البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الجدل حول العلمانية في عصر ما بعد العلمانية

الباحث :  جان بول ويلام Jean-Paul Willaime
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 26 / 2015
عدد زيارات البحث :  1552
تحميل  ( 370.947 KB )
الجدل حول العلمانية
في عصر ما بعد العلمانية
جان بول ويلاّم Jean-Paul Willaime[*]
[1]
تُفهم العلمانية على المستوى الأوروبي (الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا) بطريقتين مختلفتين: من ناحية تشير إلى منظور غير ديني يوجد بجانب أديان متعددة، وبهذا المعنى يمكننا أن نعتبر أن العلمانية تشكل معتقداً منتظماً بالطريقة نفسها التي تنتظم الأديان فيها؛ ومن ناحية أخرى يشير مصطلح «العلمانية» إلى حياد المؤسسات الأوروبية وممثليها حيال جميع المعتقدات، بما في ذلك المعتقدات الدينية.
الكثير من المراقبين يخلطون بين هذين المعنيين للعلمانية، ولذلك فإن هذه المساهمة تستهدف ـ كما يقول كاتبها ـ إزالة الإبهام عن هذين المفهومين والنظر في ما ينطوي عليه كل منهما من مرتكزات ومبررات.
نشير إلى أن هذه الورقة قدمها الباحث الفرنسي جان بول ويلّام في المؤتمر الذي نظمته جامعة واشنطن في النصف الأول من نيسان أبريل 2010 تحت عنوان (الجدل حول العلمانية في عصر ما بعد علماني)، وقد تناول البحث هنا العلمانية على المستوى الأوروبي والصراع بين المنظورين الديني وغير الديني، فضلاً عن الحياد تجاه المعتقدات العلمانية والدينية. المحرر
موضوع أمليتي هو تعييناً متعلقٌ بـ «الجدل حول العلمانية في عصر ما بعد علماني». وذلك يعني برأيي أننا نميز بين ثلاثة مفاهيم حول العلمانية:
(1)ـ العلمانية كحياد بالنسبة لجميع الأديان ووجهات النظر حول العالم.
(2)ـ العلمانية كمنظور «علماني» بديل عن المعتقدات الدينية.
(3)ـ العلمانية كنقد أو حتى معارضة للأديان.
أعتقد أننا ومن خلال تفحص هذه المفاهيم الثلاثة بالتوالي سوف نتمكن من إبراز بعض صفات «العصر ما بعد العلماني» الذي دخلت فيه المجتمعات الغربية ـ وربما بعض المجتمعات الأخرى.
اسمحوا لي أن أبدأ بالمصطلح الفرنسي «اللائكية» ومصاعب ترجمته، إذ إن في مثل هذا العمل ما يكشف لنا الكثير من الغموض.
1ـ مشاكل مصطلح اللائكية (laïcité).
بالنسبة لمصطلح العلمانية بمعنى «اللائكية» يمكن لنا أن نبدأ ببعض الملاحظات حول المفردات ودلالاتها. من الصعب ترجمة كلمة اللائكية (laïcité) خاصة في اللغتين الإنجليزية والألمانية. ولست واثقاً ما إذا كانت كلمة «العلمانية» تصفها بدقة. إذ كيف لنا أن نمد هذا المصطلح إلى إيديولوجية قد تنتقد الدّين إن لم تُعادِه أصلًا؟ لكننا يمكن أن نقابل فكرة هذا المصطلح في اللغة اللاتينية وفي كلمة «laicita» الإيطالية وفي كلمتي «laicismo» و «laicidad» الإسبانيتين، وأيضاً في اسم الاتحاد الإسباني «أوروبا لايكا» (Europa laica) وهو عضو في الرابطة الأوروبية الإنسانية (European Humanist Federation). إن صعوبة الترجمة هذه واضحة جدّاً في بلجيكا بين فئتين من مواطنيها تستخدمان لغتين مختلفتين: الوالونيين المتكلمين باللغة الفرنسية والفلمنكيين المتكلمين باللغة الهولندية. فبينما يشير الوالونيون إلى اللائكية والحركة العلمانية لتصف منظمة مثل «مركز العمل اللائكي» (Centre d’Action Laïque) بنفس الطريقة التي يشير بها جيرانهم الفرنسيون، يستخدم البلجيكيون الفلمنكيون مصطلح «vrijzinnig» الذي يمكننا ترجمته إلى «مفكر حر» ولذلك فالترجمة الفلمنكية لـ «مركز العمل اللائكي» هي Centrale Vrijzinnige Raad (مجلس المفكرين الأحرار المركزي)؛ كما يوجد لدينا «Unie Vrijzinnigen Verbond» (اتحاد رابطات الفكر الحر) والتي تعتبر منظمة «Humanistisch Verbond» (الرابطة الإنسانية) ـ وهي منظمة موجودة في هولندا أيضاً ـ إحدى أبرز أعضائها.
أما مصطلح مثل «إنساني النزعة» (Humanist) فتستخدم في بريطانيا بالترابط مع «الاتحاد الإنساني البريطاني» (British Humanist Association) وكذلك لدينا في بريطانيا «الجمعية العلمانية الوطنية» (National Secular Society) و«الرابطة العقلانية» (Rationalist Association). أما في فرنسا فتمثل رابطات ومجموعات مختلفة الحركات العلمانية مستخدمة مصطلح اللائكية في أسمائها مثل «اتحاد العائلات اللائكية (Union des Familles Laïques) واللجنة الوطنية للعمل اللائكي (Comité National d’Action Laïque) بالإضافة إلى منظمات مثل «الاتحاد العقلاني» (Union Rationaliste) و»اتحاد الملحدين» (Union des Athées) التي يوحي اسمها بمعتقدات فلسفية بديلة عن الدين. إن منظمة كبرى «عصبة التعليم والتربية المستمرة» (Ligue de l’Enseignement et de l’Education Permanente) معروفة بأنها حركة علمانية خاصة بالنظام المدرسي؛ أما بالنسبة للدستور الفرنسي فتنص مادته الأولى على أن «فرنسا جمهورية علمانية ديموقراطية اجتماعية غير قابلة للتقسيم» بينما يصرح تحديداً بأن الجمهورية «تحترم جميع المعتقدات».
تقودنا هذه الدراسة الخاطفة للكلمات وترجماتها ومعانيها المختلفة فوراً إلى رصد هاتين الملاحظتين:
1ـ للمصطلح «لائكية» صفتان باللغة الفرنسية: فعلى المستوى السياسي فهو يشير إلى مبدإ عام حول الحيادية تجاه نظام من المعتقدات أو من«وجهات النظر تجاه العالم» وهذا يشمل مبدأ الانفصال بين الدولة والدين . أما على المستوى الفلسفي فهو يشير إلى وجهات نظر علمانية وغير دينية تجاه العالم تصورها أصحابها كبدائل عن المعتقدات الدينية. أترك للممتحدثين باللغة الإنجليزية القرار عما إذا كان مصطلح «العلمانية» يشمل هذين البعدين أوْ لا؛ ولكن بحسب طبعة 1989 من قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية (المؤلف من 20 مجلداً) فمصطلح العلمانية يشير إلى محتوى نشط إذ يعبر عن قناعة أو مبدإ فلسفي هدفه الأساسي هو تبرير العلمنة وإعطائها هدفاً وضعيّاً وأخلاقيّاً. يعتقد البعض أن مفهوم «العلمانية» الإنجليزي ليس بقدر شمول فكرة «اللائكية» بينما في الحقيقة ـ وبحسب الفروق اللغوية الدقيقة ـ يمكن للعلمانية أن تذهب أبعد من اللائكية[2]. وقد لاحظت أيضاً أن مناطق التأثير التي تُعرِّف نفسها على أنها لائكية تقليديّاً تشمل تيارات فلسفية ومنظمات يلعب انتقادها للأديان وإدانتها لها دوراً كبيراً في سبب وجودها.
وهكذا تظهر لنا ثلاث معان مباشرة للعلمانية:
(1)ـ العلمانية كالحيادية غير الطائفية للدولة (الدولة العلمانية).
(2)ـ الطائفية كوجهة نظر علمانية للعالم بديلة عن الاعتقاد الديني.
(3)ـ العلمانية كإيديولوجية تُضادُّ الدينَ وتدين ما تراه فيه كأخطاء وجوانب مؤذية (وعندها نتحدث عن النزعة اللائكية لا مجرد اللائكية)؛ دعونا نلاحظ أيضاً أن مناهضة المؤسسة الدينية ونقد سلطة هذه المؤسسة ورجال الدين فيها قد تجد بدورها التعبير في ثلاث صيغ مختلفة:
(1)ـ كمعاداة دينية لسلطة رجال الدين.
(2)ـ كمعاداة فلسفية وسياسية لسلطة رجال الدين.
(3)ـ كمكونٍ معادٍ لسلطة رجال الدين من النقد العام للدين.
2 ـ إن حقيقة أننا نجد مصطلح اللائكية في اللغات اللاتينية أكثر مما نجده في اللغات الأنجلو ـ سكسونية والألمانية يدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كانت فكرة اللائكية تقلق ـ على مستوى أوروبا على الأقل ـ البلدان ذات الغالبية الكاثولوكية أكثر مما تقلق البلاد ذات الغالبية البروتستنتية أو التي يتساوى فيها تواجد المذهبين. على جميع الأحوال يبدو أن اللائكية كسبب لإبعاد أي تأثير ديني على المؤسسات العامة والأفراد تعمل بشكل أكبر ضمن البلاد الكاثوليكية من البروتستنتية وفي هذه الحالة فإنها تظهر كحركة «تحرير» وردة فعل ضد السيطرة والتأثير اللذيْن مارستهما الكنيسة الكاثوليكية على المجتمعات المدنية يوماً ما. في مقارنة أجراها الفيلسوف والأستاذ في جامعة بروكسل الحرة جان مارك فيري بين فرنسا وألمانيا كان لديه الملحوظة التالية[3]: إن «علمنة» (laïcisation) المجتمع الفرنسي ليست هي بعينها «علمنة» (sécularisation) المجتمع الألماني. فهاتان العمليتان مختلفتان في التحييد السياسي للأديان: فتتم هذه العملية في المجتمعات الكاثوليكية والما بعد كاثوليكية من خلال التفرقة، أما المجتمع البروتستنتي فمن خلال التحول الداخلي وامتصاص عناصر كانت دينية في الأصل». لقد تطورت روح عصر التنوير بطرق مختلفة في كل بلد وبالعلاقة مع الأسئلة الدينية فيها؛ ومن خلال إطلاق سراح الأفراد من السلطة الدينية وتحقيق مجتمع قائم على المساواة لم يتم التركيز على «نفس توجهات التقدم الذاتي نفسها» كما أشار إلى ذلك جان مارك فيري بقوله: «لنقل أن التنوير الفرنسي ركز على الدولة والمحيط السياسي؛ أما التنوير الإسكتلندي فركز بشكل أكبر على الأسواق والمجتمع المدني؛ أما التنوير البروسي فقد ركز على الدراسة الجامعية والثقافة». (إذن الحديث عن العلمانية أو اللائكية ليس مثل الحديث عن «الآخر» النسبي الذي تُفسَّر العلمانية باعتباره؛ أي التفكير الديني؟ وبالمقابل فيمكن لـ «الآخر» بالعلاقة مع الدين أن لا يكون هامّاً لجميع أنواع الفكر الديني إذ أن ذلك الآخر ـ العلمانية ـ يفترض أنه من الممكن فصل الدين عما ليس إياه وهو أمر غير مفهوم بالنسبة لعدد من الخلفيات الثقافية.)
2 ـ النموذج البلجيكي في العلمانية:
إن المقارنة بين فرنسا وبلجيكا مثيرة للاهتمام من المنظور العلماني بما أن كلًّا من هاتين الدولتين تظهران، بُعدَين وبشكل كامل، بُعدين من أبعاد العلمانية حقيقييّن وشرعييّن؛ وهما:
(1)ـ العلمانية كمبدإ عام بين الدولة والأديان في ديموقراطيات تعددية تحترم حرية الضمير والفكر والدين مع كل شيء تتضمنه هذه الحرية.
(2)ـ العلمانية كمفهوم فلسفي يقوم على الحرية الفكرية واللا أدرية تقوم على رؤية دنيوية علمانية للإنسان والعالم وكبديل عن وجهات النظر الدينية حول العالم.
ما تختلف فيه هاتان الدولتان هو الطريقة التي تأخذان فيها هذين البعدين بعين الاعتبار؛ ففي فرنسا يشير الناس إلى العلمانية كقاعدة عامة وبشكل متكرر إلى درجة أنهم ينسون أن الناشطين العلمانيين يمثلون اتجاهاً محدداً وأنه وبغض النظر عن مدى الاحترام الذي يحظى به إلا أنه لا يمتلك شرعية أكبر من الأديان التي تحترم حقوق الإنسان والديموقراطية. في بلجيكا أيضاً تتم الإشارة بشكل متكرر إلى «الركن العلماني» إلى درجة أنه قد يغيب عن الأذهان أن العلمانية لا تمثل حركة فلسفية خاصّة ولكن أيضًا مبدإ عامّاً يتكفّل بتنظيم العلاقة الاستقلالية المتبادلة بين الحكومة والأديان والتي يدافع عنها ويثمِّنُها المؤمنون بالأديان وغير المؤمنين بها. في الواقع فإن مقارنة فرنسا مع بلجيكا في المسألة العلمانية يعكس حيادية الدولة والمجال المعطى لوجهات النظر غير الدينية إلى العالم.
تمثل مقارنة فرنسا مع بلجيكا فوراً الأبعاد الثلاث التي تتضمنها فكرة العلمانية:
(1)ـ العلمانية كمبدإ شامل يشير إلى حيادية الدولة والحكومة تجاه الأديان وجميع وجهات النظر تجاه العالم.
(2)ـ العلمانية كوجهة نظر بديلة عن الأديان تجاه العالم.
(3)ـ العلمانية كنقد ونشاط سياسي ضد الدين.
لكل من البُعدين الأولين مظاهرهما في كل بلد؛ فبينما نجد أن الجمهورية الفرنسية علمانية بمعنى أن العلمانية جزء من النظام الدستوري فيها فالنظام الملكي البلجيكي تعددي: والعلمانية فيه ـ التي ينظر إليها على أنها «علمانية منظمة» تفهم على أنها تيار فلسفي معين يرتبط معه أفراد وجماعات محددة لا على أسس دينية بل على أسس لا دينية مختلفة سواء كانوا مفكرين أحرارًا أو ماسونيين أو شيوعيين أو أي تيار فكري أو فلسفي أو روحي آخر. تمثل اثنتان من أكبر جامعات بلجيكا هذا النموذج التعددي المبني على «أركان» المجتمع البلجيكي: جامعة بلجيكا الحرة ـ وهي على صف المفكرين الأحرارـ وجامعة لوفين الكاثوليكية. أما بالنسبة للبعد الثالث ـ أي نقد الدين على أساس أنه نوع من إقصاء الآخر ـ فهو أيضاً موجود في كلي البلدين ولكن بدرجات متفاوتة وضمن منظمات معينة ويوجد ضغط بين فهم ليبرالي للعلمانية كحيادية عادلة تجاه المعتقدات الدينية واللادينية بما في ذلك الإلحادية من ناحية، وبين تصور العلمانية كاستقلال تام من جميع الدوائر الدينية وإيديولوجية محاربة للأديان. أعتقد شخصيّاً أن هذا البعد الأخير لم يتلاش كليّاً من الحالة الفرنسية وما فتئ يظهر من وقت إلى آخر كما كان الحال في السنوات الأخيرة مع «الانتهاكات الطائفية» (dérives sectaires) ـ وهو التعبير المستخدم للإشارة إلى التلقين العقائدي وإقصاء الآخر ـ وكذلك في القضايا التي أثيرت حول الإسلام[4]. كانت النتيجة أن عاد نوع من الإلحاد المتشدد إلى الظهور ـ رغم أن هذا التطور في الأحداث لا يزال محدوداً إذا أخذنا جميع المعطيات بعين الاعتبار.
وبينما لا تعترف الحكومة الفرنسية ولا تمول أي دين فالدولة البلجيكية تعترف بعدد من الأديان وتدعمها؛ وبينما يميز ريك تورفز من جامعة لوفين بأن «النظام البلجيكي يرسم حدوداً واضحة بين الدولة والدين» و«تتقبل استقلالهما عن بعضهما البعض» فإنه يقترح أن تمارس الدولة البلجيكية «الحياد الإيجابي» تجاه الأديان من خلال الاعتراف بعدد منها وتمويلها أيضا[5]. حين افتتح الوزير الفلمنكي غيرت بورجوا مؤتمراً جامعيّاً مؤخراً فقد بين هذه النقطة بقوله[6]: «الحياد لا يعني أن من الواجب على السلطات العامة ألا يكون لها علاقة بالمنظمات الدينية أو الفلسفية ولا يتعارض مع الدعم المالي للكنائس أو لأي مؤسسات دينية أو فلسفية أخرى بقدر ما يتعارض مع دعم النشاطات الاجتماعية التي تقوم بها الكنائس أو أي من المنظمات ذات التوجهات الدينية أو الفلسفية». لكن من الأمور التي تهمنا هنا أنه وبجانب المسميات الدينية الستة (الكاثوليكية، البروتستنتية، الأنجلكانية، الأرثوذكسية، اليهودية، الإسلام) فإن الدولة البلجيكية تعترف أيضا وبحسب القانون الصادر في 21 حزيران 2001 بـ «المجتمعات الفلسفية التي لا تحمل صفة دينية»؛ وهو ما أسمته بلجيكا «العلمانية المنظمة» وما يجعل عالم الاجتماع كلود جافو يقول بأن العلمانية تمثل «العقيدة السابعة المعترف بها»[7] في بلجيكا. ففي الجيش أو في السجن يمكن لأي مواطن أن يطلب رجل دين كاثوليكي أو بروتستنتي أو يهودي أو مسلم... أو «إنساني» (أي لا يحمل صفة دينية). جامعة لوفين الكاثوليكية جامعة عامة بشكل كامل كما هو الحال في جامعة بروكسل الحرة المتأثرة بالفكر الحر بل والماسونية. بعبارات أخرى فلا تعتبر العلمانية في بلجيكا كالإطار الشامل للمجتمع بأسره بل تعامل كوجهة نظر غير دينية إلى العالم، أي كبديل فلسفي محدد يعادل في حق متبعيه كونه «ديناً». لاحظ العديد من المراقبين أن الاعتراف المنظم بالعلمانية، ثمّ التمويل التالي لها، كان له أثر لا يخلو من المفارقة إذ عزز النظام البلجيكي المعترف بالأديان والممول لها أيضاً.
توفر المادة الرابعة والعشرون من الدستور البلجيكي والمتعلقة بالتربية والتعليم الأساس لاحترام المفاهيم الفلسفية أو الدينية ضمن الحياة الخاصة والعائلية في نظام تربوي تنظمه المجتمعات اللغوية (الفرنسية والفلمنكية والألمانية):
1ـ التعليم حر؛ أيُّ إجراءٍ وقائي ممنوع؛ ولا يمكن قمع المخالفات إلا بحسب قانون أو مرسوم حكومي.
يقدم المجتمع خياراً حرّاً أمام الأهالي.
يعترف المجتمع بالتربية المحايدة. إنّ الحياد يعني، خصوصًا، احترام المفاهيم الفلسفية أو الأيديولوجية أو الدينية لدى الأهالي والطلاب.
تعرض المدارس،المُنظَّمة من قبل السلطات العموميّة، وحتى آخر مدّة التعليم الإلزامي، خيارين: تعليم إحدى الأديان المعترف بها أو تعليم أخلاقي لا طائفي (لا ديني).
2 ـ [...]
3 ـ [...] لجميع الطلاب في عمر المدرسة حق التعليم الأخلاقي أو الديني على حساب المجتمع.
وحتى قبل قانون 21 حزيران 2002 بكثير فقد أتاح تنظيم العلمانية بجانب الأديان المجال أمام المدارس الرسمية في بلجيكا كي تنظم «التعليم الفلسفي» (أو تعليم مواضيع «وجهات النظر حول العالم» (levensbeschouwelijke vakken) كما يسميها البلجيكيون الناطقون باللغة الهولندية) وأمام الطلاب وعوائلهم كي يختاروا بين التعليم الديني لإحدى الطوائف (أساساً :الكاثوليكية أو البروتستنتية، اليهودية أو الإسلام) وبين تعليم أخلاقي لا طائفي (لاديني). بالنسبة للمسألة العلمانية فمن المثير للاهتمام أن نلحظ هنا التسمية الغامضة: «التعليم الأخلاقي اللّاطائفي (اللاديني)»؛ فهل يعني هذا تقديم التعليم الأخلاقي المتعلق بالحد الأدنى من القواسم المشتركة في مجتمع تعددي ـ أي نوع من التعليم حول المواطنة والديموقراطية يتم فيه التعريف عن الحقوق والواجبات في مجتمعات تتميز بالاستقلال بين الدولة والدين وحقوق إلإنسان والحرية الفردية مع احترام جميع الرؤى الكونيّة؟ أم هل يتعلق الأمر بتعليم فلسفة أخلاقية معينة هي «الفكر الحر»؟ مع أنه لا يطلق اسم «التعليم الأخلاقي العلماني» على «التعليم اللّاطائفي (اللاديني)» ولكن بحسب «مركز العمل اللائكي» فإنها تشير إلى البحث الحرّ (الفكر الفلسفي النقدي) وهي «الرابط الوحيد بين العلمانيّة والشباب»[8]. من المفيد جدّاً أن ننظر في ردات الفعل المختلفة في والونيا والفلاندرز بالنسبة للطلبات التي تقدمت بها عائلات شهود يهوه لكي تستثنى من «التعليم الأخلاقي اللاطائفي (اللاديني)» بما أن هذه العائلات وبسبب عدم انتمائها لأي من الطوائف الرسمية لم ترغب في أن يتلقى أولادها دورساً أخلاقية لا دينية. ففي والونيا رفض طلب الاستثناء على أساس أن نظام «التعليم الأخلاقي اللاطائفي (اللاديني)» لا يُعلم الأطفال أي نظام أخلاقي معين بل الأسس الأخلاقية المشتركة بين الجميع؛ أما الفلاندرز فعلى العكس من ذلك قد سمحت بهذا الاستثناء على أساس أن «التعليم الأخلاقي اللاطائفي (اللاديني)» يتضمن دورساً أخلاقية في الفكر الحر وأن الاستثناء يتناسب مع حق العائلات في حرية اختيار التعاليم الدينية أو الفلسفية التي تتوافق مع تطلعاتهم. من خلال هذا المثال يمكننا أن نرى كيف يشكل النظام البلجيكي وبدون شك مشكلة بالنسبة للأقليات الدينية ذات الأعداد القليلة لدرجة أنه لا يمكن أخذها بعين الاعتبار لتنظيم صفوف دينية خاصة بهم (ويشمل هذا أيضاً البوذيين وأتباع الحركات الدينية الجديدة...).
بالإضافة إلى ذلك فإن مناهج الدراسية الفلسفية المختلفة سواء كانت دينية أو لا جميعها تزعم أنها تتبع سبلاً مختلفة للوصول إلى أهداف مشتركة؛ وهكذا فإذا قرأنا منشور حكومة المجتمع الفرنسي في بلجيكا تحت عنوان «مناهج الصفوف في الأخلاق والدين ـ أماكن التعليم» فسوف نجد العبارات التالية[9]:
«سواء أشار البشر إلى تجربة دينية أو ذكرى شعب أو إلى ثقافة علمانية فإنهم جميعاً لا يزالون يواجهون الأسئلة الأساسية نفسها. فالولادة والحياة والموت لا تزال تطرح عليهم الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى نفسها. كما أن اللامساواة الاجتماعية والحرمان من الديموقراطية والجرائم ضد الإنسانية جميعها تفرض متطلبات جديدة للعدالة. كما أن التقدم في مجالات التكنولوجيا والطب والجراحة والعلوم الوراثية جميعا تطرح علينا قضايا أخلاقية.
بغض النظر عن القيم التي يحملها كل واحد منا حتى نتميز بها في أنفسنا فجميعنا نود التأكيد على عدد قليل من المثل التي تجمعنا في الغاية نفسها:
ـ ديناميكيات التحرير بما في ذلك تحرير الفكر حيث يتجلى تقزيم كيان الإنسان أو إفقاره أو قمعه أو نفيه.
ـ سعي لا يعرف الكلل إلى السلام والأخوة والعدالة والصداقة والمحبة.
ـ تطوير الالتزام الديموقراطي من خلال تعليم وتعلم الحوار والتسامح والاحترام المتبادل في ما يتعلق بالفروقات.
ـ تربية في المواطَنة من خلال الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها.
يجب أن تتمركز المدارس حول الإنسان؛ مناهج صفوف الأخلاق والدين هي أماكن تربوية تُعزّز الإندماج في مجتمع تعددي، مع احترام جميع العقائد الفرديّة. ومن خلال العمل التربوي المناسب تساعد على محاربة عدم الاكتراث والتعصب والدوغمائية وعدم التسامح والعنف والسلبية وجميع الأمراض المجردة للإنسان من إنسانيته في أيامنا.
حتى ننهي القضية البلجيكية ونعرض كامل تعقيداتها دعونا نلاحظ أن «اتحاد بلجيكا البوذي» طلب سنة 2006 أن يعترف به لا كديانة مستقلة بل كـ «فلسفة نحو الحياة لا تحمل صفة دينية»؛ لو انضم البوذيون إلى المفكرين الأحرار والماسونيين والعقلانيين في «الركن العلماني» لربما خفف ذلك وبشكل مستمر من أهمية هدفهم في تقديم بديل عن الدين. أما بالنسبة لمناهج صفوف الأخلاق اللاطائفية (اللادينية) ومن حيث اعتبارها كمناهج علمانية، فهل يمكننا اعتبار الأخلاقيات البوذية أخلاقيات علمانية؟
توجد فائدة كبيرة في تعقيد النظام البلجيلي من حيث إنّه يدفعنا لأن نطرح بعض الأسئلة الجيدة حول العلمانية، ويمكننا أن نرى ذلك أيضاً في مجال التمويل الحكومي لـ «العلمانية المنظمة» كما أظهر ذلك جان فرانسوا هاسون وكارولين ساغيسر[10]. إذا كانت الدولة تمول المعتقدات التي تعترف بها فعليها أن تكون قادرة على أن تخصص بعض مصادرها لمعتقدات مختلفة على أساس الأهمية العددية؛ ويثير هذا بدوره تساؤلاً جسيم الأهمية: كيف يعد الواحد «شريحة اجتماعية»؟ هل سيشمل هذا جميع من يُعرِّفون عن أنفسهم على أنهم لا يتبعون ديانة معينة أم سيشمل فقط المفكرين الأحرار والعلمانيين المتشددين؟ سنعود إلى هذا السؤال من وجهة نظر اجتماعية عامة.
3) العلمانية الأوروبية كمبدإ حياد وحرية عام:
إذا أخذنا «ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية» الذي اعتمدته القمة الأوروبية في نيس في 1 كانون الأول 2000 وبالإضافة إلى «إتفاقية لشبونة» التي دخلت حيز التنفيذ في 1 كانون الأول 2009 فإنا نجد أن أيّاً منهما لا تذكر العلمانية ولكن «الحريات» وخاصة الحرية الدينية و «الميراث الديني والإنساني» و «الكنائس» و«المجتمعات الدينية» و«المنظمات الفلسفية التي لا تتمتع بصفة دينية». نلاحظ أولاً في هذه النصوص أنها أخذت بعين الاعتبار وبالإضافة إلى الأديان المعتقدات الفلسفية واللادينية. وهكذا نرى أن إتفاقية لشبونة ذكرت في مقدمتها كلًّا من «الميراث الديني» و«الميراث الإنساني» (العلماني أو اللائكي) في أوروبا:
«مستلهمين من التراث الأوروبي الثقافي والديني والإنساني والذي تطورت منه القيم العالمية لحقوق الإنسان التي لا تقبل الانتهاك ولا التغيير بالإضافة إلى الحرية والديموقراطية والمساواة وحكم القانون».
تنص اتفاقية لشبونة في مكان آخر في المادة التي أعيدت تسميتها إلى 16ج:
1ـ يحترم الاتحاد ولا يتحيّز ضدّ الوضع الذي عرفه القانون الدولي للكنائس والروابط أو المجتمعات الدينية الموجودة في دوله الأعضاء.
2 ـ يحترم الاتحاد و الدرجة نفسها الوضع الذي عرفه القانون الدولي للمنظمات الفلسفية غير المعترف بها رسميّاً كطوائف دينية.
3 ـ من خلال الاعتراف بهويتهم ومساهمتهم الخاصة سيحافظ الاتحاد على حوار مفتوح وشفاف ومنتظم مع هذه الكنائس والمؤسسات
إنّ الفقرة الثانية من هذه المادة التي أضيفت بناءً على طلب خاص من البلجيكيين تشير إلى «المنظمات الفلسفية غير المعترف بها كطوائف دينية»، أما الفقرة الثالثة التي تتحدث عن «حوار مفتوح وشفاف ودوري مع هذه الكنائس والمنظمات» فهذا يشمل أيضاً وكما تشير إليه كلمة «منظمات» إلى مناظير فلسفية علمانية إلى الحياة. وهكذا يبدو أن العلمانية قد شُملت من حيث بعدها الثاني، أي كمعتقد فلسفي بديل عن المعتقدات الدينية.
بالنسبة لـ «الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية» سنة 1950 فهي تؤطر من خلال المادة التاسعة مبادئ حرية الفكر والضمير والدين من غير أن تذكر العلمانية:
1 ـ لكل واحد حرية الفكر والضمير والدين؛ هذا يشمل الحرية لتغيير دينه ومعتقده كما يشمل الحرية في أن يقوم لوحده أو مع مجموعة في العلن أو في حياته الخاصة بإظهار هذا الدين أو المعتقد في التعبد والتدريس والممارسة والإتباع.
2 ـ لا مانع أمام حرية الشخص بأن يظهر دينه أو معتقداته إلا الحدود التي يفرضها القانون والضرورية في مجتمع ديموقراطي لغاية السلامة العامة أو لحماية النظام العام والصحة أو الأخلاقيات أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم.
وبروتوكول إضافي يتعلق بالتعليم:
لا يُمنع أي شخص من حق التعليم. في ممارسة الدولة لأي وظائف بالعلاقة مع التربية والتعليم ينبغي أن تحترم حق الوالِدين في التأكد من أن هذه التربية وهذا التعليم يتوافقان مع قناعاتهم الدينية والفلسفية.
وهكذا فلم يأت أي نص من النصوص الثلاثة السابقة على ذكر كلمة «العلمانية»، فهل تم إهمال حقيقة ما تغطيه العلمانية؟ ليس الأمر كذلك أبداً. الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة علمانية سواء كان ذلك في تطوير سياساته أو في إداراته: لا توجد أي علاقة مؤسساتية بين هذه السياسات والإدارات وبين أي نظام ديني أو فلسفي ولا تمتلك هذه الأنظمة أي سلطة على عمليات اتخاذ القرار ضمن الاتحاد الأوروبي. بل يوجد فصل بين الكنائس والسلطات العامة الأوروبية بشكل يتوافق مع المبادئ العلمانية الثلاثة الكبرى:
3 ـ حرية الضمير والفكر والدين والتي تشمل حرية أن يكون لدى الفرد دين أو أن لا يكون لديه دين وكذلك حريته في أن يغير ديانته وفي أن يمارس ديانته ممارسة لا تخضع إلا لاحترام القانون والديموقراطية وحقوق الإنسان.
4 ـ الحقوق والواجبات المتساوية بين جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفلسفية؛ أو بكلمات أخرى: عدم تمييز الدولة والسلطات العامة بين المواطنين على هذه الأسس.
5 ـ استقلال الدولة والأديان عن بعضهما البعض والذي يعني وبنفس الدرجة حرية الدولة من الأديان وحرية الأديان من الدولة (ضمن إطار القانون والديموقراطية).
لقد ترسخت هذه المبادئ العلمانية العامة في المؤسسات على المستوى الأوروبي وبشكل شامل أيضاً ولكنها تظل علمانية تحترم مستويات مختلفة من العلاقات بين الدولة والكنيسة السائدة في الدول الأعضاء[11]؛ ولكن حتى لو اعترفت العلمانية الأوروبية بوجود الأديان في المحيط العام فإنها لا تعطيها أي سلطة قانونية أو أي دور ضمن مؤسسات الدولة وتظل هذه الأديان مع الاعتراف بها على مختلف أطيافها، أمراً عائداً إلى المجتمع المدني. فهي إذن علمانية اعتراف بالتنوع وحوار معه تمنع قيام علاقة مؤسساتية بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي وأي دين؛ والاتحاد الأوروبي كمؤسسة وعلى جميع الصعد الأخرى علماني بدرجة أكبر من أي دولة من الدول التي تؤلفه لكن وكما قلنا فإن علمانيته علمانية اعتراف وحوار تتيح المجال أمام «حوار مفتوح وشفّاف ومنتظم» سواء مع الأديان أو مع نظم الاعتقاد العلمانية؛ ولذلك تجمع العلمانية على المستوى الأوروبي بين مبدإ حياد المؤسسات العامة تجاه الأديان ومبدإ عام من الاستقلال بين المحيطين السياسي والديني/ الفلسفي مع الاعتراف ـ بجانب الأديان ـ بوجهات النظر العلمانية نحو العالم.
4ـ العلمانية كتصور لا ديني للإنسان والعالم
إن السؤال المطروح هنا هو عن المكان الذي يجب أن يعطى لوجهات النظر اللادينية إلى العالم ـ أو إلى النزعات الإنسانية العلمانية ـ إذا ما سلمنا أن إحدى أشكال النزعة الإنسانية العلمانية فيها خير مشترك بين الجميع سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين (أي أن العلمانية ليست حكراً على الأشخاص ذوي النزعات الإنسانية / العلمانية) ويجب أخذ الاعتقادات اللاأدرية والإلحادية بعين الاعتبار إذا كانت منظمة اجتماعيّاً. يمكن لهذا أن يحصل من خلال المنظمات العلمانية كما هو الحال في بلجيكا أو أن تدرج المجتمعات اللادينية نفسها بشكل قانوني (مثل الأديان) كما هو الحال في ألمانيا. تبدو البدائل إما الدعوة إلى تنظيم النزعات الإنسانية العلمانية والاعتراف بها ودمجها بجانب الأديان كوجهات نظر علمانية إلى العالم تدعوا إليها جماعات ومنظمات ذات نزعة علمانية وإما اعتبار أن الإنسانية العلمانية وناشطيها ذوي النزعة العلمانية يمثلون رؤية أشمل وأعم وفي هذه الحالة ستمنع التصورات الدينية من أن تمتلك بعداً شموليّاً بالقوة وستكون المخاطرة في هذه الحالة الأخيرة أننا سنعتبر النزعات الإنسانية العلمانية الفلسفة التي تشمل جميع المجتمع، أما النزعات الإنسانية الدينية فسوف تمثل مجرد آراء معينة فيه ـ بينما يمكننا أن نجادل وبالمقابل أن النزعة الإنسانية العلمانية مجرد وجهة نظر معينة أخرى وأن الإنسانية المشتركة والعامة والتي تشير إليها أوروبا هي تلك الغنية بكل من«الميراث العلماني» و«الميراث الديني». وهذا هو السبب الذي لأجله اقترحت أن نخصص مصطلح «الإنسانية اللائكية» للإشارة إلى إطار مرجعية كل من أتباع الديانات والعلمانيين والإطار العام للعيش المتناغم في أوروبا تعددية. مرة أخرى نجد هنا مفهومين متميزين تماماً للعلمانية كلائكية: اللائكية كالخير المشترك سواء للمؤمنين أم غير المؤمنين؛ وكذلك اللائكية كوجهة نظر علمانية إلى العالم بديلة عن الأديان تحملها منظمات ودعاة يروجون لها سواء كانوا ناشطين عقلانيي النزعة أو مفكرين أحرارًا أو علمانيين؛ وإذا كان لكل من التعبيرين عن اللائكية وجوده وشرعيته فلا يمكن للائكية الأوروبية إلا أن تكون شاملة للكل تدمج جميع مصادر النزعة الإنسانية بغض النظر عن كونها علمانية أم دينية. بهذا المعنى يمكننا أن نقول أن النزعة الإنسانية الأوروبية أقرب إلى «اللائكية» منها إلى العلمانية فليست هي الامتياز الحصري لا للعلمانيين ولا للدينيين لأنها تدمج كلًّا من النزعات الإنسانية الدينية مع تلك العلمانية[12]. من وجهة النظر هذه من المهم أيضاً أن نبذل أقصى الجهود ونتعامل بأدق ما يمكن مع الإحصائيات التي تشير إلى الانتماءات الدينية في أوروبا إذ إنه وأثناء عمليات المسح الإحصائي لا يمكننا أن نعتبر تلقائيّاً الأشخاصَ، الذين يعرِّفون عن أنفسهم أنّهم بلا ديانة، أصحابَ نزعة إنسانية علمانية وكأنهم قد أعلنوا عن كونهم «ناشطين علمانيين» فقط لأنهم أعلنوا عن كونهم بلا ديانة. من وجهة النظر هذه علينا أن نحجز علامة «إنساني علماني» لهؤلاء الذين يعلنون صراحة عن كونهم ملحدين أو لا أدريين. لاحظ هيوبرت دوتيير في دراسة أجراها حول «الفكر الحر والماسونية والحركات العلمانية» في بلجيكا أنه «يوجد فرق كبير بين عدد الناس الذين لا ينتمون لأي كنيسة أصلاً وعدد الناس الذين يشاركون في رابطات المفكرين الأحرار»[13]؛ فعدم كون الشخص صاحب دين ليس كافياً حتى يعتبر «مفكراً حرًّا» إذ ليس هذا الأمر توزيعاً ذا مجموع صفري بحيث ما تخسره الأديان تربحه العلمانية فيجب علينا أن نعتبر الأشخاص الذين يعرفون عن أنفسهم أنهم بدون دين أو بدون أي انتماء فلسفي محدد كأشخاص غير مكترثين بدون أي معتقد يمكننا تمييزه لا على المستوى الديني ولا على المستوى الفلسفي لكن لهذا السؤال أهمية أكبر عند الخط الدقيق والسهل العبور الذي يفرق بين «المؤمنين المتشككين» الذين يعرفون عن أنفسهم أنهم ينتمون إلى ديانة معينة أو «المتشككين المؤمنين» الذين يعرفون عن أنفسهم أنهم بدون دين ولكنهم في الوقع ينتمون إلى مذاهب معينة مختلفة يهتمون من خلالها بالوصول إلى إجابات حول تساؤلاتهم الروحية فلا يمكننا إذن أن نأخذ «العلمانية» كمنظور فلسفي علماني بديل عن الأديان إلا إذا أظهرت نفسها بوضوح من خلال منظمة وقاعدة اجتماعية من الأعضاء.
5) العلمانية كنقد للدين[14]
كانت الانتقادات الفلسفية والعلمية والسياسية للدين ـ وإلى حد ما لا تزال ـ بُعداً جوهريّاً وبنيويّاً من الحداثة الأوروبية؛ وقد ترافقت هذه الانتقادات مع معاداة للمؤسسات الدينية، نتجت عن الحرية، لم توفر لا الدين ولا ممثليه من الإساءة. تطورت هذه النزعة المعادية للمؤسسة الدينية في البلاد الكاثوليكية تحديداً ووجهت خصوصاً إلى الرهبان وقد تركت أثرها الدائم في شكل النظرة إلى الدين على أنه معاد لتقدم العلم والحرية وتطور الأخلاقيات وقد أصبحت هذه النزعة سمة من سمات الحداثة كحركة محو للتقاليد والسير إلى مستقبل أفضل دفعتها إيديولوجيات التقدم سواء كانت يمينية أو يسارية. أساءت هذه النزعات المعادية للمؤسسة الدينية إلى ممثلي الأديان أكثر مما أساءت إلى الأديان نفسها وقد تركت أثرها الدائم في رؤية الحرية كنوع من أنواع التطور الذاتي. ولكن وكما لاحظ فيليب بورتيير[15] فقد «تغير هذا الإجماع حول الحرية خاصة بين نخب الفنانين ورجال الأعمال (وعليَّ أن أضيف أيضاً أنها تغيرت بين مشاهير وسائل الإعلام)؛ ففي السابق كانت المقاربة نحو الحرية هي «حرية تطوير النفس» والتي كانت لتقود صاحبها إلى انقطاع عن «الأنا الداخلي» نحو عقل كلي منفتح على التغيير؛ ولكنها غالباً ما تُفسَّر الآن على أنها الغياب الكامل للقيود مما يتيح المجال أمام أي شخص أن يسعى لأن يشبع مصالحه الشخصية ورغباته دون أدنى اعتبار للناس الآخرين». وهكذا وكما يشرح فيليب بورتيير تغيرت «المعاداة للمؤسسة الدينية كنوع من الانعتاق من القيود القديمة» بإدانة السلطات الكنسية إلى «معاداة المؤسسة الدينية كنوع من الاستفزاز» يتجه إلى التعيير المسيء للرموز الدينية. بحسب ما قاله فيليب بورتيير تتميز «معاداة المؤسسة الدينية كضرب من السخرية» التي تتميز بها حداثتنا المفرطة بثلاثة عناصر:
(1)ـ تغير المحتوى أصلاً: فلم تعد معاداة المؤسسة الدينية المسيحية تتوجه مثلاً ضد المؤسسات الكنسية وجشع وتعصب تسلسل قيادتها الهرمي بل أصبحت موجهة نحو رمز السيد المسيح إن لم تكن موجهة ضد الإله نفسه!
(2)ـ بينما كانت معاداة المؤسسة الدينية تجد تعبيرها الأفضل على أوراق الفلاسفة والمفكرين فإنها اليوم تعبر عن نفسها أكثر فأكثر من خلال الصور إذ إن «سمتها البارزة ليست التفسير والبيان بل الاستفزاز والاستثارة».
(3)ـ بينما كانت الكاثوليكية هي العدو المحدد لهذه النزعة فقد أصبح الإسلام هو الهدف الذي تتوجه إليه (وإن عادت أشكال معينة من معاداة الكاثوليكية إلى الظهور). كذلك يميل أصحاب هذه الدعايات إلى اختلاس السمات البارزة في بعض أديان الشرق الأقصى مثل بوذية زن مثلاً.
معاداة المؤسسة الدينية كضرب من ضروب الانعتاق لا تزال موجودة بغض النظر عن هذه التغيرات. وهي تمثل تياراً من تيارات انتقاد الدين في المجمل أو دين محدد يعبر عن عنصر بنيوي في المجتمعات الحديثة التي تضمن حق الحرية الدينية من ناحية (ضمن حدود الديموقراطية وحقوق الإنسان) والحرية لنقد الدين بالمقابل أو لأن يقوم شخص ما بتغيير دينه أو حتى أن يتخلى عن الانتماء الديني بالكلية. دعونا نلاحظ ببساطة أن هذه النزعة المعادية للمؤسسات الدينية قد عادت إلى نشاطها من خلال إعادة تأكيد الهويات الدينية وخاصة في توجهات عقادية تقليدية أو كاريزماتيكية وكردة فعل لبعض الأخبار العالمية التي عُكِست في طرق معينة في إظهار الدين الإسلامي. ولكن على العموم فمعاداة المؤسسات الدينية كضرب من ضروب الانعتاق فقدت زخمها مع تقدم العلمنة بحيث ذهب بعض المراقبين إلى اعتبار أن الدين فقد زخمه إلى الأبد («من غير المفيد أن نقوم بفعل المزيد)؛ لكن حين واجه هؤلاء المراقبون إحياء الهويات الدينية في أوروبا كما هو الحال في بقية أنحاء العالم وتنبهوا إلى حقيقة أن الأديان عادت لتحمل مُثلاً ومعايير مختلفة عن المجتمع العلماني خشي البعض حتى عودة سلطة المؤسسات الدينية وربما إعادة النظر في العلمانية (كما هو الحال في فرنسا).
الحداثة المفرطة:
طالما يظل الدين «معلمناً» ومنخفض النبرة ستظل النزعات المعادية للمؤسسات الدينية القائمة على الانعتاق نائمة ولكنها تستيقظ اليوم مثل الأديان التي تريد معارضتها، ومن الأمثلة الجيدة لهذا الجدل الدائر حول ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس أو النقاب في المناطق العامة خاصة وأن الأمر من الزاوية العلمانية يتعلق بحقوق المرأة ولطالما كان وضع المرأة نقطة حساسة في المواجهة بين وجهات النظر الدينية والعلمانية. بالنتيجة لا يزال لدينا صراع متكرر بين الحداثة التحررية والأديان تتجلى فيه بشكل أكبر معاداة المؤسسات الدينية من حيث التواصل لإيصال أنواع معينة من النقد الديني في إطار الجدل العام.
ولكن يوجد المزيد كما يوجد شيء آخر، يوجد المزيد في هذه المعاداة للمؤسسات الدينية التي تتخذ طابع الاستفزاز والسخرية التي وسمت الحداثة المفرطة للفرد المتحرر المعاصر الذي يرى أن حريته وخصوصاً حرية تعبيره هي فقدان أي قيود على حقه المطلق في فعل أو قول ما يحلو له من غير اعتبار للآخرين. إن معاداة المسيحية الموجودة في بعض موسيقى الروك أند رول الجديدة (الميتال الأسود) ممتعة وفنية بلا شك ولكنها ألهمت أيضاً بعض الأفراد كي يحرقوا الكنائس ويدنسوا القبور. قال فرانسوا بويسبفلاغ[16]: «لقد اختار المجتمع الفرنسي ـ وهذا أمر حديث نسبيّاً ـ أن يتخلص أو أن يقول بأنه يود أن يتخلص من أي نوع من الرقابة على الصور أو تقريباً أن نصل إلى ذلك. فنجده الآن يراقب فكرة الرقابة ويعتبر أن التجديف فكرة فقدت معناها إلا إذا أعلنا بشكل عال وواضح أن نمنعها في ظروف مثل تلك التي نمر بها الآن. كان من المستحيل علينا تجنب الكثير من المآسي لولا رقابة الأفراد على أنفسهم إذ إن هذه هي الرقابة الوحيدة المتبقية وأتمنى أن تجد هذه الرقابة مصدراً آخر لوجودها بدلاً من الخوف». إذن أفليس من الخطر هنا أن نبدي ملاحظات تسيء إلى الآخر أو ما تعتبره المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تعبيرات «لا تساهم بأي شكل في نقاش عام يمكن له أن يخدم التقدم في شؤون الإنسانية»[17]. ففي معاداة المؤسسة الدينية عن طريق السخرية والاستفزاز أليس الفاعل يُعبر عن نفسه بشكل أكبر ويتواصل بشكل أقل؟ أليس الذي يدنس المقدسات يفعل ذلك بغرض إرضاء نفسه قبل كل شيء؟ في هذا النوع من معاداة المؤسسة الدينية ألا يدنس هؤلاء بغرض التدنيس فقط ومن أجل لذة التعدي على الآخرين؟ إن هدف معاداة المؤسسة الدينية كنوع من السخرية والاستفزاز هو الإساءة إلى حساسيات الآخرين الدينية وهو نقد مستفز بشكل مقصود. يكتب فرانسوا بويسبفلاغ قائلاً[18]: «يوجد شيء مؤكد واحد: هو أن المزيد من حرية التعبير هو أمر يسخر من نفسه لأنها تصبح غاية في نفسها وحين تفتقد إلى معرفة ما تعبر عنه فإنها تصبح مجرد حاجة لتوكيد النفس لمجرد توكيد النفس».
إذا انتقلنا من النقد الحديث الذي يهدف للتحرر من السلطة الدينية إلى مجرد نقد متمرد يستهدف الحساسيات الدينية ألا نكون ننتقل أيضاً من النقد الديني العقلاني إلى نقد متمرد للعلمانية المفرطة الحداثة؟ إذا عبرنا عن الأمر بطريقة مختلفة فلن يعود الأمر مجرد مواجهة بين قناعات مختلفة بل صدامًا بين حساسيات مختلفة. إن الضعف الوجودي للحداثة الغربيّة المفرطة يمكن أن يتسبب في نقد مستفز لا مسوغ له لأي دين يتعارض مع الحداثة التحررية اجتماعيّاً وسياسيّاً وفكريّاً.
كما قلنا يوجد المزيد ويوجد شيء آخر. هذا الشيء الآخر هو أننا اليوم لا نرى فقط نقداً اجتماعيّاً وفلسفيّاً وفنيّاً للدين يعكس بدرجات متفاوتة العلاقة النقدية التي تحتفظ بها الحداثة الغربية مع الدين بل إننا أيضاً نرى انتقادات للحداثة الغربية تنبع من الدين وكما تعتقد عالمة الاجتماع البريطانية غريس ديفي أن «انتقاد العلماني من خلال الرجوع إلى المراجع الدينية يعكس الحداثة بقدر ما تعكسها الانتقادات العلمانية لما هو ديني»[19]. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الحداثة تواجه تعبيرات دينية ظلت لفترة طويلة مرتبطة مع بيئات ثقافية معينة مثل الحضارة العربية ـ الإسلامية ـ مما جعلها تقع تحت محك ووجهات نظر ثقافات أخرى. إن النقد الداخلي والخارجي للأديان من قبل الحداثة الغربية في هذا العصر المفرط في الحداثة تجلب الأديان إلى المحيط العام مرة أخرى إلى درجة تمس بتفسير إنسانية الإنسان (بما في ذلك قضية حقوق المرأة) والتي عادت إلى مقدمة النقاش العام وأجندات القرار السياسية: مثل الأخلاقيات المتعلقة بالبيولوجيا في قضايا الحياة والموت أو الاستنساخ أو الأسئلة المتعلقة بالمثلية الجنسية والأبوة والأمومة إلخ. إن عودة الدين هذه إلى المحيط العام للجدل الجماعي تعيد طرح الأسئلة حول حدود الدين والحرية الدينية كما تثير سؤال حرية التعبير المتعلقة بالأديان. أعادت عودة الأديان إلى المحيط العام التساؤل حول العلمنة الغربية المفرطة وفي وجهها مُفَارَقة مدّ «المقدس» وجزره. لربما أصبح من غير المحتمل بالنسبة للبعض أن يجد نفسه وجهاً لوجه مع مجموعة من المعتقدات والمدارك «الخالدة» التي يتمسك الناس بها وقد يفسر هذا نزوعهم نحو الاستفزاز دون مبرر و«إعادة اختراع» المقدس من خلال التعدي على ما هو مقدس بالنسبة للآخرين.
يمكن للانتقادات الداخلية والخارجية التي توجهها الأديان إلى الحداثة الغربية أن تساهم أيضاً في حماية النزعة التحررية التي تحملها من النسبوية (relativism) التي أصبحت واسعة الانتشار والتي تهدد كامل إنجازات هذه الحداثة ولكن هذه الانتقادات الدينية للعلمانية تجري أيضاً ضمن النزعة التمردية في عالم الحداثة المفرط في الحداثة بهدف إحداث صدمة في العلمانية الغربية ولمس الحساسيات العلمانية من خلال ـ مثلاً ـ إعادة تأكيد التصورات التقليدية للعلاقة بين الجنسين. إن المشهد المعاصر لا يبدو وكأنه صراع معتقدات بقدر ما هو صراع لنزعات تمردية مختلفة ضمن ثقافة عولمة تعتمد كثيراً على الصور، فالتحول نحو الراديكالية في التعامل مع المقدس يولد بالمقابل تعاملاً راديكاليّاً في الرد عن المقدس؛ ويمكن لعمليات السخرية والاستفزازات التي لا مبرر لها أن تزيل كل شيء في طريقها: الحداثة في بُعْدَيْها العقلاني والتحرّري والأديان كينابيع للحكمة والتسامي الروحي.
الخلاصة
تسود العلمانية المتضمنة للاعتراف بالأديان في أوروبا، أو بكلمات أخرى فأوروبا تحترم استقلال الدولة والدين عن بعضهما البعض وتسعى إلى حماية المبادئ الأساسية مثل الحرية وعدم التمييز التي تعنيها هذه الحرية. تعترف أوروبا إذن بالمساهمات الاجتماعية والتربوية والمدنية التي تقدمها الأديان والمعتقدات وتدمجها جميعاً بالنتيجة في المحيط العام.
بالنسبة للعلمانية / اللائكية فللتكامل الأوروبي نتيجتان: الأولى أنها تقوي الوسائل القانونية للجوء إلى العلمانية وترك أثرها على حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية للديموقراطيات الليبرالية والتعددية بغضّ النظر عن الأنظمة القانونية التي تحكم العقائد والخصوصيات العقائدية لكل بلد. إنه نجاح العلمانية وقبولها كمعيار عام، ولا يمكننا هنا أن نهمل ذكر الدور الهام الذي لعبته «الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية» في هذا المضمار. لقد أصبحت مبادئ العلمانية الأساسية جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الأوروبية بينما يظل كل بلد يحترم مختلف أنواع العلاقات بين الكنيسة والدولة القائمة فيها. عدا عن ذلك فالطريقة التي وضعت فيها المؤسسات الدينية والفلسفية بجانب بعضها البعض في بروكسل تشير إلى أن الطريقة التي ينظر فيها إلى العلمانية تظل كتصور فلسفي معين (الفكر الحر أو النزعات الإنسانية الإلحادية) والتي تقف بجانب وجهات النظر الدينية نحو العالم وليس كإيديولوجية عليا تشمل جميع الأديان (كما لدينا في النموذج البلجيكي ـ الهولندي الذي يبني أركاناً تشمل العلمانية كشريحة من المجتمع بجانب شرائح دينية مختلفة). تمثل مؤسسات مثل الرابطة الإنسانية الأوروبية المعتقدات غير الدينية. من خلال الفصل بين هذين الوجهين من العلمانية يمكن لعملية التحول الأوروبي أن تهمش النموذج الفرنسي من اللائكية إذا ظل هذا النموذج جامداً كما هو اليوم ـ ولكن لا يبدو أن هذا النموذج سيظل جامداً. بينما يدرج البناء الأوروبي النموذج الفرنسي ويحوله إلى مؤسسات من خلال سن القوانين والعلمنة فإن هذا البناء أيضاً يساهم في بروز الاعتراف بالتيار العلماني الإنساني كبديل محدد للأديان المختلفة. في بعض أوجه عملية التحول الأوروبي تقوم هذه العملية بتعزيز التصور البلجيكي للعلمانية كخيار فلسفي محدد وهكذا ومن بعض الوجوه فإن النموذج البلجيكي هو الذي ينتشر على المستوى الأوروبي. ورغم عودة الحياة لبعض التيارات اللائكية الفرنسية التي لا تثق في الأديان من وقت إلى آخر وخاصة كردة فعل على المشاكل الطائفية والإسلام لكن الممارسات الفرنسية تصبح أكثر «أوروبية» من خلال التطور نحو العلمانية التي تشكل الاعتراف الاجتماعي بالأديان[20].
في هذا العصر المفرط في حداثته لم يعد الأمر يتعلق بصدام مباشر بين السلطات الدينية والعلمانية في المجتمع بل إعادة تموضع المجالات السياسية والدينية في مجتمع مصاب بـ«خيبة الأمل». يتكلم يورغن هابرماس من ناحيته عن «العلمنة في مجتمع ما بعد علماني»؛ علينا هنا أن نسأل أنفسنا [21] عما يحدث مع الدين في مجتمعات أوروبا ما بعد المسيحية ومع القناعات العلمانية في المجتمعات ما بعد العلمانية. الديني والعلماني كلاهما يتحركان اليوم ومن الضروري الآن أكثر من أي وقت مضى أن نكسر وهم وجود خط لا يمكن اختراقه بينهما. تدعونا العلمانية المفرطة في المجتمع المعاصر إلى إعادة التقويم لدور القناعات الدينية ومصادرها حتى لو كنا نتمسك بأن المنافع الأساسية في العلمانية هي الصالح العام والخير المشترك بين جميع المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء. من وجهة النظر هذه تبدو وجهات النظر الدينية والعلمانية نحو العالم كمصادر للقناعة والهوية والأخلاق يجب الاعتراف بدورها في توسعة مجال العيش المشترك.
[1][*] ـ مدير الأبحاث في المدرسة العلمية للدراسات العليا في باريس.
العنوان الأصلي للبحث:
Secularism at the European level: A struggle between non ـ religious and religious worldviews, or neutrality towards secular and religious beliefs?
ـ تعريب: ألبير شاهين.
[2] ـ José Louis Wolfs, Samira El Boudamoussi, Lota de Coster, Dorothée Baillet de l’ULB, «Comment le concept de «laïcité» est ـ il compris et interprété en dehors de la francophonie ?», in Education, religion et Laïcité. Tome 1/ Des concepts aux pratiques. Enjeux d’hier et d’aujourd’hui coordonné par Abdel Rahamane Baba ـ Moussa, Education comparée vol. 61, 2007, Association Francophone d’Education Comparée, pp. 98113.
[3] ـ Jean ـ Marc Ferry, «Les Lumières : un projet contemporain ?» in Esprit, Août ـ Septembre 2009, no. 89, p. 164
[4] ـ «The paradoxes of Laïcité in France» in The Centrality of Religion in Social Life. Essays in
Honour of James A. Beckford (Edited by Eileen Barker), Aldershot, Ashgate, 2008, pp. 4154.
[5] ـ Rik Torfs, «Eglise, Etat et laïcité en Belgique. Remarques introductives», in Le financement des cultes et de la laïcité : comparaison internationale et perspectives (edited by Jean ـ François Husson), Namur, les editions namuroises, 2005, pp. 1617.
[6] ـ Geert Bourgeois, Toespraak van Viceminister ـ president en Vlaams minister van Bestuurszaken, Binnenlands Bestuur, Inburgering, Toerisme en Vlaamse Rand, Gent, dinsdag 9 maart 2010, p. 11.
[7] ـ Claude Javeau, «La laïcité ecclésialisée en Belgique», in Des maîtres et des dieux. Ecoles et religions en Europe (edited by Jean ـ Paul Willaime with the collaboration of Séverine Mathieu), Paris, Belin, 2005.
[8] ـ Jean ـ François Husson, Caroline Sägesser, La reconnaissance et le financement de la laïcité (II), Centre de recherche et d’information socio ـ politiques, Courrier hebdomadaire 2002, no. 1760, p.36.
[9] ـ يقدم هذا المنشور في نهايته ستة عناوين للتربية الأخلاقية في: الأخلاقيات غير الدينية (مركز العمل اللائكي)، الدين الكاثوليكي، الدين اليهودي، الدين البروتستنتي، الدين الإسلامي، الدين المسيحي الأرثوذكسي.
[10] ـ Jean ـ François Husson, Caroline Sägesser, La reconnaissance et le financement de la laïcité (II), Centre de recherche et d’information socio ـ politiques, Courrier hebdomadaire 2002, no. 1760, p.50.
[11]ـ أنظر دراستنا:
“European Integration, Laïcité and Religion”, in Religion, Politics and Law in the European Union (Edited by Lucian N. Leustean and John T.S. Madeley), London and New York, Routledge, 2010, pp. 1729. See also our publication Le retour du religieux dans la sphère publique. Vers une laïcité de reconnaissance et de dialogue, Lyon, Editions Olivétan, 2008.
[12]ـ ولذلك فإن التحدث عن النزعة الإنسانية اللائكية (humanisme laïque) في اللغة الفرنسية له ميزة أنه يشمل النزعات الإنسانية العلمانية والنزعات الإنسانية الدينية إذ تعتبر أن التصورات العلمانية للإنسان والعالم تمثل ـ باَلإضافة إلى نظيراتها الدينية ـ واحدة من الكثير من وجهات النظر نحو العالم. وكذلك فلها ميزة أنها توازي التصورات الأنجلو ـ ساكسونية والتي تعرف أصحاب وجهات النظر العلمانية نحو العالم على أنهم أصحاب نزعة إنسانية علمانية. أصر هنا على أن العلمانية كلائكية ليست ميزة حصرية للعلمانيين ولا يجب أن تتماهى مع جانب واحد هو وجهات النظر العلمانية نحو العالم بل هي صالح مشترك لكل من المؤمنين والملحدين وهي بطبيعتها ليست ضد الدين ولا معه.
[13] ـ Hubert Dethier, «Libre pensée, francـmaçonnerie et mouvements laïques», in La Belgique et ses dieux.Eglises, mouvements religieux et laïques (edited by Liliane Voyé, Karel Dobbelaere, Jean Remy, Jaak Billiet), LouvainـlaـNeuve, Cabay, Recherches sociologiques, 1985, p. 31.
[14]ـ نحن مدينون في النقاط التي سنأخذها بعين الاعتبار من الآن فصاعداً للدراسة التالية:
Philippe Portier’s study: «La critique contemporaine du religieux. Essai d’interprétation», in La liberté de critique (edited by Danielle Corrignan-Carsin), Paris, LexisNexis, Litec, 2007, pp. 141 - 146.
[15]- Philippe Portier, art. cit., p. 151 - 152.
[16] ـ François Boespflug, op.cit., p. 190.
[17] ـ Cf. Patrice Rolland, «La liberté d’expression. Sectes, liberté de religion et liberté d’expression (arrêt Paturel du 22 décembre 2005», in La France et la Cour Européenne des Droits de l’Homme. La jurisprudence en 2005. Présentation, commentaires et débats, Bruxelles, Bruylant, 2006 (Cahiers du CREDHO n°12/2006), p. 133.
[18] ـ François Boespflug, op.cit., p. 192.
هذا الكاتب ذكرّ كذلك أن الصحيفة الدانماركية التي نشرت الصور المسيئة للنبي محمدs قد فعلت ذلك «لاختبار حرية التعبير في الدانمارك»ص12 .
[19] ـ Grace Davie, Europe: The Exceptional Case. Parameters of Faith in the Modern World, London, Darton,Longman and Todd Ltd., 2002, p. 161.
[20] ـ للمزيد أنظر إلى دراستنا:
1905 et la pratique d’une laïcité de reconnaissance sociale des religions», Archives de Sciences Sociales des Religions no. 129, janvier-mars 2005, pp. 67-82.
وأيضاً:
Le retour du religieux dans la sphère publique. Vers une laïcité de reconnaissance et de dialogue,
Lyon, Editions Olivétan, 2008
أنظر أيضاً:
Philippe Portier: ـ «De la séparation à la reconnaissance. L’évolution du régime français de laïcité», in Les mutations contemporaines du religieux, by Jean ـ Robert Armogathe and Jean ـ Paul Willaime (eds.), pub. by Turnhout Brepols, 2003, pp.124; «Laïcité : la fin de l’exception française ?», in L’identité nationale, Cahiers Français (La Documentation Française), no. 342, January ـ February 2008, pp. 5357.
[21] ـJürgen Habermas, Glauben und Wisssen (Friedenspreis des Deutschen Buchhandels 2001), Frankfurt am
Main, Suhrkamp, 2001, p. 12.