البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ديريدا ومعضلة الأخلاق (التخلق.. ترحيب غير مشروط بالآخر)

الباحث :  شيه جن فوه - Shyh - Jen fuh
اسم المجلة :  الإستغراب
العدد :  4
السنة :  السنة الثانية - صيف 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 12 / 2016
عدد زيارات البحث :  1488
تحميل  ( 346.182 KB )
ديريدا ومعضلة الأخلاق
التخلُّق.. ترحيب غير مشروط بالآخر
شيه جِن فوه[1][*] Shyh - Jen fuh
تهدف هذه المقالة إلى الاستجابة للجدل الذي شهدته المدارس الأخلاقية الغربية في خلال السنوات الأخيرة حول قيمة أعمال الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا الأخلاقية. ولقد سعى الكاتب الصيني شيه جِن فوه إلى بيان مقصده من خلال تعقب مداخلات المفكر الفرنسي إيمانويل ليفيناس التي جرت على خط موازٍ مع أفكار ديريدا الأخلاقية.
وضع ليفيناس الأخلاق في الطليعة معتبراً إياها «الفلسفة الأولى»، أمّا ديريدا الذي كان يرى أن «القراءة» التفكيكية هي الوسيلة لفتح النصوص، فقد كان يعي مخاطر، إنّ لم نقل استحالة، «التسمية» الواضحة لماهية «الأخلاق» و»الأخلاقي». وكذلك كان مدركا ً للحاجة إلى الانفتاح على «إمكان وجودها».
يلاحظ الكاتب في بحثه التالي، أنّه لو صح القول بأنّ نظرية ليفيناس الأخلاقية تقتضي الانتقال إلى ما هو أبعد من مجموع الكيان، اي إلى لا تناهي الغيرية، فإنّ التفكيكية هي في الوقت عينه أخلاقية ولا أخلاقية، ذلك بأنّها تتجاوز باستمرار حدود ما هو أخلاقي.
المحرر
خلَّف خطاب ديريدا الشهير «البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» والذي ألقاه سنة 1966 أثره الدائم في تلك العلوم. لقد تعرض الفيلسوف الفرنسي لتحديات متكررة لبيان الأهمية الأخلاقية لكتاباته، وقد ازداد هذا الاهتمام بالمعضلة الأخلاقية في أعمال ديريدا تعقيداً في الآونة الأخيرة نتيجة موجة الاهتمام الجديدة بالأخلاقيات، والتي برزت بين الكثير من المحللين والنقاد الأدبيين. أثار هذا الاهتمام عاصفة هوجاء من الجدل والنقاش بين أتباع ديريدا ونقاده حول ما أسموه: «المنعطف الأخلاقي» في مهنة ديريدا «كفيلسوف».
وبغض النظر عن وجود هذا المنعطف أو عدمه، فقد دفع الجدل حول ديريدا وطبيعة أعماله الأخلاقية الكثيرين إلى قراءة أعماله من منظور أخلاقي، وكذلك دفعت بالكثيرين إلى ربط اسمه مع معضلات أخلاقية كبيرة وواسعة. وقد أجبرتنا نزعة الربط بين أعمال ديريدا والأخلاقيات هذه إلى التساؤل عما إذا كان خطاب ديريدا ـ أو الخطاب التفكيكي ـ يحتوي على أي قيمة أخلاقية أم لا؟ وكيف يمكننا أن نقيّم تفكيكية ديريدا من المنظور الأخلاقي؟ يدفعنا التفكير في هذين السؤالين إلى إثارة المزيد من الأسئلة: فهل الأخلاق هي المجال المناسب لنا للتفكير في التفكيكية؟ وإذا ما أردنا الغوص أكثر: أوليست الأخلاقيات نفسها عرضة للتفكيك؟ لقد كانت هذه الأسئلة هي ما وجّه مسار نقاشي حول ديريدا في هذه المقالة.
يرتكز القسم الأول منها على قراءة كتاب «الأهواء: تقدمة ملتوية»، وهو بحد ذاته نص يعمل على «الاستجابة الأخلاقية» للمطالب الأخلاقية. أمّا ليفيناس فقد أدخلته في النقاش في القسم الثاني من المقالة نتيجة الأثر الذي تركه على تعريف ديريدا للأخلاق كمشكلة تحتاج إلى حل، فبعد كشف أوجه الشبه و/ أو الاختلاف بين قراءة ديريدا التفكيكية كـ«بادرة حسن ضيافة» و«العلاقة الأخلاقية» التي طرحها ليفيناس، تنتقل مقالتي هذه إلى الحديث حول العلاقات السلطوية المشكلة التي طرحها نيتشه حتى أتناول المسألة في سياق أوسع.
1ـ الأهواء: «تقدمة ملتوية»
يعبر ديريدا في كتابه هذا عن وجهة نظره حول التحدي الأخلاقي الذي وضع أمامه بصراحة بالغة فيقول: «يمكن لأحدنا اليوم وفي أماكن كثيرة أن يحضر أو حتى يشارك في مهمة لائقة ومزعجة؛ ألا وهي استعادة الأخلاقيات، وعلى الخصوص طمأنة الناس الذين لديهم أسبابهم الجدية ليزعجوا أنفسهم بهذا الموضوع. اعتقد بعض الناس أنهم وجدوا في «التفكيكية» ـ ولنتنبَّه لـ «ال» التعريف هنا، وكأنه لا يوجد لدينا إلاّ تفكيكية واحدة ما ثمَّ غيرها ـ شكلاً حداثياً من «اللا أخلاقية» أو حتى نسف الأخلاقيات، أو عدم المسؤولية (إلخ، فالخطابيات التي تتبع هذا المسار معروفة ولا حاجة لي بأنّ أتابع فيها)، بينما اعتقد أناس آخرون يتمتعون بجدية أكبر وعجلة أقل وقابلية أفضل لما أسموه بـ«التفكيكية» أنّها عكس ذلك تماماً، بل أنهم ميَّزوا أعداداً متزايدة من العلامات المشجعة ـ وفي بعض الأحيان حتى في بعض نصوصي!ـ تشهد على وجود انتباه دائم ومتطرف ومباشرـ وحتى ملتوٍ! ـ لهذه الأشياء التي قد نميزها تحت أسماء جميلة مثل «الأخلاقيات» و«المبادئ» و«المسؤولية» و«الذات» إلخ. وقبل أن أعود إلى حالة «اللا استجابة» لهذه الاعتقادات، أرى من الضروري أن أعلن بما لا لَبْس فيه أن الإنسان إذا كان لديه شعور حقيقي بالواجب والمسؤولية فإنّّ هذا سيفرض عليه الانفصال عن كلٍ من هذين التوجهين الأخلاقيين، أو وجهي «استعادة الأخلاقيات» بما في ذلك إدخال التفكيكية في الأخلاقيات، وهو بطبيعية الحال أمر يبدو أكثر جاذبية من الخيار الآخر الذي يعارضه بحق، ولكن هذا الإدخال يغامر في كل لحظة من الوقت بأنّ «يطمئن نفسه» حتى يطمئن الآخر وحتى يُروّج لإجماع بأنّ يتحول بدوره إلى سبات دوغمائي. والأمر كذلك حتى لا يتسرع الواحد منا إلى القول بأنّ عليه أن يعلن نفوره ـ وبغض النظر عن تفاوت درجاته ـ من كلا التوجهين الأخلاقيين باسم مسؤولية عليا أو حاجة أخلاقية ماسة عنيدة. فلا شك بأنّ ما اشتهر عن النظم الأخلاقية ب أنّها في حد ذاتها «غير أخلاقية» إنّ لم نقل ب أنّها تحتوي جانباً سيء السمعة من النفاق، إنّما يتبين بعد إثبات تجاوزات من نوع ما، ولكن لا شيء يسمح لنا بأنّ نؤكد أن أفضل أسماء أو أشكال هذا الإثبات هي أشياء مثل «الأخلاق» أو «المُثل الأخلاقية» أو «السياسة» أو «المسؤولية» أو «الذات».
ما أعلنه ديريدا «بما لا لبس فيه» هو نوع من تجنُّب، أو حتى اشمئزاز، لمسميات أو أشكال الأخلاقيات، وبينما رد بوضوح تهمة كون عمله «لا أخلاقي»، إلاّ أنّه لم يقبل المزاعم بأنّ ثمة تنبه متزايد للقضايا الأخلاقية في أعماله، وكذلك فقد اعترض على تأويلات رفضه لـ «التحول الأخلاقي» في التفكيكية، والتي تفسر رفضه هذا على أنّه قائم على أساس «مسؤولية عليا»، وهو موقف التزم به بعض المدافعين عنه.
من المثير للاهتمام أن السياق الأصلي لنشر كتاب «أهواء»، كان الدعوة للرد على مجموعة من 11 مقالة كتبها عدد من الباحثين حول أعماله، وقد نشرت هذه المقالات مع رد ديريدا عليها في كتاب «Derrida: A Critical Reader» (ديريدا: قراءة نقدية) بتحرير ديفيد وود. وقد امتاز هذا السياق بكونه ملائماً تمام الملاءَمة لتأملات ديريدا حول معضلات الرد والمسؤولية والواجب، وكلها مفاهيم أساسية تتعلق بصلب البحث في الأخلاقيات؛ ولكن رده هذا لم يكن عادياً، بل قام بـ«نحت» شروط عمله هذا في النص حتى يحول المهمة التي أوكلت إليه ـ أي الاستجابة «الأكاديمية» ـ إلى معضلة بحد ذاتها من خلال تغيير المعايير الموصوفة لها. بكلمات أخرى: استغل ديريدا هذه الفرصة لـ«الرد» على ناقديه من خلال استعراض هوامش معضلة «الرد» نفسه التي لا بد للذات الكاتبة أن تجد نفسها «مقيَّدة بها»، والتي تجعل «الرد» في الحقيقة مستحيلاً، ومن ثم «اللعب» حول هذه القيود؛ كما يمكن لنا أن نبرهن من «انفعالات» ديريدا أنّ هذه الحالة الخاصة من المسؤولية أصبحت ترمز إلى حدٍّ ما لرمزية المشكلة دائماً التي يمثلها ما هو أخلاقي.
بدأ ديريدا في الشرح بأنّ هذا النوع من النشاطات الأكاديمية هو بطبيعته «احتفالي» بالدرجة الأولى كما هو الحال في «الحفل» الذي يشير إليه هذا الحدث الذي جمع أحد عشر مساهماً بمقالات نقدية حول ديريدا، وكيف تطلب هذا «الحفل» من «حضوره» الالتزام بعدد من القوانين والبروتوكولات التي تم تأسيسها قبله؛ وكما هو الحال في أي «قراءة نقدية» فإنّ هذا التوصيف مسبوق باسم علم ـ أي ديريدا في هذه الحالة ـ والتي تم تعيينه لها، والذي تحول إلى «موضوع النقاش». لدينا إذن عدد من القراء (النقديين) الذين قاموا بقراءة الكتابات التي مهرها «ديريدا» بتوقيعه وعلى أساس موضوعي تحليلي، أي على مسافة «نقدية» من الموضوع نفسه. ولكن ديريدا والمساهمين الآخرين مقيدون بأدوار معينة لا يمكنهم تجاوزها ضمن إطار هذا الطقس «الاحتفالي»؛ فديريدا كـ «موضوع الدراسة» وموضوع «الكتابات» التي هي «صلب موضوع» هذه القراءة النقدية ملزم بدور «المؤلف». مما يفترض بأنّه «مسؤول» عن جميع كتاباته، وأن هذه الكتابات تؤلف في مجموعها «نظاماً» متسقاً و واضحاً». من ناحية أخرى، فقد عينت للمساهمين مهمة تحليل هذه الكتابات وبالتالي «دفع جزيات» ثقافية مختلفة لديريدا الذي يلعب دور «المؤلف». على كل من ديريدا ـ كمشارك في «الاحتفال» من ناحية وموضوعه من ناحية أخرى ـ وكذلك على النقاد ـ كمشاهدين للاحتفال ـ أن يحللوا ويقيموا ويفهموا القوانين حتى يتمكنوا من الانصياع للنظام الأكبر وجعله يعمل.
يتضح الجانب «الشعائري» من هذا النشاط الأكاديمي أكثر حين يدخل ديريدا العنوان «المقترح» ـ «تقدمة ملتوية» ـ لرده في دائرة التحليل، مستقياً من الدلالات الدينية للفظة «تقدمة»، ورابطاً بين المشهد الأكاديمي ومشهد عشاء السيد المسيح الأخير حين يشبه المؤلف بـ «ضحية القربان» الذي يقدم «جسده النصي» للاستهلاك والقراء النقديين بـ«الحواريين» الذين يستهلكون «الجسد النصي» بينما يقدمون تبجيلهم من خلال القراءة الأمينة لـ«نصّ الإنجيل». ولكن السؤال هنا هو التالي: إلى من ترجع هذه «التقدمة الملتوية»؟ هل تعود إلى ديريدا الذي يقدم الجسد النصي كأضحية للاستهلاك، أم إلى المساهمين الذين يقدمون احترامهم في صورة القراءات الأمينة؟
لقد اجتمع المساهمون في هذا الكتاب إذن في هذا «الطقس الاحتفالي» كحواريي السيد المسيح في العشاء الأخير لكي يقدموا أفكارهم حول كتابات «السيد» ـ الذي تم تقطيع «جسده» وسفك «دمه» وتوزيعهما عليهم بالفعل ـ ولكن لا يمكن لنا نحن ـ أي قراء «القراءة النقدية» ـ أن نقرر حالة هذه «التقدمات» (القراءات في ديريدا) ولا أن نقرر حالة تقدمة ديريدا («الأصلية»). لكل واحد من هؤلاء المساهمين مصالحه وأجنداته ومواقفه الأكاديمية وتخصصه وولاؤه القومي، وكل واحد منهم يقدم نصيبه وهو يفترض أن لديه الحرية والحق في أن يتدخل في «نظام» كتابات ديريدا. لكن الحقيقة هي أن ما فعله هذا التدخل كان أن انتهك النقطة المركزية التي تزعم «القراءة النقدية» أنّها تتمركز حولها، ذلك لأن القراءة النقدية لا يمكن لها إلاّ أن تتحدد نسبياً، وبعد تحديدها النسبي هذا يظل لدينا «ما لم يتحدد» وهذا الأخير يتيح المجال أمام ولوج مجموعة متباينة من الرغبات والإستراتيجيات والأهداف والقضايا المتحولة إلى عناوين عريضة، فلا يمكن في وضع كهذا أن يظل الكتاب منهجياً وموضوعياً، بل ولا يمكن للقراء (النقديين) أنفسهم أن يظلوا «ذواتاً حرة» بما أنهم مقيدون بقواعد «الطقس الاحتفالي». فإذا أخذنا بعين الحسبان هذه القيود مع هذا العدد الكبير من «الذوات» المساهمة فيه، فإنّنا نجد أن «القراءة النقدية» كـ«كتاب» موضوعي شمولي قد تمزقت إرباً إرباً.
في معرض الرد على تمزّقٍ كهذا، طرح ديريدا قضية المسؤولية. فقد حاول في «انفعالاته» أن يبين أن الطبقات النصيّة المختلفة المندرجة تحت مسمى واحد يمكنها البتّة أن تتوافق مع أداء هذا «الطقس» أو هذا الحدث. فالنصوص العديدة المجموعة في كتاب عنوانه «ديريدا: قراءة نقدية» لا يمكنها أبداً كذلك أن «تعود» أو(«ترد») إلى «المؤلف» المفترض ـ ديريدا في هذه الحالة ـ ففي نهاية المطاف كلمة «ديريدا» لا تشير إلى «ذات» أو «موضوع دراسة»، بل إلى مجرد «اسم»، كما يقول هو نفسه:
«... فهذا الذي حمل اسمك أو يحمله الآن أو سيحمله في المستقبل، يبدو لي وكأنّه يحمل المقدار الكافي من الحرية والقوة والإبداع والاستقلالية، بحيث يحيا لوحده ويتطرف باستغنائه عنك وعن اسمك. فما يعود إلى اسمك، إلى سرِّ اسمك، هو مقدرته على الاختفاء ضمن اسمك[2]».
فمن إذن يتحمل مسؤولية هذه القراءات النقدية التي تمتاز كل واحدة منها بحياة ومصيرٍ خاصَّين بها رغم أن جميعها مكرسة لديريدا؟
في هذه الحالة تحديداً اتُّخِذ قرار بدعوة ديريدا إلى الرد على مختلف التقييمات والتحليلات والانتقادات والتدخلات التي أسهم بها قراء «القراءة النقدية»، وإلى جمهور أبعد منهم: أي الدائرة الأكاديمية الأوسع التي ما توقفت عن التدخل في نصوصه لسنوات طويلة. وقد كان هذا تدخلاً رد عليه ديريدا بالإيجاب. ربما لم يترك له سياق «البروتوكولات الأكاديمية» وقواعد «طقوس التهذيب والصداقة» بين زملائه أي خيار إلاّ القبول. فهل جاء هذا «القبول» إذن من «شعوره الشخصي بالواجب»؟ ربما، ولكن في نهاية الأمر ما قام به ديريدا كان تفجير الافتراض المسبق بين القراء الأكاديميين بأنّ «المؤلف» مسؤول عن نصوصه، ولذلك عليه أن «يجيب عنها» من خلال تعرية «أدبيات» الطقوس الأكاديمية، فهو في الواقع يتساءل: ما الذي يتألف منه «الواجب» و«المسؤولية» آخر الأمر؟[3].
ازدواجيّة الأخلاقي واللاأخلاقي
ومن النقاط الأساسية التي أشار إليها ديريدا ما أسماه «عملية الدعوة المزدوجة»:
«تترك الدعوة الشخص حراً، وإلا فإنّها تصبح مجرد عبء. لا يجب على أي دعوة أن توحي بأن: من الواجب عليك أن تأتي، عليك أن تأتي، من الضروري لك أن تأتي. لكن في المقابل على الدعوة أن تكون ملحة وليس لا مبالية، فلا يبنغي عليها أبداً أن توحي لك كأن تقول: أنت حر بأنّ لا تأت.. وإذا لم تأتِ فلا تهتم بالأمر لأنّه ليس مهماً. فإذا لم تمارس الدعوة ضغط رغبة ما، تقول من خلالها للآخر: «تعال» مع ترك مطلق الحرية له، فإنّها تتقوقع وتفقد عنصر الترحيب، ولذلك عليها أن تنقسم وتنثني على نفسها في الوقت ذاته، أن تختطف وتحرر: فعل مزدوج، فعل متثنٍّ».
بما أن الدعوة تحتوي كلاً من ترك الحرية للآخر وممارسة الضغط عليه، فلا يمكن لمن تلقى أي دعوة التصرف بحسب الواجب فقط، أو التزاماً بالواجب فحسب، مع أنّه بالضرورة يشعر بضغط هذه الدعوة. إنّ الاستجابة للدعوة بدافع الواجب، أو التزاماً بالواجب هو نوع من الاستجابة المبرمجة التي وصفها ديريدا ب أنّها «من أسهل ما يكون». وفي مثل هذه الحالة فإنّّها سوف تتسبب لا محالة بـ «السبات الدوغمائي» الذي يحذر منه. وهكذا يتحدى ديريدا أطروحة كانط بأنّ الشعور الداخلي بالواجب، والاحترام الطبيعي لمثل أخلاقية عليا هو أساس الأخلاقيات[4]، فبينما يفترض كانط وجود قوانين مثالية عليا تحكم حياة الإنسان الأخلاقية وتتطلب الاحترام، يحول ديريدا جوهر القوانين الأخلاقية إلى إشكالية:
ما هو الشيء الأخلاقي في الأخلاق؟ أو الفضائلي في الفضائل؟ ما هي المسؤولية؟ وما هي هذه الـ «ما هي» في هذه الحالة؟ إلخ. تظل هذه أسئلة ملحة وبطريقة ما عليها أن تظل ملحة ومن دون إجابة، أو على جميع الأحوال بدون استجابة عامة تحكمها قواعد محددة، وبدون استجابة عدا تلك المربوطة في كل وقت محدد بحصول قرار دون قواعد تحكمه، ودون إرادة توجهه أثناء اختبار جديد لما لم يتم اتخاذ قرار فيه.
ما يتم التشديد عليه هنا هو إمكانية الاختيار في وجه ما لا يمكن اتخاذ قرار فيه. فـ«بين» فعل الدعوة المزدوج الذي يمارس الضغط على الآخر بينما يتيح المجال أمام حريته تبرز فرصة اتخاذ خيارات خلاقة لا يصنعها اتباع القوانين (كما أشار إليه في قوله: «الاستجابة العامة التي تحكمها القوانين» ولكن هذا لا يحصل إلاّ من خلال التفاعل مع الحدث بطريقة مختلفة في كل مرة. وهكذا فإنّ أخلاقية الأخلاق وفضيلة الفضائل واستكناه «الماهية» جميعها أسئلة ملحة تنبغي الإجابة عليها في كل مرة وفي كل مكان مرة تلو الأخرى، ولا مهرب من هذا التحدي؛ وهكذا فإنّ «استجابة» ديريدا في هذه الحالة لـ «القراءة النقدية» ولقراءه الناقدين هو ضرب من المجازفة يشير إليها مفكرنا ب أنّها «أداء»، أو «قرار خلّاق».ا فديريدا لا «يستجيب» للمطلب العام بأنّ يدافع عن مواقفه السياسية والأخلاقية، بل نجده يمعن فكره في المعضلة التي يواجهها حين يتلقى «دعوة»: المصاعب التي يواجهها سواء اختار أن يستجيب أم لا.
بالنسبة إلى الناس الذين (لا يزالون) يصرون على قراءة ديريدا تحت ضوء الأخلاقيات فمن الواضح أن عليه أن يجيب على تساؤلهم الملح حول «القيمة الأخلاقية» التي يمكن للتفكيكية أن تحملها؛ ولكن كما نعلم بالفعل ومن خلال نقاش ديريدا في «انفعالاته» لـ«الرد والاستجابة» كطقس احتفالي غير محدد أو مفتوح فليس أمام مفكرنا خيار غير تأجيل الإجابة على هذا السؤال؛ إذ كيف له أن يزعم بأنّه «الحَكَم» على هذا الأمر بأي طريقة تزيد على «حُكمه» على المقالات المكتوبة حوله في القراءة النقدية وهو «المؤلف» المطلق، فكيف يصدر الأحكام على الكيفية التي تتم فيها قراءة نصوصه وبالتالي على هذه المقالات النقدية مع مختلف إستراتيجياتها وولاءاتها ومساراتها الفكرية («الذاتية الشخصية»)؟ بما أنّ الكتابة تظل تتجاوز «النية منها» والقراءة تظل تكملة تفاضلية للنص، يظل المعنى الأصلي محفوراً دائماً ضمن منطق التكملة هذا. إنّ «الذات» الكاتبة في الواقع مقيدة بكتابتها، أمّا القارئ فيدخل على النص ضمن سياق مختلف تمام الاختلاف ولذا فمن المستحيل تحقيق المطالب الطقسية الاحتفالية التي تفرض على «الذات» الكاتبة أن تجيب على «أعمالها» من خلال الرد على النقاد ـ وكذلك يستحيل تحقيق مطالب الطقس الآخر (الذي يمكننا القول بأنه أشد مكراً وخبثاً) والذي يتطلب من ديريدا أن يبين لماذا يمكن للتفكيكية أن تكون ـ أو لا تكون ـ «أخلاقية». إذا تمكنت التفكيكية من زعزعة الجذور الميتافيزيقية للمعاني والحقائق ذاتية الحضور فإنّها تزعزع المعاني والحقائق الأخلاقية أيضاً.
مع أنّ ديريدا يقول أنّ الاستجابة مستحيلة أو على الأقل ينبغي تأجيلها، فهو لا يلجأ أيضاً إلى راحة عدم الرد، فعدم رده على نقاده في نهاية الأمر لا يعكس احتراماً أكبر لهم من رده عليهم خاصة بعد أن تمت «دعوته» لكي يرد. قد ينظر إلى عدم رده على أنّه تأجيل بلا نهاية، وبالتالي كضرب من «عدم المسؤولية». يحاول ديريدا إذن أن يظهر أنّه لا يوجد أي رد بدون محدوديته، ولا أي مسؤولية تتخذ أو واجب يُؤدّى من دون تضحية تصحبها، وأيضاً من دون مساءلة شكل من أشكال «العدالة». ولكن وفي الوقت ذاته فإنّ «عدم الرد» إذا كان موزوناً بدقة قد يحمل في طواياه خطراً أكبر بعدم تحقيق العدالة سواء للأشخاص الذين طلبوه ولنصوصهم أو للأسئلة التي طرحوها عليه أو حتى لسؤال «أخلاقية الأخلاق» نفسه. إنّ هذه الاعتبارات تترك المرء في معضلة، في حالة «لا غالب ولا مغلوب» يعلق فيها بين «مسؤولية» هي بالضرورة زائفة، وعدم رد لا مناص من أن يدل على «جحود مرفوض وعدم اكتراث ملوم».
لذلك يمكننا القول بأنّ «انفعالات: تقدمة ملتوية» حمل التزاماً مزدوجاً ـ وبالتالي هو أيضاً «غير ملتزم»ـ بأنّ يستجيب للدعوة إلى الرد على قراء ديريدا النقديين من خلال التأمل في عدم إمكانية الرد والمسؤولية، أي من خلال الرد بعدم الرد! فـ«الرد» الوحيد الممكن هو ذاك الذي يرسم حدود استحالة رد مسؤول، ولكن هذه الإستراتيجية ليست مجرد إستراتيجية «سلبية»، فإنّّ هذا العرض للمعضلة هو الخيار الخلاق الذي اتبعه ديريدا أمام الواجب الملقى على عاتقه، وهو يشدد على مشكلة طلب دفاع «الفيلسوف» عن نفسه. وكذلك فقد قلب ديريدا الطلب المستعر لـ«أخلاقيات تفكيكية» على نفسها وأظهر بأنّ هذا الطلب نفسه دوغمائي، وبالتالي فهو عنيف، وهو شكل من أشكال «العنف أمام الكتابة».
يبدو الخيار الواعي الذي اتخذه ديريدا بإبعاد التفكيكية عن الأخلاقيات أشد أهمية حين نفكر في حواره الطويل مع معلمه القديم ليفيناس، «فيلسوف الآخر» الذي اشتهر بدعوته إلى إعادة التفكير في مشكلة الأخلاقيات. لقد بدأ هذا الحوار في مرحلة مبكرة مع عمل ديريدا: «العنف والميتافيزيقا» حيث قام بضرب من القراءة التفكيكية لنص ليفيناس: «الشمولية واللانهاية»[5]، ومنذ ذلك الوقت فصاعداً لم نفتأ عن رؤية آثار تلاقٍ للأفكار عبر أعمال الفيلسوفين، خصوصاً حول مفهوم «الأثر» نفسه[6] رغم حقيقة أنّه وفي الوقت الذي كرس ليفيناس نفسه لإعادة التفكير في «الأخلاقي» فقد ظلّ ديريدا مصمماً على عدم «تسميته». ما الذي يخبرنا به موقف ديريدا القريب والبعيد في الوقت ذاته من ليفيناس حول «الأخلاقي»؟
سأنتقل هنا إلى مشروع ليفيناس في إعادة تعريف الأخلاقيات قبل أن أعود لأسبر غور وجهة نظر ديريدا بعمق أكبر.
2ـ أثر علاقة ليفيناس الأخلاقية
إذا ما قورنت جهود ليفيناس الفلسفية مع رفض ديريدا بأنّ يعرِّف عمله كجزء من أي مشروع أخلاقي، فقد تطورت وجهات نظر ليفيناس حول إعادة تعريف للأخلاقيات يتحدى الأولوية التقليدية المعطاة للأنطولوجيا (علم الوجود) ضمن فروع الفلسفة. فبالنسبة إلى ليفيناس علينا ألا نستمر في التفكير بالأخلاقيات على أنّها خاضعة للأنطولوجيا. لقد نشأ الترتيب التقليدي لهرمية فروع الفلسفة على أساس الفرضيّة بوجود كائن عالم يصبح هو المصدر والظرف الذي تتأسس فيه العلاقات الأخلاقية. ولكن بحسب ليفيناس، فالعلاقات الأخلاقية تبدأ قبل إداراك الكائن العالم لنفسه وتحقيقه لها، وبعبارة أخرى: لا يتعين حضور «كيان» النفس/ الذات / الوعي إلاّ بشكل ثانوي، لكن العلاقة الأخلاقية مع الآخر لا تفتأ عن كونها موجودة دائماً. وهكذا وبالنسبة إلى ليفيناس فعلى الأخلاقيات أن تحل محل دراسة الوجود أو الأنطولوجيا كـ «الفلسفة الأولى».
لقد لخص ليفيناس حجته هذه في «الأخلاقيات كالفلسفة الأولى» من خلال تأمله في الموروثات الظاهراتية (الفينومينولوجية) التي وصلت إليه عبر هوسرل. بحسب ليفيناس فقد دفع هوسرل بفكرة الكائن العالم ـ التي أسس لها ديكارت كـ«الكوجيتو» (الأنا المفكر) في بداية العصر الحديث- إلى نقطة أصبح فيها الكائن العالم ومتعلقات علمه ـ أو «المعلومات» ـ يمثِّل وتمثَّل ضمن هيكلية القصدية (intentionality)[7]، فـ«الكوجيتو» أو الوعي لا بد أن «يعِ شيئاً ما»، وبالطريقة ذاتها فإنّ ذلك «الشيء المعلوم» لا يكون معلوماً إلاّ من خلال تجربة الوعي القاصد إلى معرفته. في هذه الصياغة، المعرفة هي فعل الوعي الذي يدرك الموضوع ويمثله من خلال «الاختزال المتعالي» (Transcendental Reduction) الذي يستثني جميع فرضياته عن الموضوع حتى يتمكن من مقاربته «مباشرة» وكأن غاية الموضوع وإرادته تتماهى مع قصدية الوعي ـ وبالنسبة إلى ليفيناس:
«يعلِّق الاختزال المتعالي كل استقلال في العالم غير استقلال الوعي نفسه، ويتسبب في إعادة اكتشاف العالم كمضمون للوعي (noema)، وبالنتيجة فإنّه يؤدي ـ أو ينبغي أن يؤدي ـ إلى وعي كامل بالذات يثبت نفسه كوجود مطلق، ويؤكد نفسه كـ«أنا» تمتاز عبر جميع «الفروقات» كسيدة على طبيعتها وكذلك على الكون وقادرة على أن تنير أحلك الأغوار المقاومة لقوتها[8]».
تضرب صياغة الوعي بهذه الطريقة بجذورها في الموروثات الفلسفية الأفلاطونية والديكارتية التي تفترض وجود كائن عالم وتولي الأنطولوجيا الأولوية الأولى، وحتى يتمكن ليفيناس من تحديها فقد أشار إلى أن الجانب الآخر من «الوعي» قد تعرض للإهمال حتى هذه اللحظة. لا يمتلك هذا الجانب الآخر أي صفة محددة ولا يتجاوز كونها قابلية سلبية لا علاقة لها البتة مع الإرادة والقصدية أو السيادة ـ وهي الصفات التي أضفيت على «الأنا» الذي بنيت فكرته على أساس أنّها «سيدة على طبيعتها وكذلك على الكون»ـ بل إنّ صفة هذا الجانب الآخر هو ديمومة بسيطة تشبه ما يحصل لنا أثناء عملية تقدم العمر بنا: لا يوجد أي فعل نقوم به بل مجرد محتوى ضمني يمر بسلبية عبر الزمن من دون أي تدخل من «الأنا»[9].
وقد وصف هذا الجانب من الوعي كسلبية على أنّه «الوعي السيء» (mauvaise conscience) مقابل «الوعي الحسن» (bonne conscience) حيث يتصف هذا الأخير بكونه ثابت المعرفة بنفسه وقصدي في معرفته. وبينما يمكن للوعي الحسن أن يؤكد «الأنا» بإيجابية وسعادة على أنّها الشيء القادر على الإدراك الحر في وحدتها السعيدة فإنّ الوعي السيء هو ما يهمله الوعي ولكنه رغم ذلك يظل موجوداً حتى قبل إثبات الوعي لنفسه على أنّه «فرد مستقل» أو «ذات» أو «أنا» بكثير. تهدف عملية إعادة التعرف على «الوعي السيء» التي قام بها ليفيناس إلى تحطيم راحة الوعي الحسن بنفسه ووضع شرعيته تحت المساءلة: فبما أن شرعية الوعي الحسن كـ«الوعي الذاتي التام المثبت لنفسه على أنّه وجود مطلق» قد وقعت تحت طائلة المساءلة، فهل يمكن لنا أن نظل نؤكد وجودنا الفردي المستقل؟
يناقش ليفيناس الطريقة التي تقاطع فيها «الفجوة الوجودية» هذه ذاتويتنا الراضية عن نفسها بالعلاقة مع المفارقة التي يتضمنها سعينا المشترك كبشر إلى الوصول إلى «معنى الحياة»، فمع أن فعلنا في هذا السعي يؤكد وجودنا كمستكشفين فاعلين لهذا العالم، فإنّه أيضاً «يقترح أنّ الأنا المطلق المضفى عليه معناه بالفعل من خلال قواه الحيوية والنفسية والاجتماعية، أو من خلال استقلاليته المتعالية، قد عاد وقتئذ إلى وعيه السيء» (المصدر السابق، 81). بعبارة أخرى: لو كان «الوعي الفاعل» كافياً، لو كان هو «كل ما هنالك»، فلماذا هذا الشعور بالقلق الوجودي (هيدغر)؟ لما نحمل هذا الشعور الدائم بانعدام المعنى و/أو الملل، ولماذا نحتاج دائماً إلى أن نجد المعنى؟ إنّ هذه هي «المفارقة» التي يحملها الوعي الذاتي، وهذا هو الوضع المقلق الذي تعاني منه «الأنا»: فـ«الأنا» كالنتاج الحادث لـ «قواها الحيوية والنفسية والاجتماعية» لا يمكن لها أبداً أن تكون حضوراً مطلقاً، وقد عانت على الدوام من حاجتها إلى تأسيس المعنى الخاص بها. فالوعي السيء إذن يفجر الوعي الحسن الخارج من ديمومته السلبية. تشدد صياغة ليفيناس للوعي السيء على «الحق المشكوك به» لهذا الوعي الحسن في أن يكون في العالم، فبما أنّ «الأنا» لا تقدر على توكيد وجودها أصلاً فعليها أن تتسائل حول كينونتها («سؤال الوجود» الذي تقدم به هيدغر)، أن تتساءل وأن تُسأل أيضاً. بكلمات أخرى: يحتاج «موقع» وعينا الفاعل في العالم إلى التوضيح والتبرير من خلال اللغة: «على الواحد منا أن يتكلم، أن يقول أنا، أن يتكلم بضمير المتكلم حتى يكون أنا»، ولكن من هذه النقطة قدماً، من خلال توكيد كينونة «أنا»، على الواحد منا أن يجيب على حقه في الوجود».
بناء على هذا الفهم لـ«كينونة الأنا»، يتقدم ليفيناس بنقطة جدله الأساسية القائلة بأنّ الأخلاقيات هي «الفلسفة الأولى»، وبما أنّ «الأنا» يجب إثباتها من خلال الاستجابة باللغة فإنّها في الواقع معرّفة ومحدودة بقدرتها على الاستجابة للسؤال، على «الدعوة» التي تتقدم بها «كيانات» غير هذه «الأنا». لذلك فمن الواضح أن «الأنا» ليست هي المجال المناسب لنبدأ منه البحث الفلسفي حول وجودنا، فالوعي السيء الذي لم يؤمن حقه في الوجود وموقعه في العالم هو من ينبغي أن يطرح «السؤال الأول والأخير»؛ أي أن هذا السؤال يبنغي أن يطرح بحسب معطيات احتمالات الوعي السيء الأكثر تطرفاً، أي انفتاحه الأكثر تطرفاً نحو الآخر، الاحتمالات التي تشكل الأرضية لـ «الأنا» وتجعل استجابته للآخر ممكنة.
ولذلك وقبل أن ننطلق في بحث لنفهم كينونتنا، علينا أن نستقصي علاقتنا مع الأخر، العلاقة «الأخلاقية»، بما أنّ «الأنا» المشكَّلة عليها أن تستجيب إلى حقي في الوجود؛ وبما أن هذه العلاقة «الأخلاقية» هي ما تؤلف وجودي فتقع «عليَّ» مسؤولية الرد. يقدم ليفيناس هذه الحالة الوجودية بطريقة محزنة:
أليس «كياني في العالم» أو «مكاني تحت الشمس»، أو وجودي في المنزل كلها اغتصاباً لمساحات كانت تنتمي إلى الرجل الآخر الذي قمعته وأجعته أو دفعته إلى العالم الثالث؟. أوليست هذه جميعاً إذاً أفعال تنفير وإقصاء ونفي وتجريد وقتل؟. مقولة باسكال حول «مكاني تحت الشمس» علامة على بداية صورة اغتصاب الأرض بأسرها، الخوف من العنف والقتل الذي قد يولدهما وجودي بالرغم من براءته الواعية والمقصودة. إنّه خوف احتلال مكان شخص آخر من خلال الوجود الآني[10] (The Da of my Dasein) الخاص بي، إنّه عدم القدرة على احتلال مكان، يوتوبيا بكامل معنى الكلمة.
على الذات أن تستجيب للآخر من خلال «الخوف من العنف والقتل اللذين يمكن لوجودي أن يولداه» وكأن هذا الضرب من الاستجابة المتخوفة هي واجبي الأول، وكأن هذه العلاقة «الأخلاقية» هي ما يؤلف وجودي[11]. وهكذا يستكشف معنى الأخلاق في صياغة ليفيناس كواجب ومسؤولية تجاه الأخر الذي يوجد بالعلاقة مع «الأنا» قبل أي شيء آخر، حتى قبل هوية الذات نفسها. إنّ هذه الأولوية المعطاة للواجب تفوق أي نظام أخلاقي آخر مبني على مفاهيم مثل الحرية والإرادة العقلية أو السعادة كاستكمال للفضائل. الأخلاقيات هي دائماً «ما يرحب به الآخر» من دون طرح أي أسئلة، والحياة الأخلاقية هي تلك التي تظل تفرغ نفسها تجاه الآخر في استجابة وقابلية للاستجابة غير متناهيين.
الأخلاقي بما هو ترحيب غير مشروط بالآخر
لدينا تحولان في غاية الأهمية هنا: الأول: هو كينونتنا الذاتية التي تتم تشكيل بنيتها من خلال العلاقة المكلفة بها والتي لا مناص منها مع الآخر، وهي في مفهوم ليفيناس العلاقة الأخلاقية بكامل معنى الكلمة. أمّا التحول الثاني: فبعد إزالة الأولوية المولاة للأنطولوجيا، لا يمكننا مقاربة الأخلاقيات من خلال معايير موصوفة (كما هو الحال في «الخير» بحسب مفهوم أفلاطون أو أرسطو) بما أن هذه المقاربة تتطلب تحديد المحتوى الحقيقي للأخلاق والعدالة. بدلاً من ذلك يتحول تصور الأخلاق إلى علاقة تتم «وجهاً لوجه» تتأسس بشكل فريد ومتميز في كل مرة تحصل فيها مواجهة مع الآخر. وبما أنّه لا يمكن لنا أبداً أن نستوثق من وضع «الأنا»، ولا يمكن لكينونتي أن تتحدد ويعاد تعريفها إلّا من خلال علاقتها الوجودية مع الآخر، فلا يمكن للأخلاقيات أن تنبني على أساس توصيفات جاهزة، فالأخلاقي هو «الموضع» الذي يتيح المجال أمام إمكانية اللانهائي طالما يظل الوجود هو ما يؤلِّف علاقتي مع الآخر بطريقة دائماً فريدة. يستبعد استبدال «اللانهاية الأخلاقية»، (الانفتاح اللانهائي على الآخر) بـ «الشمولية» (الأنطولوجية) تصور الأخلاق على أنّها تعاليم تحولت إلى مؤسسة عقلية تتطلب «انصياع» دائم. بحسب تعريف لفيناس فالأخلاقي هو انفتاح على الآخر، ترحيب غير مشروط، علاقة مع الآخر يجب بناؤها «بإبداع خلاق» في كل مرة.
إن مصطلح «الإبداع الخلاق» هذا يعيدنا إلى نقاشنا حول ديريدا، ومع وصول نقاشنا إلى هذه النقطة ينبغي للرابط بين «العلاقة الأخلاقية» التي طرحها ليفيناس وفكرة ديريدا حول مسؤولية الرد في «انفعلات» تقدمة ملتوية» واضحاً. ففي نهاية المطاف تظل فكرة العلاقة الأخلاقية عليها أن تتأسس بشكل خلّاق وفريد في كل مرة، هي ما تحكم تأملات ديريدا حول مشكلة المسؤولية، بل يمكننا حتى القول بأنّ «انفعالات» ديريدا تضع علاقة ليفيناس الأخلاقية ـ علاقة «الوجهاً لوجه» مع الآخر- حيز التنفيذ، فديريدا يرفض مجرد الانصياع لإملاءات الواجب، بل يبني بإبداع علاقة بالنسبة إلى هذه المطالب النقدية في كل حالة فردية.
بالإضافة لما سبق فإنّ «أخلاقيات» القراءة التي طورها ديريدا في كتابه: «عن الغراماتولوجيا» تمثل نسخة «ليفيناسية» من العلاقات الأخلاقية، ففي هذا الكتاب يظهر ديريدا أن «معنى» النص ليس ذاتي الحضور، ولا يحدث في الآن نفسه الذي تقدم فيه العلامات اللغوية ولا توصله، وهو ليس مستقراً أبداً، ولذا فلا يمكن متابعته على أنّه ضرب من ضروب الحقائق النهائية. إنّ فتحة كهذه هي ما يتيح المجال أمام القراءة: من غير هذه الفتحة لا تكون القراءة ممكنة إذ إنّ كل شيء في هذه الحالة سيكون ثابتاً وجامداً في النص. بالنسبة إلى ديريدا إذن فالقراءة بخاصيتها استجابة إلى الفتحة التي يقدمها النص، وهي فتحة تدعو القُرّاء كي يأتوا. على القراءة المسؤولة أن لا تنحصر في غاية سبر أغوار الذات المؤلفة للنص، بل عليها أن تأخذ على عاتقها مسؤولية فتح الغيرية في ذلك النص[12]. فهنا تطرح القراءة على أنّها المحل الذي فيه تستكشف الذات القارئة علاقة ما مع الآخر، أي تسبر فيها هذه الذات إمكانية الأخلاقي بالمعنى الليفيناسي، «الترحيب» بالآخر من خلال الاستجابة له ضمن اللغة.
لطالما اعتبرت هذه الرابطة الواضحة بين ديريدا وليفيناس كنقطة انطلاق للتفكير في أهمية ديريدا الأخلاقية، لقد خلع ليفيناس الترتيب التقليدي للأخلاق ضمن فروع الفلسفة وأعاد توجيه «المسألة الأخلاقية» جذرياً، وإذا ما نظرنا إلى ديريدا تحت ضوء عمل ليفيناس، فسوف نرى في تخريبه لميتافيزيقا الوجود كخطاب يتحرك نحو نوع من الأخلاقيات العليا التي اشترك فيها الكثير من مفكري القرن العشرين. بعبارة أخرى: كان ديريدا مفكراً أخلاقياً طوال الوقت وقد دفعت أعماله بالتفكير الأخلاقي تجاه مستوى أعلى من التأمل (في الذات)، لذلك ومن خلال تتبع «العلاقة النصية» طويلة الأمد بين المفكرين في أنماطها المعقدة وتأثيراتها المتبادلة وجد الكثيرون مشروع معاملة ديريدا كمفكر أخلاقي واعداً للغاية[13].
إذا أخذنا كل هذا بالحسبان، فسوف يبدو لنا رفض ديريدا للاستجابة للمطالب الأخلاقية وعدم موافقته على تلقي أعماله على أنّها أعمال أخلاقية مثيراً للحيرة بشكل أكبر؛ فحين قام ديريدا بدمج نقاش ليفيناس المتجدد للأخلاقيات في أعماله فقد حول فلسفة ليفيناس الأخلاقية إلىى إشكالية نصية. حتى نبسط الأشياء، فإنّ أفق «الأخلاق» التي أسس له ليفيناس حتى يحله محل الأنطولوجيا ليس هو الفكرة التي أراد ديريدا تبنيها رغم قيامه بعكس «علاقة» ليفيناس الأخلاقية وشرحها ودمجها في الكثير من أعماله. يرفض ديريدا أن يعرَّف في إطار مصطلح (اسم، صفة) «الأخلاقي» حتى حين يحتفظ بطريقة أو بأخرى بمعنى العلاقة الأخلاقية الأصلية، ولذلك يدفع بنا موقف ديريدا إلى نوع من الحيرة الفلسفية التي لا يمكننا تجازوها والتي ستظل دائماً تواجه عادتنا الضاربة بجذورها ضمن كياننا بأنّ نسعى إلى الفهم من خلال الاثنينية والانفصام المتأصلين في تصورنا للمفاهيم. إذا ما تتبعنا مسار ديريدا فقد رأينا أن العلاقات الأخلاقية يتم تطبيقها ضمن النطاقات غير الأخلاقية والتي ليست بالضرورة معادية للأخلاقيات؛ وبقدر ما تعتمد محاولة ليفيناس لكي يضع الأخلاق كالفلسفة الأولى كوسيلة لتخريب ميتافيزيقا الوجود على التقسيم الهرمي للأخلاق والأنطولوجيا فإنّها تخضغ نفسها للقراءة التفكيكية. إذن فمع أن عمل ليفيناس قد قام بالواقع بتفكيك مجال الأخلاق المعرفي التقليدي فإنّ قيامه بعكس القضية لا يعفيها من أن تتعرض للتفكيك ويجب ألا يسمح لها كي تتحول إلى نظام عقائدي دوغمائي.
في إحدى المناسبات قال ديريدا إنّ الفرق بينه وبين ليفيناس هو أن ليفيناس كان مستعداً لكي يدعي بأنه فيلسوف إذ يقع عمله ضمن تقاليد الفلسفة وحدودها، أمّا تأسيسه للأخلاقيات كالفلسفة الأولى فيعنى إعادة نظر راديكالية في الأخلاق إذ لم يعد يراها كمجموعة من المعايير الموصوفة أو حتى كـ«مجال» فلسفي. كان هذا التحول في تصور الأخلاقيات إحدى آثار عديدة عملت في تقدم مسار ديريدا الفكري، ولكن بينما يلجأ ليفيناس إلى أسلوب فلسفي في الكتابة ويتسبب بغليان في «تفكيرنا الأخلاقي» فإنّ ديريدا يظل يدعو في كتاباته «المعادية للفلسفة» إلى التنبه إلى قوة الأخلاق التي قد تربطنا بشكل خطير. إنّ هذا الفرق بحد ذاته يمهد الطريق أمام افتراق السبل بين المفكرين رغم تشابههما الواضح[14].
وبينما جعل ليفيناس الأخلاق هي الفلسفة الأولى، وأوصل المسألة الأخلاقية إلى نقطة الغليان، فيظل ديريدا يشدد على إمكانية الانحراف المتأصلة ضمن أي نص بما في ذلك نصوص ليفيناس، ولربما ومن خلال قراءته للآخر سوف يستمر في مقاطعة المناقشة المتجددة للأخلاق، مشيراً إلى ما أسماه بـ«السر». استخدم ديريدا أسلوباً ملتو غير مباشر في «انفعالات» كي يقترح أن السر يقاوم الاستيعاب من خلال أي آلية تفسيرية. «يوجد السر» لا يمكن لأي خطاب أن «يكشفه» حقاً لأنّه ليس شيئاً يمكن كشفه، بل هو «لا» شيء يعد بقدوم «شيء ما» وسوف يظل يتملص من أصابع الأخلاقيات حتى بالمعنى الليفيناسي[15].
3ـ عدم الاكتراث الأخلاقي «والعنف البين ــ ذاتي»
ولكن النقاش التجريدي هذا لديريدا بالعلاقة مع ليفيناس حول مشكلة الأخلاقيات يظل أخفى من أن «ينقذ» ديريدا من الإدانة بالنسبة إلى الأشخاص الذين يشتركون في الرأي القائل بأنّ ديريدا يتجنب أو يتلافى الشؤون الدنيوية الملحة. ولكن بغض النظر عن مدى الدقة التي قدم فيها ديريدا نقطة جداله وبغض النظر عن الإمكانيات الثورية التي تحتوي عليها تظل الحقيقة هي أن كتابات ديريدا لا تركز على القضايا الأخلاقية ولا تحمل أي أهمية في سياق حل القضايا الاجتماعية والسياسية. تبلور هذا النوع من القلق الأخلاقي في فقرة من مقالة لإدوارد سعيد تحت عنوان «النقد بين الثقافة والنظام» أصبحت هي المعيار أو الموقف التقليدي لرؤية أعمال ديريدا على أنّها لا مبالية أخلاقيّاً:
وهكذا فإنّ عمل ديريدا لم يكن يتعلق بموقف يتيح المجال أمام تقديم معلومات وصفية من النوع الذي يضفي على الميتافيزيقا والثقافة الغربيين أكثر من مجرد معنى إشاري مكرر، ولم يهتم في عمله بإزالة الاستعلاء العرقي الذي يتحدث عنه من حين إلى آخر بوضوح نبيل، ولا يطالب أتباعه بأي ارتباط ملزم بالنسبة إلى الشؤون المتعلقة بالاكتشاف أو المعرفة أو الحرية أو القمع أو الظلم. فإذا كان كل شيء في النص مفتوحاً بالتساوي للتشكيك والإثبات فعندها ستكون الفروقات بين مصالح طبقة والأخرى، بين القامع والمقموع، بين خطاب والآخر، بين الإيديولوجية والأخرى حقيقية في عنصر المصالحة الموجود في النصية ولكنها لن تكون مهمة في ما يتعلق باتخاذ قرار حولها.
بالنسبة إلى «السعيديين»[16] من الواضح أن العنصر الثوري في نقاش ديريدا حول النصية لا يتجاوز كونه أمراً يتعلق بالنصوص ولكنه لا يساعد في معالجة قضايا ملحة مثل التمميز العنصري والظلم والقمع، وجميعها قضايا نصنفها تقليدياً على أنّها قضايا أخلاقية. رغم اعتراف سعيد بألمعية ديريدا في تفكيك إرث الغرب الميتافيزيقي، إلاّ أنّه ظل يرى بانزعاج في تفضيل ديريدا للتعامل مع «ما لا يمكن حسمه في النص» على أنّه «انضباط متزهد من نوع مقيد ومعيق». والخلاصة هي أن سعيد ومن تبنى وجهة نظره رأوا في أفق القراءة الذي فتحه ديريدا أنّه يفتقد إلى الفعالية في العالم الحقيقي، ولا يمكن له أن يرضي مطالب «التدخل» لإيجاد طريقة لحل المشاكل الأخلاقية الحقيقية[17].
كيف يمكننا إذن الرد على هذا المطلب بوجود «أخلاقيات إيجابية» كما يسميها سعيد؟ إحدى طرائق فعل هذا هو اختبار عمل ديريدا مقابل أخلاقيات سعيد الإيجابية لتقييم مزاياها الأخلاقية، وقد قام عدة باحثين بفعل ذلك منهم بيتر بيكر في كتابه «التفيكيكية والمنعطف الأخلاقي»، إذ استقرأ بيكر التفكيكية كاستجابة لـ«مطالب» أخلاقية عُليا. قال بيكر إنّ أعمال ديريدا، ومن خلال جذبها الانتباه إلى عمل «الكتابة» في كل جانب من جوانب الوجود الإنساني، أيقظت وحفزت المقاومة لـ«العنف بين ـ ذاتي» المتضمن في كل ممارسة ومؤسسة اجتماعية، وفي كل جانب من جوانب الوجود الإنساني. لا يرى بيكر في أعمال ديريدا مسائل نصية فحسب، بل يرى أنّها تحمل قدرة تحويلية، ولذا إذا لجأنا إلى النتائج البراغماتية التي يمكّننا الوصول إليها من المشروع التفكيكي، اعتمد الكثير من المدافعين عن ديريدا منطق «الأخلاقيات الإيجابية» التي طرحها سعيد وحاولوا كشف الفعالية العملية التي يتضمنها تنظير ديريدا.
لكن هذه المقاربة لعلاقة ديريدا مع الأخلاق والقائمة على الالتزام بأجندة الأخلاقيات الإيجابية سوف تؤدي أيضاً إلى خيبة أمل مزدوجة؛ فمن ناحية سوف تنحط هذه المقاربة بديريدا إلى مجرد مفكر أخلاق ضبابي وغامض يعجز عن توضيح موقفه وبالتالي سيكون مخيباً لآمال الراديكاليين السياسيين. من ناحية أخرى لا تأخذ هذه المقاربة بعين الاعتبار خفايا معالجة ديريدا الملتوية للأخلاقيات وستتجاوز صفحاً بالضرورة عن أهمية تجنبه المقصود لـ«شكل الأخلاق». فلا نكران بأنّ ديريدا وكما اتهمه سعيد: «لا يطالب أتباعه بأي ارتباط ملزم بالنسبة إلى الشؤون المتعلقة بالاكتشاف أو المعرفة أو الحرية أو القمع أو الظلم»، ولا تؤتِ مضامين عمله الأخلاقية أكلها إلّا ببطء والتواء، إلاّ أنّه إذا كان عدم وجود «نظرية أخلاقية» صريحة (وكان ديريدا لا محالة سيقول: دوغمائية) «عيباً» فهو أيضاً جزء حيوي من فكر ديريدا التفكيكي الذي ما كان له أن يرضى نفسه بـ«نظرية» معينة تقدم لنا مفاتيح الكون والحلول لجميع مشاكله. قبل أن نتهم ديريدا بأنّه غير مكترث أخلاقياً علينا أن نتسائل إذا ما كانت «الأخلاق الإيجابية» قادرة على أن تمتلك قيمة مطلقة بنفسها وبالاستقلال عن كل شيء آخر، أوليست هذه الأخلاقيات لا محالة إحدى أوجه الخطاب التشكيل الاجتماعي ـ الثقافي، وفي نهاية الأمر نتاج لصراعات اعتباطية لقوى تعمل في التاريخ؟
يقترح سعي سعيد الحثيث بحثاً على الأخلاقيات وقلقه تجاه «لا مبالاة» ديريدا بالأمور الأخلاقية مستويين من «الذنب» الأخلاقي من قبل ديريدا: الأول، هو أن ديريدا لا يحمل مقدار المسؤولية الذي يتطلبه منه كونه مثقفاً تجاه إيجاد حلول للظلم الواقع في العالم، أي أن ديريدا نادراً ما يعير قضايا العالم الواقعي انتباهه مما يجعله غير حامل لمسؤولياته الأخلاقية كمثقف. أمّا المستوى الثاني فهو أن عمل ديريدا يشكل عقبة أمام السعي وراء الفكر والعمل الأخلاقيين. يُعتقد أن ديريدا من خلال عمله المشهور حول النصية قد حوّل كل شيء إلى مشكلة نصية وكأن هذا هو الجواب النهائي لأي مسألة دنيوية[18]. وهكذا وفي العمل على الإشكاليات النصية الذي نراه في أعمال ديريدا (و/ أو أي من أتباعه) تتم معاملة جميع النصوص (الآتية من أي «خلفية» كانت) المعاملة ذاتها، ونراها جميعها منفتحة أمام القراءة التكفيكية «المحضة». فهذه هي إذن «حماية الشخص لنفسه» في نصية لا تقدر على مواجهة القضايا الحقيقية بجدية بما أنّها في الواقع تُوقف أي خطاب، حاكمة عليه بأنّه «لا يمكن البت فيه» أو «غير محدد». إذا ظل الخطاب التفكيكي معلقاً إلى ما لا نهاية، فلا يمكنه اتخاذ أي قرار ولا تحصيل أي علم ولا القيام بأي عمل.
في معنى الخيريّة
لكن حتى يكون هذا الضرب من الاتهام الأخلاقي صالحاً، علينا أن نكون متأكدين من الأساس الذي تقوم عليه العدالة والأخلاق والمسؤولية؛ فكيف يمكننا أن نحقق العدالة؟ كيف يمكن لأحدنا أن يكون صاحب مُثل أخلاقية؟ ما هو التصرف المسؤول؟ إنّ هذا يعود بنا إلى فهم أفلاطون للأخلاق من خلال تعريف «الخير المطلق» (معيار أخلاقي مطلق)؛ ويقوم الفعل الأخلاقي على معرفة أو فهم «ما هو الخير» («ما هو الحق»، «ما هو العادل»). ولكنّنا رأينا سابقاً أنّ عملية إعادة تعريف الأخلاق التي قام بها ليفيناس (وبشكل أكثر غوصاً، معالجة ديريدا للأخلاق من خلال «عدم معالجتها») لم تكن إلاّ نقلة ابتعاد عن طرح معايير كهذه، أي نقلة من الذاتية والشمولية إلى الانفتاح اللامتناهي (نحو الآخر). لكن من ناحية أخرى يبدو أنّ سعيد يفترض وجود عدالة، وليس بالمفهوم الأفلاطوني المطلق بل بضرب من المنطق العام الذي يمكننا ربطه مع مشاكل العالم الحقيقي والمواقف المحلية والرغبة المشبوبة في أن نغير مجتمع قائم على اللامساواة ضمن سياق أحداث حقيقة (مثل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي). لكن علينا أن نتسائل: هل يوجد معنى للعدالة قائم على المنطق العام غير هذا الذي يرجع في آخر المطاف إلى الأخلاقيات الأفلاطونية (بما أنّه لا يمكن له أن يبنى على «النسبوية»)؟ ألا تجعل هذه الحقيقة مفهوم العدالة هذا مكشوفاً أمام تهمة الدوغمائية، وهي السياسة التي تقوم عليها السلطة؟
لكن هذه السلوكيات البراغماتية ـ التي تُعامل ديريدا على أنّه «مذنب» أخلاقياً، طالما قرر ألّا ينهمك مباشرة في الأمور الأخلاقية، بل يشجع بدلاً من ذلك بشكل مباشر وغير مباشر ممارسة «عدم التدخل» ـ تمثل خير تمثيل الناس الذين استفظعوا النجاح الذي حققته التفكيكية في المشهد الأميركي، وكما عبر روبرت بيرناسكوني في بداية مقالة حول قضية الأخلاق[19]: «يبدو أنّ المطلب الذي يجري على كل لسان الآن هو أن يقدم لنا ديريدا فلسفة أخلاقية، أو على الأقل أن يظهر لنا أهمية التفكيكية على المستوى الأخلاقي»؛ وقد كانت هذه العبارة صحيحة حتى قبل كانون الأول 1987 حين تمت إعادة نشر الأعمال الصحفية التي كتبها بول دو مان، المفكر والناقد الأدبي الشهير المنتمي إلى مدرسة ديريدا، بعد وفاته حيث أطلقت كتاباته خلال فترة الحرب العالمية الثانية والتي أثبتت تعاونه مع النازيين هجمات شرسة على لا مبالاة التفكيكية بالجوانب الأخلاقية، إنّ لم يكن انحطاطها الأخلاقي. لربما عكس هذا الحدث (أو عزز من) خوف جماعي موجود مسبقاً وخاصة في الولايات المتحدة من أي طريقة في التفكير تظل في حذرها من اليقينيات الراضية عن نفسها متشككة إلى أبعد حدود.
يمكنّنا أن نطبق الاتهام الذي وجهه سعيد إلى ديريدا على جميع أنواع البحث الفلسفي المحض، ولكن ديريدا «مكشوف» بشكل خاص لأنّ نقده لميتافيزيقا الحضور لا تتيح له المجال بأنّ يتمسك بأيّ مؤشر متعال حتى لو كان اسمه «الأخلاقيات»، وحتى لو كانت الأخلاقيات بمعناه الليفيناسي. بالنسبة إلى الأشخاص المتمسكين بالعمل السياسي، فإنّ هذه المراوغة مشكلة إلى «درجة أكبر» من الأخلاقيات النظرية التي طرحها ليفيناس حتى لو كانت تلك الأخيرة غير قادة على إملاء أعمال مباشرة لأنّ هذه لم تكن النية من ورائها أصلاً. ولكن نعود ونقول: ما هي الأسس التي يقوم عليها أيّ مبدأ محدد يمكن له أن يملي التصرفات المباشرة إنّ لم تكن أسساً أفلاطونية معرضة بنفسها إلى نقد قائم على السلطة؟ كذلك فحتى لو فرضنا وجود أساس «مثالي» للعدالة (وليس أساساً «تعرض للفساد» كما هو الحال في السلطة أو غيرها)، ألا يمكن للمطالبة بالعدالة أن تكون نتاج أمل زائف، أي رغبة يائسة في اليقين والأمن والسلام؟
لا يمكننا القول بأنّ التفكيكية «صائبة» أو «مخطئة» أخلاقياً، فموضع مسائلتها إنّما هو القناعة بوجود حقيقة ثابتة والرغبة فيها سواء كانت حقيقة غيبية، أم أُسُساً أخلاقية، أم نظاماً يمكن اكتشافه والإيمان به واتباعه. إنّ الحاجة إلى اتخاذ قرارات أخلاقية وأفعال ملموسة، هي بدورها حقيقية وقابلة للتصديق، بل وضرورية، لكن ما لم نكن جاهزين كي نجادل لصالح صحة معايير أخلاقية «كبرى ونهائية» ونقائها، فإنّ الحاجة الإنسانية إلى قرارات وأفعال كهذه ورغم ضرورتها في الحياة العملية لا يمكن لها وحدها أن تدين التفكيكية إنّ لم تقدس هذه القرارات والأفعال.
خاتمة
إذا تذكرنا زعم ديريدا في «عن الغراماتولوجيا» بأنّ مشروعه يهدف إلى تفكيك «الشمولية العامة» فلن نتفاجأ بما قد يبدو لنا على أنّه حساسية متزايدة اتجاه الانتباه النقدي للأهمية «الأخلاقية» لعمله. لربما قلق ديريدا مما رأى فيه «سعاراً جماعياً» حول موضوع الأخلاقيات، فهذا يهدد بخطر التحول إلى إحدى أشكال التحول إلى الشمولية، أي إلى مطلق متعال جديد، أي الفكرة التي تنبني على أساس معتقدات الناس العامة، إلى «دوغما»، أي مبادئ تصدق دون مساءلة ولا تمحيص: فيصبح على جميع الخطابات أن تلتزم بدوغمائية مع لغة الأخلاقيات، أي مع أخلاقيات لا تزال لم تتعرض للتعريف.
إذن تُصرّ التفكيكية على رفض الإيمان الأعمى وعلى إتاحة المجال أمام الإبداع، وهكذا عمل ديريدا على قراءة خلاقة لفلسفة ليفيناس الأخلاقية ـ التي نمت في نهاية الأمر ضمن تقاليد الميتافيزيقا فتظل بالتالي محدودة بها ـ وهذه القراءة التفكيكية تبني العلاقة مع «الآخر» المذكور في نصوص ليفيناس، وهو شيء موجود داخل النص ولكنه لم ينكشف فيه؛ ولذلك فهو ليس نقداً لليفيناس بقدر ما هو عمل متمم له ينبّهُ على ما لم يتم ذكره فيه بصراحة سواء كان ليفيناس يدرك ذلك أم لا[20]. إنّ الإصرار الديريدي على يرفض اتباع أي من النماذج والجمل والخطابات المرسومة قبلاً، فـ«معتقده» هو أنّه لا يمكن لأي تفكيك حاضر أن يحيط بجميع الإمكانيات، وجميع أشكال «الآخر» التي يمكن لها بعد أن تأتِ. لذا نجد ديريدا يقول أثناء محاضرته حول موضوع الضيافة:
«الضيافة، التجربة، التخوف، ممارسة الضيافة المستحيلة، والضيافة كإمكانية ما ليس ممكناً (أن أستقبل ضيفاً آخر لا أقدر على الترحيب به، أن أصبح قادراً على ما أنا لست قادراً عليه) ـ هذه هي التجربة التي تمثل التفكيكية نفسها خير تمثيل، تجربة المستحيل. الضيافة هي تفكيك لكونك «في المنزل»، والتفكيكية هي الضيافة تجاه الآخر، إلى أحد غيرك أنت، الغير لذلك «الغير» إلى غير أبعد من «غيره»[21].
المصادر
1. 1. Baker, Peter. Deconstruction and the Ethical Turn. Gainesville: University Press of Florida, 1995.
2. 2. Bennington, Geoffrey. Interrupting Derrida. New York: Routledge, 2000.
3. 3. Bernasconi, Robert. “Deconstruction and the Possibility of Ethics.” Deconstruction and Philosophy. Ed. John Sallis. Chicago: The University of Chicago Press, 1987. 122 - 39 , and Simon Critchley. Editors’ Introduction. Re-Reading Levinas. Ed. Robert Bernasconi and Simon Critchley. Bloomington: Indiana University Press, 1991. xi-xviii.
4. 4. . “The Trace of Levinas in Derrida.” Derrida and Diffrance. Ed. David Wood and Robert Bernasconi. Evanston: Northwestern University Press, 1988. 13 - 29.
5. 5. Derrida, Jacques. Adieu: To Emmanuel Levinas. Trans. Pascale-Anne Brault and Michael Naas. Stanford: Stanford University Press, 1999.
6. 6. . “Hostipitality.” Acts of Religion. Ed. Gil Anidjar. New York: Routledge, 2002. 356 - 420.
7. 7. . Of Grammatology. Trans. Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore: The Johns Hopkins University Press, 1976.
8. 8. . “Passions: ‘An Oblique Offering’.” Trans. David Wood. On the Name. Ed. Thomas Dutoit. Stanford: Stanford University Press, 1995. 1 - 31.
9. 9. . Points…(Inverviews 1974-1994). Trans. Peggy Kamuf et al. Stanford: Stanford University Press, 1995.
10. 10. . “Violence and Metaphysics: An Essay on the Thought of Emmanuel Levians.” Writing and Difference. Trans. Alan Bass. Chicago: The University of Chicago Press, 1978. 79 - 153.
11. 11. Gasché, Rodolphe. Inventions of Differenc: On Jacques Derrida. Cambridge: Harvard University Press, 1994.
12. 12. Kant, Immanuel. Critique of Practical Reason. Trans. Mary Gregor. Cambridge University Press, 1997.
13. 13. Levinas, Emmanuel. “Ethics as First Philosophy.” The Levinas Reader. Ed. Se