البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حوار مع المؤرخ الفرنسي جاك بوشيباداس : فكر ما بعد الاستعمار تيار نقدي وليس درساً أكاديمياً

الباحث :  أجرى الحوار: جول نودِت Jules Naudet
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  12
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث :  988
تحميل  ( 289.185 KB )
ما هي الرهانات والحدود التي تدور مدار فكر ما بعد الاستعمار؟

هذا السؤال المحوري شكل فضاء هذا الحوار مع المؤرخ الفرنسي جاك بوشيباداس حيث يذكّر بان دراسات ما بعد الاستعمار، ليست مادة دراسة مخصوصة، وإنما هي تيار فكري نقدي، داعياً التاريخ، ألّا يحتفل بأوديسة التقدم الغربي عبر العالم.

والمعروف عن جاك بوشيباداس أنه مؤرخ الهند الحديثة. فهو خبير في المركز الوطني للأبحاث العلمية، وعمل بشكل أساسي في وسط مركز دراسات الهند، وآسيا وجنوب آسيا لمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. أما أبحاثه الأولية عن الفلاحين ومعركة الاستقلال في الهند المستعمرة، فقد وضعته منذ نهاية السبعينيات في علاقة تبادل ودية ونقدية، في آن، مع مؤرخين من المجموعة المؤسسة للدراسات الهامشية Subaltern Studies.

حول دراسات ما بعد الاستعمار، التي يكتب عنها كتاباً في الوقت الحاضر. كان معه هذا الحوار:

المحرر

-------------------------------------------------

حياة الأفكار: ماذا نعني بدراسات ما بعد الاستعمار؟

جاك بوشيباداس: دراسات ما بعد الاستعمار، هي حقل من الفكر النقدي، ولد في الجامعات الأنكلوسكسونية خلال الثمانينات، وخصوصا في الولايات المتحدة. نشأ من كتاب مهم ومشهور، نشره إدوارد سعيد سنة 1978 بعنوان الاستشراق، وكان هدفه دراسة ونقد خطاب الغرب عن العالم الإسلامي. الفترة الزمنية التي درسها إدوارد سعيد في هذا المؤلَّف، تخص كل مرحلة علاقة الغرب الاستعمارية، مع سائر العالم وخصوصاً الفترة الثانية، من الانتشار الأوروبي للقرن الثامن عشر، حتى منتصف القرن العشرين. استوحى إدوارد سعيد في هذا المشروع فكر ميشال فوكو. اهتم بدراسته بمجمل الإنتاج العلمي والأدبي، وخصوصاً الروائي الغربي، الذي يتناول الشرق، وافترض مبدئياً أنّ مجموع هذه الكتابات، كانت تشكل أو بالأحرى تمثّل ما كان ميشال فوكو قد أسماه صياغةً استدلالية، أيْ نوعاً من العالم الذهني والثقافي، الذي يجد تعبيره في التناصّ الشامل للمرحلة. هذا التركيز على الخصائص الأساسية للنصوص، الذي، من البديهي، كان له علاقة مع ما نسميه المنعطف اللساني، هو ثورة أساسية في الحياة الفكرية، لهذه السنوات. وقد كان بالتالي لهذا السبب منتقدا بشدة بالطريقة نفسها، التي انتقدت بها، مرحلة ما بعد الحداثة على نحو قليل، في كل أنحاء العالم، وخصوصاً في فرنسا. وقامت استشراقية أدوار سعيد بتجديد شامل في الخطاب العلمي، حول الغرب و«آخريه» «ses autres».وقد أخذ عدد كبير من المثقفين يعملون في الوجهة نفسها. وكان هؤلاء بشكل أساسي، يتحدرون من البلدان التي كانت تسمى في تلك المرحلة بالعالم الثالث، أو بالأحرى، بلدان الجنوب كما يقال اليوم، وكانوا ملتحقين بالجامعات الأنكلوسكسونية، وخصوصا في الولايات المتحدة. وكان هؤلاء المفكرون، بسبب الجو الثقافي، الذي كانوا يعيشون ويعملون داخله، مهيئين لتبني موقف العودة النقدية هذه، حول الخصائص الأساسية للنصوص، التي تتناول الاستعمار. وعلى نقيض المعاداة التقليدية للاستعمار، التي تصدر بالحري عن النقد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فقد تجاوز إلى نقد أكثر معرفية épistemique، نقد كان يتخذ أساسه من مجمل نصوص المرحلة الاستعمارية. إن هذه النصوص التي كان ينطلق منها، هي التي أعطت ما أصبح يطلق عليه مُذَّاك فكر ما بعد الاستعمار كما ينمو الآن، في الجامعات الأنكلوساكسونية والأميركية وقليلا أيضا في كل أنحاء العالم.

حياة الأفكار: ما هي العلاقة التي يمكن أن نعقدها بين دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات الهامشية؟

جاك بوشيباداس: إن الدراسات الهامشية، هي بكل دقة عنوان سلسلة من الأعمال التي ظهرت في الهند، منذ العام 1982 وقد ظهر العمل الثاني عشر والأخير منها، في 2005. كانت هذه الأعمال بمبادرات جماعية، مجموعة من المقالات، أدارتها مجموعة من المؤرخين الشباب، الذين كانوا ضموا إليهم مؤرخين آخرين، يعملون بمقتضى رؤيتهم، بإدارة مؤرخ ماركسي بنغالي، يكبرهم سنا بكثير، وكان مستقرا في إنكلترا، ويدعى راجانيت جحا. كانت رؤية جحا ومرافقيه الشباب تستلهم التاريخ، تاريخ الطبقة الدنيا من المؤرخين المدعوين بالراديكاليين، الذين يهتمون بالشعب أكثر من اهتمامهم بالنخب، وما كان قد أراده جحا وأتباعه: تغيير النظرة المهيمنة على تاريخ الهند الاستعماري، وكتابة تاريخ الهند من تحت. وكان هذا التاريخ الذي واجهه جحا، ينتظم بقطاعين. كان ثمة من ناحية، التاريخ الاستعماري بالمعنى التقليدي للكلمة، تاريخ إنكليزي إلى حد بعيد، قام من جهة على كتابة تاريخ الإنكليز في الهند، بدلا من كتابة تاريخ الهند في المرحلة الاستعمارية، ومن جهة أخرى، ما يمكن أن نسميه الرواية الرسمية لتكوّن الأمة الهندية، كما توجد في كل كتب التعليم الجامعي. كانوا يمجدون فيها مسار نخب الهند الوطنية، خلال معركة الاستقلال ويظهرون كيف تحركت الجماهير الهندية وراءهم، وانتزعت في النهاية الاستقلال، باتباع توجيهاتهم بدلا من أن يكون ذلك بمبادرة الجماهير الخاصة.

رؤية جحا وأقرانه كانت مختلفة كلياً. لقد كانوا يقصدون أن يستعيدوا، في آن، كرامة الشعب الهندي، وقدرته على المبادرة والفعل، واستقلاله الذاتي حيال النخب، ليبرهنوا، أنّه في الحقيقة، كان يعود للشعب، الفضل في إخراج الإنكليز من الهند. والنخب التي كانت مضطرة، للسير خلف الشعب، استولت على السلطة في النهاية، وحرمته من مكتسبات انتصاره. كان في هذا المسار، أخطاء في المنهج، أو على الأقل، مواقف يصعب الدفاع عنها، وقد وُجّه إليها النقد سريعاً: من جهة، حقيقة أن الشعب ككيان تم النظر إليه، بتعميم من خلال خصائص عامة، حالت دون التمييز حتى داخل الجماهير الشعبية الهندية، ومن جهة أخرى، وكان هذا هو على الأخص، نقد اليسار حقيقة أن الدراسات الهامشية، كانت تسند إلى الشعب المبادرة بكاملها، دون الاعتراف أنه لم يكن بإمكانه، أن يفعل شيئاً دون نخبة، دون طليعة لها تنظيمها وتوجّهاتها. كان ذلك بوضوح نقداً صادماً. من هنا فإن الدراسات الهامشية، أو بالأحرى المجموعة التي تكونها غيّرت قليلاً توجّهاتها. وبدلاً من الاستمرار في اتّجاه الدفاع عن الشعب، انتقلت إلى انتقاد خطاب النخبة الاستعمارية والهندية. وهكذا قامت، انطلاقاً من هذه اللّحظة، بإنشاء تاريخ ينتقد خصائص المرحلة. وفي فعلهم هذا وجد الهامشيون أنفسهم على أرضية دراسات ما بعد الاستعمار، التي كانت حينذاك في أوج انطلاقها. وقد اتفق فضلاً عن ذلك، أن هؤلاء المؤرّخين الهامشيين كان عددٌ منهم لامعاً، وقد توظّفوا في الجامعات الأمريكية، ووجدوا أنفسهم في المكان نفسه، الذي ولدت فيه، دراسات ما بعد الاستعمار. وقد تم نوع من الترابط بين الاثنين، وكفّت الدراسات الهامشية، عن الظهور سنة 2005، كمؤسسة نشر مميزة، إذ ذابت في ركام ثقافة ما بعد الاستعمار. وقد انضم عدد آخر إلى مجموعة الدراسات الهامشية، وأصبحوا نجوم فكر ما بعد الاستعمار: مثل، غياتري سبيفاك وديبيش شاكرا باتري وبعض الآخرين. وهكذا، سوف تمثل دراسات التابع ربما مرحلة ما قبل التاريخ للدراسات ما بعد الاستعمارية، ولكن في كل الحالات هي تمثل تاريخها الأوّلي.

حياة الأفكار: هل يمكن القول أن دراسات ما بعد الاستعمار هي في الحقيقة متعددة الاختصاصات؟ (transdisciplinaires)   

جاك بوشيباداس: إن دراسات ما بعد الاستعمار، ليست حقل دراسة مخصوص، إنها تيار فكري نقدي، يمكن وصفه بالراديكالي، وقد تأثّر في أصوله، بالسياق الفكري الذي ظهر داخله: سياق ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، وكل ما أُطلق عليه في حينه النظرية الفرنسية، لأن هذا الموقف الفلسفي كان في قسم كبير منه، ينطلق من كتابات فوكو، داريدا ودولوز إلخ. هذا الموقف النقدي، يتوجّه إلى كل الدراسات الإنسانية المخصوصة، وإلى العلوم الاجتماعية، ويدعوها إلى نوع من التميّز، إلى تحوّل في النظرة، ما ساهم كثيراً في دفعها إلى العمل على نفسها، وعلى أن تنفّك من طريقة في التفكير، تضع النموذج الأوروبي، في قلب كل شيء، وأن تعترف لطرق التفكير غير الأوروبية بجدارتها المساوية للتفكير الأوروبي. وسّعت دراسات ما بعد الاستعمار، على نحو كبير، حقل كل واحد من حقولها المخصوصة.  وحقيقةً، إنها ولدت في حقل الدراسات الأدبية، وأن معظم الرواد الأوائل في تلك اللحظة، كانوا أساتذة أدب أو أساتذة أدب مقارن في الجامعات الأنكلوسكسونية.   ولكن الأسئلة والتخلي عن المركزية الأوروبية، التي تقترحها، تتوجّه إلى الحقول المخصوصة وخصوصاً إلى التاريخ، الذي لم يعد ينبغي أن يكون برأيهم روايةً لأوديسة الحداثة في أرجاء العالم، ولصدمة الرأسمالية التي ولدت في الغرب، واتجهت إلى مختلف مناطق العالم، أو لمسار التاريخ المتناقض والغامض للبلدان ذات الثقافة غير الأوروبية، باتجاه نموذج التطور الغربي الذي يُعرض عليها. وعلى العكس، ينبغي للتاريخ أن يُخلي مكاناً، لكل ما يُسمى بحسب النظرة الأوروبية التقليدية، تواريخ هامشية، تاريخ الأطراف، بالتخلّي عن فكرة المركز أوالهامش. ليس ثمة سوى تواريخ ذات قيم متساوية، جدارة متساوية، وأهمية متساوية، وهي جميعاً تتبع طريقها في ارتهان ما، نحو ظروف عالمية، ودون أن تكون منذورةً لتشبه نماذج محدّدة مسبقاً، أو أن تتوق إليها.

 وكذلك فإن الاتنولوجيا، الحقل المخصوص، الذي ظلّ لوقت طويل، وربما لا يزال، على شجار مع عيب ضمّه الأولي إلى مشروع الاستعمار، عليه أن يغتني بالكثير، وعلى أيّ حال، كان قد تمّ الاشتغال عليه كثيراً من خلال استبانات ما بعد المرحلة الاستعمارية. والمقصود بالنسبة له وصف الثقافة وليس التاريخ، ولكن المسألة في الحقيقة، هي، جوهريّاً، نفسها. فالدراسات الأدبية، من حيث انطلقت دراسات ما بعد الاستعمار، كانت قد اهتزّت هي نفسها بعمق. فمعيار الأعمال الكلاسيكية التي هي في قلب برامج التعليم تغيّرت على نحو هائل. لقد أُدخل فيها بالطريقة نفسها الأعمال الأوروبية الكلاسيكية، وأعمال صادرة عن حقل آداب البلدان التي اُستعمرت سابقاً. إن دراسات الآداب التقليدية، قد اصطدمت بقوة بعلاقتها الجديدة كلّيّاً، بالنظرية التي بدأها النقد الأدبي، لمرحلة ما بعد الاستعمار، وبأدواتها المفهومية والمنهجية. فمعظم فروع دراسات ما بعد الاستعمار، في الجامعات الأنكلوساكسونية هي في الأساس فروع دراسات أدبية. ولكن في الحقيقة إذا نظرنا إلى برامجها التعليمية، وإلى الحقول الأصلية لطاقمها التعليمي، نتحقق أنها فروع تتمثّل فيها العلوم الاجتماعية إلى حد ما، وإن الهموم الجمالية التقليدية، تحتل أحيانا بكاملها، الدرجة الثانية. ثمة جوهريّاً ميزة تحول لحقل الدراسة المخصوص لأبحاث ما بعد الاستعمار، وهذا ما جعل لها، جزئيا المقدرة على الخلخلة والتجديد، في آن، في العلوم الاجتماعية والإنسانيات

حياة الأفكار: ما هي حدود مشروع بهذا الاتساع؟

جاك بوشيباداس:  إن دراسات ما بعد الاستعمار، كانت قد اُنتقدت كثيراً، وكان قسم من هذا النقد هو النقد نفسه الذي قد وجهته، هي ذاتها، إلى حقول الدراسة المعنية. ويمكن أن نميز بين نوعين من النقد يشيران أيضا إلى تحديدين كبيرين لفكر ما بعد الاستعمار.  الأول هو حقيقة أن دراسات ما بعد الاستعمار تعمل بشكل أساسي على النصوص. فكانت إذاً، وعلى نحو سريع، موضوعاً لنقد من طبيعة مادية، غالباً من مفكرين ماركسيين، إذ يأخذون عليها مثاليتها: التخندق في نقد النصوص، كان ملحوظاً كطريقة لهجران أرض واقع النضالات الاجتماعية الحقيقية، وكخيانة للشعوب الفقيرة والمحرومة، التي نصّب مفكرو ما بعد الاستعمار أنفسهم المتحدث باسمها، بمقدار ما تستمر هذه الشعوب في النضال كل يوم من أجل نجاتها، أو ضد الأنظمة المضطهدة، وطالما ظلت مرتهنة بشدة إلى شروط الحياة التي صنعوها لها. إنها ليست أبدا لا مبالية، بل على العكس ملتزمة بمعركة التحديث والتقدم، والحريات الملموسة إلخ وهي معارك لا يقدّم لها نقد النصوص شيئا. والميزة الأُخرى للنقد نفسه هو أن نقد المجتمعات المستعمرة سابقاً، حصراً، من خلال الزاوية التي يستمر فيها الغرب، بممارسة تأثيره عليها، فذلك يعني السكوت على عدم المساواة، داخل هذه المجتمعات أو تجاهلها، إذ أن أصل هذا الاضطهاد، هو في داخل هذه المجتمعات نفسها. هذه المثالية النصوصية لدراسات ما بعد الاستعمار، سيكون لها إجمالاً كنتيجة، ترك الجماهير المقموعة لقدرها المادي الحزين، لمصلحة اهتمامات ذات طبيعة محض ثقافية. هذا النقد المادي لمثالية دراسات ما بعد الاستعمار، يترافق في الأغلب مع اتهام المنقف ما بعد الاستعماري نفسه. كثيرون يقولون: «انظر إلى هؤلاء المؤلفين الذين يعيشون برفاهية عالية في جامعات أنكلوسكسونية، في بلدان الشمال التي تدفع لهم ببذخ. إن شروط حياتهم لا تشبه على الإطلاق شروط حياة الناس الذين يدّعون الدفاع عنهم». هذا النقد، كما يبدو، قلّما يقبل في الحدود التي يترجم فيها شكلاً معادياً، للنزعة الفكرية، حتى وإن كانت لاواعية، ثمة ضمناً فكرة أن العمال وحدهم، يستطيعون على سبيل المثال، التكلم بطريقة صحيحة عن العمال[2]، وهذا موقف غير ماركسي إلى حد بعيد، لأن الماركسية نفسها، وضعت على الدوام، في المقام الأول، التعاون بين المثقفين والجماهير، الماركسية نفسها يمكن أن تعتبر باطلة في هذا المنظور، لأن ماركس كان بورجوازيّا صغيرا لا عاملا، وأن انجلس كان ابن أحد صناعيي النسيج الكبار.

   الحشد النقدي الكبير الآخر، للحدود المعترف بها، أو التي تعزى لمرحلة ما بعد الاستعمار، يخص طابعها المؤرخ، الطريقة التي ينظر فيها مفكرو ما بعد الاستعمار إلى التاريخ ، وقد أخذ عليهم المؤرخون بشدة قطيعتهم مع الإمبريالية، إذ أن هوسهم بالنصوص حال دون رؤيتهم للأشياء كما هي، ويؤخذ عليهم بشكل خاص، ميلهم للكلام عن الأنظمة الاستعمارية، كما لو أن المقصود، نوع من الهيمنة وحيد الشكل، وثابت على امتداد الكرة الأرضية، ومنذ بدايات التوسع الأوروبي، والأنظمة الاستعمارية، في الحقيقة، مختلفة واحدها عن الآخر، والسلطة الاستعمارية لم تكن أبداً متراصة، وذات سلطة مطلقة، وعلى العكس، كان يتخللها تناقضات، وتضطر للتفاوض باستمرار مع المجتمعات المحلية، وكانت تتطور أيضا تبعا للظروف.  هذا النقد هو صحيح تماما، والتاريخ كما بدا أن مفكري ما بعد الاستعمار كانوا يريدون كتابته، لا يأخذ في الحسبان التطورات التاريخية، هذا العيب يعود بالتأكيد، في جزء منه إلى أن دراسات ما بعد الاستعمار، ذات مصدر أدبي ، وهذا على ما أعتقد تعبير جديد للتوتر الدائم، للعلاقة بين الأدب والتاريخ ، التاريخ يأنف أن يأخذ الأدب  في الحسبان لأنه خيال، ولكن في الوقت عينه، يستنكف من النظر إلى ذاته، وأن يعترف أنه هو أيضا، وبشكل أساسي على مستوى المخيلة، كما على مستوى الكتابة، حقل أدبي  ويصعب عليه الاعتراف أنه مشروع لا ينتهي أبداً، إذ أن أعماله تُستعاد على الدوام، وتُكتب من جديد، حقيقة التاريخ هو أنه بذاته حقيقة، لن أقول أنها حقيقة مشابهة لتلك التي تنبثق من الأعمال الخيالية، ولكن مع ذلك، هو حقيقة هشة، وهي أيضا ممهورة بالنزعة النصوصية.

  لم يكن المؤرخون، فضلا عن ذلك، الوحيدين الذين انتقدوا مرحلة ما بعد الاستعمار، من خلال أخطاء منهجها، أقول أن معظم نوع هذا النقد، الذي وجه لفكر ما بعد الاستعمار، من خلال التاريخ، كان قد أخذه مفكرو ما بعد الاستعمار أنفسهم بالحسبان. ليس ثمة فكر جامد لما بعد الاستعمار، غير متحرك، نستطيع نقده كنوع من العقيدة، أو النسق. إنه في تطور دائم. ومفكرو مرحلة ما بعد الاستعمار هم، فضلاً عن ذلك، أناس يصرحون غالبا، أنه يتعبهم أن يوضعوا غالبا موضع اتهام، يصدر على الدوام، خصوصا من بين صفوفهم. وما لا يمكن تجنبه، هو أن الأسئلة التي يطرحها مفكرو ما بعد الاستعمار على التاريخ، هي أسئلة يطرحها وسيطرحها كل الناس: هل من المقبول أن يرجع التاريخ على الدوام إلى تاريخ الحداثة والى مسار الغرب؟ هل هذا المسار هو النموذج الضروري لتاريخ كل شعوب الكرة الأرضية؟ وهل الرأسمالية هي، حقيقة، اختراع غربي حصراً؟

حياة الأفكار: لمتابعة فكر ما بعد الاستعمار، رأينا أخيراً، أن نظرية ما بعد الاستعمار، قد أثارت نقاشات حيوية في فرنسا. أيبدو لك ذلك بمستوى أهمية المسألة، التي يطرحها هذا السؤال النظري؟ ماذا يمكن لدراسات ما بعد الاستعمار، أن تقدم لتقدم الجدل العلمي الفرنسي؟

جاك بوشيباداس: بدايةً لن يكون من دون جدوى، التساؤل لِمَ لَمْ تخترق دراسات ما بعد الاستعمار النقاش العام في فرنسا إلاّ بعد مضيّ وقت طويل على انطلاقها، في العالم الأنكلوسكسوني، تقريباً بعد خمس وعشرين سنة، على صدور كتاب الاستشراق. لِمَ هذا الفارق؟ إنني أرى في ذلك عدة أسباب ممكنة، تنفي الاختلافات الإثنية والثقافية لتركّز كليّاً على الوحدة الداخلية للجسم السياسي، الذي هو جزء من ثقافة القاعدة المتوسطة. وبهذه العقلية لم نكن مهيئين لاستقبال نموذج الاستبانات، التي تقترحها دراسات ما بعد الاستعمار. وثمة تفسير آخر، يمس العالم الفكري. فدراسات ما بعد الاستعمار كانت منذ البداية مرتبطة، من قريب أو بعيد،  بتيارات فكر ما بعد الحداثة، وعليه لم تختزل ما بعد الحداثة بسرعة في فرنسا، ولكن في النهاية تضررت كثيراً من ارتياب معظم المثقفين. وهذا ما نسميه فكر ال 68. لم تؤخذ  دراسات ما بعد الاستعمار بجدية لوقت طويل .ثمة أيضا ربما سبب ثالث، ذلك أننا في فرنسا، استطعنا أن نكوّن مع دراسات مع بعد الاستعمار، انطباعا أننا رأينا ذلك من قبل .كان لدينا في فرنسا فرانز فانون، إيمي سيزار، ليبولد سيدار سنغور، سارتر، ألبير ميمِّي وجورج بالنديي وهؤلاء جميعا، مؤلفون كانوا قد كتبوا في الخمسينات، وقد تابع الكتابة عدد منهم لاحقاً. وعليه فقد احتفل مفكرو ما بعد الاستعمار بهؤلاء كأيقونات أو كرواد كبار. استطعنا إذاً أن نفكر على نحو خاطئ كليا، أننا في فرنسا كنا قد سلكنا هذا المسار، وأنه لم يعد من الضروري، العودة إليه. إنه لخطأ أساسي، في الحدود التي إذا كان هؤلاء المؤلفون الناطقون بالفرنسية، استشهدتْ بهم فعليا دراسات ما بعد الاستعمار، فعلى الأغلب أعاد المؤلفون شرح كتاباتهم. على سبيل المثال فرانز فانون، أعاد متخصصو ما بعد الاستعمار، التفكير أنه بشكل أساسي لاكاني (نسبة إلى لاكان) اشتغل على العلاقة مع الآخر، في حين أنه كان بشكل أساسي، مناضلاً من العالم الثالث، وحليفا للوطنيين الجزائريين. وكثير من هؤلاء المؤلفين كانوا مثله، من العالم الثالث، داعمين للحركات الوطنية الحديثة، في فترتهم، وكانوا أيضا ماركسيين، بمقدار الخصائص التي تفرقهم كليّاً عن فكر ما بعد الاستعمار.

إن ما فتح الباب في فرنسا أمام مرحلة ما بعد الاستعمار، هي أزمة النموذج الفرنسي، في الاندماج، الذي انفجر في الفضاء العام في العام 2005 في لحظة أزمة الضواحي الشهيرة. وقد تسبب آنذاك عدد من المبادرات التشريعية للحكومة، باضطرابات حقيقية، حول مسألة ذاكرة الاستعمار، تصريحات ممثلي الجمعية التي أصبحت لاحقاً حزبّاً سياسيًّا باسم «مواطنو الجمهورية الأصليين» (Indigène de la  République)، الذين أخذوا يتكلمون عن دراسات ما بعد الاستعمار في فرنسا، في وقت لم تكن فيه الظروف مهيأة لنقاش هادئ، ولتفكير عقلاني. ولقد تم الاستيلاء على وسْم (label) ما بعد الاستعمار، على نحو عجول، وفي أغلب الأحيان، دون أي صفة. أقول أن ذلك كان على وجه الخصوص، حالة فئتين من الأشخاص. من ناحية، ممثلو الحركات المطلبية لما نسميه، بمجاز فرنسي النموذج، «الاختلاف»، الذين هم ممثلون ل«أقليات واضحة»، أعلنوا أنهم ما بعد استعماريين قائلين: «إن ما نعيشه اليوم هو الإرث المباشر للاستعمار، إن عيشنا في الغيتوات، والتمييز الذي نحن ضحاياه، يعيد إنتاج ما كان قد حصل في الفترة الاستعمارية». لا يقرّ أي مؤرخ، وعلى نحو منصف، هذا الاستخدام. كان في ذلك استغلال لأفكار ما بعد الاستعمار، من قبل أقليات تعيش بالتأكيد، ضمن شروط صعبة جدا، وهم مواطنون فرنسيون، وليسوا تابعين، من بلاد مستعمرة سابقا، إنهم يستخدمون على نحو شرعي تماماً رأسمالاً رمزيّاً، كضحايا، للدفاع عن مكانهم، في الجدل الديمقراطي، ولكننا هنا في وضعية لا علاقة لها إطلاقاً مع ما هي عليه وضعية ما بعد الاستعمارية. هذه، على العكس، عرفت نقاشات، امتدت طويلا جدا، حول معنى ال«ما بعد» (post) في عنوانها حيث تبين أن ال«ما بعد» (post) المقصودة ليست «بعد»(après) كتسلسل تاريخي ولكن هي بالأحرى ما بعد (au_dèla) معرفي. إن المقصود بالذات هو نقد ما تبقى اليوم، من طرق الرؤية والتفكير، خلال المرحلة الاستعمارية، في العلوم الاجتماعية وربما في بعض المواقف المشتركة، في طرق النظر، إلى الناس الذين يأتون من مكان آخر. ولكننا نكون، إذّاك في نظرية المعرفة (épistemologie) لا في علم اجتماع اليوم .

إن «القرصنة» الأخرى، إذا أمكن القول لوسْم  (label) ما بعد الاستعمار، هي صنيع مؤرخي الاستعمار، الذين أعلنوا، أنهم ما بعد استعماريين، ليقدموا مظهراً جديداً لما ليس هو، في الحقيقة، سوى التاريخ القديم، ليسار الاستعمار. وهذه طريقة محترمة تماماً، وأوافقها إلى حد بعيد، في رؤية تاريخ التوسع الفرنسي وهو نمط تاريخ يظل غالبا، في سجل الإدانة والفضيحة والجرم، وعلى مسافة سنين ضوئية، من استبانات دقيقة للغاية، ومتطورة لدراسات ما بعد الاستعمار.

  إذاً، هل يمكن لدراسات ما بعد الاستعمار، أن تحمل شيئا للنقاش الفرنسي؟ أنا مقتنع بذلك، أعتقد أننا بحاجة في فرنسا لتفكير معمّق يهدف إلى إعادة تأسيس عقدنا الاجتماعي، وأن نتفحّص ما إذا كان في المجتمع الفرنسي لا مفكرٌ فيه استعماري، ينخر فيه من الداخل. نحن بحاجة إلى هذا النوع من النقاش، إلى هذه الدقة النظرية. فالتجربة الكبيرة لدراسات ما بعد الاستعمار، في نقاش هذه المسائل، يمكن أن تقدم بعض المساعدة. كان علينا أن نتجنب، مهما كان الثمن، تبسيطها أو اختصارها أو أن نجعل منها أدوات في نقاشات، لا تحمل لها شيئاً، كما فعلنا غالباً حتى الآن.

حياة الأفكار: هل لدراسات ما بعد الاستعمار مستقبل بعد مضي خمسين عاما على نهاية الامبراطوريات؟

جاك بوشيباداس: إذا أقررنا أن دراسات ما بعد الاستعمار هي: مرتبطة بدقة، بواقعة تاريخية محددة، أي الماضي الاستعماري للعالم الغربي، فلن يكون بوضوح مستقبل لدراسات ما بعد الاستعمار. وبالمقابل إذا رأينا أنها حقًّا حجة فرعية، لنقد استبانات العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، إذا رأينا بشكل خاص، إلى أي درجة لا تني تتجدد، بمقتضى عقل الزمن أو المسائل التي تنشأ، آنذاك، أعتقد أن الإجابة ستختلف. فإحدى النقاشات الضخمة التي دارت داخل وحول دراسات ما بعد الاستعمار، في البلدان الأنكلوسكسونية ،خلال العقد الأول من هذا القرن ،كانت لمعرفة إذا ما كانت  الإمكانات النقدية والمردود الفكري لدراسات ما بعد الاستعمار، تستطيع أن تحافظ على بقائها مع العولمة، ومع التغييرات الكبيرة، لتوازن القوى في العالم، بحيث يبدو أن التوازن الاستعماري لم يعد من مكوّنات الواقع، إذ أن عددا من مفكري مرحلة ما بعد الاستعمار لاحظوا ذلك بأنفسهم وتوقعوا أن تكون استبانات ما بعد الاستعمار، في طريقها إلى الاختفاء، وأنها ستخلي مكانها، قريباً، لشيء آخر. ينبغي أن نرى جيدا، من هذا الموقع، أن ثمة فكرة ما نسميه العولمة، التي هي ظاهرة جذرية بجدتها. وعليه فإن النقاش حول هذه المسألة، أبعد من أن يقفل. فالقرابة بين الاستعمار أو بالحري مرحلة السيطرة الاستعمارية، وعولمة اليوم قد أوضحها عدد كبير من المحللين. والعولمة-أستخدم الكلمة الإنكليزية -globilisation- ليست سوى التمدد الأقصى لما كانت عليه إمبريالية المرحلة الاستعمارية. وبالتأكيد لا يزال هناك الكثير، مما ينبغي فعله لنفهم العالم، الذي نعيش فيه اليوم، بالأدوات التي كانت بحوزتنا لشرح نظام العالم منذ قرن. ولكن هذا النقاش لم يقفل مرة أخرى، فدراسات ما بعد الاستعمار، هي بصدد دمج عدد كبير من الأبحاث (هي في الحقيقة مرتبطة بعمق بما كانت عليه في البداية) التي تأخذ في الحسبان ظاهرات معاصرة جدّاً. إذ أن عدداً من فروع دراسات ما بعد الاستعمار، غيّرت اسمها من «ما بعد الاستعمار» (poscolonial) ليصير «عابر للاستعمار» (transcolonial). ويبدو أنها تطور استبانات متمحورة حول مسألة الهيمنة، باتجاه استبانات تتناول أكثر حقائق التنقل، التبادل، التعايش وتدفق المهاجرين. إننا نسير باتجاه إندماج (fusion) هذين الحقلين: دراسات ما بعد الاستعمار ودراسات العولمة. ويمكن أن نفكّر في هذا الوضع المتحرك، أن دراسات ما بعد الاستعمار، في طريقها إلى التحوّل باتجاهٍ يعطيها عقد إيجار غير محدود، أو على أيّ حال، بأفق بعيد جدّاً. والمسألة بعد ذلك هي في معرفة إذا ما لا زلنا نستطيع تحديد حقل دراسات متقلّب، إلى هذا الحد. والصحيح أن دراسات ما بعد الاستعمار، تتطور منذ البداية في مناخ متعدد الاختصاصات (transdisaplinaire)، وفي جوّ جدل مستمر، وكانت تطمح لأن تكون محل استبانات متقاطعة، ذات نزعةٍ لاستثمار حقول الدراسات من الداخل، ولفتحها وخلع إطاراتها. ثمة شيء متكافئ مع الدراسات من النوع نفسه. ويمكن اعتبارها حقل دراسات خاص، ونستطيع أيضا اعتبار أن مسألة النوع، تطرح في كل ميادين الدراسات، وأن، ببساطة، ثمة  في كل حقل دراسة، نمطاً من الاستبانات يجعل تكاملية الحقل المعنيِّ، في موضع اتهام. وينبغي الاعتراف أن دراسات ما بعد الاستعمار نفسها، تتبدل بطريقة أخرى، هي على حدود المعقول :نرى راهناً من دراسات ما بعد الاستعمار، ما يُطبّق في الكرة الأرضية على مناطق لم تعرف أبدا الاستعمار، مثل الشرق الأقصى الصيني أو الياباني. وكان أن أنشئت نشرة في جامعة استوكهولم «أوروبا ما بعد الاستعمار» وهي تعنى بأوروبا الوسطى والشرقية، وتطبق دراسات ما بعد الاستعمار، على مراحل من التاريخ، هي خارج هذا الحقل كليّاً. إنك تجد دراسات ما بعد استعمار، تُطبق على العصور القديمة، وفي مجالات لم يعد لها علاقة تَمَاهٍ مع ما عنته أصلاً، وعلى سبيل المثال، دراسات إنجيلية ما بعد استعمارية. ولديك نزعة ما بعد الاستعمار، في الدراسات البصرية، وفي دراسات الإعلام. وعلى هذا الشكل، فإن الدراسات ما بعد الاستعمارية، تملك كل المستقبل الذي يمكن أن تطمع إليه!

---------------------------

[1]*ـ  العنوان الأصلي للحوار:  La portée contestataire des études postcoloniales

Entretien avec Jacques Pouchepadass                                                  

ـ المصدر: موقع "حياة الأفكار" على الأنترنت laviedesidees.fr بتاريخ: 16 أيلول / سبتمبر 2011.

ـ ترجمة: صلاح عبد الله.

[2] - Bennet, Lawtence, morris New keywors: A Revised Vocabulary of Culture and society, 2005, by Blackwell publishing LTD, oxford. pp. 225.