البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأميركيتان والعلمانية - الدولة كمستودع للقاء الأضداد

الباحث :  ميشلين ميلو Micheline Milot
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1095
تحميل  ( 330.006 KB )
الأميركيَّتان والعلمانية
الدولة كمستودع للقاء الأضداد

ميشلين ميلو Micheline Milot [*]
لاينفكّ الجدل حول طبيعة العلمانية وتطبيقاتها التاريخية في القارة الأميركية يسري بزخم خاص في الأوساط الأكاديمية ومراكز البحث العلمي. والسبب في هذا يعود بصفة أساسية إلى السياق المنفرد الذي اتخذته مسارات العلمنة في دول ومجتمعات الأميركيَّتين الشمالية والجنوبية؛ حيث سنجده سياقاً يفارق المنحى الكلاسيكي الإجمالي الذي طبع التاريخ الأوروبي سحابة خمسة قرون متواصلة.
في هذه المقالة للباحثة والأكاديمية الفرنسية ميشلين ميلو محاولة تحليلية جادة لإشكاليات نشوء وامتداد العلمنة في الأميركيتين، وخصوصية حضورها في كل بلد من بلدان القارة، والتحديات التي تواجهها في القرن الحادي والعشرين.
المحرر
الأميركيتان، أو «العالم الجديد». نحن أمام تلك البلاد التي نشأت في هذه القارة الشاسعة نتيجة عمليات الاستعمار الأوروبية في مستهلّ القرن السادس عشر، وقضت على النظم الاجتماعية المحلية الموجودة سابقاً. في المقابل، تشكّلت أنظمة العلاقات بين الدولة والكنيسة بطريقة مختلفة، بحسب قدرة القوى الاجتماعية أو السياسية التي حُدّدت بمنأى من النماذج الأوروبية ووفقاً للمعتقدات السائدة المستوردة من المستعمرين، سواء الكنيسة الكاثوليكية أو الكنائس البروتستانتية. ولقد استوجبت مشاكل مماثلة تتعلق بالتسامح والتعايش، من الشمال إلى الجنوب، حلولاً روت عملية العلمنة بطرق مختلفة. وفي حين لم يُترجم تنظيم الحريات الدينية والمساواة بين الأديان دائماً بسهولة في البيئة الاجتماعية والقانونية، لا سيما بالنسبة إلى أميركا اللاتينية، أُخذت ضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة بعين الاعتبار وتحقّقت في معظم البلدان قبل أوروبا. هذا ما أكّده أريستيد بريان، أحد المفكّرين في قانون فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا، حيث كتب في العام 1905: «إنّ نظام فصل الكنيسة عن الدولة الذي طُبّق بشكل خجول ومنقوص في أوروبا، اعتُمد بالمقابل في العالم الجديد على نطاق واسع، مثل كندا حيث علمَنَ قانون العام 1854 بعض الكنسيين، وأزال الطابع الرسمي عن الكنيسة الأنجليكانيّة، فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك اللتين لم تعرفا سواه. كذلك، طُبِّق هذا القانون في جمهورية كوبا الجديدة، وفي ثلاث جمهوريات تابعة لأميركا الوسطى، وأخيراً في أهم دول أميركا الجنوبية، أي الولايات المتحدة البرازيلية.»[1].
العلمنة المجهولة
ما زالت التحليلات حول الأميركيتين، على مستوى القارات، معدومة حيال هذه الإشكاليّة. هذا في الوقت الذي نجم عن الأعمال المقارنة بين مختلف البلدان الأوروبية[2]، أو الولايات المتحدة وفرنسا[3]، أو حتى أميركا اللاتينية وأوروبا اللاتينية[4] إنتاجات علميّة مثيرة للاهتمام. لقد سعى العدد الخاص من «أرشيف العلوم الاجتماعية للأديان» Archives des sciences sociales des religions إلى سدّ هذه الفجوة جزئيّاً على الأقل. فبرز سؤالان من خلال كافة المشاركات: كيف انتشرت العلمنة في الأميركيتين؟ وما هي التحديات المرتبطة بهذه المسألة حتى يومنا هذا؟ مع ذلك، كان على هذا المشروع أن يكون أكثر بساطةً، إذ لا يمكن إدراك التنوّع الديني والسياسي والقانوني والثقافي للأميركيتين اللتين تضمّان ثلاثة وخمسين بلداً وإقليماً من خلال مسألة واحدة. كان يجب إعطاء لمحة عامة عن الترتيبات العلمانية التي نجدها عند تحليل السياقات الوطنية الثمانية المختارة على أساس التشكلات التاريخية والاجتماعية المتنوّعة من دون افتراض التمثيل الجغرافي السياسي هنا.
بالإضافة إلى فهم العلاقات بين الدولة والكنيسة أو الأديان على صعيد قارة أميركا، يطمح هذا العدد من المجلة اكتشاف ما يتعلق بالاستخدام العلمي لمفهوم العلمانية في سياقات تختلف عن تلك التي أوجدتها فرنسا على مرّ التاريخ. هل انحصر استعمال مصطلح العلمانية على الصعيد الوطني لوصف حالة استثنائية، أم شكّل مفهوماً تحليلياً أكثر عالمية؟ في إطار العلوم الاجتماعية، تمّ تداول أسئلة حول شمولية المفاهيم المستخدمة لوصف الحقائق الاجتماعية والثقافية المختلفة وشرحها منذ سنوات عدة. كان علم إجتماع الدين حاضراً خلال المناقشات، لا سيما في ما يتعلق باستخدام مصطلحي «العلمانية» و«العلمنة» حيث قد نتساءل ما إذا كانتا مشوبتين بالعنصرية إلى حدّ كبير أو بمنظور غربي على نحو كامل، لا بل مسيحي. سمحت الدراسات التي وسّعت مجال المراقبة عبر التطرّق إلى اختصاصات أخرى كالعلوم السياسية أو القانونية، والتي ضاعفت الأوضاع التحليلية، بتقويم نطاق المفاهيم المستخدمة، وعند اللازوم، باقتراح تعريف نظري أكثر منه وصفي لأحد الوقائع الاجتماعية السياسية. ما هي إذن العناصر المكوّنة للعلمانية التي تسمح بتحليل مختلف الأوضاع الوطنية؟
لا شكّ في أنّ المفهوم الفرنسي لكلمة «علمانية» Laïcité التي برزت في العلوم الاجتماعية، قد عكس لفترة طويلة، وعلى وجه الحصر تقريباً، نموذج العلاقات بين الجمهورية الفرنسية والعبادات. بدا أن هذا المفهوم الذي طُبّق بشكل محدود في بعض البلدان، مثل تركيا، أو الأوروغواي، أو المكسيك، لم يُعمل به على أقل تقدير في باقي أوروبا وفي الأميركيتين. ومع ذلك، نفّذت جميع الدول الديمقراطية، بمختلف الطرق، الحكم الذاتي، وحيادية الدولة، والأساليب المختلفة للاعتراف بحرية المعتقد والفكر والدين والمساواة. فُرض بالتالي تمييز بشكل منهجي بين هذه المبادئ المؤسّسة للعلمانية والشروط الاجتماعية أو الاصطلاحية التي برزت في التنمية المجتمعية. لا يعتبر مصطلح «العلمانية» الذي عُرّف في بادئ الأمر باللغة الفرنسية، وظلّ لفترة طويلة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالسياق السياسي والثقافي لفرنسا، من المحدّدات النظرية التي تمنع استخدامه التحليلي خارج هذا الإطار النظري.
تنطبق العلمانية على واقع متعدّد الأبعاد، سياسي وقانوني وثقافي واجتماعي، سُجّل في تاريخ الأمم مع تقدّم الديمقراطية نفسها. كان للدولة العلمانية الناشئة عبر عملية تاريخية طويلة، حريّة وضع معايير جماعية من دون هيمنة دين أو معتقد معين على السلطة أو المؤسسات العامة، بالتالي استمدّت الدولة شرعيتها من سيادة الشعب وليس من طائفة دينية أو مفهوم فلسفي معيّن. فاستقلالية الدولة والكنيسة في بعض البلدان، كالبرازيل، والولايات المتحدة الأميركية، والمكسيك كُرّست في الدستور، في حين أن بلداناً أخرى، مثل كندا، لم تطبّق رسميّاً مبدأ فصل السلطات في دستورها، إنّما ظهرت أنظمة حيادية أو ضامنة لحرية المعتقد والفكر والدين تدريجيّاً، فوضعت النظريات القانونية ووسّعت مجال الاجتهاد. بالاستناد إلى ذلك، كان يمكن أن تتعدّد أشكال العلمانية. ففي المكسيك وأميركا اللاتينية، على سبيل المثال، تطوّرت بعض العناصر الخاصة بالعلمانية بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، أي قبل البدء بتطبيق هذا المفهوم نفسه(laicidad) في السياق القانوني والاجتماعي. علاوة على ذلك، في بلد كالولايات المتحدة الأميركية الذي جاء عمليّاً بالفكرة الحديثة للفصل بين الدولة والكنيسة، لم يشمل مفهومSecular State (الدولة العلمانية) أبداً ما يقصد بعبارة sécularisation (الدَّنْيوَة) الفرنسية. فالتعديلان الدستوريان الأول والرابع عشر يحدّدان مبادئ الفصل والحريات، على الرغم من عدم علمنة المجتمع من حيث الأخلاق والآداب العامة. في هذا الصدد، كتب تالكوت بارسونز في العام 1957 بأنه يجب التمييز بين علمنة القيم أو السلوكيات وعلمنة الهياكل المؤسساتية [5] سمح مفهوم العلمنة بتعريف المستوى الثاني بشكل لا يمكن الخلط بينه وبين المستوى الأول، وإلاّ، كان لا بدّ عندها من تعريف العلمنةLaïcisation على أنها جزء من الدَّنيوة Sécularisation [6] يبقى هذا المنظور الأخير سارياً حتى اليوم في العلوم الاجتماعية للأديان.
التمييز بين العلمنة والدّنيوة
وبما أن جميع الفقرات ههنا تشدّد على التمييز بين مفهومي Laïcisation (العلمنة) و sécularisation (الدّنيوة)، نجد أنه لا بدّ من شرح وجهة النظر هذه.
ترسّخ مصطلح الدّنيوة في صميم نظريات خيبة الأمل التي تصف انهيار النظم الاجتماعية رضوخه تحت السلطة الكنسية والدينية. لقد شهد هذا المفهوم انتشاراً واسعاً منذ منتصف القرن العشرين في مجال علم الاجتماع. وساعد فقدان الأهلية الثقافية في معتقدات وممارسات الأديان التقليدية في العديد من الدول المتقدّمة ولعقود طويلة، في تغذية قضايا العلمنة في تحليل عواقب التهميش الاجتماعي والثقافي للدين. فضلاً عن ذلك، ساهمت تحليلات بيتر بيرغر، وتوماس لوكمان، وبريان ويلسون، وديفيد مارتن في توفير البنية النظرية لمفهوم الدّنيوة، إلاّ أننا لا نجد في هذه التحليلات فرقاً بين العلمنة والدَّنيوة. فالمبادىء السياسية والمؤسساتية المتعلقة بمفهوم العلمنة تُفسّر من خلال مفهوم الدنيوية، إمّا عبر استحضار الجوانب الاجتماعية والهيكلية لمفهوم الدّنيوة، أو عن طريق التمييز بين المستوى الاجتماعي والمستوى المؤسساتي. مع ذلك، فإنّ هؤلاء الكتّاب قلقون حيال التحولات الاجتماعية للدين أكثر منهم حيال المبادئ السياسية والقانونية التي تتحمّل الدولة مسؤوليتها لضمان احترام حرية المعتقد والمساواة في هذه المسألة.
تعترض مشكلة الترادف باللغة الإنكليزية، في أغلب الأحيان، الاستخدام المتمايز لعبارتي العلمنة والدّنيوة. لا شكّ في أنّ ترجمة الكلمة إلى لغات غير الفرنسية قد ظهرت في وقت لاحق، ولكن هل تشكّل الترجمة إشكالية تجريبية بحيث إنّ مبادئ العلمانية الفرنسية لا نجدها مطبّقة في أي سياق وطني آخر؟ يبدو لنا مما سلف بأنّ مشكلة الترجمة هي مشكلة زائفة، فضلاً عن أنّ بعض الجوانب البارزة من التاريخ الفرنسي، كالصراع والعداء لرجال الدين «le conflit et l’anticléricalisme»، قد أثّرت بالتأكيد على استخدام كلمة «علمانية» في بلدان عدّة في الأميركيتين، وحتماً أوروبا، لا سيما في السياقات التي من خلالها لا تترتّب بالضرورة على استقلالية المؤسسات السياسية مكافحة هيمنة الكنيسة. بعد ذلك الحين، بدا أن هذا العائق التاريخي قد أُزيل، كما اتّضح من خلال استخدام هذه العبارة في اللغتين البرتغالية والإسبانية «laicidad»؛ كذلك نجد في إسبانيا وكوبا عبارة laicismo، التي تعني العلمانية (laïcité) وليس النزعة العلمانية (laïcisme) ، كما ورد في النص الأصلي باللغة الإسبانية للكوبي جورج راميريز كالزاديلا. أما في اللغة الإنجليزية، فتُستخدم في الكتابات العلمية عبارتا «laicization» وlaicity وكذلك secularism و secular state لإعطاء المعنى. في هذا العدد، وبما أن للكتّاب حرية استخدام المصطلحات المألوفة لهم وباللغة التي كُتب فيها المقال، يستخدم البعض باللغة الإنكليزية secularism وsecular state، بالمعنى الدقيق للعلمنة المؤسساتية للدولة العلمانية، كما هو الحال بالنسبة لروبيرتو أريادا لوريا ومايكل ج. بري، بينما يتطرّق البعض الآخر للوَاقِعَيْن: «علمنة المجتمع» و«العلمنة السياسية»، كما بالنسبة إلى روبرتو بلانكارت وماركو هواكو وميشلين ميلو، أو حتى عبارتي laicidad وsecularización، بالنسبة إلى خوان إسكيفال ونستور دا كوستا.
يبدو التمييز بين مفهومي العلمنة والدّنيوة أكثر وضوحاً من وجهة نظر تحليلية عندما يتعلق الأمر بدراسة العلاقات بين السياسة والدين والآثار القانونية لهذه الأخيرة على الحقوق والحريات. إذا كان يُقصد بالدّنيوة الفقدان التدريجي للأهمية الاجتماعية والثقافية للدين باعتباره إطاراً معياريّاً يوجّه الآداب والسلوكات الأخلاقية «المقبولة». فالعلمنة تقوم على فصل المؤسسات عن الدين أو الكنيسة بشكل أوسع في النظام العام للمجتمع الذي يظهر في الوسط القضائي بأشكال عدّة. وبالتالي، فإن العلمنة تُظهر بشكل أوضح من مفهوم الدّنيوة إرادةَ الدولة في إضفاء الشرعية على أفعالها بغض النظر عن المفاهيم الأخلاقية أو الدينية المحدّدة، وكذلك إرادة المنظمات الدينية بعدم الخضوع لرقابة داخلية من الجهات السياسية، فضلاً عن أنها تسمح بتحديد مبادئ القانون والعدالة التي على النظام السياسي تنفيذها في إطار ديمقراطية ليبرالية ذات سياق تعددي[7].
إن العلمانية المتناولة ليست مبنية على أساس النموذج الفرنسي الذي يستلزم قياس مدى قابلية تطبيقه، إلا أن ذلك لا يعني أن مراحل عملية العلمنة الفرنسية لم تلقَ أي صدى في الأميركيتين. فتجربة المكسيك وأميركيا اللاتينية مثلاً استطاعت أن تعكس، أقله عبر خصائصها العامة، النموذج المعتمد في فرنسا، وبوجه أدق ذلك الذي ساد خلال حكم اليعقوبيين، من ثم ذلك الذي رافق فترة تأسيس التعليم العلماني في ظل حكم الجمهورية الثالثة. مع ذلك، بدا الواقع أكثر تعقيدا في المكسيك، وأميركا الوسطى، وبعض دول أميركا الجنوبية، مثل كولومبيا والباراغواي، لأن الراديكالية الجمهورية ظهرت منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، في حين أن نموذج الاتفاقية البابوية والعبادات المعترف بها كان دوماً مطبقاً في الفترة نفسها في فرنسا. بعبارة أخرى، شكّل النموذج المبني انطلاقاً من الجمهورية الفرنسية مثالاً للجمهوريات الأميركية اللاتينية، في حين أنه شهد في فرنسا خلال القرن التاسع عشر انتكاسات مهمّة. في المقابل، لم تشر الجدالات حول قانون الفصل للعام 1905، في فرنسا، إلى النموذج المكسيكي، حسبما ذكر بريان في النص المذكور في الأعلى عبر القول: «يعتبر التشريع العلماني في المكسيك أكمل وأكثر التشريعات المطبقة تناغماً حتّى يومنا هذا». لقد جرى تداول الأفكار، والنماذج، والمفاهيم العلمانية بقدر كافٍ من السلاسة، وهو أمر قد يخفيه بعض التعنّت النظري. وبذلك، يفتح هذا التداول باب التأمل النظري على تحليل التآزر بين تيارات فكرية وابتكارات على مستوى المفاهيم.
تترابط مختلف مركبات العلمانية، في كل دولة تمت دراستها، أحدها بالآخر وفق مسار ديناميكي يطبعه التاريخ الوطني. يؤدي تطبيق هذه المركبات إلى ترتيبات محددة، متداخلة في قيم أخرى سائدة في كل سياق: الأخلاقيات الاجتماعية التي تبرزها المعايير الدينية، الدين المدني أو الريغالية، الليبرالية الفلسفية. من غير المجدي محاولة وضع نموذج علماني «أميركي» بالمعنى العالمي. يستحسن فهم الاختلافات بين عملية العلمنة في مختلف بلدان العالم الجديد وبين آثارها الاجتماعية، وهذا الهدف يبدو لنا مثمراً. يقضي الأمر بوجه أساسي بإظهار مختلف تركيبات العلمنة في الأميركيتين، والأسس المعيارية التي تتطوّر انطلاقاً منها والتحديات الجوهرية التي تواجهنا حالياً، ومن هنا جاء عنوان هذا العدد من المجلة Les Laïcités dans les Amériques «العلمانيات في الأميركيتين» الذي يسمح بالتركيز على تنوّع المفاهيم الاجتماعية، والقانونية، والنظرية المعنية.
بالإضافة إلى السياق التاريخي الذي يؤثر على نوع النظام العلماني ومضمونه المعياري، تشكّلت العلمانية بعمق من خلال نمط التفكير الأخلاقي السائد في كل مجتمع. والمفاجئ أن أي كاتب لم يتطرّق إلى إشكالية العلمانية عبر الخصخصة الضرورية للدين أو عبر التباين المحتمل بين المطالب الرسمية للانتماء الديني وعلمانية المؤسسات، وهما محوران شهيران للجدالات في فرنسا. لو بحثنا عن الخيط الموجه بين المقالات التي يحتويها هذا العدد، سنجده بسهولة في الانشغال بتذليل العوائق أمام تنظيم علمانية يمكن أن تضمن العدالة والتعايش المتآلف. تساهم هذه المقاربة النقدية في تسليط الضوء على الاهتمام في دراسة ديناميكيات وطنية عدّة لفهم المغزى الموجه لمفهوم مثل العلمانية.
يشمل مفهوم العلمانية العديد من الأنظمة السياسية والتنظيمات الاجتماعية والقانونية للحقوق والحريات. فبعض البلدان تعترف في دستورها بكنائس الدولة، لكن ثمّة دول لم تقم فيها أي كنيسة كمؤسسة قانونية معترف بها وممثلة بسلطات كنسية رسمية، في حين أن الدين، كنظام قيم أخلاقية ومبادئ تأويلية للحياة الاجتماعية والسياسية، يتجلى في القرارات التي تصدر عن الدوائر القانونية والسياسية. قد تتضمن الدساتير إذن مبادئ فصل، في البرازيل كما في المكسيك، لكن الدولة لا تستعرض حيادية حقيقية تجاه ما هو مرتبط بالمساواة القانونية والاجتماعية بين الطوائف وبين المواطنين الذين يتبنون مفاهيم الحياة والأخلاق الخاصة بالأقليات. يتضح الوضع أكثر في البيرو، كما يصفه ماركو هواكو الذي يعتبر أن الدولة قد تصبح «متعددة الطوائف»، وهو بناء يمكن للمثال السياسي بموجبه إسناد شرعية عمله إلى أكثر من طائفة، متجنباً بذلك التحرر كليّاً من سيطرة الكنيسة. في المقابل، لم تعط بعض البلدان في سياق تاريخها أهمية كبيرة للتأكيد القانوني لفصل الكنيسة عن الدولة، وإنما بدت متعلقة جدّاً بالحقوق والحريات الدينية، كما في كندا.
طلب من عدد من الكتّاب الذين اهتموا بالعلمانية في الأميركيتين دراسة تطبيق العلمانية، كل في بلده، وذلك انطلاقاً من أطر نظرية يألفونها، سواءً كانت قانونية، اجتماعية أو تاريخية. وهنا أيضاً، اختلفت أوجه النظر والمقاربات. فطرحت أسئلة عدّة خلال الدراسات التي تم تقديمها: ما هو المفهوم الطاغي للعلمانية؟ ما مدى ترسّخ هذا المفهوم في القانون وكيف يترجم من قبل السياسات العامة؟ ما هي الحقوق والحريات المكفولة للمواطنين وكيف تترجم هذه الضمانات بشكل ملموس كالمساواة، وعدم التمييز، وحرية الاعتقاد، إلخ؟ إلى أي حد يُسهِّل النسيج الثقافي والاجتماعي أو يكبح عملية العلمنة في دائرة اجتماعية، أو مؤسساتية، أو تشريعية ما؟ كيف يتداخل مفهوم مع مفهوم العلمنة؟
أثارت هذه التساؤلات بدورها القضايا النظرية والسوسيولوجية، أي المعالجة القانونية أو السياسية الخاصة بالأقليات، ودور بعض الكنائس أو المجموعات الدينية في النضال السياسي الخفي أو الحركات الاحتجاجية، ونطاق بنود الفصل أو البنود «غير التأسيسية»، والفصل بين المعايير الدستورية والسلوكيات «المقبولة» اجتماعيّاً، مثل الإجهاض أو الشذوذ الجنسي. بدت الدول التي أظهرت لامبالاة للمعتقدات الأخلاقية والدينية، ضمنيّاً، معادية لمعتقدات معيّنة، فانتهكت بذلك مبدأ المساواة وحرية المعتقد. ونظراً إلى زيادة أهمية مسألة الحقوق الفردية، وكذلك الثقافية في الدول الديمقراطية، ما هو إذن الرد السياسي والقانوني عليها؟ وهل التعددية مندمجة فعلاً في العالم السياسي أو القانوني؟
إن تعدّد الظروف الوطنيّة وتنوّع المجالات التي من خلالها يستوحي الكتّاب أعمالهم، حالت دون أي مبادرة لتوحيد النهج. ثمّة وقائع اجتماعية ثقافية مختلفة جدّاً بحيث استنتجت الولايات المتحدة الأميركية والبيرو منظوراً تحليليّاً مختلفاً بحدّ ذاته. مع ذلك، كان من المتوقّع حدوث تقارب ما في القضايا حول مسألة حرية المعتقد والمساواة، وكيفية تطبيقها، والضمانات السياسية والقانونية المتعلقة بها. وما زاد من تعويق قضايا حقوق الإنسان وتكيّف المعايير الاجتماعية مع قيم الحداثة الليبرالية، الوزن التاريخي للدين الكاثوليكي المهيمن في أميركا اللاتينية، والبروتستانتي في كندا والولايات المتحدة الأميركية. حينها، أدى الوضع اللاتيني الأميركي هذا إلى تشكيل تجمّعات عدّة في المجتمع المدني طالبت بما بدا أن الدولة تخشى منحه، لا سيما في ما يتعلّق بالحقوق الجنسية، كالإجهاض، ومنع الحمل، والاعتراف بحقوق المثليين، والتثقيف الجنسي في المدارس.
في سياق النص، سيلاحظ القارئ من دون شك بأنّ الكتّاب يظهرون كفاعلين تفكريّين يسعون إلى المشاركة في تحوّلات الأطر المعيارية لمجالهم الوطني من خلال ترسيخ تحليلاتهم بشكل نظامي وفقاً لمتطلبات العمل العلمي. يجري ذلك عبر التساؤل عن جدارة هؤلاء لإظهار صفة تلك التحولات البعيدة غالباً عن الطلبات الناشئة عن الواقع الاجتماعي بشكل أفضل. برأينا، تسمح المساهمات المختلفة بتفكر أكثر عمومية حول العلمانية في بداية القرن الحادي والعشرين، بحيث يمكنها أن تكون مصدر إلهام لعدد من المناقشات خارج المحاور المقارنة الاعتيادية، وأن تثير تحليلات موسّعة حول سياقات وطنية أخرى.

[1] ـ ملحق للتقرير المحرر باسم اللجنة التابعة للفصل بين الكنيسة والدولة. تشريعات أجنبية مبرزة أمام مجلس النواب، دورة العام 1905.
[2] ـ من بين المفكّرين نذكر جان بوبيرو، Religions et laïcité dans l’Europe des douze، باريس، سيروس، 1994، وفرنسوا شامبيون، les laïcités européennes au miroir du cas britannique، منشورات ران الجامعية، 2006.
[3] ـ إليزابيت زولير، La conception américaine de la laïcité، باريس، دلوز، 2005.
[4]ـ جان بيار بستيان، La modernité religieuse comparée. Europe latine - Amérique latine، باريس، منشورات القرطالة، 2001.
[5]ـ تالكوت بارسونز، «Réflexions sur les organisations religieuses aux Etats-Unis»، أرشيف علم اجتماع الأديان، 3، 1957، ص.ص. 21 ـ 36.
[6] ـ كاريل دوبيلار يقترح على سبيل المثال في مقالته “De la sécularisation” الحديث عن العلمانية laïcité من أجل وصف عملية دنيوة «واضحة» «sécularisation «manifeste (المجلة اللاهوتية للوفان، 39، 2008، ص.ص. 177 ـ 196).
ـ (انظر أيضاً جان بول ويلام في هذا العدد).
[7] ـ أنظر في هذا الصدد G.Haarscher، La Laïcité، فرنسا، منشورات فرنسا الجامعية PUF، مجموعة «?Que sais-je»،
ص. 118 و م. ميلو، Laïcité dans le Nouveau Monde. Le cas du Québec، Turnhout Brepols، منشورات، 2002، ص 30 ـ37 .
* ـ باحثة في علم الحضارات المعاصرة.
ـ العنوان الأصلي للمقال: Introduction: Les Amériques et la laïcité - Acquis historique et enjeux actuels.
ـ نقلاً عن: La revue «Archives des sciences sociales des religions» No146 / 209
ـ تعريب: علي زين الدين.