البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هايدغر ناقداً نيتشه

الباحث :  آلان دي بينوا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  5
السنة :  السنة الثانية - خريف 2016 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  November / 1 / 2016
عدد زيارات البحث :  1193
تحميل  ( 304.160 KB )
ابتداء من سنة 1936، قدّم مارتن هايدغر قراءة مُكثّفة لعمل نيتشه. وبحسب كاتب المقال المفكر الفرنسي آلان دي بينوا فإن الطريقة التي يُحلّل بها هايدغر فلسفة نيتشه(1) تُمثّل مرحلة أساسية من فكره الخاصّ رغم أن استنتاجاته تبدو مُحيّرة من الوهلة الأولى. فهو يرى إلى أن الارتجاج النيتشي هو النتيجة البعيدة للارتجاج الأفلاطوني ثم الديكارتي. ويشير إلى أن نيتشه «قريب للغاية من ديكارت في ما يخصّ الجزء الأساسي من فلسفته» ويذهب إلى حدّ وصْفه بأنه «أكثر الأفلاطونيين تفلّتاً».

أما كيف تمكّن هايدغر من القيام بمثل هذا التشخيص، فهذا ما يسعى دي بينوا إلى تبيينه وشرحه في مقالته هذه.       

 المحرر

--------------------

بإعلان «موت الله» ورفْض «العالم فوق المحسوس» لصالح العالم المحسوس الذي أُعلِن رسْمياً أنه وحده الحقيقي، بدا نيتشه وكأنه يُهاجم مجال الأفكار الأفلاطونية ويُعلن عدم وجود عوالم خَفيّة. (حتى لو لم تكن صرخة «مات الله» صرخة مُلحد وإنما الملاحظة الجليّة للموت الطارئ والقديم ـ وحتى صرخة مُتّسمة بالندم، تشجب هؤلاء المؤمنين باعتبارهم «مُلحدين» حقيقيين عُبِّرَ عن إيمانهم بطريقة لا ينتج عنها إلا موت الله). في الواقع، إن نيتشه مُعجب بنفسه صراحةً لأنه قام ﺑِ «قلْب» الفكر الأفلاطوني. وهو يعني بذلك أنه قَلَبَ مصطلحات إشكاليته. لكن ألا يُوازي هذا القلْب (umkehrung) التجاوز (ـberwindung)؟ ألا يمكن تفسيره بشكل أدقّ كاكتمال (Vollendung)؟ بعبارة أخرى، إن وصْف العالم المحسوس کـ «عالم حقيقي»، والعالم ما فوق المحسوس كوهم زائف، ألا يكفي هذا للخروج من الأفلاطونية؟ ويُضيف جان بوفريه Jean Beaufret «ألا يستجيب القلبُ النيتشوي للأفلاطونية بدوره، في الأفلاطونية، لشيء ما خاصّ بالأفلاطونية التي أصبحت أكثر وضوحاً في ضوء عملية قلْبها؟» [2].

لقد شدّد هايدغر مراراً على أن مُعارضة شيء ما تعني حتْماً مشاركة هذا الشيء نفسه في ما نُعارضه. سيُؤكّد إذن أن «القلْب» الأفلاطوني الذي يقوم به نيتشه يمتاز بشكل رئيس بالحفاظ على ترسيمات مفهومية أو إلهامات جوهرية خاصّة بما يُريد «قلبه» وهذا ما سيقوده إلى التأكيد على أن نيتشه يبقى في النهاية في «الموقع الميتافيزيقي الأساسي»، الذي يُعرّفه هايدغر بأنه «الطريقة التي يعتمدها ذلك الذي يطرح السؤال المَبدئي كي يبقى هو نفسه مُندمجاً بالبنية غير المُطوّرة للسؤال المَبدئي»[3].

أما عن كيفية إجراء برهنته؟ فذلك سيكون بشكل أساسي انطلاقاً من تفكير نقدي حول مفهوم القيمة.

يحتلّ هذا المفهوم عند نيتشه مكانة بالغة الأهمّية. ويُعدّ عنصراً أساسياً في نقده ومشروعه على السّواء. كتب نيتشه: ماذا تعني العدمية؟ ـ أن القيم العليا [die obersten werte] تفقد قيمتها» (La volonté de puissance الفقرة 2). إن العدمية ناجمة عن التغلّب التدريجي لبعض القيم التي يعتبرها نيتشه الأكثر دناءةً (أو زيْفاً) على قيمٍ أخرى كانت الأكثر سُمُوّاً (أو الأكثر أصالةً). بتعبير أدقّ، يعتقد نيتشه أن الإنسان يُسقط تدريجياً ثم يُبلور في مجال وجوده الخاصّ قيماً مُستعارة أصلياً من العالم الخفِيّ arrière-monde. في التحليل الأخير، ارتكز «تخفيض القيم» على العدول عن قيم العالم المحسوس باسم مثل أعلى ما ورائي (أو فوق العالم المادّي) الذي ليس سوى خدعة وبريق مُوهِم للعالم المحسوس، ما يعني أن العدمية تصدر عن ثَنوية dualism العالمين التي ألهمت الفلسفة الغربية منذ أفلاطون. ولما كانت العدمية مطروحةً كحدث أساسي في التاريخ الغربي، يقرأ نيتشه إذن هذا التاريخ بوصفه تاريخ التخفيض البطيء ﻟ «القيم العليا»، وإن نقطة النهاية للعدمية هي أنه لا شيء له قيمة وأن ليس هناك شيء ذو قيمة. من ناحية أخرى، يعتبر نيتشه أن إرادة القوة هي «مبدأ التأسيس الجديد للقيم». وإن العنوان الفرعي لكتابه مُعبّر: «بحث في قلب القيم كافّة». فانطلاقاً من مفهوم القيمة يفهم نيتشه صعود العدمية وإمكانية تجاوزها: ارتكزت العدمية على تخفيض بعض القيم؛ ومن أجل مُواجهتها يجب تأسيس قيم جديدة.

على العكس، يُنكر هايدغر بقوة فكرة أن دور الفلسفة الخاصّ يقوم على التفكير ﺑ «ما له قيمة»، واستطراداً، على تحديد مقياس للقيم. بالطبع ليست كل القيم متعادلة بنظر هايدغر. هنا أيضاً، يستوحي بالأحرى من الفلسفة الإغريقية الغريبة أصلاً عن مفهوم القيمة كما نفهمها اليوم، الفلسفة التي فهمت فكر الكينونة کـ «بزوغ لعالم الاختلاف»، ومجال الكينونة كمجال للاختيار بين الأفضل والأسوإ انطلاقاً من «الكافي». وقد كتب جان بوفريه Jean Beaufret أن «الاختيار إيثاراً هو المهمّة النقدية أساساً لفكر الكينونة [...] إن فكرة الاختيار تُشكل جوهر اللوغوس Logos الذي لا يقوم على جمْع الكلّ بلا تنظيم، بل على عدم الاحتفاظ بما انتخبه في مُصنّفه»[4].

إن أولية «القيمة» بالمعنى الحديث للكلمة مُشتقّة من الأولية الأفلاطونية للـ « أغاثون» (Agathon)، أي الخير بذاته، الخير المجرّد. إن هذا الخير المقطوع من أي تعيين ملموس هو ما يُعيّن نوعيّة الكينونة ونوعية عالم الأفكار في الوقت نفسه. إن القول بأن العالم فوق المحسوس محكوم  بالخير يعني برأي أفلاطون أن عالم الأفكار هو نفسه محكوم بفكرة، فكرة «أغاثون»، المطروحة بوصفها الفكرة الأولى، أي القيمة بامتياز. ينتج من ذلك أن حقيقة الكينونة، الحقيقة الضعيفة تماماً، لا تُساوي شيئاً بذاتها ـ كما كان الحال عند فلاسفة ما قبل سقراط الذين يعتبرون أن الحقيقة الكافية نفسها بنفسها لم تكن بحاجة أبداً إلى أن تكون مكفولة مما هو أرفع منها ـ ، وإنما فقط باعتبارها تُجسّد أو تُعبّر عن اﻟ «أغاثون» الذي ترتبط به. «هكذا يفتتح أفلاطون، تحت اسم الفلسفة، إخضاع الحقيقة»[5]. إن التاريخ الفلسفي لمفهوم القيمة سيكون تاريخ إخضاع الحقيقة.

كل قيمة تتماهى مُذ ذاك مع وجهة نظر. وكل قيمة يطرحها هدف ما، ونظرة على ما قرّرنا أنه ذو قيمة. إن هذا التعريف الحديث ﻟ «القيمة» يظهر على نحو أكمل لدى ديكارت الذي يُمكّن ممارسة الفلسفة من بلوغ أوجها في تعيين «القيمة الصحيحة» للخيرات التي لا ترتبط إلا بنا، وهذا انطلاقاً من مصدر وحيد للتعيين هو «الأنا المُفكّر» (Ego cogitans). ثمة نتيجتان رئيسيتان لذلك.

الأولى هي ظهور صورة جديدة للحقيقة. مع ديكارت، الحقيقة ليست الانكشاف aléthèia القديم لدى الإغريق القدامى، ولا حتى «المطابقة» adaequatio التي شفى المُعلّقون القدماء غُلّتهم منها («الحقيقة هي تطابق الأشياء والعقل»). من المطابقة البسيطة تتحوّل الحقيقة إلى «يقين» ـ «الحقيقة» verum تتحول إلى «يقين» certum ـ مُنصّبة نفسها «بوصفها أمان الوجود»[6]. لا يتساءل ديكارت بشأن الكينونة (تtre)، وإنما فقط بشأن الكائن (Etant) الذي يمكن أن يعرض نفسه في بُعد اليقين. وهذا يعني أنه لا يهتمّ إلا بالمعرفة القابلة لِأن تطرح نفسها كمعرفة للذات. ولا يمكن أن تحدث من دونها أي معرفة أخرى، حيث طرح أرسطو، مثلاً، أن كل معرفة هي أولاً معرفة شيء آخر، وأنه على هذا النحو يمكن لِماهية الحقيقة الاقتراب. لليقين الذي يُزوّدنا به الإيمان في ما يخصّ الأمور الغائبة (التي سمّاها توما الأكويني «Absentibus») يستجيب يقين اﻟ «intuitis mentis» الذي سيحلّ محلّ السلطة الإلهية.

يؤكّد ديكارت أن تأويل الحقيقة كيقين يتأتّى من وجود الذات المُفكِّرة التي تمتحن نفسها. لكن هايدغر يُبيّن في الواقع عكس ذلك: إن طرح وجود الذات كحقيقة أولى أكيدة يقود إلى فهْم كل حقيقة كيقين.

النتيجة الثانية للتأكيد الحديث لأولية القيمة هي انبجاس ما يُسمّيه هايدغر «ميتافيزيقا الذات». ﻓ «الأنا» le moi تتحوّل مع ديكارت إلى «ذات» ـ أو  لِنقل ذلك بلغة هايدغر، إن الإنسان «بوصفه موضوعاً subjectum يتنظّم ويُوفّر الأمان لنفسه مُراعياً استقراره في جملة الكائن[7] (Etant). مع ديكارت، الذات هي التي يصبح علمها التفكّري، أي العلم بذاتها، معيار الحقيقة. هذا يعني بتعبير هايدغر أن «الإنسان هو العلّة الخَفِيّة لأي عملية استحضار للكائن وحقيقته [...] مما يعني أن كل كائن غير إنساني يصبح موضوعاً لهذه الذات[8].

لكن هذا الانزياح الذي نراه يتسلّل باتّجاه تصوّر ذاتي محض للحقيقة يعني أن ثمة دوراً أساسياً يعود إلى القرار وبالتالي إلى الإرادة. ويُفيد الكوجيتو الديكارتي «أنا أُفكّر إذاً أنا موجود» أنني أوجَد ما دُمْتُ أُفكّر، وأن كينونتي يُعيّنها هذا التمثيل الذي أُكوّنه لذاتي، لكنه يُفيد أيضاً أن طريقتي في تمثيل الأشياء تبتّ أيضاً في حضورها أو حضور ما تَحويه في ذاتها. إذا اعتُبر في بادئ الأمر أكيداً ما تعتبره الذات بطريقة مُدرِكة كما هو، فإن الذات تُقرّر طرحه من حيث هو والذي سيُنظر إليه على أنه أكيد. مُذ ذاك، لن تعود الحقيقة تُدرَك أو تُراد. إن اليقين الديكارتي هو إذن قبل كل شيء مسألة إرادة: إن الحكم نفسه يُؤوّل ضمن أفق الإرادة وكتصديق للإرادة. كَتَبَ جان بوفريه أن «المعرفة نفسها للحقيقة كما يتطلّبها التثمين الصحيح للقِيم تُصبح بدورها موضوع تقويم يعتمد من ناحيته، بشكل أساسي، على قابلية الإرادة لمواجهة المواقف التي تتورّط فيها»[9].

بعد ذلك يُلقي هايدغر نظرةً على المُكوّنين الأساسيين لفلسفة نيتشه: إرادة القوة والعودة الأبدية. إن هايدغر، وهو يُواجه التأويل الذي اقترحه ألفريد بوملير[10] (Alfred Bنumler) سنة 1931، والذي تبعاً له يبلغ الفكر النيتشوي أوجه في موضوع إرادة القوة، في حين تُصبح عقيدة العودة الأبدية عنده «بدون نتائج كبرى»، يجتهد في إظهار أن هاتين المضمونيتين thematiques هما في الحقيقة غير قابلتين للانفصال.

ثم إن كونهما غير قابلتين للانفصال يَظهر جَليّاً عند نيتشه. فعلى سبيل المثال، عندما يكتب هذه الجملة المُوحية: «أن يُرسّخ في الصيرورة طابع الكينونة ـ هذه هي إرادة القوة العليا». أو كذلك عندما يُعلن أن إرادة القوة هي قوة محدودة ليس بوسع تطورها إلا أن يكون لا مُتناهياً، لكن هذا التطور «لا يمكن أن يُفكّرَ فيه إلا على نحو دوري»[11]. في كتاب (هكذت تكلّم زرادشت) يُعبّر موضوع إرادة القوة بالطبع عن صورة «الإنسان الأعلى» (surhomme). إن الإنسان الأعلى والعودة الأبدية هما أُسّا تعليم زرادشت. يُشدّد هايدغر على أن هاتين العقيدتين لا يمكن أن تنفصلا لأن كلاً منهما «يدعو الآخر كي يستجيب له»[12]. إن العودة الأبدية تعني الإنسان الأعلى، كما أن الإنسان الأعلى يتضمّن عقيدة العودة: «يحدث التعليمان ويُشكّلان دائرة. يستجيب التعليم من خلال حركته الدائرية لِما يوجَد في الدائرة التي، من حيث هي عودة أبدية للمُتطابق، تُشكّل كينونة الكائن، أي ما هو في الصيرورة دائم»[13].

لكن ما هي إرادة القوة؟ يُعلن نيتشه: «حيث وجدتُ الحياة، وجدتُ إرادة القوة». وأيضاً: «إن ما يُريده الإنسان، ما يُريده أي جزء صغير من الجسم الحيّ، إنما هو مزيد من قوة»[14]. بالتالي، تبدو إرادة القوة خاصّية للحياة ـ بل إن مِيزتها أمر بالغ الخطورة. لكن هايدغر يُقاوم بقوة كل تأويل «بيولوجاني» (biologisante) لوجهات نظر نيتشه. بالتأكيد يُشدّد نيتشه على «الحياة» لكن لا في منظور «بيولوجي»، إذ يكتب هايدغر «عندما يفهم نيتشه الكائن في جملته وقبل كل شيء الكينونة من حيث هي «حياة»، [...] فهو لا يُفكّر بيولوجياً البتة، وإنما يُؤسّس ميتافيزيقاً هذه الصورة البيولوجية في الظاهر للعالم»[15]. طارحاً إرادة القوة كماهية الحياة، يريد نيتشه القول أن إرادة القوة تُشكّل المِيزة الأساس لكل كائن، وأنها ماهية كل كائن. ويُضيف نيتشه أن إرادة القوة هي «الماهية الأكثر حميميةً للكينونة»[16]. في نهاية المطاف، الكينونة عينها تُصبح إرادة القوة.

لكن هايدغر يُلاحظ أنه «لم يعد هناك من شيء يمكن للإرادة أن تتعيّن به»[17]. لذلك من المشروع تأويل الإرادة كإرادة تُؤكّد نفسها، أي إرادة الإرادة. ألا يقول نيتشه نفسُه عن الإرادة أنها «تُريد بالأحرى تملّك العدم بدلاً من لا شيء»[18] ؟ ومن ناحية أخرى، تتقابل الكلمتان ـ «إرادة» و«قوة» ـ في عبارة (إرادة القوة) إلى حدّ تطابق مدلوليهما، فبالنسبة لنيتشه ليست القوة إلا ماهية الإرادة، بينما تَؤول كل إرادة إلى إرادة ـ كينونة ـ أكثر. يقول هايدغر «إن إرادة القوة هي ماهية القوة. إن ماهية القوة  ـ ولا البتّة مجرّد كمّ (quantum) من القوة ـ هي بالطبع التي تظلّ هدف الإرادة، في هذا المعنى الخاص ليس بمقدور الإرادة أن تكون إرادة إلا في ماهية القوة نفسها»[19]. إن إرادة القوة ليست في الأخير إلا هذه الإرادة التي تريد أن تُؤكّد ذاتها في رغبة الغزو، أي توطيد هيمنة الإنسان بشكل أكبر ودائم على مجمل الكائن، ويُمثّل الإنسان الأعلى اللحظة التي يُصبح فيها الإنسان «سيد الممارسة غير المشروطة للقوة بوسائل القوة المُتاحة كلها له على هذه الأرض»[20] .

لكن عقيدة العودة الأبدية، أي الصيغة النيتشوية للأبدية ـ التي تتجاوز التصوّر المسيحي للأبدية كثبات ﻟ «الآن» (maintenant) الحاضرة لتجعل من الأبدية العودة الدائمة للمتطابق ـ  تُشكّل هي أيضاً «إعلاناً حول الكائن في مجمله» (هايدغر). إن الكائن في مجمله هو، في آنٍ واحد، إرادة القوة والعودة الأبدية...إن ما تُفُكِّرَ فيه انطلاقاً من (وفي منظور) العودة الأبدية هو ما يجعل من إرادة القوة إرادة بلا موضوع، إرادة مُوجّهة دائماً وفقط نحو ما هو أكثر منها. «إن إرادة الإرادة ترتكز على حقيقة إرادة القوة في النسيان الجذري للكينونة لصالح الفعل، وهذا بدوره ليس له معنى آخر سوى إعادة الفعل أيضاً ودائماً في الانشغال الخاصّ للأفق الذي يُعبّئ في كل مكان عالماً فاتحاً فيه فضاءً جديداً»[21] . لذلك يقول هايدغر عن العودة الأبدية أنها «أعظم انتصار لميتافيزيقا الإرادة من حيث إن الإرادة تريد إرادتها الخاصّة». ويُضيف هايدغر «إليكم ما يهمّ: إن الكائن، من حيث هو كائن ولديه الميزة الأساس لإرادة القوة، ليس بمقدوره أن يكون في مجمله غير عودة أبدية ﻟ «لذات النفس» (Même) وبالعكس: يجب على الكائن، الذي هو في مجمله عودة أبدية ﻟ «ذات النفس»، أن يتوفّر من حيث هو كائن على المِيزة الأساسية لإرادة القوة»[22].

إن هايدغر وهو يذهب بعيداً بتفكيره حول العلاقة بين إرادة القوة والعودة الأبدية يُلاحظ أن هذه العلاقة تُقدّم من النظرة الأولى تمييزاً ميتافيزيقاً، أي التمييز بين الماهية والوجود. إن إرادة القوة هي عند نيتشه ماهية مجمل الكائن، كينونة الكائن في مجمله، بينما المظهر «الحياتي» له طابع العودة، فالعودة الأبدية تُشبه تغيير وجه [أو هيئة] الوجود. كتب هايدغر: «تُشير إرادة القوة إلى كينونة الكائن من حيث هو كائن، ماهية essentia الكائن [...] إن «العودة الأبدية لذات النفس» تُعبّر عن الطريقة التي يكون بها الكائن في مجمله وجود existentia الكائن»[23]. أما بالنسبة ﻟِ «الإنسان الأعلى» فهو «الاسم المُعطى لكينونة الإنسان التي تُطابق كينونة الكائن»[24].

يرى هايدغر أن نيتشه يُبرهن بالضرورة بلغة القيَم لأنه يُعيّن الكائن في مجمله من خلال إرادة القوة. إن مفهوم القيمة هو «جزء مُكمّل ضروري من ميتافيزيقا إرادة القوة»[25]. «إرادة القوة وتأسيس القيَم هما الشيء نفسه خصوصا وأن إرادة القوة تفحص بتدقيق ونظام وجهات النظر المُتعلّقة بالحفظ والنموّ»[26]. لكن، أي معنى للقيمة عند نيتشه؟ إنه بشكل أساسي معنى «المنظور» perspective، أي وجهة نظر: «تُحدّد القيمة وتُعيّن «بشكل منظوري» [...] الماهية الأساسية المنظورية للحياة»[27]. إن تأسيس قيَم جديدة يعني إذن تعيين المنظور وشروطه «التي تُوجب أن تكون الحياة حياة، أي تضمن تقوية ماهيتها»[28]. لما كانت ماهية الحياة هي إرادة القوة، فالمسألة مُرتبطة بأن يُجعَلَ من هذه الإرادة المنظور المفتوح قطعاً على مُجمل الكائن. بالتالي كما لاحظ هايدغر: «تنكشف إرادة القوة من حيث هي الذاتية القصوى التي تُفكّر من منظور القيم»[29].

يَؤول تعيين ماهية الحقيقة عند نيتشه إذن إلى تثمين القيم (...). لكن، وبشكل بالغ الدقة، نجد إخضاع الحقيقة بواسطة القيمة عند أفلاطون. إن استبدال قيمة بأخرى، كتلك المُمثّلة بالقوة أو باﻟ «حياة»، بالقيمة المُمثّلة ﺑ «أغاثون»، إن هذا الاستبدال لا يعني القطيعة مع الأفلاطونية. على العكس، إنه يعني البقاء بداخل الأفلاطونية التي تقوم على إخضاع الحقيقة لتعيينٍ ما بواسطة القيمة، مُكتفيةً بإحلال قيمة أخرى تُعتبر أعظم محلّ قيمة تُعتبر أدنى أو ضارّة. تتغيّر القيمة، لكن تصوّر الحقيقة يبقى هو نفسه.

لكن نيتشه يذهب أبعد من أفلاطون. ففي حين اكتفى الأخير بوضع الحقيقة في وضعية خضوع للقيمة، قام نيتشه بإحلال القيمة محلّ الحقيقة. إن الحقيقة عند أفلاطون خاضعة فقط للخير (أغاثون). أما عند نيتشه، فهي ليست فقط خاضعة للحياة والقوة وإرادة القوة، وإنما تُختَزل في ذاتها وتتطابق معها. ليست الحقيقة هي ما له قيمة (لأنها «صالحة»)، بل إن ما له قيمة أو نعتبره ذا قيمة فوق كل شيء هو الحقيقة. إن مفهوم القيمة يتمكّن أخيراً من اختراق مفهوم الحقيقة. فالقيمة تُفتّش الحقيقة، بحيث تجنح الحقيقة نفسها لتُصبح قيمة. هذه هي العملية الخاصّة بانقلاب الحقيقة إلى قيمة والتي، بحسب هايدغر، قد أنجزها نيتشه.

إن نيتشه وهو يقترح تأسيس قيم جديدة يظلّ في الظاهر ضمن المنظور الديكارتي حيث تُحتّم الذات العارفة بواسطة الإدراك نفسه أن تكون لديه حقيقة الشيء المعروف. بعد أن يرفع نيتشه الأقنعة عن الفكرة التي تُعبّر عن عالم قيد التحوّل، لا يستطيع إلا الاعتماد على تأويل الحقيقة كيقين ـ وبالأحرى كيقين ذاتي لأن «ماهية الذاتية تجنح بالضرورة إلى الذاتية غير المشروطة»[30]. ويُعلن هايدغر قائلاً «ينبغي علينا فهْم فلسفة نيتشه من حيث هي ميتافيزيقا الذاتية»[31]. وإذا كانت القيمة وجهة نظر ولها المدلولُ نفسه الذي ﻟ «الحقيقة ـ التي ـ صارت ـ قيمة»، فإن الحقيقة لم تَعُد سوى مسألة وجهة نظر. لكن في الوقت عينه، إن القيمة من حيث هي وجهة نظر «هي في كل مرّة مُحدّدة من خلال طريقة النظر [...] بالتالي، ليست القيم شيئاً ما موجوداً بذاته بادئ ذي بَدء، بحيث يُمكنها عند الحاجة أن تُصبح وجهات نظر»[32]. إن إرادة القوة، من حيث هي عرْض غير مشروط لإحدى وجهات النظر، تُعبّر عن الماهية نفسها للذاتية التي لا شيء قادراً على تعطيلها: «الكائن مُبتلَع كهدف في مُثولية الذاتية»[33].

ويكتب هايدغر: «بما أن كل خير قد تُفُحِّص فإن قلْب القِيم (tranvaluation) الذي أنجزه نيتشه لا يقوم على إحلال قيم جديدة محلّ قيم مُتفوّقة إلى الآن، بل تقوم على ما يفهمه منذ الآن كَقِيَم «الكينونة» «النهاية» «الحقيقة»، ولا شيء إلا من حيث هو قيم. يعود قلب القيم النيتشوي في العمق إلى تحويل كل ضروب تعيين الكائن إلى قيم»[34]. يجعل نيتشه الكينونة مُتلازمة مع الذات. ولا يمكن للكينونة أن تظهر إلا من خلال القيم التي هي شروط الإرادة التي تطرحها الإرادة. ويقول هايدغر «إن الفكر الذي يُفكّر بلغة القيم يمنع في الحال الكينونة من الحدوث في الحقيقة»[35].

في ما يتعلّق بالعدمية، يظهر فكر هايدغر وفكر نيتشه متناقضين. طبعاً، ينسب هايدغر إلى نيتشه الفضل في كونه أول من تعرّف في العدمية، لا فقط إلى أنها إحدى السمات المُميّزة للأزمان الحديثة، بل أيضاً أنها «الواقعة الأصلية الأساسية لمغامرة التاريخ الغربي». ويُكمل هايدغر نفسُه في الطريق ذاتها عندما يكتب أن «العدمية هي تاريخ»، وأنها «تُشكّل ماهية التاريخ الغربي لأنها تُساعد في تعيين قانون المواقف الميتافيزيقية الأساسية وعلاقة كل موقف بالآخر»، مُضيفاً أنه يجب بالتالي، وقبل أي شيء، مُحاولة معرفة العدمية من حيث هي «قانون التاريخ»[36]. لكن بنظر هايدغر، ليست القضية الأساسية للعدمية هي تخفيض بعض القيم لصالح قيم أخرى، وإنما نسيان الكينونة التي يُمثّل التفكير بها بلغة القيم طريقةً بمقدار ما تُساوي الكينونة بذاتها خلف كل قيمة. كتب هايدغر «إن ميتافيزيقا نيتشه، ومن الوهلة نفسها أساس ماهية «العدمية الكلاسيكية» لا يستطيعان تعيين حدودهما من حيث ميتافيزيقا الذاتية المُطلقة لإرادة القوة»[37]. إذن، ليس بمقدور التفكير بلغة القيم أن يتعارض مع العدمية لأنه تعبير عنها وينبثق عنها.

إن نيتشه لا يعود إلى «البدء الأساسي» الذي يتمنّاه، فهو، برأي هايدغر، لم «يُنهِ» إذن الميتافيزيقا إلا بمعنى اكتمالها (vollrndung). إذ يكتب هايدغر «لا نيتشه ولا أي مُفكّر آخر قبله توصّل إلى البدء؛ كلهم، ولأول وهلة، لم يروا البدء إلا من وجهة نظر ما لم يكن سوى هروب من البدء، طريقة لمقاطعة البدء: من وجهة نظر الفلسفة الأفلاطونية»[38]. لقد ادّعى نيتشه بحقّ قلْب الأفلاطونية. «لكن عملية القلْب هذه لا تُلغي الموقف الأفلاطوني الأساسي، بل على العكس، إنها تدعمه من خلال المظهر الذي تُولّده لإلغائه»[39]. إن فكر نيتشه ينتمي إلى الميتافيزيقا التي يُمثّل انتهاءها واكتمالها.

ويكتب جان بوفريه: «نيتشه أقرب ما يكون إلى ديكارت بمقدار ما تُفضي زعزعة الحقيقة لصالح الإرادة التي يُشغّلها ديكارت إلى تأويل نيتشي للحقيقة ک (wertschâtzung) في منظور الإرادة نفسها المُجذّرة في إرادة القوة. لكنه، سرّاً أيضاً، أقرب إلى أفلاطون بمقدار ما تظهر الحقيقة مع أفلاطون لأول مرة خاضعة لما هو أعظم منها، حيث يُشكّل إخضاع الحقيقة حالة أفلاطونية للميتافيزيقا الغربية التي يَصدر نيتشه عنها بقدر ما يزداد غُلُوّاً في تفحّص الأفلاطونية من جميع النواحي»[40].

وَصَفَ هايدغر مِراراً العالم الحديث بأنه «زمن الغياب الكامل للمعنى»، غياب يربطه هايدغر ﺑ «غياب الحقيقة» الناجم عن نسيان الكينونة وصعود ميتافيزيقا الذاتية. نفهم بشكل أفضل منذ ذلك الوقت أن باستطاعة هايدغر النظر إلى فكر نيتشه كفكر «تتوصّل عبره الأزمنة الحديثة إلى هيئتها الخاصّة»[41]، إكمال الميتافيزيقا التي تُقيم الكائن في التخلّي الأنطولوجي الذي ينتج من النسيان وأيضاً من ترك الكينونة.

لسنا هنا بوارد النقاش حول صحة أو صوابية نقد هايدغر لفكر نيتشه. ويجب بالمقابل التشديد على الطابع الفريد جدّاً لفكره. لطالما كان ﻟ نيتشه أعداء كُثر سواء في حياته أو بعد مماته. وهؤلاء أخذوا عليه عموماً لا عقلانيته وعداوته للمسيحية و«نزعته البيولوجية» Biologisme المُفتَرضة، أو انتابهم القلق من النتائج التي قد تنجم عن «تطبيق» عقيدته. ولا نجد شيئاً من هذا القبيل عند هايدغر الذي يُعارضه ببراهين مُختلفة تماماً. يعترف هايدغر بفضل نيتشه الكبير في أنه كان أول من تناول وجهاً لوجه مسألة العدمية وعَرَفَ أنه من خلالها إنما تُطرَح كل إشكالية التاريخ الغربي. لكن هايدغر يعتقد على نحوٍ ما أن نيتشه لم يرقَ إلى مستوى هذه الإشكالية التي حدّدها هو نفسه. ليس مشروع نيتشه هو ما يطرحه هايدغر للمناقشة بل على العكس يأخذ هايدغر على نيتشه عدم ذهابه بعيداً في تناول الأمور وأنه ظلّ أسيراً لدى ميتافيزيقا اعتقد خطأً أنه تجاوزها.

لكن هناك أيضاً جانب ظرفي ينبغي تقديمه. طبعاً ليس صدفة أنه سنة 1939 وفي عهد الرايخ الثالث قدّم هايدغر هذا العمل الذي يتضمّن مواجهة قوية مع فكر نيتشه. من خلال قراءة نيتشه، اعترف هايدغر بالعدمية معتبراً أنها، اليوم، هي الظاهرة الأشدّ ضغطاً في عصرنا الراهن. لكنه تحقّق في الوقت نفسه من كون الاشتراكية القومية national ـ socialisme هي الشكل الحديث للعدمية الحاضر أمامه. في عصر (الكينونة والزمان)، عَكَفَ هايدغر فقط على إظهار الطابع الزمني والتاريخي بشكل أساسي ﻟ «الدازاين» «Dasein» الإنساني في منظور منهجي لا صلة له بالتاريخ. فمن خلال الاشتراكية القومية فقط، وعبر قراءة نيتشه التي دُفِعَ هايدغر إليها، لجأ إلى التساؤل حول التاريخ الحقيقي، وليس فقط التاريخ بوصفه فئة مُجردة. كتب سيلفيو فييتّا «Silvio Vietta» إلى أي درجة في الحقيقة كانت الاشتراكية ـ القومية تعبيراً عن العدمية، لم يكتشف هايدغر ذلك إلا في ضوء التطوّر التاريخي الحقيقي وعبر دراسة هذا المُفكّر الذي هو أول مَن حلّل في العمق المظاهر التاريخية للعدمية الحديثة، الذي هو نيتشه»[42].

لِنقل ذلك بوضوح: إن هايدغر الذي أخذنا عليه ظلماً «سكوته» في ما يخصّ تجربة الرايخ الثالث التي هي تجربته، يُطوّر عن طريق نقده لنيتشه نقداً أساسياً للنازية (مِن المُرجّح جداً أنه أهمّ نقد صَدَرَ على الإطلاق). ويتضمّن هذا النقد جانبين يَرجع كل واحد منهما إلى الآخر كما في لعبة المرايا: فمن ناحية، يوجد نقد القراءة النازية التعسّفية لعمل نيتشه (خصوصا من خلال مَبْحَثَي إرادة القوة والإنسان الأعلى)؛ ومن ناحية أخرى هناك نقد الأفكار التي وردت في عمل نيتشه والتي قد تُعرّضه للانحراف التعسّفي الذي يشجبه نيتشه. بعبارة أخرى، يبذل هايدغر قصاراه كي يُظهِرَ أولاً أن نيتشه لا يقول ما أردنا أن يقوله ومن ثم كيف أَمكَنَ، انطلاقاً مما قاله، جعله يقول شيئاً آخر غير الذي قاله. ويُظهر للوهلة نفسها العنصر التنبّؤي في رؤية نيتشه.

في نصّ الدرس حول نيتشه، نقرأ مثلاً الجمل التالية: «إن إرادة القوة بوصفها الماهية نفسها للقوة هي القيمة الوحيدة الأساس التي نقدّر على أساسها كل ما يجب أن تكون له قيمة أو ما ليس بالإمكان المطالبة بغيرها [...] أما بالنسبة للأمر الذي نُكافح من أجله، مُتصوَّراً أو مرغوباً به بوصفه هدفاً جوهرياً، إليكم ما هو ذو فائدة ثانوية. إن الأهداف والشعارات مهما تكن ليست شيئاً آخر سوى وسائل للكفاح. إن ما نكافح من أجله مُقرّر قبل الأوان: إنه القوة نفسها التي لا تحتاج إلى أي هدف. وهي بلا هدف بمقدار ما تكون كليّة الكائن بلا قيمة. إن غياب الهدف مُرتبط بالماهية الميتافيزيقية للقوة» (43). تنطبق هذه الكلمات بشكل خاصّ على الاشتراكية ـ القومية المُؤوّلة هنا بوضوح، لا كنَسَق مُجهّز بأيديولوجيا حقيقية، وإنما كحركة مُستمرّة تبتغي دائماً المزيد من القوة والهيمنة ويُشكّل النجاح والنصر بالنسبة لها ـ كما في الليبرالية ذات الإلهام «الدارويني»ـ مِعياراً للحقيقة.

لقد كَتَب سيلفيو فييتّا بحقّ: «إن تحليل القوة الذي قام به هايدغر سنة 1940 مُميّز خصوصاً لناحية ما يُظهره من جرعة شجاعة شخصية بعيدة عن أن تكون أمراً لا يُذكر. ويشرح التحليل في نصّ واضح سياسياً أن كل الواجهة الأيديولوجية للاشتراكية القومية ليست سوى تعبير عن القوة المحض، «بلا هدف» في ذاتها، ولا شيء غير ذلك [...] يرى هايدغر ويقول بصراحة، في سنة 1940، أن فكر الهيمنة والقوة بوصفه «كفاحاً» (kampf) ـ ينسى المُستمع بصعوبة هنا ربط المسألة بكتاب (كفاحي) Mein kampf ـ ليس [...] في حقيقته أي شيء آخر سوى هذه العدمية التي لا يمكنها الاستيلاء على فئة الحقيقة إلا بصفة أداة في خدمة القوة والكفاح»[43].

بفضل قراءة نيتشه إذن تمكّن هايدغر من وضع أسس نقد أساسي لفكر القوة المحض، فكر الهيمنة والتفتيش الكلّي الذي تبدو الاشتراكية القومية، برأي هايدغر، وكأنها مُمثّل نموذجي له، لكنه يرى أن ذلك الفكر، بعيداً عن الرايخ الثالث نفسه، يُميّز كل الحداثة بوصفها سبباً لقيام  إنسانية مُطابقة للماهية الأساسية للتقنية الحديثة وحقيقتها الميتافيزيقية، أي قيام إنسانية لا شيءَ كافياً بنظرها في أيّ مجالٍ كان. بنظر هايدغر، لا شكّ في أن الاندفاع اللاإرادي الكلّياني، المُؤسّس على هيجان إرادة القوة كما نجدها مُجسّدة في الاشتراكية القومية، يرتبط بميتافيزيقا الذاتية، ميتافيزيقا التفتيش البعيدة عن الاختفاء مع الرايخ الثالث، لكنها على العكس مُكرّسة لتدوم ما دامت العدمية الناتجة عن نسيان الكينونة. في هذا المعنى يُمثّل درس نيتشه انتقالاً بين نقد الاشتراكية القومية ونقد التقنية الذي ليس بمقدور الأول إلا أن يكون مرحلة من مراحله.

[1]*ـ مفكر فرنسي.

ـ العنوان الأصلي للمقال:

  Heidegger،critique de Nietzsche،volonté de puissance et métaphysique de la subjectivité

ـ المصدر: نقلاً عن الموقع الخاص لكاتبه

s3-eu-west-1.amazonaws.com/alaindebenoist/pdf/heidegger_critique_de_nietzsche.pdf

ـ ترجمة: عماد أيوب.

-1 جُمِعت الدروس التي ألقاها هايدغر حول نيتشه بين عامي 1936 و1937، ثم بين عامي 1939 و1941، في كتاب بعنوان (نيتشه) من جزئين (Nietzsche, 2 vol., Gallimard, 1951). يجب أن نُضيف إليها الدراسة التي جاءت بعنوان (كلمة نيتشه "مات الله") التي شكّلت أساسـاً لعدّة مؤتمرات عُقدَت سنة 1943 وجُمعت في كتاب (طـرق لا تؤدّي إلى أي مكـان)

322 Chemins qui ne mènent nulle part, Gallimard, 1962, pp. 253-. انظر أيضاً: "مَن هو زرادشت نيتشه؟".

 (?Qui est le Zarathoustra de Nietzsche) في (دراسات ومؤتمرات) 147 - 116 Essais et conferences, Gallimard, 1958 et 1980, pp (نصّ المؤتمر الذي عُقِد سنة 1953 وجرى تناوله بشكل تفصيلي في جزء بعنوان:

( Was heibt denken? Tübingen 1954, pp. 1947-et 61 - 78).

ـ مُحاضرة أُلقِيت في 26 تشرين الثاني 2000 في روما خلال مؤتمر دولي بعنوان «نيتشه أبعد من الغرب» نظّمته الجمعية الثقافية «اتّجاه 66» Route 66.

[2]- Jean Beaufret،Dialogue avec Heidegger،vol. 2،Philosophie moderne, Minuit،1973،p. 195.

[3]-  Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit. vol. 1،p. 353.

 [4]-  Jean Beaufret،op. cit.،pp. 184-185    

[5]-  Ibid.،p. 196. 

[6]-  Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 20.      

[7]-  Ibid.،p. 23.   

[8]- Ibid.،p. 136.  

[9]- Op. cit.،p. 189.          

[10]- Alfred Bنumler،Nietzsche. Der Philosoph und Politiker،Reclam،Leipzig 1931.   

[11]- Friedrich Nietzsche،Le crépuscule des idoles،XII،2e partie،§ 77.          

[12]-Martin Heidegger،Essais et conférences،op. cit.،p. 137           

[13]-  Ibid.،p. 139.

[14]- Friedrich Nietzsche،La Volonté de puissance،§ 702.

[15]-  Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit.،vol. 1،p. 409.   

[16]-  Friedrich Nietzsche،La volonté de puissance،§ 693.           

[17]- Nietzsche،op. cit.،vol. 1،p. 42.         

[18]- Friedrich Nietzsche،La généalogie de la morale،3،1.

[19]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 215.         

[20]-  Ibid.،p. 102.

[21]- Jean Beaufret،op. cit.،p. 214.

[22]-Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 228.          

[23]-Ibid.،p. 209.  

[24]- Martin Heidegger،Essais et conférences،op. cit.،p. 144.         

[25]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 80.           

[26]- Ibid.،p. 89.   

[27]- Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit.،vol. 1،p. 381.       

[28]- Ibid.،p. 381. 

[29]- Ibid.،vol. 2،p. 219.    

[30]- Ibid.،p. 239. 

[31]- Ibid.،p. 160. 

[32]- Ibid.،p. 84.   

[33]-  Martin Heidegger،Chemins qui ne mènent nulle part،op. cit.،pp. 214-  

[34]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 91.           

[35]- Chemins qui ne mènent nulle part،op. cit.،p. 317،trad. modifiée.          

[36]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 76.           

[37]- Ibid.،p. 160. 

[38]- Ibid.،vol. 1,p. 363.    

[39]- Ibid.،pp. 363- 364.  

[40]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p.11.

[41]- Silvio Vietta،Heidegger،critique du national-socialisme et de la technique،Pardès،Puiseaux 1993،p. 102.         

[42]-  Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 102.      

[43]- Op. cit.،pp. 115- 116.