البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفهوم الدين وتصنيف الأديان ، التحليل العلميّ والرؤى الفلسفيّة

الباحث :  مصطفى النشار
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  4546
تحميل  ( 438.041 KB )
نقرأ في هذه الدراسة للباحث المصري مصطفى النشار مفهوم الدّين والرؤى الأديانيّة المختلفة لهذا المفهوم، انطلاقاً من تأسيس كلِّ دينٍ لماهيّته والغاية الإلهيّة منه، كما يمضي إلى عقد رؤيةٍ تحليليّةٍ لموقف الأديان من العلم سواءً في الفضاء الإسلامي أو في الفضاء الغربي المسيحي، قاصداً جلاء جملةٍ من المجهولات المعرفيّة المتّصلة بهذا الشأن.

المحرر



الدّين، ذلك اللفظ الساحر الذي ما أنْ يسمعه أيُّ امرؤٍ حتى يهتزّ وجدانه، إنّه جوهرُ الحضارات الإنسانيّة عبر العصور وإن علاَ شأنه في بعض الحضارات وابتعد عن الصورة في بعضها الآخر. ومع ذلك يظلّ الدّين أحد المنجزات البشريّة التي تضافرت الفطرة فيها، الفطرة التي فطر اللّهُ الناسَ عليها، مع الرسالات السماويّة التي أرسلها الله لهداية البشر في تجنيب الإنسان الخوف من الأساطير الكثيرة حول معبوداته التي ابتدعها منذ فجر التاريخ، وجعله يهتدي إلى الإله الواحد الأحد. ومع ذلك فلا تزال حتى وقتنا هذا الديانات الطبيعيّة التي يمكن أن نطلق عليها دياناتٌ فلسفيّةٌ باعتبارها صناعةً إنسانيّةً إلى جوار الديانات السماوية، كما أنه لا تزال هناك دعواتٌ وتياراتٌ إلحاديّةٌ رافضةٌ للإيمان بالوجود الإلهي على أيِّ شكلٍ من الأشكال. هذا هو الإنسان وهذه هي جِبلّته التي خلقه الله عليها كما ورد في الآيات البيّنات للقرآن الكريم في مثل قوله تعالى: «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، «ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها»، «لكم دينكم ولي دين». وفي الآية الأخيرة ما يشير حتما ًإلى أن الإنسان وإن لم يكن من المؤمنين بوجود خالقٍ للكون، فهذا بحدّ ذاته يعدّ عقيدةً وديناً!!

ولعلّ هذا هو ما يدعونا بدايةً إلى تعريف الدّين لغةً واصطلاحاً حتى تتضح الصورة في ما يتعلق بمعنى الدين والمقصود باللفظ ذاته لغةً واصطلاحاً.

أولاً: المعنى اللغوي للدين:

إن الدّين كما عرّفه «المعجم الوجيز» هو «اسمٌ لجميع ما يتديّن به وجمعه أديان» أما المعنى الحرفي للفظة الدين فلها معاني شتّى عند العرب؛ يقال: دانه ديناً أي جازاه ومصداق ذلك قوله تعالى: «إنا لمدينون» أيْ مجزيون ومحاسبون على أفعالنا، ومنه الديّان وهي صفةٌ من صفات الله جل وعلا، والدين: الجزاء، والدين: الحساب، كما في قوله تعالى: «مالك يوم الدين»، والدين: الطاعة وقد دنته ودنت له، أي أطعته، والجمع: الأديان. والدين: العادة والشأن كما في قول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني أي عادتي.

أما القاموس المحيط، للفيروز آبادي فيعرّف الدين بأنّه ماله أجل كالدِينة (بالكسر): أدين وديون ودِنته (بالكسر) وأدنته، أعطيته إلى أجلٍ وأقرضته، ودان هو أخذه، ورجلٌ دائنٌ ومدينٌ ومدان. والدِّين (بالكسر): الجزاء وقد دنته بالكسر ديناً، وقد دنت به (بالكسر): العادة والعبادة.

ونفس هذه المعاني اللغوية لدى الرازي في «مختار الصحاح» حيث يقول «الدين بالكسر: كالعادة والشأن، ودانه يدينه ديناً بالكسر: أذلّه واستعبده فدان. وفي الحديث: الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والدّين أيضاً: الجزاء والمكافأة: يقال دان يدينه ديناً أي جازاه. يقال «كما تدين تدان» أي كما تُجازي تُجازى بفعلك وبحسب ما عملت. والدين أيضاً الطاعة. ومنه الدين والجمع الأديان.

ويتضح من كلِّ هذه التعريفات اللغويّة أنّ الدين في اللّغة هو العادة والحالة التي يكون عليها الإنسان مطيعاً وذليلاً أمام دائنه، ينتظر الجزاء منه بحسب عمله. إن الدين إذاً حالةُ المرء إزاء شأنٍ ما، ولا شكّ أن هذا المعنى اللّغوي بكلِّ اشتقاقاته يجعلنا أمام طرفين؛ طرفٌ أعلى وطرفٌ أدنى، والدين هو حالةٌ للطرف الأدنى الذي هو محتاجٌ للطرف الأعلى. ومن هنا ارتبط الدين بالاستسلام والطاعة للمعبود، كما يستسلم المرء لمن يدينه ويستكين طاعةً له وذُلاًّ في الطلب.

أما في اللّغات الغربيّة الإنجليزية والفرنسية فكلمة Religion مشتقّةٌ عن اللاتينية Religio وهي تعني بشكلٍ عامٍ الإحساس المصحوب بخوفٍ أو تأنيبِ ضمير، بواجبٍ ما تجاه الآلهة.

وبوجهٍ عام فإنّ الدين سواءً في اللّغة العربيّة أو في اللغات الأخرى من دان أي خضع وذلّ، ومنها دان بكذا فهي ديانةٌ وهو دينه، وتديّن به أي أصبح متديناً. والكلمة إذا أطلقت يُراد بها: ما يتديّن به البشر، ويدين به من اعتقادٍ وسلوك. وبمعنى آخر هي طاعة المرء والتزامه بما يعتنقه من فكرٍ ومبادئ. ويميّز في اللغة العربية بين الدين باعتباره العادة أو الشأن أو الحال، وبين التديّن الذي هو الخضوع، والاستعباد، والديّان التي تطلق على الإله الخالق الذي يوكل إليه في النهاية الحساب من ثوابٍ وعقابٍ حيث ينبني الدين على المكافأة أو الجزاء فيجازى الإنسان على عمله إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر. 

وأديانٌ هي جمع دين: أما رجال الدّين فهم المطيعون المنقادون، وقد يُحمّل الدينُ الإنسانَ ما يكره، ومن هنا تأتي كلمة الدين بمعنى القرض، إما بالأخذ أو بالعطاء في ما كان له أجل، كما أجله الجزاء والحساب والطاعة والمواظبة والغلبة والاستعلاء والسلطان والملك والحكم والحاسب والمُجازي الذي لا يضيّع عملاً بما يجزي بالخير والشر؛ ففي الديانة: عزّةٌ ومذلّةٌ، وطاعةٌ وعصيانٌ، وعادةً في الخير أو الشر والابتلاء.

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي للدين:

تتعدد التعريفات الاصطلاحيّة للدين حسب جهة النظر التي يؤمن بها ويعتقد فيها صاحب التعريف؛ فالفلاسفة المحدّثون أكّدوا على عدّة معانٍ للدين منها «أنه جملةٌ من الإدراكات والاعتقادات والأفعال الحاصلة للنفس من جرّاء حبّها لله، وعبادتها إياه، وطاعتها لأوامره». ومنها «أن الدّين هو الإيمان بالقيم المطلقة والعمل بها، كالإيمان بالعلم أو الإيمان بالتقدّم أو الإيمان بالجمال أو الإيمان بالإنسانيّة، ففضل المؤمنون بهذه القيم كفضل المتعبّد الذي يحبّ خالقه ويعمل بما شرّعه لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بما يتّصف به من تجرّدٍ وحبٍّ وإخلاصٍ وإنكارٍ للذات»، ومنها أن «الدين مؤسسةٌ اجتماعيّةٌ تضمّ أفراداً يتحلّون بالصفات الآتية: 

أ- قبولهم بعض الأحكام المشتركة وقيامهم ببعض الشعائر. 

ب- إيمانهم بقيمٍ مطلقةٍ وحرصهم على تأكيد هذا الإيمان وحفظه.

ج- اعتقادهم أن الإنسان متصلٌ بقوّةٍ روحيّةٍ أعلى منه، مفارقة لهذا العالم أو سارية فيه، كثيرة أو موحدة «.

وإذا ما انتقلنا من هذه الكلمات العامة إلى معانٍ محدّدةٍ أعطاها بعض الفلاسفة للدين فنجد أن اميل دوركايم اعتبر أن «الدين مؤسسةٌ اجتماعيّةٌ قوامها التفريق بين المقدّسٍ وغير المقدّس، ولها جانبان أحدهما روحيّ مؤلّفٌ من العقائد والمشاعر الوجدانيّة، والآخر ماديّ مؤلفٌ من الطقوس والعادات».

وبالطبع فإنّ التعريف الذي قدّمه دوركايم هنا يتسق مع منظوره الاجتماعي للدين، فهو في واقع الأمر تعريفٌ للدين من خلال التحليل الاجتماعي والفكري للمؤمنين والتمييز بين المقدّس وغير المقدّس، والتمييز بين الروحي والمادي في العقيدة وممارسة الشعائر.

أما التعريف الذي يقدّمه لنا وايتهد فيقول: إنّ الدين عيانٌ لشيءٍ يقوم في ما وراء المجرى العابر للأشياء المباشرة، أو خلف هذا المجرى، أو في باطنه؛ شيءٌ حقيقيٌّ ولكنه مع ذلك لا يزال ينتظر التحقق، شيءٌ هو بمثابة إمكانيّةٍ بعيدة، ولكنّه في الوقت نفسه أعظم الحقائق الراهنة؛ شيءٌ يخلع معنى على كلّ ما من شأنه أن ينقضي ويزول ولكنّه مع ذلك يند عن كل فهم؛ شيءٌ يعدّ امتلاكه بمثابة الخير الأقصى ولكنّه في الآن نفسه عصيٌّ بعيدُ المنال، شيءٌ هو المثل الأعلى النهائي ولكنّه في الوقت نفسه مطلبٌ لا رجاء فيه».

ويغلب على هذا التعريف بالطبع المنحى الصوفي إذ إنّه نابعٌ عن خبرة صاحبه الدينية الخاصة، وربما يتفق ولتر ستيس مع وايتهد في هذا التعريف الحدسي الصوفي للدين حيث إنّه يعلّق عليه قائلا بأن «الدّين هو تعطش النفس إلى المستحيل؛ إلى ما هو بعيد المنال، إلى ما يفوق التصور.. وأن الدين ينشد اللامتناهي؛ واللامتناهي بحكم تعريفه مستحيلٌ أو بعيد المنال فهو إذن بحكم تعريفه ما لا سبيل إلى بلوغه أبدا.. والدين أيضاً ينشد النور ولكنّه النور الذي لا يمكن العثور عليه في أيّ مكان، أو في أيّ زمان. إنه ليس موجوداً في أيّ مكانٍ أو هو النور الذي لا وجود له أصلاً في عالم المكان.. إنّ الدين هو النزوع إلى قطع العلائق مع الكينونة والوجود معاً أو هو الرغبة في التحرّر تماماً من أغلال الكينونة.. إن الدّين هو هذا النهم الذي هيهات لأيِّ وجودٍ ماضياً كان أم حاضراً أم مستقبلاً، بل هيهات لأيِّ وجودٍ فعليٍّ أو لأيِّ وجودٍ ممكنٍ في هذا العالم أو في أيِّ عالمٍ آخر على الأرض أو فوق السحب والنجوم مادياً كان أو نفسياً أم روحياً، هيهات له أن يشبعه..». 

أما الدين من منظور علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا فهو «مجموعة الأفكار المجرّدة والقيم أو التجارب القادمة من رحم الثقافة، ولذلك فالدّين هو رؤيةٌ لا غنى عنها في العالم تحكم الأفكار الشخصية والأعمال، والمعتقد الديني يرتبط عادةً بالطبيعة، الوجود، وعبادة إلهٍ واحدٍ أو آلهة، وإشراك الآلهة في الكون والحياة البشريّة وقد يتعلّق ذلك بالقيم والممارسات التي تنتقل من قِبل الزعيم الروحي للديانة في بعض الديانات، أما في الديانات الإبراهيميّة (السماوية) فمعظم المعتقدات الأساسية قد كشفت من خلال الإله (أي عبر الوحي الإلهي لأحد الأنبياء أو الرسل). 

وإذا انتقلنا من هذه التعريفات العامة والفلسفيّة والأنثروبولوجية إلى المنظور الإسلامي لتعريف الدين فإنّ الدين عند فلاسفتنا القدامى يُطلق «على وضعٍ إلهيٍّ يسوق ذوي العقول إلى الخير».

وهذا المعنى الذي أشار إليه تحديداً أبوالبقاء في كتابه «الكلّيات» حينما قال في معرض تعريفه للدين أنه «عبارةٌ عن وضعٍ إلهيٍّ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات قلبياً كان أو قالبيّاً كالاعتقاد والعلم والصلاة. وقد يتجوّز فيه فيطلق على الأصول خاصة فيكون بمعنى الملّة، وعليه قوله تعالى: «دينا قيما ملّة إبراهيم» (سورة الأنعام- آية 161)، وقد يتجوّز فيه أيضاً فيطلق على الفروع خاصة، وعليه «ذلك دين القيمة» (البينة- آية 5)، أي الملّة القيّمة يعني فروع هذه الأصول. والدين منسوبٌ إلى الله تعالى. والملّة إلى الرسول، والمذهب إلى المجتهد، والملّة اسمٌ ما شرّعه الله لعبادهِ على لسان نبيّه ليتوصّلوا به إلى أجل ثوابه، والدين مثلها، لكن الملّة تقال باعتبار الدعاء إليه، والدين باعتبار الطاعة والانقياد إليه».

وفي نفس السياق يتحدث الجرجاني في تعريفه للدين حيث يقول «أنه وضعٌ إلهيٌّ يدعو أصحاب العقول إلى ما هو عند الرسول صلّى الله عليه وسلم. الدين والملّة متّحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار؛ فإن الشريعة من حيث إنها تطاع تسمّى ديناً، ومن حيث إنها تجمع تسمّى ملة. ومن حيث إنها يُرجع إليها تسمّى مذهباً، وقيل الفرق بين الدين والملّة، والمذهب أن الدين منسوبٌ إلى الله تعالى، والملّة منسوبةٌ إلى الرسول، والمذهب منسوبٌ إلى المجتهد».

ولنأخذ في الاعتبار من التعريفين السابقين التمييز الدقيق لدى العلماء المسلمين بين الدّين والملّة والمذهب، فهذه مصطلحات ثلاث وإن كان بينها ارتباطٌ حيث إنّها كلّها تعود إلى الأصل وهو الدين، فالملل يمكن أن تتعدّد بتعدّد التابعين لهذا الدين أو ذاك تبعاً لوجود أتباعه جغرافياً وبيئيّاً وثقافياً، إذ تتلقّى هذه الجماعات الدين بصور قد تختلف في بعض التفاصيل. وبالنسبة إلى الدين الإسلامي فالمسألة ربما تكون أكثر وضوحاً حيث إنّ الدين من الله (أي من الوحي)، والملّة هي ملة الرسول والأنبياء وآخرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في (السنة النبوية الشريفة)، والمذهب يعود إلى أولئك المجتهدين، بالقياس على أصل الشريعة في القرآن والسنة النبويّة، مثل اجتهادات الأئمة الأربعة أو غيرهم من أصحاب المذاهب الفقهية.

وعود إلى بدء فإنّ تعريف الدين عموماً من زاويةٍ فلسفيّةٍ في المعجم الفلسفي هو «أن الدين يُعبّر عن المطلق في إطلاقه وعن المحدّد في محدوديته وعن العلاقة بينهما. ولهذا يتصف أيّ دينٍ بما يأتي: 

أ- ممارسة شعائرٍ وطقوسٍ معيّنة.

ب- الاعتقاد في قيمةٍ مطلقةٍ لا تعدلها أيّ قيمة أخرى.

ج- ارتباط الفرد بقوّةٍ روحيّةٍ عليا وقد تكون هذه القوّة متكثّرةً أو أحادية. 

ولعلّ هذا هو ما يقودنا إلى التأكيد على أنّ ثمة خصائص تتميز بها الأديان ومن أهم هذه الخصائص:

- الإيمان بوجود إلهٍ أو كائنات فوق طبيعية، فمعظم الأديان تعتقد بوجود خالقٍ واحدٍ أو عدّة خالقين للكون والعالم قادرين على التحكم بهما وبالبشر وكافّة الكائنات الأخرى. 

- التمييز بين عالم الأرواح وعالم المادة.

- وجود طقوسٍ عباديّةٍ يقصد بها تبجيل المقدّس من ذاتٍ إلهيّةٍ وغيرها من الأشياء التي تتصف بالقدسيّة.

- قانونٌ أخلاقيٌّ أو شريعةٌ تشمل الأخلاق والأحكام التي يجب إتباعها من قبل الناس ويعتقد المؤمنون عادةً أنها آتيةٌ من الإله.

- الصلاة وهي الشكل الأساسي للاتصال باللّه أو الآلهة وإظهار التبجيل والخضوع والعرفان. 

- رؤيةٌ كونيّةٌ تشرح كيفيّة خلق العالم وتركيب السموات والأرض وبعض الأديان تحتوى على آليّة الثواب والعقاب أي كيف ينظم الإله شؤون العالم.

- شريعةٌ أو مبادئ شرعيّة لتنظيم حياة المؤمن وفقاً للرؤية الكونيّة التي يقدّمها هذا الدين.

ويمكن في هذا الإطار الذي ينظر إلى خصائص الأديان بشكلٍ عام أيّاً كان نوعها وصورتها وعصرها التأكيد على ثلاث حقائقٍ أو مستوياتٍ مشتركة بين هذه الأديان:

- أن الدّين- أيُّ دينٍ- يقدّمُ تفسيراً لعالم الوجود وموضع الإنسان، وهي بمثابة المقولات التي يطلق عليها «عقائد الدين».

- إن من شؤون الدّين أن يقول لأتباعه عليكم أن تتحركوا بمنهجيّةٍ خاصة في واقع الحياة وأن تعملوا بهذه التوصيات التي يطرحها هذا الدين في إطار مجموعةٍ من التعاليم التي تمثّل القسم الثاني للدين أي «التعاليم الأخلاقية».

- «عباداتٌ دينيّةٌ» وهو ما يجسّد المستويين السابقين، وهي مجموعةٌ من الأعمال والسلوكيات الرمزيّة والشعائريّة ومجموعة هذه الأعمال مثل الصلاة والصوم والحج..إلخ.

ومن ثم فإنّ الدين عمومًا ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ في الأغلب الأعم وهي:

العقائد الدينيّة.   2 - الأخلاق الدينيّة.   3 - العبادات الدينيّة.

وفي هذا السياق أيضا ينبغي الإشارة إلى أنّ الدين، أيُّ دين، له خمسة أسسٍ وثوابتٍ محدّدةٍ وهي: 

- مؤسّس الديانة: وهو الشخصيّة التي أسست العقيدة وحدّدت ثوابتها ونظّمتها وأوّل من بشّرَت بها أو هي التي أنشأتها أو هي التي أُوحيَ إليها بالكتاب المقدّس.

- اسم الديانة: ويطلق اسم الديانة حسب اسمها المعتقد وله معنى، أو تطلق حسب اسم منشئِها أو حسب المكان الذي خرجت منه.

- الكتاب المقدس: ولكلِّ عقيدةٍ دينيّةٍ كتابها المقدس أو ربما عدّة كتبٍ مقدسةٍ وهو الكتاب أو الكتب التي أنشأها المؤسس الأول أو من اتبعوه من عظماء هذه الديانة، وعادةً ما يضمّ هذا الكتاب المقدس كلّ ما يتعلق بأركان هذه الديانة من فروضٍ وعقائدٍ وأخلاقياتٍ وسلوكياتٍ وتشريعاتٍ واجتماعيّاتٍ وتقويمٍ وأعيادٍ وعباداتٍ ومعاملات. ويظهر ذلك الكتاب أو الكتب إما باعترافها بتأليفها كما في البوذيّة والكونفوشيّة والطاوية والجينيّة، أو القول بأنّها مُوصى بها من قبل الله كما في اليهودية والمسيحيّة والإسلام. 

- التقويم: لكلِّ دينٍ تقويمه الخاص الذي يتحكّم في كلِّ مواعيده مثل الأعياد والصيام ومواعيد الحج.. إلخ ويبدأ التقويم غالباً من وقتِ إنشاء الدين مثل التقويم الهجري عند المسلمين والتقويم الميلادي عند المسيحيين والتقويم العبراني عند اليهود. 

- اللغة: ولكلِّ دينٍ لغة نزل بها، وهي ذات اللّغة التي تُمارس بها الشعائر.

ولعلّ السؤال الآن عن أسباب نشأة الدين ولماذا يبدو التديّن أمراً ضرورياً في حياة الإنسان في كلتا الحالتين سواءً أكان مؤمناً أم غير مؤمن؟!

ثالثًا: نشأة الدين وبواعثه بين الفلسفة والعلم:

يختلف الفلاسفة والعلماء حول نشأة الاعتقاد الديني وضرورته لدى الإنسان. وإن كان أغلبهم يميل إلى أنّ الدينَ فطرةٌ في النفس البشريّة. والفطرة هي الطبيعة التي خلقها الله في جميع البشر، ومن هنا فإنّ الحقيقة التي أجمع عليها مؤرّخو الأديان «هي أنه ليست هناك جماعةٌ إنسانيّة، ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكّر في مبدأ الإنسان ومصيره وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه ودون أن تتخذ لها من هذه المسائل رأياً معيناً حقّاً أو باطلاً، يقيناً أو ظنّاً، تُصوّر به القوّة التي تخضع لها هذه الظواهر في شأنها والمآل الذي تصير إليه الكائنات بعد تحولها «.

وربما يكون ذلك هو ما حدا ببعض العلماء إلى القول بأن الدين أو الاعتقاد هو عملٌ لا شعوريّ سواءً أكان ذلك العمل اللاشعوري طريقه العقل الباطن أم الإلهام فهو في نظرهم عمل اختياريٌّ لا دخل للمرء في تكوينه ولا قدرة له على ردّه عنه. ومن هنا فإنّ الدين في نظرهم يخالف العلم لأنه قائمٌ على الشعور والإرادة».

بينما الرأي الأرجح عند جانبٍ آخرٍ من الفلاسفة مثل ديكارت وهيجل ووليم جيميس أن الإيمان أو العقيدة من عمل العقل والإرادة معاً وأنّه لا يمكن تجريد الاعتقاد أو الدين عن عمل الاختيار والإرادة. انظر إلى هيجل وهو يدافع عن ذلك الرأي فيقول: «إنّ الفكر هو الذي يميّز الإنسان عن الحيوان.. ومن العجيب أن نباعد بين الفكر والوجدان أو الشعور حتى لنجعلهما ضدين بحيث نعتقد أن الفكر يُلوّث الشعور- ولا سيما الشعور الديني- ويشوهه بل ويقضي عليه» ومن العجيب أيضاً «أن نتصوّر أنّ الديّن والتقوى قد شبَّا بعيداً عن الفكر وأنّهما اعتمدا على شيءٍ آخر سواه» ومن يتصور ذلك ينسى في الوقت ذاته «أن الإنسان هو وحده الذي يمكن أن يكون له دين وأن الحيوانات تفتقر إلى الدين بقدر ما تفتقد إلى القانون والأخلاق».

إن هيجل مِن الذين يرون أنّ الدين ليس مسألةً لا شعورية لدى الإنسان وإنما هي مسألةٌ فيها قدرٌ كبيرٌ من الوعي الشعوري ومن الفكر، فالدين عند الإنسان ناتجُ الفكر ويدلّل على ذلك بأنّ الفكر هو ما يميّز الإنسان عن الحيوان، وبما أن الإنسان هو الكائن الوحيد المتديّن كما أنه هو الوحيد المبدع للقانون والأخلاق، فالدين لديه إذن ناتج درجةٍ من درجات الفكر والوعي، وإن كانت بالطبع درجةٌ من الفكر تقلّ قليلاً لديه عن درجة الفلسفة العقليّة الخالصة.

بالطبع فإنّ هذا الرأي يتّفق مع الحقيقة التي نراها واضحةً لا تحتاج كثيراً إلى برهان وهي أن الدين ظاهرةٌ صاحبت الإنسان- دون غيره من المخلوقات- منذ نشأته على الأرض في جميع العصور وفي شتّى بقاع الأرض. وهذه الحقيقة لا يختلف حولها لا العلم ولا الأديان السماويّة، فإن أخذت بما جاء في الكتب السماويّة من أن آدم أبو البشر وهو أول إنسانٍ ظهر على هذه الأرض فإن آدم كما هو معروف أول الأنبياء. وإذا أخذت بنظريّةِ التطور العلميّة أي نظريّة النشور والارتقاء فإن انبثاق الإنسان ارتقاءً من الحيوان أو بمعنى آخر فإن آخر ارتقاء الإنسان من طور الحيوانيّة إلى طور الإنسانيّة جعله يتميّز بعدّة أمورٍ منها اللّغة واستخدام الألفاظ الدالة على المعاني التي يريد أن يعبّر عنها، ومنها كذلك استخدام الأدوات والآلات التي يسيطر بها على الطبيعة ويسخّرها لخدمته، ومنها بالطبع التدين والعبادة. ومنذ فجر هذا التاريخ الإنساني يتميز الإنسان بالتدين، وأصبح له معتقده الديني الذي انفرد به عن بقية الكائنات.

وإذا تجاوزنا هذه النظريّة التي تفسّر نشأة الدّين بأنه فطرةٌ عقليّةٌ فطر اللّه الناس عليها وهي النظريّة التي تكاد تَلقى إجماعاً من العلماء والفلاسفة وأصحاب الأديان على حدٍّ سواء، فإن ثمة نظريات أخرى تفسّر نشأة الدين منها النظريّة الاجتماعيّة عند دوركايم، تلك النظرية التي يرى صاحبها أن الدين ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ تختلف باختلاف الظروف الاجتماعيّة التي يعيشها الناس من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات المتحضرة، وقد دلّل على ذلك بثلاثة حججٍ هي: 

- التجانس المطلق والاطّراد الدائم في الظواهر الدينية عامة، فلا يوجد دينٌ إلا وقد أخذ عن سلفه من الأديان من العقائد السابقة واطّرد عنها منذ الديانات البدائية.

- استقلال الحقائق الدينيّة وموضوعيّتها باعتبارها مستقلةً إلى حدٍّ كبيرٍ عن الأفراد قائمةً بذاتها ومن ثم فهي موضوعيّة بكلِّ ما في الموضوعيّة من معنى.

- جبريّة الحقائق الدينية وهي حقائقٌ آمرةٌ مسيطرةٌ تضع التكاليف وهي في جميع صورها عاليةٌ آمرةٌ لأنها تنبثق من المجموع وتعود إليه».

إن المحور الأساسي للدين يتمثّل في تقسيم الأشياء إلى: مقدّسٍ ومدنّسٍ؛ فالمقدّسُ يشمل جميع الأمور ذات النفع للمجتمع، والمدنّس أو غير المقدّس هي الأمور الفرديّة العادية. ويرى دوركايم من خلال مطالعته حول الأديان، أن الأديان البدائية وخاصةً الوثنيّة في القبائل الأسترالية، تعتبر الوثنية منشأ الأديان الكبيرة وتمثّل عبادة الصنم تجسيداً لمقدسات المجتمع ودينه. ويعتقد دوركايم أن الأقوام البدائيّة حصرت الرّوح الجمعيّة لديها والتي تتمتع بقدراتٍ فوق فرديّةٍ في قالب الصنم، وينعكس ذلك في تقديس حيوان أو نباتٍ مقدّس، وهذه الظاهرة ظاهرة تقديس الوثن تكاملت بالتدريج في المراحل اللاحقة من حركة المجتمعات البشريّة إلى تقديس الأرواح وأخيراً تقديس وعبادة الإله الواحد. وعلى هذا الأساس ظهر الاعتقاد الديني في مجالين؛ مجالٌ مقدّس ومجالٌ غير مقدس. ومعتقد دوركايم أن سائر المعتقدات الدينية كالاعتقاد بالروح والخلود وغيرها تنحو هذا المنحى في معرفة المنشأ لها، وعلى سبيل المثال فإن الشعائر الدينية تُعتبر عاملاً من عوامل تقوية العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. 

والحقيقة أن نظرية دوركايم يواجهها الكثير من الانتقادات حيث إنّه لا يوجد دليل على أن الوثنية كما يقول دوركايم تُعتبر منشأً لأديانٍ أخرى، كما أن الوثنية في استراليا لا تعتبر نموذجاً فريداً للوثنية في المجتمعات البشريّة الأخرى. وكذلك فإن المجتمع مع كونه يتمتع بقدراتٍ كبيرةٍ للتأثير على الفرد إلا أنّه في مسألة العقائد الدينية، فإن الفرد يخضع لهيمنة معتقده الديني أكثر من خضوعه في أحيانٍ كثيرةٍ لهيمنة المجتمع بحيث يمكن للفرد أن يتحرك في مواجهة المجتمع بسبب وجود الدافع الديني لديه أو ربما يختار العزلة والابتعاد عن المجتمع بسبب ذلك المعتقد الديني. وإذا كان دوركايم يعتقد بأن الدين وليدُ قوى المجتمع، فإنّ الواقعَ يقول أن الاختلاف الديني ووجود الفِرق والمذاهب المختلفة في المجتمع يدلُّ على أن الدين ربما يكون عاملاً من عوامل الفرقة وتمزيق المجتمع مثلما أنّه يمكن أن يكون عاملاً من عوامل توحيده.

وهناك نظريةٌ أخرى لتفسير نشأة الدين وهي النظرية الماركسية التي تعتبر أن العامل الاقتصادي هو الأهم؛ فماركس يعتبر أن الدين ناتجٌ عن استغراب الإنسان وابتعاده عن ذاته الأصليّة بسبب الظروف الاقتصاديّة والتفاوت الطبقي الذي يرتبط في بنيته التحتيّة بعواملٍ اقتصاديّةٍ وشكل الإنتاج الاقتصادي في المجتمع. ويعتقد ماركس وأتباعه بأن كلّ مجتمعٍ إنما ينبني على بُعدين أساسيين هما البنية التحتية والبنية الفوقية؛ والمقصود بالأولى العلاقات الاقتصادية وأشكال الإنتاج الاقتصادي في المجتمع، أما المقصود بالثانية المراتب الحقوقيّة والنظم السياسية والعقائد الدينية والأفكار الأيدلوجية والفنون والفلسفات وغيرها. والدين في نظر ماركس رغم كونه من الأمور الفوقيّة إلا أنّه يتأثر بالبنى والعوامل التحتية وهي عواملٌ متغيرةٌ ومتحولةٌ في حياة البشر. ومن ثم فإنّه عندما يحدث تغيّرٍ في الحياة الاقتصادية وأنماط الإنتاج في المجتمع فإن ذلك يترتب عليه إيجاد تغييرٍ في المعتقدات الدينية لدى الناس. كما يرى ماركس أن الدين عبارةً عن أيدلوجيةِ الطبقة الحاكمة حيث يقدم للفقراء توصيات لحفظ النسيج الاجتماعي ويقرر أن النظام السياسي مقدّرٌ محتومٌ على أفراد المجتمع فلا ينبغي مواجهة هذا النظام من موقع الرفض والتمرّد. فوظيفة الدين عند ماركس إذن هي تفسير العالم ومنح المشروعيّة للوضع الموجود ومواساة المحرومين. ومن هنا فهو يتنبأ بزوال الدين تدريجياً مع زيادة الوعى الطبقي ومعرفة الإنسان لذاته وللعالم.

وبالطبع فإن هذه الرؤية الاقتصاديّة لنشأة الدين واعتباره أداةً أيدلوجيّة تسخّرها الطبقة الحاكمة للسيطرة على فقراء المجتمع ليسلموا بالواقع أيّاً كان نوعُ الظلم الذي يعانون منه مسألةٌ فيها نظر لأن الواقع كثيراً ما كذّب ذلك، فالحقيقة هي أن الدين ربما يكون من العوامل الأهم للثورة على هذه النظم الحاكمة التي تحاول استخدام الدين استخداماً سياسيا. وليس أدلّ على ذلك من أن الدين كان هو العامل المحرّك لموسى وأتباعه في مواجهة الفرعون دفاعاً عن المحرومين والفقراء من بني إسرائيل، كما أنّ الدين لدى نبي الإسلام محمد صلوات الله وسلامه عليه كان حركةً في مواجهة أشراف قريش وتحكّمهم الاقتصادي، فضلاً عن أن تجربة البلدان الاشتراكية التي طبّقت الماركسية هي ذاتها تُكذّب نظريّة ماركس ونبوءاته فهي لم تساعد في زوال الدين، بل ربما حدث العكس وليس أدلّ على ذلك من أن الشعوب التي خضعت لهذه التجربة الاشتراكية ظلّت محافظةً على عقائدها الدينية وما أن زالت الحكومات الاشتراكية عادت هذه العقائد الدينية إلى الظهور وعاد أتباعها لممارسة شعائرهم الدينية دون خوف من بطش هذه الحكومات الشيوعية التي كانت معاديةً للدين والمتدينين. ومن جانبٍ آخر فإنّه إذا كان ماركس والماركسيون يقولون بالمنشأ الاقتصادي للدين، فإن ثمة نظرياتٍ مقابلةٍ ترى العكس تماماً، فها هو ماكس فيبر عالم الاجتماع الشهير يرى أن الدين يمثّل الأساس والأصل للاقتصاد ويمثّل البنية التحتيّة للاقتصاد ودلّل على ذلك بأن البروتستانتية كانت عاملاً رئيسيّاً من عوامل ظهور الرأسمالية والنظام الرأسمالي.

وثمة تفسير آخر هو ما يمكن أن نطلق عليه التفسير النفسي (السيكولوجي) لنشأة الدين يقدّمه كلًّا من فرويد ويونج من علماء النفس المحدثين؛ إذ يرى فرويد أن الدين ينبع من عجز الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة في الخارج والقوى الغريزيّة داخل نفسه، وينشأ الدين كما يضيف فرويد في كتابه «مستقبل وهم» أن الدين ينشأ في مرحلةٍ مبكرةٍ من التطوّر الإنساني عندما لم يكن الإنسان يستطيع أن يستخدم عقله في التصدّي لهذه القوى الخارجية والداخلية، وكان الدين في رأي فرويد تكراراً لتجربة الطفل حيث يتعامل الإنسان مع القوى المهدّدة له بنفس الطريقة التي تعلّم بها وهو طفل، وعلى هذا اعتبر فرويد أن الدين وهم، بل وخطرٌ لأنه يميلُ إلى تقديس مؤسساتٍ إنسانيةٍ سيئةٍ تحالف معها على مرِّ التاريخ. ويعتقد فرويد أنّ الدين يستمد فاعليته من الانفعالات الداخلية المتولّدة من حالة الكبت الجنسي في مرحلة الطفولة في ما يطلق عليه فرويد «عقدة أوديب»؛ فالاعتقاد بالله يعكس ميول ورغبات كامنة في اللاشعور تظهر على شكلِ حاجةٍ إلى أبٍ سماوي يملك قدرةً كبيرةً لحماية الإنسان، كما كان الطفل يشعر بالحاجة للأب لحمايته في مرحلة الطفولة. وعلى هذا الأساس فالدين يمثّل حالةً نفسانيّة ناشئةً عند الإنسان من أوهامٍ وآمالٍ ورغباتٍ نفسيّةٍ في أعماق وجوده.

وفي نفس الإطار يرى يونج من خلال كتابه «علم النفس والدين» أن جوهر التجربة الدينية هو الخضوع لقوى أعلى من أنفسنا. ويربط بين اللاشعور والتجربة الدينية على أساس أن اللاشعور يمكن أن يكون مجرّد شطرٍ من العقل الفردي، بل هو قوّةٌ تند عن سيطرتنا وتؤثّر على عقولنا. ومن ثم فإن الخبرة الدينية تتسم بضربٍ خاصٍ من الخبرة العاطفيّة تتمثل في الخضوع لقوّةٍ أعلى سواءً أأطلقنا على هذه القوّة اسم الإله أم أطلقنا عليها اسم اللاشعور.

والحقيقة أنّه على الرغم من أنّ هذه النظريّة النفسيّة لنشأة الدين قد لاقت رواجاً واسعاً بين المختصين سواءً بالموافقة أو بالرفض، فإنّها نظريّةٌ أحاديّةٌ الجانب تركّز على المنشأ الجنسي للسلوك الإنساني عموماً والسلوك الديني على وجهِ الخصوص، وتدّعي أن تصرف الإنسان إزاء الدين واعتناقه إياه نتيجةً لكبتٍ جنسيٍّ طفوليّ وهذا أمرٌ غايةٌ في الغرابة لأنه لا يمكن لأحد عالماً كان أو فيلسوفاً أن يدّعي أن هذا الطفل لديه وعيٌ جنسيٌّ لأنه لا يوجد أساساً ميل جنسيٌّ لدى الطفل في هذه المرحلة والذي يمكن أن يظل يؤثر عليه حتى بعد بلوغه.

ومن جانبٍ آخر فإنّ هذه النظريّة الفرويديّة فيها نوعٌ من الدور المنطقي؛ فمن جهة تقرّر أن الحضارة البشريّة والاجتماعيّة تحدّد من ميول الفرد وتؤدي إلى كبتها وقمعها فتظهر على شكل «عقدة أوديب»، ومن جهةٍ أخرى فالحضارة والفنون البشريّة وليدة هذا الكبت والميول الجنسية من خلال عملية التفعيل والإسقاط حيث تظهر انعكاسات هذا الكبت على شكل دينٍ وفنٍّ وغير ذلك. إن ثمة تناقضاً هنا في مضمون هذا الكلام.

وفي اعتقادي الشخصي أن هذه النظريات الثلاث الأخيرة إنما تركّز كلُّ واحدةٍ منها على بُعدٍ واحدٍ من أبعاد نشأة الظاهرة الدينية في المجتمعات الإنسانية. وهذا التفسير الأحادي البعد عادةً ما يكون تفسيراً قاصراً لأنّ أيّ ظاهرةٍ إنسانيّةٍ إنما هي في واقع الحال ظاهرةٌ معقدةٌ ينبغي عدم قصر فهمها على أحد عواملها أو أحد مصادرها.

والخلاصة أننا نرى أنّ الدين فطرةٌ فطر اللهُ الناسَ عليها، فهم منذ فجر التاريخ بإرادتهم وعقولهم يعتقدون في دين ما. اختلفت مظاهر العبادة وأسماء المعبودات لكنهم في النهاية يؤمنون بعقيدةٍ ما حول أصل الخلق ونشأة الوجود وما وراء هذه الظواهر الطبيعية. وهذه الفطرة ليست لا شعورية بقدر ما هي فطرة عاقلة حيث إن الإنسان هو الكائن الوحيد المتديّن في هذا الوجود ولم يكن ممكناً له أن يكون كذلك إلا عبر عقله الواعي وإرادته الحرّة. وهذه الحقيقة هي ما عبّر عنها القرآن الكريم بوضوحٍ في قوله تعالى: «وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا» (الأعراف- آية 172).

إن هذه الآية إذن تتضمن النظريّة الإسلاميّة لنشأة الدين، إذ يعرّف فيها القرآن حقيقةَ الباعث على التدين، فقد استخرج الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم التي سوف توجد جيلاً بعد جيل في قرن بعد قرن، وسألهم ألست بربكم؟ فأجابوا: بلى.. فكانت الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان فطرةً سيمةً من حيث استطاعتها التعرّف على الله دون حاجةٍ إلى وسيط، فإذا انحرفت عن ذلك بعد ذلك فلا علّة لها ولا عذر. ولذلك فقد أبرز الله الحكمة من هذا السؤال والناس لا يزالون في عالم الذر يوم أن أخذ الله عليهم هذا الميثاق فقال تعالى: «أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين»،  «أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون». وقد فسّر ابن عباس آية الأعراف التي سبق الإشارة إليها بقوله: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطاه الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفّى به نفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول أي على الفطرة، ومن هنا ندرك حقيقة أن التدين مرتبطٌ بالفطرة وهي الميثاق الأول وهو قوله تعالى «فطرةُ الله التي فطر الناس عليها».

إن الدين في المفهوم الإسلامي هو قانون الله إلى الإنسان عامة، حيث انقاد الكون كلّه إلى الناموس الإلهي حسب قوله تعالى «ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين» (فصلت: آية 11)، ولم يبق في الكون إلا الإنسان فأنزل الله له الدين وحياً سماويًّا من عنده جلّ شأنه حسب قوله تعالى: «أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون» (آل عمران- آية 83). وهذا الدين الذي أنزله الله على البشر جميعاً مصدره الوحي الإلهي إلى الأنبياء جميعاً على امتداد التاريخ البشرى. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده» (النساء: آية 163).

وعلى كلِّ حالٍ فإن تعدّد الديانات وتعدّد صور الألوهيّة لا يند عن هذه الرؤية إلا بما يميّز الدين الإسلامي عن الديانات والعقائد السابقة منذ آدم حتى الآن. والخلاصة أن الدين فطرةٌ من الله فطر الناس عليها ومن يشذ عن ذلك فإنما خالف الفطرة وخرج عليها. وهو من ثم دائم الإحساس أن ثمة ما ينقصه حتى ولو ادّعى غير ذلك عبر أسانيدٍ وحججٍ واهيةٍ يمكن ببساطة أن يختبرها جميعاً بالنظر في ذاته متسائلاً كيف خلق وكيف خُلقت كلّ هذه الخلائق وأين مصدرها وأين منتهاها..؟؟ إلى آخر هذه التساؤلات التي إن أمعن النظر فيها أدرك أن الفطرة الصحيحة هي الإيمان بالله الخالق ومن ثم اكتشف ضرورة الدين وعبادة الخالق الواحد الأحد.

إن ثمة بواعث عديدة للإيمان بالله والتديّن بعقيدةٍ ما لخّصها ول ديورانت في خمسة نقاط وهي: الخوف والدهشة والأحلام والنفس والروحانية، واتفق معه كثيرون من العلماء بشكلٍ أو بآخر، فلقد قالوا أن بواعث الاعتقاد خمسة هي:

- الحاجة الفردية.

- الخوف من الطبيعة والإحساس بروعة المجهول.

- الاعتقاد بأن لكلِّ مادّةٍ روحاً تحمل فيها وأنّ الاستحواذ على هذه الروح يمكّن الإنسان من استخدامها والانتفاع بها.

- السحر الذي اعتبره البعض المصدر الذي دفع الإنسان إلى التدين.

- العادات والتقاليد حيث إن الأجيال تحرص دائماً على تقليد بعضها البعض في التديّن وهذا يلخص قوله تعالى: «وجدنا آباءنا كذلك يفعلون». 

ولعلّ الخلاف بين ول ديورانت وأولئك خلافاً في التصنيف، فديورانت يعتبر أنّ السحر من طرائق الدين وليس من بواعثه. ومن جانبٍ آخر فإنّ ما قاله ول ديورانت عن الدهشة والأحلام كبواعثٍ للدين ليس دقيقاً، فليس كلّ ما يعلم به المرء أيّاً كانت درجة غرابته باعثاً للإيمان والتدين، وكذلك ليس ما يدهش المرء باعثاً للعقيدة الدينية اللهم إلّا إنْ كانت الدهشة أمام إعجازٍ إلهيٍّ ما سواءً شاهده المرء في الكون من حوله أو من دعوةٍ جاءت على يد نبيٍّ من الأنبياء أو رسولٍ من الرسل من أصحاب الرسالات. وعلى كلِّ حالٍ فإنّ تعدّد هذه البواعث أيّاً كان موقفنا منها يترتب عليها صورًا عديدةً من الأديان؛ فما هي هذه الصور وكيف نصنفها؟

رابعًا: تصنيف الأديان من منظورٍ موضوعيٍّ شامل:

إنّ المعتقدات الدينيّة لدى شعوبٍ وحضاراتِ العالم تتعدّد وتتنوّع أصولها وتفريعاتها لدرجةٍ يصعب بالفعل حصرها وتصنيفها، وقد اجتهد كثيرٌ من علماء تاريخ الأديان وعلماء مقارنة الأديان في تصنيفها. وبالطبع فقد اختلفت هذه التصنيفات تبعاً لميول هؤلاء العلماء وتبعاً للمناهج المتعدّدة التي اتبعوها. وإن كنت أميل إلى الأخذ بتصنيف العالِم المصري د. محمد خليفة، حيث يميّز بين نوعين كبيرين من التصنيفات؛ تصنيفاتٌ غير علميّةٍ وغير موضوعيةٍ، وتصنيفاتٌ علميّةٌ موضوعيةٌ. وبالطبع فإن التصنيفات التي يرى ونحن معه أنّها علميّةٌ يشوبها الكثير من أوجه النقص التي تمنع من اعتمادها وإقرارها، بينما التصنيفات العلميّة فهي لها أساسٌ علميٌّ موضوعيّ يمكن أن نختلف حوله لكنّه مقبولٌ نظراً للأساس العلمي الذي يستند عليه. 

( أ ) التصنيفات غير العلمية:

تصنيف الأديان إلى حيّة وميتة، وهذا التصنيف يستند على وجود هذا الدين أو عدم وجوده على مسرح الحياة الحديثة والمعاصرة؛ فالأديان الحيّة هي التي لها وجودٌ حاليٌّ ولها أتباعٌ يؤمنون بها. أما الأديان الميتة فهي التي زالت من الوجود وانتهت في التاريخ ولم يعد لها أتباع يؤمنون بها حاليا. وأساس عدم علميّةِ هذا التصنيف أنّه أغفل حقيقة أنّ الفكرة الدينية لا تموت وأنها قد تنتقل إلى صورةٍ أخرى أو تتطور إلى شكلٍ آخر. ومن ثم فالأديان لا تموت موتاً حقيقياً كما في الكائنات الحيّة وإنما تنتقل أفكارها ومفاهيمها من دينٍ إلى دينٍ آخر. فما نتصور أنها دياناتٌ ماتت هي ليست كذلك، وعلى سبيل المثال فإن الفكر الهندي الديني القديم السابق على الهندوسيّة البراهمانية لم يمت تماماً وإنما هو موجود بصورةٍ أو بأخرى في الهندوسيّة وفي البوذيّة وفي الجينية. حتى الفكر الديني البدائي لا يزال له وجوده الحالي إما في شكلٍ مستقلٍّ أو من خلال تسرّبه في بعض الديانات الأحدث. ففي القارة الأفريقية مثلاً دخلت بعض هذه الأفكار الدينية البدائية في المسيحيّة والإسلام حال انتشارها في هذه القارة وهذا ما حدث في كلّ ديانات الشرق الآسيوي حيث تسرّبت الأفكار الدينية البدائية القديمة في الديانات الحديثة التي يؤمن بها المحدثون.

تصنيف الأديان إلى طبيعيّة وغير طبيعية، وهو تصنيفٌ يعتمد على فصل الأديان الطبيعيّة أي التي تستمد فكرها الديني من الطبيعة عن الأديان التي تركّز على الفكر الماورائي (الميتافيزيقي) وهذا فصلٌ تعسفيٌّ نظراً لأن الأديان عموماً تنظر إلى الطبيعة والوجود نظرةً كليّةً وتُكوّن تصوراً شاملاً للعالم الطبيعي وعالم ما وراء الطبيعة حتى وإنّ ركّزت على أحد العالمين دون الآخر؛ فالديانات البدائية مثلاً يُنظر إليها على أنّها دياناتٌ طبيعيّةٌ ارتبط فيها الإنسان بالطبيعة، ومع ذلك لم ينفصل الإنسان المؤمن بها رغم فكره البدائي عن عالم ما وراء الطبيعة وإن جاء تعبيره عن ذلك من خلال الأساطير وليس من خلال الأفكار العقليّة المجردة التي ربما حلّت في ما بعد في مرحلةٍ لاحقةٍ من تطوّر هذه الديانات الطبيعيّة محل الأسطورة حيث إن موقف الإنسان من الطبيعة مرتبطٌ بدرجة التقدّم الفكري ومدى قدرته على فهم أسرار الطبيعة. ومن ثم فإن التمييز المزعوم بين الأديان الطبيعيّة والأديان الميتافيزيقيّة ليس تمييزاً علميّاً.

تصنيف الأديان إلى حقيقيةٍ وباطلة، وهو تصنيفٌ ذاتيٌّ يخضع لرؤيةٍ دينيّةٍ أو مذهبيّةٍ معينة. ولذلك فهو يكون عادةً تمييزاً بين دينٍ واحدٍ حقيقيٍّ هو ديني أنا وطائفتي الذي نؤمن به، وبين دياناتٍ أخرى باطلةٍ وزائفةٍ لأننا لا نؤمن بها. وبالطبع فهو تصنيفٌ بنيَ على التمييز والتعصّب من البداية، لأن كلَّ صاحب ديانةٍ يعتبر دينه هو الحق وبقية الأديان باطلة. ولذا فهو تصنيفٌ تعسفيٌّ فكلّ دينٍ لدى صاحبه إنما هو طريقةٌ للوصول إلى الحقيقة وما دام البشر مختلفون حول هذه الحقيقة وتتعدد رؤاهم حولها، فإنهم بالتالي سيختلفون في عقائدهم الدينية. ولا يرى المتعصّب لدينٍ ما أيّ حسناتٍ لأيِّ دينٍ آخر. وعلى ذلك فإن هذا التصنيف لا يقوم على أساسٍ علميِّ بل يقوم على أساس الرؤية المذهبيّة المتعصبة والمتحيزة مقدما.

التصنيف الإحصائي للدين، وهو تصنيفٌ يستند على أعداد المؤمنين بكلِّ ديانة من الديانات، ومن ثم فهو يتدرج من أكثر الديانات أتباعاً حتى أقلّها في عدد التابعين. وهو بالتالي تصنيفٌ نسبيٌّ متغيّرٌ عليه الكثير من المآخذ حيث إن أهميّة الأديان وقيمتها لا تُقاس بعدد التابعين لها؛ فهناك أديانٌ على قدرٍ كبيرٍ جداً من الرقي والتقدّم الديني ولكن أتباعها قليلون لأسبابٍ قد تخصّ أصحاب الدين أنفسهم الذين يضعون قيوداً على التحوّل إلى دينهم ويمنعون انتشاره مثل ما هو حادثٌ في اليهودية؛ فهي ديانةٌ توحيديّةٌ راقيةٌ ومتقدمة، ولكنّ أهلها حوّلوها إلى ديانةٍ قوميّةٍ خاصةٍ بهم دون غيرهم، فمنعوا انتشارها وقلّ عدد أتباعها. وهناك دياناتٌ كثيرةٌ الأتباع ولكنّها قليلة القيمة ومتدنيةٌ في فكرها الديني وهذا وضع الديانات البدائية المنتشرة في بعض مواضع القارة الأفريقية، وآسيا وأمريكا الجنوبية واستراليا. فضلاً عن أن ثمة ديانات قليلة الأتباع لكنها ذات تأثير قويٍّ وخطيرٍ في غيرها من الأديان كالزرادشتية ذات التأثير في كلٍّ من اليهوديّة والمسيحيّة، وكاليهودية ذات التأثيرٍ القوي في المسيحية. ولعلّ من أصعب ما يواجه هذا التصنيف من الانتقادات أن أعدادًا كبيرةً من المنتمين إلى بعضها يعدّ انتماؤهم شكلياً وبالاسم فقط، وهذا الأمر واضحٌ جداً في أوربا وأمريكا وفي الاتحاد السوفيتي المنحل. إن معظم بل ربما كلّ هؤلاء يُحصَون ضمن المؤمنين بالمسيحية في حين أن الواقع أن الكثير منهم تحوّلوا إلى العلمانيّة ورفضوا الدين واعتبروه أمراً شخصياً، وكذلك تقف ظاهرة تحوّل البعض من دينٍ إلى دينٍ أخر دون الإحصاء الدقيق لأتباع هذا الدين أو ذاك.

(ب) التصنيفات العلميّة:

التصنيف الجغرافي للأديان، وهو تصنيفٌ يعتمد على ما سمي في علم الجغرافيا بجغرافيّة الأديان وهو يختص بدراسة التوزيع الجغرافي للأديان وعمل الأطالس الجغرافيّة التي تحدّد مناطق انتشار الأديان في العالم وتهتمّ بتحديد الصّلة بين العوامل الجغرافية والفكر الديني وتأثير البيئة الجغرافيّة في العادات والتقاليد الدينية. ومن صور هذا التصنيف، النظر إلى الأديان من خلال التمييز بين أديان الشرق وأديان الغرب وذلك حسب تقسيم أقاليم العالم إلى شرقيّةٍ وغربية، ومن صوره أيضاً التصنيف القاري للأديان فيقال أديان آسيا، أو أديان أفريقيا أو أديان أوربا وهكذا. والحقيقة أنه تصنيفٌ رغم استناده إلى بعض المعايير العلميّة إلّا أنه قاصرٌ نظراً لأن ما يسمّى مثلاً بأديان الغرب مثل اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام هي كلها أديانٌ ظهرت في الشرق ولها أتباعها في كلّ مكان في العالم.

وإذا كان البعض ينظر إلى اليهودية والمسيحية تحديداً بأنهما ديانتان غربيّتان فهذا خطأ لأنهما في الأصل دياناتٌ شرقيّةٌ كما قلنا، فضلاً عن أنه لا يمكن أن ينظر إلى الإسلام على أنه دينٌ غربيٌّ أو شرقيٌّ فهو جغرافيًّا ينتمي إلى الشرق وله انتشاره في الغرب. وهكذا الحال في ما ينظر إليه على أنها دياناتٌ شرقيةٌ بحتة مثل الديانات الهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاوية وغيرها. فهذه أيضاً دياناتٌ ظهرت في الشرق الآسيوي وخاصةً الشرق الأقصى ولكن الآن لها أتباعها في كثيرٍ من دول العالم وخاصة في الغربي منه. وعلى أيّ الأحوال فإن هذا التصنيف الجغرافي للأديان إنما يستند على أساسٍ علميٍّ واضحٍ يمكن الاستفادة العلميّة منه في أحيان كثيرةٍ حيث يحدد الأماكن التي يكثر انتشار أتباع ديانةٍ معينةٍ فيها وحجم هذا الانتشار، وتكشف هذه الدراسات الجغرافية للأديان عن حركة انتشار هذه الأديان وانتقالاتها مما يقضي باستمرار متابعة توزيع هؤلاء الأتباع وإعادة التوزيع الجغرافي لهم حسب الواقع الديني للشعوب.

التصنيف التاريخي للأديان، وهذا التصنيف معنيٌّ بترتيب أديان العالم تاريخياً حسب ظهورها في التاريخ، فيقسّم الأديان حسب عصورها التاريخية مثلما يُقال أديانٌ قديمة، ودياناتٌ وسيطةٌ، ودياناتٌ حديثةٌ وأحياناً ما يتم التقسيم التاريخي إلى دياناتٍ بدائيةٍ ودياناتٍ حضارية. وهذا التصنيف رغم استناده إلى بعض الحقائق التاريخية إلا أنه يُواجهه مشاكل عديدة مثل عدم تحديد زمان نشأة بعض الديانات بدقة، كما أن ثمة ديانات متزامنة في ظهورها ويصعب ترتيبها ترتيباً تاريخياً مثلما هو الحال في ديانات الزرادشتية والبوذية والكونفوشية والطاوية فكلها تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد وقد ارتبطت في ظهورها بشخصياتٍ يُحاط الكثير منها بأساطيرٍ تحجب الرؤية التاريخية لعصورهم وظروف تأسيس دينهم. كما أن التمييز بين أديانٍ وسيطةٍ وأديانٍ حديثةٍ غير دقيقٍ لأن المقصود به ليس نشأة الدين وإنما فقط الأوضاع الدينية في العصرين الوسيط والحديث.

التصنيف الديني الموضوعي للأديان، وهذا التصنيف يعتمد على العامل الديني وليس على العلوم كالتصنيف الجغرافي أو التاريخي. ويعدّ هذا التصنيف أكثر التصانيف مناسبةً للأديان؛ إذ يقوم على أساسٍ من تشابه الأديان واختلافها في العقائد والمفاهيم الدينية، مثلما نصنف الأديان إلى أديانٍ إلهيةٍ وأديانٍ غير إلهيةٍ على أساس الإيمان بالألوهية، وهناك الديانات التعدّدية والديانات التوحيديّة على أساسٍ من التمييز بين الأديان التي يؤمن أتباعها بآلهةٍ متعدّدةٍ والديانات التي يؤمن أتباعها بإلهٍ واحدٍ فقط. ويتبع المجموعة الأولى من الديانات معظم الديانات الشرقيّة واليونانية القديمة حيث تعددت فيها الآلهة وعبادة العناصر الطبيعيّة والكائنات الحية. أما المجموعة الثانية فهي تُطلق على الديانات السماوية الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام). وثمة ديانات تمثّل مجموعةً ثالثة من الديانات الثنوية أو الإثنية الثنائية مثل الزرادشتية والمانوية والمزدكية. 

وهناك في هذا الإطار تصنيفٌ آخر يقوم على التمييز بين الديانات السماوية والديانات الأرضيّة، فالديانات السماويّة هي الديانات المُنزلة من الله عبر الوحي، والديانات الأرضية مصدرها المعرفة الإنسانية الأرضيّة دون الاعتماد على الوحي أو على أيّ مصدرٍ خارجيٍّ للمعرفة.

ويمكن أن يندرج تحت هذا التصنيف التمييز بين الديانات الفلسفية في مقابل ديانات التوحيد المعتمدة على الوحي الإلهي.

وهناك تصنيفٌ آخر على نفس الأساس الديني يصنف الأديان إلى عالميةٍ وقوميةٍ أو عالميةٍ ومحليةٍ وذلك حسب رؤية من يؤمنون به لطبيعة دينهم وطبيعة علاقتهم بالإله المعبود؛ فالديانة العالمية يعتقد أهلها أنّها ديانةٌ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وللعالم كلّه وليست خاصةً بقومٍ دون غيرهم مثل الإسلام والمسيحية والبوذية فهي دياناتٌ تقول بالعالمية، أما الديانة القوميّة أو المحلية فهي دياناتٌ خاصةٌ يعتقد أهلها أنّها تخصهم دون غيرهم مثل الهندوسية واليهودية اللتان تدّعيان الخصوصيّة ومنها أيضاً الديانات القبليّة البدائيّة التي يرتبط فيها الإله بالقبيلة وبالجماعة في رباطٍ عرقيٍّ دموي ومثلها أيضاً الديانات التي تعبد الآباء والأجداد. 

واستناداً إلى هذا التصنيف الذي يعتمد على العالمية أو الخصوصية يمكن تقسيم الأديان إلى أديانٍ دعويّةٍ تسعى إلى الانتشار وتقوم بجهودٍ في سبيل نشر عقائدها ومفاهيمها، وأديانٍ غير دعويّةٍ أو غير تبليغيّةٍ حيث إن طبيعتها عدم تبليغ الدعوة لغير المؤمنين بها أصلا.

خامسًا: الأديان الخاصة والأديان العامة في العالم الحديث:

إن عنوان هذه الفقرة والتصنيف المقترح الذي أقدّمه هنا يستند على أسسٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ حديثةٍ وهو عند مؤسسه السياسي جيف فانتراوب يستند في التمييز بين العام والخاص، على النموذج الليبرالي في السياسة والاقتصاد الذي ينظر إلى التمييز بين العام والخاص أساساً بوصفه تمييزاً بين إدارة الدولة واقتصاد السوق. وقد حوّله خوسيه كازانوفا صاحب كتاب «الأديان العامة في العالم الحديث» إلى إطارٍ تحليليٍّ في مجال الدين ليميّز من خلاله بين الأديان العامة والأديان الخاصة في العالم الحديث مرتكزاً على أربعة أسسٍ للتمييز هي:

1 - التصوّف الفردي في مقابل المذهبية:

إن التمييز بين التدين الفردي الخاص أو ما يسمونه دين الذات الخاصة، وبين كلِّ الأشكال العامة للدين التجمعي، إنه كالفرق بين ما يسمّى لدى البعض بالدين غير المرئي والدين الكنسي. إن هذا الدين الخاص يعبّر عنه الكثيرون بصيغٍ مختلفة؛ خذ مثلاً قول جان جاك روسو: «إن دين الإنسان.. لا يعرف الهياكل أو المذابح أو الطقوس»، أو قول توماس جيفرسون: «أنا بحدِّ ذاتي فرقةٌ دينية»، أو قول توماس باين: «فكري هو كنيستي». وهذه كلّها تعبيراتٌ نموذجيّةٌ عن الشكل الحديث للدين الفردي. أما أطرف التعبيرات عن ذلك الدين الفردي هو ما أطلقته سيدة تُدعى شيلا على ديانتها، لقد أطلقت اسمها على ديانتها فقالت«شيلانيتي» وصرّحت بأنها غير متشدّدةٍ دينياً ولا تذكر المرّة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى الكنيسة، وقد ختمت تصريحاتها قائلة: لقد حملني إيماني شوطاً بعيداً. إنها شيلانيتي صوتي الخافت فقط لا غير». وهذا ما حدا بمن أجروا معها الحوار إلى القول بأنه يمكن أن نجد –بناء على ذلك- أكثر من 220 مليون ديانة أمريكية، أي ديانة لكلّ فرد. وقد اختلف المنظّرون حول هذا التطرّف الديني فبعضهم اعتبر أن هذا هو الشكل الحديث للوثنية، إنه ليس الشرك بالله، بل هو النرجسيّة البشريّة، في حين اعتبره البعض الآخر بأنه الصور المعاصرة والمستقبليّة للدين. فقد قال أحدهم: إن التصوّف الفردي هو دينُ المستقبل، حيث وجد في أمريكا تربةً خصبةً وكانت «التقوية الإنجيلية» أو «دين القلب» هما الوسيلة لنشر هذا التصوّف الفردي وأضفت عليه طابعاً ديمقراطيّاً وشعبيّاً.

وهذا التديّن الفردي أو التصوف في أمريكا والعالم الأوربي الحديث يقابل العقائد المذهبيّة التقليديّة التي شهدت، هي الأخرى إحياء ممثلةٍ في البروتستانتية، والكاثوليكية مضافةً إلى اليهودية، التي تعتبر الآن هي الأشكال المذهبية المحترمة للدين الأمريكي. 

2 - الأديان المعترف بها مقابل الأديان غير المعترف بها:

وهذا التمييز يقوم على التمييز بين الأديان الخاصّة والعامة في إطار التقليد السياسي الليبرالي لجهة الفعل الدستوري بين الكنيسة والدولة. وهو يأتي انسجاماً مع النزعة الليبرالية لحصر النطاق العام في القطاع الحكومي مع تجمّع سائر النطاقات ضمن قطاعٍ «خاص» واسع، حيث تعرف كلّ كنائس الدولة المعترف بها بالأديان «العامة» في ما تعتبر كلّ الأديان الأخرى أدياناً «خاصة». إن الدين بالمفهوم الليبرالي هو شأنٌ خاصٌ ولا بدّ أن يظلّ كذلك، والخوف الليبرالي من تسييس الدين هو في الوقت ذاته، الخوف من مؤسسة قد تهدّد حرية المعتقد الفرديّة ومن المنظور المعياري للحداثة لا يمكن للدين أن يدخل النطاق العام وأن يتّخذ شكلاً عاماً إلا إذا قبل بمبدأ الخصوصيّة غير القابل للانتهاك وبقدسيّة مبدأ حريّة المعتقد.

3 - الديانات المدنيّة العامة مقابل الديانات الدينيّة الخاصة:

يرتبط المفهوم الحديث للدين المدني منذ بداياته بأعمال جان جاك رسو، حيث إنه متى تعلّق الأمر بالدين. يميز التقليد الجمهوري الكلاسيكي بين أديانٍ تؤدّي وظيفة عبادة الجماعة السياسية من جهة، وبين عباداتٍ محليّةٍ خاصة، ودياناتٍ خلاصيّة (أي الصوفيّة المؤمنة بالخلاص الفردي) وتُعتبر أكثر الأديان المدنية الجمهورية إزعاجاً تلك العقائد الدينيّة الخلاصيّة التي تحرّر الفرد من الولاء المطلق للجماعة السياسيّة وتساعد على انعتاق الذات لاختيار سبلٍ فرديّةٍ باطنيّةٍ نحو الخلاص.

إن روسو يرى أنه «ما من دولةٍ قامت لم يكن أساسها الدين» ولكنّه يقرّر أنّ لا شكل من أشكال الدين الثلاثة القائمة في عصره يستوفي الشروط من أجل «حكم صالحٍ» لأن «دين الكاهن» (أي الكاثوليكية) غير نافعٍ سياسيّاً وشرير؛ فداخلياً يمنح هذا الدين للبشر شريعتين وزعيمين ويطلب منهم واجبات متناقضة ويحول دون كونهم رجالاً أتقياء ومواطنين في آن. وخارجياً تتجاوز المؤسسات الكنسيّة المتعديّة الجنسية الحدود القوميّة والمحلية والجماعة السياسية والسيادة المعيارية للدولة- الأمة، وبالتالي لا تستطيع أن تنتج رعايا مخلصين. وخلافاً لذلك فـ «دين المواطن» من شأنه أن ينتج رعايا مخلصين عبر تقديس الدولة والأمة، ولكن هذا الدين هو شرٌّ كذلك لأنه يقوم على الخطأ والزيف ويؤدّي إلى شوفينيّة قوميّة غير متسامحةٍ وغلوٍّ دمويٍّ في الوطنية، وأخيراً يعتبر «دين الإنسان» ديناً مقدساً وسامياً في أنّه يُحوّل كلّ الكائنات البشريّة إلى أخوة، ولكنه لا يجدي نفعاً سياسياً لأنه لا يضيف- نظراً لعدم ارتباطه بالجسم السياسي- أيّ شيءٍ إلى شرعة القوانين أو إلى الأواصر الكبرى للمجتمعات الخاصة. وعلاوةً على ذلك فهذا الدين يقوّض الفضيلة الجمهورية مستبدلاً في قلوب المواطنين تعلّقهم بالدولة باهتماماتهم الدنيويّة الخاصة. ومن هنا فقد نادى روسو بالحريات الدينية وحريّة الرأي اللتين لا يحقّ لأيِّ حاكمٍ أن يختصرهما أو يسيطر عليهما، وأكّد على الحاجة إلى «إعلانٍ إيمانيٍّ مدنيٍّ صرف يقرّر الحاكم مواده لا بالتحديد كعقائدٍ دينيّةٍ بل كمشاعرٍ مجتمعيّةٍ يستحيل بدونها أن يكون المرء مواطناً صالحاً أو من الرعايا المخلصين».

لكن الحقيقة أن هذا الرأي لروسو فيه نظر حيث إنه بدلاً من المناداة بهذا الدين المدني - كما يسميه - المرتبط بإعلانٍ يقرّر الحاكم مواده، يمكن دراسة الأساليب التي يمكن للأديان القديمة والجديدة، التقليدية والحديثة أن تضطلع بأدوارٍ عامةٍ بنّاءةٍ وظيفيّاً في النطاق العام، أو حتى إذا تم الأخذ برأيه حول الدين المدني «فمن الضروري نقله من مستوى الجماعة الحاكمة أو المجتمعية التي ستفرضه إلى مستوى المجتمع المدني والتفاعل الاجتماعي بشكلٍ طبيعيٍّ وتلقائي. 

وإذا ما أردنا تطبيقاً لرؤية روسو في الواقع المعاصر فربما نجده في المجتمع الأمريكي، حيث إن السياسة الأمريكيّة كانت في وقتٍ من الأوقات داخل دينٍ مدنيٍّ مؤلفٍ من تركيبةٍ خاصة تقوم على المبادئ التوراتية/ الطهرانية، والجمهورية/ التنويرية، والليبرالية، النفعية / والدينية/ الأخلاقية. كما أن المبادئ الثلاثة التي تشكّل الدين المدني الأمريكي لا تختلف في بعض جوانبها عن الأديان الثلاثة عند روسو.

4 -  النطاق النسوي الخاص للدين والأخلاق مقابل النطاق الذكوري العام للعمل والشرعية:

إن هذا المنظور النسوي من وجوه التحليل للتمييز بين الدين العام والخاص برز في العصر الحاضر في إطار الفلسفة النسويّة المعاصرة حيث يستند على التمييز النسوي بين العالم الذكوري والعالم النسائي الخاص. حيث لم يعد الدين في نظرهم شأناً عاماً بقدر ما هو شأنٌ خاص؛ فالموقع الذي تحدّده الحداثة للدين- كما يقول أتباع الاتجاه النسوي هو «المنزل» لا بمعنى الفضاء الملموس للمنزل بل بمعنى «المكان الثابت لعواطف المرء»، فالمنزل هو نطاق الحب والتعبير والحميمية والذاتيّة والعاطفيّة والفضيلة والروحانيّة والدين، وعلاوةً على ذلك فهذا النطاق المنزلي هو النطاق الأنثوي بامتياز. ومن ثم فقد وصفت آن دوجلاس السيرورة التاريخية لخصخصة الدين التي حصلت في القرن التاسع عشر في أمريكا بأنّها عمليّةٌ «تأنيثيّةٌ».

إن الدين وكذلك الأخلاق بعد إعفائهما من العقلانيّة والمسؤولية الخطابيّة العامة التي يمثلها الرجال، أصبح مجرّد مسألةِ ذوقٍ فرديٍّ خاص. لقد كانت المجتمعات السابقة للحداثة تنزع إلى الإكراه على التحليلات العامة للدين بدءاً من الأفعال الإيمانيّة الجماعيّة في الساحات العامة، إلى التكفير العام والجماعي، بينما تنزع المجتمعات الحديثة خلافاً لذلك إلى إدانة أيّ استعراضٍ عام للدين. وفي الواقع تبلغ خصخصة الدين مبلغاً يصبح فيه استعراض المرء لدينه علناً أمام الآخرين عملاً غير جديرٍ بالاحترام، وينم عن «ذوقٍ سيّئ «.!

ورغم هذا البعد النسوي التفسيري لانزواء العقيدة الدينية لتصبح شأناً خاصاً داخل المنزل وليس شأناً عاماً تُمارس الشعائر فيه بشكلٍ جماعي، فإن الغالبية تميل إلى الإقرار مع خوسيه كازانوفا إلى أن الدين لا يزال يتمتع ببعدٍ عامٍ يتخطّى كلّ هذه الضغوط والتحليلات. وأي نظريّةٍ تتجاهل هذا البعد العام للدين الحديث هي بالضرورة نظريةٌ غير مكتملة. 

سادسًا: تعقيب:

إنّ ما قدمناه من تصوراتٍ وآراءٍ حول مفهوم الدين وتصنيف الأديان إنما هي آراءٌ بشريّةٌ متفاوتة حول الدين. وفرق كبير بين القراءة البشريّة للدين: نشأته وتعريفه وأنواعه، وبين التصوّر الذي رسخ لدى المؤمنين بكلِّ دين على حدة. لكن الذي لا شك فيه أن التمييز الأكثر وضوحاً لتصنيف الأديان إنما هو الذي يميّز ببساطةٍ بين الديانات البشريّة أي التي انتسبت إلى بشر واستندت على أقوالهم وأفعالهم، وبين الديانات السماويّة التي مصدرها الوحي الإلهي وهي ببساطةٍ ما تسمّى بالديانات الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية المسيحية والإسلام). 

ولا يستطيع أيُّ فيلسوفٍ للدين أن يُهمل النظر إلى كلّ ما في العالم من دياناتٍ بشريّة كانت أو سماويّة، فالعقائد الدينية تعدّدت ولا تزال عبر التاريخ البشري إلى درجةٍ يصعب بحق تصنيفها وإدراك كلّ تفريعاتها وإحصاء المتدينين بها والممارسين لشعائرها؛ إذ لا تزال ديانات العالم تتراوح بين عبادة الإله الواحد والآلهة المتعدّدة، تتراوح بين الإيمان بالحياة الأخرى، والاكتفاء بالهداية الدنيويّة، تتراوح بين ممارسة الشعائر والطقوس المقدسة وبين الشعائر والمظاهر الدنيوية المدنية. لا تزال ديانات العالم تتراوح بين الاهتمام بالشأن الدنيوى والاهتمام بالشئون الما ورائية الأخروية، تتراوح بين ديانات الأسرار وديانات العقل الواضح، بين الديانات المؤمنة بالخلاص الفردى والديانات المؤمنة بالمصير الجماعى كل حسب عمله وميزان هذه الأعمال، بين الديانات التي ترى أن ثنائية الخير والشر ترجع إلى ثنائية الآلهة والتى ترى أن الخير والشر من فعل الإنسان، وبينهما ما يرى التكليف مناطا للكائن العاقل الذي عليه إرادة فعل الخير وإرادة فعل الشر.