النقديّ لهذه المقولة فمختصٌّ بالدول الإسلاميّة، التي تقف موقفًا حذرًا من الغير، لإثبات هويّتها والمحافظة عليها. على أن أهمّ ما يميّز خطاب "الاستغراب" من خطاب "الاستشراق" هو أنّه وسيلة دفاعيّة أكثر من كونه وسيلة هجوميّة. فموضوع الاستغراب النقديّ في العالم الإسلاميّ يذهبُ أبعدَ من غيره من المباحث، كالهُويّة، والمقاومة الوطنيّة في التصدّي للإمبرياليّة والاستعمار، وهو نوعٌ من أنواع الدفاع عن المبادئ والقيم الإسلاميّة في مواجهة الغرب. أما السؤال الذي يطرحه الكاتب في هذا الصدد، فهو التالي: هل هنالك إمكانيّةٌ من خلال المعطيات الموجودة أن نشهدَ ظهور خطاب مختلِف ومضاد؟ الجواب سلبيّ، كما يقول الكاتب. ذلك لأنّ علمَ الاستغراب في العالم الإسلاميّ، خطابٌ صعبٌ مسارُه وشائك، ويحتاج إلى استنباط البرامج والاستراتيجيّات النظريّة والمعرفيّة المنتَجة محلّيًّا. وهكذا يتوجّب على هذا الخطاب الناجم عن الظروف التاريخيّة المعاصرة، وتحوّلاتها المتعاقبة في وعي الأمّة أن يستفيد من الادوات والوسائل العلميّة المرتكزة على أرضيّة صلبة، لاستيلاد النظريّات.
- البحث الثاني بعنوان "الاستغراب السلبي كتمثُّل للاستشراق" وهو للباحث والمؤرخ اللبناني وليد نويهض وفيه يقارب حالة الاستغراب بما هي نظير سلبي للاستشراق الغربي حيث ينطلق في مقاربته هذه من سؤال مركب صاغه على النحو التالي:
من أين نبدأ بقراءة الإشكالية؟ من التاريخ والاحتكاك مع الآخر، من الوظيفة والحاجة إلى معرفة المختلف، من المنهج والتصورات التي يتداخل فيها الخيال مع الواقع، من المعرفة المجردة أو حقل المعرفة الاستشراقية ذاته؟ هل نقرأه من جهة الوافد (الغالب) من الغرب إلى الشرق أم من جهة المتلقي وهو (المغلوب على أمره)؟ يقول الكاتب في معرض إيضاح مقصده انه "في مقام التعريف، وَجَبَ ان نلحظ واقعة منهجية مؤداها أن حقول الاستشراق واسعة، ومدارسه متعددة، وانماطه مختلفة، ومحطاته التاريخية متدرجة. ولأن الاستشراق الوافد من الغرب والمتلقى من الشرق هو حركة تاريخية مرتبطة بالتطورات الزمنية واختلافها، فقد حصل الاختلاف والافتراق في فهمه مثلما تناقضت نصوصه. فهناك حركات استشراقية وليس حركة واحدة، وهناك «استغرابات» متعددة وليس "استغراباً" واحداً.
- الباحث الإيراني البروفسور رضا داوري الأردكاني كتب تحت عنوان: "ملاحظات حول إمكانية معرفة الغرب" وفيها يبيِّن عناصر البناء المعرفي لنظرية "الاستغراب" كحقل علمي تفتقر اليه مجتمعاتنا الشرقية، وذلك على الرغم من شدة الحاجة اليه. في سياق هذه المقالة، يذهب الكاتب الى تبيين الشروط اللازمة لإطلاق مشروع مشرقي إسلامي يحمل اسم "الاستغراب". لكنه يدعو فضلاً عن ذلك، الى ضرورة التمييز بين الاستغراب بالمعنى الذي ندعو إليه، وبين المحاولات المجتزأة والسطحية للتعرف على الغرب، كما يبين بإيجاز الظروف التي أدت الى ظهور نظريات "الاستشراق"، محذراً من خطر إسقاطها منهجيّاً على مشروع الاستغراب الذي ينبغي بلورته وفق مناهج جديدة ومبتكرة من جانب نخب العالم الاسلامي أنفسهم.
- أما البحث الرابع في هذا الباب فقد كتبته الباحثة المصرية د. نجلاء مكاوي وهو بعنوان: "الاستغراب القسري – في جدل التثاقف بين المركز والاطراف"، وفيه تلاحظ ان الجدل حول الثقافة، حركةً ومفهوماً وبنيةً، مرتبط بطبيعة العلاقات بين الغرب، والمجتمعات غير الغربية "التابعة" له. لكن استمرار هذا الجدل وتطوره، سيبدأ مع محاكمة النموذج الثقافي الغربي، ومآلات فرضه قسراً على المجتمعات التي اعتبرتها الرؤية والتصور الاوروبي "هوامش" في مقابل مركزية الغرب وثقافته.
تسعى الباحثة الى مقاربة دور الثقافة والجدل حولها من خلال تناول موقعيتها في الاستراتيجيا الاوروبية لتقسيم العالم، وهي الاستراتيجية التي تندرج في سياق نظرة فوقية "تشرعن" سيطرة اوروبا على مجتمعات، روّج الخطاب الغربي لفكرة ان الثقافة هي اهم اسباب تخلفها. كذلك ستعرض الدراسة الى سياق المواجهة الثقافية، وارتداداته على ما يسمى المجتمعات الطَرَفية وثقافاتها المحلية، سواء في حقبة الاستعمار الاوروبي، او الهيمنة الاميركية على النظام العالمي، وتحديداً في المجتمعات العربية والاسلامية.
* * * * *
7 - في باب "نصوص مستعادة" اخترنا ثلاثة نصوص لثلاثة من كبار المفكرين من الغرب والعالم الاسلامي. وقد تناول كلٌّ من هؤلاء وعلى طريقته، مفهوم الاستنارة والتنوير وارتباطه بإشكاليات التواصل الحضاري بين الفكر العربي الاسلامي والفكر الاوروبي الحديث. جاءت هذه المقالات على التوالي لكل من المفكر المصري د. حسن حنفي، المؤرخ الاميركي كرين برنتون، والمفكر العربي الراحل عبد الوهاب المسيري.
نقرأ في مقال د. حسن حنفي تأصيلاً معرفياً لمفهوم "الاستغراب". وحسب حنفي فإن هذا العلم نشأ في مواجهة التغريب الذي امتد ليس فقط الى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم، بل امتد أيضاً الى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة، وفن العمارة ومظاهر الحياة العامة. لقد جاء اختيار هذا النص توخّياً لتعميق الرؤية بأطروحة "الاستغراب" والإحاطة بإشكالياتها من غير وجه وزاوية. فمن المعروف ان الدكتور حنفي اشتغل في خلال العقدين الأخيرين على ما اسماه "علم الاستغراب" في اطار مشروعه الفكري لتجديد التراث العربي الاسلامي... وهذا النص الذي نقدمه للقارئ يندرج في السياق المعرفي الذي تعمل فصلية "الاستغراب" على تظهيره من خلال استعادة النصوص الجادة في هذا الاطار.
الجدير بالذكر ان المقال المشار إليه، مقتطف من بحث للمؤلف تحت عنوان: "ماذا يعني علم الاستغراب"؟ وقد صدر في العام 2000 عن سلسلة قضايا اسلامية معاصرة.
-في المقال الثاني من "نصوص مستعادة" مطالعة للمفكر المؤرخ الأميركي كرين برنتون حول مصطلح الاستنارة ومفاهيمه المتعددة.
يقول برنتون في مطالعته: "إن التحول في موقف الإنسان الغربي من الكون وكل ما فيه، هو تحول وانتقال من نعيم المسيحية الغيبي في السماء بعد الموت إلى النعيم العقلاني الطبيعي على هذه الأرض. سوى أن أوضح سبيل لإدراك عظمة ذلك التحول هو أن نبدأ من عقيدة حديثة أساسية جداً، وهي عقيدة التقدم. "فالإيمان بالتقدم - حسب برنتون- لا يزال على الرغم من حربين عالميتين، وأزمة اقتصادية طاحنة شهدتها ثلاثينيات (القرن العشرين)، يمثل إلى حد كبير جانباً من الطريقة التي يُربّى عليها الأميركيون، وأن قلة قليلة من الأميركيين تدرك أن هذا الاعتقاد ليس له مثيل في الماضي، وطبيعي أن الناس منذ زمان طويل يرون أن وسيلة ما من الوسائل هي أفضل من سواها في أداء شيء ما، وعرفوا مظاهر تحسّن مميزة في التقنيات، وفوق هذا وذاك كان الناس باعتبارهم أفراداً في جماعة يدركون حالة جماعتهم المميزة وما إذا كانت تعيش حالة ازدهار أم العكس.
أما المقالة الثالثة في هذا الباب فهي للمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري وعنوانها: "فكر الاستنارة وتناقضاته". في هذه المقالة يبيِّن المسيري ان كلمة "إستنارة" أصبحت مؤخراً كلمة محورية في الخطاب السياسي والفلسفي العربي. ويلاحظ ان تعريفات الاستنارة في الأدبيات العربية هي تعريفات عامة للغاية، مثل: "حق الاجتهاد والاختلاف" و"شجاعة استخدام العقل" و"لا سلطان على العقل إلا سلطان العقل".
في المقالة نفسها نقرأ كذلك تأصيلاً للفكر التنويري الذي أعلن عن بزوغ فجر الحداثة في الغرب، كما يبين التناقضات التي انبنى عليها فكر الاستنارة انطلاقا من كونه حركة فلسفية لم تستطع ان تفك الاشتباك المستمر بين العلمنة والإيمان الديني.
* * * * *
8 - في باب "عالم المفاهيم" نقرأ بحثاً معمقاً للبروفسور حسن عجمي المحاضر في الفلسفة الإسلامية في جامعة ولاية أريزونا بالولايات المتحدة الاميركية، حيث يتناول فيه مفهوم "السوبر حداثة" كمنهج علمي غايته بلوغ المعرفة القصوى في المعارف المعاصرة.
في هذا البحث من "عالم المفاهيم" يطرق عجمي مفهوماً مستحدثاً لا يزال قيد التداول المحدود ضمن بيئات فكرية وأكاديمية متخصصة في الغرب، وكذلك في بعض البيئات المهتمة بالفكر والفلسفة السياسية المعاصرة في العالمين العربي والإسلامي. عنينا به مفهوم "السوبر حداثة" او ما ذهب اليه بعض المفكرين الغربيين فأطلقوا عليه تارة تسمية الميتا – حداثة وطوراً "الحداثة الفائقة". والمعلوم ان لهذا المفهوم ارتباطاً وثيقاً بما سبقه من مفاهيم ومصطلحات تتعلق بالحداثة وما بعدها، والتطورات المعرفية التي رافقتهما على امتداد قرون خلت. ولذا سنرى ان الباحث لجأ الى المرور على تعاريف الحداثة في سياق تأصيله لمفهوم "السوبر حداثة" موضوع هذا البحث. فقد وجد ان هذا المفهوم يعني، في مجالِ النظرِ والتطبيقِ، المنهجَ العلميّ الذي تتحدد غايته في بلوغ المعرفة القصوى للموجودات وللاجتماع البشري على وجه التحديد.
يقول الكاتب في هذا الصدد ان السوبر حداثة هي المذهب الذي يستخدم مفاهيم ومناهج ما بعد الحداثة من اجل الوصول الى الهدف الاساسي للحداثة، ألا وهو المعرفة. مثال ذلك محاولات العلماء والفلاسفة في تفسير ميكانيكا الكمّ. وكذلك مبدأ اللاَّحتمية او مبدأ اللامحدد الذي يحكم العالم ومؤداه ان من غير الممكن تحديد مكان الجسيم وسرعته في آن معاً. وقد انشغل العديد من العلماء وما زالوا منشغلين بتفسير هذا المبدإ. بعضهم يفسره على أساس ان الوعي الانساني يحدد ما يحدث في عالم الجسيمات، وبعضهم الآخر يفسره من خلال نفي وجود هوية الجسيمات بحيث تصبح غير مختلفة عن بعضها بعضا الخ. ان استخدام مفهوم اللاحتمية او اللامحدد وهو مفهوم ما بعد حداثوي من اجل الوصول الى المعرفة هو الهدف الحداثوي. من هنا، تستغل السوبر حداثة منجزات ومفاهيم ومعارف ما بعد الحداثة للوصول الى أهداف الحداثة.
في الباب نفسه مقالة من اعداد هيئة التحرير تناولت مفهومَي الحداثة وما بعد الحداثة بالتعريف الأكاديمي والتحليل التاريخي، وتحديد معنى كل منهما في اطار الحقول المعرفية التي يستعملان فيها.
* * * * *
9 - في باب "فضاء الكتب" ننشر مقالتين تحليليتين حول كتابين يتعلقان بمفاهيم الحداثة واشكالياتها المعرفية والتاريخية.
الأول بعنوان: "حالة ما بعد الحداثة" وهو بحث في أصول التغيير الثقافي في العالم الغربي. وقد ألَّفه الباحث الأميركي ديفيد هارفي. وقد تناوله بالعرض والتحليل الكاتب خضر إبراهيم حيدر، مبيناً أهم الأفكار التي ساقها المؤلف حول ما أسماه حالة ما بعد الحداثة، بوصفها ظاهرة واقعية معاصرة في الحضارة العالمية، والغربية على وجه الخصوص.
وأما الكتاب الثاني فهو بعنوان: "روح الحداثة" للمفكر المغربي طه عبد الرحمن. وفيه عرض للمسار التاريخي لحداثة الغرب والمفاهيم التي انتجتها على امتداد أربعة قرون. كما يتطرق الكتاب الى واحدة من أهم الاشكاليات التي شغلت الفكر الاسلامي سحابة أجيال خلت، وهي السؤال عن مدى استيعاب الإسلام لروح الحداثة انطلاقاً من قِيَمِهِ الإيمانية والدينية والأخلاقية.