البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الحداثة.. وما بعد الحداثة، في اللغة والمعنى والاصطلاح

الباحث :  إعداد : هيئة التحرير
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  1
السنة :  السنة الاولى - خريف 2015 م / 1436 هـ
تاريخ إضافة البحث :  September / 20 / 2015
عدد زيارات البحث :  3497
تحميل  ( 119.535 KB )
الحداثة.. وما بعد الحداثة
في اللغة والمعنى والاصطلاح
يُعتبر مصطلح «الحداثة» من المصطلحات العلمية والثقافية، التي إحتلّت مكانة مركزية في الفلسفة، والفكر السياسي، وعلم الاجتماع. بل إنها تعدّت هذه المجالات من العلوم الإنسانية لتدخل في مجال الأدب، والشعر، والمسرح، والفنون التشكيلية، وسائر أصناف الجماليات.
فيما يلي إضاءة قاموسية تحليلية على معنى الحداثة ودلالاتها الاصطلاحية والتاريخية، يليها عرض مواز لمفهوم ما بعد الحداثة.
نشير إلى أننا حرصنا على إدراجهما معاً في مقالة واحدة، بسبب انتسابهما إلى أصل واحد على الرغم من اختلاف القواعد الوظيفية لكل منهما.
المحرر
بحسب القواميس، فإن تعبير (moderne ـ الحديث) مشتق من أصل لاتيني (modernus) وقد حظي التحديث بانتشار واسع في أوروبا عقب عصر التنوير (Enlightement)، وفي تلك الحقبة نفسها، أظهر الإنسان الغربي إعتماداً  أكبر على عقله. وقد اتخذ هذا الإعتماد على العقل في مجمله، طابع العقلانية الشكلية (formalist rationality).
لعله يمكن ـ وبصورة إجمالية ـ تعداد الخصائص الإيدويولوجية الرئيسية للحداثة، والتي تمثل بدورها خصائص التنوير، على الشكل التالي:
ـ الاتكاء على قدرات العلم والعقل الإنساني بهدف معالجة الأمراض المجتمعية.
ـ التأكيد على مفاهيم من قبيل التقدم (Progress) والطبيعة (nature)، والتجارب المباشرة (sDirect experience).
ـ المعارضة الواضحة للدين.
ـ تعظيم الطبيعة، وعبادة الإله الطبيعي.
ـ في المجال السياسي، كان هناك الدفاع عن الحقوق الطبيعية الإنسانية بواسطة حكومة القانون، ونظام الحؤول دون استغلال السلطة.
ـ أصالة الإنسان. أي أنسنة المجتمع، وكذلك أنسنة الطبيعة (Antropronorphism).
ـ الارتكاز بشكل أساسي على المنهج التجريبي والحسي في مقابل المنهج القياسي والفلسفي.
ـ الوضعية بوصفها البنية المنهجية للحداثة.
تعد الحداثة من الناحية التاريخية حصيلة عصر النهضة. ومن عصر النهضة أيضاً تنطلق الأنسنة، أو ما يعني «محورية الإنسان» في العالم. وتطرح أصالة الإنسان فكرة محوريته بصورة مستقلة عن الله والوحي الإلهي ويمكن اعتباره بمثابة الجوهر والروح للاتجاهات الحداثوية.
وليس خافياً، أن التعريفات التي وضعت لمفهوم الحداثة قد تعددت وتنوعت، كما أشرنا. بعضهم عرّفها بكونها حقبة تاريخية، متواصلة ابتدأت في دول ومجتمعات أوروبا ثم انتقلت الى العالم بأسره. وقال آخرون أنها تمتد على مدى خمسة قرون كاملة، بدءاً من القرن السادس عشر وذلك بفضل حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، ثم حركة التنوير والثورة الفرنسية، تليهما الثورة الصناعية فالثورة التكنولوجية، ثم الآن لثورة المعلوماتية والاتصالات.
ومن التعريفات أيضاً، أن الحداثة تعني النهوض بأسباب العقل، والتقدم والتحرّر. لكن ثمة من علماء الاجتماع من اختزل المفهوم الى جعله يعني «قطع الصلة بالتراث»، أو «طلب التجديد» أو «محو القدسية عن العالم».. أو أنه «العقلنة» و«العلمانية»،... الخ. لكن على العموم، فإن مفهوم الحداثة الى أيامنا هذه، وبعد أكثر من خمسة قرون على انطلاقه، ظل مجال نقاش بين أهل الفكر والبحث والدراسة في العالم كله.
وبسبب من كثرة التفسيرات التي وضعت للمفهوم، فقد توصل عدد من الفلاسفة في الغرب الى نتيجة مؤادها أن الحداثة هي مشروع لم يكتمل بعد. وهذا ما أشار اليه الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس في أعماله الفلسفية الأخيرة.
هكذا فقد امتدت التعريفات لتتواصل مع مفهوم جديد شاع في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وهو ما عرف بمفهوم ما بعد الحداثة.
أصل الحداثة والجذر الديني
استعملت كلمة “حديث” للمرة الاولى في أواخر القرن الخامس لفصل الحاضر المسيحي، الذي كان قد صار للتوِّ رسميّاً، عن الماضي الروماني الوثني. رغم تبدل المضامين تعبر “الجدة” دوماً عن الوعي الخاص بحقبة تضع نفسها في علاقة مع ماضي العصور القديمة، لتدرك ذاتها كنتيجة عبور من القديم الى الحديث. لا ينطبق هذا فقط على عصر النهضة، التي فيها يبدأ لدينا العصر الحديث. فقد اعتبر الناس انفسهم “حديثين” في زمن شارلمان، في القرن الثاني عشر، وفي زمن التنوير. إذاً، في كل حين نشأ فيه في أوروبا وعيُ حقبةٍ جديدة، عبر علاقة متجددة مع العصور القديمة، وكانت العصور القديمة تعتبر في تلك الاثناء مثالاً معياريّاً، يُنصح بالاحتذاء به. وقد استمر ذلك حتى صراع الحداثيين المشهور مع القدماء، أي الصراع مع اتباع الذوق الكلاسيكي السائد في فرنسا في اواخر القرن السابع عشر. ولا يتم التحرر من السحر الذي مارسته آثار العالم القديم الكلاسيكية على روح الحداثيين في كل من الحقبات المذكورة، إلا مع حلول مُثُل الكمال التي أتى بها عصر التنوير الفرنسي. وإذ جعلتُ الحداثةُ الكلاسيكيَّ آنذاك نقيضَ الرومانطيقيِّ، فتشت اخيراً عن ماضيها الخاص في العصر الوسيط، الذي جُعِل مثاليًّا. في أثناء القرن التاسع عشر اطلقت هذه الرومنطيقية وعي “الجدة” المتطرف ذلك، وهو الوعي الذي تحرر من الروابط التاريخية، واحتفظ فقط بمناقضة مجردة للتقليد وللتاريخ اجمالاً.
وبالنتيجة اعتبر حداثيّاً ما يساعد “حاليَّة Akualitat” روح العصر، تلك التي تجدد نفسها بنفسها. والعلامة الفارقة لآثار كهذه هي الجديد الذي يتجاوزه تجدد الطراز القادم ويلغيه. وفيما يصبح ما يماشي الموضة، موضة قديمة، أي حين يصير ماضياً، يحتفظ الحداثي بعلاقة سرية بالكلاسيكي. ومنذ القدم يعتبر كلاسيكياً ما يستمر عبر العصور. لا تستمد الشهادة الحداثية، بالمعنى المشدد للكلمة، قوتها هذه من سلطة حقب منصرمة، بل فقط من صحة حالية، مضت. وانقلاب الفاعلية الحاضرة الى فاعلية من الامس انقلاب مستهلك ومنتج في آن معاً، هذا الانقلاب هو الحداثة عينها، التي تخلق كلاسيكيتها ـ كما يلاحظ ياوس ـ وكم صار بديهيّاً ان نتكلم على حداثة كلاسيكية. يرفض أدورنو ذلك التفريق بين الحداثة والحداثية “إذ لن تتبلور حداثة موضوعية، من دون الفكر الذاتي الذي يثيره الجديد”.
أما عن صلة الحداثة بما بعدها، فذلك ما سنجده عندما نتطرق بالبحث لنعثر على المعنى الحقيقي لمصطلح ما بعد الحداثة[1].
2ـ ما بعد الحداثة
امتدت التعريفات حول مفهوم الحداثة لتتواصل مع مفهوم جديد شاع بقوة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، هو ما عرف بمفهوم ما بعد الحداثة.
فما الذي يعنيه هذا المصطلح ويدل عليه؟
ما بعد الحداثة هو مفهوم يتواصل مع الحداثة ولا ينفصل عنها. وبيان ذلك أن مفهوم ما بعد الحداثة (Postmodernism) يرتبط عضويّاً بمفهوم الحداثة. إذ لولا هذا الأخير لما أمكن تداول الأول ليصبح مفهوماً شائعاً تدور حوله وبواسطته مناقشات لا تنتهي.
من الناحية اللغوية، فإن الـ«ما بعد الحداثة» دلالة على استمرار أمرٍ ما، فهي لا تعني نهاية الحداثة بل هي استمرار لها بمناهج ووسائل أخرى. وقد استفيد من هذا المصطلح في تاريخ الأدب الأميركي اللاتيني في الفترة الفاصلة ما بين الحربين العالميتين.
ومثلما تعامل العلماء وفقهاء الاجتماع السياسي، مع مفهوم الحداثة لناحية تعدد تعريفاته، كذلك شأنهم مع مفهوم ما بعد الحداثة، لذلك ليس هناك توافق حول التعريف. وفي هذا الصدد يعتقد الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار أن العصر الما بعد الحداثوي هو عصر التشكيك وموت التعاريف المنطقية. فالتشكيك هو نتيجة حتمية للتطور الحاصل في العلوم، كما يقول ليوتار فإن ما يمكن أن يُقوَّم بوصفه ثقافة معاصرة من قبيل موسيقى الروك ومشاهدة البرامج الغربية، وتناول وجبات ماكدونالدز... الخ إنما هو نمط من أنماط ما بعد الحداثة. ويمكن تلخيص التحديدات التي قال بها ليوتار حول ما بعد الحداثة بما يلي:
ـ نهاية عصر ابتكار النظريات أو النظريات الشاملة في مجال السياسة والاجتماع.
ـ فقدان نظرية مطلقة في مجال الأخلاق والقيم.
ـ التشكيك الأخلاقي (moral skepticism) سوف يفضي في النهاية إلى عالم اعتباري.
ـ إعطاء المعنى أهمية استثنائية.
ومن جهته، يذهب جيمسون إلى أن عوامل ظهور ما بعد الحداثة هي عبارة عن:
ـ فقدان العمق وضعف النظرة إلى التاريخ.
ـ الخمود العاطفي الذي حصل في العصر الما بعد الحداثوي.
 وإذا كانت ما بعد الحداثة، هي الاعتقاد باستحالة تأصيل أي معرفة أكانت دينية أم علمية، فإن الحداثة هي على العكس من ذلك، أي أنها ليست سوى الإيمان بإمكانية تأصيل المعارف. وهكذا فإن وضع ما بعد الحداثة يتّصف بعدم التأصيل، أي بعدم الاعتراف بأن هناك قيماً ثابتة، وعلى هذا الأساس يلاحظ العلماء أن من صفات مذهب ما بعد الحداثة: الذاتية، والتفكيكية، والتعددية، والاختلاف، والعشوائية.
إذاً، يختص مصطلح «ما بعد الحداثة» بوجود عدد كبير من التعريفات تتساوى مع عدد من المظاهر التي تسفر عنها الممارسات المندرجة تحت هذ العنوان. فهذا المصطلح يشكل جزءاً من مفردات فروع المعرفة المختلفة: الأدب، والفن التشكيلي، والمعماري، ووسائل الإعلام، والسينما، والسياسة، وكذلك الفلسفة. بل أكثر من ذلك فإن هذا المصطلح دخل الى مفردات علم الأديان واللاّهوت.
لكن هناك من الباحثين من يدعو، في ظل الغموض والتعدد الذي يكتنف المفهوم، الى التحديد التالي: يجب أن يعترف الجميع بأن «ما بعد الحداثة» توجد باعتبارها خبرتنا، أو معرفتنا المتأخرة بالحداثة، وبأنها رد فعلنا أو استجابتنا الفكرية والأخلاقية والجمالية لهذه النهاية، أي نهاية الحداثة. وهذا الادعاء التاريخي الأساسي لما بعد الحداثة يقودنا بشكل طبيعي تماماً الى فحص علاقتها الحرجة بالحداثة.
موجز ما ذهبنا إليه، يفتح لنا نافذة على القول، أن الحداثة وما بعدها ضفتان لنهر معرفي واحد، وهما بهذه المثابة يستويان على منطق داخلي مشترك، اي بوصفهما حركة جوهرية لعالم يمضي قدماً في اطواره التاريخية المتعاقبة.[2]
إن أي محاولة لفهم فكرة عصر ما بعد الحداثة تفترض مسبقاً فقدان الثقة بالحداثة ومساءلتها معاً. لقد كشفت التجربة التاريخية على أن التطور التكنولوجي لا يقود بالضرورة الى بناء عالم أفضل. بالأحرى، قاد في أحوال عديدة، الى تحطيم المجتمعات وتقويض بيئاتها الإجتماعية. ومن الواضح أيضاً أن العقلانية لم ترتفع الى المستوى الذي كانت تتوقعه الحداثة.
وعلى الضد من الحداثة فإن ما بعد الحداثة تنظر الى التاريخ باعتباره عملية دائرية متشعبة المسارات، وليس عملية خطية تتجه دوماً في مسار إيجابي تقدمي. كما أن الاستمرارية مع الماضي خاصية ملازمة لها. وبتعبير آخر فكما أن ما بعد الحداثة مشغولة بالنظر الى التقاليد والأساليب القديمة وكذلك الثقافات فإنها أيضاً تبتكر أفكاراً جديدة وممارسات جديدة، وتقطع مع التقاليد. أي أنها تمزج القديم بالجديد. ولهذا فإنها تعجُّ بالتناقضات. ولا غرابة أن يجد الناس أنفسهم محصورين دائماً بين ما هو جديد كالاكتشافات التكنولوجية الجديدة، والأشكال الجديدة من التسلية، وابتداع أساليب جديدة... الخ، وبين ما هو قديم كالبحث عن الأصالة، والعودة الى الجذور، والنوستالجيا...الخ. بل هناك من يجد رابطة وثيقة بين عصر ما بعد الحداثة والإحيائية العرقية ـ الدينية (الأصولية)، إذ رأوا في الأصولية محاولة لحل إشكالية العيش في عالم مليء بالتناقضات والشكوك المتطرفة.
إنّ عالم ما بعد الحداثة يتغير بسرعة ويعاني من الشيزوفرينيا والتشتت واللااستمرارية والفوضى. لكنه يتصف أيضاً بروح التعددية: يسمح بالأصوات المختلفة وبتعايش الثقافات وامتزاجها لخلق ثقافة جديدة. إلا أن التعددية، على أيّ حال، لا تمثّل سوى جانب واحد من العملة. ففي الوقت الذي نزداد وعياً بالتنوع والاختلاف والاختلاط الثقافي نكتشف أيضاً أن ما بعد الحداثة تمتاز ببزوغ ثقافة كونية مهيمنة عملت قنوات الاتصال على نشرها، تربط ما بين الشعوب ربطاً لم نشهد له مثيلاً من ذي قبل. وأُطلِقَ، في الغرب على المجتمعات ما بعد الصناعية مجتمعات ما بعد الحداثة بسبب الانتقال من الصناعات الثقيلة إلى الالكترونيات وتكنولوجيا الكمبيوتر والنمو السريع لقطاع المعلومات والقطاع الخدمي. يقرن البعض ما بعد الحداثة بالرأسمالية المتأخرة التي تمّ فيها تحويل كل جانب من حياتنا الاجتماعية والثقافية الى نشاط تجاري. ولئن كانت هذه التصنيفات قابلة للأخذ والرد إلا أن التعايش بين ما بعد الحداثة وعصر الإعلام وتوافقهما أضحى مقبولاً بعامة[3].
يعتبر الشك عنصراً أساسيّاً من روح ما بعد الحداثة التي ترفض النظر الى العالم بصفته وحدةً كلّيّةً كما ترفض الأجوبة الكاملة، إذ إنها أخضعت الأيديولوجيات والنظريات، أو ما يسمى «السرديات الكبرى»، التي حاولت أن تشرح الشرط الإنساني بكليته، إلى التساؤل مراراً. بدلاً من ذلك يسعى علماء اجتماع ما بعد الحداثة الى شرح خصوصيات ما هو محلي ومرتبط بالسياق. وعلى العموم يشكك مفكرو ما بعد الحداثة بالتقاليد الأورثوذكسية وبتجانس المجتمعات وبالحقائق وبالتعميمات، لا سيما تعميمات الرجل النخبوي الأبيض ـ العمود الفقري لفكر الحداثةـ والتي فقدت الآن مصداقيتها السابقة وقوة تأثيرها[4].
ويبحث من يسمون أنفسهم «ما بعد حداثيين» عن ثراء المعنى أكثر مما يبحثون عن الوضوح، ويؤثرون «كلاهما ـ و» على «إما ـ أو». إنهم يستحضرون المعنى بمستوياته العديدة ويجمعون الاحتمالات المختلفة للتفسير. كما أنهم يميلون الى كسر الحواجز ما بين فروع علم الاجتماع. فهم يؤكدون على أن هذه الحواجز اصطناعية تعمل على حجب الترابط الداخلي للظاهرة الاجتماعية. وهذا بدوره مرتبط بقبول تعدد المنظورات وتحلل الحواجز والاستقطابات القديمة المتعددة. مثلاً، تحلل الحواجز بين الفلسفة والسوسيولوجيا والتاريخ والنقد الأدبي والتحليل النفسي[5].
يقول بعض المفكرين أن عصر ما بعد الحداثة لا يلي عصر الحداثة مباشرة. لقد انبثق من عصر الحداثة وشكل قطيعة مع ما أسماه الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، سرديات الحداثة الكبرى. ويرى مفكرون آخرون أن ما بعد الحداثة تقطع، في بعض الأحيان، نقديّاً مع الحداثة، وفي أحيان أخرى تتبع فقط مبادئ الحداثة. غير أنه من الضروري أن نفهم أن ما بعد الحداثة لا تعني زمنياً  للمجيء بعد الحداثة. إنها موجودة قطعاً أو رفضاً.
وعلى الرغم من أن حركة ما بعد الحداثة الفكرية والجمالية تزداد ذيوعاً وقبولاً، إلا أننا، مع ذلك، لا نعرف ما هي بوضوح. وحقيقة الحال أن الوضوح ليس علامة أساسية من علاماتها. فالصعوبة التي تواجهنا في تعريفها ليست متأتية من انها في طور التكوين، وإنما لأنها ترفض التعريفات الصارمة. هذا فضلاً عن أن اللغة التي يكتب بها مفكروها (كتّاباً وفنانين) لا تنشد الوضوح بقدر ما تستولد التعمية. بهذا المعنى فإن ما بعد الحداثة لا تخاطب سوى من يقوى على تفكيك «شيفرة» كتابها. وهي بذلك تعمل على خلق نخبة جديدة لها لغتها الخاصة وإن عارض دعاتها بشدة نخبوية الرجل البرجوازي التقليدية. لذا فإن الشكل العام لفكر ما بعد الحداثة يعمل على إبعاد الآخرين بينما لا يرمي محتواها إلا إلى العكس. أي أن كتّاب ما بعد الحداثة وقعوا، برغم نقدهم الشديد للغة الحداثة الاصطلاحية، في الخطأ نفسه لسوء الحظ. وقد انتبه بالفعل عدد من الباحثين إلى هذه المعضلة فبدأوا يكتبون بلغة مفهومة.
في زمن متأخر من الجدل حول ماهية وهوية ما بعد الحداثة، سيحدث أن انبرى عدد من المفكرين والكتاب في الغرب وفي العالم العربي إلى البحث المتجدد في عالم الفلسفة الاجتماعية عن مصطلح جديد يعكس طبيعة الحقبة التي بلغها تطور المجتمع العالمي مع بداية الألفية الميلادية الثالثة.
[1]ـ خضر ابراهيم.
[2]ـ محمود حيدر ـ الحداثة وما بعد الحداثة ـ ضرورة استئناف التعريف ـ راجع موقع دلتا للأبحاث المعمّقة.
 www.khitabdelta.org
[3]ـ نادية صادق العلي ـ مدخل إلى ما بعد الحداثة ـ ترجمة أحمد ناهد ـ فصلية «أبواب» العدد 13ـ صيف 1997
[4] ـ المصدر نفسه
[5]ـ المصدر نفسه .