البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلم والدين، جدليّة الاتصال والانفصال وإشكاليّة الأنساق المعرفيّة

الباحث :  الشيخ عدنان الحساني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1150
تحميل  ( 386.973 KB )
ينطلق هذا البحث في سياق مقاربته لجدليّة الانفصال والاتصال بين العلم والدين من أربع إشكاليات معرفيّة تشكل الأساس المنهجي في التعامل مع رؤيتين متفاوتتين منهجياً هما: العلم والإيمان الديني.

أما هذه الإشكاليات التي يطرحها الكاتب فهي:

1 - إشكاليّة الإمساك بزمام السلطة المعرفيّة..

2 - إشكالية تعيين الحدود المعرفيّة ضمن مناطق الفراغ.

3 - إشكالية توزيع السلطات في إدارة الثابت والمتغير.

4 - إشكاليات تعيين الصلاحيات في نطاق المحكي والمسكوت عنه.

المحرر



يشكّل البعد العلمي للتطوّر العالمي اليوم، بحسب التصوّر الثقافي الحديث، الركيزة الأهم في تحديد معايير النظام الأيديولوجي الأوفق للإنسانيّة. فبقدر ما تقدّمه الحضارة، أيّ حضارةٍ كانت من علومٍ إنسانيةٍ وتقنيات مخبريّةٍ، بقدر ما تكون تلك الحضارة مهيئةً لاستلام استحقاقها الريادي والقيادي، بصرف النظر عن المبادئ والقواعد الأخلاقيّة التي تستند إليها اليوم. وبسبب هذه النزعة تحوّلت الرؤية الثقافية لدى الكثير من المثقفين العرب والمسلمين نحو الجنوح إلى العلمانية باعتبارها ضرورةً ثقافيّةً مُلحّةً، من أجل تكوين البنية العلميّة للمثقف أو العالم أو السياسي بوصفه متفلسفاً بقيم فصل الدّين عن السياسة.

وراحت النزعات العلمويّة ذات النسق العلماني تحيط نفسها بهالةٍ من القداسة، ولكن على طريقة الطقوس الماديّة، فهم يرفضون أن يكون لعالم المعنى والدين دوراً في تركيز الأصول الأخلاقيّة للعلم لأن الدين بتصورهم منزوع الصلاحيّة من أيّ دورٍ يقترب أو يتقارب مع العلم..

وعلى هذا فإن خلاف المثقف الديني باعتباره معبئًا بالمعنى مع المثقف العلموي هو أنّ ما يضعه الأخير من تضادٍ بين العلم والدين، وحين ينصّب نفسه كنصيرٍ للعلم على حساب الدين إنما جاء نتيجة خطأ في التقدير. إذ ليس ثمة تضادٍ بين العلم والدين إنّما التعارض قائمٌ بين مسلكين مختلفين للفهم والتفسير. من هنا فإذا كانت هناك قطيعةٌ فهي ليست بين العلم والدين، وإنّما بين النهجين العلمي بوصفه تجربةً ماديّةً والبياني بوصفه تعبيراً عن عالم المعنى. فالعلم يعتمد على معطيات الواقع والتحليل العقلي وهو ليس معنيًّا بالنصوص الدينيّة وعلاقاتها مع المعاني ذات النسق الروحي أو الميتافيزيقي، وعلى خلاف منهج العلمويّة العلمانيّة يصدق الأمر مع المنهج البياني المعنوي الذي يجد في النص وما وراءه من معانٍ ودلالاتٍ روحيّةٍ مصدره الرئيسي لتكوين المعرفة وما يساوقها من مقاماتٍ واعتباراتٍ عقليةٍ وعقلائيّةٍ ولا يشكل ذلك مفارقةً مع العلم لأنّ العلم أيضاً له دورٌ محوريٌّ في تكوين البنية المعرفية وتزويد حقول المعرفة الدينية بالكثير من المعطيات ذات السّمة التطبيقية أو التحليلية على حدٍّ سواء.

لهذا فإنّ المثقف الإسلامي معنيٌّ بحلِّ هذه القطيعة عبر عملية التوفيق بين النزعتين من دون اللجوء إلى استلاب صلاحيات منطقةٍ على حساب أخرى فإن منطقة العلم خاضعةً لمسلمات العقل والتجربة، ومنطقة الدين خاضعةٌ لمسلمات العقل والبيان. فهو - أي المثقف الإسلامي - من جانب يتقبل النتاج العلمي والسلوك المنهجي الذي يتبعه العلماء في الكشف عن أسرار الواقع وخفاياه لكنّه من جانب آخر حريصٌ على التمسك بالمبادىء والقيم التي جاء بها النص والمبادئ الدينية المتعلقة باعتباراته الشرعيّة والأخلاقيّة، مما يجعل من المثقف الديني مختلفاً تماماً عن النهج الذي عليه المثقف العلموي الذي يذهب بعيداً نحو التطرّف في إزاحة الدين عن أيّ صلاحيّة معرفيّة.

وبالتالي يرى المثقف الديني أن العلم والدين منسجمان إلى حدِّ الاندماج بل إنّ المثقف الديني يعتبر النتاج العلمي لعلماء الطبيعة يشكل دعماً كبيراً لتأييد ما ينطق به النص وما تقتضيه ظروف عالم المعنى.

من هنا نجد أنّ الرؤية الثقافيّة النقديّة قائمةٌ على تشخيص الإشكالية التي أراد المثقف العلموي تركيزها من خلال إيجاد حالةٍ من القطيعة بين العلم والدين.

وبهذا نستطيع أن نعيّن إحدى أهم الوظائف التي ينبغي أن يحملها المثقف الديني على عاتقه وهي المزاوجة بين النهجين البياني والعلمي وبعبارةٍ أدق أن يزاوج بين العلم والدين أو الواقع الذي يتصل به العلم والواقع الذي يحكي عنه النص..

كما نستطيع أن نحدّد المجال المعرفي الذي تتقاطع فيه الرؤى الكونيّة الإسلاميّة مع الرؤى الكونيّة الماديّة والغربيّة حيث لابد أن نركز دائماً على ضرورة تنقية العلوم الإنسانية (القانون والسياسة والاجتماع.. وإلخ) من مخلّفات الثقافة الغربيّة ومن إلقاءات النزعة الحداثيّة والعلمانيّة من خلال إيجاد فضاءٍ من المقاربات المعرفيّة بين هذه العلوم والعلوم الدينية.

ولعلَّ المعيار الأول لاكتساب المعرفة والعلم للصلاحيات المناسبة للتداول الثقافي هو معيارُ الإيمان فهذا المعيار هو الكفيل بتغطية حاجات النفوس البشريّة بما يناسبها من مكتسبات ثقافيةٍ وعلميّةٍ ومعرفيّةٍ لأن مقتضيات الإيمان هي الأقرب والأوفق مع مجريات السنن التاريخيّة فكلّ نكوصٍ وتسافلٍ في المجتمع البشري سببه الثقافات الهدّامة التي لا تستند إلى الإيمان والتوحيد، وكلّ ارتفاعٍ وتقدمٍّ وبقاءٍ وديمومةٍ يعود إلى مدى التزام المجتمع بأسس الإيمان والطاعة والمثاقفة التي تستند إلى تلك الأسس.

وحينما نريد أن نُجري مقارنةً بين هذه الرؤية وبين الرؤية الماديّة للعلاقة بين العلم والإيمان أو العقل والإيمان فإننا سنكتشف إشكاليات متنوعةً تحكم سير العلاقة التي تربط بين العقل من جهةٍ والدين من جهةٍ أخرى ويأتي ذلك تبعاً لإشكالية القراءات المتعدّدة في تفسير هذه العلاقة ويمكن تمييز هذه الإشكاليات وفق المحددات التالية:

1 - إشكاليّة الإمساك بزمام السلطة المعرفيّة..

2 - إشكاليّة تعيين الحدود المعرفيّة ضمن مناطق الفراغ.

3 - إشكاليّة توزيع السلطات في إدارة الثابت والمتغيّر.

4 - إشكاليّات تعيين الصلاحيات في نطاق المحكي والمسكوت عنه.

وغيرها من الإشكاليات التي تتعقد وتتداخل وفق تنوّع المدارس العقليّة والدينيّة المختلفة وهي الإشكاليّة الأعقد أقصد أن التنوع المدرسي بحدِّ ذاته يعدّ إشكاليّةً أساسيّةًّ في تحديد دائرة هذه العلاقة فالمدرسة اليونانية في حاق كونها مدرسةً عقليّةً فلسفيّةً فهي أيضاً مدرسة دينية ميتافيزيقية تؤمن بما وراء الطبيعة وربما تستند إلى شريعةٍ وقانونٍ ديني بل ذهب بعض الباحثين إلى القول بنبوّة أرسطو ونلاحظ تاريخياً أنه كلما تناسخت الشرائع تتناسخ معها إشكاليّة العلاقة مع العقل فنجد أن العديد من المسائل ذات النسق الفلسفي العقلاني عند اليهود تبدّلت إلى نسقٍ آخر مختلف عند النصارى وهذا يثبت أن العقلانيّة التي تتحايث نسقياً مع الدين هي في الأغلب ما يدور مع مقتضيات العقل العملي وما يرتبط بفلسفة الدين والأخلاق وما يترتب على الارتكازات ذات النسق الانتزاعي (العقل الاعتباري). أما الشؤون العقليّة النظريّة (الأوليّة) أو التوليديّة (التحليلية) فهي نسقٌ ثابتٌ غير قابلٍ للتقريظ البنيوي للمدارس (الدينية وغير الدينية) فلقد (قام اللاهوتيين المسيحيين بالمزاوجة بين العقيدة الفلسفيّة الإغريقيّة القائلة بعقلانية العالم السماويّة القابلة للفهم من جهة والعقيدة الدينيّة اليهودية القائلة بعالم الربّ الإبداعي المتجلّي عن إرادة الربّ السماويّة والمضفي على تاريخ الإنسان معناه الخلاصي، ففي المسيح أصبح اللوغوس إنساناً أصبح التاريخي والأزلي المطلق والشخصي واحداً).

فمن خلال هذا النص الذي عرضه (تارناس) كإنموذجٍ تاريخيٍّ صارخٍ لامتهان العقلانية بحسب تصوّره نعلم أن جميع المدارس البشرية تتفهم علاقة العقل بالدين إلّا أنّها غير قادرةٍ على استجلاء هذه العلاقة بالكيفيّة التي تتصل من خلالها بالواقع فتارةً تتأطر بكيفيةٍ تركيبيةٍ بنيويةٍ وأخرى بكيفيةٍ تفكيكيةٍ..

وحينما نتتبع مشكلة العقلانية الغربيّة في منهجها التجريبي نجد ثمة مجالين علميين تعاقبا في تكوين البنية التحتيّة لهذا المنهج عند الغرب مع أن كلاّ من هذين المجالين استحلاّ مرتبةً عاليةً في التطور العلمي البشري مما أتاح لهما تكوين أصولٍ منطقيةٍ لكلّ منهما وأقصد على وجه التحديد المنطق الفيزيائي والمنطق الرياضي، وبما أن مجال الفيزياء أسبق رتبةً في التحوّل المنطقي عند الغرب من المجال الرياضي فهو يعد المرتكز الأقدم للمنهج التجريبي لديهم..

فلم تكن النظريّة النسبيّة لانشتاين مجرّد إضافةٍ علميّةٍ أثّرت في التطور التقني والفيزيائي للعالم، بل إنها تعتبر مرجعيّةً تأسيسيّةً للتنظير والتعميم المنطقي في شتى مجالات العلوم..

أكثر من ذلك حيث إنّها تخطّت بحسب التنظير الغربي مساحة العلوم وانتقلت إلى مساحات فلسفيّةٍ رحبةٍ من قبيل نسبية الأخلاق، وإحالات اللغة، ونسبيّة الفهم، وتعدد القراءات وعُممت على مستويات تنظيرٍ مختلفةٍ من قبيل النسبيّة الذاتيّة والنسبيّة الفرديّة والنسبيّة التطوريّة.. إلخ..

من هنا فإن المحدد الأساس الذي تستقر عنده النتائج المتولدة عن أصول المنطق الرياضي والفيزيائي على حدٍّ سواء هو عنصر الاستقراء، نعم ثمة محددات أخرى دخيلة في توليد هذه النتائج ترتبط بمراكز الوقائع والاحتمالات ودوال الاحصاء إلا أنّها جميعاً تتصل بعوامل من قبيل التكرار والكمّ وهي عوامل استقرائيّةٌ بحتة.. فكان منطلق العقلانيّة الغربيّة لتفريغ الحالة الميتافيزيقية للدين من حمولتها العقليّة هو هذه المفارقات التجريبيّة والنظريات القائمة على الاحتمالات والاستقراء ومن ثم نفي الاطلاق والاتجاه نحو النسبية..

إذن معيار الإيمان أو القاعدة الدينيّة في توسيط الحدود العقليّة هي المرجعيّة الأساس لتحديد العلاقة مع القيم العلمية فكلما كانت هذه القيم منسجمةً مع نواميس الكون والطبيعة ومع السنن التاريخيّة السويّة كلّما اكتسبت صلاحيات مناسبة في تمرير مفاعيلها الاجتماعية وتضاعيفها الحضارية..

العقلانيّة والعلاقة مع فلسفة الدين

الدين في منطق القرآن الكريم ليس بديلاً عن العقل في تقصّي الحقائق، بل هو مرشد له في المناطق غير الأهلة بعناصر القياس ومقرٌ له في مناطقه المحدّدة بمعاييره التامة أو الناقصة كما في البرهان أو الاستقراء وغيرها من أدوات العقل المعرفية..

ولعلّ منشأ الاختلاف بين المنهج الديني والمنهج العقلاني الغربي هو في تفسير وظيفة هذه المرجعيّة (العقل) فثمة اتجاه يرى أن العقل هو الطريق إلى الحقيقة بما هي حقيقة يقينيّة وبالتالي يعيّن لنا كيفيّة الإمساك بالطريقة والأيديولوجيا الموحّدة والثابتة التي تناسب طبيعة الوجود الإنساني وموقعه في العالم وتتصل بالأصول العامة للحياة والوجود.. وهذا الاتجاه هو الدين.

أما الاتجاه الآخر فيرى أن العقل ليس سوى طريقٍ إلى التكامل والتطور والتكوثر الانفصالي للعلم، أي أنّنا لسنا معنيين بالحقيقة بقدر إهتمامنا بالوصول إلى درجة التكامل العلمي والترف المعرفي الذي يوفّر للبشر رفاهاً اجتماعياً متقدماً، فما ننتظره من العقل هو قدرته على توفير فرص التكامل من حيث الاستكشاف وهذا الاستكشاف ليس هو الغاية وإنّما هو محطّة لمعرفة ما ينسجم مع تلك الحقيقة العلميّة التي ستكون بمثابة تحوّلٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ وتقنيٍّ باتجاه التكامل والرفاه. وبما أنّ الغاية تبرر الوسيلة، فإنّ الوصول إلى هذا الترف والرفاه لا يمكن أن تكون وسيلته منبسطةً مع قيمٍ منطقيةٍ ذات مناشئ انتزاعٍ ميتافيزيقيٍّ لأن هذه المناشئ تقدّس الحقيقة بوصفها الأبسيتيمي وتهتم بها أكثر من اهتمامها بالبنية التكوينيّة التي تتعامل مع المعقول بوصفه الفينومولوجي لذلك انتهج هذا الاتجاه طريقة التماثل بالتجربة، بمعنى أن نعطي أحكام المثل للمثل من خلال التجربة والملاحظة والاستقراء فقط لا بالقياس والبرهنة والمشاكلة الصارمة بين الحدود ذات الأبعاد التجريديّة الصرفة..

ولعلّ المنطلق البراغماتي الذي اعتنقه أتباع هذا الاتجاه أتاح لهم التجرّد عن أغلب القيم ذات الحيثيات التقييدية أن على مستوى الفكر أو على مستوى السلوك ووضع بين أيديهم أفاقاً منفلتةً أخضعت كلّ شيءٍ للقيم ذات الحيثيات التعليلية والتجريبية..

فلم تكن مشكلة المعقول اللاحسي عند المدارس الغربيّة مشكلة تقابلٍ عدميٍّ فحسب، بل راحت تبحث عن متقابلاتٍ قلقةٍ علّها تحمل أجوبةٍ جدليّةٍ تنفلت عن عقال الحقائق الخلفيّة للطبيعة والوجود، فلو بحثنا عن مفهومٍ محدّدٍ عند هذه المدارس وليكن مفهوم الواقعيّة على سبيل المثال فإننا لا نجد بالمقابل منه ثمة تمثّل لا واقعي بمعناه العدمي وإنّما تمثلات مختلفة ومتباينة من حيث التنظير والتأصيل المنطقي فنحن نتحدث في مقابل الواقعيّة عن المثاليّة وعن الشكلية وعن الظاهراتيّة و...إلخ وإذا تحدثنا عن مفهوم النظام بشكله الطبيعي فإنّنا لا نتحدث بالمقابل عن اللانظام بقدر حديثنا عن الفوضوّيّة أو الصدفة أو الطفرة أو الانتخاب أو...إلخ وهذا يعني أن العقل لا يملك سلطةً معرفيّةً تخوله التأثير كوسطٍ اثباتيٍّ للحقيقة، وإنما مجرّد مثيرٍ نفسيٍّ يتماهى مع الظاهرة ويتلبس تموّجاتها المتحوّلة من أجل أن تستجيب لتساؤلاته الصادرة بموجب التجوال النفسي للمستشكل..

بل ذهب بعض مفكري الغرب إلى أكثر من ذلك، حيث رفض أن يتسلّم العقل مفتاح الحكم فضلاً عن الإدراك والاستكشاف. وإنّما يجدر بالعقل بحسب زعمه أن يقع نتيجةً من نتائج العلم وهو ما صرّح به غاستون باشلار من أن (ليس ثمة عقلٌ ثابتٌ يحكم جميع أنماط معرفتنا فالعقل نتيجةٌ من نتائج العلم وهو إنشاءٌ لاحقٌ غايته الإفصاح عن المناهج العلميّة).

من هنا لا يمكن أن نحدّد ضابطةٌ موضوعيّةٌ صريحةٌ ومحددةٌ حول مفهوم العقلانيّة عند الغرب وأعتقد أن السبب يعود إلى ذلك الأساس المعرفي الذي انتهجته هذه المدارس لاستكشاف العلاقات الموضوعيّة بين القضايا والأشياء.. وهذا الأساس يعتمد التجربة وما يدور في فلكها من أدوات وعناصر ومفاهيم كموميّة كالملاحظة، التكرار، الظاهرة، الاحتمال، الإحصاء، الاستقراء، ولكي نقيم هذا الأساس لا بد أن نستعرض مواصفاته المعياريّة..

هذا من الناحية العلمية، أمّا من الناحية النقديّة فإنّ العقلانيّة الغربيّة سوّغت لنفسها أن تنتزع من الأيدلوجيات الدينيّة مبرزاتها القيميّة، وتمارس في حقّها أبشع عمليّات التشويه، وذلك باتباع طرائق نقديّة تستند إلى افتراضاتٍ مجرّدة عن التصّور العقلي الخالص فضلاً عن التصديق وعناصر الحكم المنطقي السليم (فهي اتجهت إلى حذف القداسة من مصادر المشروعية ومنابع المعنى، واتجه مبدأ هذا الحذف بصورةٍ خاصةٍ نحو رؤية العالَم لأنّها النواة المركزيّة التي تدور في فلكها جميع عناصر الثقافة الأخرى (المعرفية، والقيمية، وغيرهما). فرؤية العالَم ليست انطباعاً شخصياً عن العالَم المحيط بنا فحسب، إنمّا هي كيفيّة فهمنا للعالم، وطريقة التفكير فيه، ومقاصد الفعل الإنساني التي يسلك الإنسان من أجلها. فالرؤية موصوفةٌ بالكلّية والشمولية. والعقل الحداثي قدّم لنا صورة «عقلانية للعالم تدمج الإنسان في الطبيعة، والعالَم الصغير في العالَم الكبير، وفي رفض كلّ ثنائيّةٍ للجسد والروح، للعالم البشري وللعالم المتعالي».

في المقابل من ذلك فإن المنطق القرآني كما أسلفنا وضع العقل في مرتبته اللائقة من دون أن يستلزم ذلك تعطيلاً لمدركاته.

في منطق القرآن يحتلّ الوحي موقع القيادة والتوجيه لباقي مصادر المعرفة وخصوصاً العقل، لماذا؟، لأن الوحي هدايته ترتبط بكلّ الأبعاد الفوقيّة والتحتيّة التشريعيّة والتكوينيّة المبادئ والنهايات، بينما العقل هدايته بنيويّة ذات مبادئٍ أوليةٍ تتصل بالفطرة والقياس إلى الواقع بوصفه طريقاً للحس أو الخيال أو الوهم أو الإدراك العقلي.

نخلص من كلّ ذلك إلى أن الكمال الإنساني متصلٌ بتحصيل السعادة، وللسعادة طريقٌ واحدٌ يمرّ باليقين ليصل إلى الحقّ ولا يمكن للمثقف الواعي أن يتّخذ من الباطل سبيلاً لأن الثقافة ليست مجرد تراكم معلومات وخبرات بل هو نسقٌ منظوميٌّ متحركٌ باتجاه التكامل مع الحقّ والحقّ طريقه اليقين واليقين منشأه الاتصال بمبادئ الثقافة الحقّة وهذه المبادئ هي المعايير التي حدّدها الدين بوصفه إلهياً لتكون منشئاً للثقافة الحقّة من قبيل (العقل والوحي)..

فلسفة الدين وأصالة اليقين من المنظور القرآني

حينما نريد أن نستكشف الماضي ونستحضر محتواه الداخلي لتقديمه كمنجزٍ حضاريٍّ مفعمٍ بالحيوية والعطاء والتجدّد علينا أن نعيّن تأصيلاً ثابتاً قادراً على تحويل ذلك المضمون إلى خيارٍ استراتيجيٍّ للتعامل مع المتغيرات الحضاريّة المتجدّدة من خلال تكوينه في أنساقٍ وصياغاتٍ وأطرٍ وبرامج تتوافق تماماً مع متطلبات العصر...

لكن ماهي الأصالة التي تستحق أن تكون نقطة إرجاعٍ واسترجاعٍ وتكوين الحالة الثقافية مجتمعياً وحضارياً؟ لأن الأصول هي التي تميز الحضارات، وتعين نقاط ارتكازها الحضارية والثقافية، فثمة مدارس اتخذت مثلاً أصالة القوّة كنقطة ارتكاز للتنمية الحضاريّة، ومنها من اتخذت أصالة العمل، وأخرى أصالة المجتمع، وهكذا فما هي الأصالة التي نستطيع من خلالها تعيين نقطة الارتكاز الحضاري الذي نؤمن به كمسلمين؟

وبما أن معظم المدارس الغربية حينما تريد أن تستكشف الحضارات القديمة من حيث آثارها المادية والثقافية فهي تحاول استحضار أربعة مفاهيم بحسب ما يطلقون عليه بالأركيولوجيا وهي:

1 -مفهوم الحادث الذي يتعارض مع الخلق والإبداع.

2 -مفهوم السلسلة الذي يتعارض مع الوحدة.

3 -مفهوم الاطراد الذي يتعارض مع الأصالة.

4 -مفهوم الإمكان الذي يتعارض مع الدلالة.

من هنا فإن الأركيولوجيا تتناول الانقطاع والانفصال ولا تهتم بالبدايات والنهايات. ولعلّ أغلب هذه المدارس تؤمن بالقيم الانفصاليّة للثقافة والمعرفة والقليل منها من يؤمن بالقيم الاتصاليّة ذات المسوّغ التاريخي التراكمي التطوري.

بالمقابل من ذلك فبما أننا من أنصار الاتجاه الاتصالي إلّا أن لنا أصولاً وأسساً تختلف جذرياً عن تلك المدارس ونقاطها الارتكازيّة فما هي الأصالة التي نعود إليها كنقطة استرجاعٍ حضاريٍّ بحيث نستحضر معها (الوحدة والأصالة والدلالة بالإضافة إلى الخلق والإبداع والتطور).

نعتقد أن الحضارة الإسلاميّة بوصفها حضارةً قرآنيةً، فهي مرتبطة تأصيلاً بالتوحيد كعقيدةٍ، والعبادة لله تعالى كسلوكٍ، وبما أن العبادة تتصل بدالة اليقين بوصفه غاية ومقام (وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين) فالأصالة المعرفيّة عند المثقف المسلم هي (أصالة اليقين).

فاليقين هو نقطة الارتكاز بين العقيدة والسلوك من جهةٍ وبين متطلبات الحضارة السياسيّة والاجتماعية المتجدّدة والمتطوّرة من جهةٍ أخرى.

وبذلك نكون قد أحرزنا مفهوم الوحدة والدلالة والاتصال بعالم المعنى من جهة وبالتاريخ ومضامينه الثابتة من جهةٍ أخرى وتلك هي مفاهيم القيم الاتصاليّة والتطوريّة للمعرفة والمثاقفة بين المجتمع وأصوله الثقافية.

وبذلك تكون العبادة طريقاً نحو أصالة اليقين، واليقين موضوعاً للتوحيد، والتوحيد هو الاتصال بالحقيقة الأولى (معرفة الله) وبالحقائق ذات المعاني المتعالية والتي تحقق للإنسان وصوله إلى السعادة المعنوية.

ولكن ينبغي أن نفهم أنّ أصالة اليقين التي نؤمن بها كنقطة ارتكازٍ معرفيٍّ وحضاريٍّ لا تتقوم بالعناصر الوحيانيّة فحسب وإن كانت تلك العناصر تشكّل مضمونها ومحتواها ومحورها الأساس إلا أنّ ثمة عنصر آخر بنفسه اتخذ من قبل العنصر الوحياني كمعينٍ ومحددٍ أصيلٍ في تحريك خاصية الارتكاز الثقافي والمعرفي وهو العقل فالعقل هو العنصر الخام الذي توفّر مواده الأوليّة وحدودة المبدئيّة إمكانات الإنتاج المعرفي منضماً مع المنجز الوحياني المتعالي فالوحي هو منظومة امتيازٍ معرفيٍّ خاصة تتقاطع مع العقل في مناطق معيّنةٍ وتتصل به في مناطق أخرى..

واليقين على شرط الإسلام ليس مجرد توجّه الذهن وإذعانه بنتيجة البحث والاستكشاف بل هو استحضارٌ للقيم الحقّة واستبعاد الباطل ولا يتأتى الاندماج بالحق إلّا من خلال التخّلق به، فالغاية إذن من المعرفة هو الاندماج بالحقّ والتخلّق به من خلال الطاعة والعبادة والانصراف عن كلّ القيم الهابطة التي تضرّ بهذا المسار المعنوي والسلوكي للإنسان.

أصالة اليقين والمصدر القرآني للمعرفة

لم يكن التأصيل لمقولة اليقين مجرد مقاربةٍ وتوليدٍ نظريٍّ، بل هو إنشاءٌ وجعلٌ وحيانيُّ يجسّد عناصر الواقع الموضوعي لحركة المجتمع القرآني والجعل اليقيني ليس معناه جبراً ذهنياً للمعرفة ونتائجها، بل هو نسقٌ ينعزل عن بعض المناطق التي يضيء عليها عقل الإنسان بوصفه محدود القياسات ويتصل مع العقل  - يؤيّده أو يهديه - في بعض المناطق ذات الأبعاد التكوينيّة أو ذات المناشئ الصناعيّة من قبيل التدليل والتعليل والبرهنة.. في حين أن مجمل المدارس الغربيّة باتت ترفض الاتصال بشيءٍ اسمه اليقين حتى أن (بوبر) باعتباره من منظّري المنطق العلمي الحديث يقول بأنّ (النظريّة تكون علميةً فقط إذاً هي كانت قابلةً للتفنيد). ويستنج من ذلك أن هدف العلم لدى بوبر لا يتمثل إذن في الوصول إلى ماهو يقينيٍّ وحقيقيٍّ بطريقةٍ نهائيةٍ بل العكس هو الصحيح في هذا المنظور الجديد للعلم.. وهذا تنكّرٌ واضحٌ للبديهيات وانقلابٌ شاملٌ على كل الأسس الفكريّة للإنسان السوي.

وحينما نريد أن نستنبط ظاهرةً يقينيّةً من خلال آيات الكتاب الكريم فلا يسعنا إلّا أن نفتش عن تلك الأصول المعرفيّة التي ثبتها الكتاب الكريم وهذه الأصول تتصل بطرقٍ وآلياتٍ متعدّدة، منها الطريق الحسيّ، ومنها الطريق العقليّ، ومنها الطريق الوجدانيّ (الحدس والإلهام)، ومنها الطريق القرآني الذي يعتمد البرهنة المباشرة كما في قوله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).

من هنا فإن أصالة اليقين هي منهجٌ للوصول إلى معارف القرآن الكريم والمعارف الإسلاميّة الأخرى واليقين له مراتب ومستويات منها ما يحقق الاطمئنان العالي بأيّ طريقةٍ كانت (الكشف والشهود.. الاستدلال المباشر.. الاستدلال غير المباشر.. المقطوع به من النص) ومنها ما يحقق الظن الموجب للاطمئنان (النقول والسمعيات والاجماعيات وغيرها).

والكتاب الكريم باعتباره نصاً متعالياً قطعيَّ الصدور فهو المصدر الأساس للمعارف والذي يحقق بموجبه مقتضيات اليقين والبرهنة الوحيانية المباشرة.

ولكن كيف لنا أن نستنطق القرآن الكريم بناءً على تلك الأصول المعرفية بحيث تتكون لدينا بنيةٌ معرفيّةٌ متأصلةٌ باليقين أو بما هو موجبٌ لاستقرار النفس واطمئنانها..

لا شك أن عملية الاستنطاق ليست أمراً سهلاً ومتاحاً لكلّ الناس خصوصاً وأنّ الكتاب الكريم له مراتب وبطون، وفيه المحكم والمتشابه، وفيه الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام.. وإلخ.

 ولكنَّ الجوَّ العام الذي يتيح للإنسان الاتصال بالحد الأدنى لعمليّة الفهم يمكنه أن يعطينا عناصر الاستنطاق ذات النسق الاجتماعي المتحرك فالمجتمع القرآني هو المجتمع الذي يتفاعل مع القرآن وتعاليمه من منطلق الفهم العام والأجواء اللغويّة الظاهرة على سطح الوعي ولو بمعونة التنبيه والتبليغ الراشد أي بمعونة التعليم والتزكية فإن التعليم والتزكية توفر للمجتمع حالةً من الوعي المناسب للتحرك باتجاه الأصول المعرفيّة الواعية للقرآن الكريم.

العلم والدين وإمكانات التخطي لمراحل التطور التاريخي

حينما نتكلم عن مجتمع ما بعد الحداثة وفق المنظور الغربي فبالضرورة لا نخرج عن دائرة الاحتياجات. الفارق بين احتياجات عصر مابعد الحداثة عما قبلها هو أنّ الحضارة الغربيّة عاشت في عصر الحداثة تكوين الذات ضمن معطيات التطوّر الاقتصادي وعلاقته بالنظم السياسية، أما عصر مابعد الحداثة فهو عصر الانتقال إلى مرحلة الانفصال عن الذات والاتصال بالأشياء في دائرة طبيعتها الترفيّة أو التوكيل عن الذات حيث أصبح للآلة والروبوت الحضور الأول في الفعاليات الحياتيّة ولم يبق للإنسان إلّا الانصياع للهامش وعليه سوف يكون النظام الاجتماعي وبالتبع السياسي في حالة سباتٍ فتنامٍ تبعاً لذلك فعاليات الفطرة والاعتدال الغريزي، ويسيطر الترف على ميوله فتتصعّد عوامل الطغيان والعدوان على سائر الحضارات التي لا تعيش عصور السوبر حداثة وما بعدها.

من هنا نفهم السر في تركيز الإسلام على قيم النفس والذات وتهميش قيم الأشياء والحاجات إلا بقدر الضرورة وذلك لأن كمال النفس يعطيها حافزاً للاحترام فتكون ثقافة الاحترام هي السائدة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الآخرين، وتبعاً لذلك تتلاشى الميول إلى الظلم والعدوان، وبالتالي تكون الحاجة إلى النظام السياسي غير خاضعة لتلكم الميول ما يسهم في الاستقرار الاجتماعي والسياسي وبالتالي تتصاعد قيم المجتمع نحو العصمة.

طبعاً هذا من حيث النظريّة والمبدأ، أما من حيث الواقع العملي فلا ريب أن العالم الإسلامي وهو ينوء تحت قيم الاستضعاف من جهةٍ وقيم الابتعاد عن القيم من جهةٍ أخرى وضعه في دائرة الحرمان القيمي، وبالتالي فهو غير جديرٍ في هذه المراحل على إدارة نفسه فضلاً عن إدارة الحضارة الإنسانية ككلّ، لذا فإن الفقه السياسي الإسلامي ومن خلال ما يتمتع به من مناطق فراغٍ تشريعيّةٍ على شرط مدرسة الإمامة يحاول أن يدير هذه المراحل وفق الظروف الاستثنائية المتاحة، ووفق نظرياتٍ فقهيّةٍ غير إجماعية.

التفسير المعرفي لهذه المرحلة

أما ما هو الفارق بين نظرة الغرب إلى قيم ما يسمّونه ما بعد الحداثة، وهو بحسب أمانيهم سيكون ناتجاً عن معطياتٍ وقيمٍ علميّةٍ تقنيّةٍ صرفةٍ، بحيث تنعدم القيم الذاتية فضلاً عن القيم الكبرويّة الكليّة، بينما بحسب نظرتنا الإسلاميّة وقيمنا ومعطياتنا فإن مثل هذه المرحلة والتي لا يمكن الانتقال إليها إلا بقدرةٍ بشريّةٍ استثنائية متمثلة بالمعصوم ناتجة عن تغليب الثوابت السلوكية وأهمها ثابتة العدل، بالإضافة إلى قيم العلم والتطوّر التي ستتأتى بحسبنا عن الاتصال بملاكات الحقيقة العلمية المطلقة وأهم فارقٍ بين النظرتين هو كالتالي:

إذ تعتمد نظرية الحداثة في تقنين قواعد العلوم على مبدأين أساسيين:

الأول: النسبيّة.

الثاني: الشك المنهجي (الريبة).

والمبدأ الأول هو وليد نظريّة أينشتاين في الفيزياء الحديثة وهي النظريّة التي تحدّد الإطار النظري لفهم العالم في أبعاده الكبرى.. النجوم.. المجرات وتجمعات المجرات.

والمبدأ الثاني هو وليد نظريّة هايزنبرغ في صياغته الجديدة لنظريّة ميكانيكا الكوانتم، وهي النظرية التي أول من شكّل مفاهيمها الفيزيائي الألماني (ماكس بلانك) وتطوّرت بعد ذلك على يد مجموعةٍ من الفيزيائيين وهم (لويس دي بروليه، وأرفين شرودنغر، وماكس بورن) ومن ثم جاء هايزنبرغ الذي أسس هذا المبدأ باعتباره يحدّد خصوصيّة نظريّة (الكوانتم) وهي النظريّة التي نشأت على انقاض نظريّة النسبيّة وإنْ لم تلغها من بعض خصوصياتها ومبادئها التي إلى الآن تدرس في الجامعات.

وبما أنّ النسبية والشك ضد الحتميّة والإطلاق فإن جميع الخصوصيات الناتجة عن هذه القواعد العلمية لا يمكن الركون إليها وتعميمها على السياقات التطوريّة للمجتمع والسياسة، نعم نتائجها التقنية قد تكون مضمونة خصوصاً وهي ترتبط بالخواص الفيزيائيّة والكيميائيّة للأشياء، ونحن قلنا أن القيم المرتبطة بالأشياء لا يجوز أن تعمم على قيم الإنسان ومن أهم القيم الإنسانية المحرمة والتي ليس من حق أحدٍ التلاعب بها هي قيمه الاجتماعية وإدارته السياسية لذلك نحن نرى أن الديمقراطية باعتبارها أحد مخارج النسبيّة والتعدديّة لا تمتلك قيمةً ذات بعدٍ معنويٍّ أصيلٍ يتصل بالحقائق التكوينية للبشر والتي لا يمكن الاتصال بها إلا من خلال تشريعاتٍ وتقنيناتٍ خاصةٍ ترتبط بملاكاتٍ علميّةٍ خاصة لا يملكها إلّا المعصوم بحسب اعتقادنا.

أما النظرية الإسلاميّة في تقنين مبادئ العلوم فهي تقوم على ركيزتين:

ـ البرهان العقلي أو (الإطار المعرفي).

ـ الوحي أو (الإطار ما فوق المعرفي).

ولكن مع أنّ هاتين الركيزتين من حيث الصلاحيات المتّصلة بملاكاتهما التامة قادرتان على تحريك القيم المتصلة بالإنسان وبالأشياء معاً، حيث يمكنهما تحريك الإطار الحضاري التطوري، إلا أنهما من حيث القابليات البشرية منفصلتان عن واقع الأمة، إلا بحدود بعض الملاكات الناقصة المرتبطة بالقدرة ذات الطابع اللامعصوم عن الخطأ.

ولذا فإن عصر مابعد الظهور سيكون عصر حضور الملاكات التامة للعقل والوحي معاً، فتتحرّر العلوم من النقص الملاكي أو النسبيّة والشك، وينبسط اليقين ليتحقق بذلك الطور ما فوق المعرفي للإنسان الذي سيتصل بعوالمه العقلية بصورةٍ مباشرةٍ.

وبالتالي تكون العصمة العلمية كفيلةً بتحقق العصمة الإداريّة والسياسيّة، فيكون المجتمع مؤهلاً لتقرير مصيره، وإدارة حركته التاريخية وفق القيم اليقينيّة التي ستكون شاملةً لجميع السنن التاريخية والنواميس الطبيعية.

العلم الحديث والرؤية الكونية الغربية.. قراءة نقدية

1 -نظرية المعرفة ونظريات الفيزياء في الفكر الغربي

لا يخفى على من له اطلاعٌ معرفيٌّ جيد في أروقة المدارس الغربية من أن المفاهيم التي لها علاقة في تكوين النظريّة المعرفيّة هي متغيرة وغير ثابتةٍ، فهي تختلف في الحقل المعرفي الواحد من مفكّر إلى آخر، وما ذلك إلّا لأنّ مصادر المعرفة غير ثابتةٍ وكذلك القيمة المعرفية لهذه المصادر غير مضمونة النتائج، وذلك بسبب النزعة الماديّة الحسيّة التجريبيّة التي تتميز بها هذه المدارس. فنجد الكثير من المفاهيم التي تتكون منها نظريّةٌ معرفيّةٌ ما لا تخرج عن كونها مصادرات متسلمة من نظرياتٍ وقوانينٍ طبيعيةٍ إمّا فيزيائية أو كيميائية، في حين من المفترض أنّ نظرية المعرفة هي القانون العام الذي يتسيّد على جميع الحقول المعرفية، لا أنه يستلم منها مفاهيمه العامة خصوصاً وأنّ أغلب القوانين الفيزياوية مستندةٌ إلى نظريات وليس إلى بديهيات ذاتية أولية ثابتة. ولعل أهم ثلاثة مفاهيم مقتنصة من عموميات قوانين الفيزياء هي:

ـ التجربة.

ـ النسبية.

ـ التعميم.

ونتعرض إلى بعض النظريات والقوانين الفيزيائية التي أثارت الكثير من الجدل في المدارس الفكريّة وهي:

1 -نهاية المادة في نظر الفكر الحداثي.. المدرسة الرأسمالية أنموذجاً.

يفترض ونحن نتعرض إلى الفكر الرأسمالي ونظرته إلى التاريخ ومابعد الحداثة، أن نلاحق النظريات الجديدة والمحدثة لهذه المدرسة، وذلك من أجل مناقشة الأشياء بحاضرها، لا بماضيها التأسيسي وفقاً للحاجة العصرية في مواجهة الأفكار المعاشة بصورة موضوعية.

فعلى الرغم من أن الرأسمالية استطاعت أن تنتج أكبر الأمبراطوريات وأقواها في العصر الحديث، إلّا أنّها غير قادرةٍ إلى الآن على إثبات وجهة نظرها من حيث تفسير القوانين التاريخية وتطويعها لرؤيتها الفكرية والاقتصادية. وبدا هذا واضحاً من خلال ما يتجلّى من رؤيةٍ تشاؤميّةٍ صارخةٍ تصدع بها كتابات الفلاسفة والمؤرخين الرأسماليين، أو الذين يتناغمون معها سياسياً فهذا شبنجلر الألماني يتنبأ بتدهور الغرب وفق ما يسميه بصدام الحضارات والذي على أساسه يصار إلى بناء نظامٍ عالميٍّ جديدٍ، قد لا تجد الرأسمالية فيه موطئاً لقدمها، وهذا الكتاب على الرغم من كونه قد سبق بروز الأمبراطورية الأميركيّة كقوّةٍ عظمى إلّا أنّه بقي مرجعاً لتشاؤم الرأسمالية وخوفها من المستقبل.

بل إنّ هذه النظرة التشاؤميّة تركّزت وأخذت بعداً علميّاً مع وصول الأمبراطورية الأميركية إلى مرحلة الأوج في الاقتصاد والقوة.

«فعلى الرغم من أن المجتمع الأميركي حديث التكوين الحضاري، ولا يمتلك رصيداً تاريخياً موغلاً في القدم، فضلاً عن انصرافه إلى النشاطات العلميّة التكنولوجيّة والعمرانيّة أكثر من النشاطات الفكريّة والفلسفية والتاريخية، على الرغم من ذلك إلا أنّ نجاح أميركا في صراعها القطبي في مواجهة الشيوعيّة دفع المنظرين الرأسماليين الأميركيين إلى رسم تفسيراتٍ ونظرياتٍ تتماشى وخط الفلسفة السياسية والاقتصادية الأميركية».

وفي ما نحن بصدده فإن المفكرين والفلاسفة وعلماء الفيزياء المحسوبين على الرأسمالية هؤلاء على الرغم من أنهم لم يتورّطوا في تفسير أزليّة المادّة بقدر ما تورطت الماركسيّة خصوصاً وأن نظريّة الديانميك الحراريّة نشأت من هذه المدارس، إلا أنّهم أيضاً غير قادرين على توفير ضماناتٍ علميّةٍ لثبات هذه النظرية وعدم تبدّلها خصوصاً وأنّها تحوي جملةً من نقاط الضعف - من حيث ربطها بالعلاقات الاقتصادية - بعد التجاوز عن نقاط القوة التي تدعم ما يذهب إليه الإلهيين من حدوث المادة وعدم أزليتها والتي أشار إليها السيد الشهيد في مناقشته للماركسية.

وأهم نقاط الضعف التي قد تؤشر على هذه النظرية - بصرف النظر عن مدى انطباق النظرية مع الواقع الكوني - هي كالتالي:

1 -ربط القوانين الفيزيائيّة بقوانين الاقتصاد والمال وهو ربطٌ غير علميٍّ وذلك لأنّ القوانين الفيزيائية لها مطابق إما مادي أو طبيعي، بينما قوانين الاقتصاد والمال هي قوانينٌ اعتباريةٌ ليس لها ما بإزاء سوى أطراف الطلب والعرض أي إنّ مناشئها افتراضية.

2 -إقحام اللغة الفيزيائية وتوظيفها لبيان العلاقات الاقتصادية، وهذا التوظيف أيضاً لا يتمتع بقدرٍ من العلمية بعد التقصّي من أن لغة الاقتصاد محدودة المصطلحات وذات مداليل ومحددات منقحة يقول اوجست سوانينبيرج.

جديرٌ بالذكر أنّ للاقتصاد لغته الخاصة التي يجب التعامل معها كأيّ لغةٍ أجنبيّةٍ.... ولحسن الحظ فإن عدد الكلمات الاقتصادية الغريبة محدودة.

3 -إهمال البعد التاريخي للنظرية من حيث الأزلية والحدوث، وربطها بالبعد الاقتصادي، في حين أن ارتباطها في البعد الأول أقرب من حيث الملازمة والاستنتاج من ارتباطها بالبعد الثاني. يقول جيرمي ريفكن -وهو من أكبر منظّري الرأسمالية المعاصرين- في كتابه "مجتمع الصفر وهامش التكلفة": (لقد توقّع علماء الاقتصاد هذه التغيرات قبل حوالي قرنٍ من الزمن، ليدخل العالم لعصر الغزارة لا الندرة، ولكنهم لا يعرفون ما نوع النظام الاقتصادي القادم. ويبدو بأننا ندخل عصر نظامٍ اقتصاديٍّ جديد من قلب النظام الرأسمالي القديم، حيث ستكون المنتجات المجانية في ازديادٍ مضطردٍ مع الزمن. كما أن النظام الرأسمالي، الذي اعتبر الآلية ذات الكفاءة العالية في تنظيم النشاطات الاقتصادية، معرّض للخطر لسببين. والسبب الأول هو الاختصاصات العلميّة الجديدة المتداخلة، والتي جمعت علوم البيئة، والكيمياء، والأحياء، والهندسة، والهندسة المعمارية، وعلوم تخطيط المدن، وعلوم المعرفة التكنولوجية، تتحدى اليوم النظريات الاقتصادية التقليدية، وبنظريات اقتصاديةٍ جديدةٍ، مرتبطة بقوانين الثرمودينامك، أي الديناميكا الحرارية. فالنظرية الرأسمالية التقليدية صامتةٌ أمام العلاقة بين النشاطات الاقتصادية، والتحديات البيئية الأيكولوجيّة، التي فرضتها قوانين الطاقة. فقد فشل علماء الاقتصاد التقليديين في معرفة، أن قانون الديناميكية الحرارية، تحكم جميع النشاطات الاقتصادية. فالقانون الأول والثاني فيها تؤكد بأن مجموع الطاقة الكونية ثابتة، وبأن مجموع «الانتروبيا» في ازديادٍ مستمر، فالطاقة موجودة في الكون كما هي، ولكن تتغير باستمرار، من طاقةٍ متوفرةٍ للاستخدام، إلى طاقةٍ غير متوفرةٍ للاستخدام (انتروبيا). وهنا يلعب القانون الثاني دوره، حيث تتغير الطاقة من الطاقة الحارة، إلى الطاقة الباردة، ومن طاقةٍ متجمّعةٍ، إلى طاقةٍ متناثرةٍ، ومن طاقةٍ منتظمة، إلى طاقةٍ فوضويّةٍ. فمثلاً حينما نحرق الفحم الحجري، تبقى الطاقة الناتجة ثابتة، ولكنها تنتشر في الفضاء، في شكل ثاني أوكسيد الكربون، وأوكسيد الكبريت، وغازات أخرى. فمع أننا لم نفقد الطاقة، ولكن تبقى الطاقة الناتجة لا يمكن الاستفادة منها، ولذلك يعرّف علماء الفيزياء الطاقة التي لا يمكن الاستفادة منها «بالانتروباثي». فجميع النشاطات الاقتصادية تعتمد على الطاقة الموجودة في الطبيعة لتستخدم في تحويلها لبضائع وخدمات، وفي كلّ خطوةٍ من آليّة الإنتاجية، والتخزين، والتوزيع، تستخدم الطاقة لتحويل الموارد الطبيعية، إلى بضائع وخدمات استهلاكية. فكل الطاقة التي استهلكت في صناعة البضائع، وفي تقديم الخدمات، تكون على حساب الطاقة الكونية، التي استخدمت وفقدت، لتحرك النشاطات الاقتصادية إلى سلسلة القيمة المضافة. وحتماً ستستهلك البضائع التي ننتجها، أو تتلف، أو تمرّ بدورتها الطبيعية، وتترافق بزيادة الأنتروبي، أي زيادة الطاقة الطبيعية التي لا يمكن الاستفادة منها، وعلى حساب الطاقة التي يمكن استخدماها. وفي رأي المهندسين وعلماء الكيمياء، لا توجد قيمةٌ ربحيّةٌ في الطاقة للنشاطات الاقتصادية، بل فقدان الطاقة الموجودة في الكون، في آليّة تحويل الموارد الطبيعيّة، إلى قيمةٍ اقتصادية).

ولم تقف الرأسمالية عند هذا الحد من الاستهتار الفكري، بل إنها وضعت رؤيةً لمرحلة مابعد الحداثة تلتقي مع قيم العبثية والفوضى واللاوعي مروراً باللاواقعية الافتراضية، وليس انتهاء بالميوعة ومن ثم موت الإنسان وهذه الرؤية تنسجم تماماً مع مبدأ اللامبدئية ومنتهى اللاهدفية التي جاهدت من أجلها المدارس الوضعية الغربية منذ أمدٍ بعيد.

يقول جيرمي ريفكن: 

إن نموذجاً أصيلاً جديداً من البشر يتوالد الآن، العيش المريح جزء من حياتهم في المجال السايبري وفي عوالم افتراضية وهم حسنوا الاطلاع على طريقة عمل اقتصاد الشبكات وأقل اهتمام بتكريس الأشياء لكنهم أكثر اهتماماً في الحصول على تجارب ممتعةٍ ومسلّيةٍ وقادرون على التفاعل مع عوالم متوازيةٍ بصورةٍ آنية وسريعون في تغيير شخصيّاتهم لتتماشى مع واقعٍ جديدٍ يوضع أمامهم سواءً أكان ذلك حقيقياً أم مزيفاً. إنهم رجال ونساء القرن الحادي والعشرين وهم نسلٌ مختلفٌ عن أبائهم وأجدادهم من برجوازيي العصر الصناعي.

من هنا نفهم أن مابعد الحداثة بالنسبة إلى الرأسمالية تمثل حالة إنفصالٍ تامةٍ مع التاريخ بكلّ ما يحمل من قيمٍ حتى تلك المادية بمعناها الفيزيائي فضلاً عن معناها الاقتصادي ويبقى يدور في فلك التيه يقول ريفكن في مورد آخر.

 هؤلاء الرجال والنساء الجدد قد بدأوا للتو يتركون التملك خلفهم، إن عالمهم هو صورة متزايدة الحدث فوق الحقيقي والتجربة اللاحضوية عالم من الشبكات وحراس البوابات والاتصالية. إن الوصول بالنسبة لهم هو ما يجب الاحتساب له وإذا كان أحدهم قد فك ارتباطه فذلك معناه الموت. إنهم أول من يعيش في ما دعاه المؤرخ البريطاني الراحل أرنولد توينبي بعصر ما بعد الحداثة.

في المقابل من ذلك فثمة صدمة تعرضت لها المدرسة الماركسيّة، فإن المتتبع للتطور الفكري الذي مرّت به البشرية خلال نصف القرن المنصرم يتلمس إلى حدٍّ ما مدى خيبة الأمل التي أصابت ورثة المدرسة الماركسيّة وأنصارها حتى إنهم باتوا يعترفون بكثير من التغيرات التي كانوا يعدونها ثوابت لا تقبل التغيير في أيّ ظرفٍ كان، ومن الإشارات على ذلك ما أقره أنصار مدرسة التاريخ الجديد وهي المدرسة القريبة من الماركسيين حيث يقولون:

لقد تبيّن للمؤرخين الماركسيين أنه يمكن دراسة الثقافة المادية من دون إيجاد وساطة بين ما هو اجتماعي وما هو تاريخي ومن دون تقديم تفسيرٍ مبنيٍّ مثلاً على تطور المادة والطاقة وهذا يعني أنه يجب أخذ الظروف الماديّة التي تتطور ضمنها العلاقات الاجتماعية بعين الاعتبار وتبين وسائل الإنتاج من خلالها من دون إعطائها قيمة سببيّة.

2 - ما بعد الحداثة والنظرية الفيزيائية الأخيرة (عرض ومناقشة)

تعد نظرية الأوتار الفائقة أو ما يسمونها بـ (نظرية كل شيء) من الصياغات المنسجمة مع مرحلة ما بعد الحداثة وهي لا زالت في طور التشكيل. ومع ذلك فإن هذه النظرية تحاول تفسير بداية الكون والمادة والطاقة من خلال الخصوصيات النسبيّة لأصغر أجزاء الذرّة، وهذا يعني محاولة استكشاف الحقائق إنّياً، ومتابعة التكثر الكمومي الذي يبتعد كثيراً بالمستكشف عن الحقيقة التوحيديّة والتي تعتمد على الاستكشاف اللمّي من خلال متابعة الموازين الكلية العامة. وبالرغم من ذلك نجد أرباب هذه النظرية يدّعون أنّهم توصّلوا من خلال النظرية إلى رؤيةٍ توحيديةٍ عامّة يقول ستيفن وينبيرغ: 

التوحيد هو ما نسعى لتحقيقه، لأن هدف الفيزياء الأساسي هو أن نصف المزيد والمزيد من ظواهر الكون بطرقٍ ومبادئ أبسط وأبسط.

ويقول مايكل غرين: 

إن قدرتنا على وصف الظواهر الهائلة العدد بشكلٍ بسيطٍ واحدٍ هو خطوةٌ خطيرةٌ جداً في مفاهيمنا عن الكون ووجوده.

ولكن نجد أن مشاكل هذه النظرية أكثر من سابقاتها ويمكن تلخيص هذه المشاكل على الوجه التالي:

1 -إنها تفترض أنّ الكون عبارةٌ عن غشاءٍ متداخلٍ من الأوتار، له أحد عشر بُعداً، ثلاثة منها محسوسة، والبقية غير مرئية، وهذه الأوتار المتحركة المترابطة تؤدي بالنتيجة إلى حركة الغشاء الكوني العام، ومن ثم يفترضون أنّنا نحتاج إلى غشاءٍ كونيٍّ آخر يكون مؤثّراً في حركة غشاءنا في الكون الذي نعيشه، وهكذا بالنسبة إلى الغشاء الكوني الجديد، وبذلك تصطدم هذه النظرية بعائق التسلسل الباطل أو العودة إلى مربع مشكلة الأزلية المادية.

2 - إنّ وجود أبعادٍ غير مرئيّةٍ اعترافٌ ضمنيٌّ بميتافيزيقيّة الحقائق الكونيّة، فتخرج الفيزياء عن نسبيتها وماديتها ونتائجها التجريبية.

3 - اعتراف نفس أرباب النظرية.. وهو أنها تواجه مشكلةً مهمّة، فبالإضافة لكونها تحتاج لكثير من الافتراضات... فلا يمكن التحقق من وجود الأوتار في المخبر حالياً لصغرها الشديد... وهذا يضعها في خانةٍ فلسفيّةٍ لا علمية، فالعلم مبنيٌّ على الاستقراء والملاحظة والقياس.

وبما أن أكثر النظريات الفيزيائية تعتمد على القواعد النسبيّة التي أصّلها أينشتاين في نسبيتيه العامة والخاصة، فإنها سوف لن تلقى حالةً من الثبات العلمي الذي يستقر إلى الحقائق في ذاتها الواقعيّة نعم من حيث أفاق الاستثمار التقني لمثل هذه النظريات قد يكتب لها النجاح في استكشاف العلاقات القائمة بين القوانين اللامرئيّة، كما هي الحالة مع البعد الكهرومغناطيسي والتي أدّت إلى اكتشافاتٍ عظيمةٍ بناءً على نظريّة النسبية الخاصة، ولكن من حيث التصادق مع الواقع فإن النظريّة لا تقدم تفسيراً حقيقياً لنشوء الكون وعلاقته بالمادة والطاقة والسبب في ذلك هو عدم إيمان هذه المدارس بالبعد الميتافيزيقي للأشياء وغاية ما يؤمنون به هو الملاحظة ونحن نعترف أن علماء الفيزياء ممن ينتمي إلى هذه المدارس يمتلكون قوّة ملاحظة منقطعة النظير، إلا أنّ المعاني والحقائق لا يمكن الإحاطة بها من دون اليقين في حدّه الواقعي أما الاكتفاء بمعرفة الشيء والمعنى في حدّه الملحوظ لا يعطي أكثر من النتائج الظنية الاستقرائية ومع ذلك نجد هؤلاء يرفضون فكرة الإطلاق ويعتمدون النسبية بناءً على هذه الآلية. ويحاول أينشتاين أن يجعل صلاحيات القانون العلمي مستمدّةً من قبل الملاحظ المدرك فليست لها صلاحيّةٌ تجريديّةٌ، وإنّما بالقياس إلى الملاحظ وذلك لأن مبدأ النسبيّة الخاصة قائم على حقيقةٍ بسيطةٍ وهي أننا في أيّ وقتٍ نناقش فيه السرعة مثلاً (سرعة الجسم واتجاه حركته) لا بد أن نحدد بالضبط من أو ما الذي يقوم بالقياس.. في حين أن القاعدة العلمية الفيزيائية المفروض أنها تستمد صلاحيتها من العلاقات الكونية بين الأشياء سواءً وجدَ ملاحظٌ وقائسٌ أم لم يوجد، ثم أن وجود القائس (العالم) وإن كان شرطاً لتحقق الاتحاد مع المعلوم بناءً على نظرية صدر المتألهين في وحدة العالم والمعلوم إلا أنّ هذا الشرط متعلقٌ بعالم الاعتبار على قاعدة شرط المحمول، وإلا فإنّ المعلوم متعلقٌ بحقيقته العلميّة الثابتة في عالم الحقائق، فالموجود حقيقة هو العلم أما المعلوم فبالقياس إلى العالم وهما بالقياس إلى الاعتبار، والانتفاع في ظرف الاجتماع وليس هذا الظرف هو المنشأ الواقعي لانتزاع الحقائق المرتبطة بالقوانين الكونية. فالنظام الكوني الأحسن هو أحسن بذاته حتى مع عدم وجود نظامٍ اجتماعيٍّ بالمرة وذلك على قاعدة (ليس بالإمكان أحسن مما كان).

منابع:

الاقتصاد الكلي: أوجست سوانينبيرج.

التاريخ الجديد: مجموعة باحثين، إشراف جاك لاغوف.

ريتشارد تارناس، ترجمة فاضل جكتر.

عصر الوصول: جيرمي ريفكين.

غاستون باشلار. الطبعة الاولى، 1984، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت: لبنان.

فلسفة التاريخ والنهاية الحتمية للحضارة والدولة: د/ عبد الجبار ناجي..

كتاب موقع الثقافة، هومي بابا.

الكون الأنيق: برايان غرين.

مقال بروسيومر وخسوف رأسمالية الغرب: د/ خليل حسن، صحيفة إيلاف الالكترونية.

نقد الحداثة: ألان توران، ترجمة: عبد السلام الطويل، المغرب، افريقيا الشرق، ط 2010.