البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حكاية العلمانية - الجذور التاريخية والتحديات

الباحث :  لوران غريزون Laurent Grison
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  2
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 27 / 2015
عدد زيارات البحث :  1851
تحميل  ( 314.164 KB )
حكاية العلمانيّة
الجذور التاريخيّة والتحدّيات
لوران غريزون [1] Laurent Grison[*]
يسعى هذا المقال إلى فتح الباب للتأمل حول موضوع ليس بالسهل الدخول إليه من دون توخّي الدّقة والموضوعية. والحديث عن حكاية العلمانية كنشأة وتطوّر وظروف مكانية، هو حديث يرتبط بتاريخ أوروبا ارتباطاً وثيقاً وبتاريخ فرنسا على وجه التخصيص.
كانت العلمانية ولا تزال مفهوماً سياسياً واجتماعياً بامتياز، إن من حيث الغايات أو من حيث التطبيق. يكفي التوقف عند التاريخ السياسي والاجتماعي الحديث لمعرفة مدى حضور مسألة العلمانية وتحدياتها، وهو ما يتناوله هذا المقال.
في ما يلي تأصيل للمصطلح من خلال إجابة الباحث الفرنسي لوران غريزون على مجموعة من الإشكاليات النظرية والتطبيقية المتصلة به، استناداً إلى التجربة التاريخية للعلمانيّة في جغرافيات النشأة والتطوّر.
المحرر
1ـ علمانية، علماني،... العبارات ومعانيها
لم يظهر مصطلح العلمانية ضمن مفردات اللغة الفرنسية إلا قرابة العام 1870، ولم يدرج في المعجم إلا بعد سنة من ذلك التاريخ. من الواضح بأن نشوء مصطلح العلمانية وتطوّره على صلة وثيقة بالمفهوم الذي يعبّر عنه، وذلك في سياق الظروف الخاصة التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تشكّلت كلمة «علمانية» انطلاقاً من الصفة «علماني» والتي تتعلّق بمبدأ فصل المجتمع المدني عن المجتمع الديني، أي بعبارة أخرى، رفض اعتماد السلطات الدينية كمرجع في دولة «تضمن حرية الاعتقاد»، وهو ما يشكل روح قانون العام 1905 الذي سنعود إليه لاحقاً.
قد يبدو مفيداً التوقف عند كلمة «علماني» (laïque) المستخدمة بشكل شائع في اللغة الفرنسية في مقابل كلمة «ديني» (religieux). فهي منذ العام 1905 مرادف لكلمة «لاطائفي»، لا بل لعبارة «المعادي لرجال الدين». الكلمة مشتقة من اليونانية laikos، أي «ما يخص الشعب»، وهو مصطلح انتقاه المسيحيون الأوائل للإشارة إلى أي فرد من عامّة الطائفة المسيحية، على عكس ما تعنيه كلمة klêros أو رجل الدين، أي الذي أوكل إليه موقع مسؤولية. العلماني، بالمعنى الحرفي للكلمة، هو ذلك المسيحي الذي ليس كاهناً، ولا شمّاساً، ولا مطراناً. من هنا يأتي استخدام لفظ علماني (laïque) بشكل منهجي للإشارة إلى العناصر المرتبطة بالعلمانية. في السياق عينه، ظهر مصطلح laïcardsفي مطلع هذا القرن للإشارة بشكل ازدرائي إلى المناصرين المتعصّبين لقضية المدرسة العلمانية الجمهورية. وفق نموذج تطوّر مماثل، عكس مصطلح «العلمانية»، مع ظهوره في منتصف القرن التاسع عشر، تعاظم دور العلمانيين (المسيحيون غير المرتسمين) في حياة الكنيسة، لكن ابتداءً من ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفي إطار تجاذبات شرسة بين مناصري رجال الدين والمناهضين لهم، أمسى المصطلح عقيدة من يناصرون علمانية المؤسسات. وهكذا بات يقصد بـ«العلمنة»، بالمعنى اللاطائفي لكلمة «علماني»، إلغاء أي سلطة دينية. يتضح إذن، بعد هذه الجولة السريعة على المفردات، بأن هذا المقال يستخدم عبارتي «علماني» و«علمانية» بالمعنى الذي أعطي لهما منذ القرن التاسع عشر في الدولة الجمهورية.
من المسلّمات التي يطرحها مبدأ العلمانية أن الإنسان هو في الأساس كائن حر يستطيع أن يتمتع بحريّته بفضل عقله وروحه النقدية. أمّا على المستوى السياسي، فتشدد العلمانية على أن بناء «المدينة» يجب أن يقوم على العقل، وبالتالي، ليس على الأديان التي تتخذ الإيمان عماداً لها (الإيمان الفردي بوجه خاص) والتي ليس من المفترض أن تؤسس للحياة الجماعية. من هذا المنطلق، يبدو مبدأ العلمانية مرتبطاً بشكل من أشكال الفلسفة. لا نعتزم بالتالي البحث عميقاً في تاريخ الأفكار أو تطوّر المسيحية في أوروبا وفرنسا عن أصول مبدأ العلمانية المفترضة، الحقيقية منها أو المزعومة. فقد أخذ بعض الكتّاب هذا الأمر على عاتقهم بدرجة متفاوتة من الرضى. مع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن مبدأ العلمانية يدين إلى حد كبير، لناحية أسسه الفكرية، إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية.
-2 تأثير عصر التنوير والثورة
بدأت الفكرة التي تتحدث عن تقدم مستمر وحتمي للبشرية والتي انبعثت من تقدم العلوم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بالترسّخ شيئاً فشيئاً. كذلك انتشرت الفكرة القائلة إن الإنجازات البشرية تتم بفضل الإنسان نفسه وليس بفضل الله. من هنا، كانت العلاقات التقليدية بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية والتي سادت في فرنسا لقرون من الزمن موضع ارتياب. لا شك في أن فكرة فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، والسلطة المدنية عن السلطة الدينية، قديمة العهد، لكنها تسلّحت، مع ظهور فلسفة عصر التنوير، بمجموعة من الأفكار الجديدة التي نقلت بقناعة عبر فرنسا وأوروبا. في هذا الإطار، كان لجان جاك روسو (1712-1778)، ولا سيما كتابه «العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي» (Du Contrat social ou Les Principes du droit politique) الذي نشر في العام 1762، تأثير قوي. لقد أراد من خلال مفهومه حول «الدين المدني» المصالحة بين التسامح الديني الذي يفترض احتمال تعايش عقائد عدّة، وضرورة للحفاظ على العقائد الأساسية التي تضمن ديمومة نظام أخلاقي مشترك في المدينة والطبيعة «المقدّسة» للنظام الاجتماعي.
تأصلّت الرغبة في فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية خلال الثورة الفرنسية، إذ نصّت المادة العاشرة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن في العام 1789 بأنه «لا يجوز التعرّض لأحد بسبب آرائه، حتّى الدينية منها، طالما أن التعبير عنها لا يخل بالنظام الذي فرضه القانون». فالتأكيد على الحرية الدينية وعلى حرية الاعتقاد يمس بشكل مباشر بالعقيدة وبالسلطة الكلية للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا. مع ذلك، تبقى، في نظر غالبية المفكّرين، ضرورة الحفاظ على دين مدني يكون منبعاً للآداب. وكانت الكنيسة الكاثوليكية نفسها، بشكلها الحديث، أول المضطلعين بهذا الدور في إطار الدستور المدني لرجال الدين في العام 1790. وهذا السعي وراء «دين مدني» حمل الثوريين على ابتكار، اعتباراً من العام 1793، على ابتكار عبادات جديدة مثل «عبادة الكائن الأسمى» التي أوجدها روبسبير في أوج فترة إبطال المسيحية. فرصدت إجراءات تصب في خانة العلمانية، بالمعنى المحدد لها مسبقاً مثل إقامة الدولة المدنية في العام 1792، وظهور رزنامة غير دينية، ألا وهي الرزنامة الجمهورية. بطبيعة الحال، لم يكن من السهل فرض هذه الابتكارات، لكن الفكرة بدأت تزداد انتشاراً إلى حد فقدت معه الكنيسة، بكيانها المؤسساتي والاجتماعي، سلطتها في إدارة المدينة.
يقتضي في هذه المرحلة من بحثنا هذا التنويه بأهمية الماركيز دو كوندورسيه (1743-1794)، رجل عصر التنوير، الذي طبعت أفكاره التأملات حول المدارس والعلمانية. عرض كوندورسيه، في نص قدمه للمؤتمر التأسيسي في السنة الثانية لقيام الجمهورية (20 و21 نيسان 1792)، بعنوان «تقرير ومشروع قانون حول التنظيم العام للتعليم العام»، مفهومه المبتكر عن التعليم، إذ شدّد على «الضرورة الملحة لفصل النظام الأخلاقي عن مبادئ أي دين، وعدم إدراج تعاليم أي دين في المنهاج التعليمي العام.
فكل يجب أن يتلقى تعليمه في المعبد على يد رجال الدين التابع لهم. يمكن للأهل، بغض النظر عمّا يؤمنون به، وبغض النظر عمّا يعتقدونه بشأن ضرورة هذا الدين أو ذاك، وبلا بغض، إرسال أولادهم إلى مؤسسات التعليم الوطنية، من دون أن تستأثر السلطة العامة بحقوق الاعتقاد بحجة تنويره وتوجيهه». وهكذا عرض دو كوندورسيه بوضوح فرضية نظام تربوي منعزل عن أي تأثير ديني. لكن هذا التقرير الذي أقرته السلطة التشريعية رفضه المؤتمر ولم يوضع أبداً قيد التطبيق. مع ذلك، برز التأثير الكبير لأفكار كوندورسيه (لا سيما نشرته التمهيدية لجدول تاريخي بمراحل تقدم العقل البشري والمؤرخة في العام 1794) على مدى القرن التاسع عشر وشكّل إلهاماً لأتباع العلمانية المطبقة في المدارس خلال النصف الثاني من ذلك القرن.
-3 الاتفاقية البابوية
جرت المصادقة على الاتفاقية البابوية أو الكونكوردات التي عقدت عام 1801 (في 26 ميسيدور، شهر الغلال أو الشهر العاشر، من السنة التاسعة بحسب التقويم الجمهوري الفرنسي) بين نابليون بونابارت والحبر الأعظم، البابا بيوس السابع، وذلك بموجب القانون تاريخ 13 جرمينال، شهر الإنبات أو الشهر السابع، من السنة العاشرة. أنشأت هذه الاتفاقية نظاماً من «الطوائف المعترف بها» والتي تم التعامل معها قانوناً على قدم المساواة، وهي الكاثوليكية، والبروتستانتية، ولاحقاً اليهودية. وبذلك تم الحفاظ نظرياً على حريتي الاعتقاد والعبادة، فضلاً عن الدولة المدنية. كان دور هذه الطوائف المعترف بها توفير قاعدة من الآداب الاجتماعية في إطار شكل من أشكال «الدين المدني» هنا أيضاً. كان يراد بهذه الاتفاقية أن تكون مصدراً للتوازن بين الكنائس والدولة التي تتحكم بالطوائف وبعملها. شكّلالنظام القائم على الكونكوردات، ثمرة مخيّلة بونابارت ومستشاره بورتالي، مرحلة مهمّة على طريق العلمانية. فكانت تلك «أوّل علمنة» فعلية في المجتمع.
فرض استعادة آل بوربون الحكم (1815-1830)، من دون تكرار تعددية الطوائف وإنما عبر إقامة نظام رقابة في غاية الصرامة، الكاثوليكية كديانة رسمية، في تحالف جديد بين العرش والمذبح، مما جعل حال فرنسا أقرب إلى الدول الأوروبية المجاورة لها. اقترح مجلس النواب الملكيين حينها، بتحريض من هؤلاء، في العام 1824، «إلغاء قوانين الثورة الكافرة» و»معاقبة التدنيس».
في العام 1825، أكّد شارل الخامس رغبته في طرح «تحسينات تفرضها مصلحة الدين المقدّسة» وشدد على أنه يطمح إلى «إعداد الوسائل لدمل آخر جراح الثورة». كان رجال الدين يتمتعون آنذاك بسلطة عظيمة، لا سيما على المدارس في إطار التعليم الرسمي. فانشغلت الأقسام الإدارية للجامعة، ومن ثم للتعليم الرسمي، عندما تمّ إنشاء وزارة الشؤون الكنسية والتعليم العام وإيكالها إلى المطران فرايسينو، إلى حد كبير بالدعاية السياسية التي راحت تعظ بالواجبات تجاه الله والملك.
أمّا بعد ثورة عام 1830، وفي ظل ملكية يوليو، فقد سنّ قانون غيزو حول التعليم الابتدائي، والذي صدر في حزيران 1833، كمبدأ يلزم السلطات الرسمية بتوفير التعليم الابتدائي. وللمرّة الأولى، ترتَّب على البلديات الفرنسية مسؤولية العناية بالأساتذة والمدارس. لا بد من الإشارة إلى أن هذا القانون لم ينص على أي تعليم مجاني أو إلزامي. فكان للمجالس البلدية حرّية الاستعانة بعلمانيين وكنسيين على حد سواء مما أشعل خلافات حادة بين الموالين لـ»إخوة المدارس المسيحية» والمناهضين لهم. وعلى الرغم من أن هذا القانون قد ساعد في نشر التعليم العام، إلا أنه سمح أيضاً وبالأخص للكنيسة الكاثوليكية بإدارة نظام التعليم المدرسي في فرنسا من جديد وعلى نطاق واسع من خلال الجمعيات الدينية.
في العام 1850، عاد الدين والسياسة ليتداخلا من جديد عندما تمّ التصويت على قانون فالو حول حرية التعليم. نصّ هذا القانون، الذي لاقى استحسان اللجنة الكاثوليكية، على ما ينشده رجال الدين من احتمال فتح مدرسة بكل حرية، مفسّراً مبدأ حرية التعليم المعترف به في دستور العام 1848 بشكل يرضي رجال الدين. وهكذا باتت الكنيسة، في نظر رجال الدين وشريحة كبرى من البورجوازيين، حصن النظام الاجتماعي في وجه الاشتراكيين و»عملائهم المعادين للكهنوتية».
في عهد الإمبراطورية الثانية، أدّت القيود المفروضة على حرية التعبير والتأثير المتصاعد للكاثولكيين على نابليون الثالث إلى تعزيز سلطة الكنيسة. من العام 1863 إلى العام 1869، أجرى فيكتور دوروي، بينما كان يتبوأ منصب وزير التعليم العام، إصلاحات مهمّة، منها على سبيل المثال قانون العام 1867 الذي فرض على كل بلدية يزيد سكّانها عن الـ500 استقبال مدرسة للفتيات ودعمها، ولو أن هذا القانون لم يشكك في سلطة الأساقفة في وقت كانت فيه الجمعيات الدينية تتنامى و«التعليم الحر» يزدهر.
بناء دولة علمانية
-1 علمانية مناضلة
خلال القرن التاسع عشر، لم يكن هناك فرنسا واحدة، بل اثنتان متضادتان فضلاً عن قيام نظامي قيم متعارضين: أحدهما متوارث من نظام الحكم القديم الذي كان يولي الكنيسة الكاثوليكية دوراً متميّزاً، والآخر يقوم على المبادئ الليبرالية النابعة من فلسفة عصر التنوير والثورة الفرنسية. من جهته، أدان المؤرّخ جول ميشليه (1798-1874)، وهو من المبشّرين التابعين للمدرسة الرومنطيقية بالجمهورية، ـ منذ العام 1838 الكنيسة الرومانية ولا سيما الرهبنة اليسوعية. في الدروس التي كان يعطيها في مدرسة «كوليج دو فرانس»، بينما أكّد، في كتابه «تاريخ الثورة» (Histoire de la révolution) (1852-1853)، بأن الثورة الفرنسية ساعدت على إرساء مبدأ جديد جوهري، وهو مبدأ «الكنيسة الجمهورية»، الذي يردد صدى مفهوم روسو عن «الدين المدني». لقد كان تأثير ميشليه عميقاً في الجيل الذي شارك في الأحداث الثورية في العام 1848 وأعرب عن رفضه لاحقاً للامبراطورية. واعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، بدأت تنشط حركة معادية لرجال الدين ترى ضرورة محو الأديان من أجل التحرّر فكرياً، وترفض كل سلطة تابعة للكنيسة الكاثوليكية، وتطالب بعلمنة فعلية للمجتمع الفرنسي، لا سيما على مستوى التعليم العام. ظهرت هذه الحركة كرد فعل دفاعي للفكر الليبرالي والعقلاني على نفوذ السلطات الكاثوليكية في فرنسا في ظل الإمبراطورية الثانية. ولّدت الحركة المعادية لرجال الدين موالين راديكاليين كثر للنظام الجمهوري، الذين شدّدوا، منذ الستينات، على أن حرية التفكير يجب أن تعني احتمال التفكير خارج إطار أي عقيدة دينية، رافضين حتّى فكرة قيام «دين مدني».
غالباً ما تركّزت المواجهات العقائدية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حول المدارس والمعاهد. فالتعليم، بالنسبة إلى الجمهوريين، مسألة ذات أهمية حيوية يعتمد عليها مستقبل نظام الحكم وثباته. في هذا الإطار، حاولت الجمهورية الثالثة، وبكل اقتناع، علمنة المجتمع وتنظيم التعليم وفق أسس جديدة، وذلك منذ تمركز الجمهوريين بشكل نهائي في السلطة في العام 1879. فقد ترجمت الرغبة في التأسيس للحريات وللجمهورية إلى نضال ضد السلطة الكنسية مع إبقاء فرنسا مطبوعة بالكاثوليكية. في هذا السياق، كانت العلمانية وسيلةً وهدفاً في آن معاً، على أن الهدف كان تأكيد العلمانية وإيجاد الوسائل لممارستها. كان لا بد لنظام أخلاقي علماني، في نظر الجمهوريين، أن يصبح من القيم المشتركة التي تؤكد على الترابط الاجتماعي، مما يجعل مبدأ العلمانية وثيق الصلة بالرفض الضمني لـ«دين علماني». لا شك في أن تلك المرحلة من التاريخ الفرنسي شكّلت أساس العلمانية الحديثة.
بدأ المجتمع الفرنسي، في بضع سنوات، وعلى حساب الصراعات والتجاذبات، يسير في ركب العلمانية تدريجياً بفضل جهاز تشريعي فعّال ومتكامل. وفي خلال خمسة وعشرين عاماً، من العام 1879 إلى العام 1905، تغيّر وجه فرنسا بشكل جذري بفضل سلسلة من «القوانين العلمانية». برزت حينها ثلاث مجموعات كبرى من القوانين ضمن الإجراءات المتنوّعة التي تم اتخاذها: الأولى عنيت بالجمعيات الدينية بحيث منعت أتباع هذه الأخيرة من التعليم؛ والثانية نصّت على مجانية التعليم الابتدائي، وعلمانيته، وإلزاميته؛ والثالثة أقرّت، في العام 1905، فصل الكنيسة عن الدولة.
-2 العلمانية والجمهورية الثالثة
أصبح التعليم الابتدائي، بموجب قانون 28 آذار 1882، مجانياً، وإلزامياً، وعلمانياً. فتمّت علمنة المناهج التي أبدلت «التعليم الأخلاقي والديني» بـ»التعليم الأخلاقي والمدني». فلم يعد الدين يدرّس في المدارس، إنما نصّت المادة الثانية من ذلك القانون على يوم عطلة لكي يتسنى للأهل إرسال أولادهم إلى الكنيسة لتلقي تعاليمها، في حال رغبوا في ذلك. أمّا قانون 30 تشرين الأول 1886، فقد عمل على علمنة الهيئة التعليمية في المرحلة الابتدائية مع الإبقاء على حرية التعليم[2]. وجاء مبدأ «حيادية التعليم العام» (الحيادية الطائفية وغير السياسية) ليتمّم مبدأ العلمانية. فتم التطرّق إليه في قراءتين مختلفتين بعض الشيء: قراءة فرديناند بويسون وقراءة جول فيري. بحسب فرديناند بويسون، أحد الراديكاليين، «المدرسة العلمانية ليست بلا اسم أو صفة؛ إذ يجب الاختيار: إما المدرسة العقلانية أو المدرسة الدينية. خياران لا ثالث لهما.»
كان بويسون مختصاً في مجال التعليم، ومستشاراً لـ "جول فيري حين كان وزيراً للتعليم العام، ومن كبار المعجبين بالاتفاقية البابوية، وقد اضطلع بدور مهم جدّاً في كتابةالقوانين المدرسية وسنّها.هذا وقد طرح جول فيري (1832-1893) فرضية «حيادية» أكثر مرونة وأكثر تساهلاً. لعب فيري، الذي كان من الجمهوريين الوضعيين والمعادين لرجال الدين، والذي عيّن وزيراً للتعليم العام (شباط 1879- تشرين الثاني 1881؛ كانون الثاني- آب 1882؛ شباط- تشرين الثاني 1883) ورئيساً لمجلس الوزراء (أيلول 1880-تشرين الثاني 1881؛ شباط 1883- آذار 1885)، دوراً جوهرياً في الثمانينيات لا يخفى على أحد. فقد ساهم بفعالية في تطبيق الحريات العامّة الأساسية (حرية التجمع، وحرية الصحافة، والحرية النقابية)، وشجّع على تبنّي أهم الإصلاحات في مجال التعليم العام، والمتمثلة في تعليم ابتدائي علماني، ومجاني، وإلزامي. إلى ذلك، جاءت نتائج تحرّكات فيري حاسمة، إذ خاطب الأساتذة عام 1883 بالقول: «تكلَّموا بقوة وحزم في كل مرّة تتحدثون فيها عن حقيقة لا تقبل الجدل، عن مبدأ أخلاقي عام؛ وبأقصى قدر من التحفظ عند التعرّض بشكل سطحي لشعور ديني لستم مخوّلين الحكم عليه». مع ذلك، على ما يبدو، رأى جول فيري بوضوح في العلمانية المطروحة بشكل معتدل نسبياً فرصة أكبر بأن تشكّل النظام المعتمد بشكل دائم في فرنسا في عصر كان يشهد تجاذبات حادّة بين الجمهورية والكنيسة الكاثوليكية المعارضة لهذه الأخيرة. يمثل ذلك برأينا حيطة ـ وسيقول البعض «انتهازية»- أكثر منه تفسيراً متعنتاً.
يعتبر قانون 9 كانون الأول 1905، الذي وضعه إميل كومب، من النصوص الجوهرية والضرورية. فقد شكّل ثمرة التحرّكات التي قام بها الجمهوريون منذ العام 1879. جاء ذلك القانون أيضاً ليعبّر عن «علمانية مناضلة» تمخضت عن تطور الفكر العلماني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بالنتيجة، تم فصل الكنائس، التي هي عبارة عن تنظيمات مشتركة لمن يتشاطرون الدين نفسه، عن الدولة، المؤسسة التي تدير حياة الجميع. وبموجب أحكام هذا القانون، تحققت سلطة علمانية منعت الدوائر الرسمية في الدولة من التحلّي بأي طابع ديني، مما أدى إلى ترسيخ العلمانية كمبدأ تأسيسي يشكل جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية.
3ـ فصل الكنيسة عن الدولة
كان إميل كومب (1835-1921)، أحد دكاترة اللاهوت الذي تحوّل مناصراً للراديكالية، (رئيس مجلس الشيوخ في العام 1894-1895، ووزيراً للتعليم العام في العام 1895-1896 {حكومة ل. بورجوا)، ومن ثم رئيساً لمجلس الوزراء بعد والديك روسو (1902-1905)}. اتّبع سياسة شديدة العداء للإكليروس في مواجهة مكانة الجمعيات الدينية وشريحة من الكاثوليكيين الفرنسيين بالرغم من «اتحاد الكنيسة» مع الجمهورية في مطلع التسعينيات. فمن خلال تفسير مقيّد جدّاً لقانون العام 1901 حول الجمعيات، استطاع حل عدد كبير من الجمعيات الدينية، وأحياناً بالقوة. هذا وتم تحريم التعليم في العام 1904 على جميع أعضاء الجمعيات الدينية حتى تلك المجازة. وفي تموز 1904، أُغلقت ألفا مدرسة، وفي السنة نفسها، تم قطع العلاقات الديبلوماسية مع الكرسي الرسولي. طرح في ذلك العام أيضاً مشروع قانون لفصل الكنيسة عن الدولة، وذلك قبل فترة وجيزة من استقالة كومب في العام 1905 بسبب فضيحة ترقية ضباط على أساس آرائهم السياسية والدينية. من ناحيته، صوّت موريس روفييه (1842-1911)، الذي خلفه في رئاسة المجلس (كانون الثاني 1905- آذار 1906)، على قانون فصل الكنيسة عن الدولة بدعم من أريستيد بريان، مقرر اللجنة المختصّة في مجلس النواب. أراد واضعو القانون من ذلك تأكيد علمانية الدولة بشكل قاطع، فضلاً عن إقامة «السلام الديني» مع استقلالية الدين عن السياسة.
ينادي قانون 9 كانون الثاني 1905، الذي يعتبر من دون شك عملاً أحادي الجانب من السلطة العامة وليس عقداً، باحترام حريّة الاعتقاد. وقد اعتُبرت حرية ممارسة المعتقدات مكفولة، من دون أن تفضل الجمهورية أو تؤيد معتقد دون الآخر. إلى ذلك، تحتم تفويض الجمعيات الدينية بإدارة ممتلكات الكنيسة بعد جردها. وقد صادق البروتستانت واليهود على هذا القانون، إلاّ أنّ البابا بيوس العاشر (1903-1914) أدانه في رسالته البابوية بعنوان «Vehementer Nos» الصادرة بتاريخ 11 شباط 1906 بعد أن منع المؤمنين من إنشاء جمعيات دينية. فقد أثارت الجردات، التي صوّرتها الصحافة الكاثوليكية على أنها شكل من أشكال «المصادرة»، موجةً من الأحداث العنيفة في باريس، وفي الغرب، والشمال، والهضبة الوسطى. أما قانون العام 1905 الذي شهد إدانة واسعة من قبل الكاثوليك، فقد حظي بمصادقة أقلية منهم تعتقد، على غرار المراجع البروتستانتية واليهودية، بأنّ فصل السلطة المدنية قد يعبّر عن شكل من أشكال الحرية، وقد يحتاج برأيهم إلى نهضة جديدة.
شكّل هذا القانون تغيراً ملحوظاً في ما يتعلق بالمكانة الرفيعة التي لطالما تبوأتها الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، ووضع حداً لأحد العناصر الأساسية للعرف الملكي الفرنسي الذي سمح للدولة لفترة طويلة بفرض نفسها على المؤسسات الدينية، وخير مثال على ذلك غاليكانية (Gallicanisme) لويس الرابع عشر. نذكر بإيجاز أنّ منطقة الألزاس-موزيل التي لم تكن تنتمي إلى فرنسا في العام 1905، لا تعرف النظام القانوني العلماني للفصل بين الكنيسة والدولة. وقد احتلّ قانون العام 1905 الذي شكّل تكريس العلمانية في فرنسا مكانة أساسية في القانون العام لدينا، وحتى يومنا هذا.
ينصّ دستور الجمهورية الرابعة في ديباجته الصادرة في 27 تشرين الأول 1946 على أنّ «تنظيم التعليم العام المجاني والعلماني على جميع المستويات، هو من واجبات الدولة». إلى ذلك، يضمن دستور 4 تشرين الأول 1958، في المادة الثانية منه، أنّ: «فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة، وعلمانية، وديمقراطية، واجتماعية». أما دستورا العامين 1946 و1958 فيشيران إلى مبادئ الثورة الفرنسية للعام 1789، واصفين فرنسا بـ«الجمهورية العلمانية»، بحسب قانون الفصل الصادر للعام 1905.
ينص بالتالي القانون الفرنسي بوضوح شديد على العلمانية حتى لو كانت الأعياد الكاثوليكية الرئيسة مدرجة في تقويمنا، وبعض الاحتفالات الدينية ترتبط أحياناً ارتباطاً وثيقاً بالمدنية، وهذا ما تبيّن خلال جنازة فرانسوا ميتران. «لقد أرست العلمانية السلم الأهلي باعتبارها أتت نتيجة صراع». يمكن وصف العلمانية ما بعد الحرب بـ»العلمانية المفتوحة»، ما حتّم توليد حوار، ونهج متعدد الأوجه، ورغبة مشتركة في التوصل إلى اتفاق حول قواعد تنفيذ مبدأ العلمانية، فضلاً عن تطوره العميق. وبالرغم من وجود إجماع، بالنظر إلى أن مبدأ العلمانية لا يستبعد وجود «التعليم الخاص»، استمرت النقاشات والتجاذبات، من العام 1945 وحتى اليوم، لا سيما حول قطاع المدارس.
مشاكل وتحديات العلمانية الأخيرة
-1 مسألة التعليم الخاص
اعتُبرت حرية التعليم منذ العام 1945 مطلقة، إنما مورست في ظل ظروف محددة، حيث تعيّن على الدولة أن تضمن انسجام التعليم مع الآداب والدستور والقوانين، أي ما تتمتع به من حق في مراقبة المدارس الخاصة. لا تزال العلمانية، منذ العام 1945 وحتى اليوم، محط جدل حول وضع المدارس الخاصة التي تكون عادة طائفية وكاثوليكبة بشكل خاص. يأخذ هذا الجدل مراراً وتكراراً طابع «الشجار المدرسي».
لنسلّط الضوء على ثلاث مراحل رئيسة. عرّف قانون ديبريه الصادر بتاريخ 31 كانون الأول 1959 في بداية الجمهورية الخامسة العلاقات التي تربط الدولة بالتعليم الخاص ضمن إطار تعاقدي. برزت في هذا السياق ثلاثة أنواع من العلاقات: المدارس الخاصة غير المتعاقدة مع الدولة والتي تستمر في عملها كما في السابق؛ والمدارس التي تطالب بالتعاقد والتي يمكنها، بموجب المادة الثالثة، الاندماج بصورة تلقائية في التعليم الحكومي. أما النوع الأخير فهو المؤسسات التي تطلب التعاقد مع الدولة.
كان على هذه المدارس قبول الشروط المطلوبة عموماً من جميع المؤسسات الرسمية أو الخاصة المرتبطة بالدولة، ألا وهي: الرقابة من جانب السلطات الرسمية، واحترام حرية الاعتقاد، وعدم التمييز بين المستخدمين. لذا، تمّ تأسيس نظام يقوم على التعاون. في هذا السياق، يؤكّد ميشال دوبريه بأن: «التعليم الخاص يمثّل أيضاً شكلاً من أشكال التعاون مع البعثة التعليمية الوطنية التي تخوّله المشاركة في إحدى الخدمات العامة. كذلك، شارك التعليم الخاص في أعمال المنفعة العامة». وقد حاول هذا القانون أن يثبت إمكان «العلمانية المفتوحة» التوفيق بين المدارس الحكومية والمدارس الخاصة والدينية، إلاّ أن ذلك ولّد معارضة حادة ومستمرة من قبل اليسار والمتمسّكين بالعلمانية.
بعد عشرين عاماً، ظهر النقاش حول العلمانية بأسلوب متحيّز في ما يتعلق بمسألة المدارس. فالبرنامج الذي أوجده فرنسوا ميتران، المنتخب رئيساً للجمهورية في العام 1981، تضمّن مشروع إنشاء «خدمة عامة كبرى موحدة وعلمانية تعمل على دمج أساتذة القطاع الخاص». أكّد مناصرو المدارس الخاصة، بدعم من اليمين والكنيسة الكاثوليكية، بأن اليسار أراد «تأميم» هذه المدارس. في العام 1982، أطلق وزير التربية والتعليم الاشتراكي، آلان سافاري، مفاوضات مع ممثلي التعليم الخاص، رافقتها احتجاجات جماهيرية مؤيدة «للمدارس الحرة»، استجابت لها احتجاجات العلمانيين، لا سيما تلك التي جرت بتاريخ 9 أيار 1982 في لو بورجيه، حيث احتفل مئتا ألف شخص بالذكرى المئوية لقوانين فيري. افتتح نقاش واسع وساخن، داخل اليسار نفسه، ما لبث أن تفاقم. وبعد إجهاض عدد من مشاريع القوانين عامي 1983 و1984، تم أخيراً إقرار قانون بتاريخ 24 أيار 1984 بعد تحمّل الحكومة مسؤوليتها. وفي 24 حزيران 1984، قام مليون شخص في باريس بمسيرة دعماً للمدارس الخاصة. وهكذا فشل مشروع «الخدمة الكبيرة العامة العلمانية» فشلاً ذريعاً.
بعد أن خفّت الحماسة، طرأ تغيير في منحى التفكير خلال السنوات التالية، لا سيما مع توقيع اتفاقيات «لان-كلوبيه» في حزيران 1992. فراحت الحكومة الاشتراكية تحلّ بعض الخلافات مع التعليم الكاثوليكي انطلاقاً من قانون دوبريه الصادر في العام 1959 من دون إثارة أي اعتراض يُذكر.
في سياق «المساكنة السياسية» الثانية في العام 1993، في ظلّ حكومة إدوار بالادور، أشعل أحد مشاريع القوانين الذي كان يهدف إلى تنقيح في المادة 69 من قانون فالو تاريخ 18 حزيران 1850، «حرب المدارس» من جديد، إذ كان يقضي بدعم المدارس الخاصة بما يتناسب مع عدد طلابها. ما يعني، بالأساس، ترك حرية الاختيار للسلطات المحلية لتحديد وسائل الدعم لاستثمار المؤسسات الخاصة بموجب عقد. شجّع مشروع القانون هذا التعليم الخاص وأرضى الناخبين الكاثوليك، وبشكل أكبر الناخبين من اليمين. في المقابل، أثار هذا المشروع إلى حد كبير استياء العلمانيين واليساريين الذين تريَّبوا أن تتم المساعدات المقدّمة إلى المؤسسات الخاصة على حساب المدارس الرسمية، حيث أن الميزانيات لم تشهد أي ارتفاع، مع ملاحظتهم غياب الضمانات الكافية.
لقد بات تنقيح قانون فالو رمزاً بالنسبة إلى النشطاء العلمانيين اليقظين الذين يقودهم حزب يساري مستنفد سياسياً يرى في الدفاع عن العلمانية عنصر مكافحة شامل. فبعد اضطرابات سياسية عدّة، أقرّ القانون بتاريخ 15 كانون الأول 1993. وفي 13 كانون الثاني 1994، أبطل المجلس الدستوري الحكم الرئيس في هذا القانون بسبب عدم احترامه المبدأ الدستوري القائل بالمساواة بين المؤسسات الرسمية والخاصة، من جهة، وبين المؤسسات الخاصة من جهة أخرى. لذلك، خرجت في باريس، بتاريخ 16 كانون الثاني 1994، تظاهرة حاشدة «ذوداً عن المدارس الرسمية»، بيّنت الإخفاق في تنقيح قانون فالو. من الواضح أنه بين العامين 1945 و1998، كانت العلاقات بين المدارس الرسمية والمدارس الخاصة قائمة على توازن سياسي أظهر هشاشة في بعض الأحيان. كانت النقاشات تجري حول النظام التعليمي وأيضاً حول موقع العلمانية في المدارس، غير أننا نؤكد على أنه بالرغم من الأزمات، تطوّرت المواقف والآراء ومختلف السياسات بشكل جذري نحو نموذج توافقي نسبياً، ألا وهو نموذج أواخر التسعينيات.
مسألة «الحجاب الإسلامي»
أحدثت مسألة «الحجاب الإسلامي»، منذ العام 1989، تغييراً في المعايير الراسخة للعلمانية، إذ حفّزت العديد من النقاشات التي أدّت لاحقاً إلى إعادة التأكيد على المبادئ الأساسية للعلمانية ولكيفية ممارستها، وتكييف جزء منها مع ظروف اجتماعية جديدة. نشب الخلاف في خريف العام 1989 عندما قررت إحدى الكليات في مقاطعة كراي رفض إلحاق ثلاث مسلمات يلبسن الحجاب في صفوفها، عازية ذلك إلى أنه مخالف للقواعد الداخلية. أحدثت قضية «الحجاب الإسلامي» انقساماً بين مناصري العلمانية بشكل كبير، وسرعان ما أخذت بعداً رمزياً انتشر بين الرأي العام ووسائل الإعلام.
يلقي النقاش الضوء على تعارض عنصرين ألا وهما: الطابع العلماني للمدارس الحكومية، وارتداء رمز ديني. فهل يجب السماح بإدخال شعارات تنتمي إلى الكنيسة إلى المدارس الحكومية؟ يبرز ههنا موقفان؛ الأول يستند إلى علمانية متشددة وإلى مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة، رافضاً «الحجاب» بشكل قاطع في المدارس، ومؤكداً على أن دور المدرسة هو تجاوز الخاصيات الثقافية والفوارق الاجتماعية داخل الجمهورية. أمَا الثاني فيستند إلى نوع من الحيادية حيث يقبل «الحجاب الإسلامي» معتبراً أن ذلك يتعلق بمسألة التمايز الثقافي والانتماء إلى المجتمع أكثر منه بمسألة التشدد الديني، وبالتالي فهو لا يؤثر على التنظيم العام للمدارس. يرتبط الموقف الأخير بمجموعة من الأفكار السائدة، لا سيما ضمن مختلف الطوائف الدينية، تحت ذريعة الحرية الدينية، لدى مجموعة من اليسار ولدى مختلف الهياكل النقابية والجمعيات المعنيّة باحترام ثقافة الآخر، وقبول التعدّدية، و«الحق في الاختلاف». كذلك، يقوم هذا الموقف على مفهوم «العلمانية-الحيادية» الذي يدافع عنه عدد من المثقفين والشخصيات الذين ينادون بإنشاء مدارس تتغاضى عن الخاصيات المحليّة، ولكن تحترمها.نذكر ههنا الارتباك الذي واجهته السلطات المحلية اعتباراً من العام 1989 في ما يتعلق بقضية الحجاب. قام ليونيل جوسبان، وزير التربية والتعليم والبحوث والرياضة في حكومة روكار، بجمع معلومات من مجلس الدولة. وفي هذا السياق، ارتأت المحكمة العليا بتاريخ 27 تشرين الثاني 1989 أن «ارتداء التلاميذ الشعارات والرموز التي يعمدون من خلالها إلى إظهار انتمائهم الديني لا يتعارض، بحدّ ذاته، مع مبدأ العلمانية»، وقضت بأنّ «مبدأ العلمانية في التعليم، والذي يُعدّ أحد عناصر علمانية الدولة وحيادية الخدمات العامة كافة، يفرض بأن يحقق التعليم، من جهة أولى، احترام هذه الحيادية من خلال البرامج والأساتذة، ومن جهة أخرى، حرية الاعتقاد لدى الطلاب».
فضلاً عن ذلك، أضاف مجلس الدولة، بالاستناد إلى القانون الفرنسي والقانون الدولي، بأنّ للطلاّب «الحقّ في التعبير عن معتقداتهم الدينية وإظهارها في المدارس، احتراماً للتعدّدية وحرية الآخرين، من دون المساس بالأنشطة التعليمية، ومضمون المناهج، وواجب الحضور إلى المدرسة».
سعى التعميم الوزاري الصادر بعد رأي المحكمة أعلاه، بتاريخ 12 كانون الأول 1989، إلى فرض احترام العلمانية في المدارس، حيث حدّد واجبات الأساتذة المترتبة عن العلمانية، مذكّراً بضرورة أن يلتزم الأساتذة الحياد لكي «تحترم المدرسة الحكومية وبشكل مطلق حرية الاعتقاد لدى الطلاّب». وبعد أربع سنوات، نشر فرنسوا بايرو، وزير التربية والتعليم في حكومة بالادور، تعميماً آخر بشأن مسألة «الحجاب الإسلامي»، ما عكس بوضوح رأي مجلس الدولة في العام 1989 الذي شدّد على أنّ ارتداء الشعارات الدينية في المدارس لا يتعارض مع العلمانية، داعياً مدراء المدارس إلى تقييم الوقائع كلّ على حدة.
من جهة أخرى، كان على الوزير المذكور نفسه، في أيلول 1994، تحديد الموقف الرسمي للوزارة بعد القرارات التي اتّخذتها محاكم إدارية مختلفة تسمح بارتداء الحجاب. فميّز التعميم الذي صدر بتاريخ 29 أيلول 1994، من دون ذكر عبارة العلمانية، بين الشعارات الدينية «غير الظاهرة» التي يُسمح بها، و«الشعارات الظاهرة» الممنوعة (من بينها الحجاب ضمناً) لأنها «تشكّل بحدّ ذاتها عناصر تبشيرية». لذلك، توجّب على مجالس المؤسسات إدراج حظر إظهار هذه الشعارات في الأنظمة الداخلية. وقد بدا واضحاً وجود صعوبات في تفسير النص: فما القصد من «الشعارات الظاهرة»؟ هل تشكّل بالضرورة «عناصر تبشيرية»؟
العلمانية والتعليم الديني
ازدادت المشكلة التي أثارتها قضية «الحجاب الإسلامي» صعوبة عندما تعارضت مع بعض التساؤلات الكبيرة حول المجتمع الفرنسي: فإلى أي مدى تستطيع المدارس توفير التربية المدنية لجميع الأولاد بغض النظر عن أصلهم ودينهم؟ وبأي دور يضطلّع الإسلام المعتدل في فرنسا العلمانية؟ هذا فضلاً عن الاسئلة الكامنة وراء اللامساواة الاجتماعية، والتهميش، وصعوبات الاندماج والانصهار في زمن اتخذ فيه موضوع الهجرة منحى عاطفياً جارفاً بعد أن تحوّل إلى قضية سياسية يثيرها اليمين المتطرّف.
يبدو أن الانفعالات المصاحبة لقضية «الحجاب» كانت خاملة بعض الشيء في حينه. مع ذلك، ساعدت هذه القضية على إعادة تأكيد مبدأ العلمانية، وملاءمته، وتعديله بما يتناسب والمستجدات السياسية والاجتماعية. فقد سلّطت هذه القضية الضوء، وبشكل خاص، على ضرورة النظر بتعمّق في مبدأ العلمانية بحد ذاته، و»التحقق في ماضي علمانيتنا للمبادرة إلى النقد البناء والتساؤل حول التحديثات اللازمة»، فضلاً عن أنها أعادت تنشيط عملية التفكّر في تعليم الأسس الدينية وتاريخها في المدارس. في المقابل، أخذت عودة الدين في هذا العالم وفي أواخر القرن المنصرم أشكالاً استثنائية، لا بل خطيرة، كان بإمكانها تضليل العقول غير النيّرة. وهكذا بدا أن التفكير بشكل نقدي في الواقع الديني في فرنسا وفي العالم، والمعالجة الموضوعية للأسس الدينية التابعة لمختلف الثقافات والمجتمعات، من أفضل الطرق التي تحول دون ظهور أي شكل من أشكال التعصّب والطائفية والأصولية.
كذلك، أثارت مسألة التاريخ الديني في مناهج التاريخ والجغرافيا التي ندرسها النقاش الذي لطالما تطرقت إليه مجلّة Historiens et Géographes، وبالتالي فإن الجدل العام الذي نظّمته وزارة التربية والتعليم حول المعرفة في المدارس، في العام 1988، كان ليشكّل فرصة في إعادة النظر في مكانة التعليم الديني في المدارس. فوضع المعايير، وإضفاء المعنى، ونقل الذاكرة والتراث الثقافي هي من الهواجس الجوهرية لأساتذة التاريخ والجغرافيا. ففي منهاج التربية المدنية الذي نعتمده، يمكننا بناء جيل شاب يتمتّع بجميع العناصر اللازمة لممارسة دوره بحرية في المدينة بتفكير نقدي وحرية اعتقاد، وذلك من خلال تعليم أولادنا تاريخ الأديان وتاريخ الإلحاد.
يستلزم هذا التعليم من دون شك تدريب الأساتذة بالشكل الملائم، لكن الحال ليس كذلك اليوم. فالانحراف في الإرشاد الديني قد يحصل دائماً تماماً كما الانحراف السياسي. دعونا لا نهوّل الأمر، لأننا نعلم أنّ الأساتذة يستحقون الثقة بشكل عام». إن الخوف المشروع من الانحرافات المحتملة يعزّز ضرورة توفير تدريب سليم لأساتذة تعليم الثقافات الدينية عبر اعتماد نهج تعددي. لا شكّ في أن المهم هو إدراج هذا التعليم ضمن إطار الاحترام الصارم «للعلمانية المفتوحة» المرافقة دوماً لقيم الجمهورية والديمقراطية.
الخاتمة: العلمانية المشتركة
تعتبر العلمانية أحد العناصر المؤسسة لدولتنا الحديثة وللجمهورية، حيث شكّلت شيئاً فشيئاً مبدأً أساسياً لا غنى عنه. يبدو واضحاً في النظام التعليمي مشاركة جميع القوى الفاعلة في السبل اللازمة لتحقيق هذا المبدأ بدرجات متفاوتة. تحتّم العلمانية، وفقاً للدستور والقانون، مسؤولية فردية وجماعية للمجتمع التعليمي ككلّ، وتبقى ذات قيمة جمهورية أساسية تكمّل بشكل أو بآخر ثلاثيّة «الحرية، والمساواة، والإخاء». لا يزال مبدأ العلمانية يشكّل اليوم، في إطار المدرسة الجمهورية، القانون والرمز على حدّ سواء، ذلك لأنه يقوم على إرادة احترام حرية الاعتقاد لدى الطلبة، وأولياء الأمور، والأساتذة...
تعتبر العلمانية من الممتلكات المشتركة، وإرثاً نتشاطره. ففي الوقت الذي شهد فيه المجتمع الفرنسي تغيرات وشكلاً من أشكال الأزمة الاجتماعية، اتّضحت ضرورة تلقين العلمانية وممارستها قدر الإمكان في المدارس لمحاربة العنصرية وخطاب الاستبعاد والتطرف. يؤدّي أساتذة التاريخ والجغرافيا ههنا دوراً رئيساً في إطار التربية الوطنية من خلال اتّباع نهج يحثّ على الكرامة والمواطنية ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بقيم وأخلاق الديمقراطية والجمهورية. لا يزال البعض يعتقد، وعلى نحو خاطىء، أن العلمانية مبدأ مسلّم به، دليلاً ما، لا بل مفهوماً بالياً. مع ذلك، كان لا بدّ، في العام 1998، من إعادة النظر في العلمانية وإعادة تنشيطها في المدارس في فرنسا. العلمانية حتماً ليست علاجاً سحرياً وليست دون حدود، لكنها قد تكون حلاً جوهرياً للصعوبات التي تواجه المدارس. على المدرسة أن تبقى بفضل علمانية حيّة بوجه خاص، المكان الاجتماعي لتعليم المجتمع، وتدريب المواطن، والمساحة المعاشة للإنسانية، وهو أمر غير مستحيل.
[1]*- كاتب فرنسي ولد في 17 تشرين الأول 1963 في مدينة رانس. وهوشاعر، ومؤرخ فنّي، وكاتب مقالات.
ليسيه جان موني- مونبولييه
- العنوان الأصلي للمقال:
Une histoire de la laïcité “La laïcité: fondements, évolution, enjeux” Lycée Jean Monnet ـ Montpellier
- نص حرّر في كانون الثاني 1998 ونشر في مجلة Historiens&Géographes، عدد 363، حزيران ـ تموز 1998، ص. 205 إلى 218
- تعريب: منار درويش
[2]ـ قانون أعده الكونت دوفالو، وهو أحد المناصرين لسلالة بوربون، ووزير التعليم العام لغاية تشرين الأول 1849.