البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تعريف حقبة ما بعد الاستعمار ، الصراع على الهوية في الشرق الأوسط

الباحث :  صامويل هلفونت Samuel Helfont
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  12
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث :  686
تحميل  ( 278.376 KB )
مثّل مصطلح «الحقبة ما بعد الاستعمارية» إشكالية أساسية للمؤرخين المهتمين بالشرق الأوسط في القرن العشرين. وكما ستبين هذه المقالة بالتفصيل، فقد وفر الجدل القائم حول المصطلح محوراً مهماً دارت حوله النقاشات في الهوية السياسية. ولقد كان من آثار الحرب العالمية الثانية أن تفتتت القوة الأوروبية في الشرق الأوسط، ونشأ على أنقاضها عدد من الدول التي بررت وجودها من حيث أيديولوجيات محددة ترتبط بالهويات الناشئة في حقبة ما بعد الاستعمار. كما تتضمن المقالة مناقشة عامة للجدل القائم عن حقبة ما بعد الاستعمار، يتناول فيها الباحث دراسة حالات ثلاث، وهي: مصر والعراق وإيران.

المحرر

-------------------------------

أول مسألة ستتناولها هذه المقالة هي تعريف المصطلح الذي يدور عليه الحديث. يستخدم مصطلح «ما بعد حقبة الاستعمار» بطرائق ثلاث متميزة ولكن مترابطة. أولاً، وبشكل أساسي، يمكن استخدام المصطلح كمقولة زمانية؛ فقد ظلت إمبراطوريات متتالية تسيطر على الشرق الأوسط حتى القرن العشرين، وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تلك الإمبراطوريات في الغالب أوروبية. انهار الحكم الاستعماري خلال القرن العشرين فنشأت من بعده دول ما بعد حقبة الاستعمار. وبالطبع لا تثير هذه المسألة الكثير من الجدل، ولكنها ليست الطريقة الوحيدة التي يعرف بها ما بعد الاستعمار.

إلى ذلك، يستخدم مصطلح ما بعد الاستعمار لوصف نوع خاص من الدول ونوع خاص من السياسات. فالدول التي نشأت من بعد الإمبراطوريات الاستعمارية غالباً ما توارثت مؤسسات أنشأتها تلك الإمبراطوريات، وكان العديد من قادة تلك الدول الناشئة ضباطاً في جيوش يقودها البريطانيون أو الفرنسيون أو حتى العثمانيون. وتعود نشأة العديد من أجهزة الأمن في تلك الدول، كما هي الحال في العراق أيام سيطرة صدام حسين وشرطته السرية، إلى أيام القوى الاستعمارية، أي البريطانيين في حالة العراق. وصممت القوى الاستعمارية تلك المؤسسات للسيطرة على الجماهير من الأعلى، أو بعبارة أخرى: صممت لحماية الدولة من شعبها وليس لحمايتها من قوى عسكرية خارجية. يقول البعض بأن تلك المؤسسات استمرت في أداء ذلك الدور حتى بعد سقوط القوى الاستعمارية. لقد كان الحكم الاستعماري ظاهرة تعمل من الأعلى إلى الأسفل، أي أنها كانت مفروضة. ولذلك لا يجافي البعضُ الصوابَ حين يقولون أن الطبيعة غير الديموقراطية للدول التي نشأت من بعد نهاية الاستعمار ليست ديموقراطية.

ولأن الدول ما بعد الاستعمارية فُرضت من الأعلى، فقد كانت ضعيفة أيضاً، حيث واجهت مشاكل في تنفيذ سياساتها. ولكن المجتمعات ما بعد الاستعمارية وُصفت بأنها متينة لأن الناس اعتمدوا على شبكات اجتماعية بدلاً من مؤسسات الدولة لتلبية احتياجاتهم. فمثلاً، كان الاعتماد على أعيان القبيلة أو القرية بدلاً من المؤسسات الحكومية، وجاءت النتيجة أن واجهت هذه الدول مصاعب في تنفيذ سياساتها وكثيراً ما اضطرت إلى اللجوء إلى العنف.

كانت تلك الدول عرضة للانقلابات العسكرية، حيث حدث أكثر من عشرين انقلاباً عسكريّاً في الشرق الأوسط بعد حقبة الاستعمار. وكثيراً ما جرت هذه الانقلابات في موجات متعاقبة، ففي العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية حدثت أربعة انقلابات في سوريا وثلاثة في جارتها العراق. وفي أغلب الأحيان، عقّدت هذه الانقلابات من مشاكل الدول الضعيفة مقابل المجتمعات القوية. وعلى العموم، كانت هذه الانقلابات تحدث على أيدي مجموعة صغيرة من ضباط الجيش، وبسبب الطبيعة التي قامت عليها لم يثق قادة الانقلابات بمؤسسات الدولة التي تولوا حكمها حيث لم يريدوا أن يفعل أحد بهم ما فعلوه هم بغيرهم. ولكنهم لم يكونوا قادرين أن يستبدلوا ببساطة المؤسسات والبيروقراطيات القائمة، فكانت النتيجة أن واجهوا صعوبات في جعل الدولة، ناهيك عن المجتمع، تتصرف كما يودون.

لم تقع بعض دول الشرق الأوسط، على غرار تركيا أو إيران، تحت سيطرة الاستعمار رسميّاً، ولكنها أنشأت مؤسسات لا تختلف عن تلك القائمة في الدول ما بعد الاستعمارية. وكما سنناقش حالة إيران في ما بعد، واجهت هذه الدول مشاكل مماثلة لدول ما بعد الحقبة الاستعمارية. ومن هذه الحيثية، ومع أنها لا تقع ضمن التعريف الأول للدول ما بعد الاستعمارية، يعتبرها البعض كذلك بسبب بنية الدولة وسياساتها في هذه البلدان.

ومن الجدير بالذكر أن هذا التعريف للدولة ما بعد الاستعمارية لا يلقى قبول الجميع، بل في الواقع لا يزال موضع جدل حاد. يمكن للبعض أن يقول أن دور الإمبراطوريات الاستعمارية بولغ في أثره وتأثيره، وبأن هذه الدول لا تختلف عن غيرها من الدول الديكتاتورية. وقد واجهت الدول غير الديموقراطية التي لم تكن مستعمرة مشاكل في إدماج الناس في سياساتها، كما هي الحال في الاتحاد السوفيتي السابق مثلاً. وبعض الدول التي كانت مستعمرة حققت نجاحات أكبر بكثير من غيرها. ففي نهاية المطاف، لقد كانت دول على غرار كوستاريكا وإسرائيل وإيرلندا والولايات المتحدة مستعمرات، ولكن لا يبدو بأنها تندرج تحت هذا النموذج المطروح ضمن هذا التعريف.

ويمكن للبعض القول أن فرض الدولة لنفسها على الشعب لا ينحصر في الدول الديكتاتورية، بل تنطبق هذه الظاهرة على جميع الدول الأممية. وبهذا المعنى، عزى البعض المشاكل التي تواجهها الدول في الشرق الأوسط إلى سوء إدارتها أو ثقافتها السياسية، وليس لطبيعتها ما بعد الاستعمارية.

وطريقة أخرى يعرف بها مصطلح «ما بعد الاستعماري»، هو كنقد نشأ في ما بعد  الحداثة. ويقول المؤيدون لهذا النوع من التحليل ما بعد الاستعماري بأن ركائز ما نعتبره ظواهر للحداثة (مثل الليبرالية والأسواق الحرة والعلمانية إلخ...) ليست مفاهيم عقلانية نشأت من الجدل العلمي والمنطقي، وإنما هي مبانٍ اجتماعية تطورت من تجربة غربية –وفي الغالب مسيحية- خاصة. ولذلك فالحداثة غربية، والقوى الغربية هي من فرض الطرائق الغربية المرتبطة بالحداثة في الشرق الأوسط.

فيمكننا وصف العلمانية، مثلاً، بأنها مما تمخضت عنه الديانة المسيحية، حين أمر يسوع تلامذته بإعطاء «ما لقيصر لقيصر وما لله لله». وما ثمة مفهوم مواز لهذا في الإسلام. ولذلك يعتقد بأن العلمانية ترتبط بالمسيحية ولا يمكن فرضها عالميّاً كمعيارٍ شامل وكلي. ومن يزعم بأنه ينشر قيماً كلية هو في الواقع يوسع القوة الغربية إلى الشرق الأوسط، وسواء أحب هؤلاء هذا أم لا، فلطالما كانت هذه الهيمنة على مجتمعات الشرق الأوسط جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي.

أثارت انتقادات كهذه لما بعد الاستعمارية جدلاً، فيمكن للبعض القول بأن المشاكل التي يواجهها الشرق الأوسط كانت موجودة في الغرب أيضاً قبل عصر التنوير، وأن الفكر التنويري
ـ الذي نشير إليه بالحداثة ـ إنما انبثق من معارك طويلة مع نظم تقليدية أبوية تشابه الموجودة اليوم في الشرق الأوسط. ولم تنل المرأة حقوقها إلا بعد نضال شرس امتد في بعض أوجهه لأكثر من قرن من الزمن. ولا شك في أن النزعة الفكرية النسوية لم تكن المعيار السائد في معظم أحقاب التاريخ الغربي، فكيف لنا أن نزعم بأنه ظاهرة غربية أصيلة؟ وألا يشابه حرمان المرآة من حقوقها في الشرق الأوسط الحرمان الذي كان سائداً في الغرب؟ ويمكننا النقاش بالطريقة نفسها في ما يتعلق بجوانب أخرى من الحداثة؛ فالغرب في معظم أحقابه التاريخية لم يكن علمانيّاً، والكنيسة المسيحية بكل تأكيد لم تدعُ إلى العلمانية، فكيف لنا أن نزعم بأن العلمانية مندرجة في تعاليم المسيحية أو على الأقل مرتبطة معها؟ وهذا الجدل لا يزال دائراً أيضاً دون التوصل إلى حل له.

ما بعد الاستعمار والهوية السياسية

في معظم الحالات، لم تتخلَّ الإمبراطوريات الاستعمارية عن مناطق نفوذها بسهولة، ولطالما سعت الحركات المعادية للإمبريالية بين الشعوب المستعمرة إلى نيل الاستقلال. ولعبت الهوية دوراً رئيسيّاً في هذه الحركات المعادية للإمبريالية، وكثيراً ما اتخذت هذه الهوية صبغة مقصودة في معاداتها للإمبريالية. وبعبارة أخرى، عرفت الهوية نفسها بالعلاقة مع منظومة إمبريالية، وهذا وفي كثير من جوانبه لا يجافي المنطق؛ فإذا لم يكن لدى الشعوب هوية سياسية تختلف عن الإمبراطورية الحاكمة، فلماذا تطالب بالاستقلال أصلاً؟ ولذلك كثيراً ما حاول قادة حركات الاستقلال تأطير نضالهم ضمن حيثيات الهوية السياسية. واتخذت هذه الهوية في الشرق الأوسط وفي أغلب الأحيان منحىً يمزج بين القومية العرقية، والقومية المناطقية، والدين.

وتجلت هذه الهويات بأشكال مختلفة في مختلف الأماكن؛ ففي بعض الأحيان استخدمت حركات مختلفة في بلد واحد ركائز متشابهة ولكن شدد كل منها على ركيزة غير الحركات الأخرى. فالإخوان المسلمون في مصر استخدموا النزعة العروبية، والإسلام والهوية المصرية، ولكنهم ركزوا على الإسلام بالدرجة الأولى. أما جمال عبد الناصر، والذي سنناقشه في ما بعد، فاستخدم أوجه الهوية هذه كلها أيضاً، ولكنها ركز على العروبة أكثر من غيرها. كما كانت هناك حركات اشتراكية ترى الهوية من منظور الطبقة الاجتماعية. ويمكننا أن نجد المزج التاريخي والاجتماعي نفسه في تشكيل الهوية في بلدان أخرى؛ فسوريا ولبنان مثلاً لديهما هوية بحر-أوسطية وحتى فينيقية حاول البعض استغلالها، أما العراقيون فيمكنهم اللجوء إلى هوية الرافدين القديمة.

وحين تولت الحركات المعادية للإمبريالية السلطة بعد نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية، وما تلا ذلك من انقلابات، اضطلعوا بذلك باسم ما زعموا بأنه الهوية السياسية الحقيقية والأصيلة في بلدانهم، والتي قمعتها السلطة الاستعمارية وفقاً لتصوير هذه الحركات للتاريخ. وبذلك ارتبطت شرعية الدول التي يحكمونها بهويات سياسية محددة.

إلا أن معظم الدول ما بعد الاستعمارية في بلدان الشرق الأوسط كانت متنوعة إلى حد كبير، واشتملت على أناس لا يندرجون ضمن الهوية السياسية الأصيلة التي عرفتها تلك البلدان لنفسها. وكثيراً ما كانت الهويات السياسية التي شددت عليها الحركات المعادية للإمبريالية تمثل إما الطبقات الدنيا أو المتوسطة الدنيا، ولذلك لم تتوافق النخب والأقليات جيّداً مع التصنيف ما بعد الاستعماري للهوية حيث كانت هذه النخب والأقليات تحتل مواقع في السلطة ضمن النظم السياسية القديمة أو ترتبط بشكل أو بآخر مع النظام الإمبريالي القديم.

نظر إلى أناس كهؤلاء على أنهم غير مريحين، ولكنهم لم يختفوا ببساطة مع الاستقلال. وبهذا المعنى، كان على حكام بلدان ما بعد الاستعمار أن يواجهوا التوصل إلى تعريف لمعنى الاستقلال. فهل كان من الكافي نيل الاستقلال رسميّاً؟ أم هل كان عليهم التخلص من المنظومة الإمبريالية القديمة بالكلية، وبما في ذلك الناس الذين مثلتهم تلك المنظومة، واستبدال منظومة جديدة بها، تقوم على هويتهم السياسية الأصيلة المفترضة؟

وسوف نبحث بشكل أعمق ثلاث حالات لعرض مشاكلنا هذه.

الحالة الأولى: مصر

كان البريطانيون يسيطرون على مصر في مطلع القرن العشرين، وكانت مصر من أكثر بلدان الشرق الأوسط تنوعاً، فشملت أعداداً كبيرة من الأتراك واليونانيين واليهود والإيطاليين والعرب الشاميين. تواجدت بعض هذه المجتمعات في مصر لقرون من الزمن، ونشأت طبقات من الناس لا يتكلمون إلا اللغة الفرنسية أو الإيطالية ولا يكادون يتقنون إلا أقل القليل من اللغة العربية. وكانت الإسكندرية متنوعة السكان بشكل خاص، فموقعها على ساحل المتوسط جعلها موئلاً تاريخيّاً لأعداد كبيرة من السكان اليونانيين والإيطاليين واليهود. كان يشار إلى هؤلاء السكان غير المتكلمين باللغة العربية بـ«المتمصرين»، وكثيراً ما كانت لديهم روابط مع النخب الحاكمة وشبكات الأعمال التجارية الدولية.

وعادة ما يقدم أدب المذكرات العائد إلى تلك الحقبة تفاصيل ممتازة عن هذا التنوع؛ فوصف آندريه آسيمان في كتابه «خارج مصر» عمه بأنه «يهودي تركي إيطالي مائل إلى الإنجليزية وفاشي مائل إلى الطبقة المخملية، بدأ حياته ببيع الطرابيش التركية في برلين وفيينا، وانتهى به الأمر بأن كان المزاود الأخير على أملاك الملك فاروق، حاكم مصر المخلوع». وحتى داخل مصر، كان يمكن للمرء أن يعيش حياة متنوعة للغاية، فوالد لوتشيتي لانيادو لم يخرج من العالم العربي قط، ولكنه وكما وصفه في كتابه: «الرجل في بدلة جلد سمك القرش الأبيض»: «كان يبدأ نهاره بالصلاة مع غيره من اليهود، ثم يجري الأعمال التجارية مع تجار استعماريين فرنسيين ورواد أعمال يونانيين. وكان يقامر مع مصريين أثرياء، وبما في ذلك الملك نفسه في بعض الأحيان، ويختلط اجتماعيّاً مع الضباط البريطانيين المقيمين في القاهرة».

حين نالت مصر استقلالها في عام 1922، لم يعان هذا الحشد المتنوع من تبعات ذلك أول الأمر. فقد ظل النظام الملكي الحاكم متولّياً لأمور مصر، وحافظ على علاقاته الوثيقة مع البريطانيين والشبكات الدولية. ولكن الحركات المعادية للإمبريالية سرعان ما بدأت تتشكل في مصر، ولم تدعُ فقط إلى الاستقلال الرسمي، بل أيضاً إلى قطع العلاقات مع بريطانيا وإزالة بقايا المنظومة الاستعمارية من مصر. رغب الإسلاميون، مثل الإخوان المسلمين، في بناء دولة إسلامية، أما القوميون فرغبوا في إقامة جمهورية.

انتصر القوميون آخر الأمر تحت قيادة جمال عبد الناصر بعد الإطاحة بالملكية في عام 1952. وعبر نصف العقد التالي، طردوا البريطانيين من مصر وأنشأوا جمهورية. في أول الأمر، وضع عبد الناصر أيديولوجيا تستند إلى دوائر ثلاث من الهوية، وهي الهوية العربية والأفريقية والإسلامية، ولكن النزعة العروبية سرعان ما هيمنت.

وسرعان ما قمع عبد الناصر الإسلاميين الذين تعانوا معه في الإطاحة بالملكية، وإن ظلوا على غير وفاق معه بسبب اختلاف هويتهم السياسية. وأقر النظام الحاكم الجديد، باسم العروبة، قوانين تحد من حقوق المتمصرين وغيرهم من النخب المرتبطين مع المنظومة الاستعمارية القديمة في مصر. ففرض استخدام اللغة العربية حصراً في مؤسسات الدولة –كالمدارس والبيروقراطيات. كانت هذه المؤسسات متعددة اللغات سابقاً، وواجه عدد كبير من المنتمين إلى النخب المصرية القديمة مشاكل في التعامل باللغة العربية. كما أمم النظام العديد من الأعمال التجارية التي يملكها المتمصرون. خلال الفترة الاستعمارية، نال العديد من غير العرب المنتمين جنسيات من قوى أجنبية مختلفة كوسيلة لنيل حماية السلطات المحلية ودفع مصالحهم المالية، ولكن معظم من تلقى الجنسية كانوا من سكان مصر الأصليين، وفي بعض الأحيان لم يزوروا أبداً البلد الذي أعطاهم جواز السفر. وبينما كانت الجنسية الأجنبية مفيدة أثناء حقبة الاستعمار، أصبحت مشكلة تحت حكم عبد الناصر القومي العربي. وفي نهاية المطاف، طرد عبد الناصر أو أجبر على الخروج معظم غير العرب من المصريين (اليهود واليونانيين والإيطاليين إلخ). حدثت أكبر عمليات الإجلاء هذه كردة فعل على أزمة قناة السويس في عام 1956 حين أمم عبد الناصر القناة، فغزاها كل من البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين. في ذلك الوقت، صور عبد الناصر المصريين غير الناطقين بالعربية كعملاء أجانب، وبالتالي غير مصريين، وأجبرهم على المغادرة. فكانت النتيجة أن مصر أصبحت أكثر عروبة وأقل تنوعاً على مر الستين سنة الماضية.

الحالة الثانية: العراق

الحالة الثانية هي العراق، وكانت ولاية عثمانية، ثم وقعت تحت الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. حين سيطر البريطانيون على العراق بعد الحرب، عينوا القومي العربي السني فيصل ملكاً على العراق، مع أنه في الأصل من الحجاز (الواقعة اليوم في المملكة العربية السعودية)، فلم يكن عراقياً في الواقع. ولكنه حارب جنباً إلى جنب مع الضابط البريطاني «لورنس العرب» خلال الحرب، وأعطيت العراق له مكافأة على جهوده. فهو وإن كان قوميّاً عربيّاً، إلا أنه كان مديناً لبريطانيا بعرش العراق.

لم يحظ العراق بقدر التنوع نفسه الذي حظيت به مصر، إذ لم يكن لدى البلد الكثير من الارتباطات الأجنبية. ولكنه كان أكثر تنوعاً من حيث السكانُ الأصليون بكثير، ففيه العرب السنة والشيعة، والأكراد السنة والشيعة، والتركمان، ومختلف الطوائف المسيحية (الأشوريون والكلدانيون والكاثوليك والأرمن والأرثوذكس، بل وحتى البروتستنت)، وكذلك اليهود والبهائيون والأيزديون وغيرهم. وفي العديد من مناطق العراق، شكل هؤلاء السكان نسبة كبيرة. فمثلاً، وإن كان يصعب تصديق هذا اليوم، كان أكبر مجتمع محلي في بغداد خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين يتألف من اليهود.

وكما هي الحال في مصر، نظرت الأقليات الدينية واللغوية إلى الإمبراطوريات الحاكمة رغبة في الدعم. وقد فعلوا ذلك تحت حكم العثمانيين، وثانية تحت حكم البريطانيين. وهذا جعل مصالح هذه الفئات تتوافق مع مصالح الحكام الإمبرياليين، وتسبب لهم بالمتاعب حين غادر هؤلاء الحكام.

فالأشوريون مثلاً، خدموا في الجيش البريطاني، وهو ما أبغضه العديد من المسلمين حين حظي العراق بالاستقلال في عام 1932، فجرت حوادث انتقام من الأشوريين جراء ذلك. وفي عام 1933 ذبح عدد كبير من الأشوريين في شمال العراق ودمرت قراهم في شمال العراق.

وكان لدى اليهود أيضاً روابط وثيقة مع البريطانيين، ورأى عدد كبير من اليهود العراقيين في الطبيعة العالمية للإمبراطورية البريطانية فرصة لإنشاء أعمال تجارية كبيرة وناجحة، وامتدت هذه الأنشطة من بغداد إلى مانشستر في إنجلترا إلى الهند. فهائلة ساسون المشهورة مثلاً كانت عراقية ويهودية. ولكن وبعد مغادرة البريطانيين، رأى القوميون العراقيون في اليهود جيوباً للنظام الاستعماري القديم، وصوروا كأجانب مع أن بعضهم ظل عراقيّاً لأكثر من ألفي عام، أي منذ النفي البابلي الذي وصفه الكتاب المقدس، فغادروا البلاد جماعيّاً في أوائل خمسينات القرن الماضي ولم يتبق منهم أحد اليوم.

عانى العراق من عدد كبير من الانقلابات في منتصف القرن العشرين، وفي آخر الأمر تولى حزب البعث السلطة في عام 1968. كان صدام حسين هو القائد في الظل في حزب البعث حتى تولى الرئاسة بنفسه في عام 1979. كان البعثيون قوميين عرباً متطرفين ورأوا في العراق بلداً ذا هوية عربية خالصة، وهذا جلب لهم النزاع مع مختلف الأنسجة الاجتماعية التي يتألف منها العراق. وضعت مجتمعات الأقليات المختلفة في العراق استراتيجيات مختلفة للتعامل مع البعثيين وفقاً لمختلف الظروف؛ فلم يضطهد الشيعة لكونهم شيعة بل لأنهم بسبب ما اعتقد بأنه روابط مع إيران والفرس. فكان الشيعة المنتمون إلى حزب البعث قادرين على الوصول إلى مراتب عالية. أما الأشوريون، وهم مجموعة عرقية ودينية ولغوية مختلفة عن العرب، فظلوا قادرين على الحفاظ على هويتهم الدينية وواجهوا قدراً أقل من المشاكل مع النظام البعثي حيث مثلوا أنفسهم كمسيحيين أشوريين عرب لا كطائفة عرقية منفصلة. ظل البعثيون، ولا سيما تحت حكم صدام حسين، ينظرون بعين الشك إلى الأكراد وتعاملوا بقسوة معهم، فنقلوا العرب إلى مناطق كردية استراتيجية وحاولوا تغيير ديموغرافيتها. كانت أشد التكتيكات قسوة استعمال الغاز الكيميائي ضد الأكراد في أواخر ثمانينات القرن الماضي حول منطقة حلبجة.

وكما هو متوقع، أصبح العراق أقل تنوعاً مع مرور السنوات، فلم يعد فيه يهود والمجتمعات المسيحية تتضاءل ولربما تتلاشى بالكلية. وواجهت مجموعات مثل الأيزيديين مشاكل مؤخراً. فإذاً، وكما هي الحال في مصر، حدثت عملية توحيد عرقي ولغوي في العراق.

الحالة الثالثة: إيران

آخر حالة تتناولها هذه الدراسة هي إيران. يمكن للبعض أن يتساءل عما إذا كانت حالة إيران مناسبة في هذا السياق، فمن البيِّن أنها ليست «ما بعد استعمارية» بالطريقة التي يمكن بها أن ننظر إلى مصر والعراق حيث لم تستولِ عليها قوة استعمارية قط. في النصف الأول من القرن العشرين قسم البريطانيون والروس إيران إلى مناطق نفوذ، ولكن البلاد لم تصبح قط جزءاً من إمبراطورية أوروبية. ورغم ذلك، برز في إيران القدر نفسه من معاداة الاستعمار والإمبريالية الذي ظهر في غيرها من بلدان الشرق الأوسط. فلقد دعمت القوى الغربية أسرة بهلوي التي تولى أفرادها منصب الشاه خلال القرن العشرين. وجرت أكثر الحوادث إثارة للجدل في هذا السياق في عام 1953 حين هدد رئيس الوزراء محمد مصدق المصالح الغربية عبر تأميم الصناعة في إيران. دعم كل من الأميركيين والبريطانيين الإطاحة بمصدق، وأعادوا الشاه المحابىَ للغرب إلى الحكم بعد هروبه في أثناء الأزمة.

تشكل في إيران العديد من الحركات السياسية والدينية المعادية للسيطرة الاستعمارية. وكما هي الحال في العديد من البلدان الأخرى في حقبة ما بعد الاستعمارية، فقد تصورت هذه الحركات السياسات الغربية كإمبريالية جديدة. واجتمعت هذه الحركات في عام 1979 لتتعاون وفقاً لإطارها المعادي للإمبريالية. ومقابل نجاح القوميين في مصر الذي تبعه قمع الاشتراكيين والإسلاميين، نجح الإسلاميون في إيران وقمعوا القوميين والاشتراكيين. إلا أن التشابه بين النمطين واضح.

وبعد تولي السلطة، حكم الإمام الخميني إيران باسم الإسلام الشيعي الممزوج ببعض القومية الفارسية. فقام جدل حاد حول تسمية الخليج بالفارسي أو العربي (والأخير هو الاسم المحبذ لدى البلدان العربية والولايات المتحدة). وظل الجدل قائماً حتى جرى رفض إعادة تسمية الخليج بالخليج الإسلامي، إذ صمم الإيرانيون على أنه الخليج الفارسي. وأحدثت النزعة القومية الفارسية مشكلة في إيران نفسها، فمع اعتبار العديد من الناس بأن الإيراني يتماهى مع الفارسي، ولكن هذا بخلاف الواقع. فالفرس طائفة عرقية ولغوية تؤلف 50-60 في المائة من سكان إيران. وكما هي الحال في غيرها من الدول ما بعد الاستعمارية، اعتمدت إيران الإسلامية ما اعتبرته هوية سياسية حقيقية وأصيلة (التشيع الفارسي) كبديل لما رأت فيه المنظومة الاستعمارية القديمة، فارضة هذه الهوية على مجتمع لا يتماهى بمجمله معها. وفي هذه العمليات همشت اللغات الأخرى وحدت حقوق الأقليات والمجموعات الدينية الأخرى. وبهذه الطريقة، ومع أن إيران لم تتعرض للاستعمار قط، فقد واجهت العديد من القضايا التي نشأت مع أفول شمس الإمبراطوريات الاستعمارية.

الخلاصة

كما يظهر في حالة إيران، فليست كل الدول التي تظهر عليها نزعات ما بعد استعمارية كانت تحت الحكم الاستعماري. وعلاوة على ذلك، وكما هو مذكور من قبل، فبعض الدول التي استعمرت سابقاً لم تظهر عليها هذه النزعات. فلا يزال الجدل دائراً حول مدى فائدة استخدام مصطلح «ما بعد الاستعمار». إلا أن الحجج المؤيدة عن ما بعد الاستعمار والبلدان ما بعد الاستعمارية لا تزال مهمة في تاريخ الشرق الأوسط، وأرجو أن يوضح هذا المقال الجدل الدائر حول هذا الموضوع بشكل أفضل.

-----------------------------------

[1]* - باحث في العلاقات الدولية – جامعة فيلادلفيا – أميركا.

- العنوان الأصلي للمقالة:    POST-COLONIAL STATES AND THE STRUGGLE FOR IDENTITY                                  

 IN THE MIDDLE EAST SINCE WORLD WAR TWO                                                                                                       

- المصدر:  Forgeign Policy Research Institute- Footnotes – October 2015.

- ترجمة: رامي طوقان – مراجعة: جاد مقدسي.