فهرس المحتويات
المبتدأ
■ التعدّديّة الدينيّة كَوَريثٍ لوثنيّة الحداثة
محمود حيدر
الملف
■ التعدّديّة الإبستيمولوجيّة؛ ما ينبغي القبول به من نظريّتها وما لا ينبغي
عبد الحسين خسرو بناه
■ التعدديَّة الدّينيَّة بوصفها إيديولوجيا زائفة؛ هَشاشةِ المَفهوم وتهافت التطبيق
علا عبد الله خطيب محمد
■ نظريّة التنوّع الدينيّ؛ بحث في قابليّة الإختراق المعرفيّ للإدراك الدينيّ
حميد وحيد
■ نقد رؤية جون هيغ للدين والتعدّديّة الدينيّة؛ كتاب "تفسير الدين" موضوعًا
سيّد محسن موسوي
■ التعدّديّة الدينيّة برؤية عقلانيّة قرآنيّة؛ الحقّانيّة، النجاة، التعايش السلميّ
حسن معلمي
■ معاثر التعدّديّة الدينيّة؛ تنظير نقديّ للمفهوم وأبنيته المعرفيّة
محمد حسن زراقط
■ حوار لاهوتيّ عقائديّ مع البروفسور محمّد لغنهاوزن؛ التعدّديّة الدينيّة أطروحة مسيحيّة غربيّة لا ينبغي تعميمها
إعداد وتعريب: سرمد الطائيّ
العالم الإسلامي والغرب
■ الحداثة المُضَلِّلة عرض نقديّ لرؤية عبد العزيز حمّودة للحضارة الغربيّة المعاصرة
بهاء درويش
■ ما بعد الكولونياليّة دراسة في أزمة المصطلح والنظريّة ونقد التجربة التاريخيّة
أزراج عمر
■ صورة فرنسا الكولونياليّة قراءة في أطروحات الرَّحالة الجزائريّ حمدان خوجة
عبد القادر بوعرفة
بحوث تأصيلية
■ التعدّديّة الدينيّة تهافت الوضعانيّة.. تسامي الوحيانيّة
عبد الله الجوادي الآملي
■ بين التعدّديّة الدينيّة وتعدد سبل النجاة رؤية نقديّة تأصيليّة
غسان الأسعد
ترجمة ملخصّات المحتوى بالإنكليزيّة
المبتدأ
التعدّديّة الدينيّة كَوَريثٍ لوثنيّة الحداثة
استدعت فكرة التعدّديّة الدينيّة من ضوضاء الجدل الفلسفيّ فوق ما كابَدَه نظراؤها في حقل الأفكار والمفاهيم والنّظريات المستحدثة في دوائر التّفكير الغربي. ولأنّنا بإزاء قضيّة لا تزال تحظى بجاذبيّةٍ ملحوظةٍ في النّقاش الدائر، قد يكون من الضّرويّ أن نأخذ بسبيل يستجلي الحقل الذي منه جاءت، لكي نتبيَّن ما بها، وما عليها من اشتباهات ولوابس.
مبتدأ القول، الإلتفات إلى أنّ الدّراسات الغربيّة قاربت الأطروحة من نحوَيْن متوازيين: أنطولوجيّ.. وسوسيو- تاريخي. الغالب على هذه الدّراسات أنّها دَنَت من النحوَيْن المذكورين دُنوًّا لا تمييز فيه بين الدلالات الإصطلاحيّة والمعرفيّة لكلّ منهما. والنتيجة أن تأدَّى ذلك إلى خلطٍ منهجيٍّ رتَّب آثاراً اعتقاديّة وثقافيّة شتَّى. ولقد أظهر السّجال الذي شمل الحقلين اللَّاهوتي والعلماني في الغرب، حجم اللَّبْس والغموض المحيطين بالمفهوم.
إنّ ما يعنينا في هذا المقام بالذات، هو متاخمة الحقل الأنطولوجي والثقافي الذي منه ولدت فكرة التعدّديّة الدينيّة. فلو عرفنا شروط النشأة وظروفها الذاتيّة والموضوعيّة، أدركنا المآل الذي آلت الفكرة إليه، وانفتح أمامنا أفقٌ مبينٌ لفهمها ونقد مكامن ضعفها أو قوّتها. وعليه، سنفترض ابتداءً أنّنا تلقاء ظاهرةٍ فكريّةٍ إشكاليّةٍ ما كانت لتتخذ سيرورتها الفعليّة، لولا اتّصالها الوطيد بالمنطلقات المؤسِّسة لعقل الحداثة. بناء على هذه الفرضيّة يكون الإشكال على الفكرة عائداً في أصله إلى المبدأ المؤسّس لتفكير الغرب. نعني بذلك على وجه الدقّة، المبدأ المنبني على دربة الثّنائيّة كمنهجٍ معياريٍّ في استقراء حركة العالم وظواهره التّاريخيّة.
لم يكن جون هيغ وهو يتولى طليعة التنظير لفكرة التعدديّة الدينيّة خارج البيئة الفكريّة المهيمنة على الخطاب الثقافي في الغرب. لذا سيندرج ما أخرجه من تنظيراتٍ ضمن المسار الكلِّي للعقلانيّة الوضعانيّة التي أنشأتها الحداثة وحكمت على أساسها مناهج العلوم الإنسانيّة كافّة. وعلى الرّغم من التّفسيرات المتعدّدة والمتناقضة لأطروحاته، جاز القول إنّ فكرة التعدديّة الدينيّة هي وليدة مناخٍ ثقافيٍّ وضعانيٍّ شديد الصرامة. ولهذا الدّاعي بدت غير قادرة على الإحاطة أو التكيُّف مع ما هو مقدّس أو فوق تاريخاني. ومع أنّ الرجل زعم استظهار نظريّته بمنهجيّة التفكير المحايد، إلّا أنّ رؤيته للأمر القدسيّ ظلّت أسيرة حقلٍ معرفيٍّ أنثرو-فينومينولوجيّ ألقى بأعبائه على مجمل المعارف المتّصلة بالدين وعلم الاجتماع الديني.
* * *
أخذ التيّار التعدّديّ مأخذ اليقين بما أسَّست له فلسفة الحداثة من نظريات حيال الدين. وتلك كانت المعثرة الجوهريّة في أطروحته. سنجد أنّ رائد هذا التيّار، فضلاً عن أنّه كان مسكوناً بنظريات فيورباخ الإقصائيّة للجوهر الوحيانيّ للدين، كان من قبل ذلك مثل كثيرين سواه مسحوراً بالنظريّة الكانطيّة في تقسيم الوجود إلى «نومين» (الشيء في ذاته)، و«فينومين» (الشيء كما يبدو لنا في الأعيان). ومثلما انصرف فلاسفة الحداثة إلى الإعراض عن الشيء في ذاته بذريعة استحالة إدراك ماهيّته الذاتيّة والبرهان عليه، جاءت النظريّة التعدديّة لتبني مجمل منظومتها على هذه الدربة، ثم مضت إلى تقسيم الدين تبعاً لمنهج القطيعة بين بعديه الوحياني والتاريخي.
من هذا النحو سنرى أنّ النظريّة التعدديّة لم تنشأ من منطقة فراغٍ معرفيٍّ. إنّما هي في واقعها سليلة التأسيس الميتافيزيقي لحركة الحداثة على نحو لاشِيَةَ فيه. فما من ريب في الأثر الذي ألقته «الكانطية الدينيّة» في وجدان هيغ وصحبه. لو استقرأنا الجانب الديني في تفكير إيمانويل كانط –على سبيل الإلتفات- لظهَرَ لنا مسعاه الدؤوب في التأسيس الفلسفي الأنطولوجيّ للعلاقة بين الإنسان والله. لقد طوّر كانط تركيز ديكارت على الذاتية موجهاً إيّاه نحو إثبات قاطع لاستقلال الإنسان. ثم لتبدو المعادلة على الوجه التالي: بينما يرى ديكارت أنّ الإنسان يكتشف الحقيقة فقط بوصفها أمراً محدّداً مسبقاً بطريقةٍ إلهيّةٍ، يرى كانط أنّ الإنسان يُشكّل الحقيقة بفضل موارده الذاتيّة الخاصّة به. ثم سعى إلى نقض الآراء التي كان يراها غير وافيةٍ للمفكرين المنطقيين المتأخرين عن ديكارت كـ«ليبنيز»(Leibniz) و«وولف»(Wolf) وكذلك آراء العلماء التجريبيين عن ديكارت كـ«لوك»(Locke) و«هيوم»(Hume). لتحقيق هذا الأمر، سيقوم بتطويرٍ تفصيليٍّ يعتبره دفاعاً فلسفياً أصيلاً عن الحقيقة والقيمة اللَّتين يتمّ البحث عن أساسهما ضمن الأبعاد المتعالية للروح الإنسانيّة نفسها بدلاً من عند إلهٍ مُتعال. بهذه الطريقة وضع كانط الأرضيّة لشموليّة العلم وضرورته، ولإطلاق حقيقة القيم الأخلاقيّة ليس في منطق الله وإرادته، بل في الأشكال البديهيّة لفهم الإنسان، واستقلال عقله العملي المحض. ثم انتهى إلى تطوير تصوّرٍ نُعِتَ بـ «ميتافيزيقا المحدود»، الذي لمَّا يزل يُلهمُ التفكُّر في أغلب نواحي الفلسفة المعاصرة. ومع أنّ الموقف الذي طوَّره كانط في «نقد العقل المحض» يدّعي أنّ وجود الله يبقى سؤالاً مفتوحاً، لكن هذا الموقف يساوق في الواقع نظرةً إلحاديةً متأصِّلةً. أما إصراره الجازم على عدم إمكانيّة الوصول إلى المعرفة العلميّة بوجود الله من خلال مناهج العلوم الطبيعيّة الماديّة، فهو يرسِّخ القاعدة الكليّة التي ابتدعها الإغريق لجهة أنّ المعرفة العلميّة الوحيدة التي تحيط بالوجود الموضوعيّ هي تلك التي يؤمّنها العلم المادي. ومع التّساؤل المنطقيّ في هذه الحال هو التالي: إذا كانت العلوم الماديّة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها معرفة ماهيّة الشيء فعلاً، فإنّ الموقف الفلسفي اللَّاحق الذي يعطي الأولويّة المطلقة لهكذا اعتبارات نظريّة، لن يكون لديه أي سبب لإثبات وجود الله. ومن خلال هذه الطريقة في التفكير أثبتت نظريات الحداثة، وخصوصاً أطروحات ديكارت وكانط وهيغل وفيورباخ حول المعرفة الدينيّة على أنّها مصدرٌ خصبٌ من الإلهام بالنسبة لأشكالٍ مختلفة من المذاهب الإلحادية المتأخرة.
* * *
ثمّة من مفكري وعلماء الغرب من سعى إلى تقديم رؤيةٍ غير وضعانيّةٍ حول الدين، إلّا أنّ هذه الرؤية لم تغادر البتّة حقل الدّراسات الأنثروبولوجيّة. منها على سبيل المثال لا الحصر فكرة فينومينولوجيا الإعتقاد التي اشتغل عليها في وقت لاحق جمعٌ من فلاسفة الدين وعلماء الاجتماع في أوروبا. تقول هذه الفكرة إنّ حقيقة اللاَّهوت تكمن في دراسة ما هو إنسانيٌّ من أجل الوصول إلى فهم غاية الله في العالم. تضيف: وإذا كانت حقيقة الثيولوجي تمكث في الانتربولوجي، كما يذهب أصحابها، إلّا أنّ الحقيقة اللاَّهوتيّة تتعدّى ذلك؛ إذ إنّ للدين مضموناً خاصاً في ذاته، وإنّ معرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته. في العموم، فإنّ معظم مفكري وفلاسفة الغرب لم يخالفوا القراءة الأنثروبولوجيّة التي رأت إلى الدين بما هو الوعي الأوّل وغير المباشر للإنسان؛ أو إنّه الوسيلة التي يتّخذها الموجود البشري في البحث عن نفسه. وهو ما قصد إليه فلاسفة دين مثل هيغل وفيورباخ وهيغ وشلاير ماخر. فالدين عند أكثر هؤلاء، أو على الأقل، في المسيحيّة، هو سلوك الإنسان تجاه ذاته (تجاه جوهره). هذا السلوك يبدو وكأنّه موجّهٌ صوب جوهر آخر خارجه»؛ لكن هذا الجوهر الآخر إنّما هو الجوهر الإنسانيّ، أو، بعبارة أخرى، جوهر الإنسان منفصلاً عن حدوده الفرديّة. ذاك يعني أيضاً بحسب فلاسفة التعدديّة، أنّ مجمل صفات الجوهر الإلهيّ هي صفات جوهر الإنسان في أقصى درجات كمالها. وأمّا الروح الإلهية، التي ندركها، أو نعتقد بها، فهي نفسها الروح المدرِكة. مثل هذا التنظير سيكون له آثارٌ واضحةٌ على أطروحة التعدديّة المؤسّسة ابتداءً على الإيمان الحرّ بمعزل عن التوسّطات الكنسيّة. وهنا بالذات ستنشأ المقدّمات التأسيسيّة لمعضلة التعدديّة الدينيّة في بعدها الأنطولوجي. وهي المعضلة جاءت وليدة المنعطف الحقيقي الذي حدث في منعرج الحداثة؛ فبعدما كان الدين يعرب عن جوهر التصورات أصبح هو موضوعها.
* * *
كثيرون ممن تناولوا أطروحات هيغ وأتباعه بالنقد، ذهبوا إلى نعت فرضياته بأنّها ذاتُ بواعث إيديولوجيّة افترضتها سلطة ثقافيّة خصيمة للدين. ولأنّ المبدأ المؤسّس لهذه الأخيرة قام على الثنويّة والتّعدّد الانفصالي في بنية الكون، فمن البديهيّ أن تفضي الأطروحة في منزلتها الأنطولوجيّة إلى القول بتعدّد منازل الحق. حتى لقد بدت الصورة كما لو أنّ لكلّ دينٍ إلهه المخصوص به. أما الحجّة التي يرفعها أصحاب هذه النظرية فتتأتَّى أصلاً من تعريفهم للدين، إذ اعتبروه إطاراً إيديولوجياً، أو طريقة لفهم الكون بطريقةٍ ملائمة للعيش فيه. وعلى زعمهم أيضاً أنّ الديانات السائدة في العالم، إنْ هي إلّا معبِّرات عن تنوّع النماذج الإنسانيّة وتعدّدها، وعن أنماط التفكير والطبائع والتقاليد الثّقافية والأشكال الفنيّة والسياسيّة واللغويّة والاجتماعيّة. أما حاصل هذه الرؤية فهو صيرورة الأديان بؤراً إدراكيّة مناقضة للتوحيد وللحقيقة الإلهيّة الواحدة. ولبيان ما نقصد إليه، سنبيِّن الوجه الإيديولوجيّ لأطروحة التعدديّة الدينيّة بمجموعة شواهد:
أوّلاً: حين ينظر أصحاب التعدديّة إلى نظريتهم بوصف كونها الحقيقة التي تحكم عالم الأديان، ثم أقاموا حقيقتهم المدَّعاة فوق حقائق الأديان جميعاً...
ثانياً: حين قدَّمت الأطروحة نفسها باعتبارها سلطةً معرفيّةً تفرض الحقيقة. وتعبِّر بالتالي عن مركزيّة الحضارة الغربيّة وهيمنتها.
ثالثا: لمَّا نظَّر أصحابها لفرادة نظريتهم باعتبارها إحدى أبرز ابتكارات الحداثة الغربيّة في مجال اللَّاهوت الطبيعي وفلسفة الدين.
رابعاً: لمَّا استخدم رائدها جون هيغ العموميات اللفظيّة في صياغة أطروحته مثل «التاريخ المشترك» و«المجتمع العالمي» و«اللَّاهوت العولمي»، وسوى ذلك مما يشير إلى الرغبة ببناء منظومةٍ كونيّةٍ تجعل الثقافات الدينيّة غير الغربيّة مواداً ثانويّة وفضاءات حضاريّة تابعة.
نظريّة التعدّديّة غير بريئةٍ من التّوظيف الإيديولوجيّ في مشروع الحداثة، أمّا استعاداتها الراهنة من جانب نيوليبراليّة ما بعد الحداثة فإنّما هي استئنافٌ إيديولوجيٌّ يجري معه تحويل الأديان العالميّة غير الغربيّة إلى منفسحاتٍ وظائفيّة تبغي إعادة تشكيل العالم الآخر على نشأة الهيمنة والاحتواء.
* * *
في هذا العدد من «الإستغراب« سوف نقارب نظريّة التعدّديّة الدينيّة معرفياً ونقدياً من زوايا مختلفة. فقد تناولت الأبحاث والدّراسات التي شارك فيها باحثون ومفكرون من العالمين العربي والإسلامي، نقد وتحليل المباني الأساسيّة للنظريّة والسجالات التي دارت حولها، والنتائج النظرية والتطبيقيّة التي أفضت إليها.