البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مجتمعات ما بعد الإيديولوجيا ( ديناميات النزاع والسيطرة )

الباحث :  جون شوارزمانتل j.j.schwarzmantel
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  6
السنة :  السنة الثانية - شتاء 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 6 / 2017
عدد زيارات البحث :  1447
تحميل  ( 349.100 KB )
يقدم هذا النص جملة من الأهداف الطّموحة. حيث يسعى أولاً إلى التحقيق في ما إذا كان مدلول السيطرة الإيديولوجية قابلاً للتطبيق على المجتمع المعاصر أو إذا ما كان مرتبطًا به. كما يسعى ثانيًا، إلى تحديد المعالم المفترضة التي تتناسب مع مبدأ الإيديولوجيا  المضادة الجديدة. وما يعنيه هو إيديولوجيا المعارضة والنقد التي تحترم بعض المعايير المحددة. ويشير الكاتب هنا إلى أن مثل هذه المعايير لا تخلو من الروابط التي تجمعها بالشروط الفعلية للسياسة العصرية، ولا من المقدرة على التحفيز والتحريك، ولا حتى من العمل على تفادي الصفات التي تطبع الجمود العقائدي التي ظلت تشكل السمة المميّزة للإيديولوجية السياسية في الماضي.

نشير إلى أن هذا النص هو محاضرة قدمها شوارزمانتل أمام الجلسات المشتركة في إطار ورشات العمل التي ينظمها المجمع الأوروبي للأبحاث السياسية في أبسالا ـ السويد، في 13 – 17 نيسان 2004.

المحرر

-------------------------------------------

أودّ أولاً أن يقع اختياري على اثنين من السمات الواضحة التضارب على المشهد الإيديولوجي المعاصر. ومن ناحية أولى، يبدو وكأن مدلول السيطرة الإيديولوجية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة في يومنا الحالي، كما وكأن النظام الليبرالي هو الذي يشكل الإيديولوجيا  المسيطرة. ثم يأتي خط آخر من التحليل ويتضارب مع هذا الموقع من حيث إنّه يرفض الحديث تمامًا عن السيطرة الإيديولوجية. وفي حال أن هذا المنظور الأخير قد أثبت صحّته إذًا لا يسعنا القول إلا أن المجتمع المعاصر (على الأقل في البلدان المتطورة التي تحكمها الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، على أن ورقة البحث هذه إنما تركّز على دور الإيديولوجيا  في هذه المجتمعات) بات متحررًا من أي نوع من أنواع الإيديولوجيات ولا يرتبط بأيٍّ منها. لقد بتنا نعيش في مجتمع ما بعد الإيديولوجيا  حيث لم يعد مِن مكان لمفهوم الإيديولوجيا  أو بالحريّ لا مكان للمفهوم الإيديولوجي السائد أو المسيطر. لقد استعيض عن النزعة نحوالإيديولوجيا  بسياسة الهوية التي تطبع القيم الشخصية التي ما من علاقة البتة بينها وبين سياسة الإيديولوجية التي كانت هي السائدة في الأزمان الماضية (والأقل حظًا). انطلاقًا من هذه النظرة يمكننا القول بأن الحياة السياسية بجميع أشكالها قد خضعت للتحولات، انطلاقًا من أن القضايا الجديدة قد طرأت ولم يعد بالإمكان السيطرة عليها في إطار عمل السياسة الإيديولوجيا .

اسمحوا لي أن أنطلق من هذه النظرة الثانية، موضّحًا إياها قبل تبرير عدم صحّتها. في الأصل تقوم هذه الرؤية على التمييز ما بين المجتمع الإيديولوجي من جهة والمجتمع اللا إيديولوجي أو مجتمع ما بعد الإيديولوجيا  من جهة ثانية. في النمط الأول، تخضع السياسة لسيطرة البحث عن هدف مجتمعي شامل وتام، إنه التطلّع إلى تحقيق أو تأكيد فكرة المجتمع الحسن. إن المجتمع الإيديولوجي هو ذلك الذي يتم في إطاره نشر وجهة النظر الواحدة والسائدة حول الحياة الحسنة عن طريق المجتمع وهو ما يُقولب وعي الناس. مما لا شك فيه هو أن هذه العملية قد تأخذ أشكالاً مختلفة تتراوح ما بين المجتمعات التوتاليتارية الإيديولوجية المتمثلة في الأنظمة الشيوعية الفاشية والستالينية وصولاً إلى المجتمعات الأكثر ليبرالية والتي مع ذلك لا يمكن سلخ الصفة الإيديولوجية عنها، أي المجتمعات التي لا يزال يتناسب معها مدلول السيطرة الإيديولوجية.

وفي إطار هذا الحيّز من المناقشة، لم يعد بالإمكان ترسيخ المسائل المرتبطة بالجدال السياسي في إطار متغيّرات أيّ إيديولوجيا بذاتها. لقد تغيّر المجتمع، وبالتالي فقد أصبح متحررًا من تلك الأطر التفردية، وإذا ما أردنا الإفتراض بأن الهوية، سواءاً  كان المقصود بها الهوية الشخصية هوية الجماعة، هي الأساس الذي تقوم عليه السياسة، بالتالي فإن الإطر الأوسع التي تقوم عليها السياسة الإيديولوجية تصبح بكل بساطة غير متوافقة مع مصدر العمل السياسي. إذ لا بدّ من الإشارة إلى وجود نوع من التضارب ما بين سياسة الهوية وسياسة العقيدة: الأولى هي تلك التي تسعى للوصول في إطار العمل السياسي إلى المساحة التي تخوّلها تمييز المصالح والأهداف الواضحة المعالم التي تختص بكل مجموعة؛ فردية كانت أو ثقافية. في المقابل، فإن السياسة الإيديولوجية هي تلك التي تسعى إلى التعبير عن نفسها في إطار العمل العام من خلال اللجوء إلى الأسلوب الجماعي. وعليه فإن ساحة السياسة الإيديولوجية هي تلك المرتبطة بالأفرقاء أو بالحركات الاجتماعية الواسعة والتي نجدها تميل صوب المشروع القائم على مبدأ التحوّل الاجتماعي التام والكامل. إنما وفي هذه المرحلة من التحليل لم تعد الحياة السياسية المعاصرة على هذا النحو، بل هي أصبحت تنشط في إطار مبدأ أكثر تجزُّؤًا أو تدرُّجًا: على سبيل الجماعات ذات الخصوصية التي تميّزها عن غيرها التي تصارع من أجل الاعتراف بها، والمصالح الخاصة التي تقتضي من الحكومة أن تتجاوب مع مطالبها، هذه النماذج قادرة على إعطائنا فكرة حول شكل السياسة في العالم المعاصر التي يمكن إلصاق أي صفة بها ما عدا صفة الإيديولوجيا .

ليس من الصعب في شيء أن ندرك السبب الذي لأجله اكتسبت هذه الرؤية المصداقية الكبيرة: فعلى أرض الواقع، يقود خطر السياسة الإيديولوجية المتمثّل في أشكالها التوتاليتارية إلى نشوء ردة فعل مضادة، وهي تلك التي ترحّب بسياسة الإختلاف والتنوّع. إذا ما كانت الإيديولوجيات تقود إلى القضاء على كل شكل من أشكال التعددية، بالتالي فإن المجتمع السليم والمتنوع لن يكون أبدًا على وفاق مع مخطط سرير بروكوست[2] الذي تعتمده الإيديولوجيات التي تسعى إلى «تسيير» هذا التنوع لكي تصل به نحو مثال أعلى واحد. لن تتوانى الإيديولوجيات عن صقل فكرة واحدة ومثل أعلى وحيد حول المجتمع الحسن وبالتالي فإنها تحاول توجيه أو إرشاد مجالات الحياة على اختلافها لكي تصب في المحصلة في خندق الهدف الوحيد. وعليه فإن الحركة الإيديولوجية هي تلك الحركة الجماعية التي تنبثق انطلاقًا من ولاء الناس ووفائهم ثم تعمد إلى اللعب بعواطفهم من خلال اللجوء إلى الخرافة والرموز، وهي بالتالي تكون ساعية إلى الإمساك برمام السلطة داخل الدولة في محاولةٍ لفرض ذاك الهدف المرجو على المجتمع بأكمله. على أن المجتمع الحديث لم يعد يعترف بهذه الحركات على اعتبار أنها كيانات قائمة بذاتها، وهو الأمر الذي يُثبت لنا بأننا قد انتقلنا إلى نوعٍ آخرٍ من المجتمعات التي بات بإمكاننا أن نطلق عليه اسم مجتمع ما بعد الإيديولوجيا .

مرة أخرى أرغب في الخوض في هذه المسألة، والتي أعتقد بأنها تقوم على أساس النظرة أولية عن الإيديولوجيا . لذا فإنني أفضل عوض ذلك اللجوء إلى بعض الأفكار التي كان غرامشي قد خرج بها حول الإيديولوجيا  من أجل دعم الفكرة القائلة بأن الليبرالية إنما هي إيديولوجيا تسود المجتمع الحديث، إلى جانب التوسع في بعض الأفكار التي تخوض في العوامل التي قد تؤدي إلى خلق إيديولوجيا مضادة، والسبب الذي يجعلها غاية في الأهمية في ظل الظروف التي تحكم السياسة في يومنا هذا. بالعودة إلى غرامشي، يرى هذا الأخير أن الإيديولوجيا  كانت في بادئ الأمر عبارة عن قوة عملية تقوم على مبدأ شعبنة وترويج العقائد الفلسفية التي كان المفكرون يخرجون بها. في الوقت الذي كان غرامشي يبلور هذا الرأي كانت الإيديولوجيات عبارة عن المجال الشامل والجامع لأي مفهوم فلسفيٍّ كان:

تعتبر الإيديولوجيات الفلسفة الحقيقية بروحها، إذ أنها لا تأتي إلا نتاجًا للترويج الفلسفي الذي يقوم بنقل الجماهير والعامة نحو العمل الفعلي وبالتالي نحو تحويل الواقع (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1242).

وبالتالي بات بالإمكان القول إن الإيديولوجيات تُرشِح أو تسرّب الأفكار التي يتبناها الفلاسفة لتدخلها في عقول العامة، وهو الأمر الذي يجعل  من هذه الإيديولوجيات سلوكيات سهلة المنال وتحفيزية. وفي مجالٍ آخرَ إنما وبالروحية نفسِها يكتب غرامشي قائلاً بأن الإيديولوجيا  ما هي إلا عبارة عن «مرحلة وسيطة ما بين الفلسفة وممارسات الحياة اليومية» (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1433). وبعد الإطلاع على هذه النظرة المعقة، يصبح بإمكان الفرد أن يقول بان الليبرالية لا تقل سيطرةً عن الإيديولوجيا، إذ إنها تتسرب إلى عقول العامة عن طريق الترويج وهي بالتالي تكون في معرض تنشيط  سلوك الناس عبر اعتماد الأساليب التي ليس بالضرورة أن يدركوها بأنفسهم.

إن الفكرة التي أود طرحها هي أن الليبرالية تمتاز بصفة السيطرة داخل المجتمعات البيرالية الديمقراطية المعاصرة، إلا أنه لا بدّ من تصنيف هذا الانتصار المفترض لليبرالية عن طريق عدة أساليب. أولاً، لقد صعدت فكرة سيادة الليبرالية على اعتبار أنها إيديولوجيا على حساب تكلّفها النظري وعمقها الفكري. إذا ما اثبت غرامشي صحة نظرته واعتبرنا أن الإيديولوجيات إنما تأتي «نتاجًا للترويج الفلسفي الذي يقوم بنقل الجماهير والعامة نحو العمل الفعلي»، فبالتالي تصبح الفاعلية التطبيقية التي تتحلى بها الليبرالية أمرًا ممكنًا؛ إذ أنه جرى أصلاً تذويب الليبرالية وتبسيطها. إن ما تشهده الليبرالية هو عبارة عن إيديولوجيا أولية يعتقدها الشخص بخياره الفردي ونتيجة لحقوقه الفردية وهي أيضًا عبارة عن وجهة نظر غير نقدية حول ما يُطلق عليه أحد الكتّاب اسم «السياسة التي تقودها السوق» (لييز، 2001). وفي هذا المجال تجدني أطرح وجهتَيْ نظر في ما يتعلق بالشروط التي على أساسها استطاعت الليبرالية أن ترسي قواعدها على اعتبار أنها حركة مسيطرة. أولاً، لا بدّ من الإشارة إلى أن ما فقدناه من جراء هذا الإنتصار هو ذلك المجال الذي كانت تتحلى به الليبرالية والذي كان قادرًا على جذب الأفكار التي تدور في فلك تطوير الذات وتحويل الذات من خلال التفاعل مع الآخرين، إنها عبارة عن عملية تحظى بالدعم (كما يشير جون ستيوارت ميل) بفعل الممارسة السياسية، على سبيل المثال داخل الحكومات المحلية. على أن هذا المجال من الليبرالية القائم على مبدأ تطوير الذات قد شغل العديد من «الليبراليين الجدد» من أمثال توماس هيل غرين فانكبوا على تطويره، وبالتالي فقد برز جليًّا في إطار إيديولوجيا الليبرالية التي باتت حاضرة في الأذهان وراحت تنتشر على اعتبار أنها إيديولوجيا تفوّق المستهلك وخياره. وفي إطار هذه الليبراليّة الرائجة، إذا ما صحّ تسميتها بهذا الاسم، أصبحت الأفكار التي تعالج الحق في حرية الخيار إن داخل السوق أو في إطار السلطة غير المقيّدة تحتل مراكز الصدارة. إلا أن هذه الفكرة تغض النظر عن بعض المعضلات المركزية التي تختص بها الليبرالية الكلاسيكية في ما يتعلق بإمكانية قضاء المجتمع الشامل على الفردية والتعددية، وهو الأمر الذي لطالما أشار إليه دو توكفيل. ولا شكّ بأن التحذيرات التي كان يطرحها بشأن التركيز على الملذات الفردية والمصالح الشخصية والتي بدورها قد توصل إلى تجاهل الملكيات العامة وحتى إلى نمو نوع من «الإستبداد الناعم» داخل المجتمع الذي نزع الصفة السياسية عن نفسه باتت الآن تبدو في مكانها المناسب أكثر من أي وقت مضى.

وبالتالي تجدني أوافق غوس الرأي عندما يقول بأنه جرى تثبيت مبدأ سيادة الليبراليّة باعتبار أنها إيديولوجيا قائمة بذاتها على حساب تفتيتها، إن لم نقل على حساب اختفائها من ناحية أنها مبدأ فلسفي (غوس، 2000). إلا أنني كنت أفضّل أن أصيغ الواقع بعبارات أخرى تقول بأن الليبراليّة باعتبار أنها إيديولوجيا نقدية قد فقدت عن طريق شعبنة شكلها «الإيديولوجي» ذلك الحيّز النقدي، وقد تخلت عن رؤيتها التي تعالج المجتمع المكوّن من أفراد يتمتعون بكامل الإرادة الفردية. وإذا ما صحّ قول بونام إذ يعلن أن « الإيديولوجيات جيمعها، بما في ذلك أكثر الإيديولوجيات محافظة ً، كانت موجهة بكل شراسة تجاه الواقع، كما حدث في ذلك الوقت» (بونام، 1999، ص. 124) فإننا نحلص إذًا إلى أن الليبرالية قد فقدت الآن «الشراسة» التي كانت تتحلى بها. لقد خلعت الليبرالية عن نفسها وظيفتها النقدية وباتت الآن تطرح نفسها كما لو أنها تخلت عن طابعها السياسي. وعلى سبيل المثال، أشير في هذا المجال إلى كتاب الليبرالية السياسية الذي وضعه رولس، حيث يقول إنّ الليبرالية تبدو وكأنها عملية البحث عن الإجماع السياسي، الذي بدوره يتحقق من خلال التخلي عن اتفاق بشأن «العقيدة الشاملة» (رولس، 1993). وهنا أشير إلى أن النظرة التي يقدّمها رولس حول الليبرالية هي تلك الليبرالية الدقيقة التي لا ترفض «الاختلاف المعقول» بالنظر إلى العقائد التي تعالج الحياة الحسنة، إلا أنها مع ذلك تقدّم المزيد لناحية العقيدة الجوهرية. إذا ما افترضنا أنّ الليبرالية قد حطت رحالها في هذه الخانة مؤخرًا، على اعتبار أنها إيديولوجيا قائمة، فإذًا يبدو أنها تسعى إلى تقديم المثال حول ما يصفه بونام على أنه « إيديولوجيا من دون مشروع»، على أن هذا هو الرأي الذي يتبناه في ما يتعلق بالإرداف الخلفي أو التناقض اللفظي بمعنى آخر.

أما المجال الثاني للبيرالية والطبيعة والمكانة اللذين يحكمان السيطرة التي تبديها في عهدنا المعاصر، إنما يتمحور حول طبيعتها التي تخلت عن الجانب السياسي. وإنني شخصيًا لأرى إنّ هذا الواقع إنما يعكس واحدًا من مجالات الليبرالية، ألا وهو حماية حيّز الخصوصية من التجاوزات السياسة (والتجاوزات الصادرة عن الأغلبية). لقد استطاعت الليبرالية أن تفوز (أجرؤ على الإدعاء) على اعتبار أنها إيديولوجيا، الإيديولوجيا  التي ترى في الإنجاز، قبل كل شيء، أنه يقوم في حيّز الخصوصية. وهنا أشير إلى ما ورد على لسان بنجامان كونستانت في محاضرته الشهيرة حول الحرية التي كان يمارسها الأقدمون وتلك التي يمارسها الحاضرون: «لا بدّ لحريتنا من أن تقوم على أساسٍ من اللذة المسالمة والاستقلالية الخصوصية» (كونستانت، 1988، ص. 316). إن الفكرة التي أودّ طرحها هي أنه في حين أنه ما من شكّ بأن هذا المجال ليس أبدًا الوجه الوحيد الذي يطبع الحرية الليبرالية، نجد هذه الحرية تتجلى بوضوح في الليبرالية على أنها إيديولوجيا معاصرة وسائدة. وفي هذا المجال، نلاحظ بأن أكثر الليبراليين تبصرًا، بمن في ذلك كونستانت بذاته إلى جانب توكفيل، كانوا على تمام الإدراك للأخطار المحتملة التي من الممكن أن تحملها «اللذة المسالمة والاستقلالية الخصوصية» في حال تمت المبالغة فيهما، من شأن هذه المسألة (للمفارقة) أن تقود إلى التقليل من شأن كلٍ من الحرية وتطوير الذات، إذا ما حصر الفرد نفسه داخل قوقعة الخصوصية وعض الطرف بعيدًا عن الانخراط المدني وإمكانية تطوير شخصه التي تقدّمها له هذه المشاركة. إلا أن سيادة الليبرالية الحديثة على اعتبار أنها إيديولوجيا قائمة بذاتها قد منحت الليبرالية الدفعة القوية إلى الأمام باتجاه السلوكيات التي من شأنها أن ترفع من قيمة حيّز الخصوصية، ولا سيما في ما يتعلق بالاستهلاك والمحفاظة على السلوك المنسلخ عن الحيّز العام للنشاط السياسي وحتى المتهكم عليه.

على ضوء هذا الإتصال، تبرز أمامنا ظاهرة وحيدة تأخذ في الوقت عينه دور المسببات والنتائج. وهنا بإمكاننا القول إنّ الإيديولوجيات هي في الوقت عينه عبارة عن بنىً فكرية وخليط من الأفكار والمفاهيم، إلى جانب كونها أيضًا عبارة عن قوى سياسية ممارستية، وهي بالتالي تكون قادرة على تحفيز الأحزاب السياسية وتضمن الأفكار التعبوية للأحزاب والحركات. ومن خلال النظر من منظور السياسة العملية داخل النظام الليبرالي الديمقراطي المعاصر نجد أنّ الطيفالإيدييولوجي قد خفُت. راحت الأحزاب التي تنافس من أجل الحصول على القوى السياسية تنجذب نحو سلسلة محدودة نوعًا ما من الأفكار في قلب طيف اليسار واليمين، وهو الأمر الذي يعزز سيطرة الليبرالية. إذا ما سلّمنا جدلاً بأن الليبرالية هي عبارة عن عقيدة الوسط، إلى جانب امتلاكها المقدرة الفذة على استيعابالإيديولوجيات الحساسة التي يمتاز بها إن اليسار أو اليمين على حدٍ سواء، فإننا نخلص إلى أنها، أي الليبرالية، تستفيد من النقلة نحو الوسط في المجال السياسي، وهو الذي يمارسه القادة السياسيون في معرض السعي إلى اجتذاب الدعم الإنتخابي. ولكن يبقى أن هذه المقدرة الاستيعابية التي تتحلى بها الليبرالية، والتي هي عبارة عن سلاسةٍ تسمح لها، وفقًا للشكل الذي تأخذه في يومنا الحالي، بأن تكون «كل شيء بالنسبة إلى كل الشعب»، هي التي تجعل منها المحور الإيديولوجي الأهم بالنسبة إلى الصراع السياسي المعاصر. إلا أن هذا لا يطرح التوافق مع الرؤية التي يتبناها غيدنز والقائلة بأننا أصلاً «تخطينا [مسألة] اليسار واليمين»، ولكن يبدو وكأن غيدنز على حق في بعض المجالات. لا مجال لإعتبار المذهب المحافظ التقليدي المزاحم الكبير داخل المجتمع الإنعكاسي بالتالي المعادي للتقليدية. وينطبق الأمر عينه على الاشتراكية الدولتية في الحقبة التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفياتي، وهي التي كانت قادرة على إفقاد ما يسميه غيدنز النموذج المعرفي للاشتراكية مصداقيته، وهو عبارة عن الاقتصاد المخطط الموجّه الذي يسيطر عليه «الدماغ» المركزي ذي القدرة المطلقة (غيدنز، 1994). وبالتالي ما الذي يبقى متوافرًا لدينا؟ بالنسبة إلى الألواح الإيديولوجية التي على أساسها تبني الأطراف في النظام الليبرالي الديمقراطي قاعدة جاذبيتها؟ يأتي الجواب عن هذا السؤال على شكل ضيغٍ مختلفة الأوجه عن الليبرالية في شكلها»الإيديولوجي» المموّه، والذي لا يفرض بالضرورة المكونات العقائدية الشديدة الصرامة على أنه يطرح حيزًا واسعًا من الاختيار أمام الأفراد، أو ما يبدو على أنه اختيار.

ما هي الحجة التي ظلت سائدة حتى الآن؟ نحن لا نعيش في مجتمع ما بعد الإيديولوجيا، ولكن في مجتمعٍ تسوده الإيديولوجيا  القائلة بالليبرالية، التي هي بدورها قد اتنشرت من خلال مجموعة متنوعة من القنوات القائمة على مبدأ شعبنتها. مع العلم أن هذا نموذج الليبرالية المسيطر قد حرم الليبرالية نفسها، ليس من مكانتها باعتبارها إيديولوجيا قائمة، إنما بالحريّ من منظورها النقدي الحازم. إذا ما أثبت غرامشي أصدقية قوله من حيث اعتبار أن الدور الذي تلعبه الإيديولوجيا  ما هو إلا شعبنة ًللفلسفات المعقدة، سنجد أنّ هذه النقطة قد جرى تأكيدها عن طريق الظرف الذي نمرّ فيه في الوقت الحاضر. لقد خسرت الليبرالية باعتبارها فلسفة ناقدة ولكنها انتصرت من حيث أنها «الحس العام» المعاصر. لقد أثبتت بأنها قادرة في جزء من أجزائها على القيام بهذه المهمة لأنها تمكنت من استعاب النقد الذي وجّهته الإيديولوجيات الأخرى التي كانت عرضة للتأثير التاريخي، حيث كانت في بعض الأحيان تنتهج منهج الديمقراطية الاجتماعية سعيًا إلى الحد من صرامة الليبرالية الكلاسيكية التي تعتقد بها مدرسة مانشستر. وبهذه الروحية نفسها، استطاعت تلك الإيديولوجيات الناقدة لليبرالية، على سبيل التيار المحافظ، دخول الحيّز الليبرالي من خلال التخلي عن التقاليد المُـمَـيّـزة التي تختص بها أو من خلال التقليل من حدّتها وكذلك من خلال القبول بــ»ليبرالية الحس العام» هذه، بشرط التركيز في السوق والمنافسة وحرية الفرد في الاختيار وحرية الشك نحو المجال العام. على أنني أرغب في الإشارة إلى أن هذا الإقبال نحو ليبرالية الحس العام هو نفسه ما يميّز غالبية الجوانب التي تطبع الديمقراطية الاجتماعية المعاصرة خصوصًا في تجلياتها التي تأتي عبر «الطريق الثالث». وبالتالي فإن الصورة التي أرغب في عرضها في ما يخص المشهد الإيديولوجي المعاصر ليست بالضرورة تلك الصورة التي تقدّم لمجتمع ما بعد الإيديولوجيا، إنما من باب أوْلى الصورة التي تطرح نفسها زورًا على هذا النحو. وما الليبرالية الديمقراطية المعاصرة إلا مجتمع إيديولوجي يطغى في زواياه وبشكل مباشر جدًا وجه محدّد من وجوه الليبرالية. ولقد قامت بعض الإيديولوجيات التي كانت تتسم في الماضي بدرجة أعلى من التعقيد بتكييف نفسها مع هذه الليبرالية المشعبنة التي استطاعت بدورها أن تطرح نفسها باعتبارها إيديولوجيا الحرية والاختيار والتنوع، والتي بالتالي استطاعت أن تجتذب إن لم نقل حماسة الجمهور فعلى الأقل القبول باعتبارها «الخيار الوحيد المطروح على الساحة». وهو الأمر الذي يقود في وقتٍ لاحق إلى ولادة سلسلة من النقاش الفكري والسياسي التي لا ترقى للمستوى المطلوب، والتي من الممكن أن تسعى بنفسها إلى تعزيز قدراتها. وبالنظر إلى أن مدى الإيديولوجيات السياسية المقترحة قد أصبح محدودًا، من شأن هذه الحالة أن تقلل من اهتمام السياسة والحياة العامة وجاذبيتهما وهذا بدوره قادر على تعزيز التركيز في «اللذة المسالمة والاستقلالية الخصوصية»، وفق ما يقول كونستانتت، وهو بالتحديد ما تسلط الإيديولوجية السائدة الضوء عليه.

وهنا لا بدّ من طرح السؤال التالي: ما هي الآثار المترتبة على هذا الأمر بالنسبة إلى «العمل مع الإيديولوجيا  في عصر ما بعد الإيديولوجيا؟» كنت أتمنى لو أنني كنت قد أظهرت أن مدلول العصر الما بعد إيديولوجي يُعتبر في حد ذاته مغالطة، وأن الإيديولوجيا  السائدة (أو الليبرالية المشعبنة) تعمل في أحد أجزائها من خلال السعي إلى تشويه سمعة كل الإيديولوجيات المنافسة لها على اعتبار أنها ليست سوى رؤى خطيرة لا تقود في نهاية المطاف إلا إلى الشكل الشمولي من السياسة. وبالتالي، إذا ما اعتبرنا أنّ المجتمع الحالي هو مجتمع لا يتحلى بخصائص الما بعد أيدولوجيا إلا في جوانبه السطحية، أو أن هذا ما يبدو لنا، فإن تركيزي في بقية هذا البحث سوف ينصبّ على ما يمكن القيام به من أجل أنعاش المشهد الإيديولوجي، ومن أجل استرجاع حيوية السياسة الإيديولوجية من دون اللجوء إلى مسلك الإيديولوجيات الجامدة أو الشمولية والذي يجري تطبيقها قسرًا أو فرضها على جميع جوانب الحياة. وحجتي في ذلك، باختصار، هي أن اللجوء إلى الإيديولوجيا  (وهو ما يُفترض تطبيقه، ولكن الواقع يختلف عن ذلك) في مجتمع ما بعد الإيديولوجيا  يتطلب وضع إيديولوجيا جديدة، أو بالحري إيديولوجيا مضادة، تهدف إلى تجنّب الخطرين. الخطر الأول الذي نتحدث عنه هو الخوف من أن تكون قيدًا صارمًا قادرًا على الحؤول دون السياسة الإبداعية من خلال فرض المخطط العقائدي والصيغ المبسطة بدلاً من الحثّ على التفكير المنفتح. أما الخطر الثاني فهو ضرورة الإختيار ما بين أمرين أحلاهما المر والذي أتينا للتو على ذكره، وهو ما يقوم على عدم امتلاك الرؤية أو الهدف العام أو المشروع الملهم، وما هو إلا الإرداف الخلفي المذكور أعلاه والمأخوذ عن بومان حول الإيديولوجيا  من دون مشروع. وكما أشرت في وقت سابق، إلى ما إذا كانت حجتي أثبتت أحقيتها فيكون هذا هو الموقف الذي وصلنا إليه في السياسة المعاصرة. وبالتالي فإن الفكرة التي أطرحها هي إرساء الحاجة إلى ضرورة قيام إيديولوجيا مضادة في معرض تجنّب كلي هذين الخطرين. على أنه من الممكن أن يترتب عن «العمل مع الإيديولوجيا  في عصر ما بعد الإيديولوجيا» إرساء أشكال جديدة من السياسة الإيديولوجية كما وتطويرها، وهذا ما أود أن أبيّن معالمه في ما يلي.

وفي هذا المجال يتسنى للباحث أن يستقي بعض الإشارات من غرامشي، وذلك باستخدام أفكاره نقطة انطلاق للبحث. مع العلم أن النقاش الذي لا يزال قائمًا بين غرامشي وكروتشي كان قد قدّم له غرامشي بذاته على اعتبار أنه صراع بين إيديولوجيتين اثنين، أو الرؤية الكونية والليبرالية والماركسية. من جانبه، يرى غرامشي في كروتشي على أنه أهم من يمثل الليبرالية، أي بمنزلة الداعية الأكثر تمرسًا في العالم المعاصر. ويرى غرامشي أنه على ساحة المعركة من أجل الهيمنة ثمة فرق بين «الجبهة الإيديولوجية» و «الجبهة» العسكرية، وهي المعركة التي يتوجب على المحارب فيها اختيار النقطة الأضعف لدى العدو للهجوم عليه، ولكن هذا الأمر لا ينطبق بالضرورة على الصراع الفكري. ففي هذا المجال ينبغي على المرء دائمًا أن يختار النقطة الأقوى التي تتميّز بها الإيديولوجيا  المناقضة باعتبارها نقطة انطلاق للنقد، إذ لن يكون الانتصار على الأفكار البسيطة ذا قيمة عالية، ويتلاشى في مهاترات صغيرة:

ولكن على الجبهة الإيديولوجية، لا يسعنا إلاّ القول إن هزيمة التابعين والمتطفلين هي ذات أهمية لا تكاد تذكر. وهنا لا بد من الدخول في معركة مع أبرز رموز الخصم، وإلا فإن الواحد منا قد يخلط ما بين الصحف والكتب، وما بين الجدل اليومي التافه والعمل العلمي. وبالتالي لا بدّ من تجاهل الأشخاص الأدنى لمصلحة الجدل الصحفي الذي لا نهاية له (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1423، وبريزون نوتبوك، ص. 433).

وانطلاقًا من هنا لا بدّ للمعركة ضد الليبرالية من التركيز، في رأي غرامشي، على المدافع الأكثر إقدامًا، وهو ما تجلى له في صورة كروتشي. بالنسبة إلى غرامشي كانت الليبرالية عبارة عن الإيديولوجيا  السائدة، التي استطاعت أن تدخل حيّز الوعي الشعبي باعتبارها «دين الحرية». وتمامًا كما حدث مع تقبّل العامة للإصلاح الذي كان يتعارض مع عصر النهضة باعتباره مركز الأوساط الفكرية، بحسب ما يوصفه ايراسموس، كذلك جرى مع الماركسية أو «فلسفة البراكسيس أو التطبيق العملي»، حيث برزت في الوقت المعاصر على اعتبار أنها الحركة التي تحدت الليبرالية وقدّمت البديل الكامل عنها.

يبدو أن ثمة نقطتين تتحليان بالأهمية المعاصرة التي يمكن استخلاصها من الصورة التي يستعرضها غرامشي حول الصراع الإيديولوجي بين الليبرالية والماركسية. أولاً، إن ما يقوله عن الليبرالية باعتبارها إيديولوجيا يبدو بالنسبة إليّ على أنه صالح التطبيق على أيامنا هذه. إذ يقول إنّ الحزب الليبرالي (في إيطاليا) قدّ عمد إلى تحويل الليبرالية من كونها فلسفة تأملية ونظرية إلى إيديولوجيا سياسية فورية وعملية؛ واصفًا إياها بكونها «أداة عملية للهيمنة والسيطرة الاجتماعية». وفي ما يلي تظهر كلمات غرامشي الحرفية من النص الأصلي، ففي معرض الحديث عن الليبرالية في إيطاليا، يبدأ غرامشي بالإشارة إلى جاذبيتها الواسعة، ومن ثم ينتقل إلى موضوع تطبيقها المحدّد وقبل كل شيء العلمي:

إن قبول مصطلح «الليبرالية» في إيطاليا، على سبيل المثال، في خلال هذه الفترة كان واسع النطاق واستطاع الوصول إلى مدىً بعيدٍ. في كتاب بيترو فيغو حوليات إيطاليا يظهر الليبراليون على اعتبار أنهم جميع الذين لا ينتمون إلى طبقة رجال الدين وجميع المعارضين للفئة التي تؤمن بالعصمة البابوية، وبالتالي تكون الليبرالية قد اشتملت حتى على المجتمع الدولي. ومع ذلك فقد تشكّل تيارًا وحزبًا أطلق على نفسه بالتحديد اسم الليبرالي. لقد استطاع هذا الحزب أن يُوجد سريعًا إيديولوجيا سياسية مباشرة مستمدة من موقف المضاربي والتأملي الذي تتسم به الفلسفة الهيغلية. لقد شكّلت هذه الإيديولوجيا  أداةً عمليةً للهيمنة والسيطرة الاجتماعية، وهما الوسيلتان اللتين من خلالهما يمكن الحفاظ على المؤسسات السياسية والاقتصادية الخاصة التي أُسِّست أصلاً في أثناء الثورة الفرنسية ومع انتشار هذه الثورة الفرنسية في جميع أنحاء أوروبا. (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1230).

يشير هذا الأمر إلى أن الإيديولوجيا، وفي هذه الحالة تحديداً الإيديولوجيا  الليبرالية، ما هي إلا عبارة عن مجموعة عملية أساسية من الأفكار التي ترتبط ببعض المؤسسات والممارسات المحددة المعالم. إن ما يدعوه غرامشي «إيديولوجيا سياسية مباشرة» هو كناية عن شيء ما من الممكن أن يتجلى أو أن ندركه من خلال هياكليات محددة جدًا تمتاز بها السلطة. وعلى ما يبدو فإنه يقترح أنّ  الليبرالية ما كانت مجرد فلسفة عامة، فــــ»دين الحرية» هذا قد وجد خير تعبيرٍ عنه في المؤسسات الاقتصادية والسياسية.

ومن هنا، نستخلص مما يراه غرامشي، استحالة استمرار المحافظة على التمييز الذي حاول كروتشي الدفاع عنه بين «الفلسفة» و«الإيديولوجيا». ويرى غرامشي في هذا المجال أن هذا التمييز يأتي من حيث الدرجة وحسب، وليس تمييزًا بين فئتين منفصلتين. يبدو أن غرامشي يميل إلى الاعتقاد بأن الإيديولوجيا  ليست سوى  نوعًا من تطبيق الفلسفات الواسعة التي تُعنى بالحياة (الفلسفة) على المشاكل العملية الملموسة. اسمحوا لي أن أقتبس كلامه مرة أخرى:

إن الفلسفة هي عبارة عن تصور العالم الذي يمثل الحياة الفكرية والأخلاقية (تنفيس الحياة العملية المحددة) من جانب فئة اجتماعية كاملة من المفترض أنها في حركة دائمة، وبالتالي لا يُنظر إليها في إطار مصالحها الحالية والمباشرة وحسب، إنما في إطار مستقبلها وانعكاس إهتماماتها. من جهة أخرى فإن الإيديولوجيا  هي عبارة عن أي مفهوم خاص تتبعه المجموعات ضمن تلك الفئة التي يمكن أن تساعد على حل المشاكل العاجلة والمحددة. (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1231).

وعليه، أميل إلى القول إنّ هذا التصنيف يتناسب مع عصرنا الحالي لأنه يشير إلى أن السيطرة الإيديولوجية تظهر عند معالجة المشاكل الفورية والعملية من خلال المؤسسات الخاصة التي تعبّر في إطارٍ رحبٍ عن فلسفة واسعة تُعنى بالحياة والسياسة، ربما بطريقة ضمنية. في محاولة لجعل هذا المثال أكثر واقعية ولتحقيق هذه المحاولة، نشير إلى أنه عندما تكون جميع جوانب المجتمع المعاصر، وليس أقلها الجامعات، تعمل في مجال السوق أو النماذج المستوحاة من مجال الأعمال، فإذًا تصبح الليبرالية (في شكلها المعاصر) الطريقة التي من خلالها يتوجب معالجة بعض المشاكل العملية جدًا والفورية. عندما يجري تطبيق مدلولات الانتاج القابلة للقياس على جميع المؤسسات ومجالات المجتمع، فإن فكرة علاقات السوق تتبلور من خلال كل مكونات المجتمع. وانطلاقًا من هذه الفكرة نجد أنّ الليبرالية المستوحاة من السوق تنظم، بطرائق ملموسة وفورية جدًا، العلاقات العملية التي تجمع الناس بين بعضهم  في المجتمع. وفي هذا المعنى تحافظ الليبرالية على سيطرتها، على الرغم من أنها الليبرالية التي من شأنها أن تنذر الليبراليين من أمثال ميل ودي توكفيل، ناهيك عن «الليبراليين الجدد» الذين ظهروا في وقت لاحق على سبيل غرين وهوبهاوس. وبالتالي، فإن الإيديولوجيا، إذا جاز التعبير هي عبارة عن التطبيق العملي للفلسفة الواسعة التي تُعنى بالحياة، على أن هذه الأخيرة تصبح المهيمنة والسائدة من خلال الإيديولوجيا . نحن جميعًا مثل السيد جوردان في نظر الليبرالية، إذ ننطق بالليبرالية مثلما نطق هو بالنثر، من دون أن ندرك أنّنا بفعل ذلك.

أما الجانب الثاني من الأفكار التي جاء غرامشي بها التي تبقى ذات الصلة بعصرنا الحالي فهو فكرته حول الصراع الإيديولوجي، أو المعارضة بمعنى آخر. فلا شك في أن أمله يبقى في أن تتمكن الماركسية أو «فلسفة التطبيق العملي» من الحلول محل الليبرالية باعتبارها الفلسفة أوالإيديولوجيا  السائدة. لقد سعى غرامشي إلى تطوير شكل من أشكال الماركسية التي من شأنها أن تقود إلى إيجاد «ثقافة متكاملة جديدة»، بحيث يقول غرامشي، إنّه يتوجب عليها أن تُنمي الطابع الشامل للإصلاح البروتستانتي إلى جانب تنمية الحركة التنويرية الفرنسية من دون أن ننسى الكلاسيكية التي طبعت الثقافة اليونانية وعصر النهضة: «تلك ثقافة، بالاستناد إلى مقولة كاردوتشي، تقدر على التوليف ما بين ماكسيميليان روبسبيير وإيمانويل كانط، أي السياسة والفلسفة في إطار وحدة جدلية خاصة بفئة اجتماعية محددة على أنها ليست مجرد فرنسية أو ألمانية، وإنما أوروبية وعالمية». (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1233). سوف يجد إرث الفلسفة الكلاسيكية الألمانية نفسه جزءًا مؤثرًا في الحياة، أو كما يقول المصطلح الإيطالي «فيتا أوبيرانتي». لقد كانت الماركسية بمنزلة «البدعة» الليبرالية، نظرًا إلى أن كليهما قد انبثق من أرض الحضارة الحديثة نفسها. (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1238). وأرغب هنا في الإشارة إلى أنّ ثمة معنىً واحدًا من الممكن الربط ما بينه وبين هذه الفكرة ومعنىً آخرَ غير قابل للربط. النقطة التي أودّ إظهارها هي أن ثمة حاجة للطعن الإيديولوجي، الأمر الذي لم يتحقق في ظل ظروف السياسة المعاصرة، حيث عمدت الليبرالية إلى محاصرة السوق الإيديولوجية. وبالتالي ثمة حتمًا حاجة لثقافة متكاملة جديدة، تقوم على ما أسميه إيديولوجيا الطعن. وهل من الممكن أن تتخذ هذه الثقافة الشكل الذي يتوخاه غرامشي؟ بالنسبة إليه جاءت الليبرالية والماركسية على حد سواء بمنزلة إيديولوجيَينْ حداثويتين بامتياز، وعلى ضفة النقيض من «دين المنهج» الذي ينفي بشكل أساسي الحضارة الحديثة. أما الماركسية فيمكنها تقديم البديل المتماسك والشامل عن الليبرالية. رأى غرامشي في الماركسية أنها كانت مماثلة لـ«الإصلاح» في مقابل «النهضة» التي يمكن الموازة بينها وبين الليبرالية في العصر الحديث. في الجوهر، اقتصر عصر النهضة والليبرالية على بعض الجماعات المحصورة. على النقيض من ذلك، فقد انتقل الإصلاح إلى تعبئة الجماهير الشعبية، كما كانت الماركسية تفعل به في العصر الحديث:

كان كروتشي قد فشل في فهم أن فلسفة التطبيق العملي، بما تكتنف من حركة جماهيرية عظمى قد مثّلت ولا تزال تمثّل العملية التاريخية المماثلة للاصلاح، على ضفة النقيض من الليبرالية، التي تستنسخ النهضة المحصورة بشكل خاص بالجماعات الفكرية الصغيرة. (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، ص. 1293).

هل لا تزال آمال غرامشي تجد لنفسها موطئ قدم في عصرنا الحالي؟ وإذا كان الأمر كذلك كيف يمكن أن تتحقق؟ لقد استطاعت السنون التي مرّت منذ أن خطّ غرامشي هذه الكلمات بطريقة أو بأخرى أن تؤكّد على سدادها، في النواحي التالية. أما في ما يتعلق بالسؤال حول أنّ لنا أن نعمل مع الإيديولوجيا  في عصر ما بعد الإيديولوجيا، فإن حجتي في ذلك هي أن ثمة حاجة إلى إيديولوجيا مضادة جديدة من أجل تنشيط السياسة. أنتهز الفرصة للإشارة إلى أن السياسة المعاصرة في السياسة الليبرالية الديمقراطية تمتاز من خلال الحقيقة القائلة بأن الإيديولوجيا  تبدو ميتة، بينما على أرض الواقع لا تزال أقوى الإيديولوجيات في طور العمل؛ ألا وهي إيديولوجيا ما أؤثر تسميه «الليبرالية الفعلية الموجودة»، التي بدورها انبثقت من مفهوم «الاشتراكية الفعلية الموجودة». على أن باهرو وغيره من المنظرين قد عمدوا سابقًا إلى استخدام هذ الأخيرة، في أيام الأنظمة المشابهة للنظام السوفيتي، على النقيض من التشكيلات الاجتماعية والسياسية التي كانت تستند إلى الماركسية ولكنها ظلت في جوهرها تختلف بشكل كبير عن المثل العليا للماركسية الكلاسيكية. وعلى هذا المنوال، أرى أنّ «الليبرالية الفعلية الموجودة» تشير إلى إيديولوجيا المجتمعات الليبرالية الديمقراطية المعاصرة السائدة. بالتالي يمكن القول بأن مجتمع ما بعد الإيديولوجيا  ليس بعد الإيديولوجيا  في شيء، بل هو يخضع لسيادة نموذج الليبرالية  الــمُــشَـعْــبَن. وكما أشار إرنست غلنر، في إحدى المرات ساخرًا؛ «لقد امتطت الحرية ظهر الانتصار بالصعود على أكتاف النزعة الاستهلاكية»، وقد كان يصرّ على هذه النزعة جوزيف دي ميستر على أنه كان آلة الغسيل بدلا من الجلاد الذي كان أساس النظام الاجتماعي، على الأقل بالنسبة إلى لحظة (غلنر، 1995). وعليه يمكن القول إنّ العمل مع الإيديولوجيا  في هذا المجتمع الذي من المفترض به أن يكون ما بعد الإيديولوجيا  قد ينطوي أو ينبغي أن يشتمل لا الاستسلام لهذا الإجماع المبتذل، ولكن على السعي إلى إرساء قواعد الإيديولوجيا  المضادة التي من شأنها أن تعيد إلى الحياة السياسية إمكانية إيجاد البدائل الممكنة ورؤية المجتمع الذي يمكن له أن يطوّر إمكانات الناس بطرائق أكثر عمقًا من تلك التي أرسيت في ظل  الترتيب الحالي للأمور.

يقدّم لنا غرامشي بعض المؤشرات التي تدّل على هذه الإيديولوجيا  المضادة، وإذا ما عمدنا إلى أسلوبه في الموازاة الذي يسعى من ورائه إلى مقارنة الليبرالية (كما هو مثبت مع كروتشي) مع عصر النهضة وإلى مقارنة الماركسية مع النهج الاصلاحي، فيسهل علينا إذّاك أن نرى ما هي المعايير التي يطرحها الواقع حول الإيديولوجيا  المضادة القادرة على الاستمرار. في رأيه، ما كانت الساحة بحاجة إليه ما هو إلا المقابل المعاصر الذي من الممكن طرحه مقابل «الإصلاح الفكري والأخلاقي» الذي خرج به رينان، على أنه في إمكان الماركسية، أو فلسفة التطبيق العملي، أن تلبي هذه الحاجة، إذ إنه لا يمكن إنكار أن كل من النهج الإصلاحي والماركسية قد جاءا بمنزلة الحركتين الشعبيتين: إذ تمكنتا من جذب انتباه الطبقات الواسعة من السكان، في مقابل المجموعات الفكرية والنخبوية البحتة التي استطاع كل من عصر النهضة وليبرالية كروتشي أن يجتذباهما. وفي هذا المجال يتجلى أمامنا أحد التناقضات في ما يتعلق بموضوع الليبرالية. إذ سبق لنا أن رأينا، أن غرامشي يلحظ أنّ الليبرالية قد أصبحت ذات نزعة سيطرية من خلال تبني الشكل «الإيديولوجي» الشعبي ذي الصلة بحل مشاكل الحياة اليومية بصورة عملية، وبهذا المعنى فقد استطاعت التمدد لتتجاوز الدائرة الضيقة من المثقفين. ولكن في خضم الخلاف الذي يربطه بكروتشي، يبدو كأنه يعتبر هذا الأخير أنه ايراسموس المعاصر؛ فكل منهما كان مثقفًا وممن وضعوا الرؤى الكونية التي بدورها توجد تمايزًا  بين الأفكار والنشاط العلمي الذي يقتصر على الأدباء (الفلسفة) من جهة والسياسة الأولية ( الإيديولوجيا ) التي تتناسب مع العوام أو الجماهير من جهة أخرى. وانطلاقًا من فهمي للموضوع فأن غرامشي يرفض هذا التمييز، إذ إنه هو من يرى أنّ النهج الإصلاحي والماركسية، على الرغم من جميع خلافاتهما، يبقيان عرضة للمقارنة في هذا الصدد، إذ إنهما جاءا بمثابة حركتي تغيير وتحول في محاولة لإلهام الطبقات الأوسع من الناس كما وفي سعيٍ لبلوغ الإصلاح الفكري والأخلاقي من خلال التحول الشعبي والتعليم، بدلاً من الإبقاء على الهوة التي لا يمكن القفز فوقها بين «أولئك الذين يعرفون» من جهة و«أولئك الذين لا يعرفون» من جهة أخرى. في حين أن كروتشي كان يرى أنه من المستحيل “che il volgo cessi di esser volgo” أي أن يخلع أحد أفراد العامة هذا الطابع العمومي عنه، وهذا ما شكّل لدى غرامشي تحديداً الهدف من وراء التطبيق العملي السياسي التحوّلي: «يحاول غرامشي أن يصوغ مدلولاً سياسيًا على أن يكون في الوقت نفسه نتاجًا وناقلاً للتطبيق العملي التحولي والابتكاري» (فونتانا، 1993، ص. 72).

وبالتالي فإن غرامشي يرى أنّ النهج الإصلاحي ونهج الماركسية، باعتبارهما وصفًا تعبيرًا عن الإصلاح الأخلاقي والفكري، قد جاءا بمثابة الحركتين الشعبيتين، اللتين تشتملان على «العوام»، وتسعيان إلى تثقيفهم، عوضًا عن استبعادهم. وفي هذا الصدد يبدو وكأن مكيافيلي قد أخذ الدور الحاسم باعتبار أنه الفيلسوف الديمقراطي الذي يريد أن يحوّل الــ»moltitudine» أي القوم إلى “popolo” أي الشعب، في إطار الموضوع الجديد الذي تدور السياسة في فلكه، سعيًا إلى تحويل الـ”moltitudine sciolta” أي القوم المشتت إلى “popolo” أي الشعب. وعليه فإنني أقترح أنّه في إمكان الواحد منا أن يستخلص من هذه الصورة التي يرسمها فكر غرامشي عددًا من المعايير اللازمة من أجل بناء الإيديولوجيا  المضادة الفاعلة في عصرنا هذا. لا بدّ لهذه الإيديولوجيا  من أن تكون شعبية، بمعنى أنها تلقى الترحيب في أوساط طبقات واسعة من السكان. وبالنظر إلى أن «العالم الحديث ـ الذي استطاع مكيافيلي من خلال فكره أن يتوقع حلوله والذي من الممكن الدلالة على ولادته تاريخيًا مع الثورتين الأميركية والفرنسية ـ يتميز بظهور الجماهير الشعبية وتطورها على اعتبارها قوة اجتماعية سياسية من جهة أولى وقوة اجتماعية ثقافية من جهة ثانية» (فونتانا، 1993، ص. 8)، فإنّ أيّ إيديولوجيا فاعلة لا بدّ لها من أن تكون إيديولوجيا جماهيرية. والواقع يقول إنّ هذه هي بالضبط طبيعة الإيديولوجيا  والغرض من ورائها بما تتعارض مع الفلسفة، من أجل أن تصبح قوة تعبوية للجماهير وأن تجتذب الطبقات الواسعة من السكان. علاوة على ذلك، أنّه لا بدّ لها من إشراك فكرة الموضوع أو العامل، لجعل الرؤى والنظريات التي تقوم عليها الفلسفة الموجودة في صميم أيّ إيديولوجيا عملية. أضف إلى ذلك، لا بدّ لها من أن تكون على صلة بالظروف المعاصرة بحيث إنّ إيديولوجيات الإصلاح الأخلاقي والفكري يجب أن لا تسعى إلى إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء أو العودة إلى العصور الغابرة، إنما يجب أن تمتلك توجهًا يتطلع إلى الأمام. ومن وجهة نظر غرامشي فإن الماركسية كانت بمثابة استمرار لليبرالية أو التفوق عليها لا مجرد دحضها وحسب، إذ إن كليهما قد وُلِد من رحم المجتمع الحديث. ولقد جاء كلاهما بمثابة الإيديولوجيا  الحديثة، بخلاف عقيدة «المنهج» (العصمة البابوية) التي أرادت التخلي عن العصر الحديث ومكتسباته. وفي الختام، وفي ما يتعلق بالشرط الذي لا بدّ منه من أجل اكتساب طابع القوة الشعبية أو الديمقراطية، لا بدّ للإيديولوجيا الفاعلة من أن تمتلك بعضًا من العنصر العاطفي أو الوجداني، وهو ما بمقدوره أن يساعد في أداء المهمة التي ينبغي لأيّ إيديولوجيا أن تؤديها ألا وهي تعبئة أو إلهام «عملاء» الديمقراطية أو دائرة أنصارها. وهنا لا بدّ من الاعتراف بأن مفهوم غرامشي حول الوطني – الشعبي يُثبت صلته بالموضوع: إذ إنه يرى أنه لا ينبغي لفلسفة التطبيق العملي (الماركسية) أن تدير ظهرها للأمة وللثقافة الشعبية للأمة. وفي المعنى «الشعبوي» لا بدّ لها من «التوجه إلى الناس»، وهو ما يعني أن ترتقي بالتقاليد الوطنية والشعبية من أجل تشكيل وعي جديد. وبالتالي فإن غرامشي يرى في الماركسية يمكنها أن تستجيب لهذه المعايير لكونها الإيديولوجيا  المضادة الجديدة، أي إنها بمثابة المقابل للنهج الإصلاحي في العصر الحديث في أولى سنواته. لقد كانت الماركسية ديمقراطية وشعبية لجهة السعي إلى جذب أكبر شريحة ممكنة من السكان، وكانت حداثوية ووطنية شعبية لجهة أنها حاولت أن تلهم الناس من خلال الرموز والمشاعر المتجذرة أصلاً في الثقافة الشعبية والتقاليد الوطنية.

أما مهمتي الأخيرة فتقتضي تقويم سداد هذه الأفكار وصوابيتها على أرض الواقع المعاصر، لجهة تشكيل الإيديولوجيا  المضادة في مواجهة ليبرالية السوق المــُــشعبنة التي بات بالإمكان اعتبارها الإيديولوجيا  السائدة اليوم. في حين أن الحاجة لمثل هذه الإيديولوجيا  المضادة باتت ملحة، فإن صعوبة تجسيدها لا تزال كبيرة، وذلك لعدد من الأسباب، بعضها  مرتبط بوضع الماركسية في أيامنا المعاصرة. أما في ضوء الخبرة المستقاة من القرن العشرين، لقد أصبحت الإيديولوجيا  بمثابة الكلمة القذرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الماركسية؛ فقد أصبحت كل من الإيديولوجيا  والماركسية، وكل ما يجعل هاتين العقيدتين مرتبطتين بالمحاولات السريعة، والكاملة وغير الديمقراطية في التحول الاجتماعي والسياسي، وقد بلغت ذروتها في الأنظمة التي تفرض الإيديولوجيا  الشعاراتية الخام. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم موضوع أو عامل التغيير بات على حد سواء أكثر إثارة للشبهات وأكثر صعوبة في التحقق في إطار المجتمع المجزأ والمخصخص (وهو نفسه ما يأخذ طابع سبب انتصار الإيديولوجيا  الليبرالية الجديدة ونتيجته). وأخيرًا، على قائمة الصعوبات هذه، نجد أنه قد اندرج مفهوم الوطنية ـ الشعبية بما يطرحه من إشكالية، ولا سيما في بلد مثل بريطانيا، ربما، حيث العديد من التقاليد الوطنية تنطوي على الدلالات التي تفوح منها رائحة الماضي الإمبريالي، عوضًا عن رائحة المستقبل الديمقراطي والدولي (راجع كومار 2003، ولكن أيضًا أوغي  2001 للإطلاع على التقديرات المتباهية حول أهمية الهوية الوطنية البريطانية).

ومن وجهة نظري فإنني لا أجد أن كل ما سبق يقدّم الحجج الكافية للتخلي عن مهمة إيجاد الإيديولوجيا  المضادة، لا بل إنها تحثّ على المضي قدمًا بهذه الخطوة إنما من دون أن يغيب عن بالنا أبدًا مسألة الصعوبات التي تحدق بهذه المهمة والتي ستواجهنا في الطريق. وعليه فإن الحجة التي أطرحها في هذا المجال إنما تأخذ موقفًا مغايرًا للموقف الذي تبناه رورتي، الذي بدوره يرى فرقًا بين «الحركات» و»الحملات»، فالأولى، والتي يراها رورتي إنما تتجسد في المسيحية والعدمية والماركسية (إن اختياره لهذه الأمثلة بحدّ ذاته مثير للاهتمام) تهدف إلى مشروعٍ يقوم بمُجمله على التحوّل، وعلى الرغم من أنه بالإمكان اعتبار هذه الأمثلة على أنها إيديولوجيات قائمة بذاتها فإن رورتي لا يستخدم هذه الكلمة بحرفيتها. إذ إنه يقوم بالتفريق ما بين مشاريع التحوّل هذه أو «الحركات» من جهة و»الحملات» من جهة أخرى، التي بدورها محدودة ومُــحَدّدَة ومُـــحَـــدّة، على أنها تُعنى بمجالات معينة من انعدام العدل والضيم وهي المسائل التي تسعى إلى إيجاد الحلول لها (رورتي 1995). ومن هذا المنظار، فإن المقتضيات التي تفرض الحاجة إلى قيام عصر ما بعد الإيديولوجيا  إنما تصبّ تركيزها في «الحملات» وترفض قطعًا كل دعوة تنادي بــ»الحركات». مع العلم أن هذه الحركات تكتنف مخاطر التضحية بالوقت الحاضر لحساب الهدف غير الواضح المعالم الذي يسعى إلى مستقبل التحوّل الاجتماعي التام.

ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن الجدلية التي تطرحها ورقة البحث هذه إنما تقترح بدورها طريقة أخرى للمضي بها، فأنا أطرح أن العمل مع الإيديولوجيا  في عصر ما بعد الإيديولوجيا  يعني أنّنا نسعى إلى إيجاد العوامل الإلهامية والتشجيعية التي تجذبنا نحوالإيديولوجيا  من دون الوقوع في خطر المبالغة والهشاشة التي كانت قد طرحتها بعض أشكال السياسة الإيديولوجية في السابق. هل من الممكن تحقيق ذلك؟ من وجهة نظري، أرى أنّ ذلك ممكن التحقق، وفي ما يلي أستعرض محاولاً رسم معالم إطار عمل الإيديولوجيا  المضادة، متبعًا بذلك بعض المعايير التي أستقيها من المناقشات التي أجريناها آنفًا حول نظريات غرامشي. تجدني أفترض فكرة استحداث إيديولوجيا جديدة على أن تكون محددة من خلال المباحث التالية، التي هي بصورة أو بأخرى عبارة عن إعادة صياغة أو تطوير للإيديولوجيات التقدمية التي كانت سائدة في الماضي. على أن أول هذه المباحث هو مبحث تطوير الذات، السائد لدى كل من الليبرالية والماركسية. وتجدنا نلاحظ أنّ الإيديولوجيا  السائدة في مجتمعنا المعاصر تحتفظ لنفسها برؤية خاصة حول الحرية على اعتبار أنها حرية الإختيار؛ وفعلاً، فإن أحد الكتب الشهيرة التي أصدرها م. فريدمان إنما تحمل هذا العنوان، حرية الاختيار، (فريدمان، 1980). وبالعودة، استطاعت كلٌّ من الليبرالية والماركسية (وهنا أظن بأن هذه النقطة تشكّل نقطة التقاء بينهما) أن ترسم رؤية حول الحرية تتسم بالمزيد من التطوّر، على اعتبار أنها حرية تطوير إمكانيات الإنسان. قد أرغب في الخوض في مسألة أنه في إطار كِلا المنظورين فإن هذه المقدرة على تطوير الذات ليست مرتبطة بعلاقات السوق، على أنه لا شكّ بأن علاقات السوق بما يكتنفها  من منظور أداتي إنما تعتبر في أحسن الأحوال وإن كانت ضرورية إنما تبقى تابعة، أما في أسوأ الأحوال فهي تُعتبر ذات ضرر على تطوير إمكانيات الإنسان. وفي حالة الماركسية قد لا تتطلب هذه الفكرة المزيد من التبرير والشرح، في حين أنه في ما يخص الليبرالية يتوجب على الباحث أن يلجأ إلى الاستعانة بالشهادات المستخلصة ممن انضموا إلى «الليبرالية الجديدة» أمثال هوبهاوس، وكذلك المستقاة من الليبراليين الأكثر كلاسيكية أو من ليبراليي منتصف القرن الماضي أمثال ج. س. ميل ودو توكفيل. على أن هؤلاء يخشون من أن إنشاء المجتمع القائم على السوق الذي يستند بدوره على الأفراد الذين يتبع كل واحد منهم مصالحه الخاصة قد يقود إلى خفض المستوى الثقافي للمجتمع بأكمله ومن غير الممكن أن يُفضي إلى تطوير الذات. وهنا نأتي على أحد المخاوف المتشائمة التي يطرحها دو توكفيل والقائل إنه  في المجتمع الجماهيري الديمقراطي «من الممكن أن يدأب الفكر على غلق نفسه داخل حيّز ضيّق من دون أن يسعى إلى استخراج الأفكار الجديدة، وعليه سيجد الناس أنفسهم محاطين بالبداهة والوحدة والنشاط عديم الجدوى، كما لن تسعى البشرية إلى استغلال أيٍّ من اضطراباتها الدائمة» (دو توكفيل، 1968، ص. 836). لذلك، فإنني أزعم، بأنه لا بدّ للإيديولوجيا المضادة من أن تعتمد على فلسفات تطوير الذات التي تتمحور حول قدرة الإنسان على تطوير قدراته بطرائق اجتماعية وطرائق الانخراط في المجتمع. وفي بعض النواحي قد نجد أنّ مجال السوق قد بات حتميًا وضروريًا للعلاقات الاقتصادية القائمة على التبادل والتوزيع، ولكن لا يمكن أن يكون كافيًا للموضوع الرئيسي الذي يقوم عليه مبدأ تطوير الذات. وبالتالي  لا بدّ لما أسميه بالإيديولوجيا  المضادة الجديدة من الحفاظ على السوق في مكانه، إذ يجب عدم تحويل علاقات السوق إلى نموذج، كما هي الحال الآن، ينطبق على جميع العلاقات في أماكن العمل، وعلى نحو متزايد في ما يسمى المجال الخاص. كما نجد هذه الفكرة القائمة على فكرة احتواء السوق، ولكن لا على قمعه، متجذرة في النص الذي كتبه  غورز تحت عنوان الرأسمالية والاشتراكية والبيئة، حيث تراه يشير إلى أشكال من التآلف الاجتماعي خارج مكان العمل والتي تتخطى حدود منطق السوق والعقلانية الرأسمالية (غورز، 1994). يعتبر هذا النوع من وجهات النظر والذي يتمحور حول تطوير الذات الأساس الذي لا غنى عنه للإيديولوجيا المضادة التي تتناسب مع السياسة في وقتنا الحاضر، والقادرة على الاعتماد على موارد كل من الليبرالية والماركسية.

ماذا إذًا عن النواحي الشعبية، وربما العاطفية، للأصداء التي تلقاها الإيديولوجيا  المضادة؟ إذا كان من الممكن التاثير على أعمال الإيديولوجيات وتعبئتها، كيف السبيل للقيام بذلك؟ لقد شهد القرن العشرون على أمثلة عديدة جدّاً على التعبئة الجماهيرية التي حصلت باسم القومية المتفاقمة، وهي قومية الحقد والخوف والكراهية وانعدام الثقة بالآخر ـ سواء كان هذا «الآخر» يهوديّاً أو مهاجرًا، أو أحد الذين يُلصق بهم وصف الانحراف بطريقة أو بأخرى. ومن هنا تنطلق صعوبات العمل في إطار مفهوم «الوطنية الشعبية»، التي شكّلت، كما سبق لنا أن رأينا، واحدة من الأفكار الواردة في الأدوات الفكرية الواردة عن غرامشي، إذ عمد هذا الأخير إلى تحليل عصر النهضة الإيطالية بحيث وجّه النقد لـ»حزب العمل» الإيطالي باعتبار أنه لم ينجح في الارتقاء إلى مستوى نموذج اليعاقبة الفرنسيين. فقد نجح هؤلاء، أي اليعاقبة، في تعبئة الفلاحين في إطار حركة ثورية حقّة، بينما على ضفة النقيض من ذلك كان الـ”Partito d’Azione” أي حزب العمل الإيطالي يخشى الإقدام على الخطوة نفسها. وبالتالي فإنه ظل تابعًا لفريق المعتدلين، أولئك من أمثال كافور الذين شكلوا الحركة الوطنية انطلاقًا من الطبقات الأعلى نزولاً إلى الطبقات الأسفل. وانطلاقًا من هنا يبرز توصيف غرامشي لعصر النهضة الإيطالية على اعتبار أنها «الثورة السلبية» التي كان لها العواقب الوخيمة على الدولة الإيطالية الناشئة (غرامشي، كوادرني ديل كارتشيري، (ص. 2010، وبريزون نوتبوك، ص. 59).

أما إذا ما أردنا للإيديولوجيا أن تكون شعبية، فلا شيء أفضل لنا من مزيج القومية. ومن هنا يبرز، كما قد يحاجج بعضهم، الواقع الذي نجده يربط مجموعة كاملة من إيديولوجيات الماضي (الليبرالية والاشتراكية والماركسية والفاشية والشيوعية) مع القومية من أجل منح ذاك الفريق الأول مزيدًا من قوة الجذب. وهو الأمر الذي يؤدي بدوره ببعض المعلقين إلى النظر إلى القومية كما لو أنها كانت في حد ذاتها «إيديولوجيا هشة» وهو ما يتطلب «مركباً مضيفاً» أقوى حالاً من أجل أن يُثبت فاعليته من الناحية السياسية (فريدين، 1998)، على أن هذه الفكرة جاءت نتيجة للمقولة التي أعلنها ماركس في «ثورة 18 برومير بقيادة لويس بونابرت» ومن ثم التكيّف معها، إذ يقول ماركس: «لا يمكن للثورة الاجتماعية في القرن التاسع عشر إلا أن تبني وجدانياتها على المستقبل، وليس على الماضي» (ماركس، 1973، ص. 149)، وهنا أود أن أطرح أنّه من الممكن أن يكون مفهوم الوطنية ـ الشعبية قد أصبح قديمًا ولم يعد يساعد كثيرًا في صوغ إيديولوجيا السياسة التقدمية التي تتناسب مع عصرنا الحالي. مما لا شك فيه هو إمكانية فصل القومية عن الدلالات العرقية الخالصة عن طريق التركيز في الإيديولوجيا  بشكلها المدني. كما من الممكن أن تصبح مثل هذه القومية المدنية مستساغة لدى جميع الذين يعيشون على أراضي الوطن الواحد، بصرف النظر عن الأصل العرقي أو الهوية الثقافية أو الدينية أو المعتقد، أضف أنها قد تجد لنفسها العنصر العاطفي في رموز الوحدة المدنية والحقوق السياسية المشتركة. وهنا أقول إنّ هذا الشكل من أشكال القومية لا يزال مناسبًا في ظل الظروف السياسة المعاصرة، ولكنني أزعم أنه لا يمكنها حمل عبء الإيديولوجيا  الشاملة والشعبية، كاملاً والتي يجب أن تتبنى الشعارات المغايرة.

وفي هذا المجال نرى أنّ الإيديولوجيا  القائمة على حقوق المواطنة المشتركة، والمنفتحة على الجميع، هي الأساس الذي تقوم عليه العقيدة الجديدة التي تعارض تفتيت وتذويب ميول السوق أو التي تسعى لاحتواء هذه الظاهرة. إلا أن هذه الإيديولوجيا  التي تتمحور حول المواطنة تتطلب المزيد من الدعم، انطلاقًا من المعنى الاقتصادي ومن المعنى الأكثر رمزية. ومن هنا بات بإمكاننا الاعتماد على فكرة المواطنة الاقتصادية والمعاملة العادلة بالمِثل، على النحو الذي اقترحه ستيوارت وايت، إذ تتضمن فكرته، القائمة على مبدأ النموذج غير المثالي لمبدأ المعاملة العادلة بالــمِـثل، ما يسميه الإلتزامات الجوهرية التالية (وايت 2002، ص 90): عدم الإفقار، أمن السوق، أداء العمل باعتباره تحدّياً، الحد من التقسيم الطبقي إلى أدنى المستويات، وعدم التمييز. كما يرى وايت، إذا تحققت الممارسة التي تستوفي هذه المعايير داخل المؤسسات الاقتصادية سيصبح مطلوبًا من المواطنين واجب «تقديم المساهمة المثمرة اللائقة، بما يتناسب مع قدرة كلٍ منهم»: سوف يصبح لزامًا على الجميع العمل والمساهمة، وفقًا لما يحققه المجتمع من الشروط المذكورة أعلاه. إن المجتمع الذي يتسم بنسبة أعلى من المساواة في مجال العمل والذي يقّدم «موقعًا للتحدي القيّم في جوهره» لا بدّ من أن يكون قادرًا حقاً على دعوة المواطنين لتقديم كل نوع من أنواع المساهمة التي تتوافق مع قدراتهم. وعليه سيتوجب على الإيديولوجيا  المضادة الحث على أفكار المواطنة السياسية والاقتصادية، التي تكمّل إحداهما الأخرى. وتعتبر هذه الفكرة أكثر ملاءمة من الأفكار الوطنية ـ الشعبية، على الرغم من أنه ليس بالضرورة أن تستبعد إحداهما الأخرى. يبدو لي أن قوة الوطنية – الشعبية تكمن في أنها تستدعي فكرتين اثنتيْن إلى الأذهان، تعتمدان على التضامن، الذي يستند بدوره إلى أساس التاريخ المشترك، أو التقليد المطوّر. هل من الممكن للفكرة المشتركة بين المواطنة السياسية والاقتصادية أن تطمح إلى حصد الصدى العاطفي نفسه الذي تستحضره  فكرة الأمة إلى الأذهان؟

إن المشكلة التي يتمحور حولها هذا البحث إنما نجدها متجلية خير تجلٍّ في النقاشات حول الوطنية الدستورية والمجتمع السياسي، إذ إن القضية المطروحة في هذا المجال هي ما إذا كان مفهوم الحقوق المدنية المشتركة قد تجذّر بما فيه الكفاية ضمن قاعدة وجدانية وهو الأمر الذي لا بدّ منه من أجل منح المواطنين الحافز أو التحفيز العاطفي لحملهم على الإقبال وتقديم الأفكار التي يرتأونها حول المجتمع السياسي المشترك. (ماركل، 2000). أما وجهة نظري فهي أن فكرة «الحد الأدنى من المدنية» والمواطنة الاقتصادية السياسية المشتركة، كما يراها س. وايت إنما تحتاج إلى أن تتجذّر داخل المجتمع المحلي القائم على الجانب التاريخي، أما فكرة الأمة فلها دور لا بدّ من أن تضطلع فيه، رغم أنه يحتل المركز الثاني لمصلحة مبدأ المعاملة بالمثل والمواطنة.

إن الإيديولوجيا  الجديدة التي تتعارض مع إيديولوجيات الخصخصة، سواء الحرفي أو المجازي، لم تعد مجرد أمر ممكن فحسب، ولكنها باتت ضرورية للغاية في ظل ظروف السياسة المعاصرة، في إطار هذا المجتمع الذي يفترض أن يكون ما بعد الإيديولوجيا . وانطلاقًا من العبارة التي يطلقها غرامشي (والتي يأخذها أصلاً عن رينان) القائمة على «الإصلاح الأخلاقي والفكري» الذي يتطلب وضع إيديولوجيا جديدة عن السياسة ومن ثم العمل على تطويرها. كان غرامشي يرى أنّ بإمكان الماركسية توليف كل ما هو فاضل وتقدمي في تقاليد الفكر السابق، ومن ثم القفز فوقه، كما يتضح لنا من خلال تصريحاته المذكورة أعلاه حول الجمع ما بين روبسبير وكانط. وفي ظروف السياسة المعاصرة، من غير الواضح بعد ما إذا كانت الماركسية الكلاسيكية لا تزال قادرة على أداء هذا الدور. وإنني لأتصور تشكيل إيديولوجيا مضادة جديدة من شأنها الجمع ما بين العناصر التالية، المأخوذة أصلاً عن غرامشي، إنما مع ملاحظة الحاجة إلى تكييفها وتعديلها لتتلاءم مع الظروف الحديثة. ولا بدّ من الإشارة إلى ربط الأفكار القائمة حول الحقوق السياسية المشتركة، وهو ما يُعتبر قدوة المواطنة السياسية، مع التطلع صوب المؤسسات الاقتصادية التي تقلل، كما يصوغها وايت، من «مختلف الشرور التي تحدد حالة البروليتاريا» (وايت 2002، ص. 90). ومع ذلك، أود أن أضيف إلى حجة وايت شرطين إضافيين أكثر عمقًا: الأول هو أن الجوهر الفلسفي لهذه الإيديولوجيا  المضادة إنما يقوم على مفهوم تطوير الذات. ومن الناحية الفلسفية، شكّل هذا الرأي الأساس الذي قامت عليه كل من الليبرالية والماركسية، ولا بدّ له من احترام معيار الإيديولوجيا  التي تتطلع قدمًا والتي من شأنها أن تجتذب الحماسة الشعبية. أما الشرط الثاني، فلا بدّ للإيديولوجيا المضادة من أن تمتلك الصدى العاطفي اللازم إذا ما أرادت التأثير في الجماهير التي لا غنى عنها في ظل ظروف السياسة الحديثة، التي يرى غرامشي بأنها تنشأ من البعد الوطني- الشعبي ولو جزئيًا على الأقل، ولكنها قد تشكّل القاعدة الأضعف في الأوقات التي جرى فيها الحد من التضامن والوحدة داخل الأمة لمصلحة المجتمع الذي يتسم أكثر بتعدد الثقافات وعدم التجانس. في حين أننا لا نرغب في التقليل من شأن هذا العنصر، في شكله المدني، فإنني أرى أنّ قوة القدوة التي تقدّمها المواطنة المشتركة هي التي يمكن لها أن توفر العنصر العاطفي اللازم لقيام الإيديولوجيا  المضادة الفاعلة.

ومما لا شكّ فيه هو أن حركة معارضة الليبرالية تتطلب وجود إيديولوجيا مختلفة عن الإيديولوجيات التقليدية التي كانت سائدة في الماضي. على أنه سبق لي أن رسمت آنفًا بعض ملامح هذه الإيديولوجيا  المضادة، كما افترضت أنها متجذرة داخل أفكار المواطنةإن الاقتصادية أو السياسية. وتبقى المهمة الأخيرة، وهي الإشارة إلى الكيفية التي من خلالها، على حد سواء، ترتبط مع سلسلة الإيديولوجيات الرئيسية التي سادت في الماضي أو تميّزت عنها.

دعونا نرجع إلى غرامشي قليلاً، إذ إنّ فكرته تقول إنّ الماركسية، أو «فلسفة التطبيق العملي»، يمكن لها أن توفر المعارضة الفاعلة لتتفوق بذلك على الليبرالية. فلقد كانت، كما الليبرالية، إيديولوجيا حداثوية أو تقدمية، خرجت من رحم الحضارة الحديثة، إلا أنها قادرة على أن تتجاوز الليبرالية، المتمثلة في كروتشي، من حيث إنها قادرة على جذب طبقات أوسع من السكان، وبالتالي فإنها تشكّل الإصلاح مقارنة مع «عصر النهضة» الذي تمثله الليبرالية المعاصرة. كيف يجري تطبيق هذه الأفكار في يومنا الحالي؟ لقد ناقشنا هنا مسألة أن الطيفالإيدييولوجي للسياسة المعاصرة يتسم بالمحدودية، وبأن الليبرالية الديمقراطية المعاصرة تحتاج إلى إعادة إحياء عن طريق توسعة هذا الطيف. وعلاوةً على ذلك، لا يمكن تحقق هذه التوسعة للطيف إلا عن طريق صوغ الإيديولوجيا  المضادة الجديدة، القائمة على المساواة والتقدمية، والتي بدورها تحث على قيام مجتمع المواطنة الديمقراطي. ومن شأن هذه الإيديولوجيا  المضادة أن تتعارض مع إيديولوجيا الليبرالية المــُشعبنة الهشة التي تسود في «الليبرالية الديمقراطية الفعلية الموجودة».

ما هي علاقة هذه الإيديولوجيا  المضادة الجديدة مع التقاليد الإيديولوجية في العصر الحديث؟ يبدو جليًا أنه بالإستناد إلى المعايير التي سبق لي أن أرسيتها لهذه الإيديولوجيا، على أنها إيديولوجيا اليسار، إذ إنها تأخذ القيم الكلاسيكية التي يقوم عليها اليسار على محمل الجد، على سبيل المساواة والتضامن والمعاملة بالمثل، فضلاً عن الرغبة في كبح نطاق علاقات السوق السلعية أو تقييدها. لم لا نسميها بالتالي الاشتراكية، حتى الماركسية؟ كما أود أن ألحِق هذه الإيديولوجيا  المضادة الجديدة بمخيم الاشتراكية أو بسلسلتها الإيديولوجية، ولكن مع اتباع المواصفات التالية؛ لا بدّ من القول إنّ الإيديولوجيا  المضادة الجديدة هذه إنما هي انتقائية: فهي تعتمد على عدد من التقاليد الإيديولوجية المختلفة، من أجل تشكيل التوليفة الجديدة التي بدورها تمنحها الهوية المميزة من تلقاء نفسها. لقد سبق لنا أن أوضحنا الصلات التي تربطها بالاشتراكية بشكل عام. وكذلك الأمر مع الماركسية، حيث العلاقة الوثيقة التي تتمثل من خلال: أهمية الأبعاد الاقتصادية للمواطنة، والرغبة في إبعاد العلاقات السياسية المهمة عن فلك إنتاج السلع وفي الحد من عدم مساواة قوة الطبقة، وفي إرساء المجتمع الأكثر انسجامًا وترابطًا. ولكن في حين ترى الماركسية الكلاسيكية أنّ هذه الأهداف قد تحققت من خلال الحركة الثورية القائمة على الطبقة، فإن الإيديولوجيا  المضادة الجديدة هذه تنظر إلى تحقيق أهدافها بمنظور أقل قطعية أو تقيدًا بالطبقة.

ما سبق لي أن حددت معالمه على اعتبار أنّ الإيديولوجيا  المضادة هي تلك التي تسعى إلى تحقيق ذاتها من خلال مجموعة مرنة من العوامل، على أنه من غير الممكن تحقيق رؤية هذه الإيديولوجيا  المضادة الجديدة من خلال حركة سياسة الطبقة، على الأقل ليس بالمعنى الدقيق للكلمة، ومن باب أولى، تسعى هذه الإيديولوجيا  إلى تطبيق نفسها عمليًا عن طريق طرف سياسي واحد أو أكثر ممن ينشطون في مجال الانتخابات وكذلك عن طريق شبكة من الجمعيات التعاونية النشطة في مجال المجتمع المدني. ربما تكون الفكرة مبهمة، وهذا بديهي، لأن هذه المشكلة تثير المشاكل المحددة التي تنجم عن الاستراتيجيا والعملية السياسية، مما يختلف من مكان إلى آخر. تتميز الماركسية في شكلها الكلاسيكي من خلال تركيزها في حركة الثورة البروليتارية، وما يرافقها من استراتيجيا التقدم السياسي، وهو الأمر الذي ساعد هذه الأحزاب الاشتراكية الجماهرية على التقدم نحو النصر، وتشكيل الأغلبية للسياسات الاشتراكية. ولا شكّ بأن هذه هي الاستراتيجيا الانتخابية التي سادت الساحة الدولية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى.

مع العلم أن  الانتقادات الفوضوية للماركسية كانت قد أكدت على ضعفها في مسألة السلطة السياسية، حيث نجد بأن النقد الذي وجهه باكونين للممارسة السياسية التي تبناها ماركس يشير إلى أنه ما إن يرتقي ممثلو البروليتاريا إلى «المناصب الحكومية الرفيعة»، حتى ينظروا بتعالٍ إلى رفاقهم السابقين. ويضيف باكونين أنّ الذين ينكرون هذا الواقع «لا يعرفون شيئًا من الطبيعة البشرية» (باكونين، 1973، ص. 269). أعتقد أن المضمون واضح، وهو أنه يتوجب على الإيديولوجيا  المضادة الجديدة أن تتعلم شيئًا هي الأخرى من النقد الفوضوي، في ما يتعلق بإمكانية سوء استغلال السلطة، والحاجة إلى المشاركة الواسعة من الناس في مجالات تتجاوز المجالات التقليدية للسياسة الحزبية.

على أنه من الممكن تعميم هذه النقطة على نطاق أوسع، فلقد سبق لي أن رسمت معالم  هذه الإيديولوجيا  المضادة على اعتبار أنها فكر اليسار، حيث إن تقاسمت قيمها، إلا أنها تبرهن وعياً حيال الجمود والتشوهات المفرطة التي كانت قد رافقت إيديولوجيات اليسار في المحاولات السابقة التي كانت قد انخرطت بها لتحقيق ذاتها عمليًا. أما هذه الإيديولوجيا  المضادة الجديدة فتتسم بأنها انتقائية، إذ تعتمد على نقاط القوة التي تتحلى بها الإيديولوجيات التقليدية للشريعة الغربية، في حين تتجنب نقاط الضعف التي حددتها التجربة التاريخية. على أنه ورد في وقت سابق  أنه لا بدّ لهذه الإيديولوجيا  الجديدة من أن تتجنب خطرين متعارضين، أحدهما عدم امتلاك الرؤية الواضحة، والآخر امتلاك الرؤية المتزمتة والمحصورة في إطار العقيدة، التي تُفرض على حركة السياسة الحقيقية. أما نقطتي في هذا المجال فهي إذا ما رغبنا في تجنب ذاك الخطر الثاني لا بدّ من أن يعتمد الشكل الجديد للسياسة الإيديولوجية على مجموعة متنوعة من الإيديولوجيات بطريقة انتقائية حتى يصبح بإمكاننا الحديث فعلاً عن عملية التعلم السياسي. وهذا ينطوي إذًا على بناء إيديولوجيا جديدة قادرة على توليف التقاليد الإيديولوجية المختلفة بطريقة تقدمية.

إشارةً إلى ضرورة أن تتحلى هذه الإيديولوجيا  المضادة الجديدة بالشمول والفاعلية لجهة تعبئة الناس للانخراط في العمل السياسي، كما سبقت لنا الإشارة، إلى أن هذا ما يمثّله جوهر الإيديولوجيات السياسية. لذا يجب عليها أن تعتمد على عناصر مستقاة في الإيديولوجيات المختلفة التي تشجع بدورها على هذا الاندماج على أساس ديمقراطي، دون أن تنسى الإشارة إلى التشوهات التي طبعت أنماط السياسة الإيديولوجية السابقة. وعلى ما يبدو فإنه انطلاقًا من هنا غالبًا ما يُنظَر  إلى النسوية وحماية البيئة، باعتبارهما إيديولوجيتين جديدتين، تضطلعان بدورٍ لا بدّ من لعبه؛ ليس إيديولوجيا مكتملة النضوج في حد ذاتها، إنما باعتبارهما حركتين تصحيحيتين تستهدفان التزمت والجوانب العمياء التي تطبع السياسة الإيديولوجية الماضية. على أن النسوية استطاعت الإشارة بمختلف أشكالها إلى التحيز الذكوري والافتراضات الجنسانية لدى إيديولوجيات كل من اليسار واليمين. وعلى نحوٍ مماثل، استطاعت حماية البيئة، في إطار نوع آخر من الحركة التصحيحية، أن ترفع النقاب عن بعض الافتراضات المتمحورة حول الإنسان التي تطبع الاشتراكية والإيديولوجيات الأخرى كذلك بصورة مبالغة. وبالتالي فقد استطاعت توسعة نطاق التفكير الإيديولوجي لكي تستجلب إلى الأذهان العلاقة بين الإنسان والعالم الطبيعي، وهو الجانب الذي تهمله إيديولوجيات التقليد التنويري.

وانطلاقًا من هنا أختتم بهذا الملخّص الذي يتطرأ إلى الجوانب التي يتضمنها العمل مع الإيديولوجيا  في عصر ما بعد الإيديولوجيا . لقد استطاعت ورقة البحث هذه أن تحاجج بأن هذا الأمر إنما يحتاج إلى ثلاثة عناصر أساسية:

أولا، الإصرار على أن ما يبدو أنه عصر ما بعد الإيديولوجيا  ليس بشيء من هذا التوصيف، حيث تنطبع الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة بالصفة الإيديولوجية إلى أبعد الحدود، حيث تهيمن عليها إيديولوجيا الليبرالية المــُـشعبَنة، التي بدورها تقدم نفسها على أنها غير إيديولوجية. إنما على أرض الواقع هذا ما تعمد إليه جميع الإيديولوجيات الناجحة، أي تقديم نفسها باعتبارها «الحس العام» الذي يطبع كل افتراضات الحياة اليومية. إن الليبرالية في شكلها السائد المعاصر إنما ترفع من شأن أفكار الفرق وتُـثمّن الحيز الشخصي الذي يظل حيزًا خاصًا تهيمن عليه أفكار التراكمات الشخصية. وهذا ما يمثل إفقارًا للحياة السياسية وتقييداً للبدائل المعروضة في الساحة الإيديولوجية.

ثانيا، ماذا تستخلص مما سبق لنطبّقه على عالم السياسة الحقيقي؟ لقد جادلت بأن المطلوب هو قيام الإيديولوجيا  المضادة الجديدة التي من شأنها أن تستجيب لاثنين من الوظائف الرئيسية، حتى إنها تطعن بهيمنة الليبرالية المــُـشعبَنة. وعلى نطاق أوسع، تبقى قادرة على تنشيط المجال الفكري وتوسيع نطاق وجهات النظر السياسية الموجودة أصلاً في الحياة السياسية، وهو الأمر الذي من شأنه إضافة أبعاد جديدة إلى المجال الإيديولوجي الضيق أصلاً والذي يطبع السياسة المعاصرة، وبالتالي فإنه سيؤدي إلى المزيد من الإثارة في السياسة داخل فلك العالم الحقيقي. ولكي لا يذهب الكلام سدىً، لا بدّ للإيديولوجيا المضادة الجديدة من أن تلبي بعض المعايير المعينة، والمستمدة أصلاً من نتاج  غرامشي: لا بدّ لها من تعبئة جمهور واسع من المناصرين، وألا تتخلى عن العنصر العاطفي، وأن ترسم لنفسها التوجه الذي يتطلّع إلى الأمام. علمًا بأنني اقترحت بصورة موجزة بعض القواعد التي يمكن لمثل هذه الإيديولوجيا  المضادة الفاعلة الإستناد إليها، حيث تشكّل أفكار المواطنة والاقتصادية والسياسية العناصر المركزية فيها.

ثالثا، وأخيرًا، لا بدّ للعمل مع الإيديولوجيا  في عصر ما بعد الإيديولوجيا، أو المتعارف عليه على هذا النحو، من أن ينطوي على محاولة تجنب المخاطر التي تطرحها أيّ إيديولوجيا لا تمتلك لنفسها الرؤية الواضحة، أو رؤية القيد الصارم الذي يقيّد السياسة الإيديولوجية العقائدية الضيّقة. لذلك، لا بدّ للإيديولوجيا المضادة الجديدة من أن تتسّم بالانتقائية، بل ويجب أن تروّج لهذا الواقع، معتمدةً في ذلك على مجموعة من التقاليد الإيديولوجية من أجل تلبية المعايير الإيديولوجية الفاعلة التي تتناسب وعصرنا. إن مستقبل السياسة الليبرالية الديمقراطية يعتمد على التجديد الإيديولوجي، وهو ما لن يتحقق إلا عن طريق أشكال جديدة تلبسها السياسة الإيديولوجية، على أن ورقة البحث هذه قد أظهرت كيفية البدء في هذا التشكيل.

لائحة المراجع:

أوغي، أ. (2001)، Nationalism, Devolution and the challenge to the United Kingdom State، الوطنية والأيلولة والتحدي في دولة المملكة المتحدة، (لندن: بلوتو برس)

باكونين، م. (1973)، Selected Writings كتابات مختارة، تحرير أ. لينينغ (لندن: جوناثان كايب)

بونام، ز. (1999)، In Search of Politics بحثًا عن السياسة (كامبردج: بوليتي برس)

كونستانت، ب. (1988)، Political Writings كتابات سياسية، ترجمها وحررها ب. فونتانا، كامبردج: منشورات جامعة كامبردج

فونتانا، ب. (1993) Hegemony and Power. On the Relation between Gramsci and Machiavelli السيطرة والسلطة، حول العلاقة بين غرامشي ومكيافيلي، مينيابوليس ولندن: منشورات جامعة مينيسوتا

فريدين، م. (1998)Is nationalism a distinct ideology?’ «هل الوطنية إيديولوجيا خاصة؟» بوليتيكل ستاديز  المجلد 46، الرقم 4 ص. ص. 748 – 765

فريدمان، م. ور. (1980) Free to Choose: a personal statement حرية الإختيار: الخطاب الفردي (لندن: سيكير آند واربيرغ)

غوس، ج. ف. (2000) ‘Liberalism at the end of the century’ «الليبرالية مع نهاية القرن»، جورنال أو بوليتيكال إيديولوجيز، المجلد 5، رقم 2 ص. ص. 179 – 199

غيلنير، إ. (1995) ‘A case of the Liberal’s new clothes’ «مثال على لبوس الليبرالية الجديد»، الغارديان، 4 تشرين الأول 1995. مقال

غيدنز، أ. (1994) Beyond Left and Right: the future of radical politics ما بعد اليسار واليمين: مستقبل السياسة الأصولية، كامبريدج: بوليتي برس

غورز، أ. (1994) Capitalism, Socialism, Ecology الرأسمالية والاشتراكية والبيئة (لندن: فيرسو)

غرامشي، أ. (2001) Quaderni del carcere كراسات السجن، تحرير ف. جيراتان، أربعة مجلدات (تورينو: إيناودي)

غرامشي، أ. (1971) Selections from the Prison Notebooks مختارات من كراسات السجن، تحرير وترجمة ك. هواري وج. نويل سميث (لندن: لورانس آند ويشارت)

كومار، ك. (2003) The Making of English National Identity قيام الهوية الوطنية البريطانية (منشورات جامعة كامبردج)

لييس، س. (2001) Market-Driven Politics. Neoliberal Democracy and the Public Interest السياسة المتأثرة بالسوق، الديمقراطية النيو لبيرالية والمصالح العامة (لندن، فيرسو)

ماركال، ب. (2000) ‘Making Affect Safe for Democracy. On “Constitutional Patriotism”’ «جعل العاطفة آمنة على الديمقراطسة. حول «القومية الدستورية»» بوليتيكال ثيوري، المجلد 28، رقم 1، شباط 2000، ص. ص. 38 – 63

ماركس، ك. (1973) The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte ثورة 18 برومير بقيادة لويس بونابرت، ورد في ك. ماركس، Surveys from Exile دراسات في المنفى، تحرير د. فيرنباخ (هارموندسوارث: بانغوان)

راولز، ج. (1993) Political Liberalism الليبرالية السياسية (نيويورك: مطبوعات جامعة كولوكبيا)

رورتي، ر. (1995)، ‘Movements and Campaigns’ «الحركات والحملات»، ديسانت، شتاء 1995، ص. ص. 55 – 60

توكفيل، أ. دو (1968) Democracy in America الديمقراطية في أميركا، تحرير ج. ب. ماير وماكس ليرنير (لندن: ذا فونتانا لايبريري)

وايت، س. (2002) The Civic Minimum: an essay on the rights and obligations of economic citizenship الحد الأدنى من المدنية: بحث حول حقوق وواجبات المواطنة الإقتصادية (أكسفورد: منشورات جامعة أكسفورد)

---------------------------

[1]* ـ كلية العلوم السياسية والدراسات الدولية  - جامعة ليدز، Leeds.

العنوان الأصلي للمقال:  HEGEMONY AND CONTESTATION IN POSTIDEOLOGICAL SOCIETY

المصدر:

 https://ecpr.eu/Filestore/PaperProposal/cf956a52-6731-4d62-bebb-548e3cabee5c.pdf

ـ تعريب: نور علاء الدين.

[2]- مخطط سرير بروكوست: خطة لتوليد الإنصياع والطاعة من خلال استعمال أساليب عنيفة.ـ