البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفاهيم هيغلية، مصطلحات هيغل في الفلسفة واللاهوت والتاريخ

الباحث :  خضر إ. حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  3341
تحميل  ( 395.869 KB )
حظيت مصطلحات هيغل (1770 - 1831) ابتداءً من النصف الثاني للقرن الثامن عشر باهتمام لم ينقطع في فضاء الفلسفة الحديثة، وقد تحوّلت هذه المصطلحات في سياق المداولات التي تخطت النطاق الحضاري الأوروبي إلى مفاهيمَ تحمل عليها جملة من القضايا التي تدخل عميقاً في العلوم الإنسانية المختلفة من الفلسفة إلى اللاهوت إلى علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.

في هذا البحث الذي أعده خضر إ. حيدر سوف نطل على أبرز المصطلحات والمفاهيم الهيغلية والتي لا تزال ساريةً وحاضرةً بقوةٍ في الحقل الفلسفي المعاصر.

المحرر

-------------------------

من المفيد الإشارة في البداية إلى أنّ أحد المفاهيم الرئيسيّة عند هيغل هو تصور «علاقة الكلّ بأجزائه». وتوضيح ذلك أنّ أيّ جزءٍ من الكلّ هو على ما هو عليه بفضل علاقته بالنسق ككلٍّ وبالأجزاء الأخرى. وربّما نلاحظ ذلك بصورةٍ أكثر وضوحاً في الكائنات الحيّة، ففي أيّ كائنٍ حيٍّ، يكون كلّ عضوٍ على ما هو عليه لأنّه جزءٌ من كلٍّ. ولا يمكن أن ينشأ جزءٌ أو يبقى إذا لم تدعمه الأجزاء الأخرى ويساعد هو في تدعيمها. (وهذا التفسير للكائنات الحيّة، الذي ربّما يدين به هيغل لأرسطو، الذي يدين له بطرقٍ كثيرةٍ، هو تفسيرٌ صحيحٌ، على الرغم من أنّه قد يكون في نباتٍ ما أو حيوانٍ ما أجزاءُ قليلةٌ ليس لها فائدةٌ أو حتى أجزاءُ ضارةٌ مثل الزائدة الدوديّة في الإنسان، وقد أهمل هيغل هذه الاستثناءات). وقد مدَّ هيغل مفهوم العلاقة بين الأجزاء والكلّ في الكائن الحي إلى كلّ حقيقةٍ وواقعٍ. فكلّ حقيقةٍ أو واقعةٍ (Fact) تعتمد على حقيقةٍ أخرى أو واقعةٍ أخرى، وتساعد بدورها في تحديدها. وقد عُرف هذا المذهب منذ عصر هيغل «بالنظريّة العضويّة للحقيقة والواقع»، (لأنّ كلّ شيءٍ محدّدٌ تحديداً داخلياً عن طريق علاقاته بكلّ شيءٍ آخر) من حيث إنّه يعارض المذهب المقابل وهو «تخارج العلاقات»، الذي نجده عند لوك. ويمكن القول أنّ تصوّر هيغل عن علاقة الكلّ بأجزاءه قد ساهم في تشكيل عمارته الفلسفيّة، وأثّر تأثيراً واضحاً في مجمل المفاهيم الواردة في أعماله الفلسفيّة.

ونستطيع أن نجمل في هذا البحث مفاهيم هيغل ومصطلحاته الفلسفية واللاهوتية وفي فلسفة التاريخ على النحو الآتي:

1 ـ مفهوم الإيمان (La Croyance):

كان هيغل مهتماً بالاعتقاد (Glaube) في الكتابات اللاهوتيّة المبكرة. ففي هذه الكتابات لا سيما في مقاله «وضعيّة الديانة المسيحيّة» ومقاله «روح الديانة المسيحيّة ومصيرها»، حاول الإجابة عن السؤال: كيف أصبحت المسيحيّة ديانةً وضعيّةً؟ في هذا النطاق وافق هيغل على تصور اللاهوتي البروتستانتي مارتن لوثر الذي يقول: إنّ الإيمان ليس مسألة اعتقادٍ في وقائعَ تاريخيّةٍ معينةٍ بل هو الثقة بالله في تلقي الوعد الإلهي. وهذا التصور اللوثري للاعتقاد هو الذي نسبه للمسيح وإلى المسيحيين الأوائل. فالإيمان هنا ليس قبولَ شيءٍ ما على أنّه حقٌّ، إلاّ أنّه يعني الثقة في ما هو الإلهي.

لكن هيغل في كتابيه المذكورين آنفاً ينفر من تصور الاعتقاد سواءً أكان كاثوليكياً أم بروتستانتياً، لأنّه في حالاتٍ معيّنةٍ يصبح مضاداً للعقل. وعلى هذا الأساس تشكلت رؤيته للإيمان من عناصر متعدّدةٍ:

أولاً: تحت تأثير عصر التنوير يرى هيغل بأنّه لا بدّ من قبول نظرياتٍ معيّنةٍ وهي ببساطةٍ على أساس السلطة. فالنظريات، إذا أريد لها أن تُقبل، فلا بدّ للشخص أن يختبرها عن طريق «استبصاره» الخاص، بحيث لا تقبل على أساس سلطة الكنيسة أو الدولة.

ثانياً: رفض هيغل كلّ نظرةٍ مزدوجةٍ إلى العالم. تجعل هناك عالماً «علوياً» يفترضه الإيمان بوصفه الملجأ من العالم الأرضي أو الواقع الدنيوي.

ثالثاً: يعتقد هيغل أنّ مشكلة الإيمان في المسيحيّة تعود الى التشديد البروتستانتي على الذاتية، أي روح الاعتقاد وكثافته على حساب الموضوعية. وقد انعكست هذه العمليات على فكرة كانط وأتباعه، لا سيما «ياكوبي» و«فشته»، هذا ما يسجله هيغل في مقاله «الإيمان والمعرفة».

رابعاً: في نظر هيغل أنّ فلسفة الإيمان تقوم على عبور الهوّة بين المعرفة الفلسفيّة والحقيقة الدينيّة.

2 ـ الله و(المسيحيّة) (Dieu et le Christianisme)

اختلف الباحثون في ما إذا كان هيغل مسيحيّاً مؤمناً أو ملحداً أو قريباً من الإلحاد. فعلى مستوى الإيمان يؤمن هيغل بالإله الشخصي للكنيسة اللوثريّة، إلا أنّه يقبل ببساطةٍ هذه العقيدة دون محاولة فهمها وتبريرها عقلياً. ويثير الفكر الديني عند هيغل عدّة أسئلةٍ، أهمها ما أدّى إلى انقسام تلاميذه في شأن إيمانه أو إلحاده: 

من هؤلاء على سبيل المثال «جوشل (Goschel)» وهو(من الهيغليين اليمينيين) الذي ذهب إلى أنّه مؤمنٌ تقليديٌّ، بينما ذهب آخرون من أمثال «شتراوس» (من الهيغليين اليساريين) إلى الأخذ بوجهة النظر المضادة، ويتضمن هذا السؤال ثلاثة أسئلةٍ فرعيّة:

(1) هل كان مذهب هيغل الفلسفي، يعكس بنية المسيحيّة (في صورةٍ مختلفةٍ) بمعنى أنّ من يقبل المذهب يمكن أن يقال عنه في الحال أنّه مسيحيّ؟

(2) هل قامت ترجمة هيغل بتشويه المسيحيّة أكثر مما ينبغي (استيعاب الإنسان لله) بحيث لا يجوز أن تكون نسخةً من المسيحية؟

(3) هل ألغت الإعلانات المتكرّرة لهيغل بأنّه يؤمن بالمسيحيّة عيوب ترجمته الفلسفيّة لهذه الديانة...؟

إنّ اعتناق أفكار مثل: «الإيمان» و«الوجود الفعلي» و»الله» و«المسيحيّة»، يستبعد الإجابات الحاسمة عن هذه الأسئلة. غير أنّ إيمان هيغل بأنّ الأضداد يتحول الواحد منها إلى الآخر عندما تصل إلى ذروتها، يعني أنّه إذا ما وصل إلى الإلحاد، فإنّه لم يفعل ذلك إلاّ لأنّه مدّ نطاق التأليه إلى حدوده المنطقيّة القصوى.

3 ـ مفهوم الأنا (Le Moi)

كلمة «أنا» في اللغة الألمانيّة المألوفة هي الضمير الشخصي الأول المفرد وهي تقابل «أنت» و«هو». لكنّها يمكن أن تكون اسماً: (الأنا، أو الذات) وهي تشير عندئذٍ إلى فرديّة شخصٍ ما، أو ذاتٍ ما أو أنا معيّنٍ (في مقابل اللاَّ – أنا). لكن الأنا – في ما يقول هيغل – قد أصبحت موضوعاً صريحاً واضحاً في الفلسفة فقط مع كوجيتو ديكارت: «أنا أفكر، إذاً أنا موجود».

ولكن للأنا عند هيغل سماتٌ خاصةٌ متعدّدةٌ:

(1) الأنا هي انعكاسُ أساسٍ ذاتيٍّ، ومن ثم فالأنا لا هي شيءٌ ما، ولا هي جوهرٌ.

(2) «الأنا» كليّة، فإدراكي للأنا، وقولي «أنا» يجرّدها من كلّ سمةٍ متعيّنةٍ ترد إلى ذهن المرء: كالجسد. وتشارك الأنا في هذه السمة كلمات «هذا» و«ذاك» التي يعنى استخدامها أيضاً وتجريدها من كلّ سمةٍ متعيّنةٍ بشريّةٍ أو غير بشريّةٍ يمكن الإشارة إليها. (انظر هيغل - «ظاهريات الروح» الكتاب الأول: «الوعي»).

(3) الأنا بالمعنى المتميّز، لكنّه مترابط، أي الذي لا ينجح فيه إدراكي للأنا، إلا في الظن. في تمييز فردٍ واحدٍ معيّنٍ بين أفرادٍ آخرين: فكلّ شخصٍ هو «أنا» أو «هذا الفرد الجزئي». وهذه الكلمة لها مغزاها عند هيغل، فهي تمكنه من رفض التجربة الفجّة لليقين الحسي، والمطالبة باستنباط وجود الموضوعات الفرديّة (انظر هيغل -«ظاهريات الروح» – الكتاب الأول).

وهكذا فإنّ تطوّر الأنا من الوعي حتى يصل إلى الوعي الذاتي الكامل، قد زوّد هيغل بنموذجٍ لبنية العالم التي صوّرها في مذهبه: فالفكرة الشاملة أو الفكرة المنطقيّة توضع مقابل ضدها في الطبيعة، وهي في مستوياتها الدنيا غريبةٌ –نسبياً– عن الفكر، لكنّها تتقدم عن طريق المراحل الأعلى لتصل إلى مستوى الروح الإنساني الذي يفهم الطبيعة شيئاً فشيئًا، ويصل في النهاية –في الفلسفة– إلى إدراك الفكرة الشاملة أو الفكرة المنطقيّة. بل أكثر من ذلك يميل هيغل في «ظواهريّة الروح» إلى أن يجعل هذه الأنا الكونيّة وتطورها مساوياً لله.

4 - الانعكاس (La Réflexion)

يستخدم هيغل كلمة «الانعكاس» (Réflexion) في سياق حديثه عن العلاقة. كما هي الحال في «الهويّة الذاتيّة» التي هي ارتباطٌ فحسب، لا على نحوٍ مباشرٍ، بل على نحوٍ منعكسٍ. وفي كتاب علم المنطق ثلاثة أطوارٍ يمرّ فيها المفهوم وهي:

1 - الانعكاس المنتج الذي بواسطته تشع الماهيّة، وبذلك تنتج الظاهر أو تضعه. وتقوم الماهيّة بذلك لأنّها تفترض سلفاً ما تنتجه وما تضعه: فهي لا تكون ماهيّةً إلا بفضل أنّها تضع الظاهر، ومثل هذا الظاهر لا يكون ظاهراً إلاّ لأّن الماهيّة قد وضعته.

2 - الانعكاس الخارجيّ على موضوع ما. ويذهب هيغل –في معارضة كانط– إلى أنّ مثل هذا الانعكاس  يعكس كالمرآة الفكر المحايث في الموضوع. إذا بحثنا عن كليٍّ لكي نطبقه على كائنٍ ما، فإنّنا لا نترك الكائن على ما هو عليه في مباشرته، فالكائن لا يصبح جزئياً إلا بفضل إدراجه على هذا النحو وهكذا يكون الكليُّ كلّياً.

3 - وينتهي هيغل إلى أن الفكر المتعيِّن وحده وفكر الذات في موضوعٍ ما هو الذي يعكس الفكر المحايث للموضوع. وهكذا فإن التفكير الذاتي في موضوعٍ ما هو محايثٌ للذات، ما دامت الذات هي نفسها ماهيّةً تشعّ في تفاعلها الانعكاس مع الموضوع. وتنعكس الذات على نفسها (الأنا الخالص) فتعكس انعكاس الموضوع في ذاته (الماهية) ويكمن ظاهرهما في السطح البيني المشترك بينهما.[2]

7 ـ التضاد (L’Opposition)

تعني كلمة التضاد (Gegesatzs) الألمانيّة (عكس، نقيض) كترجمةٍ للكلمة اللاتينيّة (Opposition). وهي كانت في الأصل مصطلحاً قانونياً يعني «إحضار شيءٍ ما لعقد مواجهةٍ في قضيّةٍ أو دعوًى». وقد نشأت عنها الصفة (Gegensatzlich) (ضد – عكس). كما يستخدم أيضاً الكلمة التي صيغت في القرن الثامن عشر من جذورٍ يونانيّةٍ وهي (Polaritat) (القطبية ـ التضاد القطبي) وكذلك الكلمة الألمانية (Gegenteil) (ضد – عكس).

كان الفلاسفة اليونانيون يميلون إلى النظر إلى العالم على أنّه مؤلفٌ من قوًى متعارضةٍ، وكيفياتٍ وجواهر متضادّةٍ مثل: النار – والماء، والحار ـ والبارد، الرطب ـ واليابس. ولقد لعبت هذه الأضداد دوراً هاماً في فكر انكسمندر، والفيثاغوريين، ثم بصفةٍ خاصةٍ في فكر هيراقليطس في الوحدة الجوهريّة للأضداد، وكثيراً ما وجد (مثل هيغل) تأكيداً لهذا الاعتقاد في اللغة.

ويذهب هيغل إلى أنّه في حالة بعض الأضداد فإنّ كلّ ضدٍّ لا يحتاج فقط إلى الآخر أو أنّه يتضمّنه فحسب، بل إنّ كلّ ضدٍّ –على حدٍّ سواء– هو هذا الآخر، أو أنّه يصبح هذا الآخر. ويصدق ذلك بصفةٍ خاصةٍ على الموجب والسالب. وفي عالم الأضداد ينتقل الواحد منها إلى الآخر عندما يصلا إلى حدّهما الأقصى. في «ظاهريات الروح» نجد أن السيادة التامة على العبد تؤدّي إلى تبديلٍ عكسيٍّ لمواقع السيد والعبد: رفض السيد الاعتراف بالعبد، يجعل العبد شيئاً لا قيمة له حين يعترف بالسيد، ومن ثم يصبح السيد سيداً على لا شيءٍ. في حين أن التزام العبد –على العكس– بالعمل يضفي عليه طابعاً من الوعي الذاتي يفلت من سيّده، ويصبح الانتصار الساحق هزيمة، كما تصبح الهزيمة انتصاراً. ونزوع التصورات المتضادة لانتقال الواحد منها إلى الآخر هو إحدى القوى المحركة لجدل هيغل.

التمثُّل أو التصور  (La Représentation)

يستخدم هيغل «التمثّل» باتساق المعنى الضيق. وذلك، من ناحيةٍ، لأنّه يحتاج إلى مصطلحٍ يتقابل مع «التصور أو الفكرة الشاملة»، ويغطي تلك الحالات الذهنيّة التي أنكر التسمية التقليديّة لها وهي «التصور». ومن ناحيةٍ أخرى، لأنّه لم يجد ثمة حاجة إلى مصطلحٍ عامٍّ ليستولي على ما هو مشتركٌ بين الإحساسات، والإدراكات، والتصورات، عندما تتمايز هذه المصطلحات، في رأيه، ومع ذلك ترتب ترتيباً جدليّاً وتصاعديّاً.[3]

فالتمثّل هو المرحلة المتوسطة التي تقع بين الإدراك الحسي للموضوعات الفرديّة الخارجيّة وبين الفكر التصوري، وهي تتضمن ثلاثة أطوارٍ رئيسيّةٍ هي: الاسترجاع، والخيال والذاكرة.

كلمة (Erinnerung) تعني بطريقةٍ قياسيّةٍ «الاسترجاع» أو «التذكر» إلا أنّ هيغل يشدّد على معناها الجذري الذي يعني «أن تجعل الشيء جوّانيًّا: نظراً لأنّ الفعل الانعكاسي «أن يتذكر أو يسترجع المرء، أو ينسحب إلى ذاته. فإنّ ذلك يحدث بواسطة تصويرٍ أو صورةٍ للموضوع وهو على خلاف الحدس بالموضوع، قد تجرّد من تحارج الزمان والمكان «وتلقنه كلية الأنا». [4]

ثم ينتقل هيغل بعد ذلك إلى التفكير والأفكار التي تتميز عن التمثّل والإدراك، رغم ارتباطها نسقياً بها، والاختلافات هي كما يلي[5]:

 1 - تتضمن الإدراكات فكراً، لكنّها تختلف عن الأفكار الخالصة، مثل فكرة الكيف من حيث إنّها تجريبيّةٌ، حتى إذا لم تكن بحاجةٍ إلى أيّ تصويرٍ ذهنيٍّ. وهي ترتبط بالأفكار الخالصة بطريقتين متميّزتين فهي أولاً تحديداتٌ تجريبيّةٌ للفكر الخاص كما هي الحال مثلاً في إدراك الأحمر فهو تحديدٌ وتخصيصٌ لفكرة الكيف. وهي ثانياً «مجازاتٌ» للأفكار الخالصة كإدراكنا لوجود الله فهو مجازٌ لفطرة المطلق.

2 - مضمون إدراكٍ ما معزولٌ عن مضمون الإدراكات الأخرى، وهو معطًى ومباشرٌ.[6] ويرتبط الفكر، بالمقابل، بالأفكار الأخرى ويشتق منها.

التناقض (La Contradiction)

للتناقض في المنطق معنيان:

1 - معنًى ضيّقٌ عندما تتناقض قضيتان –أو تصوران– أي تناقض الواحدة منهما الأخرى إذا كانت إحداهما سلباً للأخرى.

2 - معنًى واسعٌ، تكون فيه القضيتان، أو التصوران تناقض الواحدة منهما الأخرى إذا كان لا يمكن اتفاقهما منطقياً، أرسطو كان أول من صاغه، على أنّه أعلى قانونٍ للفكر.

رأى هيغل أن التناقضات التي سلّم بوجودها في الفكر وفي الأشياء هي تناقضاتٌ بالمعنى التقليدي.

وتفسيره للتناقض يسير حسب تفسير «الاختلاف» و»التضاد» موحياً في بعض الأحيان بأنّ التناقض ليس سوى تضادٍّ مكثفٍ. وفضلاً عن ذلك فإنّ أمثلته، لا سيما عن التناقضات الموضوعيّة، كثيراً ما تحمل تشابهاتٍ ضئيلةً مع التناقضات في المنطق الصوري، فالتناقضات الموضوعيّة، في الجانب الأعظم منها، هي صراعاتٌ داخليّةٌ يحدثها تشابكات أشياءَ مع أشياءَ أخرى، وكثيراً ما تكون التناقضات الذاتيّة، نتيجة لمحاولة الإبقاء على التصورات المتميزة من أمثال تصورات السبب والنتيجة، وهي التي يعتمد بعضها على بعضٍ من الناحية التصوريّة.

التعيُّن والتحديد (La Determination)

يستخدم هيغل في مؤلفاته كلمات «التعيّن» في سياقاتٍ ومعانٍ متعدّدةٍ، ففي كتاب «علم المنطق» نجد التعيّن (الكيف) عنواناً لأوّل قسمٍ من «نظريّة الوجود».

والتعيّن هنا مصطلحٌ عامٌّ يعني «التعين الكيفي» في مقابل «الكم» وهما عنوانا القسم الثاني والثالث. ويوافق هيغل على دعوى سبينوزا القائلة: «كلّ تعيّنٍ سلبٌ»، بمعنى أن الشيء أو التصور لا يكون متعيّناً إلا بفضل تقابله مع أشياءَ أو تصوراتٍ أخرى تتعيّن بأنّها ليست هو.

ويذهب هيغل إلى أنّ لا تعيّن الوجود، الذي في القسم الأول من المنطق، هو نفسه نوعٌ من التعيّن، طالما أنّ لا تعيّن الوجود يقابل تعيّن الكيف ويتميّز عنه.

والمصطلح، الذي يستخدمه هيغل عادة للتصورات التي يدرسها في المنطق، هو «تحديدات الفكر». وأول معنًى لهذا المصطلح هو أنّ هذه التحديدات هي طرقٌ يحدّد بها الفكر نفسه بدلاً من أن يظلّ بلا تعيّنٍ أو تحديدٍ.

لكن المعنى الثاني الذي يستخدمه هيغل في بعض الأحيان هو أنّ تحديد الفكر هذا يتجه إلى أن ينتقل إلى تحديدٍ آخر للفكر.

وكثيراً ما يرادف لفظ «التعيّن» التصور أو «الفكرة الشاملة» ولو أنّ شيئاً ما حقق تعيّنه، فإنّه بذلك يحقّق فكرته الشاملة أيضاً، فمثلاً يفتتح هيغل كتابه «محاضراتٌ في فلسفة الدين» بتصور الدين ثم يسير إلى تحديد الدين، أعني الحديث عن الديانات التاريخيّة الخاصة حتى ينتهي إلى الدين الكامل أو قمّة الدين أي المسيحيّة.

وأما التصور فهو غير معيّنٍ نسبيّاً، لكن تعيّنه يعني أن يحدّد نفسه. وفي النهاية يعود إلى كليته الأولى غنيّاً بالتعيّن الذي اكتسبه في هذه الرحلة.

التاريخ  (L’Histoire)

يستعمل هيغل كلمتين في معنى التاريخ:

الأولى: الكلمة اليونانية (Historia) (البحث – المعرفة – العلم، التفسير المكتوب للبحث – الرواية – تاريخ الأحداث من الكلمة Historien: يبحث). وقد دخلت اللّغة الألمانيّة، عن طرق اللّغة اللاتينيّة في القرن الثامن عشر بكلمة (Historie). واستخدام وتطور الكلمة منذ القرن الثامن عشر قد قمع بظهور كلمة (Geschichte) بينما ازدهرت الصفة (Hisorish )«تاريخي» والاسم (Historiker) «المؤرخ». والمعنى الأصلي لكلمة «التاريخ» قريبٌ من معنى كلمة «التجربة». ويميل هيغل إلى استخدامها بمعنى (Empire) أكثر من استخدامها بالمعنى التخصصي الذي يعني التجربة التاريخيّة والأحداث، ويتحدث هيغل أيضاً بازدراءٍ عن «التاريخيّة» في اللاهوت، التبحّر التاريخي في الآراء والمؤسسات الدينيّة على حساب البحث التصوري في الحقائق الدينيّة.

والكلمة الثانية هي (Geschichte) (قصة، شأن، عمل، تاريخ) وهي كلمةٌ ألمانيّةٌ قوميّةٌ، وهي مشتقّةٌ من الفعل (geschehen) (يعمل – يحدث – يقع) وهي تعني في الأصل سلسلة أحداثٍ. لكنّها ابتداءً من القرن الخامس عشر تساوت مع كلمة التاريخ (Histoire) وأصبحت تعني الرواية أو التقرير، ومع نمو البحث التاريخي والمعرفة التاريخيّة في القرن الثامن عشر أصبحت تعني – بصفةٍ خاصةٍ عند «هردر» – التاريخ بوصفه بحثاً منظماً للأحداث الماضية، وهي الكلمة التي استخدمها هيغل «للتاريخ».

والطبيعة، في نظر هيغل ليس لها تاريخٌ وإنّما هي تتطور وتتغيّر في دوراتٍ وبطرقٍ متكرّرةٍ. وتتخذ الكتابة التاريخيّة ثلاثة أشكالٍ رئيسيةٍ:

(1) التاريخ الأصلي: حيث يقوم المؤرخ الأخباري بتسجيل أعمال شعبٍ ما في فترةٍ زمنيّةٍ ينتمي هو إليها ويشارك في روحها.

(2) التاريخ النظري: وهو يسجل أعمال الماضي، لكنّه يجسّد روح عصرٍ متأخرٍ ويؤوّل الماضي من منظور هذا العصر، وللتاريخ النظري أربعة أنواعٍ هي:

(أ) التاريخ الكلي: الذي يسجل تاريخ  شعبٍ ما أو بلدٍ ما أو العالم، على أساس أعمال المؤرخين الأصليين.

(ب) التاريخ البراغماتي: الذي يحاول أن يتمثّل الماضي في الحاضر، ويستمدّ منه دروساً للحاضر. ويعتقد هيغل أنّ التاريخ يتضمّن تطوراً وأنّ أيّ طورٍ من أطواره يلغي شروط انبثاقه، وقد ألزمه ذلك أن ينظر إلى الفترات التاريخية الألمانيّة على أنّها ليس لها صلةٌ وثيقةٌ مباشرةٌ بالحاضر. ويتنكّر هيغل تفسير الأعمال التاريخيّة في ضوء بواعثَ تافهةٍ لا تتميز بها أيّ فترةٍ تاريخيّةٍ، ومن ثم فقد رفض التاريخ البراغماتي كنوعٍ من أنواع التاريخ.

(ت) التاريخ النقدي: وهو عبارةٌ عن نقدٍ للروايات التاريخيّة الأخرى من حيث مصادرها ومعقوليتها في «تأريخ التاريخ».

(ث) تواريخ لمجالات خاصة: مثل الفن، والحق، والدين، والفلسفة. ويرى هيغل في ما تزعمه مثل هذه «النظرة الكلية» ما يشكّل انتقالاً من التاريخ النظري إلى:

(3) التاريخ الفلسفي: ويستخدم المؤرخ الفلسفي النتائج التي وصل إليها المؤرخ الأصلي لكي يقوم بتأويل التاريخ على أنّه التطور العقلي للروح في الزمان، وذلك شيءٌ يفلت من صنّاع التاريخ. فروح العالم التي تجسّد الفكرة تحقّق عن طريق انفعالات الأفراد لا سيما الأبطال أو الشخصيات التاريخيّة من أمثال: ألكسندر، وقيصر، ونابليون، الذين مع إدراكٍ مبهمٍ فقط لغرضهم التاريخي، ولكن يقودهم «دهاء العقل»، تسبّبوا بطريقةٍ قسريّةٍ في ظهور حقبةٍ جديدةٍ، تجسد مرحلةً أعلى وجديدةً للروح.

الجدل (La Dialectique)

كلمة الجدل الألمانيّة (Dialektik) مشتقّة من الكلمة اليونانيّة (Dialektike) وهي مأخوذةٌ من كلمة (Dialegesthia) «يحاور» وهي أصلا «فنّ الحوار»، غير أنّ أفلاطون استخدمها على أنّها المنهج الفلسفي الصحيح.

أمّا عند هيغل فإنّ الجدل لا يتضمّن حواراً لا بين المفكرين، ولا بين المفكر وموضوع بحثه بل يتصوره على أنّه نقدٌ ذاتيٌّ تلقائيٌّ، أو تطورٌ ذاتيٌّ لموضوع البحث أي لصورةٍ من صور الوعي أو الفكرة الشاملة.

ولقد تأثر هيغل بأحد جوانب الجدل عند كانط وهو استخراج النقائض من إجابتين متعارضتين تماماً لسؤالٍ واحدٍ مثل: هل للعالم بدايةٌ في الزمان أم لا؟ يجاور تجربتنا. وهكذا يتضمن الجدل عنده ثلاث خطواتٍ:

أ- يؤخذ أحد التصورات أو المقولات –أو أكثر– على أنّه ثابتٌ ومحدّدٌ بدقّةٍ ومتميّزٌ عن التصوّر الآخر أو المقولة الأخرى، وتلك هي مرحلة الفهم.

ب- عندما نفكر في هذه المقولات ينبثق منها تناقض أو أكثر – وتلك هي مرحلة الجدل بالمعنى الصحيح، أو مرحلة العقل الجدلي أو السلبي.

ج-  نتيجة هذا الجدل هي مقولةٌ جديدةٌ أعلى، تشمل المقولتين السابقتين وتحلّ ما كانت تتضمناه من تناقضٍ وتلك هي مرحلة العقل النظري.

- الحدس (L’Intuition)

كلمة الحدس (Anschauung) هي من حيث أصلها كلمةٌ بصريّةٌ فهي مأخوذة من (anschauen) (يحدس، ينظر، يشاهد)، وقد دخلت إلى اللغة الفلسفيّة الألمانيّة على يد «إيكهارت» من الكلمة اللاتينيّة (Contemplatio) بمعنى نتيجةٌ لنشاط أو تأمّل شيءٍ ما لا سيما ما هو إلهيٌّ وما هو أزليٌّ. وتتضمّن كلمة (Anschauung) معنى «المباشر»، و«الاتصال غير الانتقالي» بموضوعٍ ما، والاستغراق الكامل للذات في هذا الموضوع.

يتضمّن الحدس الحسي عند هيغل تحوّلاً لما تمّ الإحساس به حيث هو يصبح موضوعاً خارجيّاً. والفن يمثل المطلق في صورة حدسٍ حسيٍّ، في مقابل التمثّل الذي هو صورة الدين أو الشكل الذي يتّخذه المطلق في الدين.

ورغم أنّه يمكننا رؤية الأشياء ككلٍّ، بدلاً من أن نراها مجزّأةً، فإنّه يمكن فقط أن تتقدم المعرفة.[7] ورغم ذلك فإنّ منطق هيغل، طالما أنّه فكرٌ غير تجريبيٍّ يدور حول الأفكار، فإنّه يشبه إلى حدٍّ ما الحدس العقلي بالمعنى الكانطي. لكن هيغل خلاف كانط، لم يكن لديه أدنى ارتيابٍ حول امتصاص الإنسان في الله.

الحرية (La Liberté)

الكلمتان الألمانيّتان (Farheit) و(Frei) تطابقان تماماً «الحرية» و«حر» وهما معاً تشيران إلى حريّة الإرادة، والحريّة بكلّ معانيها الاجتماعية والسياسية. وهكذا فإنّ «الحرية» تقابل «العبوديّة»، و«التبعيّة»، و«القهر»، و«الضرورة»... إلخ. ويحاول هيغل أن يربط بين هذه المعاني المتنوّعة ويسلكها في نظريّةٍ واحدةٍ، والفكرة المحوريّة في الحريّة هي الآتي: يكون الشيء، وبصفةٍ خاصةٍ الشخص، إذا وإذا فقط كان مستقلاً ومتحداً بذاته، فلا يحدّده، ولا يعتمد على شيءٍ آخر غير ذاته. كما يعارض هيغل التحديد السببي بطرقٍ شتّى خصوصاً: في كتابه «ظاهريات الروح» و«موسوعة العلوم الفلسفيّة».

الحقّ (Le droit)

     كثيراً ما يستخدم هيغل كلمة الحقّ بالمعنى الضيق سواءً في «المدخل الفلسفي» الذي سبق كتاب «فلسفة الحق» أو في الموسوعة. [8]

غير أنّ «الحق» يستخدم في «فلسفة الحق» بالمعنى الواسع الذي يشمل «الأخلاقيّة الفرديّة» (أخلاق الضمير) والأخلاق الاجتماعيّة جنباً إلى جنبٍ مع تاريخ العالم، كما يستخدمها بالمعنى الضيّق الذي  يناظر الحق المجرّد: الملكيّة، والعقد، والخطأ، بما في ذلك «العقاب والجريمة».

الدين  (La Religion)

كان عصر هيغل هو عصر الإيمان الديني العميق، وعليه فلا بدّ لأيّ فيلسوفٍ أن يعالج موضوع الدين، وأن يخصّص له مساحةً في فكره، ف«هردر» مثلاً رأى أنّ الدين هو ذروة «الإنسانيّة» وقمّة النمو المتناغم للقوى البشريّة.

ويتميّز «اللاهوت» عن «الدين» وكلمة اللاهوت (Théologie) مشتّقة من الكلمة اليونانية (Theos) التي تعني «إله» وكلمة (Logos) التي تعني العقل.

فالكلمة تعني دراسة الله أو الموضوعات الإلهية، واعتبرها هيغل تفكيراً متروياً في الحقائق التي يجسدها الدين في عصره، لكنّه لم يكن راضياً على الدين في عصره، فقد كانت هناك على الأقلّ أربعة أنواعٍ من اللاهوت قابلها باستهجانٍ:

النوع الأول: هو اللاهوت الذي عبّر عنه مفكرو عصر التنوير من أمثال «فولف» الذي حاول البرهنة على وجود الله، وذلك يستغرق أكثر مما ينبغي، من الدين.

النوع الثاني: ردّ كانط الدين إلى الأخلاق ولا سيما في كتابه «الدين في حدود العقل».

النوع الثالث: نظرة «شلير ماخر»، و«ياكوبي» التي تقول أنّ الدين يقوم على الشعور أو المعرفة المباشرة. وهذه النظرة تجعل الدين، في ما يرى هيغل، يضع خطوطاً فاصلةً في مكانٍ فارغٍ.

النوع الرابع: اللاهوت التاريخي الذي يكتفي بسرد النظريّات الدينيّة دون أن يعرض لحقيقتها أو عقلانيتها. ومثل هذا اللاهوت لا يهتم إلا بالدين لا بالله.

الزمان والمكان والأزل  (Le Temps, L’Espace et L’Eternité)

وجهة نظر هيغل عن الزمان والمكان والأزل مدينةٌ لفلاسفة اليونان القدماء بقدر ما هي مدينة للفلاسفة المحدثين.

والتفرقة بين الزمان والأزل ضمنيّةٌ عند «بارمنيدس» الذي أنكر حدوث «الصيرورة» ومن ثم أصبح الماضي والمستقبل، وكلّ شيءٍ متأنٍّ في الحاضر، والزمان في محاورة «طيماوس» لأفلاطون، وعند الأفلاطونية المحدثة بصفةٍ عامةٍ، هو الصورة المتحركة للأزل والأزل يسِم المثل بخصائصه فهي لا زمانيّةٌ، ويستبعد استعمال الأفعال في صيغة الماضي والمستقبل فالزمان يتحد مع الدورة المنتظمة للأجرام السماوية التي أنشأها الإله الصانع.

ويشير أفلاطون في محاورة «بارمنيدس» إلى محيّرات الزمان مثلاً وضع «الآن»، اللحظة الدقيقة أو الماضي. ولقد أثرت هذه المحاورة في معالجة هيغل للزمان بقدر ما أثّر فيها أرسطو.

وينظر هيغل إلى الزمان والمكان لا على أنهما من اختصاص المنطق، بل فلسفة الطبيعة، وهو يناقشهما في «محاضرات ايينا» عن فلسفة الطبيعة، لا سيما في الجزء الثاني من الموسوعة.

فهو على خلاف كانط ينظر إلى الزمان والمكان، لا على أنهما صورتان للحساسيّة يتميزان عن تصورات الفهم، بل على أنّهما أعظم تجلٍّ أساسيٍّ للتصوّر (الفكرة الشاملة) في الطبيعة، أن سماتهما الرئيسية هي الأبعاد الثلاثة للمكان والزمان (الحاضر، والماضي، والمستقبل).

غير أنّ اشتقاقه القبلي، لا يحضر نفسه في الزمان والمكان: بل يستمر ليشتق مكان الجسم تصوريّاً، والأجسام ذاتها، والحركة. إنّ نظرة هيغل تعتمد على وقائع مألوفةٍ كالقول بأنّ قياس الزمان وإدراكنا الحسي لمروره يتطلبان الحركة في المكان، لا سيما حركة الأجرام السماوية.

ولقد ذهب هايدغر في كتابه «الوجود والزمان» عام 1927 إلى أنّ هيغل استعاد العناصر الجوهريّة في تصوّر أرسطو للزمان. وأنه رأى الزمان متصلاً متجانساً، وأنه ركّز على الزمان في العلوم الطبيعيّة وتجاهل زمان التجربة البشريّة. وذهب كوجييف (kojéve) إلى أنّه عندما ذهب هيغل إلى أن الزمان هو «وجود الفكرة الشاملة نفسها» فإنّه ربط الفكرة الشاملة بالذات البشريّة واستبق نظريّة «هايدغر» في أنّ الزمان هو أساساً زمان القرار والفعل، وأن المستقبل هو بذلك سابقٌ على الماضي والحاضر.[9]

لكن ما يعنيه هيغل بذلك في الواقع هو أنّ الأشياء المتناهية، بفضل بنيتها التصوريّة والتناقضات التي تتضمنها، تتطور وتتغير، وتفنى. ومثل هذه التغيرات تستلزم الزمان، وبدونها لا يكون هناك زمان، ومن ثم كان الزمان هو «التصوّر الموجود»، وهذه النظرة قريبةٌ من وجهة نظر شلنغ.[10]

وهكذا نجد أنّ الزمان داخليٌّ أو ذاتيٌّ في الأشياء المتناهية، وليس صورةً مفروضةً عليها من الخارج، إلا أنّ هيغل ينظر أيضاً إلى الأزل اللازماني على أنّه أسبق من الزمان.

فالتصوّر والروح الذي يصعد إلى التصوّر أزليان، وليسا مؤقتين[11].

وهذا هو السبب في أنّ هيغل مثل فخته، وكانط، في «نهاية كلّ شيءٍ» لكن على خلاف شلنغ، لا يستطيع أن يعزو إلى الروح خلوداً أصيلاً.

- السببيّة ( La Causalité )

في اللغة الألمانيّة كلمتان تدلان على السببيّة:

الأولى هي (Kausalitat) مع الصفة (Kausat) المشتّقة من الكلمة اللاتينيّة (Causa) ولقد استخدم الفلاسفة الألمان أيضاً كلمة (Causa) بمعنى «سبب Cause» لكن هيغل لم يستخدمهما إلّا وهو يناقش الفلاسفة الآخرين.

الثانية هي (Ursache) وهي الكلمة القوميّة الألمانيّة التي تعني «السبب» وهي مشتّقةٌ من المقطع «Ur» بمعنى يخرج من ... أي أصليٌّ. كانت في الأصل مصطلحاً قانونياً للدلالة على «الحادثة الأصليّة للفعل القضائي».

والكلمة المتضايفة مع السبب هي (Wirkung) (النتيجة)، من الفعل (Wirken) (يعمل، يسبب يحدث، يفعل) غير أن كلمة (Wirkung) كلمةٌ غامضةٌ ملتبسةُ الدلالة: فهي قد تعني "أثرٌ"، "ناتجٌ" أو النتيجة التي نبحث عنها، أو الفاعلة والفعل.

لم يضع هيغل أيّ تمييزاتٍ بين (Kausalitat وUrsachlichkeit)، لكنّه ميّز كغيره من الفلاسفة بينهما وبيّن علاقاتٍ متشابهةً، كالعلاقة بين «الأساس» و«التالي»، والعلاقة بين «الشرط» و«المشروط»، وبين «القوة» و«التعبير عنها».

ولكلٍّ من «الأساس» و«الشرط» استخدامٌ فعليٌّ واقعيٌّ واستخدامٌ منطقيٌّ في آنٍ معاً: فهما معاً يشيران إلى لزوم قضيّةٍ من قضيّةٍ أخرى، كما يشيران إلى اعتماد حادثةٍ على حادثةٍ أخرى.

السلب ( La Négation)

الكلمة الألمانيّة للسلب هي (Vermeinung) من الفعل (Vermeinen) أن يجيب بالنفي: "لا" عن سؤالٍ ما، أو أن ينكر قراراً ما أو يناقضه.

إلا أنّ هيغل كان يفضل في العادة كلمة (Négation) المأخوذة من الفعل اللاتيني (negare) الذي يعني «ينكر» ومنها الفعل «يسلب أو ينفي» والصفة «سلبيٌّ»، أو أن يكون سلباً أو عملية السلب أو النفي.

وهذه الكلمات تقابل الواقعيّة، والإيجاب، وإيجابي، واثبات وكثيراً ما لا تقابل السلبي والسلبيّة، بل العقلي أو «الطبيعي» وتشير إلى الوجود المحض للشيء، كالقانون والدين مثلاً بغض النظر عن عقلانيّته.

كان المنطق (المنطق الصوري هو وحده الذي كان في متناول هيغل)، يقول إذا سلب شيءٌ ما، ثم سلب هذا السلب بدوره، فإننا بذلك نعود من جديدٍ إلى نقطة البداية.

أما عند هيغل فإنّ سلب السلب ينتهي إلى إيجاب، لكنّه إيجابٌ يختلف عن الإيجاب الأصلي الذي تمّ سلبه.

ويناقش هيغل الحكم الموجب والحكم السالب، لكنّه لا يهتم كثيراً بالسلب كسمةٍ للأحكام. ومثل أفكار: التناقض، والاستدلال، والحكم ذاته، فإنّ السلب هو خاصيّةٌ أساسيّةٌ للأفكار الشاملة والأشياء.

إلا أنّ «السلب» و«السلبيّة» يحتفظان بنكهةٍ نشطةٍ لسلب الحكم وإنكاره. فالأشياء والتصوّرات ليست سلبيّةً أو مستبعدةً ببساطةٍ، وإنّما هي تنفي بعضها بعضاً بنشاطٍ وفعاليّةٍ ويميل هيغل إلى دمج أفكار السلب التصوّري والسلب الفيزيقي.

- ظاهريّات الروح ( La Phénoménologie de l’Esprit)

الظاهريّات تصوّر الأشكال المختلفة للروح كمحطّاتٍ في طريقها إلى ذاتها، كما تصوّر الطريق الذي تصبح الروح بواسطته معرفةً خالصةً أو معرفةً مطلقةٍ. وكذلك الأقسام الرئيسيّة للعلم. وهي التي تنقسم بدورها إلى أقسامٍ فرعيّةٍ، ومن ثم فهي تدرس: الوعي، والوعي الذاتي، والعقل الملاحظ الفعّال، كذلك الروح ذاتها بوصفها روحاً اجتماعيّةً وأخلاقيّةً رفيعةً.

كما تدرس في النهاية الروح الديني في أشكاله المختلفة.

غير أنّ «ظاهريات الروح» لا تعرض التاريخ بطريقةٍ دقيقةٍ واضحة المعالم، «فالوعي»، مثلاً (الكتاب الأول) لا يوضع في حقبةٍ تاريخيّةٍ معيّنة.

و «الوعي الذاتي» (الكتاب الرابع) يسير من فترة ما قبل التاريخ إلى اليونان والرومان (الرواقيّة، ومذهب الشك) والمسيحيّة في العصر الوسيط (الوعي الشقي).

والعقل (الكتاب الخامس) يدرس العلم الحديث والأخلاق. ثم «الروح» (الكتاب السادس). وهي تعود إلى الحياة الأخلاقيّة المبكرة عند اليونان، ثم تسير هابطةً إلى الثورة الفرنسيّة، وأخلاق ما بعد الثورة.

ثم «الدين» (الكتاب السابع) وهو يتعقب الدين من الديانة اليهوديّة القديمة وديانة الفرس حتى المسيحيّة. وبذلك تُعالَج الفترات التاريخيّة على أنّها نماذجُ لأطوار الفكر والثقافة، كما أنّها كثيراً – لا دائماً – ما تُعالَج على أنّها نظامٌ منطقيٌّ أو نسقيٌّ لهذه الأطوار يتطابق مع نظام انبثاقها في التاريخ.

العقل والفهم  (La Raison et L’Entendement)

كلمة العقل (Vernunft) الألمانيّة جاءت من الفعل (Vernehmen) وتعني: «يدرك» «يسمع»، لكنّها فقدت ارتباطها بالفعل وأدّت إلى ظهور الصفة (Vernunftig): «عقليٌّ» و«معقوليةٌ» بالمعنيين معاً الذاتي والموضوعي.

والاسم (Vernunftigkeit) وقد استخدمها «إيكهارت» و«مارتن هايدغر» التي تعني العقل أو ملكة العقل.

وكلمة (Vernunft) تتميز أيضاً عند هيغل عن اشتقاقاتها، ومرادفها اللاتيني (Rationalismus). فهذه الكلمات ترتبط عادةً بالمذهب العقلي في عصر التنوير،  ولهذا فهي تشترك في خيوطٍ كثيرةٍ مع (Verstand) (الفهم).

(Verstand) (الفهم، أو ملكة الفهم) تحتفظ بارتباطها بالفعل المصدر وهو (Verstehen) وهي تعني «يفهم».

أما تصوّر هيغل، وتصوّر شلنغ للفهم والعقل فهو ينطوي على عناصر من كلّ وجهات النظر هذه.

يقول شلنغ: إنّ ماهيّة الفهم هي الوضوح بلا عمقٍ. إنّه يثبت التصوّرات، ويعزلها عن بعضها البعض مثل: التناهي واللاتناهي، وهو يقوم بتحليلاتٍ واضحةٍ، ويدلّ بطريقةٍ استنباطيّةٍ، وهو بذلك يرتبط بالتصوّرات بالمعنى التقليدي، ولا يرتبط بالتصوّر الهيغلي الذي  يجعله ينساب في التصوّرات الأخرى ويستخرج منها أمثلتها الخاصة.

- الفلسفة (La Philosophie)

التعريف الموجز الذي قدّمه هيغل للفلسفة هو أنّها «الدراسة الفكريّة للأشياء»، ويعتمد معنى الفلسفة إلى حدٍّ ما على تنوع البحوث التي تقابلها:

أولاً: للفلسفة نفس «مضمون» الفنّ ومضمون الدين بصفةٍ خاصةٍ، وإن اختلف عنهما في «الصورة». فالفلسفة مثل –الدين– معنيّة بوجود الله، وخلقه للعالم... لكنّها تصل إلى نتائجها عن طريق الفكر العقلي التصوّري، لا عن طريق الإيمان أو السلطة أو الوحي.

ثانياً: وهي تعرض نتائجها في صورة أفكارٍ أو تصوّراتٍ لا في تمثّلاتٍ، وهو أحياناً يشدّد على الطابع النظري للفلسفة إلى أقصى حدٍّ، فالفلسفة تفكر في الدين، لكنّ الدين لا يستطيع أن يفكر في الفلسفة أو أن يقوم بصياغة تمثّلاتٍ عن الفلسفة، وهو في كتابه «محاضراتٌ في فلسفة التاريخ» يذهب إلى أنّ الفلسفة تجمع بين التفكير الحرّ عن الأنظمة التجريبيّة وبين موضوعات الدين.

- الفن والجمال والإستطيقا  (L’Art, La Beauté et L’Esthétique)

كلمة الفنّ (Kunst Die) (فنّ، مهارة، حرفة مأخوذة من (Konnen): يستطيع، قادر)، والفكرة الشاملة عن الفنّ تشمل فنّ العمارة، أو النحت، والموسيقى، والتصوير، والشعر، وهي ترتدّ إلى أفلاطون. وإن كان أفلاطون قد درس الفنّ والجمال منفصلين (درس الجمال في محاورة «المأدبة»، ودرس الفنّ في محاورة «الجمهورية». ودرسها أرسطو في كتاب «الشعر».

ومصطلح «الإستطيقا» من الكلمة اليونانية (Aisthsis) «الإدراك الحسي»، وقد استخدم المصطلح لأول مرةٍ ليعني «دراسة الجمال الحسي» بما في ذلك جمال الطبيعة وجمال الفنّ في آنٍ واحدٍ.

لقد أثمر تفسير هيغل للفنّ، فهو في «ظاهريات الروح» يدرس الفنّ تحت عناوين «الدين» لا «الروح» – ديانة الفن (اليونان) تظهر بين «الديانة الطبيعيّة» (الفرس، الهند، ومصر)، وديانة الوحي المسيحيّة.

لكنّنا في «موسوعة العلوم الفلسفيّة» في الجزء الثالث نجد أشكال الفنّ مع أشكال الدين والفلسفة، أصبحت قسماً من «الروح المطلق»، الروح الذي تفترض سلفاً السيكولوجيّة الفرديّة «للروح الذاتي»، والمؤسسات الاجتماعية «للروح الموضوعي» لكن يتجاوزهما معاً.

في ذاته ولذاته  (En soi et pour soi)

مصطلح «في ذاته» عند هيغل –على خلاف كانط– لا يُرادف «ما هو لذاته» بل يتقابل معه. غير أنّ «الوجود لذاته» فكرةٌ معقدةٌ وليس السبب في ذلك أنّها تقابل «الوجود في ذاته» فحسب، بل لأنّها أيضاً تقابل مصطلح «الوجود للآخر».

والتطوّر عند هيغل يتضمن عودةً إلى البداية أو إلى ما هو في ذاته، فالنبات في النهاية ينتج بذوراً من جديدٍ، والشيخوخة هي عودة من صراع خصائص الشباب إلى نسخةٍ راقيةٍ من تآلف الطفولة ورضاها عن العالم.

«الوجود في ذاته ولذاته» كثيراً ما يرى على أن المرء في بيته ومع نفسه، أو يعني وصول المرء إلى ذاته في الآخر.

وذلك شبيهٌ باللاتناهي وبصفةٍ عامةٍ فإنّ استخدامات هيغل لتعبيرات «ذاته» متنوعةٌ ومرنةٌ أكثر مما يوحي به تفسير مذهبه.

اللاتناهي (L’Infini)

مصطلحات «اللاتناهي» و«اللامتناهي» تقابل «التناهي» و«المتناهي»، وهي تشير إلى غياب النهاية أو الحد. والمراد اليوناني «الأبيرون» (Aperon) (اللامحدود – اللانهائي).

حاول هيغل أن يستعيد العالم المتناهي المنغلق على ذاته عند أرسطو في مقابل العالم ذي النهاية المفتوحة في عصر التنوير وفي علم نيوتن المليء بالأضداد بين الذات والله والعالم وبضروبٍ من المتناهي عسيرة الهضم. غير أن هذه الضروب من اللاتناهي يصعب استبعادها:

يذهب هيغل إلى أنّ الزمان والمكان هما ضربان من اللامتناهي (الفاسد). ولم يلمح إلى أنّ المكان دائريٌّ حتى أنّ الحركة في خطٍّ مستقيمٍ لا بدّ في النهاية أن ترتدّ بنا إلى نقطة البداية من جديدٍ.

كما أنه لم يعمد مثل نيتشه إلى إحياء الفكرة الفيثاغورثية التي تتضمن العود الذي لا نهاية له للشيء نفسه بالضبط، ولا حتى الأحداث الممتدة في هويّةٍ واحدةٍ من الناحية الكمية.

ففكرة العود الأبدي تتعارض مع إيمان هيغل أنّ التاريخ يتقدم نحو هدفٍ ما، لكن إهماله لها جعله يتأرجح بالتساوي بين النظرة التي تقول أنّ التاريخ يصل أو أنّه وصل إلى نهايةٍ، وبين النظرة التي تقول أنّه يسير نحو لامتناهٍ، حتى لو استطعنا أن نعرف كيف سيواصل سيره وأنّنا لا بدّ أن نحصر أنفسنا في اللامتناهي الحقيقي الخاص بالحاضر.

المطلق ( L’Absolu )

 استخدم الفلاسفة الألمان بعد كانط بانتظامٍ مصطلح المطلق (das Absolute) للإشارة إلى الحقيقة النهائية، غير المشروطة، وقد يكون لهذه الحقيقة السمات التي ترتبط عادة بالله لكن ذلك ليس ضرورياً.

 حسب هيغل، المطلق ليس شيئاً يكمن خلف عالم الظاهر، لكنّه يعني النسق التصوّري غير الساكن بل المتطور والذي يتجلى في مستوياتٍ عليا من الطبيعة وفي تقدم المعرفة البشريّة عبر التاريخ، وهو يصل إلى مرحلته النهائية في فلسفة هيغل نفسها، حيث يشكّل محور الروح البشري المطلق وهو الروح.

ويستخدم هيغل أيضاً كلمة «المطلق» كصفة، فهو يتوّج كتاب «ظاهريات الروح» «بالمعرفة المطلقة» في مقابل: العقل، والروح، والدين. وينتهي كتاب «علم المنطق» «بالفكرة المطلقة» في مقابل الحياء، وفكرة المعرفة، والقمة التي يصل إليها المذهب في «الموسوعة» والجزء الثالث – هي «الروح المطلق» في مقابل «الروح الذاتي» و«الروح الموضوعي».

المجرد والعيني  (L’Abstrait et Le Concret)

في القرن السادس عشر استعار المفكّرون مصطلح (Abstrahieren) (يجرد) من الفعل اللاتيني (Abstrahere) الذي يعني حرفياً: «يحذف»، «يزيل» شيئاً من شيءٍ آخر.

استخدام هيغل لهذين المصطلحين – يتّفق مع التباس وغموض الاشتقاق اللغوي لمصطلحي «المجرد» و«العيني»، فالموضوع الحسي مثله مثل الفكرة أو الكلي – يمكن أن يكون مجرداً في حين أنّ الكلّي يمكن أن يكون عينيّاً.

والواضح أنّ أفكار المجرد والعيني تملأ فلسفة هيغل بأسرها، وبصفةٍ عامةٍ فإنّ وجهة نظره هي أنّ المجرد هو عنصرٌ جوهريٌّ في المنطق، ونحن نجرّد من العيني الحسي. كما أنّ الأفكار الشاملة ترى في البداية، وإن لم تكن كذلك في النهاية متميزةً بدلاً من أن تكون كتلةً لا تمايز فيها.

إنّنا نجد في تاريخ البشرية: تاريخ الفنّ، والدين، والفلسفة، أنّ المجرّد والتركيز عليه مرحلةٌ جوهريّةٌ، ونحن نجد في المجتمع الحديث أنّ الحقّ المجرّد والمبادئ المجردة والفرد المجرد هي سمةٌ جوهريّةٌ تسير جنباً إلى جنب مع الثراء العيني للشخص وعلاقات الاختلاف والاعراف.

الماهية  (L’Essence)

تؤدي كلمة الماهيّة (Wessen) إلى ظهور الصفة (wesentlich) (الماهوي) في معارضة غير الماهوي، وهاتان الصفتان «الماهوي وغير الماهوي» يمكن أن تشكّلا جملاً اسميّةً، أي هي ما يكون ماهية الشيء.

ويدرس هيغل الماهيّة في كتابه «ظاهريات الروح» في القسم الثالث الخاص «بالوعي» حيث ترتبط هناك مع الفهم بعلاقةٍ متبادلةٍ، في كتابه «علم المنطق»، فإنّ الماهيّة مثل «الوجود» هي تشمل في آنٍ واحدٍ جميع تصوّرات الفكر وتعيناته في «دائرة الماهية»:

في دائرة الوجود نلتقي بالكيفيّات والكميّات، وهذه التعيّنات وتبدلاتها هي مباشرةٌ، بمعنى أنّها لا ترى على أنّها تنتمي إلى كيانٍ واحدٍ. ومبرّر هيغل للانتقال إلى الماهيّة هو أنّ نكوص اللامتناهي لتبدلات الكم، هو ما يؤكّده تغيّرات الكيف ويفسح الطريق أمام التحوّل المتبادل الحقيقي بين الكيف والكم.

الوعي ( La Conscience )

للوعي الذاتي في تفسير هيغل ثلاثُ سماتٍ جديرةٌ بالذكر:

أولاً: ليس الوعي الذاتي «مسألة الكلّ أو لا شيء». وإنّما هو يتقدم في مراحل تزداد كفايتها.

ثانياً: الوعي الذاتي هو أساساً، علاقةٌ بين أشخاصٍ، تتطلب اعترافاً متبادلاً من الموجودات الواعية بذاتها: فهو «الأنا التي هي نحن، وهو النحن التي هي أنا».

ثالثاً: الوعي الذاتي عملي بقدر ما هو معرفيٌّ: يجد نفسه في الآخر، وفي الاستيلاء على الآخر الغريب، الذي يوجد فيه الوعي الذاتي، متضمناً إقامة وعمل مؤسساتٍ اجتماعيّةٍ وبحثاً فلسفيًّا وعلميًّا على حدٍّ سواءٍ.

وتظهر هذه السمات عند السابقين عليه لا سيما شلنغ، غير أنّ وجهة نظر هيغل هي أصيلةٌ فعلاً.

الهويّة (والاختلاف والآخريّة) ( L’Identité )

التعبير الألماني الشائع عن «نفس الشيء» هو (der, die, dasselble) وهو يشير في آنٍ واحدٍ إلى الهويّة العدديّة (الكميّة) والكيفيّة.

وكثيراً ما يستخدم هيغل كلمة (derselbe) (نفس الشيء)، لكنّه لا يناقشها في كتابه عن المنطق. وإنما يناقش الآخريّة الكيفيّة تحت عنوان «الوجود المتعيّن» حيث يتقابل «الآخر» مع «شيء ما».

كما يناقش الآخريّة العدديّة تحت عنوان «الوجود للذات» حيث يتقابل «الآخر» مع «الواحد» إلاّ أنّ الآخر والآخريّة هما فكرتان هامتان طوال المنطق، وخلال مذهبه ككلٍّ، فالوعي الذاتي والحريّة مثلاً يعتمدان أساساً على التغلب على الآخريّة.

وقد كان في ذهن هيغل، في هذا التفسير، ثلاثةُ أمورٍ:

 «قوانين الفكر» في المنطق الصوري لا سيما قانون الهويّة الذي يقول «كلّ شيءٍ متحدٌ مع نفسه في هويّةٍ واحدةٍ»، أو أن أ = أ.

 النظريات اللاهوتية، والميتافيزيقيّة عن الهويّة أو وحدة العالم مثل النظريّة الأفلاطونيّة المحدثة التي تقول أنّ العالم المتنوع فاض عن وحدةٍ أصليّةٍ، وافترض شلنغ وجود هويّةٍ محايدةٍ أو غير مكترثةٍ تكمن خلف الطبيعة والروح، ومذهب وحدة الوجود التي تقول بأنّ الله متحدٌ مع العالم في هويّةٍ واحدةٍ.

-------------------------------

خضر إ. حيدر : صحافي وباحث في اجتماعيات التواصل ـ لبنان.

[2]-   الموسوعة الهيغليّة الجزء الثاني فقرة رقم 275 – إضافة – يقارن هيغل بين تجلي الضوء وظهوره عندما يرتطم بحدةٍ، وبين بلوغ «الأنا» مرحلة الوعي الذاتي من خلال وعيها بموضوعٍ غريبٍ عنها.

[3]-  راجع تفسير هيغل للتمثّل في الجزء الثالث من الموسوعة فقرات رقم 451 – 464.

[4]-  الموسوعة، فقرة رقم 402 .

[5]-  الموسوعة، الفقرتان 463 – 468.

[6]-  الموسوعة، الفقرتان 2 و455.

[7]-   الموسوعة، الجزء الثالث، الفقرة رقم 449.

[8]-  راجع كتابه «فلسفة الحق»- الموسوعة الجزء الثالث، الفقرة رقم 448 وما بعدها.

[9]-  راجع مارتن هايدغر، الوجود والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت.

[10]-  هيغل، الموسوعة، الجزء الثالث، الفقرات 449- 450- 451.

[11]-  الموسوعة، الجزء الثاني، فقرة 258.