البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الدين إيديولوجي ( في صواب القول بلانهائية الإيديولوجيا )

الباحث :  علي رضا شجاعي زند
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1875
تحميل  ( 438.220 KB )
تنشغل هذه المقالة في أمرين: أوّلهما أنْ لا نهاية متخيّلة للإيديولوجيا بمعناها العامّ، وثانيهما أنّ كون الدين إيديولوجيّاً ليس ممكناً فحسب، بل هي صورته الوحيدة الممكنة والمناسبة. وللتحقّق من صدق هذين الادعاءين يسعى كاتب المقالة إلى إثبات أنْ ليس ممكناً تجنّب الإيديولوجيا، وانّ هنالك تجانساً بين الدين والإيديولوجيا . ولقد توصل من خلال البحث المفهوميّ لكلٍّ منهما إلى الفرضيَّتين التاليتين: الحكم بصحّة القول بلا نهائيّة الإيديولوجيا، وبأنّ الدين إيديولوجيّ.

المحرر


في داخلنا دائماً يقبعُ نابليون يُسمّيه الآخرون إيديولوجيا (بول ريكور، 1978 م، ص 45).

ممّا لا شكّ فيه أنّ تاريخ الفكر وتاريخ المجتمعات، لم يكن قبل قرنين من الزمان يعرف ظاهرةً أو مفهوماً باسم الإيديولوجيا . حتّى الثوريّون الإنجليز والأميركيّون والفرنسيّون، الذين أدّوا دوراً فاعلاً في التطوّر السياسيّ ـ الاجتماعيّ الذي شهده العالم لم يعرفوا هذا المصطلح، ولم يستخدمْه أيّ تيارٍ من التياراتِ الفكريّة ـ الاجتماعيّة التي كان لها تأثيرها في تشكّل العصر الحديث[1]. إنّ لاستخدام هذا “الدالّ” في نطاقِ المباحث السياسيّة والاجتماعيّة، والاعترافِ بوجودِ “مدلول” له، تاريخاً محدّداً ومآلاً واضحاً نسبيّاً، وندرةٌ الذين لم يردّدوه خلال حياتهم في القرنين الأخيرين[2] إنّ الإيديولوجيا كما يبدو ليست جديدةً إلّا في كونها عُرفت واشتَهرت وبات لها اسمٌ، أمّا صفاتها واستخداماتُها فتعودُ إلى زمنٍ بعيد، وإنْ نحن أخذنا في الحسبان مضمونها، ونظرنا إلى المسمّى بدلاً من الاسم، لوجدنا أنّ عمرَها من عمرِ الحضارة. إنّ ادّعاءنا هذا لا يرتكز على المعطيات التاريخيّة، والاكتشافات الأثريّة، وإنّما على استعدادات الإنسان الوجوديّة، وعلى متطلّبات الحياة الجَمَعيَّة. في الوقت نفسه يمكننا العثور على ما يؤيّدها في تاريخ المجتمعات القديمة الغابر.

نحن في هذه المقالةِ سنبحث عن جذور الإيديولوجيا انطلاقاً من مكوّناتها وعناصرها وخصائصها وميزاتها، ومن عملها ووظائفها في حياة البشر الفرديّة والاجتماعيّة كذلك، وسنشير إلى بصمتِها وأثرها في بدائلها القديمة، وبالتحديد في الدين.

اقتضى تشكّل الإيديولوجيا في أبسط قوالبها، وتغلغلها في حياة الإنسان القيام بخطوتين معرفيَّتين مهمّتين ومكمّلتين إحداهما للأخرى:

1-الفصل المُتدرِّج بين الساحتين «النظريّة» و«العمليّة»، والاعتراف بالحاجة والعلاقة المتبادَلَتيْن بينهما[3].

2-قبول فرضيّة التفكيك والفصل هذه، وفي الوقت عينه القول بالعلاقة بين «العلم» و«القيمة»[4].

كانت الإيديولوجيا المولودَ الشرعيَّ الطبيعيَّ لهذين التفكيكين في ساحتي: النظريّة/ العمل والعلم/ القيمة، وستبقى حيَّة ما دامت لم تُنقضْ منطقيّاً، ولم تُفرَغ عمليّاً من موضوعِها؛ وعلى هذا الأساس ليس مخطئاً من يقول إنَّ الإنسانَ حيوان إيديولوجيّ، لأنَّ الأرضيَّة والعوامل َ المؤثرةَ في ظهور الإيديولوجيّات غير منفصلةٍ عن الإنسان والحياةِ الإنسانيّة. فالإيدييولوجيا وبدائلها قبل أنْ تكون وليدةَ ظروف وأفكار وعصور بعينها، ومحصورةً بعالم السياسةِ فحسب، كانت أكثر من ذلك وليدةَ توأم موجود ذي مؤهلات خاصّة، ومرتبطةً بمختلف المجالات[5]. والإيديولوجيا كذلك حصيلة الميل الداخلي الدائم لدى الإنسان للارتقاء. إنّ المعرفة والإرادة هما العنصران اللذان يغذّيان ميلَ الإنسان إلى الارتقاء وتخطّي وضعه الطبيعيّ، ويوجّهانه نحو الوعود والتعاليم المثاليّة. لقد جرت تلبية هذه الحاجة الفطريّة في كلِّ عصرٍ من العصور باستجابات مختلفة إنّما متجانسة، بدءاً من الأسطورةِ وصولاً إلى الدين فالإيديولوجيا، حتى الثقافة. أنْ نحسبَ هذه المقولات متجانسة، ونصرَّ على تناغمها وتشابهها، أو أنْ نضعَ الاصبعَ على ما يميّز بينها ويفرّقها، يتبع ويكمّل المسألة أو النقطة التي نؤكّدها من خلال دراسة، لا يمكننا من دون تعيينها وترسيمِ حدودِها أنْ نتحيّز لأحد الادّعاءين، ونُصدر حكماً قاطعاًً بصددهما.

وبما أنّ المسألة الأساسيّة التي تحاول هذه المقالة أنْ تحلّها وتجيب عنها وتؤكّد عليها، هي أنّ الدين إيديولوجيّ، والهدف من تأليف هذه المقالة الدفاع عن هذه القضيّة، لذلك سنبحث بالتأكيد عن العناصر المشتركة التي تغذّي كلّا من الدين والإيديولوجيا، وعن الآثار المتشابهة الناجمة عنهما، من دون أن نتجاهل وجود فوارق بينهما من خلال مقارنة أكثر تفصيلاً. إنَّ ما سنتصدّى له في هذه المقالة ليس دقّة الآراء والمفاهيم، وإنّما الاتجاه المصرّ على القول إنّ الإيديولوجيا حدثٌ تاريخيٌّ طارئٌ، محدَثٌ لا ماضيَ له، مفرِغاً بهذه الذريعة الدينَ من أيّ عنصرٍ إيديولوجيّ.

إنّ الادعاءين اللذين سندافع عنهما هما التاليان:

1-لا نهايةَ للإيديولوجيا بالمعنى العام، ولا تصوّرَ لحدوث ظواهر مشابهة لها.

2-القول إنّ الدين إيديولوجيّ ليس أمراً ممكناً وحسب بل هو الصورة الوحيدة الممكنة والمقبولة. وللتحقّق من صدق هذين الادّعاءين يتوجّب علينا الاثبات أولاً أنّ الإيديولوجيا لا يمكن تجنّبها، والدلالة ثانياً على أنّ الدين والإيديولوجيا متجانسان. وإثبات هاتين الفرضيّتين ممكنٌ من خلال الدراسات الميدانيّة للتجارِب الدينيّة والإيديولوجية الحاصلة، وبإجراء أبحاث مفهوميّة أيضاً، والتفكّر في مقتضياتها المنطقيّة. ونحن في المقالة سنعتمد المسار الثاني. أمّا إعادة النظر ودراسة السّاحة والعصور التي عُرفت أنّها غير إيديولوجيّة بمزيد من التعمّق، وكذلك إعادة قراءة تعاليم الأديان وتواريخها قراءةً دقيقة بصفتها أديان غير إيديولوجيّة، فيجب تأجيلها إلى مجال آخر.

لا مفرّ من الإيديولوجيا

إنّ الإيديولوجيا وبدائلها بالنسبة إلى الإنسان والحياة الإنسانيّة قديمةٌ من دون شكّ، ومن المستحيل تجنّبها، لأنّ لها بواعث ومضامير في وجود الإنسان. وقد أتى رفض الإيديولوجيا وضرورتِها في حياة الإنسان رفضاً مطلقاً، من السلوكيّين (Behaviorists)، الذين يُنكرون وجود أيّ خلفيّة نظريّة للقيام بالفعل العمليّ، ويأتي بعد هؤلاء في المرتبة الثانية في تصنيف الرافضين للإيديولوجيا الذرائعيّون، والمنفعيّون (Utilitarianists )، الذين لا ينطلقون في رفضهم للإيديولوجيا من مبدأ نظريّ، بل إرشاديّ نابع من المصلحة، ومتجذّر في البنية النفعيّة لتلك النظريّات. في المرتبة الثالثة من هذا التصنيف يمكن وضع ماركس وبارتو، اللذين لا يُنكران وجود الإيديولوجيا وضرورتِها، على الرَّغم من نظرتهما السلبيّة إليها[6]. في هذا التعداد وفي المرتبة نفسها يمكن أن نذكر حَمَلَة أنموذج ما بعد الحداثة (Post modern paradigm)، المعارضين لأيِّ أمرٍ مطلق، ولإطلاق الأمور، وعلى هذا الأساس يعارضون الأديان والإيديولوجيّات الدَّعويّة[7]. علماً أنّ هذا التهرّب من المطلق يحمل في ذاته الاستعداد لأن يتبدّل إلى اتجاه مطلق ومؤدلج، كالذي حلَّ بالعصرنة والليبراليّة.

إنّ ذلك الفريق من المفكّرين الذين يحلّلون الإيديولوجيا على أساس الغرائز والمصالح والصراع الطبقيّ[8]، أكّدوا كما أكّدَ القِيَمِيّون ضرورة الإيديولوجيا ولا إمكانيّة تجنّبها، ويعتقدون أنّ الإيديولوجيا رافقت الإنسان باستمرار، وستظلّ مرافقةً له، لأنَّ غريزة البحث عن المصلحة كانت من صلب كيان الإنسان وستبقى كذلك[9]. في حين أنّ القِيَميّين يرون من هذه الزاوية أنّ الإيديولوجيا توأم الإنسان، وأنها ظاهرةٌ إنسانيّة حصراً، تصبح موضوعيّةً وتتحقّق أوّلاً حين يعتمد الإنسان في قراراته وأفعاله على الفكر، وثانياً حين يرتقي من مستوى حاجاته الغريزيّة ومصالحه الفرديّة، ليصبح أشدَّ قرباً من صفاته الإنسانيّة. يقول الدكتور شريعتي دفاعاً عن هذا التوصيف للإيديولوجيا: “إنّ الغريزة مجموعة قوانين ورغبات تحدّد للكائن الحيّ سلوكه، وتؤمّن نموّه وتطوّره وتكاثره وبقاءه النوعيّ، وبشكل عام حياتَه. لكنَّ جزءاً من هذه المجالات موكولٌ لدى الإنسان إلى وعيه وإرادته. لذلك حيث تنتهي الغريزة ـ في توجيه الإنسان تبدأ الإيديولوجيا ” (شريعتي، 2007، ص 92)[10]. إنّ تعبير بارتو عن هذه القضيّة يختلف قليلاً عن التعابير المذكورة آنفاً، فهو على العكس من أصحاب المرتبتين الأولى والثانية الذين لم يُفسحوا أيّ مجالٍ للإيديولوجيا، طرح ركائز العامِلَيْن أي الغريزة والإيديولوجيا باسم الفُضالات (Residus ) والمُشتقّات (Derivations). وفي شرحه للسلوك غير المنطقيّ يقول بارتو“ إنّ الغرائز هي المحرّك الأساس لأنماط السلوك الإنسانيّ، لكنّ الإنسان ليرفَع من قيمة أفعاله ينسبها بحذقٍ إلى الأفكار التي يعرضها من بَعدُ تفسيراً لها (آرون، 1991م، ص 453-485” كوزر 1991م، ص 513-519)[11]. ماركس أيضاً يعترف بوجود الإيديولوجيا، بل بضرورتها إلى جانب المصلحة؛ ويعدّها في الوقت عينه ظاهرة مصطنعة، وفي بعض العبارات يذكر أنّها تدبير ذكيٌّ ابتدعته الطبقات الاجتماعيّة المتنفّذة لتعزيز مكانتها، ولترسيخ الأوضاع السائدة[12]. قيل إنّ الإيديولوجيا بالمعنى الخاصّ والناجز تتغذّى في حياة الإنسان من المادّة نفسها التي شكّلتها الثقافة، واحتلّت مكاناً وترسّخت في تقاليد المجتمعات وعاداتها، وتجلَّت حيناً في إطار “الأسطورة”، وحيناً بصور “الدين”، ومؤخّراً في إطار “ العقائد” السياسيّة والاجتماعيّة. إنّ العنصرين الأساسيّين لهذا الأصل المشترك هما “ الوعي” و“الحاجة” لدى الإنسان، اللذان يظهران في الآراء والاتجاهات السارية في الحياة الإنسانيّة، التي تتجسّد بأشكال مختلفة.

نحن لا نقصد من خلال استخدامنا لهذه التشابيه والعبارات في كلامنا عن الإيديولوجيا أنْ نقول إنّها ظاهرة عامّة شاملةٌ مجتاحةٌ لكلِّ ميادين الحياة ومسيطرةٌ عليها، أو أنْ نتجاهلَ الفروقات الكامنة في معاني المقولات المذكورة، فلكلٍّ منها دلالاتٌ مختلفةٌ من حيث المعنى، استخداماتٌ متنوّعةٌ في الأدبيّات النظريّة أيضاً فنضاعف الاضطراب المفهوميّ الموجود بهذا الصّدد. إنّنا نسعى من خلال تأكيدنا المنشأ أو المصدر المشترك إلى أن ندلَّ أوّلاً على أنّها جميعاً ذات وجه إنسانيّ، وثانياً أن ظهورَها وتجلّيها طبيعيٌّ وضروريٌّ وليس قسريّاً مفتعلاً، ليكون إلغاؤها ممكناً بتمهيدٍ ما أو بتغيّر الظروف. من الممكن أن تطرأ عليها تغييّرات تتجلّى بصور مختلفة، وأن تتعرّض بسبب تغيّر الظروف والأفكار إلى صعودٍ أو هبوط، لكنّها لن تخرج من صميم الحياة الإنسانيّة.

ما أكّدناه حتّى الآن في هذا البحث هو المعنى العام والحقيقي للإيديولوجيا، أي المعنى نفسه القادر على الدفاع عن ادعائنا حول لا نهائيّة الإيديولوجيا، وأنّ الدين إيديولوجيّ. لكنَّ أحدَ الشروط الأساسيّة للسير قدماً في البحث هو تصفية الذهن، وتنقية مفهوم الإيديولوجيا ممّا علق في الأذهان من أفكار ناجمة عن التجارب الميدانيّة للإيديولوجيّات في القرنين الأخيرين، وبات واقعاً موضوعيّاً ناجماً من ناحية وقبل كلِّ شيء عن تعدّد أنماط الحياة وتعقيدها، ومن ناحية أخرى عن انتشار المعرفة واتساع أفق المفاهيم الإنسانيّة، والتخلّي كذلك عن الدين في بعض المجتمعات وفي أوساط بعض الطبقات الاجتماعية. هذه النقطة الأخيرة تؤكّد وجود نوع من التجانس بين الدين والإيديولوجيا، وإلّا فإنّ البدائل لن تكون موضوعيّة.

تجانس الدين والإيديولوجيا :

ادعاؤنا الآخر في هذه المقالة هو أنّ هنالك تجانساً بين مقولات كان لكلٍّ منها تأثيرٌ في جوانب مهمّة من جوانب الحياة الإنسانيّة في العصور المختلفة. الادعاء أن هنالك تجانساً بين عددٍ من الظواهر معناه أنّ كلّ واحدةٍ منها يمكن أن تكون بديلة من الأخرى، وأن تحلَّ محلَّها أيضاً، ومعظمُ وجوه الشبه بين الظواهر الإنسانيّة يمكن ملاحظتُها بين “الأسطورة” و“الدين” و“ الإيديولوجيا ”.

وهنالك وجوهُ شبه بين “ الثقافة” و“التقاليد”، التي ولدت في أحضانها وترعرعت تلك الظواهرُ في العصور المختلفة، لكنّه تشابه الأوعية لا محتواها. فالثقافة والتقاليد هي التي تحمل في الواقع الأسطورة والدين والإيديولوجيا وتنقلها بين البشر وعبر الأجيال المتعاقبة في مجتمع من المجتمعات. إن نحن أمعنّا التفكير في تفاصيل الأسطورة وقارنّاها بالدين وبالإيديولوجيا يمكننا أن ندّعي أنّها لا تظهر ولا تتجلّى مستقلّة وعلى نحو مباشر، والقالبُ الذي كانت تحلُّ فيه وتتجلّى من خلاله، حتّى في العصور الأسطوريّة كانت الأديان، وبالإمكان كذلك ملاحظة تجلّيات وصور للأسطورة حتّى في الإيديولوجيّات، حيثُ يُعاد إنتاجها على نحوٍ ما فتدوم وتستمرّ[13]. إذاً من الأصحّ أن نَقْصر بحثَ التجانس، أي الموضوع الذي تدّعيه مقالتنا، على الدين والإيديولوجيا، هذين المضمارَيْن اللذين احتدم الجدال حولهما بين العلماء وأصحاب الفكر الدينيّ التنويريّ في العقود الأخيرة[14].

بإمكاننا من خلال التدقيق في مفهوم الإيديولوجيا ووظيفتها، ومقارنتها ضمناً بالدين، التوصّلُ بشكلٍ أفضل إلى إثبات ما ادّعيناه من وجود التناغم والتجانس بينهما. لذا سنبادر إلى تحليل الإيديولوجيا من أربعة جوانب: “ المكوّنات”، و“التعريفات”، و“الوظائف” و“ الاستخدامات”.

أبعاد الإيديولوجيات ومكوّناتها: إنَّ أبسط تجلٍّ لأيِّ ظاهرةٍ إيديولوجيّة يمكن العثور عليه حيثُ يحرّكُ “ الذهنُ” بمددٍ من “ الشعورِ” “ إرادةَ” الإنسان، ويحضّره للقيام “ بفعلٍ ما أو بردّ فعل”[15]. هذا الوصف يدلُّ على كون الإيديولوجيا مركّبة، على الأبعاد في كيان الإنسان أيضاً، والتي تقف في مواجهتها؛ وتوضّح كذلك فإنّ بعض الفعاليّات ذات المحمول الذهني-العاطفي والتركيب الخاصّ هي الوحيدة من بينها التي تشكّل مصداق هذا المفهوم، وليس مطلقَ فكرةٍ أو شعورٍ أو سلوكٍ صادر عن الإنسان. ولهذا السبب ربّما ذُكرت الإيديولوجيا كما ذُكر الدين، على أنّها أمرٌ وجوديٌّ، أو ظاهرةٌ تؤثّرُ في الإنسان تأثيراً وجوديّاً.

إنّ “ الفكر الإيديولوجيّ” مزيجٌ من المعلومات التحقيقيّة والتقويميّة (بودُن، 1999 م ص 36 / لارين، 2001، ص 6)، تجمّعت معاً في منظومةٍ منسجمةٍ إلى حدٍّ ما لترشدَ مخاطبها وتابعها باتجاه العمل (بودُن، 1999م، ص 36/ إيغلتون 2002، ص 87-88). إنّ “ المشاعر السارية في الإيديولوجيا ” على الرَّغم من مصدرها الفرديّ كغيرها من المشاعر، هي من النوعِ الغيريّ الذي يُركّز في الحاجات الأسمى من المصلحة الشخصيّة العابرة. أما “ العمل الإيديولوجي” فيتميّز من غيره من أنماط السلوك الإنسانيّ الأخرى، بارتكازه على العقيدة، واهتمامه بالأهداف السامية.

فضلاً عن العلاقة بين النظريّة والعمل يَعدُّ إيغلتون العلاقة أيضاً بين القضايا الوجوديّة الأساسيّة وشؤون الحياة العاديّة عملاً إيديولوجيّاً، ووجد مصادفةً في الدين التجلّي الظاهر لهذه الميزة. وهو يعتقد أنّ هذه الصلة بين النظريّة والعمل هي التي جعلت الإيديولوجيا معرّضة للإصابة بالوعي الزائف (إيغلتون، 2002، 91-92).

يجب عدّ الإيديولوجيا كوعي زائف هي نفسها العلم المنقوص أو العلم المغلوط[16]. هذا الفهم الذي تحول إلى الرؤية المهيمنة في تعريفالإيدييولوجيا، يضعها في عداد المعارف، معادلة للعلم، ويتوقّع منها الكثير، ممّا لا يُناسب خصائصها ومؤهّلاتها. أمّا توجّه بعضهم في البحث عن جذور الإيديولوجيا وأسلافها البعيدين إلى “ديكارت” و“بيكون” وغيرهما من فلاسفة المعرفة، فناجمٌ عن ذلك الاتجاه الذي ضُخِّمَ فيه العنصرُ المعرفيّ، وجُعِلَ الأصلَ والمبدأ؛ في حين أنّ أدقَّ تعبير عن الإيديولوجيا هو الذي يعرّفها صلةً بين النظريّة من ناحية والفعل من ناحية أخرى، لا تجلّياً أو صورةً خاصّةً لكلٍّ منهما، وبناءً على هذا التعبير فإنَّ الإيديولوجيا مبنيّةٌ على نوعٍ من الوعي يلجأ من أجل الوصول إلى أهدافه الخاصّة إلى تقويم الأوضاع، والقيام بأعمال محدّدة. إذاً مقابل تعابير تعرّفالإيدييولوجيا أنّها شيءٌ من جنس الوعي، يمكننا أن نذكر تعريفاً يعدّها لا مجرّد وعي محض، وإنّما مبنيَّةٌ على نوعٍ من الوعي الذي ينتهي بالعمل. التعريف الثالث هو أنّ الإيديولوجيا بمكانة منظومة معرفيّة جامعة، تتضمّن المعارف الأساسيّة فضلاً عن المعارف العمليّة، وهذا التعريف يضفي عليها شموليّة أوسع من التعريفين السابقين.

إنّ التمييز الذي وضعه شريعتي بين الإيديولوجيا والرؤية إلى العالم[17](شريعتي، 1996 م،ص 16 و17 و28/ نفسه 1983 م، ص 84)، وتشبيه مطهري لها بالحكمة العمليّة مقابل الحكمة النظريّة (مطهري، 1983 م، ص 64)، هما بالنسبة إلى التعريفات الآنفة الذكر أشبه بالتفسير الثاني[18] الذي يرى إلى الإيديولوجيا أنّها تتضمّن رابطاً يصلها من ناحية بالوعي ومن ناحية أخرى بالعمل، وفي الوقت عينه يرى أنّها تختلف عنهما. إن إصرار الدكتور شريعتي والأستاذ مطهري على هذا التفكيك والتميّز، هو إعادة تأكيد أنّ الإيديولوجيا فعلٌ موجّه (Act-oriented) مقابل أولئك المصرّين على أنّها نظريّة (Speculative).

بناءً على ذلك يمكن القول إنّ ما أثير من خلافات نظريّة حول الإيديولوجيا، ناجمٌ عن الخلاف الدلاليّ حولها، وبعضُ هذه الخلافات الدلاليّة مصدره التفكيك، وإبراز عدم توازن العناصر المكوّنة للإيديولوجيا. في هذا السياق يتحدّث إيغلتون عن الاتجاه الذي يركّز في جانبيها السياسي والاجتماعي مقابل الاتجاه الذي يضخّم وجهها المعرفي (إيغلتون، 2002، ص 34). إنّ ربط الإيديولوجيا بالسلطة والسياسة والمصالح الطبقيّة والمتغيّرات المجتمعيّة، وحشر ذلك كلّه في التعريف، سببه الدور الذي تؤدّيه الإيديولوجيّات في الحياة الاجتماعيّة، والآثار المترتبة على ذلك؛ هذا الدور أو الأثر مردّه قبل كلِّ شيء إلى العناصر الثلاثة المترابطة، التي أشير إليها في التعريف أي: “النظريّة”، و“القيمة”، والاستعداد “للعمل”. حين تترافق العناصر الثلاثة، وتجتمع معاً في خندق واحد، تتحوّل في المرحلة الأولى إلى سلطة اجتماعيّة بالقوّة، وفي المرحلةالثانية ـ لأنّ لديها نوعاً من التقويم للأوضاع والأهداف والمقاصد ـ تتوصّل إلى العمل الجماعيّ، وتدخل نطاق السلطة والمصالح، وتمهّد الأرضيّة لنوعٍ من المواجهات الاجتماعيّة. يجب أن نَلفت الانتباه إلى أنّ التركيز في الصبغة السياسّية والاجتماعيّة للإيديولوجيا في بعض التعريفات، لا يُناقض بالضرورة العناصر الأساسيّة المكوّنة لها، لأنّ هذه الصبغة ليست من العناصر المكوّنة، وإنّما من الآثار المترتّبة على تلك العناصر، ومن معالمها الإيديولوجيّة. إنّ صفات الإيديولوجيا في التعريفات التي وُضعت لها تفوق ما ذكرناه، ويمكن إرجاعها كلّها إلى تلك الأبعاد الثلاثة الآنفة الذكر. إنّ الإيديولوجيا ترتكز من ناحية على المعارف الأساسيّة المكوّنة لرؤية الفرد، ومن ناحية أخرى تؤدّي إلى تقوية إرادته، ومضاعفة استعداده للعمل. أما الفراغ بين الأمرين فتملأه المشاعر والميول الموجَّهة، وتالياً يرتبط الرأي بالعمل، وهنا في هذه النقطة تنعقد نطفة العنصر المسمّى “القيمة”، الذي هو العنصر الأساسي في الإيديولوجيا . إنّ القيمة قلبالإيديولوجيا، بمعنى أنّ الوجوه والجوانبالإيديولوجيّة الأخرى، تنبع منها نوعاً ما، أو تنتهي بها[19].

صفات الإيديولوجيا : من معالم الإيديولوجيا وصفاتها “المثاليّة” و“الإطلاقيّة” و“ الكمال” و“الحصريّة” و“الجماعيّة” و“ التوجّه السلطويّ”، وهذه الصفات تُنتجها العناصر الأصليّة الآنفة الذكر أو مركّبات منها. وتأتي “التسويغيّة” بعد الإيديولوجيا، في الحالات المعارضة للإيديولوجيّات، لتجد لكلّ نوع من الإيديولوجيّات أو لكلِّ مصداقٍ من مصاديقها ما يسوّغه موضوعيّاً.

المثاليّة[20] تتضمّن حكماً فارقاً مهمّاً يفصل وصفين مختلفين للإيديولوجيا أحدهما عن الآخر. فالإيدييولوجيا كما عبّر عنها ماركس ومانهايم ليس فيها أساساً خاصّيّة مثاليّة؛ في حين أنّ السمة الأساسيّة لها هي التي عبّر عنها “لينين” والتيّارات اليساريّة في القرن العشرين، وبسبب هذه السمة تسرّبت إلى الإيديولوجيا خصائص أخرى منها: “ المستقبليّة” [21]و“ النقديّة” أيضاً. يجب البحث عن المصدر الأصلي للمثاليّة في الرغبة الوجوديّة لدى الإنسان للارتقاء والسموّ. إنّ الإيديولوجيّات كالدين تلبّي هذا الميل الفطريّ لدى الإنسان، فحثّ المؤيدين وتشجيعهم على الارتقاء فوق الأنا والمكانة حتّى الماديّات، إنما هو دعوة إيديولوجيّة، في وجودٍ محسوبٍ دنيويّاًً بأكمله. هذا العنصر مؤثّر إلى حدّ أنّ بالإمكان بحسب مؤشر الابتلاء بالروتين والقناعة بوتيريّة الأوضاع تشخيصَ معيار المواجهة والاهتمام الإيديولوجيّ لدى لفرد والجماعة.

المقصود بالإطلاقيّة، أنّ التعاليم حتميّة ومبنيّة على مسلّمات وحقائق بديهيّة. الإطلاق أو التعميم هنا يشمل الشروح والتفاسير التي تقدّمها الإيديولوجيا عن الوجود والإنسان، كما تشمل القوانين والتعاليم الموجّهة إلى الأتباع. هذه القوانين وصفها إيغلتون بعبارة “ التطبيع” وهو يقصد تعريف التعاليم الإيديولوجيّة كحقائق فوق ـ تاريخيّة(إيغلتون، 2002، ص 103-108).

كمال الإيديولوجيا بمعنى التمحور الذاتيّ الصادّ على مستوى الوجود الإنسانيّ، وكذلك في ما يتعلّق بجميع مجالات الحياة، ومتوجه إلى الدنيا بأكملها. وقد ذكر إيغلتون هذه الصفة باسم الإطلاقيّة التعميميّة (Universalizing ) والتخليديّة التأبيديّة ( Eternalizing) (إيغلتون، م. ن. ص 100).

الحصريّة نتيجة طبيعيّة لصفتي الإطلاقيّة والتماميّة [الكمال] في الإيديولوجيّات؛ وهذه الصفة معجونة بالإيديولوجيا إلى حدّ أنّ بالإمكان وصفها بأنّها “صفة وجوديّة”.

الجماعيّة من أهم خصائص الإيديولوجيا، وأحد الأسباب التي كانت وراء التشكيك في حسبان الليبراليّة من ضمن الإيديولوجيّات، لغلبة الفردانيّة فيها.[22] وفي هذا الإطار تُفسّر بعض الرغبات كالتوحّد الداخليّ[23]والالتزام والايثار[24] التي فسّرها بعضهم كعلائم للإيديولوجيا. اهتمام الإيديولوجيا بالسلطة معناه الميل نحو تسلّم السلطة الوقوف في مواجهتها أيضاً[25].

إنَّ تسويغيّة الإيديولوجيّات يجب أنْ لا تُفهم أنّها هي نفسها التعصّب السياسي الاجتماعي، أو حصرها في إطاره. المقصود بالتسويغ (Justification ) عقلنةُ (Rationalizing ) فكرةٍ ما أو عقيدةٍ ما، وشرعنةُ (Legitimizing ) سلطةٍ أو وضعٍ أو ظروف قائمة أيضاً هذا المعنى قريبٌ ممّا وجده فيبر في الأديان وسمّاه “الرِبابيّة” (Theodicy ). معنى التسويغيّة الإيديولوجيّة عكس النسبة بين الفكر والعقيدة، أو العلاقة بين النظريّة والعمل، على النحو الذي طرحه بارتو. إنّ التسويغ يمنح الإيديولوجيا انسجاماً نظريّاً، ويُتيح لها مضامين أخلاقيّة. يمكن أن يكون للتسويغ وجهاً مخادعاً للذات وجهاً مخادعاً للغير أيضاً.[26]

وظائفالإيدييولوجيا : من أبرز وظائفالإيدييولوجيا “المعنويّة وإضفاء المعنى”[27]، و”الهدفيّة”، و“التجييش”[28]، و“التموضع” والمعارضة”، أما الخصائص الأخرى المنسوبة إلى الإيديولوجيا، فتعود إلى هذه الخصائص الوظيفيّة: يمكننا بتعبير أكثر إيجازاً عن الإيديولوجيا دمج الوظيفتين الأولى والثانية معاً، وتحويل الرابعة والخامسة إلى مفهوم يتضمّنهما معاً، للوصول إلى ثلاث علائم عامّة لوظائفالإيدييولوجيا : “الهدفيّة” في الحياة، و“التجييش والتحميس” و“إضفاء الهُويّة”[29].

الهدفيّة في الحياة من الوظائف الأساسيّة والحصريّة الخاصّة بالإيديولوجيات والأديان، ولا عدوّ لها في الهدفيّة إلا الغرائز التي تجعل الحياة مرتكزة على البحث عن اللذّة وتجنّب الألم، وتفرض على الإنسان أن يقبع في المستوى الأدنى من الحياة. باستثناء هذه المحرّكات الثلاثة التي تقود الإنسان نحو تحقيق أهدافه، ما من عامل آخر قادر على ترسيم أهداف الحياة وتأمينها. حين تنبع أهداف الحياة من منبع آخر غير الغرائز، تكون ذات معنى، لذا نحن نعدّ الإشارة إلى الهدفيّة في تفسير الوظائف الأصليّة للإيديولوجيا كافيةً، لأنّها تتضمّن أيضاً إضفاء المعنى. فضلاً عن الأهداف غير الماديّة والسامية، فإنّ التصور الجامع المنسجم عن الوجود يضفي المعنى أيضا، وذلك لأنّ حركة الإنسان فيه محدّدة المكانةِ والتوجّه. إنّ الهدف يمنح الحياة معناها، والمعنى يهب الدافع والحماس. أمّا عدوالإيديولوجيات والأديان على هذا المستوى فهو الغرائز كذلك، بمعنى أنّها تخلق الدافع للحصول على الأهداف الماديّة، من دون الحاجة إلى المعنى. إن الهدف والمعنى يؤدّيان في حياة الإنسان فضلا عن التجييش والتحميس دورَ تشكّل الهُويّة وتقوية الشعور لدى الإنسان، وحثّه على اتخاذ موقف تجاه الواقع القائم، والتصدّي بشكل مقصود أو غير مقصود لأعدائه بالأفكار والأهداف.

ميدان عمل الإيديولوجيا ووظائفها: يمكننا من خلال ما قلناه عن الإيديولوجيا حتى الآن الاستنتاج أنّها بالنسبة إلى حياة الإنسان أمرٌ ضروريٌّ لا يمكن تجنّبه. إنّ الإيديولوجيّات تتوصّل إلى الموضوعيّة والاستخدام حين يضع الإنسان نفسه في موضع اتّخاذ القرار. فالإيدييولوجيا، من خلال عرضها وتفسيرها للأوضاع والحالات الصعبة والمعقّدة، وتقويمها للظروف، تمهِّدُ الأرضيّةَ لاتخاذ القرار وتُعِدُّ الفردَ للقيام بالعمل. إن القرار متأخّرٌ عن التبصّرات المعرفيّة وسابقٌ للعمل، يتشكّل من خلال مخزونات مسبوقة بتبصّرات معرفيّة واسعة، مدروسةٍ وممحّصة. إنّ اتخاذَ القرار في الأوضاع المختلفة وفي شؤون الحياة جزءٌ من الحياة، لذا فإنّ الإيديولوجيا والظواهر الشبيهة بها والبديلة عنها تُعدُّ من مستلزمات الحياة الإنسانيّة.

تُتَّخذُ القرارات نوعاً ما بالاستناد إلى أصول العقائد، والرجوع إلى الأنظمة النوعيّة، فضلاً عن ذلك من الممكن أن تُتَّخذ بالتأسّي بالتقاليد المسيطرة والعادات السائدة. في الحالة الأخيرة يُحيل الأشخاص إلى السابقين حقَّ اتّخاذ القرارات لعدم رغبتهم في تحمّل تكلفتها والمسؤوليّات الناجمة عنها، وفي بعض الحالات يضعونها على عواتق غيرهم من الشخصيّات النافذة. على هذا الأساس يمكننا ربّما أن نجمع بين الأمرين: إنّ قرارات الإنسان في الحالات الخطيرة والمضطربة والحرجة إيديولوجيّة عادةً، وفي الأحوال العاديّة مبنيّة على السنن والتقاليد والعادات والأفكار السائدة.

أبرز ميادين عمل الإيديولوجيا بعد مساعدة الأفراد على اتخاذ القرار في المواقف الخاصّة والخطيرة، ميادينُ الحياة الجَمَعِيَّة. في هذه الساحة تؤدّي الإيديولوجيا دَورَين متناقِضَيْن ظاهريّاً: دور مثبّت الأوضاع ودور المغيِّر لها. لأداء الدور الأوّل تساعد من خلال تشكيل النظام القِيميّ للمجتمع، في إيجاد الاستقرار والانسجام الاجتماعيَّيْن[30]، هذا أوّلاً، وثانياً تضاعِف من خلال توجيه الناس وإقناعهم شرعيّةَ النظام الحاكم والرضى به. أما الدور الآخر للإيديولوجيا فهو من خلال طرح الأفكار المثاليّة والدلالة على الهوة القائمة بين الوضع القائم والوضع المرتجى، يحثُّ ويساعدُ في عمليّة التغيير الاجتماعيّ.

إنّ ازدواجيّة الموقف من الإيديولوجيا وظهور التناقضات في المفاهيم، مصدرهما هاتان الوظيفتان، وبالتركيز في أحد الجانبين وإغفال الآخر يُجعل مضمون الإيديولوجيا إما محافظاً وإمّا ثوريّاً.

إنّ الدور الخلّاق الذي تؤدّيه الإيديولوجيا بجعلها البرامج التنمويّة والاجتماعيّة الوازنة هدفاً لها، يمكن عدّه مهمّة أخرى من المهام التي تقوم بها الإيديولوجيا في الميدان الاجتماعيّ. وتتوسط هذه المهمّة بمعنى من المعاني مهمَّة المحافظة على الاستقرار وعمليّة التغيير والتطوير، ومن خلال عملها على تقليص الفروقات بينهما، تقرّبهما أحدهما من الآخر إلى حدّ التمازج. إنّ الإيديولوجيا من خلال تأثيرها في ثقافة المجتمع، تؤثّر أيضاً في نمط العيش وأسلوب الحياة.

إنّ الإيديولوجيا ـ بناءً على ما تقدّم ـ أمرٌ وجوديٌّ يتمتّع بصفات معرفيّة وعاطفيّة وإراديّة وسلوكيّة. وبالإمكان كذلك تعريفالإيدييولوجيا بمواصفات منها المثاليّة والإطلاقيّة، والكماليّة، والحصريّة، والجَمعيَّة والتسويغيّة والسلطويّة. أمّا الوظائف التي تتفرّد بها الإيديولوجيا كالهدفيّة والمعنويّة والتحريض والتموضع والتصدّي فهي التي تميّز الإيديولوجيا من غيرها من المقولات كالعلم والفنّ والأخلاق، وتضعها بمصافِّ ظواهر أخرى منها الدين. كذلك فإنَّ توظيفالإيدييولوجيا في ميدان العمل يؤدّي فضلاً عن مساعدة الفرد على اتخاذ القرارات، وتالياً تنفيذها، إلى وضع المجتمعات على مسار تعزيز الثبات والاستقرار، أو مسار التطوّر والتقدّم.

حين يُنظر إلى الصفات المذكورة، وتجري مقارنتها بخصائص الأديان ووظائفها ولا سيّما الإسلام، يُستنتج أنّ الإيديولوجيا أدّت في القرنين الأخيرين، في أوساط بعض الأشخاص والفئات الاجتماعيّة الدورَ أو الرسالةَ التي كانت من قبل في عهدة الأديان، على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ. ذلك لا يعني أنْ لا فرق بين الإيديولوجيا والدين ـ إلا في الاسم ـ وأنّ لهما الخصائص نفسها من دون زيادة أو نقصان. إن ما تهدف إليه هذه المقارنة في الدرجة الأولى تأكيد التجانس والسنخيّة بينهما، فلولا وجود التجانس والسنخيّة لكانت المقارنة غير ممكنة. وثانياً الإشارة إلى ملاءمة كلٍّ منهما للمرحلة التاريخيّة الخاصّة به، والتي نشأ ونما فيها. إنّ تأكيد السنخيّة يجب أن يُحمل على التجانس، والتصريح بملاءمتها للظروف والمراحل التاريخيّة الخاصّة، يجب أن لا يُفهم على أنّه تدبّلٌ أفقيّ سطحيّ، ومن ثمّ تكون النتيجة إحالة مرحلتي الأسطورة والدين إلى ظهور الإيديولوجيا . إنّ الدّين والإيديولوجيا على الرّغم من السنخيّة متباينان فلكلٍّ لكلٍّ منهما مضامينُه ومؤهلاتُه المختلفة عن مضامين الآخر وسماته، وقد تابع مسيرة حياته على الرّغم من ملاءمته لمرحلةٍ وظروف تاريخيّة بعينها أكثر من غيرها من المراحل والظروف، ما راكم المخزونات التي واجهها الإنسان في العصور الأخيرة.

لقد مهّدت هذه التوضيحات المتعلّقة بعدم إمكانيّة تجنّبالإيديولوجيا، وبمجانستها للدين أرضيّةَ المتطلّبات النظريّة لردّ فكرة نهاية الإيديولوجيا، والدفاع عن أن الدين إيديولوجي، بصفتهما الادّعاءين الأساسيّين لهذه المقالة.

لا نهائيّة الإيديولوجيا :

إنّ لا نهائيّة الإيديولوجيا تستند إلى شواهد من الإيديولوجيّات الحيّة والفاعلة في جميع أنحاء الدنيا، حتى في العالم المتقدّم، بعد الحرب الباردة؛ كما تعتمد على أدلَّة تشي بأن لا خاتمة لها بالنسبة إلى الإنسان. يمكن التوصّل إلى ذلك، من خلال مشاهدة وفرة المذاهب والعقائد، وكثرة استخدامها في العالم الغربيّ المتقدّم، إلى حدّ الظن أنّهم وصلوا إلى ذلك قبل المجتمعات الأخرى؛ والمكانة التي احتلّتها الليبراليّة كأشهر مذهب فلسفي-عقائدي لدى النخب وغير النخب في الغرب شاهدٌ على هذا الادّعاء؛ على الرغم من أنّ الليبراليّين والمدافعين عن أطروحة نهاية الإيديولوجيا، يعرّفون مذهبهم أنّه غير إيديولوجيّ[31].

إن تأمّل الصفات الواردة عن الإيديولوجيا في مراحل نهوضها السابقة، واتساع نطاق عملها كذلك، يجب أنْ يُقنعنا بأنّ تحقّق الحياة الإنسانيّة والاجتماعيّة غير ممكن من دونها. إنّ تأكيد صفة “ الإنسانيّة” هنا لا يحمل أيّ معنىً أخلاقيٍّ، بل المقصود النوع الإنسانيّ. فالإنسان بخصائصه النطقيّة والروحيّة، لا يمكنه العيش إلا بالطريقة الإنسانيّة؛ ومن غير الممكن أن يعود إلى الحياة الدنيّة الدونيّة، ويعيش من جديد الحياةَ الحيوانيّة والطبيعيّة؛ ولا سيّما الإنسان الذي جرّب الحياة الجَمَعيّة، ووصل إلى كماله الأوّل، أي إلى كمال حياته. حتى تلك المجموعة من البشر الذين لا يأتمرون إلّا بأمر غرائزهم، ينتهزون أوّل فرصة متاحةٍ ليضعوا لهذا النمط من الحياة فلسفةً منتصبةَ القوام، يُضفون عليها وجهاً واعياً ومسوّغاً. وتالياً ما من أحدٍ يدلّل على الحياة الغربيّة الفردانيّة، المتمحورة حول المصلحة والبحث عن اللذة مصداقاً للحياة الخالية من الإيديولوجيا، لأنّ الفلسفات والإيديولوجيات الفردانيّة والشموليّة والمُتعيّة توائم ذلك النمط من العيش، تُبطِلُ ادّعاءهم هذا[32].

إنّ هذه الحاجة إلى الإيديولوجيا أساسيّة وضروريّة إلى حدّ أنَّها لا تخبو أو تقلّ بتغيّر العصور وتَبَدُّل الظروف؛ وتالياً الكلام على نهاية الإيديولوجيا، والحديث عن ظهور عصرٍ خالٍ منها ادّعاء لا أساس له، إنْ لم يكن هو نفسه مروّجاً لإيديولوجيا خفيّة[33].إنّ طرح البدائل التي لها أوصافالإيدييولوجيا ووظائفها نفسها، والقادرة على أن تتولّى دَورها وتنفّذ وظائفها في الساحات المشار إليها، هو نفسه ادّعاءٌ آخر، نحن أيضاً لا نعترض عليه. يقول راش أيضاً: يمكن أن تكون أهميّة الإيديولوجيا والصراعات الطبقيّة والداخليّة في بعض المجتمعات المتقدّمة قد تقلّصت أو اضمحلّت، لكنْ لن تخفّ مطلقاً أهميّة الأفكار والقيم في السياسة؛ وفي هذا الإطار نفسه، لا يلغي إمكانيّة ظهور مواجهة إيديولوجيّة بين الليبراليّة والأصوليّة الإسلاميّة، ويقول: حتى دانييل بيل الذي توقّع نهاية الإيديولوجيا، لم يفكّر مطلقاً بنهاية الأفكار والمُثُل المؤثّرة في المجتمع وفي السياسة (راش، 1998 م، ص 210-211).

لقد كانت الإيديولوجيا وبدائلها السابقة واللاحقة مرافقةً للإنسان دائماً، والمصاديق التي تُبطل هذا الادعاء والتي يستند إليها المنظّرون لأطروحة نهاية الإيديولوجيا تجرّحها الأدلَّة التالية:

-1 لقد انصبّ اهتمامهم وتأكيدهم في هذا البحث اسم الإيديولوجيا، أكثر من تأكيدهم المفهوم والمسمّى اللذين يمكن أن يتجلّيا بصور وعناوين أخرى.

-2 إنّ رؤيتهم إلى الإيديولوجيا محدودة في الأغلب الأعم بمصاديقَ وأنواعٍ خاصّةٍ منها، تَجَسَّدَ معظمها في الإيديولوجيّات السياسيّة [34] في العصور المتأخّرة.

-3 لقد التقطوا معظم براهينهم حول الأوضاع غير الإيديولوجيّة من حالات عابرة، ومتقطّعة من حقب تاريخيّة طويلة الأمد.

-4 لم يكشفوا حتى الآن حقيقة الأشكال الجديدة والوجوه الخفيّة للإيديولوجيا أو بدائلها، ولا سيّما في المجتمعات الغربيّة المتقدّمة.

في اعتقادنا عدوّ الإيديولوجيا أو بديلها الوحيد الممكن تصوّره هوالإيديولوجيات الأخرى، وبالتأكيد الدين المتضمّن هو نفسه ماهيّة إيديولوجيّة. بناءً على وصفالإيدييولوجيا بمعناها العام، فإنّ الأديان أيضاً من دون استثناء إيديولوجيّة، ويظهر الاختلاف بينها في المادّة والفحوى والفاعليّة بحسب اختلاف العصور.

الدين إيديولوجيّ:

لقد تجنّبنا في هذا البحث قصداً استخدام مصطلحات مثل “ الإيديولوجيا الدينيّة”، أو “الدين الإيديولوجيّ”؛ لأنّها لا تتمتّع بالدقّة والوضوح الكافيين، أو لأنّها لا تعبّر عن هدفنا جيّداً. لقد تجنّبنا المصطلح الأوّل الذي يقرّ بوجود أنواع إيديولوجيّات دينيّة وغير دينيَّة، لأنّه لم يكن موضوع هذه المقالة؛ وتحاشينا المصطلح الثاني لأنّه يُعبّر عن قسمة الأديان إلى مجموعتين: إيديولوجيّة وغير إيديولوجيّة، وهذه فرضيّة نشكّ بصحّتها. لأنّنا إنْ نحن أخذنا في الحسبان المعنى أو المضمون الذي نبحث عنه في الدين أوالإيديولوجيا، لا يمكن القول بصحّة وجود دين غير إيديولوجيّ. في الوقت عينه من الضروريّ أنْ نصرّح أنَّ حسبان الأديان إيديولوجيّة، لا يعني بالضرورة أنّها بالمقدار نفسه من هذه الناحية، وإنّما نحن نؤكّد تجانسها. أمّا القول إنّ الدين أشدُّ صلابةً من الإيديولوجيا فهو قولٌ صحيح، إن كان المقصود هنا الإسلام مقارنة بإيديولوجيّات خاصّةٍ مجرّبة.

نحن نعتقد أن الخطأ الذي وقع فيه بعضُ منظّري الأطروحة القائلة إنّ الدين غير إيديولوجيّ، هو بشكل عام خطأٌ في الكُنهِ وفي الشكل، بمعنى أنّ الإيديولوجيّات التي استحوذت على الانتباه في النصف الثاني من القرن الماضي شكلاً ومضموناً، كانت في معظمها سياسيّة راديكاليّة، وقد نُظر إليها على أنّها الأنموذج الأكمل للإيديولوجيا، مقابل أديان بعينها زاهدةٍ بالدنيا معتزلةٍ لها، وغير سياسيّة، ومن خلال المقارنة بين مصداقين مضخّمين استُنتج أنّ الأديان منذ الأساس غير إيديولوجيّة. هذا الاستنتاج فضلاً عن الخطأ المذكور آنفاً، مفعمٌ ببعض الميول والاتجاهات النابعة من المُعطيات العُرفيّة والاتجاهات الإيديولوجيّة المعادية لليبراليّة، والتيارات المعرفيّة المابعد حداثيّة، والقائلة بنهاية الإيديولوجيّات. في حين أنّ الأديان ـ بناء على التعريف المطروح والجامع عن الإيديولوجيا إيديولوجيّةٌ كلّها من دون استثناء، ويجب القول إنّ الأشدّ تديّناً أشد إيديولوجيَّة.

لقد جاءت الأديان أو جُعلت لتغيّر الإنسان. إنّ اهتمام الأديان بالحياة والسعي لإعادة تنظيمها ـ بناءً على هذه الفرضيّة ـ أمرٌ لا بُدّ منه، ويُعدّ مقدمةً وحصيلةً كذلك لتحوّلات الإنسان الوجوديّة. عمليّاً، هذا ما فعلته الأديان، مع الأخذ في الحسبان الفوارق بينها في ما يتعلّق بكيفيّة معالجة الأمور، والاستراتيجيّات وأساليب العمل. الإيديولوجيات أيضاً بشكل عام، ومبدئياً تهدف إلى إضفاء المعنى على الحياة، وتنظيمها، بصرف النظر عن نطاق تمركزها وتوجّهاتها واستراتيجيّاتها، وطرائق معالجتها للأمور. بإمكاننا أنْ نعبّر عن تنظيم الحياة بأحد المعنَيَيْن التاليَيْن: الأوّل الارتقاء بالإنسان من وضعه الطبيعيّ، والآخر تخطّي الوضع القائم[35]. هذا ما تختصّ به جميع الأديان بغضّ النظر عمّا بينها من فروقات في الغايات التي تطمح إلى تحقيقها، والميادين التي تدّعيها، والاستراتيجيَّات التي اعتمدتها وتعتمدها، والتي بنتها على أساس فهمها الخاص للوجود وللإنسان. أمّا تأكيد بعضهم على الغايات، وحسبان الإيديولوجيات دنيويّة والأديان أخرويّة، فذلك تمييز أكثر ممّا هو تقويم[36]، فضلاً عن أنّه لا يحتمل التعميم، وفي الوقت عينه، لا ينقض تعريف الدين والإيديولوجيا المذكور آنفاً. إنّ تنظيم الحياة وإضفاء المعنى عليها هو الخاصيّة المشتركة لجميع الأديان والإيديولوجيّات، وبإمكانها أن تسعى وراء غايات دنيويّة أو غايات أسمى من ذلك، وتحقّق مبتغاها.

المعنويّة هي ما ينتج عن الرؤية إلى العالم وإبستيمولوجيّات الوجود، ولن نجد إيديولوجيا أو دين لا ينطلق من هذا المنطلق ومن هذا المبدأ. فعمل الدين والإيديولوجيا الأساسيّ تنظيمُ الحياة، بحسب ما يقتضيه نظام الوجود. إنّ ما ادّعيناه من تشابه وتجانس بين الدين والإيديولوجيا، لا يتجاوز نسبة الشبه بين دين وآخر، أو بين إيديولوجيّةٍ وأخرى، وهو شَبَهٌ مصطنع، وليس تشابهاً مضمونيّاً بالضرورة. إنّ التمايز الذاتي بين الأديان والإيديولوجيّات[37]، يجب أن يُبحث عنه في المضامين والفحوى، أي في غاياتها وأهدافها وساحات عملها واستراتيجيّاتها وأساليبها، وليس في بناها وأجزائها، وتالياً فإنّ الأديان يمكن أن تتميّز من حيث كونها “ دنيويّة / أخرويّة”، وألا تنماز من حيث كونها “ إيديولوجيّة/ غير إيديولوجيّة”.

إن الاعتراضات على وصف الدين أنّه إيديولوجيّ، قد طرحها المتدينون من علماء الأديان، كما أنّ أكثر أنواع الجدال حدّةً حول هذا الموضوع، هي التي احتدم أوارها بين أتباع الأديان التي اتسع نطاقُ انتشارِ تعاليمها، وتدخّلِها تاريخيّاً في الشؤون الاجتماعيّة والسياسيّة. إنّ عدم اهتمام أو عدم تدخّل علماء الأديان العلمانيّين في نطاق البحث هذا، له سببٌ مشترك وهو رؤيتهم الاختزاليّة (Reductionistic ) إلى الدين وإلى الإيديولوجيا، وقد ترافق هذا السبب لدى بعضهم مع سوء الظنّ بالدين، ولدى بعضهم الآخر مع سوء الظنّ بالإيديولوجيا ؛ ممّا أدّى إلى عدم الاهتمام بهذه القضيّة وتجنّبها؛ هذه القضيّة التي احتدم النقاش حولها في الجزء الآخر من العالم، في أوساط المسلمين بجدّيّة فائقة. من الأسباب الأساسيّة الكامنة وراء الاعتراض على قراءة الدين وفهمه إيديولوجيّاً، ويذكر بطريقة مثيرة للشفقة، الضررُ الذي تعرّضت له الصبغة الأخلاقية والعرفانيّة والأخرويّة للدّين، وأدّى إلى تحجيم الدين وحصره بالأمور الدنيويّة. يدّعي هؤلاء أنهم قلقون خوفاً من أن يفقد الدين قداسته، ويُحرم طُمأنينته، بسبب الصراع على السلطة، والنزاعات السياسيّة والاجتماعيّة[38]. إنّ عدّ الدين غير إيديولوجيّ اعتمده بعضهم وسيلةً دفاعيّةً، ليذبّ عن الدين أعباء الضغوط التي يمارسها عليه معارضوالإيديولوجيا نظريّاً وعقائديّاً[39].

إن طرح مثل هذه التوجّسات حول قلب ماهيّة الدين، وإبعاده عن الأهداف التي جاء من أجلها، أمرٌ جديرٌ بالاهتمام، ويفرض بذلا لمزيد من الاحتياط؛ لكنّ الآليّة لا تكون بإفراغ الدين من جوهره الإيديولوجيّ. مما يجب الانتباه له، أنّنا إن طردنا العناصر الإيديولوجيّة من ساحة الدين، أيّاً كان السبب أو التأويل، نحرمه من أداء دوره في النواحي الأهمّ من الحياة، ونُخلي الساحة، ونسلمها إلى الاتجاهات والمسارات الذاتيّة، وفي معظم الأحيان للإيديولوجيّات الخفيّة[40]؛ ألا يؤدّي ذلك إلى تحجيم الدين وتقليص حجم تأثيره، أو على الأقلّ يشكّك في إمكانيّة تحقّق أهداف الدين في تغيير الإنسان؟ لا معنى لأن يصبح الدين عرفيّاً إلّا إهماله، والتقليل من تأثيره وهجران أهدافه والتخلّي عنها[41]. هنا يُطرح السؤال التالي، أيّ واحد من هذين المسارين هو الأقصر والأسهل عبوره بالنسبة إلى المؤمنين؟ الدخول في معترك الإيديولوجيّات، والتصدّي لآفاتها وأضرارها، أو نقل الدين إلى هامش الحياة لصونه من الانزلاقات المحتملة؟ يجب أن نسأل المتديّنين الغيورين على الدين الذين يتوسّلون غيرَ الأدلجة وسيلةً لصيانته، هل جاء الدين من أجل الإنسان، أم الإنسان من أجل الدين[42]؟ كيف يتمكّن الدين الذي لا يُساهم في إضفاء المعنى والتنظيم على الحياة، أن يغيّر الإنسان؟ وإن لم يفعل ذلك ما الجدوى أن يتوسّل به أتباعه إلّا للتفنّن والترويح عن النفس؟ إنّ المحافظة على الدين وصون جوهره، اللذين كانا السببين الأهم وراء اعتراض بعض المفكّرين الدينيين المتنوّرين على القراءة الإيديولوجيّة للدين، يستمدان الموضوعيّة من إيمان هؤلاء بأصالة التعاليم الدينيّة وتأثيرها. إن كان الأمر كذلك، إذاً لماذا يحرمون الدين من فرصة العمل وإمكانيّة التأثير، من خلال إفراغه من العناصر الإيديولوجيّة؟ فيخلون بذلك الساحةَ للإيديولوجيّات المنافسة. إنَّ أوهنَ جواب هو ادعاؤهم أنّ الساحة ساحةُ مقارعة العقول والعلوم، وما من حاجةٍ للدين ولا للإيديولوجيّات. اللافت أكثر أن الميدان حين يخلو من الدين أوالإيديولوجيا، تحتلّه الليبراليّة على أنّها الوحيدة غير الإيديولوجيّة من بين الفلسفات والمناهج[43].

الجواب عن هذا الادّعاء أحلناه بالتفصيل إلى مكان آخر، في مبحث “المبنى العقليّ لعلاقة الدين بالدولة” (شجاعي زند، 2007 م)، وكذلك مبحث “ مراجعة دور الدين في التنمية” (شجاعي زند، 2008 م).

خلاصة واستنتاج:

هذه المقالة هي بمعنىً ما بيانٌ في الدفاع عن الإيديولوجيا . الإيديولوجيا بناء على ما طرحه معارضوها ـ مصابة بخمس نقاط ضعف أساسيّة، اثنتان منها تعودان إلى العَقدين الأخيرَين:

-1 دور الإيديولوجيا في تحريف الواقع والمسّ بحقيقته المعرفيّة، الذي طرحه علماء المعرفة القدماء والجدد، مع ذكرهم اسم الإيديولوجيا أو من دونه. يمكننا أنْ نعدّ ماركس من ضمن هؤلاء، على أساس وصفه للإيديولوجيا أنَّها وعيٌ زائف، وتشبيهه لها بصورة مقلوبة للواقع داخل العدسة.

-2 تحوّل الإيديولوجيا إلى وسيلة سلطويّة، ودخولها في لعبة المصالح بهدف تحسين صورتها، وإخفائها، والتخفيف من العنف غير الإنساني المتحكّم بالعلاقات الاجتماعيّة، وهذه النقطة طرحها في الأساس ماركس[44] والماركسيّون وآخرون منهم بارتووفيبر[45]، مع اختلاف في الآراء التي عرضوها.

-3 إصابتها بالوثوقيّة الظاهرة بوضوح في الإطلاقيّة والكماليّة اللتين تتّسم بهما الإيديولوجيّات، وقد تعرّض لنقطة الضعف هذه وادّعاها الليبراليّون والحداثويّون. بهزيمة الإيديولوجيا النسبيّة والسعي لإخراجها من الميدان، أضيفت نقطتا ضعف أخرى إلى الانتقادات الأساسيّة الثلاثة.

-4 التنبؤ بنهاية عصر الإيديولوجيا، الذي كان له بالنسبة إلى الدول الغربيّة المتقدّمة شيءٌ من الموضوعيّة.

-5 غيريّتها ومواجهتها للدين، والتي كانت نسخة مناسبة للعالم الثالث، ولا سيّما المجتمعات الإسلاميّة؛ لأنّها كانت من حيث التعاليم ومن حيث الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة ذات قابليّة مرتفعة للأدلجة.

ما عالجناه في هذا البحث بالقدر الذي تسمح به حدود مقالةٍ واحدة، هو الزاويتان الأخيرتان. ناقشنا ادّعاء نهاية الإيديولوجيا والتناقض بينها وبين الدّين، من خلال البحث في عدم إمكانيّة تجنبالإيديولوجيا، وإثبات التجانس الذي يجمعها بالدين، وتوصّلنا إلى لا نهائيّة الإيديولوجيا، وإلى كون الدين إيديولوجيّاً. نحن نعتقد، ويوافقنا على ذلك عدد كبير من المنظّرين، أنّ معظم النظريّات حول الإيديولوجيا، هي نفسها إيديولوجيّة، وفوق وصفها وتحليلها للواقع بصدق، تخبر عن مَيْلٍ لديها ورغبة خفيّة في داخلها. إنّ أطروحة نهاية الإيديولوجيا، واستراتيجيّة إفراغ الدين من جوهره الإيديولوجيّ ـ بصفته ملحقاً مكمّلاً له في البلاد الإسلاميّة ـ تقعان كلتاهما على هامش تيّار العَرْفَنَة السائد. يمكن انطلاقاً من هذا الرابط أو هذه العلاقة الوصول إلى هذه النقطة المفعمة كنظريّات العَرْفَنَة وتنبؤاتها بالآمال العرفيّة والاستراتيجيّة، والتي تُواجَه في كثير من المجتمعات والساحات بالتنوّع، وفي هذا الصدد هذا الحدث محتمل، كما تثبت صحته شواهد عديدة على المستوى العالميّ.

ـالمصادر والمراجع:ـ

آرون، ريمون؛ مراحل اساسى انديشه در جامعه شناسى [مراحل التفكير الأساسية في علم الاجتماع]، ترجمة بالفارسيّة باقر پرهام؛ طهران، منشورات تعليم الثورة الإسلاميّة، 1370ش [1991م].

إيغلتون، تري؛ درآمدى بر ايديولوجى [مدخل إلى الإيديولوجيا ]؛ ترجمه بالفارسيّة أكبر معصوم بيكي؛ طهران، منشورات آكه، 1381 هـ ش [2002 م].

بودون، ريمون؛ ايديولوژی در منشأ معتقدات [ الإيديولوجيا في أصل العقائد]؛ ترجمه بالفارسيّة إيرجعلي آبادي، طهران: منشورات شيرازه، 1378 هـ ش [1999م].

برغر، بيتر ال وطوماسلوكمان؛ ساخت اجتماعى واقعيت [بنية الواقع الاجتماعيّة]؛ ترجمه بالفارسيّة فريبرز مجيدي، طهران: علمى وفرهنگی، 1375 هـ ش [1996 م].

بلامناتس، جان؛ ايديولوژی [ الإيديولوجيا ]، ترجمه بالفارسيّة عزت الله فولادمند؛ طهران: علمى وفرهنكى، 1373 هـ ش [1994 م]؛

راش، مايكل؛ جامعة وسياست [المجتمع والسياسة]: مقدّمة لعلم الاجتماع السياسي؛ ترجمة بالفارسيّة منوتشهر صبوري، طهران: سمت؛ 1377 هـ ش [1998 م].

رورثي، ريتشارد؛ اولويت دموكراسى بر فلسفة [أفضليّة الديمقراطيّة على الفلسفة]؛ ترجمه بالفارسيّة خشايار ديهيمي؛ طهران: طرح نو، 1382 هـ ش [2003 م].

رشاد، على أكبر؛ دموكراسى قدسى [الديمقراطيّة المقدّسة]؛ طهران: مركز بحوث الثقافة والفكر الإسلاميّين، 1382 هـ ش [2003 م].

زيمل، غيورك؛ مقالاتي در بارهء دين، فلسفه وجامعه شناسى دين [مقالات حول الدين، الفلسفة وعلم اجتماع الدين]، ترجمته بالفارسيّة شهناز مسمى پرست، طهران: ثالث، 1388هـ ش [2009م].

سروش، عبد الكريم؛ فربه تر از ايديولوژی [أضخم من الإيديولوجيا ]؛

سروش، عبد الكريم؛ رازدانى وروشن فكرى وديندارى [علم الأسرار والتنوير والتديّن]؛ طهران: صراط، 1377 هـ ش [1991م].

سروش، عبد الكريم؛ أخلاق خدايان [أخلاق الآلهة]؛ طهران: طرح نو، 1380 هـ ش [2001م].

شجاعي زند، علي رضا؛ عرفى شدن در تجربه مسيحى واسلامى [العَرْفَنَة في التجربة المسيحيّة والإسلاميّة]؛ طهران: مركز بازشناسى إسلام وإيران، 1381 هـ ش [2002 م].

شجاعى زند، على رضا؛ مقالة “ المسارات المحتملة في عَرْفَنَة إيران”؛جامعهء شناسى إيران [مجلّة علم اجتماع إيران]، (الدورة السابعة)، العدد 1، 1385 هـ ش [2006 م].

شجاعى زند، على رضا؛ مقالة “ الأصل العقلي لعلاقة الدين بالدنيا”؛ فصلنامهء دانش سياسى [فصليّة العلوم السياسيّة]، العدد2، 1386 هـ ش [2007 م].

شجاعى زند، على رضا؛ مقالة “مراجعة دور الدين في التنمية، نظراً إلى أهداف تشكيل الحكومة الدينيّة”؛ مجلّة بژوهشنامه متين [البحث المتين]، العدد 41، 1387 هـ ش [2008 م].

شجاعى زند، على رضا؛ جامعه شناسى دين [علم اجتماع الدين]؛ ج1، طهران: منشورات في، 1388 هـ ش [2009 م].

شجاعى زند، على رضا؛ مقالة “ ذاتانيّة الدين”؛ مجلّة فصلنامهٔ فلسفهٔ دين [فصليّة فلسفة الدين]، عدد 3، 1392 هـ ش [2013 م].

شريعتي،علي؛ مجموعة الآثار 11: تاريخ الحضارة (1)؛ طهران: منشورات إلهام ومكتب تدوين وتنظيم آثارعلى شريعتي، 1375 هـ ش [1995م].

شريعتي، علي؛ مجموعة الآثار 16: اسلام شناسى (1) [دراسة الإسلام]؛ طهران؛ منشورات إلهام ومكتب تدوين وتنظيم آثارعلى شريعتي؛ 1375 هـ ش [1996 م].

شريعتي، علي؛ مجموعة الآثار 23: الرؤية إلى العالم والإيديولوجيا ؛ طهران؛ شركة النشر المساهمة ومركز على شريعتي الثقافي؛ 1386 هـ ش [2007 م].

عربى ستوده آراني، طاهرة وعلي رضا شجاعي زند؛ مقالة “صعود وهبوط الدين الإيديولوجي”، مجلة فصلنامهٔ راهبرد فرهنگ [فصليّة استراتيجيّة الثقافة]؛ العدد 21، 1392هـ ش [2013 م].

عليجاني، رضا؛ ايدئولوژی عليه ايدئولوژی [ الإيديولوجيا ضدّ الإيديولوجيا ]؛ طهران: منشورات قلم، 1380 هـ ش [2001 م].

لارين، خورخه؛ مفهوم ايدئولوژيى [مفهوم الإيديولوجيا ]؛ ترجمة بالفارسيّة فريبرز مجيدي؛ طهران: وزارة الخارجيّة، 1380 هـ ش [2001 م].

ليوتار، جان فرونسوا؛ وضعيت پست مدرن: [وضعيّة الحداثة]، تقرير حول العلم؛ ترجمة بالفارسيّة حسينعلي نوذري؛ طهران: منشورات گام نو1380 هـ ش [2001 م].

مرتضى مطهري؛ مقدمه ى برجهان بينى اسلامى[مقدّمة للرؤيا الإسلاميّة إلى العالم] (المجلّدات من 1-7)؛ قمّ: مكتب المنشورات الإسلاميّة، 1362 هـ ش [1983 م].

نوذري، حسينعلي؛ مدرنيته ومدرنيسم [الحداثة والحداثويّة]: السياسة، الثقافة والنظريّة الاجتماعيّة؛ طهران: منشورات نقش جهان‘1379 هـ ش [2000 م].

واندنبرغ، فردريك؛ جامعه شناسى جورج زيمل [علم اجتماع جورج زيمل]؛ ترجمه بالفارسيّة عبد الحسين نيك گهر؛ طهران: منشورات توتيا. 1386 هـ ش [2007 م].

فنسينت، اندرو؛ ايديولوژیهاى مدرن سياسى [الإيديولوجيّات السياسيّة الحديثة]؛ ترجمة بالفارسيّة مرتضى ثاقب فر؛ طهران: منشورات ققنوس، 1378 هـ ش [1999 م].

هي وود آندرو؛ در آمدى بر ايديولوژیهاى سياسى [مدخل إلى الإيديولوجيات السياسيّة]؛ ترجمة بالفارسيّة محمّد رفيعي مهر آبادي؛ وزارة الخارجيّة، 1377 هـ ش [2098 م].

Geertz Clifford; “Ideology as a Cultural System” in the Interpretation of Culture. New York: Basic Books، 1973.

Ricoeur، Paul; Lectures on Ideology and Utopia، ed. GH Taylor، Newyork; Columbia University press، 1986.

Ricoeur، Paul; Phenomenology and the social sciences: A Dialogue، ed. By

Joseph Bien، The Hague، Boston، London، 1978.

------------------------------------

علي رضا شجاعي زند : باحث وأستاذ علم الاجتماع في جامعة تربية المدرسين ـ طهران ـ إيران.

ـ نقلته عن الفارسية: د. دلال عباس.

ــ لمزيد من الإشارات بهذا الصدد (لارين، 1385 ش [2006 م]، ص 24-25)

[2]. للاطلاع على شرح مختصر بهذا الصدد (انظر: لارين 1385 ش [2006 م]، ص 11-26. لدى فينسينت أيضاً شرح موجز وفي الوقت عينه جامع لظهور مفهوم الإيديولوجيا، وتحوّلاته المفهوميّة (راجع: فينسينت، 1378 ش [1999 م]، الفصل الأول)

[3].للاطلاع على إشارات قريبة من هذا التعبير حول التفكيك بين هذه الساحات، اُنْظُرْ أبحاث زيمل حول تجربة (Erleben) قبل أن يجد المضمون شكله، وهذا ما أو رده غارتنر في مقالته « الشكل والمضمون في فلسفة زيمل حول الحياة». في هذه التجربة اللاواعية عن الحياة، لا يوجد أي ادراك للذات والموضوع L’objet et le sujet، والتفكيك والتمييز بينهما ناجم عن العوائق التي تظهر في مسار تحقّقهما، وتؤدّي إلى ظهور تجارب واعية في أشكال متنوّعة: الفنّ والفلسفة والعلم والدين والثقافة ( راجع: زيمل، 1388 ش [ 2009 م]، ص 40-46). يقول فاندانبرغ في مراجعته لفكرة زيمل: “ الكلّيّة مقابل الإنسان منذ أن اكتشف المبدأ العقليّ، وقد قُسّمت بين أقطاب مزدوجة: الذهن والعين، الإنسان والشيء، الثقافة والطبيعة، وبين الماضي والحاضر( راجع: فاندانبرغ، 1386 ش [ 2007 م ]، ص 1).

[4]. يقول هي وود إنّ الإيديولوجيا تعمل على نوعين من الدمج: دمج الفهم والالتزام، ودمج الفكر والعمل. لمزيد من الإشارات بهذا الصدد (راجع: هي وود، 1379 ش [2000 م]، ص 42-43).

[5]. غرامشي أيضاً دافع عن اتساع نطاق الإيديولوجيا وتجاوزها ميدان السياسة (راجع: راش، 1377 ش [1998 م]، ص 206.

[6]- يرى ماركس أنّ ظهور الإيديولوجيا وبروزها منوط ومحدودٌ بوجود الأنظمة الطبقية، ويعتقد أنّ الإيديولوجيا حين يزول النظام الطبقي، وتسيطر البروليتاريا في المجتمع ستفقد ضرورة وجودها (راجع: هي وود، 1379 ش [2000م]، 33-34). على هذا الأساس يجب عدّ ماركس أو ّل المنظّرين لأطروحة « نهاية الإيديولوجيا ».

[7]- اعتراض ليوتار على المبالغات التي يتجلّى مصداقها الأبرز في الإطلاقيّة والكماليّة كان هذا التوجّه يصحبه تنكّر الليبراليّين للإيديولوجيا، السبب في إدبار الجيل الجديد من المفكرين المستنيرين عن الإيديولوجيا، وإقبال على الخطاب. هذا الجيل ينظر بإحدى عينيه إلى الحداثة وبالأخرى إلى ما بعد الحداثة. يقول إيغلتون إنّ فوكوومريديه نسلوا إيديهم من مفهوم الإيديولوجيا كلّيّاً، ووضعوا مكانه مفهوم الخطاب (راجع: ليوتار، 1380 ش [2001م] / إيغلتون، 1381 ش [2002 م]، الفصل 7).

[8]- واجهت التحليلات الطبقيّة للإيديولوجيا، نوعاً ما مشكلةُ الجمع بين النفعيّة من ناحية والقيم الغيريّة من ناحية أخرى. إنّ أنبناء الإيديولوجيا على المنفعيّة فرضيّةٌ غير ممكنةٍ أساساً، وقد تخلّى عنها واضعوها في منتصف الطريق، متوسّلين الأطرَ المنافسة أي التفاسير القِيَميَّة. لهذا السبب ظلّ السؤال التالي من دون جواب: كيف يمكن لشخص على أساس الحدّ الأقصى الذي بلغه من تحقيق المصلحة ـ عرف موقعه الطبقيّ، وتحوّل تالياً من «طبقة بالذات» إلى «طبقة للذّات»، أن يتخلّى عن مصالحه وحتّى عن كيانه من أجل المُثُل الطبقيّة؟

[9]- للاطّلاع على إشارات متعلّقة بالتحليلات النفعيّة في ما يتعلّق بالإيديولوجيا (راجع: إيغلتون، 1381 ش [2003م]

[10]- لشريعتي فضلاً عن ذلك، تريفان آخران للإيديولوجيا. مرّة يقول عن الإيديولوجيا إنّها «تقنيّة»، لأنّها تساعد الإنسان على تسخير المجتمع والتاريخ والطبيعة لمصلحته، ومرّة يصفها بتعبير قريب من تعبير ماركس بأنّها «وعيٌ للذات» (راجع: شريعتي، 1375 ألف ش (1996 م)، ص 382-383/ 3751 ب.ش [1996 م]، ص 28).

[11]- للاطلاع على إشارات حول استنباط الإيديولوجيا من مفهوم المشتقّات في نظريّة پارتو(راجع: بودون، 1378 ش. [1999 م]، ص 59-61؛ إيغلتون، 1381 ش [2002م]، ص 284-285/ لارين، 1380 ش [2001م]، 107-109).

[12]- صدر عن ماركس وصفان للعامل الذي أو جد الإيديولوجيا، وصدر عن الماركسيّين أوصاف مختلفة، منها:

- وعيٌ زائف على نحو تلقائيّ بسبب وجود البنية الطبقيّة في المجتمع (ماركس)؛

- وعيٌ زائف مُتعمّد، أو جدته الطبقة الحاكمة (ماركس)؛

- وعيٌ طبقيٌّ، بمعنى أنّ كلّ طبقة من الطبقات تخلق وعيها الخاص وإيديولوجيتها الخاصّة (لينين)؛

- وعيٌّ معيّن ناجمٌ عن الأوضاع والظروف الاجتماعيّة (مانهايم) (راجع: راش، 1377ش [1998 م]، ص 205-207 / لارين، 1380 ش [2001م]، ص 90).

[13]. للاطّلاع على ملاحظات حول المقارنة بين الإيديولوجيا والأسطورة (راجع: بلامنتس، 1373ش [1994 م]، ص152-154/ إيغلتون: 1381 ش[2002م]، ص 287-289). يعتقد ريكور كذلك أن الإيديولوجيا تؤدّي في العالم المعاصر الدور الذي أدّته الأسطورة في العالم القديم (راجع: ريكور، 1986 م، ص 261).

[14]. للاطلاع على ملاحظات وشروح للمجادلات حول الدين الإيديولوجيّ والدين غير الإيديولوجيّ (راجع: عربي ستوده وشجاعي زند، 1392 ش [2013م]، ص 35-56).

[15]. ريمون بودُن أكّد على الوجه العاطفيّ للإيديولوجيا، وعدّ إيغلتون إحدى سماتها توجهها العمليّ (راجع: بودُن، 1378 ش [1999م]، ص 37/ إيغلتون، 1381 ش [2002 م]، ص 83).

[16]. وُصف السحر أنه شبهُ علم؛ لأنّه كالعلم، سعيٌ لتغيير وجه الطبيعة لتسخيرها والسيطرة عليها، وفي الوقت عينه هو ليس علماً، لأنّه خطأ. لكنّ لارين عدّ السحر والإيديولوجيا متشابهين، ويقول إنّهما يتضمّنان معتقدات بعضها صحيح وبعضها خطأ. لا يرى بينهما من فرق سوى أنّ السحر يتعرّض للظواهر الطبيعيّة، والإيديولوجيا للظواهر الاجتماعيّة (راجع: لارين، 1380 ش [2001م، ص 113). نحن نعتقد أنّ لارين قد أخطأ في ادعائه التشابه بين الإيديولوجيا والسحر، وتالياً بين الإيديولوجيا والعلم. علماً أنّه لا جدال في أنّ العلمَ يمكن أن يتأثّر بأهواءِ العالِم، ويتعرّض للتحريفات الإيديولوجيّة؛ بحيث إنّ عدداً كبيراً من العلماء في غمار البحث عن الحياة، تعرّضوا لهذه الآفة، وقد عدّ البعضُ من أتباع مذهب أدينبورا ومذهب فرانكفورت ذلك أمراً لا يمكن تجنّبه، أو أنهم دافعوا عنه. في الوقت نفسه لا ضرورة لعدّ الإيديولوجيا والعلم متجانسين ومتناغمين، فعلى الرغم من تميّز كلٍّ منهما من الآخر وتعلّقهما بميدانين مختلفين، يمكن أنْ يؤثّر أحدهما في الآخر. فالإيدييولوجيا مع أنّها بمنزلة الرغبة، تؤثّر في الوعي، وتؤدّي إلى تحريفه، ليست بالضرورة من جنس العلم، وأيضاً هي ليست بمعنى الوعي الزائف أو العلم الخطأ. هذا الانحراف قبل الفرضيّات الموجودة في أيّ نظريّة علميّة سببه التعصّب والأحكام المُسبقة. دافع بودون كذلك كماركس وآرون وپارسونز عن النظريّة القائلة إن الإيديولوجيا بمنزلة العلم الخطأ (راجع: بودون، 1378 ش [1999م]، ص 39-53).

[17]. إن الرؤية إلى العالم التي أشار إليها شريعتي، المنفصلة عن الإيديولوجيا، هي من جنس الوعي الفلسفيّ حول الوجود الأساسيّة، وتتميّز من العلم بالمعنى الدقيق لكلمة (سياينس). هي من نوع الوعي الذي يمنح الإنسان رؤيةً، ويمهّد أرضيّةَ تشكّل الإيديولوجيا . إنّ البحوث المعرفيّة وإطلاق صفة الصحّة أو السقم يختص بهذا القسم من إحدى المنظومات الإيديولوجيّة.

[18]. استخدم شريعتي الإيديولوجيا بالمعنيّين كليهما: بمعنى مقولة منشقّة عن رؤيا معيّنة إلى العالم، أيضاً وكمنظومة معرفيّة جامعة تتضمّن أيضاً الرؤية إلى العالم (راجع: عليجاني، 1380ش [2001م]، ص 56، الحاشية/ رشاد، 1382 ش [2003 م]، ص 291).

[19]. إنّ فهم لينين هذا وتصنيفه الإيديولوجيا في مقام الجواب على سؤال « ما العمل؟”، هو أدقّ: وصف موجز للإيديولوجيا. فالإيدييولوجيا -بحسب هذا التعبيرـ هي المرشد إلى العمل؛ حتماً ليس أيّ عمل، بل العمل الهادف والمبني على القيم. أمّا الأسئلة: ماذا يكون؟ وكيف يكون؟ ولماذا يكون؟ والتي هي مواضيع التأملات العلميّة والفلسفيّة، فلا مكان لها في الإيديولوجيّات، إلّا بمقدار ما تؤدّيه من خدمة لهذا السؤال الإيديولوجيّ، أي ما العمل؟

[20]- المثاليّة، يجب عدم عدّها والحداثة أمراً واحداً. لهذا السبب ربّما يقول شيلز إنّ المؤدلَجين يقاومون الحداثة (بودون، 1378 ش [1999م]، ص 237، فهؤلاء على الرّغم من الجهود التي يبذلونها لتغيير الأوضاع، هم غير منصفين بالنسبة إلى الإبداع في ميدان الرأي والعقيدة.

[21]- إنّ اهتمام الإيديولوجيّين الأساسيّ منصبٌّ على المستقبل، وتأملاتهم وأبحاثهم المتعلّقة بالماضي والحاضر تندرج في هذا السياق. وربّما لهذا السبب عُدَّت الإيديولوجيّات مستقبليّة التوجّه (راجع: بودون، 1378 ش [1999م]، ص 35).

[22]- من الخصائص الأخرى التي جعلت الليبراليّة تُخرِجُ نفسها بحذق من عداد الإيديولوجيّات، وتقف في مواجهتها من علٍ، ما تتمتّع به من نسبيَّةٍ واستعداد لأيّ نوع من أنواع التجديد في الرأي، مقابل ما يُنسب إلى الإيديولوجيّات من جزم ويقينيّة. مع ذلك قلّما وجدنا عالم اجتماع سياسيّ، حتّى ليبراليّ قد أخذ هذا الادّعاء على محمل الجدّ، ونقل البحث حولها تحت سقف آخر غير الإيديولوجيّات السياسيّة. بودون كذلك، الذي أخرج الوجوديّة والبراغماتيّة والمثاليّة من عداد الإيديولوجيّات، لم يذكر اسمَ الليبراليّة من بينها (راجع: بودون، 1378 ش [1999م]، ص 37).

[23]- هنالك انسجام بين وحدة الفكر ووحدة الإرادة ووحدة العمل. وقد عدّ إيغلتون التوحيد (يونيفايينغ) من خصائص الإيديولوجيا ؛ لأنها تؤدي إلى الانسجام الاجتماعيّ. وهو يرى أن مانهايم وغولدمن يؤمنان بالوحدة الداخليّة (راجع: إيغلتون، 1381 ش [2002 م]، ص 83-85).

[24]- راجع: بودون، 1378 ش [1999م]، ص 37/ شيلز نقلاً عن ايغلتون، 1381 ش [2002م]، ص 23.

[25]- يرى كلٌّ من برغر ولوكمان أنّها معرفة ذات توجّه سلطوي، وجدت موضوعيتها في الساحات القوميّة (راجع: برغرولوكمان، 1375 ش [1996 م]، ص 168-169).

[26]- لمزيد من الإشارات حول هذا الموضوع (راجع: إيغلتون، 1381 ش [2002 م]، ص 83 و93-95).

[27]- إضفاء المعنى، هو العمل الذي يقوم به الوجه المعرفيّ للإيديولوجيات، وفي الوقت نفسه هو نتاج مختلف عمّا يمنحه العلم للبشر. هذا الفرق يجب أن ينوجد في التمايز بين « النظام» و«المعنى». اكتشف البشر النظام في العالم بواسطة العلم؛ لكنهم «أضفوا» المعنى على الوجود بسبب الفلسفة والمدارس الفلسفيّة. لهذا السبب النظام السائد في الطبيعة، ليس مسبوقاً ولا مشروطاً بوجود الإنسان؛ لكن المعنى منوطٌ بوجود الذوات الإنسانيّة.

[28]- المصالح أيضاً مثل الإيديولوجيّات، لديها خاصيّة التحريك والتحريض والفاعليّة. لذا رأى بعضهم أن الإيديولوجيا تعمل في خدمة المصالح الجمعيَّة وملاحقتها، والبعض الآخر جعلها استمراراً للغريزة المعرفيّة، ورأى أنّ بدء عمل الإيديولوجيا خاتمةٌ لعمل الغريزة.

[29]. لمزيد من الملاحظات حول منح الإيديولوجيا للهُوية (راجع: ريكور، 1986 م، ص 17 وص 241).

[30]. ذكر كيرتز الإيديولوجيا على أنّها ثقافة، ورأى دورها في تأمين الانسجام الاجتماعيّ. يقول آندرسون إنّ آلتوسّير وصفالإيدييولوجيا أنّها كالإسمنت الخفيّ في الترابط الاجتماعيّ (راجع: كيرتز، 1973م/ راش، 1377 ش [1998 م]، ص 202)، وكذلك (راجع: هي وود، 1379 [2000م]، ص 28-29/ ريكور، 1986م، ص 225).

[31]. للاطلاع على مصداق لهذا التوجّه (راجع: راجع: سروش، 1377 ش [1998 م]، ص 134-151).

[32]. إيغلتون للدلالة على تقلّص أهمّيّة الإيديولوجيا في العالم الغربي المعاصر يقول: إن النظام الرأسماليّ الجديد لم يعد يهتم بالأنظمة النظريّة ـ المعرفيّة، وبإعادة تقويم المعارف، وبمعنى الحياة. إنّ الغلبة اليوم للنفعيّة، والاستهلاك، والتقانة، التي قلّصت الحاجة إلى المعنى (راجع: إيغلتون، 1381 ش [2002 م]، ص 70-74). هذا الاستنتاج مصداق للخطأ الذي يقوم انطلاقاً من إيديولوجيا معينة بمحاكمة الإيديولوجيّات عامّةً. لقد عبّر إيغلتون عن تغيّر معنى الحياة وفلسفتها، وتغيّر الميول والرغبات البشريّة، الذي هو نفسه صورة أو مصداق إيديولوجيا جديدة بمقولة التخلّي المطلق عن الإيديولوجيا . هذا الخطأ الذي ارتكبه إيغلتون، وضّحه رورتي في مقولة أو لويّة الديمقراطيّة على الفلسفة (1382 ش [2003 م]؛ حين يذكر أطروحته الديمقراطيّة البراغماتيّة بديلاً لا غنى عنه لأيّ نظريّة تسويغيّة، وينصح الليبراليّين بعد ذلك بتسخيف الفلسفات أيّاً كان نوعها، ويقول: "يجب أن نُخرِج من رؤوسنا عادة النظر بجدّيّة إلى القضايا" نحن نعتقد أنّ رورتي أيضاً رمى نفسه في البئر نفسها التي حذّر الليبراليّين من الوقوع فيها. فهو قد دافع دفاعاً مطلقاً، من دون أي تساؤل، عن الليبراليّة، كما أنّه استعان في سبيل ذلك بنوع من الفلسفة. بناءً عليه، فهو إيديولوجيٌّ بكلِّ ما للكلمة من معنى، وفيلسوفٌ أيضاً.

[33]. لقد طرح أشخاص منهم إدوارد شيلز، وريمون آرون، وسيمور ليبست، ودانييل بيل، وحنة أرندت، وكارل بوبرفي العقدين السابع والثامن من القرن العشرين أطروحة نهاية الإيديولوجيا، وقد ووجهت هذه الأطروحة منذ ذلك الحين بكثير من المعارضة (راش، 1377 ش [1998 م]، 208-211/ فنسنت، 1385 ش [2007 م]، ص 11). يعتقد عدد كبير من علماء الاجتماع السياسي أن أطروحة نهاية الإيديولوجيا، هي إيديولوجيا بحدّ ذاتها (راش، 1377 ش [1998 م]، ص 211/ إيغلتون، 1381 ش [2002 م]، ص 75/ هي وود، 1378 ش [1999 م]، ص 49/ فنسينت، 1378 ش [1999م]، ص 27-28). يقول بودون إنّه لا يؤمن بنهاية الإيديولوجيا، ولا يتخيّلنَّ وجود مجتمع من دون إيديولوجيا (بودون، 1378 ش [1999م]، ص 329). استخدم هي وود أيضا تعبير الخاتميّة (أنديسم) في هذا السياق (هي وود، 1377 ش [1998 م]، ص 548). طلعت أطروحة الخاتميّة من عقليّة العلماء الغربيين، المتمحورة حول الذات الغربيّة، وتتجاوز الإيديولوجيا إلى ما هو أبعد منها. إنّ الخاتميّة تحكم استراتيجياتهدف إلى إخلاء الساحة وطرد خصوم الغرب في الفكر والأهداف. للاطلاع على مصداق لعقليّة الخاتميّة في الدفاع عن الديمقراطيّة الليبراليّة (راجع: رورتي، 1382 ش [2003 م]. فرورتي في سياق هذه الاستراتيجيا نفسها ـ بإعلانه الليبراليّة فوق الإيديولوجيا -أخرجها من المواجهة المباشرة للإيديولوجيّات المعادية، ومن خلال أطروحة أو لويّة الديمقراطيّة على الفلسفة جعلها غير محتاجة لمواجهة أيّ نوع من التساؤل أو التأمل. وهذا هو المصداق الأبرز على القضاء على أي شيء في مقرّ الليبراليّة-الديمقراطيّة.

[34]- يقول هي وود: إنّ الإيديولوجيا السياسيّة كانت ركناً أساسيّاً في التاريخ العالميّ لمدّة تفوق القرنين من الزمان. لقد ظهرت الإيديولوجيا من باطن التحولات الجذريّة والمتغيرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ومن خلالها تشكّل العالم الجديد، وساهمت كذلك بفاعليّة في النتائج الدائمة للتطوّر الاجتماعيّ، والتنمية السياسيّة. وإن كانت الإيديولوجيا قد ظهرت بادئ ذي بدءٍ في الغرب الصناعيّ، فقد عمّت الكرة الأرضيّة في ما بعد، وأبدعت خطاباً سياسيّاً عالميَّ اللغة (راجع: هي وود، 1379 ش [2000م]، ص 541). للإطلاع على مصطلحات قريبةٍ من هذا المضمون مثل «المبدأ السياسي» و«الثقافة السياسيّة» (راجع: فينسينت، ص 1378 ش [1999م]، ص 12/ باش، 1377 ش [1998م، ص 208).

[35]. للاطلاع على ملاحظات حول الدين كتجاوز وارتقاء (راجع: شجاعى زند، 1388 ش [2009 م]، ص 247-260).

[36]. يقول سروش خلال طرح مبحث الغايات: بما أنّ غاية الدين الآخرة فإنّه يتميّز من الإيديولوجيا ذات الغايات الدنيويّة، في حين أنّ على الأقلّ الإسلام-إيجاد تحوّل وجودي لدى الإنسان، أمّا الآخرة فمؤثّرةٌ فيه كمعتقد، وفي مقام التحقّق هي النتيجة.

[37]. المقصود بعبارة «الذات المتميّزة» بالنسبة إلى الأديان والإيديولوجيات، هو أنّ الضرورة الوجوديّة لأي إيديولوجيا أو دين يظهر على مسرح الوجود، هي تميّزه مما جاء قبله، وإلّا، فما من داعٍ أو مسوّغٍ لظهوره، ولن ينتبه أحدٌ لقدومه. لمزيد من الملاحظات (راجع: شجاعي زند، 1392 ش[2003م].

[38]. (راجع سروش، 1372 ش [1993 م]. إنّ ما ادّعاه سروش وما صدر عنه بهذا الصدد أمرٌ محيّر حقّاً: الدين أضخم من الإيديولوجيا وأغنى، وأنّه غيرها، وأنهما متضادان، وأنّ الدين نظرية تظهر في حقبة الاستقرار، وهو يبتكر فضلاً عن الشريعة الطريقة والحقيقة، أو أنّه ينظر إلى ما هو أبعد من مجتمع معيّن. لكنه لم يُثبت أيّ تناقض أو تعارض بينها، وفي حين أكّد على تجانسهما، لم يولِ أهميّةً إلّا لكون الدين أغنى من الإيديولوجيا . أمّا تفسيره له بتعابير مثل: النظام المضطرب، أو تشابيه منها تشبيه الدين بالهواء، وبالميزان، وبالمصباح، وبالرسن، وبالمِرقاة، فذلك أمرٌ محيّرٌ، وفي المقابل يؤكّد على هدفيّة الإيديولوجيّات وصراحتها، ووضوحها، ويُصرّ على إبراز التناقض والتضاد بين الدين والإيديولوجيا (راجع، سروش 1372 ش [1993 م]، ص 121-130.)

[39]. ربّما كانت الإيديولوجيا هي الظاهرة الوحيدة، التي استقطبت هذا العدد من المعارضين المتنوّعين، والمتناقضين، وواجهت هذه الساحات المختلفة؛ من علم المعرفة، إلى علم الاجتماع، ومن الفلسفة إلى السياسة والثقافة، ومن أصحاب السلطة كنابليون، إلى أعداء السلطة كآرنت وهابرماس وفوكو، ومن ماركس إلى أعداء الماركسيّة كبوبر وبارسونز، ومن التقليديين، والمجدّدين الحداثويين، وأتباع ما بعد الحداثة، وأخيراً المثقفين العلمانيّين كالسيد جواد الطباطبائيّ، وصولاً إلى هذه المجموعة من المتنّورين الدينيّين الشديدي التأثّر بالليبراليّة كسروش (راجع: فينسينت، 1378 ش [1999 م، ص 23-28/ بودون، 1378 ش [1999م]، ص 46 / لارين، 1380 ش [2001م]، ص 26/ سوذري، 1379 ش [2000م]، ص 367-/ سروش، 1372). اللافت أنّ بعض هؤلاء استخدم في اعتراضه على الإيديولوجيا مبادئ مغايرة لمبادئه (راجع: سروش، 1372 ش [1993 م]، ص 79-82 و92-93).

[40]. وضع سروش الدين الذي جاء لتفهيم الإنسان معنى العبوديّة مقابل الإيديولوجيا، وعدّها تدبير إنسان يعدّ نفسه إلهاً (سروش، 1372 ش [1993 م]، ص 371-372). كأنّ العبوديّة للّه، مناقضة لفاعليّة الإنسان، ومعالجته لشؤون الدنيا، وتحمّله مسؤوليّة الحياة. يستنتج من هذا الكلام أن العبوديّة للّه تساوي تكتيف اليدين والتفرّج والتراخي، وإيلاء الأمور لعصاة العبوديّة. بهذا التعبير الانفعاليّ عن العبوديّة، ماذا سيحلّ بالواجب المفروض على الإنسان كخليفة للّه في أرضه.

[41]. لمزيد من التفصيل حول المعاني والمسارات العرفانيّة (راجع: شجاعي زند، 1381 ش [2002 م]، الفصل 2/ نفسه، 1385 ش [2006م].

[42]- إحدى الاستراتيجيّات النفعيّة لصون الدين، الإصرار على المحافظة على الإبهام والإيهام، وبشكل عام إضفاء الحيرة على الدين تهرّباً من إلغاء دوره، ولصون ديمومته. يقول سروش: “الدين، مثير للحيرة، ومن الضروري أن يكون كذلك، كي لا يكون عمره مؤقّتاً ومحدوداً كأعمار الإيديولوجيّات، ويتخلّى عن بعده. إن أصبح الدين إيديولوجيا، معنى ذلك أنّه قد تخلّى عن ديمومته وخلوده (راجع: سروش، 1372 ش [1993 م]، ص 377-378). إنَّ الإصرار على إضفاء الديمومة والخلود على الدين، الذي لا يضيف إليه إلّا الحَيْرة، إنّما هو تمجيد للحيرة والاضطراب.

[43]- راجع: سروش، 1377 ش [1998 م]، ص 134-151/ نفسه، 1380 ش [2001 م]، ص 100-101).

[44]. يقول لارين إن ماركس ذكر الإيديولوجيا في كتاب رأس المال، ووصفها بأنها نماذج عن الواقع مقلوبة؛ لكنه في كتابه الإيديولوجيا الألمانيّة عدّها مُخفِيَة التناقضات الاجتماعيّة (راجع: لارين) 1380 ش [2001م]، ص 65، و68). لهذا السبب نحن وضعنا ماركس ضمن المجموعتين.

[45]. يرى بول ريكور أنّ أبحاث فيبر حول الشرعنة أحد تجلّيات الإيديولوجيا واستخدامها في إقناع الناس بالاتكاليّة والخضوع لسلطة الحاكم (راجع: ريكور، 1986 م، الخطبتان 11 و12).