البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مستقبل الغرب الرقمي ، الأصول اللاثقافية للقارة الأوروبية

الباحث :  عمر الأمين أحمد عبد الله
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  585
تحميل  ( 376.874 KB )
تستعيد هذه الدراسة للباحث والمفكر السوداني عمر الأمين أحمد عبد الله المرتكزات اللاهوتيّة والأيديولوجيّة التي قامت عليها حضارة التقنية في الغرب الأوروبي. وفي هذه الاستعادة يلاحظ الكاتب ما يسميه بالأصول اللاثقافيّة للقارة الأوروبية، ليبيّن البعد البربري الذي نشأت فيه تلك القارة، والأثر العميق الذي ترتب عليه. فقد جاءت التقنية برأيه كمحصولٍ تاريخيٍّ لهذا البعد، وهو الأمر الذي تدل عليه وقائعية العصر الحديث وخصوصاً لجهة تهافت البنية الأخلاقيّة والقيميّة للمجتمع الغربي.

المحرر

-----------------------------------------------
بات معلوماً أنّ أوروبا هي وجودٌ جغرافيٌّ وتاريخيٌّ في آنٍ واحدٍ؛ جغرافيًّا فهي كانت ضمن جغرافيا العالم القديم ثم أصبح لها وجودٌ مختلفٌ بعد اكتشاف العالم الحديث أي بعد اكتشاف الأميركتين وأستراليا.

وقد قامت أوروبا ما بعد الحداثة بإضافة أميركا الشمالية وأستراليا إلى نظامها السياسي الذي أصبح يمثل العالم الأول أو المركز الحضاري. وأصبحت هي حاكمةً لهذا العالم بما لها من قوةٍ. ثم أضافت إليها لاحقًا اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فانقسم العالم إلى عالمٍ أوّلَ ويمثله المركز الأوروبي، ثم عالمٍ ثانٍ تمثله بعض الدول الوسيطة في التحاقها ببعض الدول الأوروبيَّة مثل البرازيل وتايلاند ومؤخراً دول الخليج، وعالمٍ أخيرٍ يمثل قاع التخلف والفقر ويمثل العالم الثالث ويقع في هامش النظام الذي صاغت عليه أوروبا عالمنا المعاصر.

مستدركاتٌ مصطلحيةٌ:

قد يتداخل الاستعمال المصطلحي تداخلاً قد يخل بما نقصده هنا في هذا المبحث، فما نعتقد أنه دون هذا التداخل يستند إلى صحيح المفاهيم اللغوية كأصولٍ ينبغي ألاَّ يفارق صحيحها صاحب أي صياغةٍ لأي مصطلحٍ. مثالٌ على ذلك قولنا «معرفة علمية» وهذا لفظٌ يربط ما بين متخالفين في المنشأ، فالإنسان لا يملك العلم ولكنه يملك معرفته. لذلك فاتصال المعرفة بالعلم لا يلقي بأيّ ظلالٍ معرفيةٍ على العلم، بل يظل العلم في كامل صحته مترفعاً عن أي تعلقاتٍ معرفيةٍ. ولولا ذلك لكانت المعرفة العلمية التي تطهّر منها العلم - كما هي مسألة دوران الشمس حول الأرض التي كان يقول بها المعلم الإغريقي أرسطو- حقيقةً علميةً وراسخةً إلى يومنا هذا. لكنها معرفةٌ ثبت بطلانها دون أن تؤثر على الحقيقة الراسخة بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس كحقيقةٍ ثبت رسوخها علميًّا لم تصب بدنس الجهل والغفلة المعرفية التي يتصف بها الإنسان بما لا يؤثر على حقيقةٍ علميةٍ أصيلةٍ.

فما نعرفه من المعرفة العلمية الصحيحة كان كما تقرر لاحقًا حول الخطأ المعرفي للمعلم أرسطو، أو جهلاً كما هو قول علماء الفيزياء بعد إساحق نيوتن وقبل اكتشاف الطيف الكهرومغناطيسي. إن الكهرباء ما هي إلا سائلٌ يسري في الأسلاك، فذلك يدلل على طفولتنا ويفاعتنا المعرفية، ويدلل كذلك على هطلنا وعدم معرفتنا بما نمتلكه من علمٍ والذي هو قليل جداً.

استدراكٌ مهمٌّ يثيره هذا السؤال عن القياس الكمي لأوروبا. يثور هذا السؤال خاصةً عندما نصطدم بمفهوم الاتحاد الأوروبي. لكن يسعفنا ما يُثار هذه الأيام حول (البريكزيت) أي خروج بريطانيا عن حظيرة الاتحاد الأوروبي، كذلك يصطدم مفهومنا عن الاتحاد الأوروبي بمفهومٍ يشار إليه أعلاه حول الكيفية الأوروبية إذ تنضم حينها، أميركا الشمالية بشقيها وأستراليا واليابان فنعتبرها ضمن هذا المصطلح.

موجبات الاصطدام المفهومي ينحل عندما نلاحظ أن الاتحاد الأوروبي نفسه كمّاً غير كاملِ الانسجام، إذ إنّه اتحادٌ تجاريٌّ يقوم على اتفاقٍ بين أعضائه على تجنب موجبات المنافسة التجارية في وجه الخصوم التجاريين، والذين هم بالضرورة خصومٌ سياسيون. مع ذلك فالخصومة بين عضوية الاتحاد الأوروبي والتي هي ضمن ما هو مقدورٌ عليه في إطار التفاهم السياسي لا تتصادم كثيراً مع واقع إخوتهم خارج هذا الاتحاد ممن ينضوون تحت قبعة النظام الرأسمالي الاحتكاري للعالم الأول، فيصبح حينها ما نقصده من مصطلح أوروبا هو مفهوماً سياسيًّا لا نكاد نرى فيه فرقاً بين الولايات الأميركية وفرنسا وإنجلترا وألمانيا...إلخ. 

يبدو أن النظر لأوروبا  في التاريخ يوصلنا ببساطةٍ إلى أنها في حاضرنا ترى نفسها  ممسكةً بمقود العالم المعرفي والعلمي، فهي لذلك ترى نفسها ذات مسؤوليةٍ معرفيةٍ وعلميةٍ نظريةٍ وعمليةٍ تجعل العالم مصطفًّاً حولها مأخوذًا بمقوده بواسطتها.

ولا يبدو أن هذا الأمر قد حدث كيفما اتفق. فأوروبا هي في واقع الأمر ممسكةٌ بمقود العالم السياسي والاقتصادي منذ القرن الثامن عشر ولم تتخلّ عنه إلى يومنا هذا. فإذا كان الأمر كذلك فإن إمساكها بالقياد المعرفي يبدو عندها طبيعيًّا ومنطقيًّا ما يجعلها تعتقد وتعلن بعد ذلك من اعتقادها صراحةً أنها صاحبةُ القول الفصل العلمي في هذا العالم.

نظرةٌ بسيطةٌ إلى هذه النتيجة تجعلنا نرى أن استيلاء أوروبا على السلطة السياسية والاقتصادية لهذا العالم  لم يكن بسبب قدرتها العسكرية فقط، إنما إضافةً إلى ذلك فقد كان حراكها عبر سلسلةٍ من التطور الإنساني، عبر دولتها في حالاتها الثلاث: دولة الإمبراطورية، ثم دولة النبلاء (أي القنانة والإقطاع)، ثم دولة سيادة الطبقة البرجوازية والرأسمالية (أي مايسمى بالجمهورية). وكانت أوروبا ترى في حملها العالم إلى عبور دولة ما قبل الرأسمالية إلى الدولة الرأسمالية الحديثة بعيد القرن الثامن عشر، أي بعيد استعمار العالم، أن تلك رسالةٌ يجب أن تؤديها في حقّ الإنسانيَّة. ثم ساعد على ذلك إنجاز الثورة الصناعية وما حدث بعدها من تحولاتٍ عميقةٍ في بنية المجتمع الإنساني، وذلك كان تعزيزاً لما تراه من رسالةٍ تطويريّةٍ كانت تؤديها لصالح الإنسانيَّة.

ويبدو أنّ أوروبا بعد إنجازها ثورة التحول الصناعي لم تتوقف عندها بل أضافت بعداً جديداً، وذلك بإضافة إنجازٍ جديدٍ وهو التحول إلى ثورةٍ جديدةٍ ألا وهي الثورة الإلكترونية، وهي الآن تستشرف عهدًا جديدًا هو عهد الثورة الرقمية بما في ذلك من إضافة وسائط التواصل الاجتماعي كبعدٍ جديدٍ يضع العالم أمام تحولاتٍ عميقةٍ قد لا نستطيع إجادة التحسب لها. ويبدو أن هنالك سؤالاً كبيراً: هل كان نتاج ما تحقق في أوروبا  من نمو عبر مراحل دولتها المختلفة، ثم ما أوصل إلى ذلك من ثورةٍ صناعيةٍ ثم ثورةٍ إلكترونيةٍ، هل كان كلّ ذلك كافيًا لأن يسلم العالم لأوروبا قياده كي تنجز تحولاً في ضخامة تحولات الثورة الرقمية التي ربما تؤسس لانقلابٍ مجتمعيٍّ كبيرٍ في عالمنا المعاصر؟!

إشكالاتٌ عميقةٌ في المفاهيم العلمية الأوروبيَّة

ولو كانت أوروبا تمسك بمقودٍ ذي سدادٍ معرفيٍّ يتسم بأنه يمتلك ناصية العلم، لكان ذلك مدعاة لاتفاقنا معها اتفاقا تامّاً، ومدعاةً كذلك لاصطفافنا خلف مقودها. لكننا نرى الاعوجاج الظاهر في هيئتيها المعرفية والعلمية. فهي تعاني من خللٍ منهجيٍّ كبيرٍ ناتجٍ من ظنها أنّها تمتلك ناصية العلم، في حين أن علومها لا تستخرج إلا من باب علم الإبستملوجيا التي يُقصد بها ما هو مبرهنٌ عليه علميّاً من تجريبٍ صادقٍ.[2]

 وهذا النوع من التفكير الأوروبي يرى أن العلم مستخرجٌ من المعرفة. فهو يقرر ذلك وهو مطمئنٌ وغيرُ آبهٍ بطفولته المعرفية التي كان يرى فيها إلى عهدٍ قريبٍ أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس تدور حوله وأن الكهرباء ما هي إلا سائلٌ يسري في الأسلاك. ولم يسعف أوروبا استنتاجاتٌ ذهنيةٌ تجريبيةٌ لاحقةٌ أثبتت خطأ ما كانت ترى مما ذكرنا أعلاه ثم صححته، وقد كان هذا التصحيح يقتضي أن ترى أوروبا طفولتها العلمية تحيط بمعرفتها. لكنها في سبيل تجاوز الاعتراف بطفولتها المعرفية في مجال العلم، خلُصت بعد ذلك بأن أضافت مفهوماً يقول أن العلم ما هو إلا تجريبٌ تراكميٌّ يصحح ثم يزحزح بعضه بعضاً بما لا يمكننا بأن نضع له حدّاً تعريفياً ذا ثباتٍ معرفيٍّ يمكن أن نركن إليه. فتحررت من خلال الطفولة المعرفية حولته بإلقائه على كاهل العلم.

هذا الموقف يمكن أن يرى فيه خللٌ منهجيٌّ كبيرٌ. فإذا لم تكن الشمس تدور حول الأرض أصلاً منذ بداية  تكوينها، فإن ما سبق تقريره حول ذلك، بكونها تقوم بالدوران حول الأرض في يوم من الأيام، هو خطأٌ بيّنٌ. هذا الخطأ يشكل قصوراً لا يختص به حقيقة دوران الأرض حول الشمس، وهذه هي الحقيقة العلمية التي لا يلحق بها أي خطأ في حقيقتها التكوينية، بل كل الخطأ ناتجاً في وعن فهومنا الغضّة. إذ إن العلم لا يتراكم كما هي الحقائق الجوهرية القانونية التي تسري في عالمنا منذ نشأته وتكوينه الأول، إنما الذي يتراكم هو معرفيتنا لها التي هي كانت نفسها خاطئة لمفهومٍ علميٍّ هو في كمال صحته وسداده.

ويبدو أن الخلل الذي ذكرنا أنّه ناتجٌ عن طفولة أوروبا المعرفية وطفولتها العلمية، ليس هو بالعامل المعروف لأوروبا كي يُكبح جماحها في أن تتحكم في مقود الإنسان العلمي والمعرفي. لكنها مع ذلك أمسكت به في نهاية أمرها، وذلك لتحكمها السياسي في عالمنا المعاصر. وذلك أمرٌ يحتاج إلى مزيدٍ من التوضيح.

الخلفية التاريخية لنظام أوروبا  المعرفي

بالرجوع إلى ما كان حادثًا في تاريخ الفهوم الأوروبيَّة -التي رأينا أنها كانت في طفولتها ويفاعتها المعرفية- فذلك أمرٌ لا تلام أوروبا عليه، إذ إنها ليست بدعاً من عالمٍ كان بالكاد يتخارج من تخوم العصر الحجري الحديث تخارجاً وئيداً في اتجاه الوصول للحضارات الإنسانيَّة. الأولى في حوضي واديي نهر النيل الأدنى، فتلك فترةٌ زمنيةٌ لا تتجاوز ألفين ونصف عام، وهي فترةٌ قصيرةٌ جدًّا مقارنةً بآماد التجذيب الإنساني وانتقالاته. فالدولة الرومانية مثلاً في أوروبا قد قامت بصورةٍ ما بملامسةٍ تاريخيّةٍ لبعض عصور العصر الحجري الحديث. فقد كانت أوروبا جلها وقارة آسيا وقارة إفريقيا كلّها كانت مازالت تعتمد الآلات الحجرية في كثيرٍ مما كانت تود أن تنجز به أعمالها، فالإنسان الإفريقي أو الأوروبي إلى تخوم القرن الثامن عشر كان يطحن حبوبه الغذائية بأحجار (الرحى)، وكان يتسخدم الفخار في أدوات طبخ وتناول الطعام، وتلك كلها كانت سماتٍ متدليةً من العصر الحجري المتأخر أو ما يسمى بالعصر الحجري الحديث. ورغم اكتشاف المعادن قبل تلك الفترة بكثير إلا أن استعمالاتها قد اقتصرت على الجوانب العسكرية فقط، فقد ساعد اكتشاف المعادن في صنع الآلات الحربية كالسيوف والرماح والعربات التي تجرها الخيول، في حين ظل الاحتياج الإنساني للفرد في منزله يقبع في تاريخٍ متأخرٍ يعود إلى العصر الحجري حيث كانت صناعة الفخار فقط هي التي تساعد الفرد في تخيّر أدواته المنزلية. وقد صار حال الإنسان في شأن احتياجاته المنزلية ينتظر عهداً لاحقاً سيتحقق بعد الثورة الصناعية في أوروبا التي انتظمت بُعيد القرن الثامن عشر كي تحل أدواتٌ معدنيةٌ مكان أدواته الخزفية.

حملت هذه التحولات التي انتظمت من المركز الحضاري في حوض وادي النيل وحوض البحر المتوسط تغييراتٍ جوهريةً في بنية المجتمع بحسب تراكم خبراته العملية في الحضارات القديمة أي مابعد إنسان العصر الحجري، ثم التحولات الأوروبيَّة اللاحقة، أي مابعد الدولة الرومانية (دولة القنانة)، ثم الثورة الصناعية، ثم المرحلة الأخيرة التي تحالفت فيها طبقة الرأسمالية والبرجوازية لإنجاز مرحلة التحولات إلى دولة الجمهورية. كل هذه التجمعات كانت تحتفظ بسجلٍّ تاريخيٍّ لتطور مجتمعاتها وتطور أنظمتها السياسية لكنها في عمومها كانت تحمل مفاهيمَ تستند على كلِّ ماهو أسطوريٌّ.

 وقد يعتبر، في أوروبا، القرنُ التاسع عشر عهدَ ظهور الذهنية التجريبية والمؤسسة العلمية بما فيها من معامل لاختبارات هذه الذهنية التجريبية. وترى أوروبا أن تطور هذه الذهنية هو تجربةٌ أوروبيةٌ تمت نتيجةً لتراكم الخبرات العملية التي أدت إلى تراكم المفاهيم المعرفية، تلك التي أدت -كما هو المفهوم الأوروبي- إلى ظهور مفاهيم علميّةٍ متحققاً منها ومجربةً معملياً كما هي الظاهرة الكهربائية مثلاً. وبما أداه ذلك الظهور لهذه الذهنية التجريبية من تصحيحٍ لكثيرٍ من المفاهيم الأسطورية التي تستند إلى الأساس الأسطوري، فإن أوروبا في ذلك الحين قد استشرفت بعد الثورة الصناعية والانقلاب المجتمعي الذي صاحبها ثورة التطور العلمي اللاحقة لظهور الآلة البخارية خاصةً بعد اكتشاف الفحم الحجري ثم البترول.

ولا تبدو لأوروبا مراجعاتٌ كانت ينبغي أن تستدرك بها لتصحيح معارفها أن العلم كمصطلحٍ أصله إسلاميٌّ وقرآنيٌّ نزل منذ القرن السابع الميلادي، الذي انتظر بعد ذلك خمسة قرون في خفاءٍ لم ينبجس إلا في القرن التاسع عشر في الثورة العلمية في أوروبا.[3] وليس العلم كمصطلحٍ فقط هو الذي ظهر، بل كان مصاحباً لظهوره ظهور آليته العلمية، وهي نظام الحساب العشري، تلك التي أسست لمقايساتٍ في الرياضات وأساليب لمعالجة الكم والكيف وفق هذه الآلية، ما كان ممكنًا إحداث أي منجزٍ علميٍّ دونها. فقد كان للحساب العشري أصلٌ إسلاميٌّ استند إلى طريقةٍ استندت بدورها إلى أصولٍ تنزيليّةٍ أوضحها وعلمنا إياها المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- كمسلمين يجب علينا معرفة كيفية حساب الزكاة والمواريث وحسابات الديون والتجارة كقيمٍ تعبديةٍ. هذه الطريقة التي علّمنا إيّاها المصطفى تستند إلى طريقة الحساب العشري الذي يبدأ بالرقم العشري (صفر) وتنتهي حساب آحاده بالرقم (تسعة)، ( فتلك عشرة كاملة)[4] وتمثل الأساس في حساب النظام العشري. وقد اعتمد حساب الزكاة والمواريث على أساس (الصفر) كرقمٍ له أهميته في عملية الجمع والطرح والقسمة كذلك في الكسور العشرية وجمع وضرب وقسمة الكسور الاعتيادية، وأيضاً في طريقة تحقيب الكم الرقمي إلى حزمٍ حسابيّةٍ تتكون من آحادٍ وعشراتٍ ومئاتٍ..إلخ  يسهل كتابتها، ما كان يذخر به التراث الحسابي الإسلامي وتخلو منهما كافة تجارب الحساب الإنسانيَّة في كافة قارات الدنيا[5]، ومثالنا الظاهر على ذلك هو عجز الحروف الرومانية عن إجراء أيّ عملياتٍ حسابيّةٍ لعدم وجود حرف (الصفر) فيه ولعدم وجود تحقيب الآحاد والعشرات والمئات تلك التي جاء بها لأول مرة في البشرية بحساب الزكاة والمواريث وعلّمنا لها أستاذنا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وسيدنا أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرّم الله وجهه.

وعلى الرغم من وجود آلية الحساب العشري وعلموية موضعتها للفصل الكمي والكيفي للمسائل المطروحة في التجريب المجتمعي الإنساني، إلا أن سيادة المفاهيم العلمية قصرت عن أن تصحح خلل الطفولة واليفاعة المعرفية التي ألقت بظلالها على كلّ الإنسانيَّة، واختصت بها أكثر ما اختص به سواها الدولة الرومانية ثم دولة القنانة ثم دولة التحالف الرأسمالية والبرجوازية اللاحقة. فالذهنية الإنسانيَّة التي صاحبت الفتوحات الإسلامية للعالم لم تكن تلقي بكثير ظلال الاستعباد والاستحواذ والتسلط، فدخلت معظم الشعوب الآسيويّة في كنف الإسلام كردّ فعلٍ لعدل هؤلاء الغزاة فيهم مقارنة بسطوة وعسف الإمبراطوريات التي كانت تحكمهم قبلها وتسومهم سوء العذاب. ثم انتزع الإسلام طوعاً لا كرهًا الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، أي تركيا ومنطقة البلقان، تلك التي فضلت الدخول في الإسلام عن الاستمرار في وثنيةٍ رومانيةٍ ملتبسةٍ بزيٍّ مسيحيٍّ كان نتيجةً لمواءمةٍ أحدثها ما يسمونه بالرسول(بولس) ما بين ذهنيتين الوثنية الرومانية والذهنية المسيحية الناشئة.

ولم يكن الرشاد هو ديدن ما تبقى في الدولة الرومانية الغربية بعد تفككها إلى دويلات، فقد سادتها ذهنيةٌ سلطويةٌ متنزلةٌ تنزلاً حقيقيّاً عن سليلتها الباطشة، وهي الدولة الرومانية القديمة، فقد خاضت الدول الأوروبيَّة  المتخندقة في حدودها للدولة الوطنية القطرية حربين طاحنتين انتظمت فيهما كلّ أوروبا من أقصاها إلى أدناها، وأسموها زوراً وبهتاناً بالحرب العالمية الأولى (1914-1918م) والحرب العالمية الثانية (1939-1945م). وهما في واقع أمرهما ليستا حربين عالميتين، إنما هما حربان أوروبيتان، يمكن أن يشيرا إلى يفاعة الذهنية الأوروبيَّة الممسكة بشؤون إدارة الدولة. إذ لا يمكن أن توصف الذهنية التي أدت لمقتل عشرات الملايين من الأوروبيين في هاتين الحربين وهدم وتكسير كلّ البنية المدنية الأوروبيَّة أن نقول أنّها كانت نتيجة ذهنيةٍ معقولةِ التفكير، بل هي ذهنيةٌ منفلتةٌ لا مطاوعة لها للحكمة والعقل السليم.

ثم كان أن قاد توازن الرعب بين الخصماء الأوربيين المتحاربين، أي ما يسمونهم بـ(الحلفاء) ضد دول (المحور) إلى وضع السلاح جانباً وذلك رضوخاً لتوازن ميزان الرعب ورضوخاً دون استعمال آلة الفتك والتدمير التي أصبح يمتلكها كافة أطراف الدويلات الأوروبيَّة المتصارعة. وقد قاد وضع هذا السلاح والاتفاقيات الناتجة عنه إلى أن اتجهت الدول الأوروبيَّة التي تقاسمت العالم بين قواها الفعالة، فقامت إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال باقتسام العالم في ما بينهم. فحكمت أوروبا العالم من أقصاه إلى أدناه وذلك بعد أن غزته ثم استولت على سلطاته ومقدراته، وذلك باستعماره استعمارًا استيطانيًّا كاملًا. قام هذا الاستعمار بنهب ثروات شعوب العالم وتسخير بعضها في منظومة استعبادٍ لبناء بعض المناطق التي تحتاج للعمالة، فتم استرقاق السود في أميركا الشمالية وفي كثيرٍ من المناحي الأوروبيَّة، وذلك مضاف إلى استعبادهم في بلدانهم كمعظم حال غرب وجنوب إفريقيا إلى منطقة البحيرات وبعض مناطق شرق إفريقيا كروديسيا الجنوبية وجنوب إفريقيا وتنجانيقا... إلخ.

 قادت أوروبا العالم بعد ذلك مرغماً إلى هجر أنظمته السياسية التقليدية، ثم التحول باتباع النظام السياسي الجديد الذي أجبرت العالم على الإمساك به، ألا وهو الدولة الوطنية القطرية. وقد أحكمت سيطرتها بهذا النظام أن جعلته تحت قياد عالميٍّ واحدٍ، هو قياد الهيئة العامة للأمم المتحدة، ثم وضعت أعلاها مجلس الأمن الدولي الذي يدين بمطلق سلطاته إلى أوروبا.

 محصلة هذه الترتيبات قد أدت إلى أن تقوم أوروبا بقياد العالم في انتظامٍ حضاريٍّ كانت هي تشكل مركزه، فهو غير مكفولٍ له إلا أن يظل هامشاً لها يمدها بالمواد الأوليَّة ويستهلك منتجاتها الصناعية. وقد سار هذا النظام بعد ترتيباتٍ أوروبيةٍ دعته للخروج عن مرحلة الاحتلال الاستيطاني إلى مرحلة التحكم الاقتصادي والسياسي، فوضعت في أعلى تلك المجتمعات المتُحكّم عليها نخبةً هي من أهل البلاد المستعمَرة نفسها لكنّها متحكمةٌ سلطويًّا وتابعةٌ للمركز الحضاري الأوروبي كوكيلةٍ له في تلك البلاد.

ومع اكتمال النشوء اقتضى واقع حالٍ جديدٍ قامت فيه برجوازيات العالم الثاني والثالث بوضع شعوبها في خطّ سلسلة الالتحاق بما سُمي بمرحلة (مابعد الحداثة الأوروبية)، ذلك الذي يعني في مجمله ارتفاعَ قامة مجتمعات العالم الثاني والثالث إلى مستوى مستهلك لمنتجات العالم الأول، وما يقتضي ذلك من تحديثٍ شكلانيٍّ يتوافق مع الانضباط العالمي في منظومة الدولة الوطنية القطرية الصغيرة المتفككة المحكومة بنظامٍ عالميٍّ هو نظام الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

وقد أجاد الماسكون بالعالمين الثاني والثالث من اتباع سادتهم، فأمسكوا بأنظمةٍ سياسيةٍ تابعةٍ لمنبعها -أي نسق التمركز الحضاري- فأجاد سياسيو العالمين الثاني والثالث، وتفوقوا على أنفسهم في إنجاز ما هو موكولٌ لهم، فساهموا مساهمةً فعالةً في ما يريده ويرضاه العالم الأول الأوروبي من تكسيرٍ للأنظمة البنائية لمجتمعات العالمين الثاني والثالث، ومن ثم وأد الثقافة المجتمعية كمصنفٍ أساسيٍّ لمجتمعات العالمين الثاني والثالث ويخلو منها تماماً اجتماع إنسان العالم الأول.

تأويل ما وراء الخلفية التاريخية الأوروبية:-

انتظم سردنا لتوصيفٍ صارت نتائجه على أيامنا هذه ماثلةً للعيان، فقد سار المجتمع العالمي في سيرةٍ وسيرورةٍ وصيرورةٍ تتلبّس الترتيب الذي وضعته أوروبا لمسير هذا العالم، أي كما ذكرنا المركز الحضاري وما يتبعه من هامشٍ عالميٍّ كبيرٍ منتظمٍ تحت لواء الدولة الوطنية القطرية.

وتسير موصوفات هذه السردية وهذا النمط على إحلال الداء الأوروبي المقيم، ذاك الذي أفرز مثل هذا النمط وشكل ما وراء هذه الصيرورة التاريخية، التي تسير على محصلة الذاتية الأوروبيَّة ذات الخلو التام عن الثقافة كمكونٍ مجتمعيٍّ هام ويكون حينها أمر إحلاله سهلًا على بقية العالم.

وللركون إلى هذه النتيجة ينبغي أن نعرف أن العداء الذي يكنّه العالم الأوروبي الأول للثقافة هو داءٌ مقيمٌ يتصل بالأصول التكوينية للاجتماع الأوروبي، فالثقافة بوصفها نظاماً يتضمن هوية أفراد المجتمع الذي ينتمون إليه، ويتصل ببنية تلك المجتمعات التكوينية، بحيث يصير هنالك اتفاقٌ ثقافيٌّ عامٌ على جماع من القيم والعادات والتقاليد والموروثات التي ينبغي أن ينصلح الفرد بانتظامه خلالها، فمصطلح (ثقافة) العربي يعني التعديل والتسوية. ثقّف قناة الرمح معناه أن قناةً معوجّةً تم ربطها إلى أخرى مستقيمة تسمى (ثِقافة) فاستقامت المعوجّة تبعاً للأخرى. عليه فهي في المجتمع تعني تسوية وتعديل الفرد ليكون صالحاً للعيش وسط الجماعة. لذلك تميل المجتمعات التي تأخذ بالثقافة كمكونٍ أساسيٍّ تحتيٍّ لمجتمعاتها إلى جماعيّةٍ في تربية الأفراد على نمطٍ متفقٍ عليه مسبقاً بواسطة هذه الجماعة، تمت صياغته خلال تجريبٍ أصبح ضمن ثوابت وموروثات تلك المجتمعات، وهذه موروثاتٌ تنضبط غالباً بضمانات كريم العادات والمعتقدات. ولما كان نشوء الاجتماع الأوروبي على عنصر كفاءة وفعالية الأفراد، ويشمل ذلك قدراتهم على الصراع من أجل الاستحواذ على المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية[6] فإن تأويل نشأة الأفراد في المجتمعات الأوروبيَّة، يؤدي إلى وضعه تحت مصطلح (culture)  ذلك المصطلح الذي يمكن تأويله هو الآخر إلى معاني النمو والإنبات. والنمو والإنبات هنا لا يفيد تسوية وتعديل الأفراد ولا تربيتهم الجماعية التي تؤدي إلى تكوين مجتمعٍ مكوّنٍ من أفرادٍ ذوي هويّةٍ مشتركةٍ. فما يقوله منظرو الغرب أن مجتمعهم يقوم على ثقافة الفردانية. ومع تحفظنا على إضافة مصطلح (ثقافة) العربي الأصل ذي الجذر التأويلي الذي يخالف الجذر التأويلي لمصطلح (culture) فإن الفردانية هنا تهزم المصطلح (ثقافة) الذي يقوم على جماعيّةٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ.

فالفقد الثقافي هو عوارٌ بنيويٌّ ظاهرٌ يلتصق ببنية المجتمع الأوروبي، ولا أدري أيرجع هذا العوار إلى البنية البيولوجية للمجتمع الأوروبي أم إلى البنية الاجتماعية؟!

ومع ميلي بالطبع إلى أن العوار هو عوارٌ تكوينيٌّ مجتمعيٌّ، فهو سمة يتسم بها الفرد الأوروبي في نزوعه إلى التحكم والتفرض والسيطرة، وهذا بالطبع لا يمكن أن يكون صفةً بيولوجويةً بقدر ما يكون صفةً مكتسبةً اجتماعياً ربما قاد إليها نزوعٌ إلى التمرد الذي ينتاب الفردانية الأوروبيَّة منذ نشأتها الباكرة. ولا يلاحظ في اجتماع الإنسان الأوروبي نشوء بطون وعشائر وأُسرٍ ممتدةٍ تكوّن قبائل بالمفهوم الشرق أوسطي للقبيلة. وأظن أن هذا ينسجم مع هجرة الإنسان الأول أي إنسان العصر الحجري من أرض كوش، أي أرض النيل العظيم بفرعيه التاريخيين سيحون وجيحون أي النيلين الأبيض والأزرق [7]، إلى أرض الجزيرة العربية ومنها إلى أواسط آسيا عبر باب المندب ومنها إلى الهند والصين ثم إلى أوروبا عبر جبال القوقاز في هجراتٍ تقول أغلب الدراسات التاريخية أنها كانت لإنسان العصر الحجري الوسيط بُعيد ذوبان الجليد في أوروبا  قبل عشرة آلاف عام قبل الميلاد. ويسودني يقينٌ ملاحظة استيطان قبائل اليونان والإيطاليين ثم القبائل الجرمانية ثم قبائل الغال، أي فرنسا الحالية، إضافة إلى بعض القبائل الأخرى (الفايكينغ) و(الأنجلو ساكسونيين) إلى أقصى الشمال، فهذه كلها قبائلُ متسلحةٌ بسلاح إنسان العصر الحجري الوسيط وجاهزة للدفاع عن حيازاتها الأرضية التي ستحتكر فيها لاحقًا صيد حيواناتها وجمع خيراتها الزراعية. فمجمل سيرة التاريخ الأوروبي ما قبل نشوء الحضارات في هذه المناطق هي سيرٌ أسطوريّةٌ لآلهةٍ ذات بعدٍ جسدانيٍّ أرضيٍّ طاغٍ تتصارع في ما بينها - كالإله (هيركوليزو زيوس) والآلهة (أوروبا) نفسها[8] في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية القديمتين- لامتلاك سطوة التحكم والسيطرة. ثم لحق بذلك أقدم سِيَر التاريخ الأوروبي كحرب (طروادة) التي لا نتمكن للاستدلال على موقعها استدلالاً آثارياً كاملاً حتى الآن، أو فرسان المائدة المستديرة في أسطورة الأدب الإنجليزي تلك التي لا يملك الآثاريون الإنجليز أو الأوروبيون أي إثباتاتٍ تاريخيةٍ لكليهما (إسبارتا وفرسان المائدة المستديرة) ولكننا لا نطالب بهذه الإثباتات، إذ إنه يكفينا من هذه الأساطير الاستدلال أن معظم تاريخ أوروبا  القديمة كان يقوم على الصراع العسكري الضاري.[9] لكن الشاهد هو أن مثل هذا التحملق السلطوي العنيف طبع دولة أثينا بطابعه فقامت كدولةٍ تستعبد ما حولها من أُناسٍ يخدمهم عبيد مجلوبون من إفريقيا وآسيا وأوروبا نفسها، وعلى ذلك سارت الدولة الرومانية تلك التي غزت واستولت على العالم القديم من حوض السند إلى أقصى مغربه ما قبل بحر المانش. فكلتا الدولتين كانت تقوم على نظامٍ هو أشبه ما يكون بالنظام الطبقي لكنه أكثر إيغالاً بأنه نظامُ رقٍّ وعبوديّةٍ، أي طبقةٍ عليا للملوك والمُلاّك وطبقةٍ للمملوكين وطبقةٍ نصفيةٍ مساعدة بين هذا وذاك تتكون غالبها من الجنود.

هذا كله يشير إلى أن تأويل الأصول التاريخية التي نمت وترعرعت عليها المركزية الأوروبيَّة التاريخية هي أصولٌ لا ثقافيّةٌ، فذلك موروثٌ ثابتٌ يتمدد فعله في سلوك المركزية الأوروبيَّة الذي انتهى بها الأمر إلى استعمارين: قديمٍ استيطانيٍّ وحديثٍ اقتصاديٍّ وسلطويٍّ. وقد نرى مظاهر شتى لهذا الأمر الذي يبدو ظاهراً كعوارمَ في بنية المجتمع الأوروبي بتشكيلاتٍ مختلفةٍ، إذ تميل صياغة مفاهيم الاجتماع الأوروبي إلى تكلُّسٍ ظاهرٍ تعتقله هذه الرغبة السلطوية المتحكمة، وذلك في مقابل وعيٍ متولدٍ ومتكوّنٍ في مجتمع الشرق والشرق الأوسط، الذي وسّع من مواعين مفاهيميه لتحمل شتّى صنوف ثقافته المتعدّدة المآخذ وكثيرة التشابهات والتمايزات. ولا بد أن يميل هذا الاختلاف التكويني في وعيٍ شرق أوسطيٍّ ببنية هذا الاجتماع بحكم أنه ملازمٌ لنشأة المجتمع الإنساني في مختلف تجلياته التاريخية أيّاً كانت درجة اختلاف بنياته الأساسية في مختلف مراحل نموها التاريخي، سواءً أكان في بداية تخليق المجتمع في شقيه البدوي والمتمصر، أم في بعد ذلك في بداية مجتمعه التمديني.

والحديث عن البنية الثقافية هو حديثٌ ذو صنوفٍ شتّى، وله مآخذُ شتى ويُسفر كذلك نتائج َشتى، كلها تنصبّ في مختلف تجليات الثقافة وعلى مختلف تجلياتها، وتؤخذ اللغة، لا بوصفها لغةَ خطابٍ وحسب، إنما بوصفها حاملًا لمختلف هذه التجليات الثقافية في ظرفيها كحيّزٍ حاملٍ، وكمصدرٍ منتجٍ لهذه المفاهيم. ولا نفارق هذه النقطة إلا بعد أن نوضح أن تجليات الثقافة في المجتمع الشرق أوسطي أكثر ما تبين في تعدّد معانيها، تبعاً لتعدّد مآخذ مصطلحاتها التي تعبر عن واقع حالٍ ثقافيٍّ متنوعٍ.

 فالمصطلح (إنسان)، يأتي بعده مصطلحٌ ثانٍ متخارجٌ عنه يسمى (الناس) ثم مصطلحٌ تالٍ لذلك ويسمى (البريّة) ثم مصطلحٌ رابعٌ يسمى (البشر)، فنرى في ذلك التعدد أنه يأتي لا من باب غنى التنوع اللفظي وحسب، بل من مفاصلةٍ ثقافيةٍ بعينها لبنية تطور الإنسان، بحيث يأخذ كل مصطلحٍ من هذه المصطلحات حقه في تبيين مفاصلةٍ واضحةٍ ما بين الإنسان، كبعدٍ أوّليٍّ وخامٍ، والناس كوجود تالٍ يختلف من حيث بنيتهم التكوينية التاريخية، ثم البريّة كأناسٍ يعدون إعداداً خاصاً، ثم أخيراً البشر كبنيةٍ أكثر تطوراً لا يرتفق إليها الإنسان إلا بعد مروره على مرحلة (الاُناسة) ومرحلة (البريّة).

وما لا شك فيه هو أنّ هنالك حكماً كبيراً للغة والثقافة العربيتين، ترتفق إليه هاتان الصيغتان، فلا يفارقهما إلا وقد أحكم ووضب ما استحكم فيه منهما. هذا الحكم هو القرآن الكريم ذلك الذي هو حكمٌ عربيٌ زيادةً على أنّه معجمٌ للمصطلح العربي معنىً ومفهوماً. فإذا قايسنا على هذا الحكم مصطلحاتنا الأربعة التي ذكرناها آنفاً لاستأنسنا بسلم التطور التاريخي الذي يبني عليه القرآن الكريم مصطلح الإنسان، والذي هو عنده مذمومٌ بحسب أوليته، وما يتمثل في هذه الأولوية من قيمةٍ يأخذها من ماضي حياته كحيوانٍ إلى مستقبلها التي تتصل بالاُناسة ثم البرية ثم بالبشر، فالإنسانيّة محكومٌ عليها قرآنياً بوصفها حالةً تتراوح ما بين الحيوانية والبشرية، لذلك هو دائما مذمومٌ بحسب حمله بالشق الحيواني، فانظر لقوله جلّ وعلا: ( قُتل الإنسانُ ما أكفرَه)[10] أو قوله: (انَّ الإنسان لربِّه لكنود)[11] أو قوله: (إنَّ الإنسانَ لفي خُسر)[12].

وهذا يختلف من مقام الأناسة الأرفع، انظر إلى قوله تعإلىعلى لسان ابن مريم عليه السلام: (أأنتَ قُلت للناسِ اتخذوني وأمِّيَ إلهينِ من دونِ الله )[13] أو قوله جلّ وعلا: (وأذِّن في الناسِ بالحجِّ يأتوك رجالًا وعلى كلِّ ضامرٍ...) [14]. فحيث يتضح أمامنا أن الناس هم أرقى في سلّم التطور التاريخي من الإنسان، إذ إنّهم على أقلّه يفرقون ما بين الحق والباطل. ثم انظر إلى قوله جلّ وعلا: (إن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شرّ البريّة)[15] وقوله كذلك: (انَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة)[16] فانقسم الناس حينها في هذه المرحلة بين المؤمنين والكافرين.

 ثم انظر لقوله جلّ وعلا: ( ماكانَ لبشرٍ أن يؤتيَه الله الكتابَ والحكمَ والنبوَّة ثم يقولَ للناسِ كونُوا عبادًا لي من دُون الله...)[17]، أو قوله تعالى: ( قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحَى إليَّ أنما إلهُكم إلهٌ واحدٌ...)[18]. ثم نتبيّن أن البشر هم في قمة هذا التصنيف بامتلاكهم للكتاب والحكم وارتفاقهم بخاصية الأنبياء من الوحي. ونستأنس بهذا الحكم القرآني فيدلنا إلى تصنيف هذه المصطلحية في الثقافة العربية إلى ترتيب متسامٍ للتطور الإنساني الأناسي البشري.

 نحمل هذه الملاحظة التي استأنسنا بها في اللغة والثقافة العربيتين، فنضعها في موقف مقارنةٍ مع مقومات الاجتماع الأوروبي، فنلاحظ أنّ خلو الثاني عن الثقافة يحمل هذه المقارنة إلى تقرير خلوّ اللغة الأوروبيَّة من مثل هذا الارتفاق في بنية إنسانها. فالإنسان كقيمةٍ أوليّةٍ في اللغة والثقافة العربية يقابله لفظ (human been).

في حين تخلو تمامًا اللغات الأوروبيَّة لما يقابل المصطلح (الناس) أو مصطلح (البرية) أو مصطلح (البشر). ولا يسعفنا مصطلحٌ أوروبيٌّ آخر هو (people) الذي يقابله مصطلح (شعب) ولا المصطلح الآخر (public) الذي يقابل مصطلح (جمهور). وهذان المصطلحان الأوروبيان لا يمتان بصلةٍ إلى التكوينات الثقافية بقدر ما يمتان إلى صيغة التمدين والتحضر اللاحقتين لنشوء المجتمع غير المتداخلتين مع تكوينه الأولي.

عندما نعود مرة أخرى إلى بنية الثقافات المفارقة تماماً لأُسِّ التمركز الحضاري، نلاحظ أن مصطلحات (برية)،(بشر)،(الناس) التي هي بلا مقابل في اللغات الأوروبيَّة، فذلك يحمل مميزاتٍ ثقافيّةً تفتقدها اللغات الأوروبيَّة تماماً ثم المآلات المستقبلية للإنسان الأوروبي.

 ومثلٌ آخرُ للتمايز الثقافي العربي: نُلاحظ وجود فروقاتٍ في بنية التطور العشائري القبلي لقبائل (البقّارة) في السودان كتكويناتٍ قبليةٍ تعمل في رعي الماشية. نأخذ ذلك كمقارنةٍ لظاهرة (الكاوبوي) في أميركا الشمالية الذي يعمل هو نفسه في رعي الماشية. فالفرق ما بين البنيتين فرقٌ ظاهرٌ ما بين بنى التعاضد الثقافي المجتمعي وبين استفحال ظاهرة التفرد المصاحب للعنف والسطوة والسيطرة والتحكم الظاهر في بنية ( الكاوبوي).

نتائج تأويل ظاهراتية بنية الاجتماع الأوروبي ومآلات الثورة الرقمية

و الحال هذه فلا بد أن تكون بنية الاجتماع الأوروبي مصفوفةً خلف السمات العامة للشخصية الأوروبيَّة  التي تميل إلى التفرد وحب السيطرة والتحكم، لذا فقد كانت أبسط  مظاهر الشخصية هو تحقيق أكبر قدر من الفاعلية التي تنعجم فيها الشخصانية لتتحول تأويلاً إلى سماتٍ اجتماعيةٍ، فتصير الفاعلية الاجتماعية هي الميزة التي تصاحب الاجتماع الذي بالتإلىيهمه همّاً مباشراً اصطفافه الحضاري. ولما كان الثقافي يميل أفراده في جانب إنتاجهم المادي لتلبية حاجاتهم المجتمعية، فإن فاعليتهم تصبح متقيدةً بقيودٍ ثقافيةٍ ثقيلةٍ حتى لا يصير هنالك فائض إنتاجٍ يزيد عن حاجة تلك المجتمعات. لذا فقد كان إنتاج تلك المجتمعات ذات البنية الثقافية هو إنتاج كفاية، في حين أنّ إنتاج المجتمعات ذات التمركز الحضاري يتصل بالتجارة التي تتصل بتنمية رأس المال الذي بدوره يتصل اتصالاً مباشراً بفائض الإنتاج، ولو مايزنا بنظرةٍ تأويليّةٍ ما بين بنية المجتمع ذي الأصول الثقافية وما بين بنية الاجتماع ذي التمركز الحضاري لرأينا كل السمات التي تتصل بالفئة الأولى هي سمات كفاية وضروريات، في حين أنّها في الحالة الثانية سماتُ إنتاجٍ وتراكمٍ واحتكارٍ...إلخ.

لذا فقد صارت مآخذ الاجتماع الأوروبي وكافة مناولاته هي مناولاتٌ تتأرجح ما بين الفائدة المادية المباشرة والمصالح ذات السمات التجارية، فالعالم كلّه إما سوقٌ لتصريف إنتاج العالم الأول أو موردُ خامات للصناعة للعالم نفسه، وتلك المنظومة التي تصبغ بصبغتها كل المناولات الاجتماعية حتى العلم، بصفته يرتبط بالتجريب البشري ويصير إنتاجاً لا يصلح إلا باستخدامه في رفع وتيرة المناولات التجارية المختلفة. فإذا كان العلم نفسه قد وضع كمثالٍ ما بين الفئتين الثقافية والحضارية، فإن اتصاله ببنية الثقافة قد يحصره في مجال إنتاج المفاهيم، إذ تتحقق به الكفاية التي تنتجه بها هذه الفئة، أما عند الثانية فلا بد له أن يصير سلعةً، فتكون تطبيقيته هي جواز مروره وصلاحيته حتى يصير إلى إنتاجٍ ذي مردودٍ تجاريٍّ واضحٍ. وقد يبدو أن الخلل المنهجي  قد يتصل بالفصيلتين، لكن اتصاله  بالفصيلة الأولى لا يلقي عليه بظلالٍ كثيفةٍ إلا فقط عبر جهل الفصيلة الأولى به. أما الخلل المنهجي في الفصيلة الثانية ذات التمركز الحضاري فهو خللٌ مركبٌ وذلك لاتصاله بالتجارة التي تجعله ممعناً في الذاتية وبعيداً عن الموضوعية على عكس الفئة الأولى.

وإذا خرجنا من هذه النظرة التأويلية لاستنتاج مفهومٍ عام، فإننا نلاحظ أن الداء الأوروبي القديم  -بإحلال الذاتية بدلًا عن الموضوعية- لا يختص فقط بالعلم، بل صار هو نفسه قيمةً ظاهراتيةً تتصل بالبنية التكوينية للمجتمع الأوروبي. فقد قام العالم الأول كدأبه في تحويل كل ما تمسه يده إلى قيمةٍ تجاريةٍ باستئصال كثير من السمات الثقافية التي تتسم بها المجتمعات التي دانت لسطيرة، ما كان يؤخذ به كتنوّعٍ يميز إنسان هذا العالم، كالأزياء مثلاً ذات القيمة الثقافية الظاهرة التي كان تتصف بها أي فئةٍ من فئات المجتمعات الإنسانيَّة كسمةٍ تميزها بها. إلا أنه بدخول الصناعة تتحول الأزياء إلى نمطٍ واحدٍ تفرزه اتجاهاتٌ تعتمد على القيمة التسويقية، أي التجارية، حتى تم تهديد سمات التنوع الثقافي للأزياء في عالمنا المعاصر التي أصبحت مهددةً بالتحول إلى نمطٍ أُحادي الجانب.

ويمكننا أن نأخذ كنتائج شبيهة لذلك، أن محصلة المناولات الأوروبيَّة لعالمنا المعاصر كلها ترمسها أوروبا في حوض مميزات اجتماعها وهو في غالبه حوضٌ آسِنٌ بفعل المصالح الذاتية، فالتقاليد الثقافية والعلوم إذا أُخذت كمناولاتٍ أوروبيةٍ، فهي تُرى في مجموعها حاملةً لجرثومة الخاص الأوروبي، فإذا كان الحال كذلك بما يميز مميزات المناولات الأوروبيَّة فلا بد أن نرى ما سيحل بالثورة الرقمية الحالية من مصير. أيكون مصير الثورة الرقمية هو مصير الثورة الصناعية نفسه التي انتظمت العالم الأول، عالم الرأسمالية الأوروبية؟ ويمكن أن تكون الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على الإجابة عن سؤالٍ آخرَ: أتمتلك الثورة الرقمية -إذا ما كان التحكم عليها يتم بواسطة المنظومة الأوروبيَّة- ما يمكّنها من التخارج من إشكاليات ذاتيات التمركز الحضاري الأوروبي للعالم الأول؟!

وقد يكون من يجيب بداهةً أن الثورة الرقمية في ذاتها بدأت عبر مركزة وسائل الاتصال الرقمي، وذلك بابٌ أوليٌّ للسيطرة والتحكم. هنا يبرز سؤالٌ آخر أكثر أهمية: أتتيح الثورة الرقمية ما يؤدي إلى تأكيد وتأييد سمات الذاتية الأوروبية؟! أي هل تُمكّن الثورة الرقمية لسيطرة العالم الأول على العالمين الثاني والثالث أن تكون أكثر مضاءً وفاعلية؟!

وقد لا أستطيع أن أجيب بلا، ذلك أن التطبع في واقع الحال لا يسبق الطابع الأصيل بقدر ما ينصبغ بصبغته. مع ذلك فإن الإجابة بنعم قد تطل برأسها من بين براثن السيطرة والتحكم، إذ إن المجتمع قد يكون حيّاً يطالب الاجتماع الأوروبي بالالتفات إلى مصرعه، إذ إن المجتمع الأوروبي الذي وقع صريعاً بعد طحن الثقافة  تحت براثن مخالب السيطرة والتحكم للمركز الحضاري فإن بقايا روحٍ تطلّ منه، تقول كما تقول الثورة الفرنسية وكومونة باريس لطبقة النبلاء الأوروبيين المتحكمة والمتسيطرة:" لقد طعنتم المجتمع طعنةً نجلاء وألقيتموه صريعًا يغالب الموت بعد أن انتزعتم روحه الثقافية فحولتموه إلى اجتماعٍ ذي تمركزٍ حضاريٍّ". واليوم قد يُرى في إطلالة "ظاهرة السترات الصفراء" بقايا حياةٍ لمجتمعٍ لم يتم دفنه بالكامل بل هو يعيش فقط في غيبوبة. عليه فهذه الدراسة الصغيرة تقترح أن المجتمع صريعٌ في أوروبا، بحكم النخبة المسيطرة منذ أثينا وروما إلى دولة الاستعمار والإمبريالية الرأسمالية الأوروبيَّة الحالية، وتقترح أيضًا هذه الدراسة أنه ربما تكون هنالك فرصة مواتية للمجتمع في أوروبا أن ينهض، فيزيل قيود الدولة وقيود الاجتماع الأوروبي، فيتحرر منها، وبالتالي قد يتحرر العالم من منظومة السيطرة والتحكم للعالم الأول، وربما تكون الثورة الرقمية بما تعطيه لآفاق سيطرةٍ غير مباشرةٍ إلى انحلال قيود سيطرة وتحكم العالم الأول.

و يمكن أن يُرى أيضًا  في العالم الأول ثورة لا يمكن أن نسميها غير ثورة المجتمع على الدولة المتحكمة  في مقدراته والتي لم يفهم عالمنا الثاني والثالث إلى الآن أنها دولةٌ وُضعت عليه بفعل فاعل. وما يجدر ملاحظته هو أن من وسائط اتصال ثورة المجتمع الحالية في العالمين الثاني والثالث والتي ما نسمي جزءًا منها بالربيع العربي أنها تستعمل أجهزة اتصالٍ رقميّةٍ كآليّة نشرٍ لأدب هذه الثورة وموجهاتها فتستعمل على ما قُصر به التحكم والسيطرة عليها كآلية لفضّ موجبات التحكم والسيطرة هذه.

خلاصة الأمر هي أن مستقبل الثورة الرقمية في أوروبا على الرغم من أنه في غالبه مستقبلٌ قاتمٌ إلا أنه مستقبلٌ قد ينبعث من قتامته هذه ضوءٌ خافتٌ بعيدٌ لموجبات كسر أغلال سيطرة التحكم الحضاري عن عالمنا المعاصر.


----------------------------------------
[1]*ـ   مفكرٌ وأستاذٌ في الفلسفة الإسلاميّة - السودان
[2]- أندريه لالاند، معجم تقنيات ونقد الفسفة، الجمعية الفلسفية الفرنسية،23\5\1901.
[3]- عمر الأمين أحمد، العلم والمعرفة والعقل: مقاربات نقدية ومفاهيمية، فرح غرافيك، الخرطوم 2013.
[4]- استعارة من التنزيل الحكيم
[5]- عمر الأمين  أحمد، مرجع سابق
[6]- فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير. ص151.
[7]- منتصر الطيب (بروفيسور)، التاريخ الوراثي للسودان والساحل وما جاورهما، إصدارات: مركز الأمة للبحوث والدراسات، الخرطوم، 2018، ص15.
[8]- The encyclopaedia prittanica , the Greek mythology,2002.
[9]- فرانسيس فوكوياما، مرجع سابق. ص151.
[10]- 17، عبس.
[11]- 6، العاديات.
[12]- 2 العصر.
[13]- 116، المائدة.
[14]- 27، الحج.
[15]- 6، البيّنة.
[16]- 7، البيّنة.
[17]-  79، آل عمران.
[18]- 110، الكهف.