البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلمانية المتساهلة - معاينة للنموذج التاريخي الأميركي

الباحث :  باري أ. كوزمين Barry A. Kosmin
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1347
تحميل  ( 351.516 KB )
العلمانية المتساهلة
معاينة للنموذج التاريخي الأميركي[1]
[*] Barry A. Kosmin باري أ. كوزمين
يهتم الباحث الأميركي باري كوزمين في هذا البحث بالتعرّف على طبيعة مجالات نشاط العلمنة والعلمانية اليوم في الجانبين النظري والتطبيقي. وبحسب ما يبيّن الكاتب فإنّ نظرية العلمنة تعني دراسة أحوال الأفراد وصفاتهم الاجتماعية والنفسية بينما تشير العلمانية إلى مجال المؤسسات الاجتماعية.
يقارب كوزمين مسعاه هذا من خلال صياغة عدد من الأسئلة أدرجها على الوجه التالي: من الذي يمكننا أن نقول عنه أنه علماني اليوم؟ ما هي نسبة الشعب الأميركي أو غيره من الشعوب التي يمكننا أن نقول عنها إنّها علمانية بحق؟ ما الذي يؤمن به العلمانيون؟ وكيف يمكن لتوجه علماني أن يتجلى على المستوى الشخصي من قبل الأفراد وفي طريقة انتمائهم ومعتقداتهم الشخصية وسلوكياتهم الاجتماعية؟
هذه أسئلة ستتم الإجابة عليها ـ في هذه المقالة ـ من خلال معاينة وتحليل النموذج التاريخي الأميركي للعلمانية.
المحرر
بما أن «العلمانية» (secularity) تشمل السلوكات الشخصية للاعبين منفردين، والتماهي مع الأفكار والتقاليد العلمانية كوسيلة للوعي والإدراك، فبإمكاننا إذن، أن نقارب العلمانية (Securality) بالتحليل التجريبي. كذلك يمكن لتجليات العلمانية (Securality) من حيث الاتجاهات العامة أن تقاس وتقارن بالعلاقة مع الدول الأكبر الناطقة بالإنجليزية ـ أي بريطانيا وكندا وأستراليا والولايات المتحدة.
أما «النزعة العلمانية» (Secularism) فتشمل المنظمات والبنى القانونية التي تعكس التعبير المؤسساتي عما هو علماني في حقل السياسة ضمن الدولة وحياتها العامة. إن تحديد قيمة معينة لهذه المتغيرات أمر أصعب نظراً لطبيعتها، خصوصًا إذا أردنا أن ننظر إلى الأمر عالميّاً. يمكن لأشكال النزعة العلمانية (Securality) أن تختلف بحسب الإطار الديني الذي تتطور فيه؛ سيجد المؤلفون والقارئون هنا مهمة صعبة في التقويم الكمي للشيفرات الرمزية والثقافية للميراث الديني لكل من الهندوسية (الهند)، واليهودية (إسرائيل)، والإسلام (إيران)، والكاثوليكية (فرنسا)، والبروتستنتية (الدنمارك والولايات المتحدة الأميركية ودول الكومونولث البريطانية) سواء في المؤسسات الوطنية العامة أم في عقليات الأفراد.
علينا أن نقدم تمييزاً من نوع آخر بين أشكال «متشددة» و«متساهلة» من العلمانية (Securality) والنزعة العلمانية (Securalism). وهذا يتعلق بالدرجة الأولى بطريقة التعامل مع أوجه الفصل بين «العلماني» و«الديني» والعلاقة الناتجة بينهما بسبب هذا الفصل. في ما يلي سنقدم دراسة للتصنيف (الشكل ) يجمع بين مجموعتي التمييز هاتين ويمكننا استخدامها لأجل التحليل وصياغة السياسة.
التقليد العلماني
إن لمصطلحات مثل «علماني» (Secular) و«نزعة علمانية» (Securalism) و«علمنة» (Securalization) معانِيَ متخلفةً ولكن الكلمة في الأصل مشتقة من الكلمة اللاتينية «saeculum» التي تعني «هذا العصر» أو «هذا العالم» فتجمع بين المفهوم المكاني والمفهوم الزماني. في العصور الوسطى كانت مشتقات هذه الكلمة تشير إلى الرهبان الذين كانوا يعملون في عالم الأبرشيات المحلية للتمييز بينهم وبين الرهبان الذين أخذوا عهود الفقر واعتزلوا في مجتمعات الأديرة ـ والذين كانوا يُسمَّوْن «رهباناً دينيين». خلال الإصلاح البروتستنتي أشار مصطلح «العلمنة» (Securalization) إلى الاستيلاء على الممتلكات الكنسية الكاثوليكية واستخدامها لأغراض غير دينية. في جميع هذه الحالات كان مصطلح «العلماني» (Secular) يشير إلى «البعد عن المقدس والأبدي والأخروي».
في جميع العصور اللاَّحقة بدأ «العلماني» يفصل نفسه من السلطة الدينية أكثر فأكثر ولكن علينا أن نتساءل: هل ذهب العالم الآن إلى حد صنع وجود مستقل للعلماني (Secular)؟ منذ ثمانينات القرن الثامن عشر، نجد، على الجانب الخلفي من ختم الولايات المتحدة ومنذ ثلاثينات القرن العشرين على الجانب الخلفي من ورقة الدولار الواحد، نجد عبارة «Novus Ordo Seclorum» (والتي قد تترجم إلى «نظام جديد عبر العصور»). إنّ تفسيري لهذه العبارة هي أن مؤسسي جمهورية الولايات المتحدة رأوا في هذه العبارة وعن قصد بداية حقبة جديدة تزول فيها السلطة المستقطبة بين الملك والكنيسة لتحل محلها حياة عامة يحكمها نظام جمهوري علماني (Secular).
أنتجت ثورتا القرن الثامن عشر ـ الأميركية والفرنسية تقليدين فكريين ودستورين من النزعة العلمانية (Securalism)؛ يرتبط الأول مع تقليد حزب اليعاقبة الفرنسي، وقد كان صريحاً في عدائه للدين ودعا بوضوح إلى الإلحاد، لكن هذه الحالة برزت من الحقيقة التاريخية لهذه التجربة الثورية التي واجهت الاستبداد السياسي ممثلاً في الملك والاستبداد الديني ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية. لا تزال هذه البنية السياسية في جوهرها مستمرة تحت نظام اللائكية (laïcité) الذي فصله قانون سنة 1905. لا يحتل هذا التقليد إلا مساحة هامشية من الحياة الأميركية العامة والسبب في ذلك بالطبع هو أن الولايات المتحدة هي في الواقع وريثة تراث الإصلاح البروتستنتي والذي بموجبه تسبق النزعة الفردية الدينية والاستقلالية الشخصية أي مفهوم من الاستقلالية السياسية. كانت النتيجة أن اعتمد الأميركيون مقاربة أكثر اعتدالاً تتميز بعدم الاكتراث بدين الفرد الشخصي، أو بتشجيع التعددية الدينية التي دعا إليها أتباع المدرسة الربوبية الفلسفية (Deists) والبروتستانت الليبراليون في أيام الجمهورية الأولى.
دراسة تصنيف
في ضوء هذا العرض السريع للخلفية التاريخية من الممكن لنا أن نرسم دراسة لتصنيف النزعة العلمانية (Securalism) على أساس النموذج الثنائي للنزعة العلمانية المتشددة والنزعة والعلمانية المتساهلة. لا يشكل تشعب وجهات النظر العلمانية حول الدين إلا جانباً واحداً من جوانب دراسة التصنيف هذه أما الجانب الثاني فهو مبني على التمييز بين الأفراد والمؤسسات إذ إن الجانب الفردي يتعلق بالدرجة الأولى بحالة الوعي والإدراك، أما الجانب المؤسساتي فيتعلق بالبنيات الاجتماعية وأنظمتها الثقافية.
دراسة التصنيف المبنية على هذين الجانبين هي ما نعرضه في الشكل في الأسفل؛ وفي والواقع هذه ليست مجرد خلايا مغلقة بل مجالات ممتدة بين أقطاب وأبعاد مختلفة، إذ يمكن أن توجد لدينا علمانية «شديدة التشدد» وعلمانية «شديدة التساهل» وجميع الأطياف من المواقف المتوسطة بين هذين الطرفين.
لقد وضعنا لائحة بمفكرين مختلفين، والأيديولوجيات التي يرتبطون بها في الصف الأعلى لعرض تراتبية أفكارهم، أما في الصف الأسفل فقد وضعنا لائحة بهرمية تربط هؤلاء المفكرين مع أقرب مستوى من العلمانية الدستورية أو المؤسساتية التي يتماهون معها.
بالإضافة إلى ذلك فإن الحد بين الفرد والمؤسسات ليس مرسوماً بوضوح في الحياة الواقعية، إذ يوجد تداخل يشمل عوامل مثل التوقعات الاجتماعية والضغوط الناشئة من المؤسسات من ناحية والحالات العقلية الشخصانية المتطرفة المبنية على الفرد من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال فإن مفهوم علم الاجتماع عن «الدور» يشير إلى كل من الضغوط البنيوية والمشاعر والمعتقدات الشخصية.
إذا أخذنا الشكل (1) كنموذج أو دليل، من الممكن لنا أن نصنف ونتفحص كيف تعمل التقاليد العلمانية المختلفة في مختلف مجالات الحياة ـ المجتمع والسياسة والتعليم والثقافة. من هم اليوم مؤيدو التقاليد المختلفة النابعة من ثورتي القرن الثامن عشر (الأميركية 1776، والفرنسية 1789)؟ أين يكمن نفوذهم في عالمنا المعاصر؟ كيف يجب على أسئلة كهذه أن يتحقق من إجابتها في القرن الحادي والعشرين في عالم أكثر تكاملاً وتقارباً؟ إن تحليلاً عبر ـ ثقافي (Cross ـ Caltural) معاصر للعلمانية يضع تحديات من نوع خاص كما يظهر نقاش هذا الأمر في الهند وإسرائيل وإيران بما أن الديانات الهندوسية واليهودية والإسلامية لا تختلف فقط في المبادئ الدينية والتقاليد المتعلقة بالدولة فحسب بل في نظرتها إلى دور الفرد في المجتمع.
التحول نحو العلمانية
في نظرية علم الاجتماع الحديثة يرتبط «العلمنة» (secularization) بالتمايز؛ فالتمايز يصف التقسيم المتزايد للعمل في مجتمع حديث تمر فيه الحياة بعملية تشظٍّ إلى مجالات كثيرة يعمل كل واحد منها بقوانينه ومبادئه الخاصة. كنتيجة لذلك لا يوجد الآن مبدأ سائد يمكن له أن يدمج هذه الجوانب المتعددة من الحياة الاجتماعية والمؤسسات والأفكار والمثل مع بعضها البعض في وحدة متكاملة.
منذ نهاية القرن التاسع عشر تنامى تمييز دارسي الأديان بأن المبادئ اللاهوتية والمؤسسات التي تمثل الأديان قد شهدت تحولاً كبيراً بسبب عملية العلمنة. لقد وصف ماكس فيبر عملية العلمنة بأنها «خيبة الأمل من العالم»[2] وهو توصيف لعملية «العقلنة» استمده من الشاعر الألماني فريدريك شيللر. من خلال وصفه لهذه العملية سعى فيبر إلى توصيف التحول النفسي والثقافي حيث أزاحت العقلانية والتجريبية العناصر السحرية والرمزية من الفكر الإنساني. أمّا هارفي كوكس فقد وَصَفَ العلمنة على أنه «تخلص الإنسان من السيطرة الدينية ثم الميتافيزيقية على عقله ولغته... التخلص من جميع النظرات المغلقة إلى العالم وكسر جميع الأساطير فوق ـ الطبيعيّة والرموز المقدسة»[3] وعلى مستوى اجتماعي أوسع عرف بيتر بيرغر العلمنة على أنه «العملية التي تتحرر فيها قطاعات من المجتمع من سيطرة المؤسسات والرموز الدينية»[4].
يشير علماء الاجتماع اليوم إلى أن عملية التحول إلى العلمانية هي عملية جدلية: فكلما أصبحت العقول والقلوب في حالة «نزع للسّحر» أكبر كلما فقدت المؤسسات التي تتخصص في الترويج لعملية «ترسيخ "السحر" (em dantment)» مصداقيتها وسلطتها. وكلما فقدت هذه المؤسسات مصداقيتها وسلطتها كلما فقدت العملية النفسية العاطفية التي ترسّخ السحر (en dantment) أثرها على عقول وقلوب الأفراد. ما هو مدى تقدم عملية العلمنة في المجتمعات المختلفة منذ نهاية القرن التاسع عشر وما هي آثارها بالنسبة للتنظيم الاجتماعي والسياسي وصالح الإنسان جميعها مسائل تجري حولها نقاشات مستمرة بين علماء الاجتماع وعلماء اللاهوت بالإضافة إلى السياسيين والمخططين الاجتماعيين وسوف نغطي بشكل جيد الوضع الحالي للدول الناطقة بالإنجليزية في هذا الكتاب.
العلمانية المتشددة والعلمانية المتساهلة
لقد كانت الحداثة هي ما أشعل فتيل التمايز مع ما رافقها من عملية العلمنة. فقد حررت الحداثة المجالات المختلفة من الحياة الثقاقية مثل الفنون والقانون والسياسية والتعليم والعلوم والتجارة من كونها مزروعة في أعماق حضارة مسيحية وأتاحت لهم المجال كي يسيروا في طرق تطورهم الخاصة؛ ولذلك اتبع الدستور الأميركي سياسة حكيمة شقت السبيل إلى هذا التوجه في المسار الجديد، حيث منبعث «الاختبارات الدينية للوصول إلى المناصب العامة». وهذه السياسة تقدم مثالاً على الكيفية التي يمكن للمبادرات السياسية أن تنشئ علمانية متساهلة على المستوى الاجتماعي من المؤسسات، وتترك مسائل الضمير لخيارات الفرد الشخصية.
للسياسة في مفهومها العلماني الحديث الآن مبادؤها وقيمها الملازمة لها. وصار على المبادئ والقيم الدينية أن تتميز بشكل أو بآخر عن تلك السياسية. هذا لا يعني البتة أن المبادئ والقيم الدينية لا دور لها في السياسة والحياة العامة في الديموقراطية الأميركية، وإنما فقط أنه من زاوية الدستور والقانون ثمة تمايز بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة. والمصطلح الفلسفي الذي يشير إلى هذه الحالة هو «التعددية» وضده هو «الأحادية» (الحكم الديني والشمولي).
معظم الأميركيين سواء كانوا ليبراليين أو محافظين؛ مسيحيين أو يهوداً أو من أي ديانة أخرى، يؤمنون بالتخطئة المعرفية وبالتالي فهم تعدديون أي أنهم علمانيون متساهلون. فهم يعتقدون أنه وعلى المستوى الأساسي يجب ألا تسيطر المؤسسات الدينية، أو رجال الدين على القانون والسياسة والفن والتعليم بل يوجد لكل مجال تقاليده وفضاؤه وديناميكيته. فإذن ومن الناحية الاجتماعية والبنيوية ورغم الضغوط الظاهرة كانت أميركا وتظل بهذا المعنى جمهورية علمانية متساهلة.
يقول رينهولد نيبوهر ـ وهو أحد أكبر علماء اللاهوت الأميركيين في القرن العشرين قبل حوالي نصف قرن من الزمن ـ أن الأميركيين هم «في الوقت نفسه أكثر الشعوب تديناً وأكثرها علمانية؛ فكيف لنا أن نفسر هذا التناقض؟ هل يمكن أن تكون إحدى أسباب كون الأميركيين هم الأكثر تديناً هو أنهم أكثر الثقافات علمانية؟»[5].
في كتابه «بروتستانتي، كاثوليكي، يهودي» (Protestant, Catholic, Jew) كتب ويل هيربرغ عن التناقض بين «العلمانية السائدة والتدين المتزايد»[6] في عقلية تتطلب التفكير والعيش ضمن إطار واسع من الواقع الذي يتجاوز بكثير عقيدة الشخص التي يؤمن بها في نفسه. لا يزال هذ التناقض موجوداً حتى يومنا هذا لأنه جزء من التراث الثقافي الأميركي.
كعلمانيين متساهلين يريد الأميركيون حكومة تستوعب السلوكيات الدينية حتى ضمن الحكومة نفسها؛ فمثلاً تجد أن الأميركيين يتقبلون أن يحضر شخص ينتمي إلى مؤسسة دينية أو عسكرية طقوساً دينية، أو أن يتلقى إرشاداً وقيادة دينية وأن تدفع النذور لهذا الأمر ـ كما هو الحال في الجيش أو في كنائس السجن ـ من نقود دافعي الضرائب. كذلك ولم يعترضوا حين سمح القانون لمتدينين معادين للحرب مثل طوائف الكويكرز أو المينوناتية باعتبارهم معارضين أصحاب ضمائر حية. إن الإجماع العام هو أنه من المهم في المجتمع الحر أن يحترم عقائد جميع مواطنيه ومن المهم لنظام سياسيٍّ تعددي ومتمايز وعلماني أن يتيح مساحة من الحرية الدينية، وأن يُبقي هذا المجال مستقلاًّ عن الضغوط الحكومية إلى أقصى درجة ممكنة.
إن وجود الدين في مجاله المناسب، مع وجود مجالات أخرى متميزة ضمن المجتمع التعددي المعاصر هو تمثيل لهذا التمايز الذي ذكرناه وليس رفضاً له، ولهذا نقول أن أميركا تتبع علمانية متساهلة. من المثير للاهتمام أن نذكر أن دولة ديموقراطية أخرى هي الهند، تتبع العلمانية السياسية كأيديولوجية رسميَّة للدولة وتفسر هذه العلمانية هناك كذلك على أنها تعتمد التعددية والتسامح مع الفروقات الدينية.
أما الأيديولوجية المتشددة فهي مصطلح يمكننا ربطه مع «تغيير الوعي والإدراك» الذي ذكره فيبر، وعادة ما تكون محض عقلانية وشخصية بدلاً من أن تكون اجتماعية أو سياسية. يمكننا أن نجد مقدمة لهذا النوع من العلمانية في كتابات هوبز الذي زعم أن الذين يتبعون نور العقل لا بد وأن يتخلصوا من الإيمان لأنه بنظره غير موثوق على المستوى العقلي ولذلك فهو خطر أخلاقيّاً. لقد اتبع ماركس رؤى هوبز وفلاسفة آخرين ذوو أفكار مشابهة، حين ذكر بأن الإيمان أيديولوجية تتميز بالتضاد مع المعرفة تستخدمها الأنظمة بهدف السيطرة السياسية. أما فيبر فقد رأى في عملية العلمنة ذروة عملية العقلنة وبما هي «نزع السحر disenchantment» النهائية بالعالم من خلال العلم الحديث.
بهذا المعنى يشير «العلماني» إلى نظرة إلى العالم، أو نظام من المعتقدات، أو نمط من تعقل الأمور هو في جوهره لاديني عن قصد وتصميم. ذلك لأن الكون «المنزوع السحر disenchanted» هو الكون المحض فيزيائي ومادي والذي لا يوفر أي دعم لا للمثل الأخلاقية ـ التي يعتبرها هذا النمط من التفكير كمجرد نتائج لعمليات النشوء والارتقاء البيولوجية ولا للمعتقدات الدينية ـ التي يعتبرها مجرد نواتج عالقة من عصور أكثر سذاجة يجب إزالتها في نهاية الأمر من خلال انتصار وجهة نظر علمية محضة ومناسبة.
تيار "نزع السحر"
يُشير «نزع السّحر» الذي يريده هؤلاء المتشددون إلى إفراغ الحياة من السحر والغموض وأي إشارة إلى التسامي أو الإيمان بحقائق وكيانات وقوى غيبية لا يمكن رؤيتها، في حين يعتقد الحدس بوجودها وكونها جوهرية في خير الإنسان وازدهاره. يشمل المتحدثون باسم وجهة النظر هذه أناساً من أمثال ريتشاد دوكينز وبول كيرتز والطبيب المحامي الناشط من كاليفورنيا مايكل نيوداو وقد أخذ جميعهم العلمانية المتشددة إلى نهايتها المنطقية: الإلحاد ـ أي الاعتقاد بأن الإيمان بالربوبية لا معنى له ولا منطق وراءه. لكن يندر أن نرى علمانيين متشددين كهؤلاء في الولايات المتحدة وإن كانوا أكثر شيوعاً في أوروبا سواء الغربية أو الشرقية.
لكن الفرد العلماني المتساهل ليس ملحداً مقتنعاً ولا هو مادي من حيث المبدإ والعقيدة؛ وقد لا يجد في نفسه عداء ضد أي معتقدات أو مؤسسات دينية؛ بل إن الغالبية من هؤلاء هم متدينون ليبراليون. يجد العلماني المتساهل في نفسه قبولاً لفكرة التعامل مع الدين على أساس «العيش وترك الآخرين يعيشون» طالما لا يحد الدين من حريته الشخصية أو يحاول السيطرة على المؤسسات الأميركية العامة؛ وبالنسبة للعلماني المتساهل الدين في مكانه المناسب هو أسلوب حياة شخصي لا ينبغي أن يهدد الحرية والتناغم الاجتماعي في مجتمع متمايز وتعددي.
حتى الأميركيين الذين يصفون أنفسهم بأنهم لا ينتمون إلى أي ديانة هم في غالبيتهم ينتمون إلى معايير «العلمانية المتساهلة». ويظهر مستوى علمانيتهم أنهم ليسوا بأي شكل من الأشكال ملحدين متشددين أو حتى لا أدريين ـ إذ لا يشكل أتباع هذين المذهبين أكثر من 1 % من مجموع السكان ـ ولكن وبالمقابل فإنّ نسبة تبلغ 67 % من غير المنتمين إلى أي ديانة يؤمنون بوجود إله للكون؛ %56 منهم يؤمنون أن هذا الإله يتدخل شخصيّاً في حياتهم لمساعدتهم؛ و5 7% يعتقدون أن الإله يخلق المعجزات.
فنتيجة هذه الاكتشافات إذن هي أن غالبية العلمانيين في الولايات المتحدة هم في حقيقتهم متدينون بطريقة أو بأخرى؛ وحتى هؤلاء الذين لا ينتمون إلى مؤسسات دينية، أو لا يتعبرون أنفسهم جزءاً من مجتمعات دينية فهم يحملون معتقدات واهتمامات تقليدية في الألوهية؛ ولذلك فرغم أن عدد الناس الذين يصفون أنفسهم بأنهم علمانيون في الولايات المتحدة قد تضاعف منذ سنة 1990 إلا أن هذا لا يعني أبداً أن المجتمع الأميركي قد أصبح أكثر لا دينية أو معادياً للدين بل فقط يعني أن هناك انتماء أقل للجماعات الدينية المنظمة في حد ذاتها.
الاستثناء الأميركي
كما هو الحال في الدين، تتخذ العلمانية أشكالاً كثيرة في الولايات المتحدة؛ وكما هو الحال في الدين أيضًا تختلف العلمانية في شدتها مع مسارات الانتماء والاعتقاد والسلوك. يظهر كتاب «الدين في سوق حرّة» (Religion in a Free Market) أن الجمهور الأميركي لا يتبع نظاماً ثنائياً، العلمانية في الولايات المتحدة مجرد خيار واحد من ضمن الكثير غيرها من الخيارات في مجتمع قائم على فكرة السوق الحرّة. إنّ الحدود الفاصلة بين الدين والعلمانية، وحتى بين الأديان المختلفة، ليست مرسومة بدقة وثبات. يمكننا توقع هذا الارتباك بسبب من أن العلمانية تطورت بأشكال مختلفة وعلى مستويات مختلفة وفي مجالات مختلفة.
من خلال التمايز المؤسساتي اشتمل التحديث درجة من العلمنة؛ فبينما تدخل الحداثة إلى المجتمعات يمكن لمعتقداتهم وسلوكياتهم ومؤسساتهم الدينية أن تتغير بالكثير من الطرق وقد يشمل هذا أنواعاً من ردود الفعل نحو العلمانية التي يشتمل عليها التحديث، سواء في شكلها المتساهل المتشدد أو . ويمكننا القول أن الأصولية الدينية ـ التي لا يجب الخلط بينها وبين الدين التقليدي في حد ذاته كما كان قبل الحداثة ـ هي تكيف مع ظروف التحول الحديث نحو العلمانية.
بالمقابل تُظهر الولايات المتحدة حداثة فائقة إلى جانب تدين حقيقيّ ومتين لسكانها، مما يثبت أن العلمنة لم تكن ساحقةً ولا تامةً ولا شاملةً. إنّ الوضع هناك لا يتجاوز ما آمن به الكثير من مفكري التنوير «العلمانيين المتساهلين» من أمثال جون لوك وآدم سميث وتوماس جيفرسون وتوقعوه وحبذوه.
لقد جسد التراث الأميركي من الحرية الدينية عبر اجتماع النزعة العلمانية المؤسساتية المتساهلة مع الجهود الرامية لإعادة الحيوية إلى الوعي الديني على المستوى الفردي؛ وهو التراث الذي صنَّعه مفكرون لاهوتيون من أمثال روجر ويليامز وويليام بين وجيمس ماديسون ـ الذي كانت رسالته «التذكار والاحتجاج» (Memorial and Remonstrance) المليئة بالإشارات اللاهوتية نتيجة للخيال الأخلاقي والديني البروتستانتي المعارض. حتى عبارة الفصل بين الكنيسة والدولة التي استخدمها جيفرسون للمرة الأولى سنة 1802 في رسالة إلى اتحاد دانبري المعمداني جاءت من اللاهوتي «روجر ويليامز» الذي سعى لأن يبقي «الكنيسة» منفصلة عن سياسة الدنيا.
لقد نشأت الحرية الدينية كمبدإ دستوري في عالم كان الكثيرون فيه يعتبرون أن واجبهم نحو الإله يفوق واجبهم نحو الدولة، وأن على الدولة أن تفسح المجال أمام مواطنيها كي يقوموا بعمل أسمى من عمل المواطنة؛ وهكذا كان تحقيق النظام السياسي العلماني مسألة خدمة للواجب الديني. وعلى المستوى الدستوري كان «بند التأسيس» (الذي يمنع الكونغرس من تمرير قانون يحدد دين الدولة الرسمي) في خدمة «بند الممارسة الحرة». ومن وجهة النظر هذه يمكننا القول أن علمنةً اجتماعيةً ـ بنيويةً لم تكن تعني زيادة علمنة وعي الأفراد بل الحد منه.
العلمنة المتساهلة ذات غايات دينية
أو الشبه على أننا إذا أردنا صياغة العبارة بصيغة «علم اجتماعية» أقوى نقول أن الهدف من التحول إلى العلمنة المتساهلة هو تحقيق بعض الغايات الدينية. كان الهدف العلماني هو الديموقراطية بدلاً من الحكم الديني وكذلك تقدم غير مقيد للعلوم؛ بينما كان على الدين أن يلعب دوراً هامّاً في ضبط سلوكيات الأفراد وجعل المجتمع الحر والجمهورية الديموقراطية الفيدرالية حقيقة قابلة للاستمرار.
هذا بكل تأكيد لا ينطبق على بلاد أخرى كان فيها الفصل بين الكنيسة والدولة ـ أو كما نصفه نحن: العلمنة الاجتماعية ـ البنيوية ـ قد تأسس بهدف إدخال المزيد علمنة وعي الناس. إن النموذج الأبرز لهذه النزعة العلمانية المتشددة الثورة الفرنسية في مرحلة اليعاقبة. ولكن، لعل المثال الأكثر راديكالية هو الاتحاد السوفيتي السابق وما تبقى من دول شيوعية اليوم؛ فقد كانت الأيديولوجية الماركسية ـ اللينينية مبنية على الاقتناع بأن العلم متفوق على الدين من وجهة نظر معرفية وأن تطور العلوم سوف يؤدي بلا محالة إلى إنهاء الوعي الديني. كانت العلمنة التي نشأت عن هذه الأيديولوجية في مستوياتها الاجتماعية والسياسية مصمَّمةً على نحو يهاجم ويطمس الدين باستخدام أجهزة الدولة ـ وكثيراً ما كان يتم هذا بأشد الطرق وحشية ـ بهدف إنشاء مجتمع علماني متشدد وذلك بشكل شامل ودائم.
كذلك الأمر، فإنّ فرنسا وتركيا المعاصرتين تفصلان الدين عن الدولة بهدف تقديم أيديولوجية علمانية من النزعة الجمهورية أو العلمانية (Lacite). الجانب المثير للاهتمام والذي ينشأ عن هذه السياسة، هو أن هاتين الدولتين طورَّتا مسارًا شديد المركزية ودولاني خاصة في المجالين الاجتماعي والتعليمي. تطالب الدولة بالولاء من حيث الوعي وهدفها هو مجتمع متسق المعايير ومتجانس وعلماني متشدد نسبياً. بخلاف ذلك تشجع سياسات الولايات المتحدة والهند التعددية بين الناس، من هنا يمكننا القول أنّ أميركا مُعَلْمَنة إلى حد أقل من فرنسا على مستوى الوعي الفردي عند غالبية المواطنين، وكذلك في نظرة هؤلاء الأفراد إلى العالم وحساسياتهم الأخلاقية.
لأي تنظيم اجتماعي محاسنه وتكاليفه؛ الميزة الأهم لهذه «التركيبة» أنّها من دون شك تتيح المجال أمام التعايش السلمي بين أفراد وجماعات دينية متباينة، وجماعات غير دينية أصلاً، وبذلك يكون هذا النظام قد تجنب كلاًّ من الحروب الدينية والحكم الديني.
فما هي إذن الكلف أو المشاكل المتعلقة بعلمانية الولايات المتحدة بينما ندخل القرن الواحد والعشرين؟ المشكلة السياسية الأوضح خلال السنوات الأخيرة هي أن المحيط العام، بات ساحة معارك بين أولئك الذين لا يتقبلون الوضع الراهن للنزعة العلمانية المتساهلة ـ وخاصة المتشددين من ذوي النزعة العلمانية والمتدينين الراديكاليين والثيوقراطيين. من المشاكل الأخرى أن الغالبية التي تتقبل التنوع الأميركي التقليدي من خلال النزعة العلمانية المتساهلة تفتقد إلى المعنويات العالية، والأدوات الفكرية والتنظيمية كي تدافع وتعيد الحيوية إلى هذا التنوع.
من المشاكل الكبرى في مجال السياسة العامة هي أن النزعة العلمانية المتشددة وتلك المتساهلة تتنافسان خاصة في مجال التشريع؛ ففي منتصف القرن العشرين وصل «الفصل الصارم» إلى التصويت ونجح في إزالة الصلوات اليومية وقراءة الكتاب المقدس من البرنامج اليومي للمدارس العامة وفرض مسافة أكبر بين الممارسة الدينية والخلفيات الحكومية من أي مرحلة سابقة في التاريخ الأميركي. غير أنّ ردة الفعل السياسية المحافظة بعد سنة 1970 حدَّت من هذا التوجه نحو معيار أنقى من العلمنة الاجتماعية ـ البنيويّة.
أدت أعداد كبيرة من قرارات المحاكم، صدرت بعد سنة 1990، إلى عكس تحركات العلمنة المتشددة في الحياة العامة ـ أو على الأقل عقّدت من مجرى هذه الطريقة في العلمنة. إن استخدام المال العام لتقديم قسائم تعليمية في مدارس خاصة دينية في الغالب وفشل التحديات القانونية في إيقاف تقدم المبادرات القائمة على الإيمان ـ مثل التمويل الفيدرالي لمقدمي الطقوس الدينية الاجتماعية أو الحفاظ الرمزي على كلمة «تحت الإله» في قسم الولاء للولايات المتحدة والعرض العام للوصايا العشر في ظروف معينة، إن كل هذه المظاهر تبرهن على رغبة النظام العلماني الحالي في السماح للتقارب المؤسساتي مع النظام الديني.
بل إن السيادة العامة وقررات المحكمة العليا الأميركية جميعها تعكس مؤخراً ازدياداً في تدين الشعب الأميركي ولذلك فإنها تحد من النزعة العلمانية الأميركية المتشدّدة من وجهة نظر المواطنين العلمانيين المتشددين تُعتبر هذه القراراتُ نكساتٍ.
من التحديات الإضافية التي تواجهها المؤسسات العلمانية في المحيط العام هو ما شهدته أمزجة غالبية الجمهور الأميركي الناخب من نظرة لا تخلو من المفارقة، ومفادها أن المساوئ والورطات والتحديات الاجتماعية للحياة والقيم الأسرية والتي جلبتها الحداثة والعلوم واقتصاد السوق الحرّة قد أقنعتهم بالرغبة في مقدار أكبر من التقارب بين الكنيسة والدولة ودور أوسع للدين في المجتمع كما هو الحال في المبادرات القائمة على الإيمان. ويبدو أن التوجه هو نحو «النزعة العلمانية الإجرائية» حيث تتحاور الأديان في نقاشات عامة حول مواضيع حساسة تتعلق بالقيم بينما تلعب سلطات الدولة دور الوسيط لموازنة وإدارة الفروقات الحقيقية.
في دول أخرى تتفاوت في أنظمتها مثل فرنسا وإسرائيل والهند وإيران نرى أن التوتر بين الدين والنزعة العلمانية أشد وضوحاً وشدة من الولايات المتحدة (حيث يستخدم كل من الدين والنزعة العلمانية الآخر ويعيد تعريف الآخر بشكل دوري) إن هذه الدول تفتقر إلى أي تقليد «يقدس» بواسطته الدينُ أهدافَ مجتمع علماني ويؤثر المجتمع العلماني في الانتماء والارتباط الدينيين كما هو الحال في الولايات المتحدة. ولذلك فليس من المفاجئ أن تبدو أميركا وكأنها تصبح أكثر علمانية في الوقت الذي تصبح فيه الانتماءات الدينية معلنة بشكل أكبر.
بالإضافة إلى ذلك فالأميركيون الذين يجدون أمامهم أعداداً كبيرة من الخيارات الدينية يعون تمام الوعي أن الدين ليس كله ضيق أفق وتعصب؛ والجواب للغز الذي يتساءل عن كيف يمكن لدولة علمانية أن توجد لشعب متدين يقع في دراسة التصنيف التي رسمناها في الشكل (1) ويمكننا أن نراه في سائر مراحل التاريخ الأميركي.
تبرز حقيقتان تاريخيتان: الأولى هي أن الولايات المتحدة كانت أول مجتمع غربي ينشأ بعد عصور الإقطاع؛ ولذلك لم تشهد الصراع بين السلطات الكنسية والدنيوية. والثانية هي أن الولايات المتحدة كانت أول دولة بروتستانتية منذ نشأتها. فلم تحمل الكنيستان الرومانيتان الكاثوليكية والأرثوذكسية وتراتبيتهما أي وزن فيها. المفارقة في الأمر هي أنه وبسبب الطبيعة المتدينة لعدد كبير من الجمهور الأميركي فإنّ النظرة البراغماتية المحضة ترى بأنّ الحل الأمثل هو دولة وحياة عامة بنزعة علمانية. إذ إن العقائد والروابط الدينية المتشعبة، ولكن التي يؤمن بها الناس بشدة تحتاج إلى ساحة لعب محايدة؛ فاليوم وكما كان الحال سنة 1790 إذا أردنا، في أميركا، أن يكون لنا دولة وجمهورية يجب ألاّ يكون لنا كنيسة قوميّة، أو دين وطني.
أفق عالمي
بما أن النزعة العلمانية والعلمنة تطورتا في أميركا بشكل مختلف عن أوروبا وبالطبع عن آسيا فعلينا أن نتوقع اختلافاً عبرِ ـ ثقافي (Crossـ Cultural) في كيفية تأويل المصطلحات. في الولايات المتحدة تعني النزعة العلمانية المعارضة لأي دين أن يكون هو دين الدولة أو للهيمنة الدينية في الساحة السياسية أو العامة. ولكن حتى في بعض البلدان ـ التي نرى فيها كنيسة تعتبرها الدولة دستوريّاً كنيستها الرسمية كما هو الحال في بريطانيا والدانمارك ـ فإنّ النزعة العلمانية التي برزت في هذه البلدان ترفض بوضوح السلطة التامة لهذه الكنائس على المجتمع ومؤسساته الجماعية.
إن فتح مجال جديد يفتقد إلى اللغة المشتركة أو أدوات التحليل مثل أن دراسة العلمانية عملية تتطلب تعلّماً. إن أطروحة إنغليهارت ووينزل الأخيرة[7] تؤكد على أن القيم والثقافات القومية لها أمثر مباشر على المؤسسات السياسية، وبالتالي على نشأة الديمقراطية أو التعددية. بما أن القيم الرأسمالية مرتبطة بشكل لصيق بهذه العملية وكما هو ملحوظ فإنها تختلف من ثقافة إلى أخرى، فيمكننا أن نتوقع بروز أشكال متنوعة من العلمانية.
يمكننا التفكير في النزعة العلمانية بهذا الاعتبار على أنها المشروع السياسي، بالمعنى الواسع للكلمة، الذي ينشد مفهوم "العلماني". تظهر حالتا الهند والولايات المتحدة أن هذا يمكن أن يحصل بغض النظر عن توزيع المعتقدات الدينية بين المواطنين ـ أي مستوى العلمانية الذي يظهره العموم. هذه العلاقة غير الخطية تعمل بالعكس بحيث نرى أن مقداراً كبيراً من العلمنة ومستويات من العلمانية بين الناس قد تحصل إلى جانب مقدار قليل من النزعة العلمانية في الدولة (كما هو الحال في ديانات الدولة الدستورية في الدانمارك). ولكن الفصل بين الكنيسة والدولة هو مجرد جانب واحد من النزعة العلمانية.
مع أن تعريف النزعة العلمانية في جملة واحدة قد يكون صعباً بل وغير حصيف، إلا أنه يبدو أن هناك إجماعًا بين مؤلفي كتاب "النزعة العلمانية والعلمانية": وجهات نظر دولية معاصرة» على الصفات والمبادئ المشتركة بين الظواهر التي يدرسونها. فالسمة المشتركة للنزعة العلمانية التي يكشفون عنها تشمل الاعتراف القانوني بالحرية والاستقلالية الفردية وحرية الفكر والدين والتعايش السلمي بين المجموعات الاجتماعية والتطلع إلى الإجماع في الكثير من المساحات العامة واحترام العقد الاجتماعي والقبول العام لفكرة أن التشريع الديني لا يجب أن يفوق في أولويته التشريع المدني.
إن هذا النموذج أو التعريف للنزعة العلمانية يقترح بأنه لا يوجد حد نظري تقف فيه الثيوقراطية أو الحكم الديني على طرف العلمانية المتساهلة فحسب؛ بل يوجد حد أيضاً مع النزعة العلمانية المتشددة. تستثني الأخيرة الدول التي تُبنى تصوراتُها الأحادية حول المؤسسات السياسية من خلال أيديولوجيات دوغماتية استبدادية مثل الماركسية ـ اللينينية. إذ أن أنظمة شيوعية كهذه تطالب كلاًّ من الأفراد والمؤسسات الاجتماعية (كِلا الصفين في الشكل (1) ) بالالتزام بوجهة نظر معادية للدين واعتناق الإلحاد. إن مثل هذه السياسات من العلمنة التي تفرضها الدولة تعكس رفضاً للقيم التي يريد الكثيرون الحفاظ عليها باعتبارها جزءاً من جوهر العلمانية.
تشهد المجتمعات والثقافات في كل قارة تطوراً دائماً، ولكن مع كل قضية جديدة تعود أسئلة قديمة لتبرز يشهد الواقع أنّ الولايات المتحدة نفسها ليست «منتجاً نهائيّاً»، لأن المجتمع والدستور الأميركيين كلاهما يعمل في منظور مستمرّ. تنطبق هذه الحقيقة البديهية على كل دولة وبذلك فإن فهم دور القيم العلمانية وعملية العلمنة يجب أن يشهد إعادة تعريف دائمة. إن مهمة معهد دراسة العلمانية في المجتمع والثقافة (ISSSC) ودافعه الأساسي هو دراسة النزعة العلمانية في جميع أشكالها في القرن الحادي والعشرين. ليس فقط كصورة مرآتية للدين منعكسة في المرآة بل كقوة فكرية واجتماعية في حد ذاتها.
[1]*ـ مدير معهد دراسة العلمانية في المجتمع والثقافة في جامعة ترينتي / هاتفورد (Trinity College).
ـ العنوان الأصلي للمقال: (Contemporary Secularity and Secularism) وهو مقدّمة كتاب "العلمانية والعلمنة: وجهات نظر دولية معاصرة" الصادر سنة 2007.
ـ تعريب: د. جاد مقدسي.
[2] Weber, Max. The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism Trans. Talcott Parsons (New York: Charles Scribner’s Sons, ).
[3] Cox, Harvey. The Secular City (New York: The Macmillan Co., ).
[4] Berger, Peter L. The Sacred Canopy: Elements of a Sociological Theory of Religion (New York: Doubleday, ).
[5] Neibuhr, Reinhold. Pious and Secular America (New York: Scribners, ).
[6] . Herberg, Will. Protestant, Catholic, Jew (New York: Doubleday, ).
[7] ـ Inglehart, Ronald and Christian Welzel, Modernization, Cultural Change, and Democracy: The Human Development Sequence, (Cambridge: Cambridge University Press, 2005).