البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التقنية الحديثة ثمرة العقل المِتافيزيائي الغربي ، التبصر الهايدغري في اختلال العلاقة بين الكينونة والكائنات والإنسان

الباحث :  مشير باسيل عون
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  934
تحميل  ( 574.300 KB )
يقارب البرفسور مشير باسيل عون في هذه الدراسة المسألة التقنية بوصفها إحدى أبرز ظواهر الميتافيزيقا الحديثة، وعصارة عقلها الأداتي. ولقد وجد في مطالعات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الحقل المعرفي، الذي تأخذ فيه المقاربة سياقها الاستقرائي، لتظهر الاختلالات الحاصلة في العلاقة بين المكونات الكبرى التي يرتكز إليها العقل الميتافيزيقي الغربي: الكينونة والكائنات والإنسان.

تحاول هذه الدراسة كشف الأبعاد الأنطولوجيّة لظاهرة التقنية على نحوٍ يُفضي إلى فهم الأثر العميق والمدمّر الذي تحدثه في واقع الإنسانيّة المعاصر، ومقبلها.

المحرر


-------------------------------------------
التقنية الحديثة والتباسات دلالاتها
في الاقتباس الاستهلاليّ المستلّ من خاتمة المحاضرة التي ألقاها مارتن هايدغر (1889-1976) في العام 1953 في المدرسة التقنية العليا (مونخن، ألمانيا)[**] إصرارٌ على تجاوز ظاهرة التقنية الحديثة، من أجل البلوغ إلى عمق ماهيّتها: «بما أنّ ماهيّة التقنية ليست من التقنية بشيءٍ، يجب على التفكّر الجوهريّ في التقنية وعلى المجادلة التي تُشبكنا بها أن ينشطا في مجالٍ هو، من ناحيةٍ، على قربى من ماهيّة التقنية، ومن ناحيةٍ أخرى على اختلافٍ أساسيٍّ معها»[2]. استنادًا إلى مثل هذا التصريح الخطير، يمكن القول بأنّ التقنية تنطوي على أبعادٍ هي غير الأبعاد المادّيّة الآليّة الإنتاجيّة التي نختبرها فيها اختبارًا ظاهريًّا. فأين إذًا يقع معنى التقنية أو مضمونها الأعمق الناشب في ماهيّتها؟ أوَفي الإتقان؟ كلّا. أوَفي الصناعة؟ كلّا. أوَفي الإنتاج؟ كلّا. أوَفي الرغبة الابتكاريّة الساعية إلى الرخاء والهناء وإدامة الملذّة وإطالة العمر؟ ربّما. غير أنّ هذه الغاية لا تسوِّغ نشوء التقنية الحديثة على هذا النحو من الإسراف في استنزاف الأرض، واستنفاد الكائنات، واستخراج الطاقات. أصلُ التقنية، بحسب هايدغر، يكمن في الفكر الماورائيّ، أي في المِتافيزياء التي تعيّن للأشياء شروطَ تصوّرها، وأحكامَ انعقادها، وقواعدَ انبساطها، ومبادئ أدائها، وقوانين فاعليّتها. ومن ثمّ، يعتبر هايدغر أنّ هذه الأشياء التي يتواطأ ائتلافُها على إنشاء عالٍم ككلٍّ متماسكٍ، باتت تخضع لسلطان العقل الماورائيّ، الذي أباح لإرادة القوّة والتسلّط أن تفعل فعلَها في الكائنات: «إنّ الشكل الأساسيّ للظهور الذي فيه تنتظم إرادةُ الإرادة هي بعينها وتحتسب كلّ شيءٍ في لاتاريخانيّةِ عالم المِتافيزياء المنجَزة يمكن تسميته بوضوح ’التقنية‘. وبذلك يشتمل هذا الاسم على جميع ميادين الكائن التي تجهّز في كلّ مرّةٍ مجموعَ الكائن، أي الطبيعة وقد انقلبت موضوعًا للتناول، والثقافة وقد أضحت موضوعًا للانشغال، والسياسة المصنوعة، والمثُل المتسامية. وعليه، فإنّ التقنية لا تعني هنا مختلف ميادين الإنتاج الآليّ والتجهيز الآليّ. [...] إنّ تسمية ’التقنية‘ تُفهم هنا فهمًا مشتقًّا من ماهيّتها بحيث تُوافق عنوان المِتافيزياء المنجزة»[3]. يدلّ مثل هذا الكلام على أنّ أصل التقنية المِتافيزيائيّ مقترنٌ اقترانًا وثيقًا بإرادة الإرادة المنبثقة من تواطؤ ثلاث مرجعيّات، عنيتُ بها العقل الإنسانيّ الحسّاب، والإغلاق المِتافيزيائيّ على حرّيّة الكينونة، وارتضاء الكينونة عينها الانحجابَ الطوعيّ في زمن الهيمنة الكونيّة القصيّة. فالذات الإنسانيّة الساعية إلى إدراك الكائنات والكينونة أفضت إلى تعظيم اقتدارها حتّى غدت تريد محضَ إرادتها. والتصوّرات الماورائيّة التي أغلق فيها الفكرُ المِتافيزيائيّ الغربيّ على رحابة الكينونة، أضحى هو السبيل الوحيد الاضطراريّ من أجل البلوغ إلى معنى الكينونة، والكينونة عينها، من جرّاء عدوان الذات الإنسانيّة عليها، ومن جرّاء انحباسها في قفص المقولات المِتافيزيائيّة، قرّرت، بحسب هايدغر، أن تنكفئ إلى هيكلها الخاصّ الذي لا يدنو منه أصحابُ السلطان.

يرسم هايدغر هذا المشهد في تصوّره ماهيّة التقنية الحديثة، وفي يقينه أنّه يواظب على رسالته الفكريّة التي اختطّها لنفسه في كتابه الكينونة والزمان (1927) حين أعلن أنّ معنى الكينونة ساقطٌ اليوم في النسيان، وأنّ الفكر الجديد ينبغي له أن يقف ذاته في خدمة الاستذكار الوحيد الذي يليق بكرامة الكائنات، عنيتُ به استذكار حقيقة الكينونة التي بها تنبسط الكائناتُ في حقول تجلّياتها الحيويّة الحرّة. بيد أنّ البلوغ إلى حقيقة الكينونة لا يتهيّأ للفكر الجديد إلّا إذا تأوّل تاريخ المِتافيزياء الغربيّة تأوّلًا يبلغ بها إلى حدودها القصوى أو أصولها الأولى حيث الفكرُ عينُه يغدو، لا فكرَ الذات الإنسانيّة المتسلطّة، بل فكرَ الكينونة نفسها. من جرّاء هذا التأويل الهدميّ الترميميّ تَظهر السماتُ الحقيقيّة التي تنطوي عليها الكائناتُ في كدحها الوجوديّ إلى معاينة حقيقتها القصوى. هو نضالُ التاريخ بأسره ينعقد في مسعى الفكر الجديد إلى الانعتاق من أسر المِتافيزياء الغربيّة من أجل استعادة كرامة الكينونة وكرامة الكائنات، ومن بينها كائنُ الكائنات الذي فيه تعتمل استفساراتُ الوجود القصوى، ألا وهو الدازاين (Dasein)[4]، ذاك الإنسان الكائن في معترك التاريخ، المنفطر كيانُه على التماس الكينونة في مختلف أطوارها، والمنعقد فهمُه على تطلّب الشروط الأصليّة في تدبّر الأشياء والكائنات والموجودات.

ومن ثمّ، فإنّ هايدغر يعلن في الخمسينيّات من القرن العشرين أنّ الزمن الراهن هو زمن المِتافيزياء المنجزة، أي المِتافيزياء التي بلغت أوج طاقتها في ضبط الهويّات، وإحكام المقولات الواصفة، وإغلاق الآفاق المعنويّة الناظمة، واستدعاء الكائنات قاطبةً واستنهاضها واستثمارها واستنفادها. الزمن البشريّ المنطوي بانطواء القرن العشرين كان، في نظر هايدغر، بمنزلة الإنجاز الختاميّ للمِتافيزياء العقلانيّة الحسّابة القاهرة الغربيّة. من علامات الإنجاز الاختتاميّ الانتشارُ الكونيّ للتقنية في جميع أبعادها وهيئاتها ومقتضياتها[5]. فالتقنية مهيمنةٌ في الكون الأسفل والكون الأعلى. وهي أضحت المِتافيزياء الجديدة في الزمن الراهن. ما من مِتافيزياء معاصرة تعلو عليها أو تضارعها تسيّدًا وهيمنةً واستقطابًا وإغراءً للعقل الإنسانيّ الكونيّ. وبما أنّ التقنية أضحت هي المِتافيزياء الوحيدة الممكنة في الزمن الراهن، فإنّها تأسر العالم بأجمعه، فلا تكتفي بإنتاج الآلات وصناعة المختبرات والاختبارات، ولا تقتصر على ضبط العلوم وتوجيهها بحسب مقاصدها الإكراهيّة التسلّطيّة، بل تجتاح أيضًا حقولًا ما كانت قطّ في دائرة اعتناءاتها، ألا وهي حقول الثقافة الإنسانيّة المعاصرة، من آدابٍ وفنونٍ وسياسةٍ واقتصادٍ. التقنية هي اليوم الأفق المعرفيّ الوحيد المرتسم في رحاب الوجود التاريخيّ، الذي يقيّد الفكر الإنسانيّ في ضربٍ وحيدٍ من ضروب النشاط والإفصاح، هو ضرب المعاينة المتفحّصة التي تعاين الكائنات في بُعدها الإنتاجيّ، فتُطبق عليها استدراجًا واستنطاقًا واستثمارًا واستنفادًا. مثل هذا الاستفحال يجعل الكائناتِ، ومن ورائها الكينونة، خاضعةً لجميع ألوان التعذيب الآليّ حتّى تَستحضر على الفور مُكرهةً ما تختزنه من مضامينَ وطاقاتٍ وإيحاءاتٍ. لا مناص ولا فكاك من هذه التقنية، لأنّها هي الأفق الوحيد الممكن حاليًّا. بيد أنّ الفكر الاستذكاريّ، حين يتأمّل في الإشارات والإيماءات والإيحاءات المنبثقة من صميم الكينونة الحرّة، يمكنه أن يجتاز هذا الأفق من غير أن يخضع خضوعًا مميتًا لأحكامه ومراسيمه وشعائره.
الاستذكار استفسارٌ للِمتافيزياء عن مباني الإكراه ومقولات التسلّط
يحمل هايدغر تفكيكَ المِتافيزياء على معنى الاستذكار، فلا يثق كثيرًا بالهدم السلبيّ. السببُ جليٌّ في ذلك. فالهدم السلبيّ يعني أوّلًا أنّ الذات الإنسانيّة العاقلة الحسّابة هي التي تفرض إرادتها على الكينونة والكائنات، وهي التي تقيم الحدَّ على كلّ انحرافٍ أو خللٍ، في حين أنّ الخلفيّة الفكريّة التي ينتمي إليها هايدغر تقضي عليه بالحذر الشديد من العقلانيّات الذاتيّة المستفحلة، والركون في سكينة التأمّل إلى مراسيم القدَر ومُرسلاته. والهدم يعني ثانيًا أنّ هذا القدَر، وهو قدَر الكينونة عينها، هو الذي يرسم مسرى التفكيك والتجاوز والعودة إلى الأصول واستخراج المكنون من تضاعيف المِتافيزياء الغربيّة، منذ زمن انبلاجها الأفلاطونيّ الأوّل الفتّاح حتّى اختتامها النيتشويّ الأخير الجبّار. والهدم السلبيّ يعني ثالثًا أنّ المِتافيزياء الغربيّة ستسقط كلُّها في عدميّة الإلغاء، في حين أنّ المطلوب هو جعل الكينونة تجتاز المِتافيزياء الغربيّة الضالّة حتّى تهديها السراط القويم. أمّا إذا انجرفت المِتافيزياء في العدم المطلق، فإنّ الاجتياز يصبح مستحيلًا، فتُترك الكينونة الحقّة في الخواء المطلق. والحال أنّ الفكر الغربيّ لم يعرف إلّا هذه المِتافيزياء، ولئن اختبرت شعوبٌ أخرى ضروبًا مختلفةً من تحسّس الكائنات والأشياء والموجودات.

وعليه، فإنّ الاستذكار يتّخذ هيئة الاستفسار الأجرأ والأفصح والأقدر، حتّى يستطلق في التصوّرات المِتافيزيائيّة الغربيّة المتعاقبة مستوراتها ومُنحجباتها ومواضع شططها وضلالها. وحده هذا الاستذكار قادرٌ على استخراج ماهيّة المِتافيزياء، والاستدلال على المواضع المنحجبة التي انكتم الحديثُ عنها[6]. فالمكتوم في تاريخ الفلسفة هو الذي يسترعي انتباه هايدغر، في حين أنّ قراءة هيغل للتاريخ تستطلع المنجز، وتصهره في بوتقة الجدليّة الشاملة. النهج الناظم في هذا التأويل الهايدغريّ هو البحث عن إرادة القول أو مشيئة القول التي تستوطن كتابات الفلاسفة الغربيّين. في صميم هذه المشيئة تنحجب ماهيّة المقاصد الأولى، التي يبحث عنها هايدغر في استذكاره الجريء المقدام. أمّا المعيار الأساسيّ الذي يقيس به هايدغر مقدار التوافق بين ما قاله الفلاسفة الغربيّون وما كانوا يرومون قوله (مشيئة القول)، فهو السؤال المركزيّ عن الكينونة. سؤال الكينونة، بحسب البُعدين اللذين تنطوي عليهما دلالةُ الإضافة في فقه اللغة (الكينونة هي عينها تُسأل وتَسأل)، هو الذي استوطن المسعى المِتافيزيائيّ الغربيّ منذ البداية حتّى النهاية، وهو الذي أفضى إلى مباني النظريّات المِتافيزيائيّة المتعاقبة التي اختبرتها الفلسفة الغربيّة. فالمعيار مستخرجٌ من صلب المسعى المِتافيزيائيّ وليس هابطًا عليه من فوق. لذلك كان مقصد هايدغر أن يُظهر أنّ جميع الفلاسفة الغربيّين، ما خلا بعض الاستثناءات النادرة، أهملوا سؤال الكينونة وسؤال معناها، واكتفَوا بمساءلة كائنيّة الكائن (die Seiendheit des Seienden). فنشأ من جرّاء هذا نوعان من الإشكال، إشكال الانحراف عن إصابة سؤال الكينونة، وإشكال نسيان الكينونة ونسيان النسيان. ذلك أنّ فلاسفة المِتافيزياء ظنّوا أنّهم أصابوا في مساءلتهم الكينونة في ذاتها، في حين أنّهم كانوا يسائلون كائنيّة الكائنات وحسب؛ وظنّوا أيضًا أنّهم واعون بما يفعلون حين كانوا يسائلون، في حين أنّهم كانوا في إغفالٍ حقيقيٍّ لحقيقة السؤال وفي إغفالٍ أخطر لواقع النسيان. ينبغي القول هنا أنّ هايدغر تطوّر في انتقاده للنسيان المِتافيزيائيّ. في مرحلة إنشاء كتاب الكينونة والزمان كان يودّ تفكيك الأنطولوجيا المِتافيزيائيّة الغربيّة ليستطلع مواضع النسيان. أمّا في المرحلة التي عقبت المنعطف في فكره، فإنّه آثر استذكار التراث الفلسفيّ الغربيّ على طريقة الاستساغة والاستدخال والهضم والتمثّل. فإذا بتأويل المِتافيزياء يغدو في كتابات ما بعد المنعطف الهايدغريّ خطوًا إلى الوراء (Schritt zurück) به يستعيد الفكرُ حقيقة الكينونة بما هي عينُ الاختلاف بين الكينونة والكائنات. فالاختلاف الأنطولوجيّ الذي سهت عنه المِتافيزياء الغربيّة هو التباين الرقيق بين الكينونة في ذاتها والكائنات في اعتلانها. وحين أكبّت الفلسفة الغربيّة على استنطاق كائنيّة الكائن لم تستطع أن تتدبّر الكينونة في ذاتها، بل في اقترانها القسريّ بالكائنات.

ومن ثمّ، فإنّ هايدغر يعتقد أنّ المِتافيزياء التي سادت في الفلسفة الغربيّة منذ أفلاطون حتّى الأزمنة المعاصرة كانت تجتهد في معالجة مسألةٍ واحدةٍ، ألا وهي مسألة تعريف الكائن (das Seiende). فكانت تروم أن تتجاوز الكائن (meta) إلى كائنيّته حتّى تفوز بإدراكٍ قويمٍ لكائنيّة الكائن. غير أنّ مثل هذا التجاوز ظلّ، بحسب هايدغر، مأسورًا بالبحث عن الكائن وعن كائنيّته، مقيَّدًا بأفق كائنيّة الكائن، وعاجزًا عن مساءلة الكينونة (das Sein) في ذاتها. فإذا بالمِتافيزياء تنظر في الكينونة نظرَتها في الكائن، فتخلط بين الإثنين. ولا تلبث أن تحمل الكينونة على معنى الكائن، فتنسب إليها ما تنسبه إلى الكائن. فإذا بالكينونة هي تارةً الكائن الأسمى، على هيئة المثُل الأفلاطونيّة العليا، وهي تارةً أخرى جوهرٌ لصيقٌ كامنٌ في الأشياء، يحايث الكائنات بوصفه قوامَها الأصلب الأمتن الأبقى. وتبلغ مساءلة الكينونة مبلغًا خطيرًا حين تعمد المِتافيزياء إلى تصوّر كينونة الكائن وكينونة الكائنات على هيئة الحضور الدائم المستمرّ المطّرد القابل للمحاصرة والمداهمة والإمساك. في جميع الأحوال، لا تستطيع مثل هذه المِتافيزياء الغربيّة أن تتحسّس ضربًا آخر من ضروب انبساط الكينونة في ذاتها، عنيتُ به الكينونة في صميم تمايزها من الكائن ومن كائنيّته واختلافها وافتراقها عنهما. فالتباين الأنطولوجيّ بين الكينونة والكائن لا يمكن أن تستجليه هذه المِتافيزياء لأنّها منحصرةٌ في استنطاق كائنيّة الكائنات على تعاقب استحضاراتها واستدعاءاتها. فالكينونة في المِتافيزياء الغربيّة لا تأتي إلى الكائنات في حرّيّة الانبساط العفويّ، ولا تومئ إيماءات الخفر في الاعتلان والتهيّب من الظهور، ولا تُخلي المجال للأشياء في تشابك انعقاداتها التاريخيّة، بل تحضر حضورًا قاهرًا في كلّيّتها الممكنة حتّى تهيّئ للعقل الحسّاب أن يُخضعها لإملاءاته. لذلك تغيب الكينونةُ، بما هي كينونةٌ، في المِتافيزياء الغربيّة غيابًا فاضحًا أفضى بهايدغر إلى القول بأنّ المِتافيزياء، بما هي مِتافيزياء، هي العدميّة بعينها لأنّها تُعدم الكينونة في معتقلات الكائنات وكائنيّة الكائنات[7].

استنادًا إلى هذا التأويل التفكيكيّ يتبيّن أنّ المِتافيزياء الغربيّة صاحبةُ وجهَين متقابلين متعاضدين (zwiegestaltig) : الوجه الأوّل يتجلّى في الاعتناء بترصّد جميع سمات الكائنيّة في الكائن، أما الوجه الثاني فيعتلن في السعي إلى ضمّ جميع هذه السمات ونسبها إلى أسمى الكائنات طرًّا : «غير أنّ المِتافيزياء تتصوّر كائنيّةَ الكائن على وجهَين اثنَين. في الوجه الأوّل تتصوّر كلّيّةَ الكائن، بما هي كذلك، على معنى سماته الأعمّ؛ وفي الوقت عينه، في الوجه الثاني، تتصوّر كلّيّةَ الكائن، بما هي كذلك، على معنى الكائن الأسمى، ومن ثمّ، الكائن الإلهيّ»[8]. يدلّ هذا القول على أنّ المِتافيزياء اليونانيّة انقلبت مع أفلاطون إلى أنطولوجيا تبحث في كائنيّة الكائن وإلى تيولوجيا (لاهوت) تبحث في إلهيّة الكائن المتسامي، أصلِ جميع الكائنات. فالمِتافيزياء، بوصفها أنطولوجيا، تتحرّى عن الصفات أو المحمولات العامّة التي تُنسب حكمًا إلى الكائن بما هو كائن، في حين أن المِتافيزياء، بوصفها تيولوجيا، تجتهد في تأصيل الكائن في كائنيّته، فتتحرّى عن أصله، أي عن السبب الأوّل أو العلّة الأولى، لتعاينه في الكائن الإلهيّ الأسمى. لا شكّ في أنّ مثل هذا الازدواج المثنّى في المِتافيزياء يعود إلى أرسطو الذي أقرّ به قبل هايدغر. غير أنّ هايدغر أسلكه في مسرى نسيان الكينونة الذي ضرب تاريخ الفلسفة الغربيّة بأكملها. هو نسيانٌ جرّته المِتافيزياء الغربيّة على الكينونة بسببٍ من إغفال الاختلاف العميق بين الكنيونة والكائن، وبسببٍ من الإعراض عن ملاقاة الكينونة في ذاتها وقد انعقد كيانُها على استضافة الاختلاف. من جرّاء هذا كلّه كانت المِتافيزياء الغربيّة النَّسَّاءة حاملةً آثارَ هذا الإغفال. وعلاوةً على ذلك، فإنّ هايدغر يذهب مذهبًا لم يسبقه إليه أحدٌ، إذ يعلن جهارًا أنّ الكينونة هي أيضًا التي قرّرت أن تنحجب وأن تُخلي الساحة لاجتهادات المِتافيزياء الغربيّة الحسّابة. ومن ثمّ، فإنّ نسيان حقيقة الكينونة يقترن في وجهٍ بإغفالات المِتافيزياء عينها، وفي وجهٍ آخر بقرار الانحجاب الذي اعتزمت عليه الكينونةُ ومضت فيه من غير أن تنثني أو تتراخى.

 الانحجابات الثلاثة للكينونة على تعاقب أزمنة المِتافيزياء الغربيّة

يعتقد هايدغر اعتقادًا راسخًا أنّ الكينونة، بما هي حقيقة كلّ الكائنات والأشياء والموجودات، خضعت لمشيئة النسيان على تراخي الحقبات الزمنيّة التي اجتازتها الفلسفةُ الغربيّة منذ أيّام أفلاطون. فالفلاسفة الذين أتوا قبل سقراط كانوا على إصغاءٍ خفِرٍ لاعتلانات الكينونة الحرّة، فيما الفلاسفة الغربيّون الذين ورثوا هؤلاء الفلاسفة الإغريق الأوائل ما استطاعوا أن يصونوا حرّيّة الكينونة ومشيئتها، فأطبقوا عليها بمقولاتهم الاستقصائيّة. استنادًا إلى هذا التواطؤ الموضوعيّ بين الكينونة والمِتافيزياء طفق هايدغر يستطلع الحقبات الأساسيّة التي اجتازتها المِتافيزياء في سعيها إلى استجلاء حقيقة الكينونة. الحقبة الأولى هي الحقبة الإغريقيّة التي افتتحها أفلاطون وأرسطو. الحقبة الثانية هي الحقبة الرومانيّة الوسيطيّة. أمّا الحقبة الثالثة، فهي الحقبة الحديثة التي صنعتها فلسفة ديكارْت، وفلسفة كانط، وخصوصًا فلسفة نيتشه الذي اعتنى به هايدغر اعتناءً فريدًا لشدّة ما استوقفه النقدُ الجذريّ الذي ساقه نيتشه إلى المِتافيزياء الغربيّة. هي حقباتٌ تناسب، في وجهٍ من الوجوه، ما رسمته الكينونة عينُها من انحجابٍ لها تستطلق به ما تشاء من اعتلاناتٍ خفرةٍ لحقيقتها. في كلّ حقبةٍ من هذه الحقبات يسود تصوّرٌ شاملٌ للحقيقة وللوجود وللإنسان وللتاريخ. بيد أنّه ليس ثمّة من تشابكٍ جدليٍّ بين هذه الحقبات على منوال التشابك الجدليّ الذي ينشئه هيغل في تأوّله تاريخَ اصطراع الفكرة في معترك الوجود، بل تعاقبٌ حرٌّ ينساب انسيابًا مؤاتيًا لقرارات الكينونة.

فالانحجاب الأوّل للكينونة ارتُكب في التناول الأفلاطونيّ الذي ورث عن الأوائل تعريفًا للحقيقة (aletheia) يعاين فيها تعاقبًا هنيًّا للإقبال والإدبار، والإقدام والانكفاء، والاعتلان والانحجاب. ذلك أنّ الكائن في كلّيّته الذي كان الإغريق يعاينونه في الطبيعة (phusis) إنّما كان يكشف عن ذاته في هيئاتٍ شتّى وفي أطوارٍ متعاقبةٍ، من غير أن يتقيّد في صورةٍ واحدةٍ أو قالبٍ واحدٍ. أمّا الكائنات، فكانت، بحسب أفلاطون، تفوز بحقيقتها في الإيديا (idea)، أي في الفكرة الأولى أو المثال الأوّل الذي نُحتت هي بموجبه. في الأصل الإغريقيّ الأوّل تنبت الإيديا في حقل الطبيعة لأنّها هي التعبير عن الوجه، أو الهيئة، أو الصورة التي تتّخذها الكائنات حين تنبثق من صميم الطبيعة. فهي إذًا ثمرةٌ من ثمار الانكشاف التلقائيّ العفويّ الذي تعتمده الطبيعة كلّما شاءت أن تُفصح عن حقيقتها في كائناتها. هو هذا الأصل الإغريقيّ الذي يميل إليه هايدغر في تصوّره للصنيع الفنّيّ الذي يراعي تفوّرات الطبيعة وتموّجاتها[9]. أمّا الانعطاف الذي حدث في مثاليّة أفلاطون، فهو الذي أبعد الإيديا عن أصلها الطبيعيّ، فنصّبها مثالًا أعلى للكائنات في الطبيعة. فأمست هي معيار الكشف الصحيح في الطبيعة، وميزان الاستقامة في استواء الكائنات على حقيقتها. ومن جرّاء هذا التسلّط، غدت الكائنات لا تقوى على الإفصاح عن الكينونة الكامنة في الطبيعة إلّا على قدر ما تعتمد أحكام الوضوح والبيان والدقّة والإتقان التي تفرضها مثاليّةُ الإيديا (الفكرة). وانقلبت الكينونة مقيَّدةً ومسخَّرةً لخدمة التسويغ الذي أغفل الانسياب الحرّ للكينونة، وأقفل عليها في تراتبيّة الارتقاء من الكائنات الحسّيّة إلى المثُل العليا، ومنها إلى الكائن الأسمى. وبينما كانت الكينونة، في الزمن الإغريقيّ الأوّل قبل أفلاطون، تنعم بقربها السعيد من محضنها الأصليّ الفوسيس (phusis)، ومن حقل اعتلانها العفويّ وانحجابها الطوعيّ (aletheia)، أضحت لدى أفلاطون لا تنكشف إلّا بحسب معايير الوضوح والدقّة والاستقامة والإصابة التي تُنشئها مثاليّةُ الفكرة الأصليّة المفترضة (idea). هي معايير النظر الموثوق إلى حقائق الأشياء تفرضها النظرةُ الموضوعيّةُ المجرّدة (theoria). فلا غرابة، من ثمّ، أن تصبح النظريّةُ المشتقّة من التيوريّة الإغريقيّة استقصاءً يتعدّى مجرّد النظر المتأمّل المتّضع الخفر ليصل إلى تخوم الضبط والإمساك والإكراه والزجر والاستجواب. وهي كلّها من أفعال العلميّة الحديثة التي تنتشب بجذورها في تربة الانحراف الأفلاطونيّ.

لا ريب في أنّ مثل هذا التحوّل الأفلاطونيّ الخطير في تصوّر الكينونة، وفي تصوّر الحقيقة، وفي تصوّر الكائنات، جعل المِتافيزياء الغربيّة تخضع كلّها للمثاليّة الأفلاطونيّة. حتّى الحركة التصحيحيّة التي اضطلع بها أرسطو عجزت عن إلغاء الآثار السلبيّة التي خلّفها الإرثُ الأفلاطونيّ. ذلك أنّ أرسطو أخضع الحقيقة لمعيار التطابق بين الذهنيّات والأعيان، أي بين الأحكام والوقائع، وبين الأقوال والأشياء، وبين القضايا والموجودات. فإذا كان القول الصادر عن الذهن قادرًا على الإفصاح الدقيق عن الحقيقة، فإنّ الكينونة تنقلب بكلّيّتها خاضعةً لأوامر الذهنيّات العاقلة الرابطة الحاكمة. ومع أنّ أرسطو ناهض أفلاطون حين ذهب إلى أنّ الأشياء، بفعل الطاقة التي تنطوي عليها ذاتيًّا، تنبسط في الوجود انبساطًا حرًّا يجعل الفكر قابلًا لإدراكها ووصفها وتعريفها، إلّا أنّه ظلّ مقيّدًا بالمثاليّة الأفلاطونيّة التي ترسم أنّ التطابق بين الأذهان والأعيان هو ضمان الحقّ في اعتلان الحقيقة. فالإصرار على التطابق يجعل أرسطو يميل أكثر إلى الذهنيّات ويهمل الوقائع. ينضاف إلى ذلك أنّ تعيين الكينونة في حركة الانتقال من القوّة إلى الفعل هو تقييدٌ لها في مسرًى واحد لا تخرج منه إلّا بالسقوط في العدم. فالكينونة هي كينونةٌ على قدر ما تخضع لمثل هذا الانتقال، وعلى قدر ما تعتلن فعلًا منجزًا في تضاعيف الوجود. فالمُنجَزيّة أضحت هي هويّة الكينونة المحقّقة في التاريخ.

لذلك يمكن القول بأنّ الانحجاب الأوّل للكينونة في أعمال أفلاطون وأرسطو يُخضع الكينونة لمقولة الاستمرار المطّرد في الحضور. ذلك أنّ ماهيّة (ousia) الكينونة تصبح هي استدامتها في الحضور القابل للنظر والمعاينة. فالاستدامة في الحضور (parousia) هي السبيل الأضمن للبلوغ بالكينونة إلى موقع التسليم والاستسلام للإكراه التقنيّ الذي يستند إلى حالة الانتقال المطّرد من القوّة إلى الفعل. ثمّة علاقة وثيقة بين الأوسيا (ماهيّة الكينونة) والباورسيا (الاستدامة في الحضور) تنشأ من تسلّط الإيديا (الفكرة-المثال) على الكينونة ومن خضوع الكينونة لمعادلة الأومويوسيس (omoiosis) أو التطابق بين القول الواصف والواقع الموصوف. الأومويوسيس الأرسطيّة (نظريّة التطابق) تُطبِق على الكينونة في قالب التماهي بين الذهنيّات والعينيّات، في حين أنّ الكينونة كانت، في الزمن الإغريقيّ الأوّل، تستثير في النظر الإنساني الرغبة الخفرة في اقتبال التعاقب الحرّ الجذلان بين الانكشاف والانحجاب. وما لا شكّ فيه أنّ سقوط الاختبارات الإغريقيّة الأولى في شباك المثاليّة الأفلاطونيّة وشباك الواقعيّة الأرسطيّة مهّد السبيل إلى بناء التصوّرات النظريّة العقليّة القادرة على محاصرة الأشياء والكائنات واستنطاقها واستجلابها وإخضاعها لأحكام التقنية الحديثة.

هذا في الانحجاب الأوّل. أمّا الانحجاب الثاني، فيتجلّى، بحسب هايدغر، في مباني التصوّرات الرومانيّة التي استندت إلى مقولة الأمر القاطع أو المشيئة المتسلّطة (imperium). فالإمبراطوريّة الرومانيّة نهضت على أساس الأمر والائتمار، أي النظام والخضوع، وأفضى تطوّر الفكر فيها إلى تصوّر الحقّ على هيئة الانضباط أو الاستقامة، أي القانون وقد غدا هو التعبير الأنسب عن مطابقة مضامين الأمر. وبذلك تنقلب الحقيقة، حقيقة الكائنات والأشياء والموجودات والأحداث، موضعًا سنيًّا لتحقّق المطابقة بين الأمر والمأمور به. الحقّ أو الواقع (verum) يُضحي هو القانون (rectus) الذي به تنضبط معاييرُ هذه المطابقة. ينجم عن مثل هذه المطابقة بين الحقّ والقانون أنّ الكينونة تتغيّر ماهيّتُها تغيّرًا خطيرًا لتصبح هي الواقع وقد تحقّقت قابليّاتُه في حقل الفعل المنجَز (actualitas). يربط هايدغر مثل هذا التغيّر الخطير بالآمريّة الرومانيّة التي تربط الإنِرغيا الأرسطيّة (energeia) بعمليّة الإنجاز المتعمَّد، في حين أنّ أرسطو كان يعاين فيها إقبالَ الواقع المنجحب إلى الانكشاف الطوعيّ : «يترجم الرومانيّون، أي يتفكّرون الإرغون (ergon) انطلاقًا من العمليّة (operatio) وقد أدركوها على معنى العمل (actio)، ويجعلون أكتوس (actus) بدلًا من الإنِرغيا (energeia)، والأكتوس عبارةٌ مختلفةٌ كلّ الاختلاف تنسلك في حقل من الدلالة يختلف اختلافًا كلّيًّا»[10]. من جرّاء هذا الانحجاب الثاني، انقلبت الحقيقة عند الرومان مرادفًا للاستقامة (rectitudo) والضبط والائتمار بقوالب الصياغة السليمة والمقولات المؤاتية. وعليه، يغدو التاريخ الغربيّ بأسره تاريخًا رومانيًّا، ويكفّ عن أن ينتمي انتماءً صريحًا إلى الأصول الإغريقيّة الأولى الواعدة. ذلك أنّ الكينونة، حين تنحصر في الواقع وقد ارتسمت حدودُه في سياق الفعل المنجَز (actualitas)، تفقد مرونتها وحيويّتها ولاسيّما حرّيّتها الأصليّة اللصيقة بها.

يستهلّ ديكارت (1596-1650) الانحجاب الثالث حين يعرّف الحقيقة باليقين. مثل هذا التعريف لا يصحّ إلّا حين يستغرق الإنسانُ في تمثّله الواقع وإخضاعه الأشياء وإقحامه الكائنات في مقولاته العقليّة. فالإنسان غدا هو الذاتَ العاقلةَ صاحبةَ القرار الأخير في استنطاق الأشياء والكائنات والموجودات. وبما أنّ يقين الكوجيتو الديكارتيّ (أفكّر فأنوجد) هو الحقيقة المطلقة التي تقهر كلّ أصناف الشكّ، فإنّ الذات الإنسانيّة العاقلة التي تعتصم به تتقدّم على كلّ الموجودات، وتتقدّم على العالم بكلّيّته، وتتقدّم على كلّ فكرةٍ لتضحي هي المركز القطب الذي يأتي إلى الوجود من تلقاء ذاته، ويستجمع كلّ شيء في بصيرته، ويحكم على كلّ شيء وفاقًا لمرجعيّته المعياريّة. الذات المتيقّنة من حقيقتها المعرفيّة تغدو هي المقوِّمَ الأصليَّ لجميع الكائنات بها يمكن الكائن أن يتحقّق فيُظهر كائنيّته. على هذا النحو، يصبح من اليسير ولوج عصر الحداثة من جرّاء تعاظم القدرات التمثّليّة التي تدّعي الذاتُ الإنسانيّة امتلاكها والتصرّف بها : «حتّى زمن ديكارت كان كلُّ شيء قائمٍ بذاته يُعتبَر ’ذاتًا‘. ولكن الآن أصبحت ’الأنا‘ هي الذات البارزة التي لا تتحدّد الأشياء الأخرى بما هي عليه إلّا بالرجوع إليها. ولأنّ الأشياء – رياضيًّا – تكتسب أوّلًا شيئيّتها من علاقتها التأسيسيّة بالمبدأ الأسمى وبالذات المقترنة بهذا المبدأ (الأنا)، فإنّها في ماهيّتها هي ما يقوم كآخر من جهة الارتباط بالذات، أي ما يقابل الذات كموضوع. الأشياء عينها تصبح ’موضوعةً‘«[11]. كلّ شيءٍ ينقلب إلى حالة الوضع في قُبالة الذات العارفة العالمة المتيقّنة، حتّى إنّ الذات تُنشئ مواضيعها على قدر ما تستوثق من حقائق هذه المواضيع وتتثبّت من مضامينها. وقد تصبح الذات هي الموضوع الأوّل، بحسب هايدغر، لأنّها هي موضع اليقين الأصليّ في الكوجيتو الديكارتيّ. استنادًا إلى هذا التصوّر، تضحي جميع الكائنات والأشياء والموجودات في حالة مقابلة الذات، أي في حالة الوجود الموضوعيّ، على قدر ما تخضع ليقين الذات الإنسانيّة وعلى قدر ما تأتمر بالمخطّط العلميّ الكونيّ الشامل (mathesis). المعرفة عينها تصبح تيقّنًا من امتلاك القدرة على إخضاع الأشياء لتصوّرات الذات.

في صميم هذا الانقلاب يعاين هايدغر نشوء العقلانيّة الحسّابة الحديثة، التي تستند إلى مِتافيزياء اليقين الذاتيّ وتشرّع الأبواب لهيمنة المعرفيّة الكونيّة الشاملة التي تُخضع الكائنات كلّها لمخطّطها العلميّ القاهر. هو تخطيطٌ علميٌّ شاملٌ يقرن الكائنات بالذات الإنسانيّة، فيسلبها قوامها الخاصّ وينسبها إلى الحقل الذاتيّ، ويستحضر هذه الكائنات في صورة الوضع الإلزامي في قُبالة الذات الإنسانيّة حتّى تصبح قابلةً لأداء الحساب والخضوع المستكين. مثل هذه العقلانيّة الديكارتيّة المتافيزيائيّة تصوّر إذًا الطبيعة كلَّها في هيئة الآلة الضخمة التي تعمل وفاقًا لنظامٍ صارمٍ من الدقّة والانضباط والائتمار الوظيفيّ التلقائيّ. بناءً على تأسيسات ديكارت المِتافيزيائيّة، تنتشر العقلانيّة الحسّابة انتشارًا واسعًا في الفلسفة الغربيّة المعاصرة. فإذا بكانط يربط شروط إمكان المعرفة وأغراض المعرفة بشروط الاختبار والمعرفة اللصيقة بالذات العارفة[12]. بذلك تقتصر إمكانات الكينونة، انبساطًا وانتشارًا وفعلًا وأثرًا، على إمكانات الاختبار، ولا سيّما الاختبار المعرفيّ. فالكينونة تُضحي على هذا النحو أسيرة الأنا العارفة وأسيرة شروط الاختبار التي تلتزمها الذات العارفة[13]. هي هذه الشروط عينها التي ترسم حدود الموضوعيّة في الأشياء، وتفرض معايير الصحّة والصواب والإصابة. فتتملّك على الكائنات وتعيّن لها كينونتها. ومن ثمّ، فإنّ حصر كينونة الكائنات في شروط إمكان الاختبار المعرفيّ يبلغ بالعقلانيّة الديكارتيّة إلى مشارف الاختتام الأقصى، والإطباق على الأشياء، وانتزاع الكينونة من محضنها الأصليّ الحرّ، وإخضاعها لسلطة الذات العاقلة العارفة. وعوضًا من الاعتناء بحقيقة الكينونة، تنصرف العقلانيّة الحديثة إلى استنزاف الكائن. وما من استنزافٍ أشدّ إهلاكًا للكائن من هيمنة الإرادة الذاتيّة على حقيقة الكائنات[14].

في ثنايا هذا الانحجاب الثالث تنطوي إذًا كلّ القابليّات الاستنزافيّة، التي يحملها التحوّل الديكارتيّ في الأزمنة المعاصرة. ولذلك يستطلع هايدغر في جميع أطوار الفلسفة الغربيّة المعاصرة خيوط الانتظام المنطقيّ في سلك العقلانيّة الديكارتيّة الحسّابة. وعليه، ليس هناك من تخالُف أو تخارُج أو تناقض بين الكوجيتو الديكارتيّ والإرادة النيتشويّة. ذلك أنّ هايدغر يضع نيتشه في مصفّ آخر الفلاسفة الغربيّين المِتافيزيائيّين الذين حملوا أمانة الإرث الأفلاطونيّ وساقوه إلى خواتيمه القصوى. ومع أنّ نيتشه أعلن موت الله ونهاية المِتافيزياء الأفلاطونيّة، إلّا أنّه في تعظيمه الإرادة الإنسانيّة وإرادة الإرادة نقل الذاتيّة الحسّابة إلى مستوى السيادة القاهرة في هيئة الإرادة المطلقة. معنى ذلك أنّه قلب المِتافيزياء الأفلاطونيّة، فأسقط الكائن الحقيقيّ الأفلاطونيّ في وهاد الزيف والوهم والضلال وأفرغه من كلّ فاعليّةٍ تاريخيّةٍ ملموسةٍ، وجعل الكائن الحسّيّ والحياة والصيرورة والفعل التاريخيّ في مستوى الكائن الحقّ. أراد أن ينشئ قوامًا مستقلًّا للحياة ولإرادة الحياة في الإنسان الأعظم. ولكنّه ظلّ أسير المنطق المِتافيزيائيّ لأنّه تصوّر الكينونة قيمةً تستلّها إرادة الاقتدار من معين التدفّق الفيّاض للحياة، وتفرضها على الوجود فرضًا لا يسوّغه سوى حبّ إثبات الذات في إرادة الاقتدار. فإذا بمثل هذه الإرادة المطلقة تمسي هي عينها مريدةً ذاتَها، طالبةً عينَ مطلبها، راغبةً في تكثيف قوامها الذاتيّ، بحيث إنّ هذه الإرادة تستولي على الكائنات وتنقلب هي جوهرَ هذه الكائنات وحقيقتها القصوى.

هو نيتشه الذي يبلغ بالعقلانيّة الحسّابة وبالمِتافيزياء الأفلاطونيّة إلى التسلّط التقنيّ على الكائنات. فالقيم التي تخلقها إرادة الاقتدار ليست سوى السبُل التي بها يصون الإنسان هذه الإرادة ويعظّمها حتّى إنّ إرادته تصبح هي السمة الأساسيّة في الكائن : «إذا كان نيتشه يتصوّر القيَم بما هي شروطٌ – أي بما هي شروط الكائن بما هو كذلك (بتعبير أفضل، شروط الواقعيّ والصائر)، فإنّه يتفكّر الكينونةَ تفكّرَه للكائنيّة بحسب المعنى الأفلاطونيّ»[15]. ولا غرابة، من ثمّ، أن يضحي نيتشه، في نظر هايدغر، أفلاطونيًّا على قدر ما يرى في كائنيّة الكائن الشرطيّةَ التي تمكّن الإرادة من نَسْب القيمة إلى الأشياء. فالكائنيّة هي الشرطيّة لأنّها هي التي تمكّن الكائنات من الخير والصلاح. ولذلك يظلّ نيتشه أسيرَ التمكين الأفلاطونيّ الذي يغترف للكائنات قوامَها ومُكنتَها وقيمتَها من معين المثُل العليا، مثُل الخير والصلاح التي تهب الكائنات كائنيّتها وقيمتها حين تُعتقها من سلاسل المادّة وظلال العالم الحسّيّ السفليّ. وعليه، فإنّ نيتشه يصبح، في نظر هايدغر، الفليسوف الغربيّ الأخير للمتافيزياء الأفلاطونيّة وقد بلغت أقصى درجات التسلّط على الكائنات. ذلك أنّ تحويل كائنيّة الكائن إلى محض إرادةٍ في الاقتدار والتجاوز أوصل المخطّط العلميّ الديكارتيّ إلى أوج هيمنته على الكون بأجمعه. فالكائنات تضحي من جرّاء هذه الإرادة موضوعةً ليس في خدمة الذات وحسب، بل أيضًا في خدمة التهيّؤ لجميع ضروب الاستغلال والاستثمار والاستنفاد. الكائنات تمسي أشبه بأغراض تُنشئها الذات بقدرة إرادتها، وتمنحها ما تستنسبه من قيمة. ولكنّها قيمةٌ غريبةٌ عن الكائنات لأنّ وظيفتها الوحيدة تقتصر على مضاعفة اقتدار الإرادة الذاتيّة. بذلك يسقط كلّ شيء في قبضة التملّك الإراديّ الذاتيّ، وينقلب العود الأبديّ النيتشويّ تعبيرًا عن الماهيّة المِتافيزيائيّة التي تنطوي عليها التقنية الحديثة. وها هو ذا هايدغر يستفسر نيتشه عن أبلغ المقاصد التي طواها في فكرة العود الأبديّ : «ما هي إذًا ماهيّة الآلة المحرِّكة الحديثة إلّم يكن غير رسم صورة العود الأبديّ للأمر عينه؟»[16]. العود الأبديّ تعبيرٌ بليغٌ عن استزادة إرادة الاقتدار وسعيها المحموم إلى التولّد الذاتيّ ومضاعفة الطاقة طمعًا بسلطانٍ لا يأفل هو أشبه بتطلّبٍ أبديٍّ لرغبة الهيمنة عينها.

لا يحسن أن يُختم هذا التصاعد المتفاقم في الاقتدار من دون ذكر تواطؤ الماركسيّة المادّيّة التي تنتمي هي أيضًا، بحسب هايدغر، إلى مِتافيزياء الذات المقتدرة، وقد تواطأت تواطؤًا مريبًا مع إرادة الإرادة والعود الأبديّ. هي ماركسيّةٌ تستند إلى أنطولوجيا الإنتاج المطّرد[17]. ذلك أنّ كائنيّة الكائن تتحقّق، وتُستنفد بالفعل عينه، في منتوج العمل. أمّا الغاية القصوى التي يمكن البلوغ إليها، فهي الإنتاج الذاتيّ المطلق الذي يستغرق جميع حقول الطبيعة. فالإنسان المنتِج والطبيعة القابلة للإنتاج يتواطآن حتّى الاتّحاد، فيصيران جسدًا واحدًا في التاريخ يحمل آثار الاقتدار الخطير الذي تخضع له الكائنات والأشياء والموجودات. كلّ شيء يصبح مكشوفًا، معرَّضًا، قابلًا للتموضع والتحقّق. حينئذ تكتمل دورة المِتافيزياء الغربيّة وتبلغ مقاصدها القصوى وخواتيمها السحيقة. فتستسلم الكينونة لتخدّر النسيان، وتغرق الكائنات في لجّة الالتهاب التقنيّ الذي يلتهم الكون بأجمعه. مردُّ ذلك كلّه إلى أنّ تاريخ الفلسفة أو تاريخ المِتافيزياء، والعبارتان مترادفتان في قاموس هايدغر، ليس سوى تاريخ انتشار الفكر المبنيّ على تطلّب المثال أو القيمة المطلقة للأشياء. هو تاريخ الأفلاطونيّة التي تتصوّر الوجود كلّه راغبًا في الاستزادة من قيمته بالتخلّي الطوعيّ عن دفين سرّه، وخبيئ طاقته، ومحجوب قوامه، ومُستتر عنصره. لا تستيطع الِمتافيزياء، والحال هذه، أن تدرك خطورة الوضع الذي آلت إليه حين أسقطت الكينونة في قعر النسيان، وحين أغفلت فعلتها هذه وأضحت عاجزةً عن التبصّر في ضرورة العودة إلى الكينونة. هو موقف الإهمال واللامبالاة تقفه المِتافيزياء الغربيّة من ضيق الأوضاع التي خلّفتها التقنية الحديثة. وتتفاقم حدّة هذا الضيق حين يظنّ الناس أنّهم في نجوة من الضيق الكيانيّ. هو ضيق انعدام الشعور بخطورة الضيق يضرب في الوجود من كلّ أنحائه حتّى يشلّه ويُقعده عن التجلّي[18].

التقنية الحديثة في ماهيّتها المِتافيزيائيّة القصوى
ينظر هايدغر إلى واقع المسكونة في الزمن الحديث والمعاصر نظرته إلى انحجاب ٍكونيٍّ تفتعله الكينونة عينها التي تتوارى عن الأنظار في هيئة الهيمنة التقنية الساحقة. طالما أنّ هايدغر لا يني يضطلع بمأساة الضيق الكونيّ من موقع التبصّر الفلسفيّ، لا من موقع التحليل الاجتماعيّ الأنتروبولوجيّ الاقتصاديّ السياسيّ، فإنّ المحنة الكونيّة التي تزعزع أساسات الوجود كلّه إنّما تنبثق من نسيان الكينونة. وهو نسيانٌ شاءته الكينونة لذاتها وجرّته أيضًا عليها الهيمنةُ المقلقة للعلم الحديث. فالعلم الحديث يفرض على الطبيعة تصوّرًا كاملًا يجعلها خاضعةً لمسلّماته الإبّيستِمولوجيّة ومطيّةً لمطامحه التقنية[19]. لذلك يعرّف هايدغر العلم الحديث تعريفَه لنظريّةٍ في الواقع تستفزّ الواقع وتنهره وتعيد بناءه بحسب مبادئها وأحكامها وقضاياها. العلم كنظريّةٍ في الواقع يصوغ الواقع صوغًا يجعله خاضعًا لإرادة الاستغلال المبثوثة في أحكام النظريّة[20]. في صياغته هذه يجتهد أيضًا في ضبط قوانين الاعتلان التي ترسم لكلّ كائن أن يظهر وفاقًا للمعادلة الفيزيائيّة الموضوعة له. بيد أنّ الاجتهادات النظريّة التي ينشئها العلم لا تقوى على تقييد الطبيعة التي تظلّ في حيويّتها وحرّيّتها وحميميّتها عصيّةً على التمثّل الأحاديّ والإدراك القالبيّ.

من المفيد أن يشير المرء هنا إلى تأثّر هايدغر بالانتقاد الذي ساقه هوسّرل إلى العلوم الحديثة حين عاين تنكّر هذه العلوم للأصل الحيويّ الحياتيّ الذي انبنت عليه، ألا وهو البيئة الحيّة أو المحيط الحيّ أو عالم الحياة (Lebenswelt) الذي يكتنف الوجود كلّه[21]. بيد أنّ هذا التأثّر اقتصر على انتقاد العلم[22]، فلم يلتقيا على الاستدلال المشترك على أصل الاعتلال. ذلك أنّ هايدغر لم يشارك أستاذه هوسّرل في هذا التناول الفِنومِنولوجيّ للحياة، بل ذهب إلى أنّ الأصل الفَجْريّ الإغريقيّ الذي ينبغي لكلّ علمٍ أن يعود إليه إنّما هو حقيقة الكينونة في حيويّة التماعاتها وأفولاتها. وما التقنية الحديثة سوى ضربٍ من ضروب الأفول الغروبيّ الذي يلقي بظلاله الحالكة المقتمّة على الكائنات، فيسلبها حرّيّتها ويزجّها في أتّون الاستهلاك والاستنفاد. وعليه، يعتقد هايدغر أنّ الأزمنة الراهنة تهيمن عليها في المقام الأوّل ظاهرةُ التقنية التي تشتمل هي أيضًا على العلم اشتمالَها على جانب من جوانب استفزازيّتها المتفاقمة.

في الأُملية الجامعيّة التي ألقاها هايدغر على طلّابه في جامعة فرايبورغ في فصل صيف 1941، يصف الوضعيّة العامّة التي تسم الأزمنة الحديثة بالوضعيّة التقنية : «إنّ الوضعيّة الأساسيّة للأزمنة الحديثة هي الوضعيّة ’التقنية‘. ليست هي تقنيةً لأنّ هناك آلات تعمل على البخار، ومن بعدها المحرّك الحراريّ. بخلاف ذلك، مثل هذه الآلات موجودةٌ لأنّ العصر هو العصر ’التقنيّ‘«[23]. لا ريب في أنّ التقنية التي يتحدّث عنها هايدغر هي غير التقنية المألوفة التي يأنس إليها الناس في صنائعهم اليوميّة. في التقنية بعدٌ أداتيٌّ صاحَبَ تطوّر الحرفة الإنسانيّة منذ تفتّح الوعي الأوّل. لذلك قد يظنّ بعضُهم أنّ التقنية المعاصرة نجحت في تطوير هذا البُعد الأداتيّ، فأدخلت عليه خصائص الفاعليّة والإنجازيّة المثمرة. إلّا أنّ هايدغر لا يقتنع بمثل هذه المضاعفة في القدرات، بل يذهب إلى أنّ ماهيّة التقنية المعاصرة تتخطّى البُعد الأداتيّ الذي ضخّمته التطوّرات العلميّة الحديثة والمعاصرة. وبذلك أضحت التقنية الحديثة تتجاوز الإرادة الإنسانيّة بما يحتشد فيها من اقتدارٍ خطير الشأن.

لا بدّ إذًا من مقارنة التصوّرات الإغريقيّة الأولى للتقنية بالتصوّرات الحديثة التي رسمتها العقلانيّة الحديثة في مخطّطها العلميّ الكونيّ. كان الإغريق الأوائل يتحسّسون التقنية في أصلها الفَجريّ (technè) مقترنةً بالتفتّح الاعتلانيّ العفويّ التلقائيّ (poiesis). فالتقنية الإغريقيّة هي ضربٌ من ضروبٌ التفتّح الاعتلانيّ، لا تحتمل أيّ صنف من أصناف الاصطناع والإنتاج : «إنّ السمة الحاسمة في التقنية لا تقوم البتّة في الصنع والاستعمال، ولا في استخدام الوسائل، بل في الكشف. فالتقنية هي تفتّحٌ اعتلانيٌّ بما هي كشفٌ، لا بما هي صنعٌ»[24]. المسألة كلّها تتعلّق بالتحوّل الخطير الذي انتاب الأزمنة الحديثة حين أعرضت عن المعنى الإغريقيّ اللصيق بالتقنية، وقد اتّضحت دلائلُه في مفهوم التفتّح الاعتلانيّ الحرّ في الكائنات وفي الأشياء وفي الموجودات، وانحازت إلى التصوّر العقلانيّ الحديث الذي يجعل التقنية تغزو الطبيعة، فتصطنع منها ما لا طاقة فيها عليه. الكشف الإغريقيّ هو غير الاصطناع الحديث لأنّ تصوّر الحقيقة يختلف اختلافًا كلّيًّا بين الثقافتين. وما العمل الفنّيّ الذي يتأمّل فيه هايدغر سوى التعبير الأفصح عن فرادة التقنية في تناولها الإغريقيّ. الحقيقة الإغريقيّة اعتلانٌ عفويٌّ للإشارات المعنويّة الحرّة التي تزخر بها الأشياء، في حين أنّ الحقيقة الديكارتيّة الحديثة قهرٌ للدلالات، وإرغامٌ للمضامين، وتطويعٌ للمعاني، وضبطٌ حسّابٌ للمعادلات.

ومن ثَمَّ، فالكشف المتحقّق في التقنية الإغريقيّة هو غير الكشف المنجز في التقنية الحديثة[25]. الكشف الإغريقيّ تحريرٌ لطاقات الأشياء، أما الكشف الحديث استنفارٌ للطاقات، واستفزازٌ للقابليّات، وإخضاعٌ للإمكانا،ت حتّى تذعن وهي صاغرةٌ، فتُستنزف استنزافًا يتيح للاقتدار الإنسانيّ أن يستجمعها ويوضّبها ويستودعها مخزونًا مؤهّلًا للاستخدام العقلانيّ الطليق من كلّ استشعارٍ أو تحسّسٍ أو تعاطفٍ. وما مستودعات الطاقة التي تشيّدها المجتمعات الغربيّة المعاصرة المتطوّرة سوى الدليل على هذا الاستفزار الذي ينتهك حرمة الطبيعة، فيذلّها إذلالًا حتّى تؤتي مكرهةً كلّ ثمارها، اليانعة منها وغير اليانعة. عشقَ هايدغر التناولَ الإغريقيّ لأنّه عاين فيه رعايةً فائقةً لإيقاعات الطبيعة وإيقاعات كائناتها، بينما التقنية الحديثة تنهال على الكون انهيالًا لتستخرج منه بالقوّة الغاشمة كلّ مكانز دفائنه، القابلة منها للاعتلان الناضج وغير القابلة لمثل هذا الاعتلان. جميعُ طاقات الكون مسخّرةٌ في خدمة الإنتاج. والإنتاج مسخّرٌ في خدمة إرادة الاقتدار. وإرادة الاقتدار مسخّرةٌ في خدمة ذاتها، أي في خدمة اقتدارها وتعاظمه وتفوّقه. في هذا الترابط العبثيّ ترتسم انحرافاتُ العقلانيّة الغربيّة التي أفضت إلى الاسترقاق التقنيّ الكونيّ الجارف.

سعيًا في الإمساك بالمعنى الأقصى الذي تنطوي عليه التقنية الحديثة، يبتكر هايدغر اصطلاحًا ألمانيًّا (Ge-stell) يشتقّه من الفعل الألمانيّ (stellen) ويزيّنه بالبادئة (Ge-) التي تخوّله أن يحمّله معاني الاستفزاز والاستجرار والاستجلاب. وقبل أن ينسب إلى هذا الاصطلاح كلّ هذه المعاني الاعتدائيّة، يحلو له أن يستصفي الصدى الدلاليّ الإغريقيّ الأصليّ[26]. فيذكّرنا بأنّ الفعل الألمانيّ (stellen) يدلّ على وضع الأشياء في موضعها الطبيعيّ السليم. ويمكنه أيضًا أن يدلّ أيضًا على الانسياب التلقائيّ إلى الظهور (her-stellen) والتعرّض للعِيان النظريّ (dar-stellen). فإذا بالحقل الدلاليّ الذي تنبسط فيه هذه الأفعال يرمز إلى انتصاب الأعمال الفنّيّة في المشهد العِيانيّ الذي يأنس الناسُ إليه في انبهارهم بجمالات الطبيعة وببهاءات الفنون الإغريقيّة القديمة. على هذا المعنى ينبغي إدراك فعل الإنتاج التقنيّ في محمولاته الإغريقيّة الأصليّة (poiesis). وهو فعلٌ تتعزّز فيه حركةُ التفتّح الاعتلانيّ العفويّ متصدّرةً عمليّةَ الافتعال الإنسانيّ المحض الذي يستتليه فعلُ الإنتاج.

في إثر هذا الاستذكار الإغريقيّ، يعود هايدغر إلى اصطلاح الاستجلاب أو الاستنهار[27] (Ge-stell) يصف به التحشيد الاستفزازيّ الذي تنطوي عليه التقنية الحديثة : «الاستنهار يعني استجماعَ الزجر الذي يستدعي الإنسان، أي يستفزّه لكي يكشف الواقع كشفَه لمنتَضَدٍ يؤتَى إليه على سبيل التطلّب. الاستنهار يعني هذا السبيل من الكشف الذي يسود ماهيّة التقنية الحديثة من غير أن يكون هو شيئًا تقنيًّا»[28]. مثل هذه الماهيّة تهيمن على كلّ نشاطات الإنسان في الزمن المعاصر، سواء تلك التي تتعلّق بالإنتاج الصناعيّ أو تلك التي ترتبط بالصناعة الثقافيّة. ذلك أنّه يحتكر المادّة والعقل ويجعل الإنسان يتصوّر الطبيعة والواقع في هيئة المستودع الحيّ الذي ينبغي استثمار طاقاته المخبوءة وتحويل عناصره إلى أغراضٍ استخداميّةٍ محضةٍ. هو العلم الحديث الذي يفرض مخطّطه الحسّاب على الطبيعة يستحثّها على استحضار جميع قدراتها ومواردها. الاستنهار يختضر مكانز الطبيعة، أي يقتطفها قبل أوان نضجها، ويتمادى في استثارة دفين أسرارها حتّى تنكشف عاريةً مستسلمةً خاضعةً أمام آلاته الجبّارة. من جرّاء مثل هذا الاستفزاز المتمادي يكفّ الإنسان عن اختبار الكائنات والأشياء بما هي تجلّيات لحقيقة الكينونة، فتنقلب جميع هذه العناصر أسيرةَ الأخذ النفعيّ. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الإنسان ليس هو من يفتعل هذا الاستنهار لأنّه هو أيضًا محكوم به. فالاستنهار يستفزّ أيضًا الإنسان ويدفع به إلى التصرّف تصرّفًا عدائيًّا. ذلك أنّ الاستنهار هو الكيفيّة الحديثة التي عليها يحلو للكينونة أن تنحجب انحجابًا تتّقي به نوائب العقلانيّة الحسّابة.

تدليلًا على هذا التحوّل الخطير في كائنيّة هذه الأشياء والعناصر والكائنات، يستأنس هايدغر بتوليدٍ لغويٍّ آخرَ يُفصح به عن حال الطبيعة وقد تكوّمت وتكدّست طاقاتها وأضحت جاهزةً للاستغلال. هو اصطلاح المُنتَضَد (Bestand) الذي يجمع مَتاعَ الأشياء بعضَها فوق بعض وينضدها ويخزنها في أهراء التوضيب حتّى تضحي جاهزةً للاستخدام والاستثمار والاستغلال : «كلُّ شيءٍ (الكائن في كلّيّته) يصطفّ للتوّ في أفق نفعيّة ومأموريّة أو، بتعبير أفضل، في أفق مطلوبيّة ما ينبغي الهيمنة عليه. ما من شيءٍ عاد يقوى على الظهور في حياديّة التقابل الموضوعيّة. لم يعد هناك سوى أغراضٍ مُنتَضَدةٍ من مخروناتٍ واحتياطاتٍ ووسائلَ»[29]. من جرّاء هذا الاستنهار الكونيّ تنقلب الطبيعة كلّها خزّانًا رحبًا من الطاقة المستودعة تغترف منه التقنيةُ كلّ موارد إنتاجيّتها. الطبيعة تضحي هي المُنتَضَد الأعظم الذي تنضوي فيه كلّ مخزونات الاقتدار التقنيّ الضارب في المسكونة قاطبةً. أمّا الإنسان، فينقلب هو أيضًا موردًا من الموارد الأساسيّة في العالم، ومستودعًا ضخمًا للطاقات المهيّأة الصالحة للاستخدام. وبذلك ينتظم الوجود كلّه في مخطّطٍ علميٍّ كونيٍّ يستوجب الإعداد والاستباق والتمهيد والاستطلاع والاستشراف حتّى تظلّ مستودعات الطاقة جاهزةً للاستخدام المباشر وغير المباشر، وقابلةً للديمومة حتّى في حالة انعدام الحاجة المنظورة إليها.

ولمّا كان الأمر على هذا النحو، عاد الإنسان لا يقوى على معاندة التقنية في جوهرها الغالب. فالقوى الاستغلاليّة التي استثارها الاستنهار الكونيّ أضحت هي التي تسيّر مجرى الأحداث في العالم وهي التي تهيمن على إرادات الناس. فهي سبق أن تجاوزت حدود الإنسان وخرجت من دائرة سيطرته. السبب الأساسيّ في ذلك الخروج أنّها أصلًا ليست منبثقةً من إرادته الذاتيّة. هيمنة الاستنهار الكونيّ متأتّيةٌ من زمن الغروب الحضاريّ الذي فيه سقطت الكينونة في غياهب النسيان، وكأنّي بهايدغر ينسب إلى الكينونة قرار الاستفحال التقنيّ في الكون من بعد أن قرّرت الكينونة أنّها لا تستطيع أن تتجلّى في براءة حرّيّتها وفي صفاء حقيقتها وفي إيماءات سرّيّتها القصيّة. وعليه، فإنّ زمن التقنية هو زمن اكتمال الهيمنة المِتافيزيائيّة على الكينونة وعلى الإنسان وعلى العالم. وليس ينفع الإنسان أن يتدبّر بالخطط الوقائيّة اجتياحات التقنية الكونيّة، لأنّ اقتدار الاستنهار منبثقٌ رأسًا من مراسيم الكينونة عينها. كلّ تصوّرٍ أنتروبولوجيٍّ، أو تدبيرٍ سوسيولوجيٍّ، أو علاجٍ سياسيٍّ، مآله الإخفاق لأنّ الإنسان إمّا أصبح، في أسوأ الافتراضات، غرضًا من أغراض التقنية الحديثة، وإمّا غدا، في أفضل المشاهد المأساويّة، هو الموظّف المنتدَب والمنفّذ الأمين لأحكام الاستنهار الكونيّ.

رأس الكلام في هذا كلّه أنّ التقنية الحديثة هي إرسالٌ أمريٌّ، أو انتدابٌ ناظمٌ، أو إيفادٌ قدَريٌّ حاكمٌ. هنا يستعين هايدغر بموارد اللغة الألمانيّة لينشئ رباطًا دلاليًّا بين كلمة القدَر الألمانيّة (Geschick) وفعل الإرسال أو الانتداب أو الإيفاد (schicken) : «إنّ الاستنهار، وشأنه في ذلك شأن كلّ ضربٍ من ضروب الانكشاف، هو إيفادٌ من القدَر»[30]. فالقدَر هو قدَرنا لأنّه يرسم للكون وللإنسان وللعالم ما ترتأيه الكينونةُ في سرّ تعاقب اعتلاناتها واحتجاباتها؛ وهو الذي يبعث إلينا بالإيفادات الناظمة لأفق مداركنا ولتحوّلات الكائنات عندنا ولإيماءات الكينونة نحونا. والرسم هو هديٌ إلى الانخراط الكلّيّ في الطور الأخير من استنفاد طاقات المِتافيزياء الغربيّة حتّى تُقبل طوعًا إلى اختبار القربى الخاشعة من بهاءات الحقيقة في الزمن الأخير من التاريخ. وما التقنية الحديثة، في استنهارها الكونيّ، سوى التعبير الأفصح عن مثل هذا الاستنفاد. وعليه، فإنّ الإنسانيّة تحيا اليوم في زمن التقنية، أي في زمن استهلال الاختتام الأقصى حيث تبلغ المِتافيزياء ذروة تسلّطها. ولذلك كانت التقنية هي «المِتافيزياء الناجزة» وقد استُهلّ زمنُها استهلالًا مهيبًا[31]. غير أنّ الاختتام لا يعني انتهاء عمل التقنية وتعطّلها الدائم وتوقّفها النهائيّ. الاختتام يدلّ على استنفاد مطاوي الماهيّة التي تحملها المِتافيزياء الغربيّة. وهي الماهيّة التي يستمدّ هايدغر قوامَها ومعناها من إرادة القوّة التي نادى بها نيتشه. ماهيّة المِتافيزياء الغربيّة ليست سوى إرادة الإرادة تريد ذاتها وتسعى وراء ذاتها وتطلب الاقتدار لذاتها. هي إرادةٌ لا ترضى بأيّ مسعى غير مسعاها، ولا تقبل بأيّ غاية سوى غايتها، ولا تركن إلى أيّ تسويغ إلّا التسويغ الصادر عنها[32]. هي تسعى طلبًا للسعي بعينه، وتنتج رغبةً في الإنتاج بذاته، وتخزّن طمعًا بالتخزين ليس إلّا. وبما أنّ هذا كلّه ينشط بمعزل عن الحاجات الإنسانيّة الواقعيّة الضروريّة، فإنّ إرادة الإرادة، وقد استجمعت فيها كلّ استفزازات المِتافيزياء الغربيّة، تُفضي إلى افتعال الاختلال الكونيّ الكارثيّ (Anarchie der Katastrophen)[33] حيث يتحوّل الإنسان والكائنات إلى جوقة من الخدَم المنتدبين من أجل المواظبة على تعزيز منطق الهيمنة التقنية الشاملة. ومن ضرورات هذا التعزيز أن ينسج الناسُ بعضُهم على منوال بعضٍ، فيكبّون على تطلّب اللباس عينه، والمأكل عينه، والمشرب نفسه، والمسلك نفسه، ويركنون إلى التعبير الواحد، والإنشاء الواحد، والتفكير الواحد. ذلك أنّ وحدة الإرادة المِتافيزيائيّة تفرض على الكائنات وحدةً في الكائنيّة عينها.

  هل من سبيل إلى الانعتاق الرضيّ من أسر المِتافيزياء الغربيّة وقيد التقنية الحديثة ؟

في مختتم البحث الذي تناول فيه هايدغر مسألة التقنيه، يغوص سميرُ المِتافيزياء الغربيّة غوصًا سحيقًا في تبصّر معاني الخطر الداهم. في عمق المحيط لا يجد أمامه سوى حبل النجاة الشعريّ الذي يُسعفه به الشاعر الألمانيّ فريدريخ هولدرلين (1770-1843) : «ولكن حيث الخطرُ، هناك أيضًا ينمو ما به الخلاصُ»[34]. إذا كانت المِتافيزياء الغربيّة قد حبست على الكينونة في الكائن، فإنّها جعلت التقنية الحديثة تستفحل في اجتياح الكائن وقد سُلبت منه حرّيّةُ انتسابه العفويّ إلى منفسحات الكينونة الحرّة. أمّا إرادة الإرادة، فهي الطور الأخير من انعقاد كائنيّة الكائن على افتراض الصلابة الذاتيّة، واليقين الذاتيّ، والطاقة الإنتاجيّة المطلقة. عزلت المِتافيزياءُ الغربيّة الكينونةَ، أو بالأحرى تصوّرتها على هيئة الكائن الأعلى الذي وضعت فيه كلّ آمال الجبروت البشريّ. فأسقطت كلَّ شيء في قبضة الاستنهار الامتلاكيّ. ظنّت أنّها تعاين في مثل هذا الكائن أرحب مقدار من الواقع المنظور، فأقصت كلّ إمكانات النقص والغياب والانحجاب. على قدر ما عزّزت فيه الحضور الصمديّ، نزعت عنه كلّ مبادرات الحرّيّة في الإقبال والإدبار. لذلك أولجت المَتافيزياءُ الغربيّةُ الإنسانيّةَ زمنَ العدميّة[35]، أي زمن إفراغ الكينونة من قوامها الذاتيّ وزمن سلبها حرّيّتها الذاتيّة. وعليه، أضحت الكينونة هي الضيق عينه، وهي الغياب عينه، وهي العدم عينه[36].

غير أنّها ما انفكّت، في معترك محنتها، تنادي الإنسان وتضطرّه إلى ملاقاتها حيث هي، لا حيث هو الآن. ذلك أنّ الإنسان، بحسب تعبير هايدغر، هو المُقبِل إلى الضيق: «الدازاين هو الانعطاف إلى الضيق»[37]. والضيق منبثقٌ من عوز الكينونة إلى الإنسان الحصيف النبيه الوديع المصغي إلى إرسالات القدَر، وقد تنوّعت نبراتُه بتنوّع الحقبات الإغريقيّة والوسيطيّة والحديثة والتقنية الأخيرة. في كلّ إيفاد قدَريّ تنادي الكينونةُ الإنسان من صميم غيبتها، وتستدعيه لإدراك مغازي الحقبة المرتسمة في معترك الوجود. خطر التقنية الجارفة يصاحبه، على خفر، نداءٌ صامتٌ تبعث به الكينونةُ إلى الإنسان حتّى يتجاوز انسدادات المِتافيزياء، ويتخطّى إرباكات الإصراريّة التقنية. فينعطف إلى اختبار آخر لمعنى الانبساط التاريخيّ الراهن. فالتاريخ هو ميدان تعاقب الإيفادات القدَريّة التي تُفرج عنها الكينونةُ وتضعها في متناول الاختبار الإنسانيّ. والصلة بيّنةٌ في الاصطلاح الألمانيّ بين عبارة التاريخ (Geschichte) وعبارة القدَر (Geschick). ذلك أنّ التاريخ، في نظر هايدغر، ينشأ من تراخي الحقَب، أي من توالي الإرسالات التي تأتينا من الكينونة. وفي كلّ إرسال رسالةٌ يجب أن يتبلّغها الإنسان حتّى يفوز بالقربى الحقيقيّة من سرّ هذه الكينونة : «إنّ حِقَب تاريخ الكينونة المختلفة، أي مختلف الانقباضات الذاتيّة التي تعاقبت على الكينونة في قدَرها، هي حِقَبُ الكيفيّات المختلفة التي عليها أُرسِل الحضورُ قدَريًّا للإنسان الغربيّ»[38]. يصرّ هايدغر في هذا النصّ على رسم كلمة الحضور (Anwesenheit) بالخطّ المائل لأنّه يروم أن يلقي ببالنا إلى الكيفيّة التاريخيّة الراهنة التي عليها ندرك الكينونة حضورًا دائمًا قابلًا للاستملاك والاستغلال. فالكينونة في زمن التقنية الحديثة تنقبض على ذاتها وتتوارى، وفي هذا محمولُ الفعل الألمانيّ (sich entziehen)، وتوفد إلينا من صميم تواريها هذه الكيفيّةَ التاريخيّة التي بها نستطيع أن نتبصّر في معناها. ولكنّها كيفيّةٌ تبيح للإنسان أن يتصرّف بها وفاقًا لأحكام العقلانيّة الحسّابة والتمثّل اليقينيّ الديكارتيّ وإرادة القوّة النيتشويّة وإرادة الإرادة الكونيّة. من جرّاء تعاقب هذه الكيفيّات المرسلة تتكوّن مادّةُ التاريخ وتتكثّف وتتواطأ عناصرُها على مناصرة الاقتدار التقنيّ الجارف في الزمن الراهن.

ليس على الإنسان، وهو «موظّفُ التقنية»[39]، أن يحارب التقنية لأنّها غالبةٌ لا محالة. ولكنّه يستطيع أن يجاريها، على تخفّفٍ من تورّطه، وأن يداورها، على دربةٍ في استطلاع وجهها الآخر. على هذا النحو يمكن الإنسان أن يستشرف إرسالًا آخر للكينونة يتجاوز به مَزاجز الاستنهار ومغاليقه وإطباقاته، إذ ليس في فعل النهر التقنيّ وهرٌ مطلقٌ، أي إيقاعٌ للإنسان في ما لا مخرج له منه. ولكن على الإنسان أوّلًا أن يختبر ضرورة الضرورات، أي ضرورة الانعطاف إلى الكينونة لأنّ الكينونة هي دائمًا صاحبة المبادرة في إرسال الاعتلان وفي إرسال الانحجاب. وهي اليوم في إرسال الانحجاب تنوء تحت أعراض التقنية الحديثة. بيد أنّ إنسان التقنية الحديثة عاد لا يميّز شعور القنوط من شعور الاغتباط لأنّه بات يظنّ نفسه مكتفيًا بما أنجزه من فتوحات صناعيّة. لذلك كانت أخطر المخاطر أن يُعرض الإنسان عن محنة الضيق. فيعود الضيق لا يتجلّى ضيقًا، بل اكتفاءً واقتناعًا وامتنانًا. ويعود الإنسان لا يستطلع هيئةً أخرى له، بل ينكمش على هيئته الراهنة التي رسمتها له المِتافيزياءُ الغربيّة وقد بلغت في التقنية الحديثة شأوها الأخير. الإنسان الذي اصطبغ بصبغة «الحيّ العامل» و«الحيوان الكادح» قد يفقد ماهيّته الإنسانيّة إنْ هو أوغل في خضوعه لسلطان التقنية. وحين يفقد الإنسان هذه الماهيّة، يعود خطر الإفناء المادّيّ للبشريّة وللأرض من أقلّ الأخطار. ذلك أنّ حقبة التقنية الحديثة مستمرّةٌ إلى أجلٍ غيرِ معلومٍ. وليس في مستطاع الإنسان أن يستثير بمحض إرادته تحوّلًا عميقًا في الإيفادات القدَريّة التي ترسلها الكينونةُ إلى الإنسان وإلى الكائنات. فالغروب الذي ينتاب الكون يمكن أن ينقلب «ليلًا من أجل فجرٍ آخرَ»[40]. ولكنّه قادرٌ أيضًا على الإعلان المأساويّ عن «شتاءٍ لا نهاية له»[41]. هي الكينونة عينها صاحبة القرار في ذلك كلّه. فإمّا أن ترسل من عندها إرسالًا آخر ينبئ عن انبلاج فجر جديد للإنسانيّة، وإمّا أن تنغمر انغمارًا في حقبة اكتمال المِتافيزياء، فتنحجب وتصمت صمتًا بليغًا. قبل ذلك ينبغي للأرض أن تجتاحها ويلاتُ الاقتدار الأعظم : «قبل أن تنبسط الكينونةُ في حقيقتها الأصليّة، يجب أن تُكسَر الكينونةُ بما هي إرادةٌ، ويجب أن يُصرَع العالم، ويجب أن تُكتسَح الأرض، ويجب أن يُكرَه الإنسانُ على العمل وحسب»[42]. حينئذ يمكن استشراف التحوّل الخلاصيّ في إرسالات الكينونة. وهو تحوّلٌ يتّخذ هيئة الانسلاك في حقبةٍ تاريخيّةٍ جديدةٍ.

يستطيع الإنسان أن يشارك في هذ التحوّل على قدر ما ينظر نظرًا حصيفًا في الخطر: «إنّنا نبصر الخطر فنستبصر نموَّ ما به الخلاص»[43]. ومع أنّ هايدغر يحرّض الإنسان على الترقّب الفطن، إلّا أنّ الترقّب لا يعني الإذعان والخضوع. نصيحة هايدغر ألّا ينجرّ الإنسان وراء الفعل الإراديّ، فيظنّ نفسه قادرًا بوسائل التقنية الحديثة أن يصارع التقنية الحديثة. الترقّب يعني أن ينعطف الإنسان إلى الكينونة حتّى يصغي إلى ندائها الجديد. لذلك غالبًا ما يتحدّث هايدغر عن التوبة والارتداد، وقد يكون في تحدّثه هذا شيءٌ من الأثر اللاهوتيّ القديم في تنشئته الكاثوليكيّة. توبةُ الإنسان هي توبةٌ إلى الكينونة، يُكسبه إيّاها تحسّسٌ آخر لمعاني السكن على الأرض، ومعاني القرى من الأشياء، ومعاني التماس سرّ الكون الفسيح. هي دعوةُ الفكر إلى الذكر أو الاستذكار حيث ينجلي للإنسان أنّ الخلاص إنّما يأتي المائتين من موقع توبتهم العميقة الناشبة في عمق ماهيّتهم : «إنّ الخلاص يجب أن يأتي من حيث يصيب المائتين تحوّلٌ في ماهيّتهم»[44]. لا ريب أنّ توبة الإنسان إلى الكينونة تستوجب التزامًا فكريًّا صريحًا، غير أنّ مثل هذا التحوّل لا يدركه إلّا الفكر المستذكر. ذلك أنّ الفكر الاستذكاريّ لا يفعل ولا يصنع ولا يُنجِز على غرار التقنية الحديثة. الفعل الإنسانيّ الصحيح هو فعل الفكر لأنّ «الفكر هو الفعل الحقيقيّ». أمّا أوّل التزامات الفكر، فهو الالتفات إلى الالتباس الذي يصيب الكينونة في زمن التقنية. فزمن التقنية الحديثة هو في الوقت عينه زمن الضيق وهو زمن الارتداد إلى الكينونة. ولذلك يصحّ فيه، على سبيل التجوّز، الصورة المجازيّة التي ينطوي عليها رأسُ إيانوسيوس[45].

ومن ثمّ، فإنّ الارتداد إلى الكينونة يكون في رعايتها لا حاضرًا قابلًا للإمساك، بل إقبالًا إلى الحضرة به يحتجب كلّ غنى الغياب. الكينونة، إقبالًا إلى الحضرة، تأتي إلينا (An-wesen) في صورة الإيفاد القدَريّ : في زمن التقنية قد تتّخذ الكينونة اسم الاستنهار الكونيّ، ولكنّها أيضًا تلتحف بأسماء أخرى من غير أن تماثلها وتتماهى وإيّاها لأنّ الكينونة تستكره الهويّات الصلبة: فهي تارةً وهبٌ، وتارةً أخرى إرأيغنيس، وطورًا الرباعيّ أو الأربعيّ Geviert (الأرض والسماء، والمائتون والآلهة)، وأطوارًا لعبة الأشياء والعالم. فالارتداد يتحقّق باستذكار جميع الأسماء التي لا تناسب الكينونة بحيث إنّ الكينونة تصاب بأزمةٍ عميقةٍ في هويّتها. لذلك يحمّل هايدغر الاصطلاح الألمانيّ (Ereignis) دلالاتٍ تتجاوز مجرّد المعنى الحرفيّ المعتمد[46]. وهو، في ختام بحثه في الهويّة والاختلاف[47]، يضع الإرأيغنيس مقابل الغشْتِل[48] : فالتلازم الانتمائيّ بين الكينونة والإنسان هو سبيل الخلاص، على أن تكون الصدارة للكينونة لا للإنسان. فالإرأيغنيس ليس حدثًا يحدث، بل هو شركةٌ عفويّةٌ بين الكينونة والإنسان. إنّه الانسجام العفويّ بين الكينونة والإنسان به تُقبل الكينونة إلى الإنسان ومن ثمّ الإنسان إلى الكينونة من غير استدعاء شرعيّ أو استجلاب منفعيّ. ولكن، قبل ذلك كلّه، أي قبل التوبة والارتداد إلى حقيقة الكينونة المتجلّية في الإرأيغنيس، يجب على الإنسان أن يختبر حالة التشرّد الضلاليّ (Irre)[49] باحثًا عن الكينونة من أجل الفوز بالانتماء الحقيقيّ. ذلك أنّ التقنية الحديثة هي في وجه من الوجوه «تنظيم الفاقة»[50]، تمتحن الإنسان امتحانًا قبل أن يجرؤ على الانعطاف والتحوّل.

ما السبيل العمليّ إذًا إلى الاستذكار الذي يجعل الإنسان يتجاوز الضيق ويتجاوز نسيان الضيق. يبدو أنّ المسألة تستلزم خطوتين اثنتَين: الأولى تبادر إليها الكينونة، والثانية يضطلع بها الإنسان. في الخطوة الأولى علينا أن نترقّب فضلًا من أفضال الكينونة أو نعمةً (Huld) من نعمها، على حدّ تعبير هايدغر. ذلك أنّ الكينونة هي وحدها قادرةٌ على إسعاف الإنسان، فتزيّن فكرَه باستعداد إصغائيٍّ يجعله «يختبر التشرّد الضلاليّ»، ويرضى بمعاينة الضيق وما وراء الضيق من انفراجٍ تنسلّ إلى منفسحاته الكينونةُ في خفرٍ عظيمٍ. أمّا الخطوة الثانية، فهي أشبه بارتداد يهيّئ الإنسان للاضطلاع الرضيّ بالضيق وبما يستتليه من انعطاف نحو الحقيقة المتلألئة من وراء الانسداد الكالح في الأفق. غير أنّ مثل هذا الاضطلاع لا يعني على الإطلاق الخضوع لحتميّة التقنية وإلزاميّة التشرّد الضلاليّ. فالإنسان لا يتحرّر بنزع محدوديّته الناشئة من انسلاكه التلقائيّ في كائنيّة الكون والعالم والكائنات، بل يتحرّر على قدر ما يرضى بالقسمة، قسمة مقامه بين الكائنات، وبالنصيب، نصيب إحرازه الإدراك الملائم، وبالمصير، مصير انتاسبه إلى تاريخيّة الكينونة، وبالقدَر، قدَر الإرسالات المتعاقبة التي تمنّ الكينونةُ بها عليه: «ما انفكّ قدَرُ الكشف يهيمن هيمنةً على الإنسان. ولكن ليس ذلك على حتميّة الاضطرار. ذلك أنّ الإنسان لا يصبح، على وجه الدقّة، حرًّا إلّا على قدر ما ينتسب إلى ميدان القدَر، فيغدو، على هذا النحو، كائنًا مُصغيًا، لا كائنًا مُذعنًا»[51]. معنى هذا القول أنّ الإنسان ينبغي أن يُقبِل إلى الكينونة في كشفها الأخير وهو في حالة الإصغاء الحرّ، لا في حالة الإذعان والخضوع والانسحاق. غير أنّ حرّيّته تنبثق من بهاء الكشف الأخير: «حين نتفكّر، بخلاف ذلك، في ماهيّة التقنية، نختبر الاستنهار اختبارنا لقدَر من أقدار الكشف. وبذلك نكون قد سبقنا فأقمنا في المنفسح الحرّ للقدَر»[52]. المطلوب إذًا أن ينفتح الإنسان على ماهيّة التقنية حتّى يفوز بالنداء المحرِّر المنبثق من الكينونة في كشفها الأخير.

غير أنّه ليس من زمنٍ معيّنٍ للكشف الأخير أو للخلاص. ولا يمكن الإنسان أن يحتسب الزمن على هذا النحو لأنّ الاحتساب يخالف ماهيّة الإنسان الأصليّة التي تجعله كائن الترقّب والاضطلاع الرضيّ بالضيق المقبل إلى الانفراج. لكي يستطيع الإنسان أن يعاين المنعطف الخلاصيّ ويختبر الأشياء أشياءَ حرّةً منعتقةً من كلّ تموضعٍ علميٍّ استغلاليٍّ، ينبغي له أن يترقّب تجلّي الكينونة في هيئة البرق الخاطف الذي يشقّ أجنحة الليل ويضيء ظلمة التقنية الحسّابة. إلّا أنّ المنعطف لا يأتي بعد التقنية الحديثة على هيئة التعاقب الزمنيّ، بل هو ينبثق من معاناة التقنية ليُظهر ماهيّة الكينونة في وجهها المشرق، في حين أنّ التقنية تُظهر الكينونة في وجهها المظلم. في الزمن الحاضر تتّخذ الكينونة هيئة الاستنهار (الغشْتِل)، في حين أنّ الخلاص يأتينا حين تتّخذ الكينونة هيئة الإرأيغنيس الذي يضمّ الكينونة والإنسان والأشياء في تناغم الانتماء العفويّ التلقائيّ. وحده الحسّ الشعريّ الرهيف يبصر المنعطف وقد حلّ حلولًا صاعقًا: «ما من تحوّل يجري من غير مواكبة تشير أوّلًا إلى السبيل. ولكن كيف للمواكبة أن تقترب إنْ لم يُضئ الإرأيغنيس الذي، إذ يستدعي ماهيّة الإنسان ويستثيرها إليه، يجعلها في نُصب النظر، أي في مدارك الاستبصار، والذي يقود، بهذا الاستبصار، بعضًا من المائتين إلى المبنى التفكّريّ الشعريّ؟»[53].

مثل هذا الحسّ الرهيف يأتينا من الإصغاء إلى نبرات الأرض: «لنا آذانٌ لأنّنا نستطيع أن نُعير الأذن الصاغية الواعية، وبفضل هذا الإصغاء الواعي يُتاح لنا أن نُنصت إلى نشيد الأرض، وإلى ارتعاشاتها وتموّجاتها، وهو النشيد الذي يظلّ بمنأًى عن الضجيج الهائل الذي يجرّه الإنسان بين الآونة والأخرى على سطحها المكتسَح»[54]. المطلوب أن ينفتح الإنسان على ماهيّة التقنية حتّى يفوز بالنداء المحرِّر. ذلك أنّ الطبيعة تحتمل وجوهًا شتّى من الانكشاف والتجلّي. فهي منفسحُ الحرّيّة المطلقة للأشياء تُقبل وتُدبر، في كرٍّ وفرٍّ، وعلى تعاقب الإرسالات القدَريّة التي تُفرج عنها الكينونة بحسب ما ترتأيه هي من تدابيرَ: «الطبيعة (الفوسيس) هي في نظر الإغريق الاسمُ الأوّل والجوهريّ للكائن عينه في كلّيّته. الكائن هو في نظرهم ما يتفتّح ويتحقّق، من بعد أنْ ينمو بذاته من غير أن يُكره على أيِّ أمرٍ، ولا يلبث أن يعود إلى ذاته وينقضي، وهو بذلك الملكوتُ الذي لا ينفكّ يتعزّز بانبساطه وبانقباضه»[55]. صونًا لحركتَي الانبساط والانقباض، لا يستطيع الإنسان إلّا أن يعتصم بالعزوفيّة (Gelassenheit)[56]، أي بالسكونيّة المنصتة الراعية. هي الغِلاسِّنْهايت التي ترضى بأن تترك (lassen) الأمور تجري في الطبيعة على مزاجها، فتعزف طوعًا عن أيّ ضرب من ضروب المعانفة أو المغالظة أو التحامل. وما لا ريب فيه هو أنّ هايدغر يعتقد اعتقادًا راسخًا أنّ ماهيّة الكينونة، وهي الاسم الآخر للطبيعة (الفوسيس) الإغريقيّة، هي التي تُملي مثل هذا العزوف على الإنسان. فالكينونة ليست جوهرًا أو كائنًا من الكائنات أو ذاتًا، بل هي انكشافٌ أو وحيٌ أو اعتلانٌ أو تجلٍّ يصاحبه انحجابٌ أو انكفاءٌ أو ارتدادٌ أو خفاءٌ. في زمن الإغريق الأوّل انبثق لمثل هذا التوتّر الخفر في الكينونة علمٌ «حقيقيٌّ على وجه مختلف»[57]. لذلك ما كان في مقاصد هايدغر أن يخاصم التقنية ويُعرض عن مكتسباتها ويدين جهودها السليمة، ولا أن يحنّ حنينًا مرَضيًّا إلى العصور القديمة أو البدائيّة المنصرمة. جلُّ همّه كان الفوز بفهم أعمق لماهيّة التقنية الحديثة بما هي موضعُ اعتلان لمنحجبات الإرسالات التي تمنّ بها الكينونةُ على الكون. عوضًا من الحنين إلى الماضي، يجب مواجهة التقنية في أخطر منزلقاتها حتّى نستطيع أن نتدبّر وجهًا آخر للكينونة في الأزمنة المقبلة. على قدر ما يقوى الإنسانُ على استشعار الخطر الداهم في التقنية، يتهيّأ له لا أن يتخلّى تخلّيًا وهميًّا عن الوسائل السليمة التي تتيحها التقنية، بل أن يغيّر موقفه منها ومن وعودها الزائفة. اللجوء السليم إلى التقنية ليس هو الخطيئة المميتة، بل الخطيئة الأعظم هي في الخضوع المنسحق لسلطان التقنية وفي تشويه علاقة الإنسان بالأشياء، ومن وراء الأشياء بالكينونة. مسؤوليّة الإنسان أن ينهج إلى الأشياء سبيلًا آخر غير سبيل الاستنهار. وليس من تدبير عمليّ يستطيع أن يساعد الإنسان في مثل هذا النهج أنجع وأمضى وأرقى من تدبير الفكر الاستذكاريّ: «الفكر يُنجز علاقة الكينونة بماهيّة الإنسان»[58]. هو الفكر عينه الذي يمارسه هايدغر عندما يستذكر ضروب الاعتلان وضروب الاحتجاب التي اختبرتها الكينونةُ على تراخي عصور المِتافيزياء الغربيّة. هو فكرٌ يروم أن يضع الإنسان في قربى الكينونة وأن يهيّئ للكينونة الموضع الأمثل لتفتّحها العفويّ الوهّاب. فإذا كانت التقنية الحديثة تعيق مثل هذا التفتّح، فإنّ الفنون والأعمال الفنّيّة يمكنها أن تهب الكينونة المنفسح الأنسب لاعتلاناتها. غير أنّ العمل الفنّيّ هو عودٌ إلى التقنية في مدلولها الفجريّ الإغريقيّ الأوّل حيث كان الإنسان يلوذ بالفنّ استلهامًا لحضورٍ حرٍّ تأتي إليه الكينونةُ في ثنايا العمل الفنّيّ المتقن.

التباسات الربط السببيّ بين المِتافيزياء الغربيّة والتقنية الحديثة
يحسن في الختام أن يسأل المرء عن مسوِّغات هذا الربط السببيّ بين المِتافيزياء الغربيّة والتقنية الحديثة. هل يجوز أن نصاحب هايدغر في نقده الجذريّ الذي يجرّم هذه المِتافيزياء ويعيب عليها ما جرّته على الأشياء والكائنات والموجودات من عدوان شنيع مقيت؟ وهل يمكننا أن نركن إلى الكينونة وحدها في تسيير أمور العالم وفي تدبّر شؤوننا بحسب مزاجها المتقلّب المتأرجح بين اعتلان لا يلبث أن ينحجب في ذروة اعتلانه، وانحجاب لا يعتّم أن يعتلن في صميم انحجابه؟ وهل يحقّ لنا أن نحصر قابليّات الكون ومستقبلات العالم وكيفيّات الوجود وطاقات التاريخ في وجه واحد من وجوه اختبار الأشياء، وهو الوجه الذي يومئ إليه هايدغر في ربطه التقنية بالمِتافيزياء إمّا مرتسمًا في معارج الكينونة المتلألئة، وإمّا منحلًّا في منحدرات التقنية المنحرفة؟ وهل يصحّ أنّ التقنية التي تستثمر طاقات الأرض وتطمح إلى استعمار الكواكب القريبة في الفضاء الأرحب هي الطريق الضيّقة التي ستفضي إلى العدميّة المطلقة أم أنّ هذه التقنية قد تُفرج عن حالاتٍ في المباني الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة تهيّئ لاختبارات جديدة لم يألفها الكائن الإنسانيّ في مركّبه الجسمانيّ الحاليّ؟ هي حالاتٌ قد يأنس إليها الكائنُ الإنسانيّ في مركّبه المصطنع المعقّد الذي قد تتآلف عناصره في هندسة جينيّة جديدة مقبلة إلينا ستستدخل إلى بنية الإنسان الدماغيّة محسّناتٍ تكوينيّةً بنيويّةً تبلغ به إلى تجاوز كلّ الآفاق المعرفيّة الإنسانيّة التي تعوّد ارتيادها حتّى الآن الاختبار الإنسانيّ. حينئذ هل يظلّ الإنسان الهايدغريّ هو الدازاين الذي فيه تعتلن حقائق الكينونة وأسرارُها؟  ربّما. ولكنّ هذا الاستمرار قد يتحقّق على كيفيّات أخرى لم تألفها المِتافيزياء الغربيّة عينها[59].

أمّا الفائدة الفكريّة من ربط التقنية الحديثة بالمِتافيزياء فيجب أن نقرنها بما ساقه أهل المعرفة الذين سبقوا هايدغر إلى انتقاد العقلانيّات الأداتيّة المسيطرة على المجتمعات الغربيّة المعاصرة. فالعقلانيّة عقلانيّاتٌ، منها الأداتيّة، ومنها التسويغيّة، ومنها الغائيّة[60]. أمّا هايدغر، فنجح في انتقاد الأداتيّة والتسويغيّة، ناسجًا على منوال من سبقه من فلاسفة نقد العقلانيّة الحديثة. غير أنّ انتقاد العقلانيّة الغائيّة التي تستجلي المقاصد القصوى والمعاني القوّامة والمثُل العليا، فلا يجوز إبطالها من جرّاء انحراف حدث هنا والتواء جرى هناك وتشويه افتُعل هناك. قد يعاتب المرء هايدغر على نقده الشموليّ للعقلانيّة في جميع وجوهها، وتعميماته المجحفة الظالمة التي تجرّد العقل الإنسانيّ من كلّ قدرة على التبصّر والتمييز والحكم والإفتاء. استجلاءً لهذه الخلفيّات التاريخيّة التي أثّرت تأثيرًا بيّنًا في فِسارة هايدغر التفكيكيّة، لا بدّ من الإشارة المقتضبة في هذا السياق إلى النقد الذي عقده ماكس فيبِر (1864-1920) حين فكّك الأنظومة التقنية التي تنطوي عليها الرأسماليّة المعاصرة، وأبان أنّ الأصل يقترن بالنظرة الشاملة إلى الكون. وهي نظرةٌ فلسفيّة أخلاقيّة تعزّز مقولة الاستثمار، فتُظهر الوشائج الخفيّة التي تصل الرأسماليّة بروح المذهب البروتستانتيّ. ويحسن أيضًا الالتفات إلى الجيل الأوّل من فلاسفة مدرسة فرنكفورت، ولاسيّما هِربِرْت ماركوزه (1898-1979) وتيودور أدورنو (1903-1969) اللذين عابا على العقلانيّة الغربيّة مطامحَها التسلّطيّة وانحرافاتها الأخلاقيّة. ويمكن أيضًا الحديث عن إرنست يونغِر (1895-1998) الذي نظر إلى شكل (Gestalt) أو هيئة العامل نظرتَه إلى الصورة النافذة المهيمنة في العالم المعاصر[61]، ولئن ارتسمت هذا الشكلُ في أفق الإنسان المتفوّق المتجاوز لذاته والعابر للمحدوديّة الإنسانيّة. لذلك تبقى هذا الشكل، بحسب هايدغر، مقيّدًا بإرادة الهيمنة التي تنطوي عليها إرادةُ الاقتدار النيتشويّة التي تحوّلت في حقبة المِتافيزياء المنجَزة إلى إرادة الإرادة.

لا جرم أنّ الفرق واضحٌ بين التفكيك الهايدغريّ لمسرى المِتافيزياء الغربيّة والانتقاد البنيويّ الذي ساقه هؤلاء جميعًا في سياق تقويم العقلانيّة الغربيّة الحديثة. فالتفكيك يبلغ بهايدغر حدود الارتياب من مطالب العقل عينه ومن مطامحه ومقاصده[62]. فالعقل هو السلطان الذي ينبغي تقويضه عند هايدغر، فيما هو الميزان الذي يجب ضبطه وتقويمه وتأهيله عند الآخرين. وحين يصرّ هايدغر على افتضاح كلّ التواءات العقلانيّة الحسّابة في مطاوي المِتافيزياء الغربيّة، يتبيّن له أنّ أفضل السبُل للنجاة من سلطان العقل هو عزل الإنسان عن مقام الصدارة والركون إلى الطبيعة وإلى الأشياء وإلى الجريان الكونيّ العفويّ وإلى الكينونة وإلى الأقدار والأسرار. ومن ثمّ، لا يبقى للإنسان سوى الاعتصام بلغة أخرى هي غير لغة العقل والتمثّل والتصوّر والمحاسبة والمحاكمة. إنّها، بلا أدنى ريب، لغة الشعر والتصوّف والعرفان والانخطاف العلويّ أو السفليّ. بيد أنّ المشكلة الكأداء تظلّ ناشبةً في هذا الإصرار الرهيب على أعظميّة القرار القدَريّ الذي تبتّه الكينونةُ على تعاقب إرسالاتها الكونيّة منذ انفطار التفكّر الإنسانيّ في الزمن الفجريّ الإغريقيّ الاستهلاليّ.

فإذا ثبت أنّ الإنسان ينزع إلى الانحراف ويميل إلى الهيمنة ويبتهج بالاستبداد، وقد تعاظم هذا كلّه في زمن التقنية الكونيّة، فالوسيلة الأنجع لا تكون بعزله، بل بتقويمه وتهذيبه وتأهيله لمقامٍ يليق بوعيه الذاتيّ النقديّ الخلّاق. لا ريب في أنّ الركون إلى الكينونة يظلّ من الحلول الصوفيّة الأخّاذة. ولكنّه سبيلٌ محفوفٌ بمخاطر الاستقالة والاعتزال والتلبّث الوجدانيّ الترقّبيّ، في حين أنّ الناس يتوقون إلى حياة الكرامة والمساواة والعدل والأخوّة. وهي قيمٌ لا يمكن مناصرتها وتعزيزها وإنشابها في البنى القانونيّة والتشريعيّة الكونيّة بمجرّد التماس البوح الخليليّ بين الكينونة والإنسان. فالتحدّيات العلميّة والإشكاليّات التقنية والاستصلاحات الجينيّة في كائنات الطبيعة وفي الكائن الإنسانيّ لا يستطيع الإنسان أن يضطلع بها اضطلاع المتأمّل في المشورات السرّيّة التي تومئ إليها الكينونة من مقامها القدسيّ المقتدر. صحيحٌ أنّ الحرص الهايدغريّ على كرامة الكائنات وكرامة الكينونة وعلى سلامة البيئة وسلامة الإنسان والإنسانيّة يظلّ هو الأفق السليم الذي ينبغي أن تنسلك فيه كلُّ المباحثات العقلانيّة. فالعقل حمّال وجوه ومخزنُ طاقات. هو قادرٌ على معانفة الطبيعة والكائنات والأشياء، ولكنّه أيضًا خليقٌ برعايتها وملاطفتها وصيانتها واستخراج مختمر مكنوناتها، على نحو ما يهواه هايدغر نفسُه. فلمَ الاقتصار على وجهٍ واحدٍ من العقلانيّات المتقابلة المتعارضة في التراث الفلسفيّ الغربيّ؟ رأس الكلام في هذا كلّه أنّ الفكر الذي يجرؤ على نقض بنيانه وإعادة إعماره إنّما يكتنز في ثناياه طاقاتٍ جليلة من الابتكار استخدمها هايدغر نفسُه، وهو ابن هذه المِتافيزياء الغربيّة الرفيعة، ويستخدمها كلّ فيلسوفٍ غربيٍّ أعلن موت الغرب وموت الفكر الغربيّ وموت الإنسان الغربيّ. فلا غرابة، من ثمّ، أن يكون مثل هذا الإعلان هو خاتم التصديق على الاقتدار الابتكاريّ الذي تختزنه المِتافيزياء الغربيّة، وقد تنوّعت تجلّياتها في كوكبةٍ جليلةٍ من المذاهب الفلسفيّة الغربيّة منذ الأفلاطونيّة والأرسطيّة والأفلوطينيّة، مرورًا بالأغسطينيّة والتومائيّة والرشديّة والسينويّة، بلوغًا إلى الديكارتيّة والإسبينوزيّة والكانطيّة والهيغليّة والهوسّرليّة والهايدغريّة عينها. لا عجب، من ثمّ، أنّ يكون الخيط الناظم الذي اصطفاه هايدغر لتأوّل تاريخ الفكر الغربيّ، عنيتُ به نسيان الكينونة والاقتصار على الكائن وإهمال الفرق الأنطولوجيّ بين الكينونة والكائن وإخضاع الكائن للعقلانيّة الحسّابة، يشبه خيوطًا ناظمةً أخرى آثرها فلاسفة آخرون عاينوا مسرى الفكر الغربيّ ممهورًا إمّا بحركة تحقّق الروح المطلق في التاريخ (هيغل)، وإمّا بإخضاع الوجود لفعل المشيئة الذاتيّة والبناء التصوّريّ الذاتيّ (شوبنهاور)، وإمّا بالصراع بين إله التعقّل الحكيم (أبولون) وإله النشوة الخلّاقة (ديونيسيوس)، على ما يذهب إليه نيتشه. وقد يكون هايدغر متأثّرًا بهذه التأوّلات ومستلهمًا لها على خفرٍ وتخيّرٍ واستصفاءٍ. غير أنّ الإصرار على ضرورة إنقاذ الكينونة أو، بالأحرى، على ضرورة ترقّب الخلاص الآتي من الكينونة لا يسوِّغ إخضاع تاريخ المِتافيزياء كلّه لمشيئة الكينونة عينها. هو تأوّلٌ يروم أن يضمّ شتيت المحاولات التفسيريّة في بوتقة الإدراك المستند إلى انسحاب الكينونة من التاريخ وسقوطها الطوعيّ في النسيان. وقد أكسبه هايدغر قدرةً على الإمساك جعلته تأوّلًا قابلًا لجميع أصناف الاستقطابات. بيد أنّ الاختبار الفكريّ الكونيّ لا يُختزَل في قالبٍ تفسيريٍّ واحدٍ، ولئن ادّعى الرغبة في التوسعة المطلقة حتّى يشمل كينونة الكائنات قاطبةً، وحقيقة الحقائق طرًّا، ومعنى المعاني إطلاقًا. يأتي الامتحان الأشدّ إرباكًا في مثل هذا التأوّل الهايدغريّ من أنّ التوسعة المطلقة في ترسُّم قوام الكينونة قد يُفضي إلى الخواء المضمونيّ الذي يلامس العدم. فتصبح الكينونة والعدم مترادفين متصاحبين متلازمين، ونعود بالقهقرى إلى زمن التحسّس الإغريقيّ الأوّل حيث استحالة القول في الكينونة هو ضربٌ من ضروب العدم. وما أثبت التاريخ الإنسانيّ قطّ أنّ العدم مُنجبٌ موثوقٌ للمعنى البنّاء.

-------------------------------------
[1]*ـ أستاذ الفلسفة الألمانيّة في الجامعة اللبنانيّة.
** ـ “Weil das Wesen der Technik nichts Technisches ist, darum muك die wesentliche Besinnung auf die Technik und die entscheidende Auseinandersetzung mit ihr in einem Bereich geschehen, der einerseits mit dem Wesen der Technik verwandt und andererseits von ihm doch grundverschieden ist”.
[2]الشاهد الألمانيّ الافتتاحيّ مُستلٌّ من كتاب هايدغر (محاضراتٌ ومقالاتٌ، غونتِر نِسكِه، بفولّينغِن، 1954، الطبعة السادسة (1990)، ص 39).
Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, Günther Neske, Pfullingen, 1990, S. 39.
[3]- هايدغر، محاضراتُ ومقالاتٌ، مرجع مذكور، ص 76.
“Die Grundform des Erscheinens, in der dann der Wille zum Willen im Ungeschichtlichen der Welt der vollendeten Metaphysik sich selbst einrichtet und berechnet, kann bündig ‘die Technik’ heiكen. Dabei umfaكt dieser Name alle Bezirke des Seienden, die jeweils das Ganze des Seienden zurüsten : die vergegenstنndliche Natur, die betriebene Kultur, die gemachte Politik und die übergebauten Ideale. ‘Die Technik’ meint hier also nicht die gesonderten Bezirke der maschinenhaften Erzeugung und Zurüstung. […] Der Name ‘die Technik’ ist hier so wesentlich, daك er sich in seiner Bedeutung deckt mit dem Titel : die vollendete Metaphysik” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 76).
[4]- يعترف هايدغر في رسالته إلى صديقه الفيلسوف الفرنسيّ جان بوفرِه (Jean Beaufret) بأنّ الاصطلاح الألمانيّ دازاين (Da-sein) يكاد أن يستحيل نقله إلى الفرنسيّة. وهو يعارض معارضةً صريحةً الترجمة الفرنسيّة التي تضع العبارة «هوذا أنا» (me voilà !) مقابلًا أو عديلًا لهذا الاصطلاح. ولذلك يقترح على بوفرِه أن ينقله إلى الفرنسيّة في هذه الصورة : كينونة-ال-هنا (être-le-là)، على أن تكون الهُنا (le-là) هي موضع الأليثيا (الحقيقة الإغريقيّة)، أي موضع الانكشاف الذي تأتينا به الكينونة عينُها (رسالة هايدغر إلى جان بوفرِه، 23 تشرين الثاني 1945، في هايدغر : أسئلة 3-4، باريس، غالّيمار، 2005، ص 130).
Heidegger, Lettre à Jean Beaufret (Fribourg, 23 novembre 1945), dans Heidegger, Questions III et IV, Paris, Gallimard, 2005, p. 130.
[5]- راجع :
Margreiter R. (éd.), Heidegger. Technik - Ethik - Politik, Würzburg, Kِnigshausen & Neumann, 1991.
[6]- راجع :
Jules Maidika Asana Kalinga, Métaphysique et technique moderne chez Martin Heidegger, Paris, L’Harmattan, 2013.
[7]- راجع التوسّعات التي استودعها هايدغر أبحاثه في ماهيّة العدميّة وضرورة تجاوز المِتافيزياء والتي نُشرت في مجموعة الأعمال الكاملة (المِتافيزياء والعدميّة : 1. تجاوز المِتافيزياء؛ 2. ماهيّة العدميّة) :
M. Heidegger, Metaphysik und Nihilismus : 1. Die ـberwindung der Metaphysik; 2. Das Wesen des Nihilismus, GA 67, Frankfurt, Klostermann, 1999, S. 48- 50.
[8]- الاقتباس مستلٌّ من المقدّمة التي وضعها هايدغر لبحثه في المِتافيزياء («ما المِتافيزياء؟») :
“Aber die Metaphysik stellt die Seiendheit des Seienden in zweifacher Weise vor : einmal das Ganze des Seienden als solchen im Sinne seiner allgemeinsten Züge (on katholou, koinon); zugleich aber das Ganze des Seienden als solchen im Sinne des hِchsten und darum gِttlichen Seienden (on katholou, akrotaton, theion)”(Heidegger, “Einleitung zu : Was ist Metaphysik?”, in Heidegger, Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, S. 378).
[9]- راجع :
C. Jamme (Hrsg.), Martin Heidegger. Kunst - Politik - Technik, München, Wilhelm Fink Verlag, 1992.
[10]- يربط هايدغر مثل هذا التغيّر بالآمريّة الرومانيّة :
“Die Rِmer übersetzen, d. h. denken ergon von der operatio als actio her und sagen statt energeia : actus, ein ganz anderes Wort mit einem ganz anderen Bedeutungsbereich” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 46).
[11]- هايدغر، السؤال عن الشيء، ص 106.
“Bis zu Descartes galt es als “Subjekt” jedes für sich vorhandene Ding; jetzt aber wird das “Ich” zum ausgezeichneten Subjekt, zu demjenigen, mit Bezug auf welches die übrigen Dinge erst als solche sich bestimmen. Weil sie – mathematisch – ihre Dingheit erst durch den begründenden Bezug zum obersten Grundsatz und dessen “Subjekt” (Ich) erhalten, sind sie wesentlich solches, was als ein anderes in Beziehung zum “Subjekt” steht, ihm entgegenliegt als obiectum. Die Dinge selbst werden zu “Objekten”” (Heidegger, Die Frage nach dem Ding : Zu Kants Lehre von den transzendentalen Grundsنtzen, GA 41, Frankfurt, Klostermann, 1984, S. 106).
[12]- راجع ما قاله هايدغر في شروط إمكان المعرفة الأنطولوجيّة عند كانط في كتابه كانط والمشكلة المِتافيزيائيّة :
Heidegger, Kant und das Problem der Metaphysik, GA 3, Frankfurt, Klostermann, 1991, S. 88-91.
[13]- يتحدّث هايدغر غن الأنيّة (Ichheit) المشتقّة من الأنا والمقترنة بالذات العارفة. ويميّز تصوّر ديكارت للأنا كذات خاصّة من تصوّر كانط للأنا كوعي عامّ يقترن بشروط الاختبار المعرفيّ التي هي لصيقة ببنية الوعي المعرفيّ العامّ للذات. راجع :
Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 82.
[14]- تتجلّى الديمقراطيّة في فكر هايدغر مرتبطةً بإرادة إثبات الذات التي تستبطنها المِتافيزياء الغربيّة في منتوجها الأخير، عنيت به التقينة الحديثة :
Rolland J., « Technique et invention démocratique », in Le Cahier du Collège International de Philosophie, Heidegger. Questions ouvertes I, 1988, numéro spécial,, 1989, pp. 161-172.
[15]- هايدغر، نيتشه : العدميّة الأوروبّيّة، ص 302.
“Sofern Nietzsche die Werte als Bedingungen begreift, und zwar als Bedingungen des “Seienden”  als solchen (besser des Wirklichen, Werdenden), denkt er das Sein als Seiendheit platonisch” (Heidegger, Nietzsche : Der europنische Nihilismus, GA 48, Frankfurt, Klostermann, 1986, S. 302).
[16]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 122.
“Was ist das Wesen der modernen Kraftmaschine anderes als eine Ausformung der ewigen Wiederkehr des Gleichen” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 122).
[17]- راجع :
Jean Vioulac, L’époque de la technique. Marx, Heidegger et l’accomplissement de la métaphysique, Paris, PUF, ةpimethée, 2015.
[18]- هي العدميّة بعينها يصفها هايدغر بانعدام استشعار خطر الضيق المحدق بنا : «انعدام الضيق يقوم في أنّنا نتخيّل أنّنا نقبض قبضًا حميدًا على الواقعيّ وعلى الواقع، وفي أنّنا ندرك ما هو الحقيقيّ، من دون أن تكون بنا حاجةٌ إلى أن نعرف أين ينبسط جوهر الحقيقة» (هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 87). يؤثر إسماعيل المصدق تعريب الكلمة الألمانيّة (Not) باستخدام الجذر الذي يُستخدم في عديل الكلمات الألمانيّة الأخرى التي تحمل الجذر الألمانيّ عينه (Not-) والتي يستنسب تعريبها بالضرورة (Notwendigkeit) وبالاضطرار (Nِtigung). راجع الحاشية رقم 34 الموضوعة في تعريب نصّ هايدغر، الأسئلة الأساسيّة للفلسفة : «مشكلاتٌ» مختارة من «المنطق»، ترجمة وتحقيق وتعليق إسماعيل المصدق، مراجعة مشير عون، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت، 2018.
“Die Not-losigkeit besteht darin zu meinen, daك man das Wirkliche und die Wirklichkeit im Griff habe und wisse, was das Wahre sei, ohne daك man zu wissen brauche, worin die Wahrheit west” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 87).
[19]- أنظر توسّعات هايدغر في محاضرته التي ألقاها في التاسع من حزيران من العام 1938 وعنوانها «زمن تصوّرات العالم» (هايدغر، دروب الغابة، الأعمال الكاملة، الجزء 5، فرانكفورت، كلوسترمان، 1977، ص 75-113).
Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977, S. 75 -113.
[20]- راجع تعريف هايدغر للعلم كنظريّة في محاضرته التي ألقاها في مونخن في الرابع من شهر آب من العام 1953 وعنوانها «العلم والتأمّل» (هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 52-54) :
Heidegger, “Wissenschaft und Besinnung”, in Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 52 -54.
[21]- أنظر تناول هوسّرل لأزمة العلوم الأوروبّيّة :
Husserl, Die Krisis der europنischen Wissenschaften und die Transzendentale Phنnomenologie. Einleitung in die phنnomenologische Philosophie, hrsg. von Walter Biemel, Husserliana, GW 6, Leuven, 1976.
[22]- يستخدم هايدغر العبارة عينها، أزمة المعرفة (Krisis des Wissens)، في الأملية التي ألقاها في فصل صيف 1941 في جامعة فرايبورغ، وعنوانها المفاهيم الأساسيّة :
Heidegger, Grundbegriffe, GA 51, Frankfurt, Klostermann, 1991, S. 15.
[23]- المرجع نفسه، ص 17.
“Die neuzeitliche Grundstellung ist die “technische”. Sie ist nicht technisch, weil es da Dampfmaschinen und dann den Explosionsmotor gibt, sondern dergleichen gibt es auch, weil das Zeitalter das “technische” ist” (Heidegger, Grundbegriffe, op. cit., S. 17)
[24]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 17.
“Das Entscheidende der technè liegt somit keineswegs im Machen und Hantieren, nicht im Verwenden von Mitteln, sondern in dem genannten Entbergen. Als dieses, nicht aber als Verfertigen, ist die technè ein Her-vor-bringen” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 17).
[25]- راجع :
Otto Pِggeler, “Kunst und Politik im Zeitalter der Technik”, in Fresco M. (Hrsg.), Heideggers These vom Ende der Philosophie, Bonn, Bouvier, 1989, S. 93 -114.
[26]- أنظر الشروحات التي ساقها هايدغر في تسويغ هذا التأصيل في محاضرته «سؤال التقنية» (هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 24).
Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 24.
[27]- في البحث المضني عن عديل الاصطلاح الألمانيّ غشْتِل عثرتُ على صيغة الاستنهار، وأصلها فعل نهر الشيء، أي زجره حتّى ينهر ما فيه. أمّا الفعل اللازم (نَهِرَ الشيءُ)، فيعني كثُر وغزُر. فيكون الاستنهار استفزازًا للطبيعة حتّى تستطلق ما فيها من قدرات وطاقات، وقد تكاثرت وغزرت، وأضحت قابلة للاستغلال. في الاستخدام الألمانيّ المألوف تدلّ كلمة غشْتِل على الجهاز أو الإطار أو المشبك أو المنضد. غير أنّ هايدغر يحوّر في دلالتها، فيحمل البادئة (Ge-) على معنى الاستجماع والتحشيد، ويحمل الفعل (stellen) على معنى الوضع والرسم والتصوير والأمر والمطاردة والملاحقة والاستحثاث والاستنهاض والاستجلاب.
[28]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 24.
“Ge-stell heiكt das Versammelnde jenes Stellens, das den Menschen stellt, d. h. herausfordert, das Wirkliche in der Weise des Bestellens als Bestand zu entbergen. Ge-stell heiكt die Weise des Entbergens, die im Wesen der modernen Technik waltet und selber nichts Technisches ist” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 24).
[29]- هايدغر، حلقاتٌ (حلقة طور، 11 أيلول 1969)، ص 368.
“Alles (das Seiende im Ganzen) reiht sich ohne weiteres in den Horizont der Nutzbarkeit, der Beherrschung oder besser noch der Bestellbarkeit dessen ein, dessen es sich zu bemنchtigen gilt […]. Es kann nichts mehr in der gegenstنndlichen Neutralitنt eines Gegenüber erscheinen. Es gibt nichts mehr als Bestنnde : Lager, Vorrنte, Mittel” (Heidegger, Seminare, GA 15, Frankfurt, Klostermann, 1986, S. 368).
[30]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 28.
“Das Ge-stell ist eine Schickung des Geschickes wie jedes Weise des Entbergens” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 28).
[31]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 76.
“Das Zeitalter der vollendenten Metaphysik steht vor seinem Beginn” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 76).
[32]- راجع هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، 85-86.
Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 85-86.
[33]- المرجع نفسه، ص 86.
[34]- المرجع نفسه، ص 39.
“Wo aber Gefahr ist, wنchst das Rettende auch” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 39).
[35]- راجع :
Michael E. Zimmerman, “Heidegger on nihilism and technique”, in Man and World, 8 (4), 1975, p. 394-414.
[36]- أنظر التوسّعات التي أنشأها هايدغر في تناوله مسألة تجاوز المِتافيزياء في زمن العدميّة الأوروبّيّة :
Heidegger, Nietzsche : Der Metaphysik und Nihilismus, GA 67, Frankfurt, Klostermann, 1999, S. 148-150.
[37]- قالها هايدغر في محاضرته «في ماهيّة الحقيقة» (هايدغر، معالم الطريق، 197-198).
“Das Dasein ist die Wendung in die Not” (Heidegger, “Vom Wesen der Wahrheit”, Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, S. 197-198.
[38]- هايدغر، حلقاتٌ (حلقة طور، 11 أيلول 1969)، ص 367.
«Die verschiedenen Epochen der Geschichte des Seins – das unterschiedliche und aufeinander folgende Sichentziehen des Seins in seinem Geschick – sind die Epochen der verschiedenen Weisen, in denen sich dem abendlنndichen Menschen die Anwesenheit zuschickt” (Heidegger, Seminare, GA 15, Frankfurt, Klostermann, 1986, S. 367).
[39]- هايدغر، دروب الغابة، ص 294
“Funktionنr der Technik” (Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977, S. 294).
[40]- هايدغر، دروب الغابة، ص 325-326.
[41]- المرجع نفسه، ص 295.
[42]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 69
“Ehe das Sein sich in seiner anfنnglichen Wahrheit ereignen kann, muك das Sein als der Wille gebrochen, muك die Welt zum Einsturz und die Erde in die Verwüstung und der Mensch zur bloكen Arbeit gezwungen werden» (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 69).
[43]- المرجع نفسه، 37.
“Wir blicken in die Gefahr und erblicken das Wachstum des Rettenden” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 37).
[44]- هايدغر، دروب الغابة، 273.
“Die Rettung muك von dort kommen, wo es sich mit den Sterblichen in ihrem Wesen wendet” (Heidegger, Holzwege, GA 5, Frankfurt, Klostermann, 1977, S. 296).
[45]- هو الإله الرومانيّ ذو الوجهين (Janus)، يرمز إلى الماضي ويرمز إلى المستقبل. يفتح الرومان معبده في زمن الحرب ويغلقونه في زمن السلم. ومنه اشتقّت في اللغة اللاتينيّة تسمية الشهر الذي به يُختم العام المنصرم ويُستهلّ العام الجديد (Januarius). في أصله اللغويّ يعثر الشاعر اللاتينيّ أوفيدُس (43 ق. م. – 14 ب. م.) على دلالة العبور والانتقال. وقد يكون هايدغر قد استهوته دلالةُ التردّد بين زمنين، وقابليّة التلبّث والانتقال، واحتمال السلب والإيجاب في شخصيّة هذا الإله حتّى يعتمده وصفًا لحقبة التقنية الحديثة.
[46]- كلمة مشتقّةٌ من فعل الاستملاك الذاتيّ أو الاستدخال الذاتيّ أو التخصيص الذاتيّ (ereignen). وبحسب هذا المعنى الأوّل، فإنّ الإرأيغْنيس تعني بلوغ الكائنات إلى كينونتها الخاصّة وبلوغ الكينونة إلى أصالتها الذاتيّة. وفي هذا جوهر المسعى الذي يبرّر إعراضَ هايدغر عن المقاربة المِتافيزيائيّة للكينونة حيث العقل الحسّاب ينصّب الكينونةَ علّةً أولى وجوهرًا صمدًا وكائنًا أسمى. والاستملاك لا يعني في هذا السياق الاستحواذ على الشيء، بل بلوغ الشيء إلى ذاته الخاصّة واستدخاله لكينونته في عمق ذاته. وثمّة معنى آخر للكلمة في صيغة الفعل المتضمّن للفاعل (sich ereignen). وهو معنى يدلّ على حدوث الشيء وتأتّيه في الوجود. أمّا المعنى الأخير المشتقّ من الفعل الألمانيّ القديم الحامل لدلالة النظر (er-نugnen)، فيشير إلى اعتلان حقيقة الشيء واستدعائها لنظر الدازاين حتّى يستدخلها في موضع اختباره للكينونة (da). أنظر ف. فرشتراتن، «معنى الإرأيغْنيس في الزمن والكينونة»، الدراسات الفلسفيّة، كانون الثاني – آذار، 1986، ص 113-133؛ ج. غريش، «الهويّة والاختلاف في فكر مارتن هايدغر. سبيل الإرأيغْنيس»، مجلّة العلوم الفلسفيّة واللاهوتيّة، عدد 57، 1973، ص 71-111؛ ج. كوكلمانس، في حقيقة الكينونة. ضروبٌ من التفكّر في فلسفة هايدغر الأخيرة، منشورات جامعة إنديانا، 1984.
Ph. Verstraeten, « Le sens de l’Ereignis dans Temps et تtre », Les ةtudes philosophiques ; J. Greisch, « Identité et différence dans la pensée de Martin Heidegger. Le chemin de l’Ereignis », Revue des sciences philospohiques et théologiques ; J. Kockelmans, On the Truth of Being. Reflections on Heidegger’s later Philosophy, Indiana University Press.
[47]- أنظر هايدغر، التماثل والاختلاف :
Heidegger, Identitنt und Differenz, GA 11, Frankfurt, Klostermann, 2006.
[48]- في الكتاب الضخم (إسهاماتٌ في الفلسفة : في الإرأيغنيس) الذي يوازي كتاب الكينونة والزمان، يتحدّث هايدغر عن انعطافة في الإرأيغنيس عينه صوب الغشْتِل :
Heidegger, Beitrنge zur Philosophie. Vom Ereignis, GA 65, Frankfurt, Klostermann, 1989, S. 407.
[49]- يتحدّث هايدغر عن اللاحقيقة بما هي تشرّدٌ ضلاليّ في بحثه الذي يحمل العنوان : «في ماهيّة الحقيقة»، معالم الطريق، 196.
“Die Un-wahrheit als die Irre” (Heidegger, “Vom Wesen der Wahrheit”, Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, S. 196).
[50]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 91.
«Die Technik ist […] die organisation des Mangels» (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 91).
[51]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 28.
“Immer durchwaltet den Menschen das Geschick der Entbergung. Aber es ist nie das Verhنngnis eines Zwanges. Denn der Mensch wird gerade erst frei, insofern er in den Bereich des Geschickes gehِrt und so ein Hِrender wird, nicht aber ein Hِriger” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 28).
[52]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 34.
“Wenn wir jedoch das Wesen der Technik bedenken, dann erfahren wir das Ge-stell als ein Geschick der Entbergung. So halten wir uns schon im Freien des Geschickes auf” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 29).
[53]- هايدغر، محاضراتٌ ومقالاتٌ، ص 95.
“Kein Wandel kommt ohne vorausweisendes Geleit. Wie aber naht ein Geleit, wenn nicht das Ereignis sich lichtet, das rufend, brauchend das Menschenwesen er-نugnet, d. h. er-blickt und im Erblicken Sterbliche auf den Weg des denkenden, dichtenden Bauens bringt?” (Heidegger, Vortrنge und Aufsنtze, op. cit., S. 95).
[54]- هايدغر، بداية الفكر الغربيّ. المنطق : نظريّة هيراقليطس في اللوغوس، مجموعة الأعمال الكاملة، 55، فرنكفورت، كلوسترمان، 1987، ص 247.
“Wir haben Ohren, weil wir horchsam hِren kِnnen und bei dieser Horchsamkeit auf das Lied der Erde hِren dürfen, auf ihr Erzittern und Beben, das doch unberührbar bleibt von dem riesenhaften Lنrm, den der Mensch auf ihrer vernutzten Oberflنche bisweilen veranstaltet” (Heidegger, Heraklit. Der Anfang des abendlنndichen Denkens. Logik : Heraklits Lehre vom Logos, GA 55, Frankfurt, Klostermann, 1987, S. 247).
[55]- هايدغر، نيتشه : إرادة القوّة بما هي فنٌّ، ص 94.
“Phusis is für die Griechen der erste und wesentliche Name für das Seiende selbst und im Ganzen. Das Seiende ist ihnen dasjenige, was eigenwüchsig und zu nichts gedrنngt aufgeht und hervorkommt und in sich zurückgeht und vergeht, immer aber das aufgehende und in sich zurückgehende Walten” (Heidegger, Nietzsche : Der Wille zur Macht als Kunst, GA 43, Frankfurt, Klostermann, 1985, S. 95).
[56]- أنظر هايدغر، العزوفيّة، غونتر نِسكه، بفولتِنغن، 1959.
Heidegger, Gelassenheit, Günther Neske, Pfultingen, 1959.
[57]- هي عبارة جان بوفريه، تلميذ هايدغر النجيب في فرنسا، ساقها في محاوراته :
Jean Beaufret, Entretiens, Paris, PUF, 1984, p. 63.
[58]- هايدغر، «رسالة في الإنسيّة»، معالم الطريق، ص 313.
“Das Denken vollbringt den Bezug des Seins zum Wesen des Menschen” (Heidegger, “Brief über den ‘Humanismus’”, Wegmarken, GA 9, Frankfurt, Klostermann, 1976, S. 313).
[59]- راجع :
Luc Ferry, Le nouvel ordre écologique : l’arbre, l’animal et l’homme, Paris, Grasset, 1992 ; Id., La révolution transhumaniste : comment la technomédecine et l’uberisation du monde vont bouleverser nos vies, Paris, Plon, 2016.
[60]- راجع البحث الذي أنشاه الفيلسوف الألمانيّ كارل أوتّو أبِّل (1922-2017) في العقلانيّات الحديثة :
K. O. Apel, «Esquisse d’une théorie philosophique des types de rationalité», Le Débat, mars-avril 1988, 49, p. 142- 163.
[61]- أنظر : Ernst Jünger, Der Arbeiter. Herrschaft und Gestalt, Stuttgart, Klett-Cotta, 1982.
[62]- لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثلّة نابغةً من الفلاسفة الغربيّبن تأثّروا تُأثّرًا حميدًا بالانتقاد الهايدغريّ، فاستلهموه وأنشأوا منه مذهبًا فلسفيًّا يراعي خصوصيّة الطبيعة والبيئة، ولكن من غير أن يطرد الإنسان من موقعه المتدبّر المسؤول. راجع :
Jacques Ellul, La technique ou l’enjeu du siècle, Paris, Armand Colin, 2008 ; Hans Jonas, Technik, Medizin und Ethik : Zur Praxis des Prinzips Verantwortung, Frankfurt a. Main, Suhrkamp, 1985 ; Andrew Feenberg, Questioning Technology, New York and London, Routledge, 1999.