البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفهوم التقنية ، دلالة المصطلح، ومعانيه، وطرق استخدامه

الباحث :  خضر إ. حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  4573
تحميل  ( 415.580 KB )
يضيء هذا البحث على مصطلح التقنية في معانيه ودلالاته اللغوية والاصطلاحية، وكذلك على طرق استعماله في الأدبيات العلمية والثقافية الحديثة. كما يتناول الباحث في هذا المجال أبرز المفاهيم والمصطلحات الفرعية ذات الصلة مثل التكنولوجيا والتطور والتقدم والعلوم التجريبية، هذا بالإضافة إلى التقنيات التي شهدتها التجربة الإنسانية الحديثة، وخصوصاً تلك التي تتعلق بتقنيات النانو والميديا والاستنساخ وسواها.

المحرر

-----------------------------------
معنى المصطلح ودلالته
التقنية أو كما تعرف بـ( Technology) هي كلمةٌ إنجليزيّةٌ مشتقّةٌ من( techno) و (logia) حيث تعني (techno) الفن و الحرفة، وتعني (- logia ) الدراسة و العلم. أما على الصعيد الاصطلاحي فإنّها تعني التطبيقات العلمية للعلم والمعرفة في جميع المجالات التي يعيشها المجتمع الحديث في الغرب. وبعباراتٍ أخرى تدل التكنولوجيا على الطرق التي يستخدمها الناس في اختراعاتهم واكتشافاتهم لتلبية حاجاتهم وإشباع رغباتهم. فقد كان لزامًا على البشر منذ أزمنةٍ بعيدةٍ جدًا أن يكدحوا ليحصلوا على المأكل والملبس والمأوى. ولقد قام الإنسان عبر العصور باختراع الأدوات والآلات والمواد، والأساليب لكي يجعل العمل أكثر يُسرًا. كما اكتشف أيضًا الطاقة المائيّة والكهرباء وغير ذلك من مصادر الطاقة التي زادت من معدّل العمل الذي يقوم بإنجازه. وبناءً على هذا التعريف العام تشمل التقنية أيضاً، استخدام الأدوات والآلات والمواد والأساليب ومصادر الطاقة لكي تجعل العمل ميسورًا وأكثر إنتاجيّةً. وتعتمد الاتصالات الحديثة، ومعالجة البيانات على التقنية، وخاصة تقنية الإلكترونيات. إلى ذلك يستخدم المصطلح أحيانًا لوصف استخدامٍ معيّنٍ للتّقنيات الصناعية الطبّيَّة العسكرية إلخ. وتهدف كلّ واحدةٍ من التقنيات المتخصصة إلى أهدافٍ محدّدةٍ وتطبيقاتٍ بعينها، كما أن لها أدواتها ووسائلها لتحقيق هذه الأهداف. وتُعَدُّ مهنة الهندسة مسؤولةً عن الكثير من التقنيات الصناعية الحديثة[2].

 علاقة التقنية بالعلم

يلاحظ المختصون أن ثمة خلطاً كبيراً بين كلٍّ من العلم والتقنية. وفي هذا المضمار يقول هؤلاء أنّ هاتين المفردتين بالإضافة إلى جميع المصطلحات أو المفردات المتفرعة عنهما تحمل صفة الترادف. أي أنّها تدل على المعاني نفسها. إلا أنّ الحقيقة تختلف عن ذلك تماماً، فضلاً عن أن هذه الاعتقادات تندرج تحت قائمة اللُبس والخطأ التي يجب تصويبها وتقويمها. فعلى سبيل المثال يشكل العلم ميداناً معيناً، بينما تشكل التقنية ميداناً آخرَ تماماً، وإنّ أيّ التقاءٍ بينهما يجعل من العلاقة تكامليّةً وترابطيّةً ويمكننا وصفها أيضاً بالعلاقة التبادلية، ولا يمكننا الحديث عن هذه المفردات تحت مسمّى التشابه أبداً.

في ما يلي سنسلط الضوء على المعنى الدقيق لكلٍّ منهما، وكذلك على أبرز الفروقات التي تميّزهما الواحد عن الآخر:

أولاً العلم: يُعبّر مصطلح العلم بمفهومه العام عن المنهج الضخم الذي يضمّ مجموعة المعارف، والأفكار، والمهارات، والمعلومات النظرية غير التطبيقية، التي اكتشفها العقل البشريّ عن طريق الملاحظة والتجربة والشعور، والتي ما زال يكتشفها بشكلٍ مخطّطٍ ومقصودٍ أو غير مقصودٍ، ويسعى إلى تطويرها وتنميتها مع الوقت. ويضمّ هذا المصطلح كافّة الحقائق التي عرفها الناس حتى اليوم في مختلف المجالات النظرية سواءً الاقتصاديّة، أو الاجتماعيّة، أو الثقافيّة، أو الإنسانيّة، أو الطبيعيّة، أو التاريخيّة أو غيرها، ويمثل العلم أحد أهمّ الركائز التي يقوم عليها تقدم المجتمعات وتطوّرها، وتحقيق العيش الكريم لكافة البشر.

ثانياً التقنية: تمثل التقنية الجانب التطبيقيّ من العلم، أي إنّها عبارةٌ عن ذلك النشاط الذي يُترجم من خلاله العلم على أرض الواقع. وهي تترجم آخر ما توصّل إليه العقل البشري من الأدوات والطرق التكنولوجية الحديثة والمتطوّرة التي من شأنها أن تسهّل الحياة على البشر في مختلف المجالات، والتي تهدف بشكلٍ رئيسيٍّ إلى اختصار الوقت والجهد، وجعل الحياة أقلّ تعقيداً. كما تساهم هذه الطرق في تضييق المسافات التي تفصل بين العوالم حيث تجعل العالم قريةً صغيرةً يستطيع الإنسان من خلال التقنيات الحديثة الوصول إلى كل ما يريد بأسهل السُبل وأقلهّا حاجة للجهد البدني والعقلي. وعليه يختلف العلم عن التقنية، من جهة أنّ العلم نظريٌّ بينما التقنية تطبيقيّةٌ، كما أنّ العلم يتمّ بالملاحظة، والتعلمّ، والحفظ، والفهم بشكل قد يكون مقصوداً أو غير مقصودٍ، بينما التقنية تحتاج إلى تدريبٍ وتأهيلٍ مسبقٍ للتمكّن من التعامل معها، ويشترك كلّ منهما في أنّهما يخدمان البشرية بشكلٍ كبيرٍ، وأنّهما أداةٌ حتميةٌ لمستقبلٍ وحياةٍ أفضل[3].

«التقانة» في التعريف والاستعمال

هناك كلمةٌ رديفةٌ للتقنية وهي «التقانة». وغالباً ما تستعمل في المجال العام تبعاً للثقافات العالمية المتعددة. لكن لا تختلف مفردة التقانة عن مفردة التقنية من حيث المحتوى والمضمون. إلا أن دلالتها توسعت في الاستعمال المعجمي العربي. فالتِّقانَة هي التعريب الذي اقترحه مجمع اللغة العربية بدمشق ثم اعتمدته جامعة الدول العربية. وهي كلمةٌ شائعةٌ أيضاً بلفظ التكنولوجيا[4]. وقد عُرّفت كلمة التقانة بعددٍ من التعريفات، اخترنا من بينها ما يلي:

أ - التقانة هي: «تطبيق المعرفة على الأشياء ذات الأغراض الصالحة، وتعبر عن قدرتنا على تسخير مصادرنا لمنفعة الإنسانية. لذا فالتقانة هي تعني إيجاد طرقٍ أفضل وجديدة لحل المشكلات وسد الاحتياجات».

ب - التقانة: هي: «استخدام المعارف والمهارات والمفاهيم بطريقةٍ إبداعيّةٍ لتصميم وصناعة منتجاتٍ ذاتٍ مستوًى جيدٍ».

ج - التقانة هي: «استخدام المعارف والمهارات والآلات لزيادة قدرة الإنسان على التحكم في إمكانات بيئته والاستفادة منها، ولجعل عمل الإنسان أسهلَ وأكثرَ إنتاجيةً».

د - التقانة هي: الوسائل الفنية التي يستخدمها الناس لتحسين محيطهم. كما أنها معرفة استخدام الأدوات والآلات لإنجاز المهمة بكفاءةٍ. ونحن نستخدم التكنولوجيا للتحكم في العالم الذي نعيشه. والتقنيون أناسٌ يستخدمون المعرفة، الأدوات، والنظم لجعل حياتهم أفضلَ وأكثرَ سهولةً. فالناس يستخدمون التكنولوجيا (التقنية) لتحسين مقدرتهم للقيام بالعمل. فمن خلال التقنية يتحسن الاتصال بين الناس، ويزداد الإنتاج وتتحسن نوعيته، وتكون مبانينا أفضل حالًا باستخدام التقنية. كما أننا نسافر براحةٍ أكبر وأسرع نتيجةً للتقنية. فالتقنية في كل مكان وبإمكانها توفير حياةٍ أفضل. كما يتضمن هذا التعريف المسهب جميع أنواع التقانة بما في ذلك الفيتامينات، والتقنية المساعدة والتقنية المتكيفة.

بالنظر إلى هذه التعريفات الأربع -وغيرها كثير– يمكن صياغة بيانٍ واضحٍ نسبياً حول مفهوم التقانة. فالتعريفات السابقة تشير في جزءٍ مهمٍّ منها إلى: استخدام المعارف والمهارات والمفاهيم والأدوات والآلات لغرض عمل وفعل الأشياء لإنجاز المهمة بكفاءةٍ. أما الآلة فهي: عمل وفعل الأشياء لإنجاز المهمة بكفاءة، ولعل هذا هو ما نطمح إليه من التعليم الفني والتدريب المهني[5].

في أواسط القرن العشرين حققت التقانة إنتصاراً هاماً بقدرتها على استكشاف الفضاء. والتقانة تعرف اصطلاحاً بأنّها كل ما قام الإنسان بعمله، وكل التغييرات التي أدخلها على الأشياء الموجودة في الطبيعة، والأدوات التي صنعها لمساعدته في أعماله. في تلك الحقبة جرى تعريف التقانة بطريقتين: من ناحيةٍ هي تدل على «السعي وراء الحياة بطرقٍ مختلفةٍ عن الحياة»، ومن ناحيةٍ أخرى هي «مادة لا عضوية منظمة». يشهد هذا العصر تطوراً هائلاً وسريعاً في التكنولوجيا من حيث الجوالات وتطور أجهزة الحاسب الآلي، وشتى الطرق والتقنيات، حيث إنّها تقنياتٌ جذابةٌ وميسورةٌ لأغلب الناس، لكنها في الوقت نفسه مضرةٌ، فالتعرض الطويل لإشعاعات الحاسوب أو الجوال يؤدي إلى حدوث الإصابة بأمراضٍ سرطانيّةٍ بسبب كثرة الاستخدام أو الإفراط في سوء استخدامها استخداماً صحيحاً. فضلاً عن هذا فإنّه يمكن تعريف التقانة أو التكنولوجيا بشكلٍ أوسع باعتبارها الأشياء الموجودة بنوعيها، المادية واللّامادية، والتي تم تخليقها بتطبيق الجهود المادية والفيزيائية للحصول على قيمةٍ ما. وفي هذا السياق، تشير التقانة إلى المعدات والآلات التي يمكن استعمالها لحل المشاكل الحقيقية في العالم.

إلى جانب التعريفات المتنوعة، يصنّف الخبراء دلالات هذا المصطلح بحسب أنواعه وخصائصه:

أولاً: أنواع التقانة

جرت العادة على تقسيم التقانة إلى ثلاثة أنواعٍ رئيسيةٍ وهي:

 أ- تقانة موفرة لرأس المال، وهي من الأفضل استخدامها في الدول النامية.

ب- تقانة موفِّرة للعمل، وهي من الأفضل استخدامها في الدول المتقدمة.

ج- تقانة محايدة، وهي التي تزيد رأس المال والعمل بنسبةٍ واحدةٍ.

من هذا استنتجنا أن الهدف من التطور التقاني هو: نتيجة الحاجة المستمرة للرفع من إمكانيات المنتوج والاستجابة لرغبات الزبون[6].

ثانياً: خصائص التقانة

التقانة علمٌ مستقلٌّ له أصوله وأهدافه ونظرياته.

التقانة علمٌ تطبيقيٌّ يسعى لتطبيق المعرفة.

التقانة عمليةٌ تمس حياة الناس.

التقانة عمليةٌ تشتمل مدخلاتٍ وعملياتٍ ومخرجاتٍ.

التقانة عمليةٌ شاملةٌ لجميع العمليات الخاصة بالتصميم والتطوير والإدارة.

التقانة عمليةٌ ديناميكيّةٌ أي إنّها حالةٌ من التفاعل النشط المستمر بين المكونات.

التقانة عمليّة نظاميّةٌ تعنى بالمنظومات ومخرجاتها وهي نظمٌ كاملةٌ أي إنها نظامٌ من نظامٍ.

التقانة هادفةٌ تهدف للوصول إلى حلّ المشكلات.

التقانة متطورةٌ ذاتيًا تستمر دائمًا في عمليات المراجعة والتعديل والتحسين[7].

ثالثاً: التقانة أو التقنية كأسلوب حياة

تعتبر التقانة أو التقنية مهمّةً كونها تُستخدم بجميع مجالات الحياة خاصةً العملية، فعندما نتأمل روتين حياتنا اليومية ونحاول أن نحصي أدوات التقنية، عندها سندرك أهميّة التقنية في حياتنا، مثل: استخدامنا للسيارات، والحاسوب، والإنترنت، والتلفون، والتلفاز، والآلات الكهربائية وغيرها الكثير. يمكن تعريف التقنية على أنّها كلّ ما يقوم به الإنسان من تغييراتٍ أو تعديلاتٍ أضافها إلى الأشياء المتواجدة في الطبيعة، بالإضافة للأدوات بمختلف أنواعها والتي قام بصناعتها لتسهيل الأعمال التي يقوم بها، حيث إنّ التقنية تشمل مناحيَ كثيرةً في الحياة مثل: الغذاء، والدواء، والسكن، واللباس، والاتصالات، والمواصلات، والرياضة، والعلم وغيرها الكثير. استعمالات التقنية تستخدم التقنية في مجالات حياتنا بشكلٍ كبيرٍ، وهي: تقنية الاتصالات: تتضمن هذه التقنية تسهيل التخاطب والتواصل الإنساني مثل: الاتصالات المرئية، والهواتف الخلوية، وأجهزة النداء الآلي. التقنية المنزلية: وتشمل جميع النشاطات المنزلية، مثل: الأغذية المجمدة والمجففة، والمايكرويف، والآلات الكهربائية الخاصة بالمنازل. تقنية المعلومات: وتتضمن هذه التقنية جميع التطبيقات التي تعتمد على الحاسوب، مثل: البريد الإلكتروني، والإنترنت، والحواسيب المنزلية والمحمولة، وآلات المسح الرقمي، وأدوات التصوير. تقنية الترفيه والإعلام: وتشمل كل مجالات الترفيه التي تظهر بإطارٍ رقميٍّ، مثل: الستلايت، والتلفاز، والمنشورات على الإنترنت، وأجهزة الراديو، وألعاب الفيديو. التقنية الطبية: وتتضمن جميع الأدوات، والأبحاث، والدراسات الطبية من أجل حل مشاكل جسم الإنسان والحيوان الناتجة عن الأمراض والإصابات، مثل: الأعضاء الاصطناعية، واللقاحات، وضابط النبض وغيرها. تقنية التربية: وهي التي تتضمن تطبيق مبادئ علميّةٍ من أجل تسهيل وتبسيط التعلم والتعليم.

 أنواع التقنية: تقنية لتوفير رأس المال، وغالباً ما يتم استخدامها في الدول النامية. تقنية لتوفير العمل: وغالباً ما يتم استخدامها في الدول المتقدمة. تقنية محايدة: والتي تعمل على زيادّة رأس المال والعمل.

خصائص التقنية: تعتبر علماً مستقلاً بأصوله ونظرياته وأهدافه. تُعدّ علماً تطبيقياً يهدف لتطبيق المعرفة. تخص حياة الإنسان. متكاملة أي تتضمن مدخلات وعمليات ومخرجات. شاملة لجميع عمليات التطوير والتصميم والإدارة. نظامية أي تُعنى بالمنظومات ومخرجاتها. هادفة من أجل حل المشاكل. مستمرة ومتطورة. مُستلزمات التطور التقني التقدم في العلوم الفيزيائية. يجب توفر علماء ومختصين على قدر المسؤولية. يجب توفّر الخيال العلمي. الحاجة الملحة وكما يقول المثل «الحاجة أم الاختراع». أهداف التقنية تنمية الابتكار في تحليل ودراسة المشاكل وإيجاد الحلول المناسبة. إضفاء المتعة والبهجة على الحياة العملية والعلمية. تطبيق قواعد السلامة العامة. ترشيد استعمال الموارد المتاحة في الطبيعة من أجل حل المشكلات باستعمال المواد الخام غير المستغلة. الحد من الأخطار الطارئة[8].

رابعاً: التقنية الحديثة ومخاطرها

في العام 2000 احتدم نقاشٌ حادٌّ داخل المجتمع العلمي. كتب بيل جوي، أحد مؤسسي سن كومبيوترز، مقالاً محرّضا دان فيه التهديد المميت الذي نواجهه من التقنية المتقدمة. في مقالٍ له في مجلة «وايرد» (Wired) بعنوانٍ مستفزٍّ، «المستقبل لا يحتاج إلينا»، كتب ما يلي: «إنّ أقوى تقنياتنا في القرن الحادي والعشرين –الإنسالية، والهندسة الجينية والتقنية النانوية– تهدد بجعلنا صنفاً مهدداً بالفناء». شكك ذلك المقال المثير في أخلاقية مئات العلماء المجتهدين الذين يعملون في مختبراتهم على مواضيعَ متقدمةٍ في العالم. تحدّى المقال فحوى بحوثهم نفسها، ذاكراً أن مزايا هذه التقنيات تتضاءل كلّها أمام التهديدات الهائلة التي تفرضها على  البشر[9].

لقد وصف جوي واقعاً مراً عندما رأى أن التقنية الحديثة سوف تؤدي إلى تحطيم الحضارة. وحذّر من أن تنقلب ثلاثة من ابتكاراتها ضد البشر:

أولاً: ربما تهرب الجراثيم المهندسة بيولوجيًّا يوماً ما من المختبر وتدمر العالم. بما أنك لا تستطيع إعادة احتواء أنواع الحياة تلك، فربما تنتشر على نطاقٍ واسعٍ، وتطلق أوبئةً مميتةً أسوأ من تلك التي ظهرت في العصور الوسطى. ربما تغير التقنية البيولوجية التطور البشري، خالقة «عدة أصنافٍ غير متساويةٍ ومنفصلةٍ من البشر... ما يهدد مبدأ المساواة التي هي حجر الأساس في نظامنا الديموقراطي».

ثانياً: ربما تتحول «الإنساليات النانوية» إلى وحوشٍ مستعرةٍ يوماً ما، وتبذر كميات غير محدودةٍ من «مادةٍ رماديةٍ لاصقةٍ» تغطي الأرض، وتقتل أشكال الحياة كلها. بما أن هذه «الإنساليات النانوية» «تهضم» مواد عادية، وتخلق أنواعاً جديدةً من المادة، فقد تعمل بشكلٍ سيئٍ وتصبح مسعورةً وتلتهم معظم الأرض. كتب يقول: «بالتأكيد ستكون المادة الرمادية نهايةً كئيبةً للمغامرة البشرية على الأرض، أسوأ بكثير من النار أو الجليد، والتي يمكن أن تنجم عن حادثةٍ مخبريةٍ بسيطةٍ...»[10].

ثالثاً: ربما ستهيمن الإنساليات يوما ما على الأرض وتحل محل البشرية. ستصبح ذكيةً جدًّا بحيث تنحّي البشرية ببساطةٍ جانباً. سنترك كملاحظةٍ هامشيّةٍ على عملية التطور. كتب يقول: «لن تكون الإنساليات بأيّ معنًى على الإطلاق أطفالنا... على هذا المنحى، ربما ستضيع البشرية».

ادّعى جوي أنّ الأخطار التي تطلقها هذه التقنيات الثلاث جعلت أخطار القنبلة النوويّة في الأربعينيات تبدو ضئيلةً بالمقارنة. في ذلك الوقت، حذّر آينشتاين من قدرة التقنية النووية على تحطيم الحضارة وكان يقول: لقد «أصبح من الواضح أن تقنيتنا تجاوزت إنسانيتنا». لكن القنبلة الذرية بُنيت بواسطة برنامجٍ حكوميٍّ ضخمٍ خاضعٍ للتنظيم الصارم، بينما تطور التقنيات الحالية يتمّ من قبل شركاتٍ خاصةٍ، بتنظيمٍ محدودٍ، أو من دون تنظيمٍ على الإطلاق. ثم يخلص إلى التأكيد بأن هذه التقنيات قد تخفف بعض معاناة البشر على الأمد القصير. لكن على الأمد الطويل، سوف تنقلب المعاجلة لأن هذه التقنيات ستطلق ابتكاراتٍ علميّةً ربما تهدد الجنس  البشري[11].

حسب بعض العلماء فقد كان لهذا النقاش تأثيرٌ مباشرٌ في مستقبل الدماغ. في الوقت الحاضر ما زال علم الأعصاب بدائيًّا. يمكن للعلماء أن يقرأوا ويصوروا أفكاراً بسيطةً من الدماغ الحي، ويسجلوا بعض الذكريات، ويصلوا الدماغ بأذرعٍ ميكانيكيّةٍ، ويمكّنوا المرضى المقعدين من التحكم في آلاتٍ حولهم، ويسكتوا مناطقَ معينةً من الدماغ بالمغناطيسية، ويحددوا مناطق الدماغ التي يصيبها الخلل في الأمراض العقلية.

مع ذلك، ربما تصبح قوة علم الأعصاب في العقود القادمة كبيرةً جدا. فالبحث العلمي الحالي على أعتاب اكتشافاتٍ علميةٍ جديدةٍ من المحتمل أن تذهلنا. قد نتمكن في يومٍ ما من التحكم في الأشياء حولنا بشكلٍ روتينيٍّ بقوة العقل، وأن نحمّل ذكريات على العقل، وأن نعالج أمراضاً عقليّةً، وأن نطور ذكاءنا، وأن نفهم الدماغ عصبوناً عصبوناً، وأن نخلق نسخاً احتياطيّةً للدماغ، وأن نتواصل بعضنا مع بعض بالتخاطر عن بعدٍ. عالم المستقبل سيكون عالم العقل.

لم يشكك بيل جوي في إمكانية هذه التقنية في تخفيف الألم والمعاناة البشرية. لكن ما جعله ينظر إلى هذه التقنية بفزعٍ كان احتمال تطور أفرادٍ ربما يسببون انقسام البشرية. في المقال، رسم جوي صورةً كئيبةً لنخبةٍ ضئيلةٍ تمتلك الذكاء والعمليات العقلية المطورة، بينما تقبع جماهير الناس في الجهل والفقر. خشية أن ينقسم الجنس البشري إلى قسمين، أو ربما يتوقف عن أن يكون بشرياً على الإطلاق.

لقد غيّرت التقنية كلّ شيءٍ كما يقول العلماء ويضيفون: لم نعد مضطرين إلى البحث عن غذائنا، فنحن نذهب ببساطةٍ إلى السوق المركزي. لم نعد نحتاج إلى حمل أغراضٍ تقصم الظهر، إذ أصبحنا بدلاً من ذلك نحملها بسياراتنا. (في الحقيقة، فإن التهديد الرئيس الذي نواجهه من التقنية، والذي قتل ملايين الناس، ليس الإنسالي القاتل أو «الإنساليات النانوية» المسعورة – بل هو أسلوب حياتنا المدلل، الذي خلق مستوياتٍ قريبةً من الوباء من السمنة والسكري وأمراض القلب والسرطان وغيرها. وهذه المشكلة جلبناها نحن إلى أنفسنا)[12].
4 - تقنية الاستنساخ

يعدُّ النجاح الصاعق لتقنية الاستنساخ[13] مثالاً مبهراً على ما أطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا دان سبيبر اسم «عدوى الأفكار» أو «داء التصوّرات».. يعتبر انتشار الاستنساخ مثالاً إيضاحيّاً على تصوّرٍ حادٍّ بصورةٍ خاصّةٍ. إنّه لمن الواضح أن الاستنساخ ليس مجرّد ممارسةٍ في حقل التكنولوجيات الحيويّة، بل إنّه أيضاً «تصوّرٌ ثقافيٌّ»، حيث يمكن دراسة هذا التصوير الثقافي بوصفه كذلك، أي تفسيره. ويمكن لذلك ترجمته إلى تصوّرات أخرى أو وضعه في إطار جملةٍ من التصوّرات الثقافيّة المترابطة[14]. يمكننا على سبيل المثال وضع التصوّر الثقافي «الاستنساخ» مقابل التصوّر الثقافي «النسل»، أو التصوّر الثقافي «النرجسيّة»، أو التصوّر الثقافي «الخلود»... إلخ. إن النسل والنرجسيّة والخلود هي تصوّراتٌ ثقافيّةٌ بالمعنى الذي قصده سبيبر، أي «تصوّرات تم توزيعها على نطاقٍ واسعٍ وباستمرارٍ على مجموعةٍ اجتماعيّةٍ ما». بيد أن وباء التصوّرات يظهر هذه الخصلة التي هي أنّ التصوّرات الثقافيّة تتحوّل في أثناء بثها في المجموعة الاجتماعيّة، ولكنّها لا تتحوّل كيفما اتّفق: «إنّها لا تتحوّل بصورةٍ اعتباطيّةٍ، بل في اتّجاه المضامين التي تتطلب الحد الأدنى من الجهد العقلي، والتي تحدث تأثيراتٍ معرفيّةٍ أكبر».

ويمكن للمرء أن يرى بوضوحٍ عمليّةً كهذه، وصفها سبيبر بأنّها قانونٌ، في حالة الاستنساخ، حيث مسح كل التعقيد الكامن في بيولوجيا الاستنساخ، ومسحت كافّة ضروب عدم الاكتمال والنواحي الإشكاليّة فيه لصالح تصوّراتٍ ثقافيّةٍ أكثرَ هيمنةً بكثيرٍ. كما يمكن للمرء أن يلاحظ أن هذه العمليّة تقود إلى نتائج شديدة المفارقة، لأن الاستنساخ رفض بوصفه فقداناً للهويّة. وإذا كنتُ اثنين في كائنٍ واحدٍ فإنني لستُ وحدي. ويطعم للتو وهم وحدانيّة المجتمع بفاعليّةٍ مخيفةٍ. وإن جهةً أخرى، توجد الرغبة في الاستنساخ بوصفه بديلاً من الخلود، الأمر الذي يعتبر بالطبع شديد المفارقة. إن الأمر يتعلّق مع الخلود باعتقادٍ من مستوى ما لا يمكن إخضاعه للملاحظة. وتقودنا هذه الملاحظة إلى ملاحظةٍ أخرى لسبيربر: «إن عدداً كبيراً، وربّما أغلبيّة المعتقدات الإنسانيّة، لا تقوم على إدراك مواضيع الإيمان، بل على التواصل مع هذه الموضوعات». إن الاستنساخ يملك إذاً في مسيرة التصوّرات الثقافيّة مستقبلاً كبيراً من دون أن يتوافق بالضرورة مع أيّ حقيقةٍ متواترةٍ أو شائعةٍ. هل يمكن تحييد فيروس الاستنساخ عبر إحلال تعبيرٍ أكثر حياديّةً يصعب معه تطعيمه بتصوّراتٍ حسيّةٍ؟ وقد تمّ اقتراح تعبير «نقل الخليّة النوويّة الجسديّة» (Somatic Cell Nuclear Transfer) باعتباره تعبيراً وصفيّاً أو تقنيّاً خالصاً لا يملك أي وجهٍ ذي دلالةٍ أنطولوجيّةٍ فائضةٍ. وتبدو عمليّة ممارسة دور الشرطة اللغويّة يائسةً إلى حدٍّ كافٍ، ففي سوق التصوّرات تبدو تلك التي تُعنى بتقطيع الكائن الحي أو تقسيمه وبتطعيمه ناشطةً بصورةٍ خاصّةٍ. وإذا لم نجرؤ على الاستنساخ التكاثري، فإنّنا يمكن أن نجرؤ على استنساخ الخلايا بهدف إنتاج أنواع خلايا خاصّة، بل أعضاء أيضاً، ولِمَ لا؟ ويمكننا أن نوصي أيضاً باستخدام خلايا الأرومة، سواءً أكانت بالغةً أم جنينيّةً، لغاياتٍ علاجيّةٍ، ولا يمكن لأيّ منطقٍ فلسفيٍّ جديٍّ أن يعارض ذلك. وهكذا تنفتح منظوماتٌ أخرى على الاستنساخ خلاف الاستنساخ التكاثري، منظوماتٌ لا تطرح الاعتراضات الأنطولوجيّة نفسها[15].  

5 - تقنية الإستهلاك

منذ القرن الرابع عشر، كان للاستعمال المبكر للفعل «يستهلك» (Consume) دلالة إيحاءٍ غير محبّذةٍ  -يُدمِّر، يُهلِك، يُضيِّع، يُبلي تماماً- حاضرة في الوصف الشعبي للسل الرئوي باعتباره هلاكاً. وتولد عنه اسمان في الإنجليزيّة: «الإهلاك» (Consumption)، ومنذ القرن السادس عشر، المُهلك (Consumer)، وكلاهما يحمل معنى الدمار نفسه. وفي ما بعد اكتسبت لفظة «المستهلك» معنًى حيادياً، مع انبثاق الاقتصاد السياسي البورجوازي في القرن الثامن عشر، لوصف علاقات السوق، وصار المستهلك يقابل المنتج، وبالمثل، يقابل الاستهلاك الإنتاج، ثمّ، صار «المستهلك» و «الاستهلاك»، في مذاهب علم الاقتصاد، يدلان على مظاهر أفعال المتاجرة بالسلع في السوق والحسابات المتعلّقة ببعض نتائجهما المالية إفراداً وجمعاً. كان الاقتصاد السياسي يُعنى في الغالب بالقيمة المتغيّرة لموادِّه في التبادل، أكثر من الاستعمالات التي يمكن أن تودع فيها. ولم يتصوّر الاقتصاديّون الاستهلاك بوضوحٍ باعتباره إشباعاً للحاجات الإنسانيّة من خلال وسائل اقتصاديّة إلّا في بواكير القرن العشرين (Wyrwa, 1998: 436)، فصار معنًى ايجابياً لا معنًى حيادياً. وتعميم تبادل الأسواق، والحجوم المتسعة للبضائع والخدمات، ونتائج النمو الاقتصادي، هي التي تربط معاً بين معنيي الاستهلاك كصفقة متاجرةٍ وكدمارٍ ماديٍّ. وأبقى هذان المعنيان على استواء أضداد ظلت التوترات فيه تحمل دلالةً أخلاقيّةً وسياسةً ملحوظةً[16].

اندمجت إيحاءات الدمار والضياع السلبيّة في النقاش الأخلاقي والاجتماعي الشعبي لطرق استعمال الأشياء وإنفاق النقود في المجتمعات الحديثة. كانت الثقافات التطهريّة تشكك بالاستهلاك الحديث، لا فقط لكونه قد يشجع على الإنفاق المفرط بدل الادخار، بل أيضاً خشية أن يشجع على الرغبة في الأشياء الكماليّة ويعلو بها فوق الأشياء الضروريّة لإشباع الحاجات الإنسانيّة الأساسيّة. وتم توضيح عدم الثقة أيضاً بالدوافع الكامنة وراء الإنفاق المتزايد بألفاظ مثل الاستهلاك الجلي، وهو مصطلحٌ صاغه تيودور فيبلن (Veblen, 1899)، للإشارة إلى الميل الذي يميّز المنزلة الاجتماعيّة من خلال التباري باستعراض الممتلكات. وغالباً ما يُستعمل مصطلح الاستهلاك الجملي، الذي يحمل مشاعر الأسف لانتشار طلب مادةٍ ذات مواصفاتٍ قياسيّةٍ من نوعيّةٍ فقيرةٍ، ليدلّ على الاعتدال الثقافي. وحين اقترنت هاتان السمتان السلبيتان في أواسط القرن العشرين بانتقادات التسليع المتزايد في المجتمع الرأسمالي، كما في تحليلات «مدرسة فرانكفورت» أو اليسار الجديد، تم تصويرهما باعتبارهما جزءاً من منظومة الهيمنة التي كانت تهدئ الطبقات التابعة من السكان. لقد أُمسك بالرأسماليّة ناقصةً لا فقط في علاقات الإنتاج فيها، بل أيضاً لأثرها في التشجيع على الخصوصيّة الضائعة، المجرّدة من المعنى، والسلوك الثقافي الموهِن.

شهدت أواخر القرن العشرين إعادة تقييمٍ عميقةٍ لمحيط الاستهلاك داخل علم الاقتصاد، القائم على الاحتفاء بسلطة المستهلك كمشترٍ في مناخٍ اقتصاديٍّ يفضل الأسواق، ومن منظور الدراسات الثقافيّة معاً.

مع ذلك، تستمر في الوجود تحفظاتٌ جوهريّةٌ على الاستهلاك (ما بعد) الحديث. فمفاهيم مثل مجتمع المستهلك وثقافة المستهلك ما زال يطغى عليها استواء الأضداد أخلاقياً وسياسياً. وتشمل الاعتراضات الأخلاقيّة والسياسيّة معايير الاقتصاد الحاليّة: النوعية المثيرة للخلاف للبضائع المنتجة جملياً، وتصاعد المشكلات البيئيّة، والتوزيع الدولي غير المتساوي بإفراطٍ لموارد الاستهلاك، والميل نحو مصالح المستهلكين لتخطي مصالح منتجي البضائع والخدمات، كما في المعامل المتدنية. ويجري النقاش الأخلاقي حول فضائل النماذج المعاصرة في الاستهلاك وتبريراتها بمنأًى عن الوصول إلى نهايته.

6 - تقنية التنمية (Development)

في عددٍ من الاستعمالات المعاصرة، ما زال مصطلح التنمية يشير إلى معنى النشر والبسط والترقية والتغيير الذي يرثه من الكلمة الفرنسية من أواخر القرن السادس عشر (desvoleper). يدرس علم النفس التطوري (Developmental) التغيرات والارتقاء في تفكير الأطفال والمراهقين والبالغين والكبار وسلوكهم. وينعكس هذا الاستعمال «للتطور»: كتغيّرٍ وتقدمٍ نحو هدفٍ ما أيضا في لغة الموسيقى والتصوير والرياضيات. تُنزل المؤسسات التجارية مبالغ طائلةً من الأموال للتخطيط وتحسين المنتجات والخدمات، ويبرز «البحث والتنمية» (R&D) في جداول أعمال الاجتماعات الكبرى لأغلب الشركات. تحمل «التنمية»: بهذا المعنى معنى النقل نحو الإثمار، والتحسين، كما تحمله في بحث المستهلك من أجل الإنماء الشخصي. على أن هذه الفكرة عن التحسين تتضح مزيداً من الاتضاح في إنماء العقارات، في العلاقة بالأراضي بنصب مبانٍ جديدةٍ كبيرةٍ في الغالب، وهي حالة الضواحي والمدن، في فكرة الإنماء الحضري. هكذا «تصدر رئيس الوزراء الأسترالي السابق، بول كيتنغ، حلقات النقاش حول معمار سدني ومستقبلها كمدينةٍ من الدرجة العالمية. وتمثل دعوته إلى فلسفة صقيلة للتنمية المستقبلية لسدني نقاشاً معاصراً يجب الإبقاء عليه»(Sustainable Sydney Conference, 2001)[17].

يقول رايموند وليامز (Williams, R., 1983): إن الاستعمال الحديث الأكثر إثارةً للتنمية» يرتبط بطبيعة التغير الاقتصادي. مع ذلك استعملت الكلمة، منذ الحرب العالمية الثانية، وتم تطويعها كثيراً بحيث أضيفت مصطلحاتٌ مثل: التنمية الإنسانية، والتنمية الاجتماعية، وتنمية المحافظة، والتنمية العادلة، والتنمية المتركزة حول الناس، إلى معجم التدخل في شؤون ما يشير إليه وليامز مراراً بأنه البلدان المتخلفة (Underdeveloped) والبلدان الأقل نمواً، والبلدان «المتراجعة». وفي حين ما زالت كلّ هذه المصطلحات الطيعة ترتبط بالتغير الاقتصادي، فإنّ لكلٍّ منها أهميةً بلاغيّةً مختلفةً في نقاشات أواخر القرن العشرين وبواكير القرن الحادي والعشرين للتنمية.

تم تحسين التنمية بالمعنى الذي استخدمه وليامز من قبل بنوك التنمية التعددية. في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، دفعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة نحو تأسيس «البنك الدولي للإعمار والتنمية»، المعروف أوسع باسم «البنك الدولي»، الذي أعد لتسهيل الاستثمار الخاص في أوروبا والبلدان الفقيرة غير الاشتراكية. من خلال تقديمه القروض، كانت الأولوية الأولى لدى المصرف تتمثل في إعمار أوروبا، ولكنّه في وقتٍ مبكرٍ منذ عامي (1948 و1949) قدم أيضاً قروضَ مشاريعَ خاصةٍ إلى بلدانٍ في أميركا الشمالية. في الوقت نفسه، أسس حلفاء الحرب العالمية الثانية، متبعين نموذج خطة مارشال، برامج ثنائيّةٍ لتوفير الدعم لإعمار أوروبا وأجزاءٍ من آسيا. وقد عدّ توفير ما صار يعرف باسم مساعدة التنمية للمساعدة في تأسيس البنى الاقتصادية والاستقرار السياسي، ومن ثم لمنع انتشار الشيوعية. (بقي يعتقد لفترةٍ أن مصطلح المعونة (aid) لمساعدة التنمية مصطلحٌ موفقٌ، على الرغم من أن هوس وسائل الإعلام بالمركبات الجذابة قد استقر مؤخراً على مصطلحات مثل «المعونة الاسترالية» (Ausaid) و«المعونة النيوزلندية» (Nzaid) و«المعونة الأميركية» (USAID)[18].

7 - تقنيات التجربة (Experience) والتجريبي (Empirical)

التجربة من أكثر الكلمات استخداماً وتملّصاً في اللغة. كانت ذات يومٍ شديدة الارتباط بـ «التجريب» (experiment)، كما في قول سبنسر: «دفعتْه إلى القيام بتجربة/ على وحوش البريّة» (الملكة الجميلة، 1596)، غير أن ذلك المعنى، كما لاحظ رايموند وليامز في "مفاتيحُ اصطلاحيّةٌ"، أُهمِلَ منذ زمنٍ بعيدٍ. وفي الوقت الحاضر غالباً ما تستعمل الكلمة في عددٍ من الطرق المتداخلة وأحياناً المتناقضة التي تنطوي على لجوءٍ إلى الوقائع المعيشة واليقينيات الميتة (أحياناً أخرى). فمن ناحية، هناك المعنى الذي تؤشره على نحو مثير أغاني البراءة والتجربة لبليك وكذلك الاستعمال اليومي، وهو المعنى الذي يرى أن التجربة هي شيءٌ مريرٌ وتهذيبيٌّ: على سبيل المثال، حين نكبر من الطفولة إلى الكبر، نتعلم بالتجربة أن العالم لا يمكن تشكيله وفق رغباتنا. وعند الشعراء الرومانسيين وجميع من تأثّر بهم منذ بواكير القرن التاسع عشر، فإن تراكم التجربة عمليّةٌ بائسةٌ فيها، كما يعبّر وردزورث، «تبدأ ظلال السجن بالانطباق/ على الفتى الذي يكبر» (1806). ومن ناحيةٍ أخرى، هناك المعنى الذي تكون فيه «التجربة» شيئاً مرغوباً فيه إلى حدٍّ كبيرٍ لأنّه ينم على نمطٍ مركّزٍ وحذرٍ حسياً من العيش في العالم؛ فالحديث عن شيءٍ باعتباره «مجرَّباً» يعني القول أنّه خارج ما هو اعتياديٌّ بشكلٍ بارزٍ، سواءً أكان جيداً أم رديئاً، ولا شك في أن سؤال جيمي هندركس: «هل أنت ذو تجربة؟» (1967) قد أوحى بعالمٍ إدراكيٍّ ومعرفيٍّ لا يتوفر لدى البشر العاديين الذين لم يواجهوا بعد تجربة جيمي هندركس. (هنا يوجد معنى إضافي، يرتبط بالعقاقير التأثيرية أقل مما يرتبط بالجنس، تكون فيه «التجربة» مجرّد اختصارٍ للتجربة الجنسيّة، وهي تُطلب أو تُخشى لذلك السبب وحده)[19].

وبعموميّة أكثر، تدل «التجربة» على عالم الصلابة الصخريّة واليقين، على النقيض من التجريدات الهوائيّة في الفلسفة والنظريّة الاجتماعيّة. وهي غالباً ما تمنح السلطة حين تُقرَن بتجربة الحياة المباشرة في مقابل «التعلم من الكتب».

8 - التجريبي (Empirical) أو التقنية الواقعية

يحتفظ مصطلح التجريبي والتجريبية (empiricism) بصدى ما سمّاه رايموند وليامز في "مفاتيح اصطلاحيّة" بـ «الاقتران القديم بين التجربة والتجريب» (Williams, R., 1983: 116): حيث يوحي المصطلحان بمنهجٍ يقوم على الانطباعات الحسيّة، والممارسة الماديّة، و/ أو المعطيات الملموسة التي تجمع عن طريق المحاولة العشوائيّة، في مقابل المناهج التي تعتمد في الأساس على الاستشهاد بمذهبٍ سابقٍ أو تطبيق الممارسات والقواعد الموروثة. وفي الفلسفة الغربيّة، غالباً ما كانت تُماهى التجريبيّة بالاعتقاد بأنّ البشر هم «ألواحٌ بيضاءُ» تتعلم بالممارسة والتجربة المتراكمة، التي توضع على هذه الأسس، في مقابل نظريّات الإدراك «العقليّة» القبليّة؛ وبعبارةٍ أكثرَ عاميّة، تعارض التجريبيّة بالنظريّة والتطبيق على العموم، كما هو الحال حين يقول الناس أنّهم أكثر اهتماماً بالدليل التجريبي أو الملاحظة التجريبيّة من أي مرجعيّةٍ متداولةٍ –في القضايا السياسيّة أو العقليّة أو الدينيّة– في كلّ ما يقولونه عن العالم.

ظهر المصطلحان في أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر كجزءٍ نقديٍّ من علمنة المعرفة مابعد كوبرنيكوس في الغرب، وبالذات، في ما يتعلق بالعلم والطب. وتشهد تجاريب غاليلو المحتفى بها، على سبيل المثال، على إرادةٍ وليدةٍ بين الناس المتطلعين إلى معرفة العالم الطبيعي، على وضع المعتقدات عن المادة والحركة على أسس الملاحظة المباشرة لا على الأسس الكيفيّة التي كان يعلِّم بها آباء الكنيسة (في ما يتعلّق بالعلم) أو المرجعيّات الإغريقيّة القديمة مثل جالينوس (في ما يتعلّق بالطب) أتباعهم أن يؤمنوا بها. والحقّ أن ما يشار إليه الآن بوصفه «المنهج العلمي» إنّما هو بالتحديد هذه الإرادة للتصرف بالملاحظات عن طريق التجريب، وتطوير إجراءاتٍ متبعةٍ لقياس موثوقيّة الملاحظات وإمكان تكرارها. لذلك تحمل التجريبيّة معها إيحاءاتٍ بواقعيّةٍ جيّدةٍ تخلو من السفاسف، وتتبنى اليقينيّات المفترضة للعلم والواقعة العجماء. على أن «المنهج العلمي» نفسه، في الأيام الأولى من الثورة ما بعد الكوبرنيكية، لم يكن قد صيغ بعد صياغةً معياريةً، وكانت التجريبية قد اقترنت بالدجل والشعوذة كما اقترنت بالتجريب والملاحظة.

9 - التقنية الميدياويّة

لكن ما يبعد إنسان الأزمنة الجديدة، خاصّةً عن بداية تاريخه، هو الطفرة التي حدثت في طريقة تأويل العالم، والوضعيّة الأساسيّة ضمن الموجود. إنّ الوضعيّة الأساسيّة للأزمنة الجديدة هي الوضعيّة «التقنية». وهي ليست تقنيةً لأنّنا نعثر فيها على آلاتٍ بخاريّةٍ، أو أنّها في ما بعد المحرك المعتمد على الانفجار، بل على العكس من ذلك، فإنّ أشياء من هذا النوع توجد فيها لأنّ هذا العصر عصرٌ «تقنيٌّ». إن ما ندعوه تقنية الأزمنة الجديدة ليست فقط أداةً، أو وسيلةً يمكن أن يكون إنسان اليوم سيّدها أو ذاتها الفاعلة، فقبل ذلك وفي ما وراء هذه الوضعيّات الممكنة، نرى أن هذه اليقينيّة هي نمط تأويلٍ للعالم، تمّ إقراره من قبلُ، نمطٌ لا يحدّد فقط وسائل المواصلات، والتزويد بالمواد الغذائيّة وصناعة المسليات، بل يحدّد كلّ موقفٍ للإنسان –في إمكانياته الخاصّة- أي أنّه نمطٌ يضرب بميسمه كل قدراته على التجهيز. وهذا ما يجعل التقنية غير قابلةٍ للخضوع والتحكّم فيها، إلا عندما نخضع لها دون شرطٍ ودون تحفظٍ. وهذا معناه: أن التحكم العملي في التقنية يفترض، من قبل، الخضوع الميتافيزيقي للتقنية، هذا الخضوع يسير بمحاذاة الموقف الذي يقوم على الاستيلاء على كل شيءٍ، انطلاقاً من مخططاته وتصميماته، ليطبقها بدورها في فتراتٍ طويلةٍ، من أجل وضع ما هو قابلٌ للاستمرار في وضعٍ مأمونٍ، بوعيٍ وسبق إصرارٍ، لمدّةٍ تطول قدر الإمكان[20].

هناك من ناحية، إمبراطوريات امتدّت فترتها على أمد آلاف السنوات لأن استمراريتها لم تتم إلّا على التكرار، لكن هناك من ناحيةٍ أخرى سيطراتٌ على العالم مخططٌ لها بوعيٍ على أمد بضع آلاف من السنوات، وذلك عندما تستمد ضمانة الاستمرار من الإرادة التي ترى هدفها الأساسي في المدّة الأطول بقدر الإمكان، بالنسبة إلى نظامٍ معيّنٍ من الكتل الواسعة والكبيرة بقدر الإمكان. وهذه الإرادة هي ماهيّة ميتافيزيقا العصور الجديدة منذ ثلاثة قرون، فهي تبدو في أشكالٍ وهيئاتٍ متنوّعةٍ ليست متأكّدة لا من ذاتها ولا من ماهيتها. أن يكون على هذه الإرادة أن تتوصل في القرن العشرين إلى صورة اللامشروط، فهذا ما فكر فيه، بوضوح، نيتشه من قبل. إن الإرادية التي تشارك وتساهم في إرادة الهيمنة اللامشروطة للإنسان على الأرض، تحتوي في ذاتها، بالقدر نفسه الذي يتطلب فيه إنجازها لهذه الإرادة، على الخضوع للتقنية، وهو الخضوع الذي لا يتجلى أيضاً على شكل إرادةٍ مضادةٍ ولا إرادة بل كإرادة، وهو ما يعني أن هذا الخضوع ساري المفعول هنا أيضاً.

ولكن عندما نؤول تحقق هذه الإرادة الميتافيزيقيّة كـ «نتاج» للإصرار المسبق ولاعتباطية «المستبدين» و «الدول السلطويّة»، فإن ما يتحدث هو فقط الحساب السياسي والدعاية، أو غياب الحس الميتافيزيقي الخاص بفكر تورط منذ قرون – أو هما معاً مجتمعين. تقدم بعض الظروف السياسيّة، والوضعيّات الاقتصاديّة، والنمو الديمغرافي... إلخ فرصاً وقطاعاتِ تطبيقٍ مباشرٍ لهذه الإرادة الميتافيزيقيّة لتاريخ العالم في الأزمنة الجديدة، لكنّها ليست أبداً هي أساسها ولا «هدفها» بالتالي. إن إرادة الحفاظ التي تؤول دوماً بإرادة إنماء الحياة وتطويلها، تشتغل بقصدٍ ووعيٍ ضد الخسوف والانتهاء ولا ترى في ما لا يدوم مدّةً قصيرةً، إلا تعثّراً ونقصاً.

10 - التقنية ونظرية الكوانتا

على الرغم من التطوّرات الهائلة في مسوحات الدماغ والتقنية العالية، يدعي كثيرون أن أصحاب هذه التقنية لم يفهموا سرّ الوعي، لأنه فوق مجال المنجز الذي حقَّقوه. في الحقيقة، إنّ الوعي بحسب رأيهم أكثرُ أساسيةً حتى من الذرّات والجزئيّات والعصبونات، وهو الذي يحدّد طبيعة الحقيقة نفسها. بالنسبة إليهم فإن الوعي هو الوحدة الأساسيّة التي خلق منها العالم المادي. وللبرهنة على نظريّتهم، يشيرون إلى إحدى أعظم المشاكل في العلم كله، والتي تتحدى تعريفنا للحقيقة نفسها: معضلة قطة شرودينغر. حتى اليوم، ليس هناك توافق عام حول هذه المعضلة، حيث اتخذ حائزو جائزة نوبل مواقف متباعدة منها. ما هو على المحك ليس أقل من طبيعة الحقيقة نفسها، وطبيعة التفكير نفسه[21].

 في العام 1925 طرح شرودينغر معادلته الموجية الشهيرة، والتي تحمل اسمه، وتعد إحدى أعظم المعادلات في التاريخ. لقد حققت المعادلة شهرةً فوريّةً، ونال عليها جائزة نوبل للعام 1933. وصفت معادلة شرودينغر بدقة التصرف الموجي للإلكترونات، وعند تطبيقها على ذرة الهيدروجين فسرت خصائصه الغريبة. وبشكل معجز، يمكن تطبيقها أيضاً على أي ذرةٍ، وتفسير معظم خصائص عناصر الجدول الدوري. بدا كأن الكيمياء كلها (وبالتالي البيولوجيا) ليست سوى حلولٍ لتلك المعادلة الموجية، إلى درجة أن بعض الفيزيائيين ادعوا أن الكون بأكمله، بما في ذلك النجوم والكواكب وحتى نحن، لا شيء سوى حلول لهذه المعادلة.

لكن الفيزيائيين بعد ذلك بدأوا يطرحون سؤالاً إشكالياً ما زال يتردد صداه حتى اليوم: لو وصف الإلكترون بمعادلة موجية، فما الذي يموج؟

في العام 1927 اقترح فيرنر هايزنبرغ مبدأً جديداً قسّم المجتمع الفيزيائي إلى نصفين. يذكر مبدأ عدم التأكد لهايزنبرغ أنه لا يمكنك معرفة موقع الإلكترون وعزمه معاً بشكلٍ مؤكدٍ. عدم التأكد هذا ليس ناجماً عن بدائيّة أجهزتك، لكنه كامنٌ في الفيزياء نفسها. لذا فالمعادلة الموجية لشرودينغر وصفت في الحقيقة إمكانية العثور على الإلكترون. لقد قضى العلماء آلاف السنين يحاولون جاهدين التخلص من عامل المصادفة، ومن الاحتمالات في أعمالهم، والآن يسمح هايزنبرغ للاحتمالات بالدخول من الباب الخلفي.

يمكن تلخيص الفلسفة الجديدة كما يلي: الإلكترون جسمٌ نقطيٌّ، لكن إمكانية العثور عليه تعطى بعلاقةٍ موجيةٍ، وهذه الموجة تطيع معادلة شرودينغر، وتؤدي إلى مبدأ عدم التأكد.

انقسم المجتمع الفيزيائي إلى نصفين. على أحد الجانبين لدينا فيزيائيون مثل نيلز بوهر وفيرنر هايزنبرغ ومعظم فيزيائيي الذرة يتبنون بحماس هذه الصيغة الجديدة. وكانوا يعلنون يومياً تقريباً عن اختراقاتٍ جديدةٍ في فهم خصائص المادة. منحت جوائز نوبل للفيزيائيين الكوانتيين كما تمنح الأوسكار. وأصبح ميكانيك   الكم مثل كتابٍ للطبخ. لا يحتاج إلى أن تكون فيزيائياً محلقاً لتصنع إسهاماتٍ نجميّةً – عليك فقط أن تتبع وصفات ميكانيك الكم، وسوف تحقق اختراقاتٍ مذهلةً.

على الطرف الآخر، أثار حاملون قدامى لجائزة نوبل مثل ألبرت آينشتاين وإرفين شرودينغر ولوي دي بروي اعتراضاتٍ فلسفيةً. اشتكى شرودينغر، الذي ساعد عمله في بدء هذه العملية كلها، بأنه لو كان يعلم أن معادلته سوف تدخل الاحتمالية في الفيزياء، فإنه لم يكن ليخلقها في المقام الأول.

دخل الفيزيائيون في جدلٍ استمر لمدة ثمانين عاماً، وما زال مستمراً إلى اليوم. من جهةٍ يدعي آينشتاين أن «الإله لا يلعب النرد بالعالم». ومن جهة أخرى يرد نيلز بوهر عليه بالقول: «توقف عن إخبار الله بما عليه أن يفعل».

11 - العلم التقني والحقيقة الموضوعية

يعود مبدأ الحقيقة الموضوعية إلى مكتشف قانون الجاذبية “إسحاق نيوتن”، ويقوم هذا المبدأ على المعادلة التالية: تشبه الذرة والجسيمات تحت الذرية كراتٍ فولاذيةً ضئيلةً، وهي توجد في نقاطٍ محددةٍ في المكان والزمان. ليس هناك اختلافٌ في تحديد موقع هذه الكرات، كما يمكن تحديد حركتها باستخدام قوانين نيوتن في الحركة. نجحت الحقيقة الموضوعية بشكلٍ رائعٍ في وصف حركة الكواكب والنجوم والمجرات. وباستخدام النسبية، يمكن لهذه الفكرة أن تصف الثقوب السوداء، والكون المتمدد. لكنها تخفق في موقعٍ ما بشكلٍ مزرٍ، وهو داخل الذرة.

اعتقد الفيزيائيون الكلاسيكيون، مثل نيوتن وآينشتاين، أن الحقيقة الموضوعية أزالت في النهاية المثالية الذاتية من الفيزياء. وقد لخص والتر ليبمان هذا عندما رأى أن الحداثة الجذرية للعلم الحديث تقع بالضبط في رفض الاعتقاد... «بأن القوى التي تحرك النجوم والذرات مرتبطةٌ بتفضيلات العقل البشري».

لكن ميكانيك الكم سمح بعودة نوعٍ جديدٍ من المثالية الذاتية إلى الفيزياء. في هذه الصورة، يمكن للشجرة قبل أن تلاحظها أن توجد في أيّ حالةٍ ممكنةٍ من هذه الحالات (أي شتلة، محروقة، نشارة، نكاشات أسنان، مهترئة). لكنك عندما تنظر إليها تنهار الموجة فجأةً، وتبدو كشجرة. تحدث المثاليون الذاتيون الأصليون حول أشجارٍ تكون ساقطةً أو لا. أما شخصانيو فيزياء الكم الجدد فإنهم يدخلون الحالات الممكنة للشجرة كلها.

كان هذا كثيراً جداً بالنسبة إلى آينشتاين، وكان يسأل ضيوفه في بيته: «هل يوجد القمر لأن فأراً ينظر إليه؟» بالنسبة إلى فيزيائي الكم، فالجواب بمعنى ما هو نعم.

تحدى آينشتاين وزملاؤه بوهر بالسؤال: كيف يمكن للعالم الميكروي الكمي (بقططٍ ميتةٍ وحيةٍ في الوقت نفسه) أن يتعايش مع عالم الإدراك السليم الذي نراه حولنا؟ كان الجواب بأن هناك «جداراً» يفصل عالمنا عن العالم الذري، وعلى إحدى جهتي الجدار يحكم الإدراك السليم، وعلى الجهة الأخرى من الجدار تحكم نظرية الكم. يمكنك إزاحة الجدار لو أردت وستبقى النتائج نفسها.

مهما بدا التفسير غريباً فإنه درسٌ لثمانين عاماً من قبل فيزيائيي الكم. في وقتٍ أحدثَ كانت هناك بعض الشكوك حول تفسير كوبنهاغن[22]. لدينا اليوم التقنية النانوية، والتي نستطيع بواسطتها التحكم في الذرات المفردة كما نشاء. وعلى شاشة مجهرٍ نفقيٍّ ماسحٍ تبدو الذرات مثل كرات تنس غائمة.

كما ناقشنا، يتجه عصر السيليكون ببطءٍ نحو نهايته، ويعتقد البعض أن الترانزيستورات الجزيئية ستحل محل الترانزيستورات السيليكونية. إذا كان الأمر كذلك، فإن المشاكل المحيرة لنظرية الكم ستقع في قلب كلّ حاسوبٍ في المستقبل. ربما يعتمد اقتصاد العالم في النهاية على هذه المشاكل المعقدة.

12 - التقنية والعقل الكوانتي

تدّعي ميكانيكا الكم ونظرية الشواش أن الكون غير قابلٍ للتنبؤ، وبالتالي يبدو أن الإرادة الحرة الموجودة. لكن دماغاً مهندساً بطريقةٍ عكسيةٍ مصنوعاً من ترانزيستورات سيكون بالتعريف قابلاً للتنبؤ. بما أن الدماغ المهندس عكسياً مطابقٌ نظرياً للدماغ الحي، لذا فالعقل البشري حتميٌّ أيضاً، وليست هناك إرادةٌ حرة. من الواضح أن هذا يناقض المقولة الأولى.

تدّعي أقليةٌ من العلماء أنك لا تستطيع مطلقاً هندسة الدماغ عكسياً، أو حتى خلق آلةٍ تفكر بحق، بسبب النظرية الكوانتية. الدماغ، كما يحاججون، جهازٌ كوانتيٌّ، لا مجردُ مجموعةٍ من الترانزيستورات. بالتالي، فمصير هذا المشروع هو الإخفاق المحتّم. في هذا المعسكر الفيزيائي يوجد روجر بنروز من جامعة أكسفورد، العلامة في نظرية النسبية لآينشتاين، وهو يدّعي أن العمليات الكوانتية ربما هي المسؤولة عن وعي الدماغ البشري. يبدأ بنروز بالقول أن الرياضي كرت غودل برهن أن علم الحساب غير تامٍ، أي إن هناك مقولات صحيحة في الرياضيات لا يمكن البرهنة عليها باستخدام بديهيات الحساب. بالمثل، ليست الرياضيات فقط غير تامة، لكن الفيزياء كذلك أيضاً. يختم بالقول أن الدماغ أساساً جهازٌ ميكانيكيٌّ كوانتيٌّ، وأن هناك مشاكل لا يمكن لأيّ آلةٍ أن تحلّها بسبب نظرية غودل في عدم الاكتمال. لكن البشر يمكنهم حل هذه المعضلات باستخدام البديهة.

بالمثل فإن الدماغ المهندس عكسياً مهما بلغت درجة تعقيده ما زال مجموعةً من الترانزيستورات والأسلاك. في مثل هذا النظام الحتمي، يمكنك أن تتنبأ بدقةٍ بتصرفه المستقبلي لأن قوانين الحركة معروفةٌ جيداً في النظام الكوانتي، مع ذلك فإن النظام غير قابلٍ للتنبؤ ضمنياً. كل ما يمكنك حسابه هو احتمال أن شيئاً ما سيحدث، بسبب مبدأ عدم التأكد.

إذا تبين أن الدماغ المهندس عكسياً لا يمكنه إعادة إنتاج التصرف البشري، فربما يضطر العلماء إلى الاعتراف بأن هناك قوًى لا يمكن التنبؤ بها تعمل (أي تأثيرات كوانتية داخل الدماغ). يحاجج الدكتور بنروز بأن هناك داخل العصبون بنًى ضئيلةً، تُدعى أنابيب ميكروية، تسيطر فيها العمليات الكوانتية.

لا يوجد في الوقت الحاضر إجماعٌ بشأن هذه المسألة. بحكم ردود الفعل على فكرة بنروز عندما اقتُرحت لأول مرة، من المضمون القول أن معظم المجتمع العلمي يشكّ في مقاربته، لكن العلم ليس سباقاً على الشعبية، لكنه بدلاً من ذلك يتقدم من خلال نظرياتٍ قابلةٍ للاختبار والتكرار والتخطئة.

----------------------------------------------
[1]*ـ صحافيٌّ وباحثٌ في اجتماعيات التواصل ـ لبنان.
[2]- - “What is Technology?”, www.edu.pe.ca, Retrieved 28-10-2018. Edited. Andy Lane 14- 9- 2006
[3] - راجع: رزان صلاح- مقالة منشورة على موقع: https://mawdoo3.com 
[4]- التعريب الذي اقترحه مجمع اللغة العربيّة بـ «دمشق» وإعتمدته [الجامعة العربيّة] وعدّة دولٍ عربيّةٍ لكن ليس كلّها. وهي شائعةٌ بلفظ الـ [تكنولوجيا]. راجع: مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق – أنظر موقع: «التقانة» -ref>[http://www.arabacademy.gov.sy/magazine.aspx
[5]- راجع معنى «التقانة» – مركز أضواء الاستشاري للدراسات والبحوث -  دمشق- 2004.
[6] - المصدر نفسه.
[7] - المصدر نفسه.
[8]- راجع: هايل الجازي- ماهية التقنية - مقالة منشورة على موقع https://mawdoo3.com
[9] - ميشيو ماكو، مستقبل العقل، الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته، ترجمة: سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ابريل (نيسان) 2017. ص 175.
[10] - المصدر نفسه، ص 181.
[11] - المصدر نفسه.
[12] - ميشو ماكو، المصدر نفسه.
[13]- كلود دوبرو، الممكن والتكنولوجيات الحيويّة – ترجمة: ميشال يوسف – مركز دراسات الوحدة العربيّة – بيروت – 2007 – ص: 500.
[14]- Dan Sperber, La Contagion des idées: Théorie naturaliste de la culture (Paris: Odile Jacob, 1996), p. 52.
[15] - كلود دوبرو – المصدر نفسه.
[16] - طوني بينيت – لورانس غروسبيربرغ- مفاتيحٌ اصطلاحيةٌ جديدةٌ، ترجمة سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1 بيروت – 2010، ص 74.
[17] - طوني بينيت، لورانس غروسبيربرغ، مفاتيحٌ اصطلاحيةٌ جديدةٌ، ترجمة سعيد الغانمي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1-، بيروت 2010، ص 218.
[18] - المصدر نفسه.
[19]  - طوني بينيت – لورانس غروسبيربرغ – مفاتيحٌ اصطلاحيةٌ جديدةٌ، ترجمة سعيد الغانمي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1-، بيروت 2010، ص 169.
[20] - راجع: مقاربات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حول التقية.
[21]- ميشيو ماكو – مستقبل العقل – ترجمة: سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2017، ص: 399.
[22]- تفسير كوبنهاغن هو ما وضعه نيلز بوهر وفيرنر هايزنبرغ وآخرون في السنوات 1925 إلى 1927 لشرح ميكانيكا الكم.