البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

(الجنوسة) بين الإسلام وحداثة الغرب

الباحث :  مجتبى عطّار زاده
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  1128
تحميل  ( 451.649 KB )
يعرض هذا البحث إلى الأطروحة النسويّة في مسراها النظري والتاريخي، حيث ينظر الكاتب إليها بوصفها إحدى أبرز مستظهرات الحداثة الغربية، ثم يُجري تنظيراً نقدياً للرؤية الغربية حيال المرأة انطلاقاً من المنظومة الإسلامية القرآنية. جرّاء هذا الاختبار المقارن سوف نقرأ كيف توصَّل الباحث إلى جملة نتائج تبيِّن الاختلاف والتغاير بين الرؤيتين في الحقلين التاريخي والأنطولوجي.

المحرر

-------------------------------
الناشطون في مجال الدفاع عن حقوق المرأة في البلدان الغربية ضمن معارضتهم للنظام الأبوي، تحدّوا الواقع الجنسي والجندري في حياة البشر، حيث ادّعوا أنّ الاختلاف الفسيولوجي والبيولوجي بين الجنسين ناشئٌ من هذا النظام ومن العرف الاجتماعي المتقوّم على الاعتقاد بعدم اتّساق البنية الجسمية والروحية لكلٍّ من الذكر والأنثى، ومن هذا المنطلق أنيط للمرأة دورٌ اجتماعيٌّ ثانويٌّ أدنى مستوًى ممّا منح للرجل فواجهت جرّاء ذلك تمييزاً جنسياً مجحفاً. إذاً، الحصيلة النهائية لهذه الظاهرة هي انعدام المساواة بين الجنسين.
مفهوم النظام الأبوي يدلّ على النهج الذي يُتّبع لبسط السلطة على مستوًى شموليٍّ من مختلف النواحي الجغرافية والتأريخية، ويدّعى أنّه يستبطن سلطة الرجل وانقياد المرأة على ضوء الخضوع للأعراف والتقاليد الاجتماعية المتداولة، ومن ثمّ يصبح موروثاً من جيلٍ إلى آخرَ بأساليبَ رمزيةٍ، لذا لا بدّ وأن يتقوّم بمبادئَ ثقافيةٍ.
الجدير بالذكر هنا أنّ هذا النظام ترسّخ في أذهان البشر بصفته نظاماً سلطوياً، ومن ثمّ لا يرى من يعتقد به بضرورة بيان أسسه الارتكازية باعتبارها قضايا طبيعيةً[2].
استناداً إلى ما ذُكر، إذا افترضنا صوابيّة ما يدّعيه البعض من وجود اضطهادٍ مشتركٍ للمرأة في المجتمعات البشرية قاطبةً في ظلّ أعرافٍ وتقاليدَ عامّةٍ ومشتركةٍ مثل النظام الأبوي والنظام الجنسوي، ففي هذه الحالة يصبح الفكر النسوي -الفيميني- حركةً فكريةً اجتماعيةً وسياسيةً ذات طابعٍ دوليٍّ يناهض دعاتها هذا الاضطهاد وكلّ ما يتسبّب في رواجه.

كما هو معروفٌ فالمذهب النسوي أصبح رمزاً لمفهوم الجندر في الأوساط الفكرية الغربية، وذلك لعدّةِ أسبابٍ أهمها ما يلي:
1) معظم مبادئ الفكر النسوي طُرحت من قبل نساءٍ غربياتٍ.
2) الخطاب النسوي المطروح في المجتمعات الغربية غالباً ما يطرح من قبل شخصياتٍ ومؤسّساتٍ نافذةٍ، ولا سيّما الحركات الاجتماعية الأكثر رفاهيةً والمنبثقة من الطبقتين العليا والمتوسّطة، ما يعني أنّه يطرح ويروّج له على نطاقٍ واسعٍ من قبل الحركات النسوية النافذة.
المذهب النسوي الغربي باعتباره مصدراً لإنتاج نصوصٍ متنوّعةٍ وترويج دعواتٍ ثقافيةٍ ذاتِ طابعٍ فيمينيٍّ، يمكن أن يُتّخذ كمرتكزٍ لإصدار نتاجاتٍ ثقافيةٍ في رحاب كتبٍ ومجلاتٍ ونشرياتٍ متنوّعةٍ وبعدّةِ لغاتٍ، ونتاجاتٍ صوتيةٍ ومرئيةٍ كالأفلام والصور وشتّى البرامج الإذاعية، إلى جانب تأسيس مواقعَ إلكترونيةٍ مختلفةٍ اعتماداً على الوسائل المعتمدة في الترويج الفكري وشتّى وسائل الإعلام الخاضعة لأتباعه. فضلاً عن ذلك هناك تأثيرٌ غيرُ مباشر لهذا التيار الفكري عن طريق نشر أخبارٍ خاصّةٍ بنشاطات أتباعه في مختلف وسائل الإعلام المحلّية والعالمية وفي المنظّمات الدولية وغيرها، وعلى هذا الأساس يترسّخ في أذهان النساء اللواتي يواجهن خطابه بشكلٍ تدريجيٍّ ومتنامٍ ليتحوّل لاحقاً إلى خطابٍ سلوطيٍّ يُطرح من قبل النسوة المثقفات في شتّى أرجاء العالم.
الحلول المقترحة من قبل الحركات النسوية غالباً ما تكون بحاجةٍ إلى مرتكزاتٍ قانونيةٍ، وبما أنّ القانون جافٌّ وغير مرنٍ، يرى أتباعها ضرورة انخراطهم ومناصريهم في مراكز التقنين والمراكز الحكومية كي يتسنّى لهم صياغة قوانين تلبّي رغباتهم وتساعدهم على تطبيق الحلول التي يقترحونها دفاعاً عن المرأة بشكلٍ عمليٍّ، لكنّ رؤيتهم هذه ليست صائبةً، فما لم تمتزج القوانين المشرّعة مع مبادئ النظام الأكسيولوجي الأصيل الذي يحكم المجتمعات، سوف لن يُوجد لدى البشر أيُّ وازعٍ يحفّزهم على مراعاة حقوق الآخرين والعمل بالأسس التي تتضمّنها في شتّى المجالات، لذلك شهد العالم ظاهرةً في منتصف عقد الثمانينيات من القرن المنصرم تمثّلت في تراجع علماء الأنثروبولوجيا عن دعمهم للمذهب النسوي ومبادرتهم إلى وضع مبادئ أنثروبولوجيا جندرية تحوّلت في عصرنا الراهن إلى فرعٍ أساسيٍّ للنزعة الفيمينية، إلا أنّ هذا الفرع في الواقع من طابع جديد لكون الذين ينضوون تحت مظلّته لا يعتقدون بأنّ الأنوثة هي المحور الأساسي لبناء المجتمع الإنساني المثالي، بل المرتكز فيه هو العمل على إجراء دراساتٍ وبحوثٍ لبيان واقع العلاقة الجندرية بين الجنسين وتحديد أوجه التشابه والاختلاف بين هويتيهما، والأهم من ذلك بيان العلاقة بين الهوية الجندرية للبشر مع هوياتهم الثقافية في العصر الحديث، ففي هذا العصر عادةً ما تولد هوياتٌ ثقافيةٌ جديدةٌ لا حصر لها. وعلى هذا الأساس انتقد علماء الأنثروبولوجيا الرؤى التي تطرح على ضوء جنس الإنسان من حيث كونه أنثى أو ذكراً، إذ أكّدوا على أنّ الأنوثة والرجولة هويتان تتأثّران بالظروف الثقافية التي تكتنف حياة البشر بأسرهم والتي تسفر عن ظهور ميزات ثقافية خاصّة[3].
نستنتج ممّا ذكر أنّ مجرّد مزاولة المرأة نشاطاتٍ اجتماعيةً وصرف تحقيقها إنجازاتٍ في شتّى مجالات الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية، ليسا وازعين لرفعة شأنها الأنثوي، بل هناك شرطٌ ضروريٌّ - وليس كافياً طبعاً - لتحقّق ذلك، وهو بلوغ مجموعةٍ من البشر مرحلة الوعي الذاتي على ضوء تجرّدهم عن ذاتهم وتأمّلهم بواقعها على حقيقته، والتجرّد هنا يعني الحياد تجاه الذات وتقييمها على أساس رؤية واقعية، ومن المؤكّد أنّ تأمّل الإنسان بذاته يجب أن يتقوّم باستقلال رأيه وعدم استقصاء كيانه النفسي بتلقينٍ من الآخرين جرّاء انبهاره بوجهات نظرهم.
الشريعة الإسلامية بدورها طرحت مبادئها في رحاب رؤيةٍ حياديةٍ تجاه الجنسين، ومن هذا المنطلق أقرّت لكلّ واحدٍ منهما وظائفَ خاصّةٍ ومحترمةٍ تليق بشأنه، والعدل الديني فيها يقتضي تقسيم الأعمال بحسب هويتيهما الجنسوية، ومن المؤكّد أنّ هذا التقسيم العادل يعود بالنفع على المجتمع بأسره، حيث تصان فيه حقوقهما وتصاغ مسؤولياتهما بشكلٍ متكافئٍ ولكن ليس بالضرورة أن يدلّ هذا التكافؤ على التساوي التامّ من جميع الجهات. الجدير بالذكر هنا أنّنا إن أردنا فهم معنى التساوي بين الجنسين في رحاب التعاليم الإسلامية، لا بدّ لنا من فهم معالمه من جميع الجهات.
المسلمون يعتقدون بوجود اختلافٍ بين المسؤوليات الملقاة على عاتق كلٍّ من الرجل والمرأة من منطلق اعتقادهم بكون غالبية الاختلافات بين وظائفهما طبيعيةً ومفيدةً، ويبرّرون ذلك بأنّ البنية البدنية لكلّ واحدٍ منهما تقتضي حدوث هذا الاختلاف، لذلك أنيطت للمرأة مهامٌّ حسّاسةٌ وهامّةٌ للغاية تتمثّل في مسؤوليتها الجنسية والتربوية، فالمجتمع بحاجةٍ ماسّةٍ إلى هذه المسؤولية كي يعمّ فيه الرفاه.

* البنية الجنسوية برؤية توحيدية
الله الواحد طبقاً للمبادئ العقائدية هو الحقيقة المطلقة اللامتناهية، وهو الذي ابتدع بعظمته الخصائص التي يمتاز بها الجنسان المذكّر والمؤنّث، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوّل تقابل عادةً ما يبدأ من هذه النقطة، أي من مرتبة الذات الإلهية الأحدية من حيث كونها مطلقةً ولامتناهيةً بحيث لا تحدّها حدودٌ ولا يقيّدها شيءٌ. استناداً إلى هذا التعريف، فالأمر اللامتناهي لا يمكن أن يحدّه حدٌّ، وهو الذي يبتدع بقدرته كلّ شيءٍ ومكانٍ، وجميع القابليات مكنونة في ذاته، أي إنّ عالم الخلقة بأسره لم يكن ليوجد إلا بفضل هذا الوجود اللامتناهي، وبالتالي فالأمر اللامتناهي لا يمكن أن يتحقّق في منأى عنه.
إذاً، حينما نتحدّث عن الأمر المطلق فهذا يعني أنّنا نتحدّث عن الأمر اللامتناهي، والعكس صحيحٌ، إذ لا يمكن تصوّر أحدهما دون الآخر[4].
لا شكّ في أنّ أوّل ثنوية في الوجود هي تقسيم المطلق إلى جزئين أحدهما مطلق والآخر لامتناهٍ، فهو البنية لكلّ فعل وانفعال في عالم الخلقة، والتقابل القدسي في وجوده المطلق هو الأنموذج الأزلي للذكورة والأنوثة،[5] إي أنّه يتجلّى في الوجود الإنساني بشكلٍ صريحٍ.
الأديان السماوية تؤكّد على أنّ الإنسان خلق على صورة الإله، لذا لا بدّ أن تكون ذاته مرآةً ينعكس فيها نوره، وقد انعكس التقابل بين عالم العرش ـ العالم الأكبر ـ في هذه النفس التي هي في الحقيقة العالم الأصغر، لذا فكلا الجنسين ذكوراً وإناثاً هو تبلورٌ لوجه الله عزّ وجلّ، ومن ثمّ فالإطلاق اللامتناهي يصوغ مزيجاً لهذين الوجهين الإلهيين في الوجود الإنساني.
الرؤية الإيجابية تجاه الخلقة فحواها أنّ الرجولة تحكي عن الأمر المطلق، والأنوثة تحكي عن الأمر اللامتناهي، وأمّا على أساس الرؤية السلبية فالرجولة تستبطن خطراً للاحتكار والقسوة، والأنوثة تستبطن خطر الانفكاك والخروج عن الشأن اللامتناهي[6].
من المؤكّد أنّ الشؤون الذكورية والأنثوية في رحاب الرؤية الشمولية الإسلامية هي أصولٌ يتّضح من خلالها المقصود من القوانين الدينية التي تحدّد وظائف الجنسين في جميع الحضارات البشرية، والقرآن الكريم ضمن تعريفه مفهوم النفس على ضوء مفهوم الوحدانية، أشار إلى خلقة الجنسين الذكر والأنثى، حيث قال تعالى: Nوَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَM،[7] فالمسلمون يؤمنون بأنّ الله عزّ وجلّ هو الذي خلق السماوات والأرض وجعل كلّ واحدةٍ منهما مستقلّةً عن الأخرى، لذا هما أوّل زوجٍ خلقه تبارك شأنه: Nأَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَM [8]. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ عبارة السماوات والأرض تكرّرت في القرآن الكريم مائتي مرّة نظراً لأهميتهما كوجودين اثنين منفصلين عن بعضهما، وقد أكّدت آياته على أنّ خلقتهما أعظم من خلقة الإنسان: Nلَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَM،[9] والسبب في عظمتهما يعود إلى أنّهما أساس التأثير والتأثّر اللذين يتجلّى على ضوئهما كلّ ما في الوجود وبما في ذلك البشر.
انفكاك السماء عن الأرض في العالم الأكبر - الحياة الدنيا - له نظير في العالم الأصغر - النفس الإنسانية - بعقيدة أتباع الأديان التوحيدية، وهذا النظير هو خلقة آدم وحواء من نفس واحدة، فهما نفسان منشؤهما نفس واحدة وهما أوّل زوجين من البشر، وقد خلقهما الله سبحانه وتعالى في السماء والأرض بشكلٍ يعكس العلاقة الزوجية الكائنة بينهما.
حينما نمعن النظر في الخلقة الزوجية نستنتج أنّها لا تقتضي بتاتاً كون الرجل هو العنصر الفعّال ذاتاً والمرأة منفعلة ومتأثّرة به، بل كلاهما عنصرٌ مؤثّرٌ ومتأثّرٌ، لكون الفعل والانفعال يتبلوران في ذاتيهما.
يجب على كلّ إنسان تفعيل الجانب المتسامي من وجوده والرقي بنفسه نحو الله سبحانه وتعالى عن طريق العبادة والأعمال الحسنة، ومن ناحيةٍ أخرى عليه كبح جموح نزواته النفسية بتسليمة للتشريع الإلهي ورضاه بما قسم له من مقدّراتٍ، وبهذا تصبح نفسه وعاءً للطف الله وعنايته.
نلاحظ في الآية الخامسة والثلاثين من سورة الأحزاب[10] أنّ القرآن الكريم خاطب البشر بضمير الإنسان، حيث نبّهه إلى أنّ المسؤولية الملقاة على كاهله أهمّ بكثير من واجباته وحقوقه الاجتماعية سواءً أكان ذكراً أم أنثى، كما أكّد في آياتٍ أخرى على أنّ كلا الجنسين مرتبطٌ بالله عزّ وجلّ، لذا لا رجولة لكلّ رجل ولا أنوثة لكلّ أنثى بحقٍّ وحقيقةٍ إلا إذا عملا بوظائفهما الإنسانية عبر الانصياع للإرادة الإلهية، ومن هذا المنطلق فالسلوك الأساسي للمرأة وفاعليتها الحقيقية يتبلوران قبل كلّ شيء ضمن أداء وظائفها المعنوية، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الرجل. وأمّا السلوك الثاني الذي يريده الله تعالى منهما فهو مواصلة الحياة وفي رحاب لطفه وعنايته، والمرأة في هذا السياق تلتزم بسلوكها الوظيفي بشكلٍ فاعلٍ على ضوء الرحمة المستودعة في ذاتها من خلال أمومتها وعنايتها بأبنائها.
وكما أنّ أمّنا الأرض زاخرة بالرحمة ومنها انبثقت الحياة التي غذّتها بنعمتها ورأفتها، كذلك هي المرأة، فملؤها الرأفة والرحمة والتضحية، وتتجلّى كلّ هذه الخصال الحميدة في تربيتها لأبنائها.

* النسوية هي المنقذ.. هل هذا ادّعاءٌ أو واقعٌ؟
البنية الاجتماعية المتقوّمة على تشريعٍ دينيٍّ ومسؤولياتٍ وحقوقٍ تجاه الله عزّ وجلّ لكلا الجنسين بحيث تتجلّى على هذا الأساس في حياة بني آدم، هي في الواقع ليست على نسق ما تبنّاه أتباع الفكر النسوية الذين يرفعون شعار التجدّد ويدعون إلى منح الجنس الأنثوي حقوقاً وامتيازاتٍ بشكل مبالغ فيه، فهؤلاء غالباً ما يغفلون عن مسؤوليات المرأة لكونهم يسلّطون الضوء فقط على حقوقها. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الحركات النسوية التجدّدية تسعى إلى مقارعة الاضطهاد الاجتماعي الذي تتعرّض له المرأة وتهدف إلى نيلها حقوقاً اجتماعية واقتصادية وسياسية متساوية مع ما يتمتّع به الرجل، وكما هو معلوم فالأصول التي يتقوّم بها الفكر النسوي لا شأن لها بالخشية من الله تعالى ولا بمحبّته، كما لا ترتبط بمسألة نجاة المرأة في الحياة الآخرة وصلاحها الديني لكون هذا الفكر منبثقاً من نهضةٍ علمانيّةٍ تتجاهل التعاليم والتشريعات الدينية قاطبةً، فرعاته يزعمون أنّ الدين يقيّد شخصية المرأة ويسلبها حرّيتها ويدّعون أنّه لا يكترث إلا بتوجيه الجنسين نحو وظائفهما إزاء الربّ وقلّما يعلّمهما الحقوق الشخصية.
يمكن لكلّ باحثٍ دراسة وتحليل الفكر النسوي ضمن وجهتين أساسيتين لأجل بيان معالمه الحقيقية بدقّةٍ أكثرَ، إحداهما وصفيةٌ يتمّ على أساسها طرح جميع القضايا التي تتمحور حولها النزعة النسوية للبحث والتحليل على ضوء الاعتقاد بكون المرأة موضوعاً حقيقياً وكائناً على أرض الواقع، والأخرى طبيعيةٌ تتمحور حول قواعدَ وأصولٍ ارتكازيةٍ يُنظر من خلالها إلى شخصية المرأة بما هي امرأة كما يتناسب مع شأنها الأنثوي. الجدير بالذكر هنا أنّ هاتين الرؤيتين - الوصفية والطبيعية - تمخّض عنهما تحوّلان أساسيان في نمط الرؤية إلى المرأة وتغيّرت على أساسهما المناهج المعتمدة في التعامل مع هويتها الأنثوية، وفي هذا السياق واصل المدافعون عن الفكر النسوي مساعيهم وكفاحهم الفكري، حيث ركّزوا نشاطاتهم على الجانب الطبيعي للشخصية الأنثوية ثمّ بادروا إلى تقييمه مع الأوضاع الراهنة في المجتمعات البشرية.
المفكّرون والباحثون الذين يتبنّون الوجهة الوصفية يقارنون بين الرجل والمرأة من حيث الحقوق والشأن الإنساني، بينما من يتبنّى الوجهة الطبيعية فهو يتطرّق إلى تحليل الموضوع على ضوء الإلزام بمبدأ التساوي التامّ في الحقوق واحترام الشأن الإنساني،[11] ما يعني أنّ ادّعاء المساواة التامّة بين الجنسين في الحقوق والمكانة هو في الواقع ادّعاء طبيعي، بينما ادّعاء أنّهما محرومان من حقوق متكافئة هو ادّعاءٌ وصفيٌّ، ومثال ذلك اختلاف النسويين في مصداق الظلم وانعدام المساواة، واختلافهم في الآراء بخصوص حقيقة القضايا غير العادلة التي تلحق الضرر بالمرأة، وفي هذا الصدد وضّحت الباحثة النسوية سوزان جيمس الإطار العامّ للرؤية الفيمينية بشكلٍ وصفيٍّ حينما قالت: «الفيمينية تتقوّم بالاعتقاد بكون المرأة مضطهدةً ومحرومةً مقارنةً مع الرجل، وهذا الظلم بحقّها مجحف وغير قانوني».[12] الفكر النسوي في رحاب الوجهة الطبيعية يتقوّم في الحقيقة بمبدأ أنّ المرأة تستحقّ الاحترام والمساواة مع الرجل ولا بدّ أن تنال حقوقها، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ النسويين لا يهدفون فقط إلى بيان مبدأ العدل والمساواة بشأن المرأة، بل يدعون إلى إيجاد تغييراتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ تُسفر عن إقرار العدل والمساواة التامّة بين الجنسين.
بعد عقد السبعينيات من القرن المنصرم ظهر تيار ما بعد الحداثة النسوي، وقد أكّد أتباعه على وجود اختلافٍ بين البشر، ومن هذا المنطلق رفضوا المعتقدات الغيبية الشاملة التي تحكي عن أفضلية الرجل على المرأة من بعض النواحي، حيث اعتبروها أساساً لأنواعٍ جديدةٍ من الظلم والاضطهاد بحقّ الجنس المؤنّث. وأمّا بالنسبة إلى زواج المرأة وأمومتها، فلم يعتبروهما سببين لعبودية المرأة وتدنيس حقوقها، وإنّما قالوا أنّ هناك مقرّراتٍ صارمةً وجائرةً فُرضت على المرأة الزوجة والأمّ أسفرت عن عبوديتها وتضييع حقوقها المشروعة، حيث أجبرها المجتمع على الخضوع لسلطة الرجل والانصياع لأوامره، وعَزَوْا جانباً من هذه السلطة المستبدّة إلى مناشئَ تربويةٍ، أي أنّ بعض السلوكيات المتقوّمة بالاختلاف بين الذكر والأنثى منذ ولادتهما تسفر عن إيجاد اختلافٍ جذريٍّ في ما بينهما، وعلى ضوء هذه التوجّهات اقترحوا طرح تعريفين جديدين لمفهومي الذكر والأنثى بالارتكاز على تساويهما التامّ بالحقوق في رحاب الأسرة والمجتمع. كما تطرّق أتباع هذا التيار النسوي إلى بيان الآثار التي تترتّب على مختلف الخطابات المطروحة والنتائج التي تتمخّض عن الأسس النظرية والحكايات والروايات التي تطرح غالبيتها من قبل وسائل الإعلام العامّة لدى تعريفها الجندر البشري، حيث اعتبروها ذات دورٍ فاعلٍ في تعيين واقع الجندر وتعيين الهوية الشخصية لكلا الجنسين، وقد عزوا مناشئ هذا الواقع لقضايا اجتماعيةٍ وسياسيةٍ حكمت حياة البشر على مرّ العصور[13].

التناظر الضدّي بين وجودين
الأسس الاستدلالية لأتباع الفكر النسوي تتقوّم بالتفكيك بين نوعين من الوجود، هما الوجود لأجل ذاته (لذاته) والوجود في ذاته متأثّرين في هذا المضمار بما طرحه الفيلسوف مارتن هايدغر، وفحوى ذلك أنّ الإنسان من منطلق وعيه الذاتي فهو لا بدّ وأن يتّصف بهذين النوعين من الوجود. الجدير بالذكر هنا أنّ الوجود لأجل الذات يتمحور حول الجوانب النفسية المتعالية التي تشرف على كيان الإنسان، في حين أنّ الوجود في الذات يدلّ على ذلك الجانب الثابت والمتعيّن من النفس والذي يخضع للإشراف ويكون موضوعاً للوعي. هذان الجانبان في شخصية الإنسان تربطهما علاقةٌ جدليةٌ، إذ لا يمكن للجانب المشرف أن يتحقّق على أرض الواقع في منأًى عن الجانب الخاضع للإشراف، كما أنّ معرفة النفس والإشراف عليها لا يمكن أن يصدقا في واقع الحال إلا إذا كان هناك مشرفٌ. أضف إلى ذلك فالوجود لأجل الذات من خلال تجلّيه باستمرارٍ وعلى ضوء تبلور إمكانياته الكامنة فيه، فهو يتمحور حول التحقّق والحدوث، ولكنّ الوجود في الذات يتقوّم على أساس أنّه كائنٌ ومتحقّقٌ على أرض الواقع، أي أنّه موجودٌ بالفعل. هذه العلاقة الجدلية الكامنة في باطن الإنسان تتجلّى أيضًا في المضمار الاجتماعي على ضوء الذات بما هي والذات الأخرى، وكلّ واحدةٍ منهما تفتقر إلى الأخرى وفي الوقت نفسه تنقضها، فكلّ ذاتٍ لا معنى لها إن لم تكن هناك ذاتٌ أخرى، وهي إلى جانب ذلك تحظى بأهميةٍ بالغةٍ، إلا أنّ الذات الأخرى مجرّد أمرٍ هامشي بالنسبة إليها.
الداعية النسوية سيمون دي بوفوار ادّعت أنّ الثقافات السائدة في المجتمعات البشرية اعتبرت الذكورة موجوداً لذاته والأنوثة موجودةً في ذاتها، وعلى هذا الأساس فرجولة الرجل عبارةٌ عن أمرٍ في حركةٍ دائبٍة وذاتُ شأنٍ مستقلٍّ وتتفاعل دائماً مع كلّ تغيُّرٍ وظروفٍ جديدةٍ يشهدها المجتمع، بينما أنوثة المرأة تجعلها مجرّد كائنٍ قعيدِ المنزل نظراً لخصائصها الكامنة في ذاتها مثل سكونها عن الحركة وتبعيتها وعدم تفاعلها مع التغييرات والظروف الطارئة في الحياة.
من المؤكّد أنّ الظروف الثقافية والاجتماعية لها دورٌ مشهودٌ في حدوث هذا الانفكاك بين الجنسين، وأضافت إليها دي بوفوار مؤثّراتٍ أخرى مثل الطبيعة البدنية لكلٍّ من الذكر والأنثى، فالبنية الجسمية برأيها تعدّ سبباً أساسياً في حصول انفكاكٍ في ما بينهما، لأنّ المرأة على ضوء حملها الجنين في بطنها وإرضاعها له بعد ولادته ومن ثمّ تربيته وتأهيله للولوج في الحياة العامّة، تضطرّ إلى التأقلم مع السكون والتبعية لظروفٍ معيّنةٍ ومتكرّرةٍ في منزلها، بينما الرجل على ضوء عدم تقيّده وتحرّره بدنياً عن العناية المباشرة بالأطفال ونظراً لخصائصه المتحرّكة التي تجعله يتفاعل مع البيئة الاجتماعية تزامناً مع كلّ تغيُّرٍ يطرأ فيها، يهيّئ نفسه للعمل على تلبية متطلّبات أسرته ويكون على أهبة الاستعداد لمواجهة شتّى ظروف العمل الثابتة والطارئة[14].
العلاقة الجدلية بين الجنسين تبلورت على أرض الواقع حينما اعتُبر الرجل موجوداً لذاته واعتُبرت المرأة موجودةً في ذاتها، إلا أنّ هذه العلاقة افتقدت حيويتها ولم تعد فاعلةً بشأن كلا الطرفين ومن ثمّ تزعزعت أركانها، فالرجال تصوّروا أنفسهم أنّهم أصحاب الرأي النهائي والقول الفصل معتبرين المرأة ليست سوى كائنٍ هامشيٍّ لا دور له، ومن ناحيةٍ أخرى فالمرأة اضطرّت للإذعان لهذه الظروف وتأصيلها في باطنها على الرغم من كونها مجحفةً بحقّها، لذلك افتقدت استقلالها وتجاهلت صلاحيتها في اتّخاذ القرارات الحاسمة، وهو ما وصفه النسويون بأنّ المرأة في المجتمعات البشرية مجرّد كائنٍ «آخرَ».
الناشطة النسوية الاسترالية جين ماري دالي ارتكزت في نظرياتها على مبادئ لاهوتية أنطولوجية جرّاء تأثّرها بعالِمَيِ اللاهوت الألمانيين بول يوهانس أوسكار تيليش ومارتن بوبر، حيث تجاوزت تيار الاعتدال في هذا الصدد ولا سيّما ضمن كتابها الشهير (beyond God the father) وعلى هذا الأساس اتّخذت خطواتٍ هامّةٍ على صعيد الدفاع عن حقوق المرأة، حيث أكّدت على عدم صوابيّة تصوير الربّ بكونه أباً ومذكّراً، فهذا التصوير برأيها يثير شكوكاً حول واقع الأمر ناهيك عن أنّه يمهّد الأرضية المناسبة لترويج أسسٍ ثقافيةٍ ذاتِ طابعٍ ذكوريٍّ تنصبّ في مصلحة الرجل فقط، كما أكّدت على عدم صوابيّة تصوير الربّ بصفته كائناً متعالياً يعجز البشر عن الارتباط به.[15] وفي هذا السياق اعتبرت العلاقة المثالية بين الإنسان والربّ بأنّها تتقوّم بمبدأ «أنا وأنت» المطروح من قبل مارتن بوبر، فالإنسان على ضوء هذه العلاقة يرتبط بالإله بصفته شخصاً حيّاً وفاعلاً. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الإله الذي قصدته ماري دالي لا يتمثّل بالمسيح عيسى 8 ولا بذلك الوجود المتعالي الذي تؤمن به الأديان، بل هو عبارةٌ عن حركةٍ وجوديةٍ فاعلةٍ مفعمةٍ بالحياة.
وممّا تعتقده هذه الباحثة النسوية أنّ تحطيم صنمية الربّ الأب في حياة البشرية ليس كافياً في نيل المرأة حقوقها المشروعة، وإنّما لا بدّ لها أيضًا من كسر القيود التي كبّلها بها الرجل على مرّ العصور والمتمثّلة في كونها كائناً «آخر»، لذا يجب أن تلج الحياة باعتبارها مخلوقاً متّسقاً مع الرجل بالكامل لا ثانوياً، وفي هذا المضمار أكّدت على وجود ارتباطٍ بين تصوير الربّ بالمذكّر وبين التقليل من شأن المرأة بصفتها كائناً «آخر».
وأمّا العلاقة بين الإنسان والربّ على أساس مبدأ «أنا وأنت»، فهي برأي دالي يجب ألاّ تقتصر على هذا الجانب، بل لا بدّ وأن تسري أيضًا بين البشر أنفسهم بذات الشكل، إذ في رحابها تتغيّر الأوضاع المزرية للمرأة والمتقوّمة بمنح الرجل الحقّ في قول «أنا» وعدم امتلاك المرأة لهذا الحقّ باعتبارها «ذلك» الكائن «الآخر»، فالمرأة بالنسبة إلى الرجل حسب هذه الرؤية ليست سوى «شيء»، ومن ثمّ فالعلاقة بينهما من سنخ ارتباط الأصل بالفرع.
إن أرادت المرأة تحقيق هدفها وتجاوز هذه الرؤية المنحازة للرجل، فلا محيص لها من اتّخاذ قراراتٍ جريئةٍ وشجاعةٍ برأي بول يوهانس أوسكار تيليش، وعليها أن تسعى بشكلٍ دؤوبٍ للعيش في رحاب وجودها الإنساني الأصيل، وتتصدّى بكلّ ما أُوتِيت من قوّةٍ للمقرّرات الجائرة التي اتّخذت بحقّها والأوصاف غير اللائقة بشخصيتها الإنسانية، مثل كونها كائناً «آخر» أو مجرّد «شيءٍ» ثانويٍّ في الحياة الاجتماعية التي تمنح الأولوية للرجل.
النوع الآخر من اللاهوت الأنطولوجي يتجسّد في ما يسمّى في العصر الحديث بـ «لاهوت التحرير» الذي حظي باهتمام أتباع الفكر النسوي، حيث طرحت مفاهيمه الأساسية لأوّل مرّةٍ من قبل المفكّر جيمس كون الذي طرح مفاهيم لاهوت تحرير السود المعروف باصطلاح «لاهوت السود» ضمن كتابه «الثيولوجيا السوداء والتحرير»، والمبادئ الثيولوجية التي انبثقت من هذه التوجّهات اللاهوتية انعكست في الرؤى التي تبنّاها المفكّرون تجاه الجنس الأنثوي وتمّ تطبيقها في النظريات التي طرحها النسويون، وأوّل من فعل ذلك الناشطتان في مجال حقوق المرأة ليتي راسل وروز ماري روتر.
ليتي راسل من خلال اعتمادها على مبادئ لاهوت التحرير ضمن دعواتها لإقرار حقوق المرأة، بادرت إلى تفسير مفاهيم الكتاب المقدّس بأسلوبٍ ثوريٍّ وثيولوجيٍّ تحرّريٍّ، فقد فسّرت الفوز في الآخرة على سبيل المثال بأنّه لا يعني الإعراض عن الدنيا، بل يراد منه التغلّب على المعاناة والآلام والتمييز الذي يتعرّض له الإنسان في الحياة الدنيا، واعتبرت الذنب بأنّه يدلّ على معنًى مغايرٍ للتحرّر، وعلى هذا الأساس يجب اعتبار بعض القضايا ذنوباً، مثل الظلم والاضطهاد والتمييز الجنسي.
بما أنّ الظلم والتمييز يتجلّيان على أرض الواقع من خلال تجريد الإنسان عن إنسانيته واعتباره مجرّد «شيءٍ» أو كائنٍ «آخرَ»، فالذنب إثر ذلك يعني الخروج عن المبادئ الإنسانية، وثمرة ذلك أنّ تعاليم الكتاب المقدّس التي تؤكّد على وقوف الإنسان بوجه الشرّ والآثام، يراد منها استئصال العقبات التي تعترض حياة الإنسان وتؤدّي إلى تجرّده عن إنسانيته الحقيقية. وفي هذا السياق قال أتباع هذا الفكر اللاهوتي أنّ المرأة على مرّ التأريخ عانت من اضطهادٍ وتمييزٍ جنسيٍّ، إذ ارتكبت البشرية آثاماً بحقّها، لذا لا بدّ من لجوئها إلى مبادئ لاهوت التحرير لإنقاذ نفسها وتخليصها من القيود التي فرضت عليها ودنّست إنسانيتها[16].

* التنافر بين الأسس العقلية والأنوثة في الفكر الغربي
المرأة الغربية إبّان القرن التاسع عشر حُرمت من حقّها في العمل والدراسة جرّاء الاعتقاد الذي كان سائداً آنذاك بكونها تمتلك قابلياتٍ عقليةً أدنى ممّا يمتلكه الرجل وعدم تساويها معه ذاتياً وطبيعياً، فقد اعتبرت كائناً ضعيفاً بالذات وليس من شأنها أن تضاهي الرجل بتاتاً لكونها تعتمد على عواطفها في مختلف سلوكياتها، وهذه العواطف بطبيعة الحالة تجعلها تتبنّى سلوكيات منفعلة غير عقلانية إلى حدٍّ ما لكون هذه الميزة من مقتضيات بنيتها الأنثوية. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الرؤية شاعت أيضًا بشأن الفئات التي هي أقلّياتٌ اجتماعيةٌ، مثل مُلَوّني البشرة وسائر الأقلّيات القومية، فهي أضعف من سائر الفئات، ويُعزى هذا الضعف إلى الاختلاف الطبيعي والفسيولوجي في مابينها.
الفيلسوفة الأسترالية المدافعة عن حقوق المرأة جانفييف لويد قالت في كتابها الذي دوّنته تحت عنوان (الرجل العقل: «الذكر» و «الأنثى» في الفلسفة الغربية): «دور العقل في الثقافة الغربية لا يقتصر على فهم المعتقدات، وإنّما للعقل دور هامٌّ في فهم شخصية الإنسان، فهو ليس مجرّد جزء من المعايير الذاتية التي نعتمد عليها لتقييم الحقائق، بل هو جزءٌ أساسيٌّ في مجال معرفتنا واقع إنسانية الإنسان والظروف التي يصبح على ضوئها إنساناً حسناً، وفهمنا النسبة الصحيحة بين كونه إنساناً مدركاً وسائر شؤون حياته.
الأفكار الفلسفية التي تبنّاها الأسلاف إزاء ذلك الشيء الذي يعتبر أساساً لإنسانية الإنسان وتجاه القضايا التي تعدّ ارتكازيةً في امتلاكه حياةً تليق بشأنه الإنساني، منحت الطباع البشرية صفاتٍ مثاليةً بمحورية العقل، وبكلّ تأكيدٍ يمكننا التشكيك بشكلٍ جادٍّ بعمومية هذه المثُل وإثبات انحيازها».[17] وتعتقد هذه الباحثة النسوية أنّ تصوير العقل البشري بطابع ذكوري لا يرتكز على مجرّد آراءٍ مدوّنةٍ وسطحيةٍ فحسب، بل يضرب بجذوره في المبادئ الفلسفية الغربية، وقالت موضّحةً رأيها: «أفكارنا بالنسبة إلى الذكورة والأنوثة، والشعارات التي نرفعها في هذا الصعيد، ناشئةٌ في الواقع من المرتكزات التي تتقوّم عليها السلطة بمحورية أفضلية البعض على من هم أدنى رتبةً في الحياة، وبمحورية الطبيعة والخروج عن قانونها الطبيعي، وعلى أساس مبادئ السلب والإيجاب، والأصل والمكمّل.
الاعتقاد بوجود اختلاف بين الجنسين لا يتقوّم على مبدأٍ أخلاقيٍّ واضح يمكن الاعتماد عليه كمرتكزٍ لتصنيفهما ضمن فئتين متباينتين، وإنّما هو صِرفُ وسيلةٍ معتمدةٍ لبيان مكانتنا الأكسيولوجية».[18] وأضافت في هذا السياق أنّ الاعتقاد بالازدواجية في الوجود والمتقوّم بتفرّد الرجل بالمقام الأوّل وكونه أفضلَ من المرأة، يضرب بجذوره في النظريات التي تبنّاها الفيثاغوريون الذين كانوا ينسبون كلّ فضيلةٍ ومكرمةٍ إنسانيةٍ للجنس المذكّر، وثمرة هذه الرؤية المتطرّفة ليست سوى انحطاط الأنوثة في العالم الغربي وتصوير المرأة بكونها إنساناً دنيئاً ومن الدرجة الثانية: «حصيلة هذه الوجهة الفكرية لم تقتصر على تهميش المرأة بكلّ بساطةٍ، وإنّما تأسيس قضية تحت عنوان (أنوثة) على ضوء هذا التهميش».[19] التصوّر السائد في الأوساط الفلسفية الغربية المعاصرة باعتبار العقل مذكّر الهيئة، نتيجته الحتمية هي تصوير أنّ كلّ ما يعقله الرجل في ذهنه ويعتبره صائباً ولازماً، ليس بالضرورة أن يتبادر في ذهن المرأة، فضلاً عن ذلك فالجندر هو أحد القضايا التي يعتقد البعض بوجوب تجرّدها عن الفكر العقلي، ولا شكّ في أنّ القابليات العقلية البشرية المتكافئة لكلا الجنسين تعدّ مرتكزاً أساسياً للكثير من النظريات الأخلاقية والسياسية، فهذه النظريات تتقوّم بعقل الإنسان بما هو إنسان ولا ارتباط لها بكونه ذكراً أو أنثى.
على الرغم من هذه الأطروحات الفكرية التي روّجت لها الداعية النسوية جينيفيف لويد، إلا أنّنا نلاحظ أصحاب الفكر النسوي يصرّون على رؤيتهم الجنسوية لجميع القضايا العقلية في المجتمع، وذلك من منطلق اعتقادهم بأنّ التفوّق في الخطابات الشفوية هو للذكور، فكلّما دار حوارٌ بين الرجل والمرأة يكون التفوّق الكلامي للرجل، لأنّ كلامه لا تعارض فيه وقلّما تستطيع المرأة مجاراته فيه، ومن ناحية أخرى فالنساء لا يتحدّثن كثيراً عن المنزل والأسرة.[20] تفيد الدراسات التي أجريت في بريطانيا أنّ الرجال من خلال بيانهم مختلف المواضيع للنساء، يظهرون وكأّنّهم أكثر علماً منهنّ، ومن ثمّ فلا حيلة لهنّ سوى الإصغاء وتأييد ما يستمعن إليه، كما أنّ الرجال لهم صلاحية قطع كلامهنّ حينما يتحدّثن، وعلى الرغم من ذلك قلّما يعترضن على هذه الحالة، وفي الحين ذاته نادراً ما يبادرن إلى قطع كلامهم.[21] أضف إلى ذلك فإنّهنّ يطرحن أسئلةً أكثر منهم من منطلق تصوّرهنّ أنّ السؤال يتيح لهنّ مجالاً أكثر للكلام لكون الرجال بهذا الشكل يواصلون الكلام معهنّ عبر الإجابة عن استفساراتهنّ، كذلك يكثرن في كلامهنّ من استخدام ضميري «نحن» و «أنتم» وعلى أساس هذه الاستراتيجية الكلامية يحاولن التأقلم معهم قدر المستطاع كي يصبحن جزءاً من المجتمع.
وتفيد الدراسات المشار إليها أنّ الرجال لدى حديثهم مع أقرانهم الذكور عادةً ما يقطعون كلام بعضهم البعض الأمر الذي يدلّ على وجود تحدّياتٍ فكريةٍ في ما بينهم ضمن استراتيجيتهم الكلامية، وفي هذا السياق يتجاهلون بعض ما يطرحه الطرف المقابل بقصد السيطرة على الموضوع وتحقيق النتائج التي تنصبّ لصالحهم، وغالباً ما يطرحون هذه النتائج ضمن جملة واحدة كي يطّلع عليها من يحاورهم، لكنّهم حينما يتناولون أطراف الحديث مع النساء تكون لهم السلطة في الكلام باعتبار أنّهنّ أدنى مستوًى منهم. إن أردنا بيان طبيعة هذا السلوك فلا بدّ لنا من تتبّع جذوره ضمن المجتمع الذي تبلور في رحابه[22].
بناءً على ما ذُكر هناك اختلافٌ بين الرجل والمرأة على صعيد الكلام، وهذا الاختلاف غالباً ما يتبلور ضمن البيئة الثقافية وقلّما ينعكس في مضمار اللغويات ما يعني أنّ الأصول الثقافية المعتمدة في المجتمعات البشرية هي التي تحدّد نمط السلوك الخطابي على أساس جنس المتكلّم ومقامه الاجتماعي والطبقة التي ينحدر منها.
النسويون لم يبادروا في الحقيقة إلى تشذيب البنى الفكرية التي تقلّل من شأن المرأة في العالم الغربي، وإنّما قصدوا في آرائهم ونظرياتهم التنسيق بين العقلانية والجنس، لذلك تشبّثوا ببعض القضايا مثل سلطة الرجل في بعض المجالات التي من جملتها الخطاب الشفهي، في حين أنّ الرؤية الإسلامية لا ترتضي التقليل من شأن المرأة وترفضه من أساسه، حيث تؤكّد على عدم وجود اختلاف بين الجنسين من الناحية العقلية، والشاهد على هذه الحقيقة أنّ الفلاسفة المسلمين عرّفوا الإنسان - بما هو إنسان وبغضّ النظر عن ذكوريته وأنوثته - بالحيوان الناطق، وكما هو معلومٌ في القواعد المنطقية فكلمة حيوان تدلّ على الجنس البشري والناطق فصل له. إذاً، الذكورة والأنوثة التي يتّصف بها البشر تقسّمهم إلى نوعين، لذا حينما يكتمل الحديث عن إنسانية الإنسان وتتبلور كافّة المفاهيم المرتبطة به على صورتها الإنسانية، يأتي الدور لمبحث التذكير والتأنيث ضمن مبادئ الذاتي والعرضي وما لهما من خصائص.
الكائنات المادّية من الناحية الفلسفية مركّبةٌ من مادّةٍ وصورةٍ، ومادّتها هي في الواقع قابليتها وصورتها تدلّ على فعليتها باعتبارها أشياء موجودةً، وشيئية كلّ كائنٍ ترتبط بصورته لا بمادّته، لأنّ مادّة كلّ شيءٍ مشتركةٌ ولها القابلية على أن تتجلّى بصورٍ متنوّعةٍ.
الجدير بالذكر هنا أنّ الفلاسفة اعتبروا التذكير والتأنيث من شؤون مادّة الشيء لا من شؤون صورته، ما يعني أنّ الذكورة والأنوثة لا أثر لهما مطلقاً على صورته وفعليته، وعلى هذا الأساس استنتجوا أنّ كون الإنسان رجلاً أو امرأةً، منبثقٌ من مادّتهما لا من صورتهما لأنّ التذكير والتأنيث ليسا من مختصّات الإنسان فحسب، بل موجودان في الحيوانات والنباتات، ففيها ما هو مذكّرٌ وما هو مؤنّثٌ. لذا، حينما يتّصف هذا الحيوان بالكمال، فلا دور حينذاك لذكوريته أو أنوثته، وإنّما كلّ حيوان له فعليته وصورته الخاصّة به ومن ثمّ ترتكز كمالاته على هذا المحور، لكن غاية ما في الأمر أنّ الذكورية والأنوثة لهما تأثيرٌ على القدرة البدنية ولا تأثير لهما على الكمال الحقيقي، ناهيك عن أنّ الزوجية في شأن النباتات تعتبر أدنى رتبةً من الزوجية الحيوانية.
إذاً، التذكير والتأنيث ليسا من ذاتيات الإنسان، فضلاً عن ذلك فإنّ إنسانيته منوطةٌ بروحه، وروحه في الواقع منبعثٌ من عالم القدس ويُنسب إلى الله عزّ وجلّ، ومن البديهي أنّ كلّ شيء ينسب تشريفاً إليه تبارك شأنه يجب أن ينزّه من الذكورية والأنوثة[23].
وقد أكّد البارئ سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم على أنّ الإنسان حينما يتوفّى يُقبض روحه ليفارق بدنه ويبقى محفوظاً بالكامل دون أن يطرأ عليه أيّ نقصٍ، فحتّى وإن اندرس بدنه وتلاشى يظلّ روحه على حاله، وهذه الحقيقة تدلّ على كون بدن الإنسان ليس عين ذاته ولا جزءًا منها ولا حتّى لازماً لها، وإنّما هو مجرّدُ وسيلةٍ لهذه الذات، ومن ناحية أخرى، فالحيوانية والناطقية هما المرتكز الأساسي للذات بأسرها، ما يعني أنّ الناطقية جزءٌ من ذات الإنسان مثلما أنّ التعجّب من مستلزماتها، في حين أنّ البدن لا دور له هنا بتاتاً، لذلك وصف بعض الفلاسفة البدن بأنّه مطيّة الروح، ومن البديهي أنّ الممتطى يختلف عن الممتطي.

* الانسجام بين العقل والجنس
العقل هو الميزة الفارقة للإنسان عن سائر المخلوقات، إذ لا محيص له من التعقّل، والقرآن الكريم بدوره أكّد على أنّ قيمة الإنسان بعقله، ولولاه فهو أسوأ من البهائم التي لا تعقل شيئاً: Nإِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَM [24].
العقل في المفهوم القرآني والدين بشكلٍ عامٍّ، عبارةٌ عن وسيلة تتيح للإنسان معرفة الحقّ والعمل على أساسه، لذا كلّ من لا يمتلك إدراكاً صحيحاً فهو ليس بعاقلٍ، كما أنّ العالم الذي يعرف الحقيقة ولا يعمل بها فهو أيضًا ليس بعاقلٍ، وفي هذا السياق وصفه الإمام جعفر بن محمّد الصادق 8 حينما سأله أحد أصحابه عن حقيقة العقل، قائلاً: «ما عُبد به الرحمن واکتسب به الجنان».[25] نستشفّ من هذا الحديث أنّ الإنسان الذي لا يعبد الله سبحانه وتعالى أو لا يؤدّي عملاً يجعله مستحقّاً للجنّة، هو في الواقع لس بعاقل، لأنّ العقل يعني اليقين والعمل، إذ عندما يدرك الإنسان شيئاً ببرهان نظري ويتيقنّ به ومن ثمّ يعمل به استناداً إلى قابلياته العقلية، فهو عاقلٌ بكلّ تأكيدٍ.
استناداً إلى ما ذكر أعلاه أكّد القرآن الكريم على كون المرأة ذات شخصيةٍ إنسانيةٍ حالها حال الرجل، ومن الآيات الدالّة على هذا الوصف للشأن البشري، قوله تعالى: Nمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَM.[26] هذه الآية تدلّ بصريح القول على أنّ كلّ إنسان ذكراً كان أو أنثى، خاضعٌ لقانونٍ عامٍّ وشاملٍ فحواه أنّه يقطف في عالم الآخرة ثمار أعماله الدنيوية الصالحة التي أنجزها على ضوء إيمانه، فسوف تتبلور حينذاك في رحاب حياةٍ طيّبةٍ، حيث يعيش في مجتمعٍ ملؤه الطمأنينة والأمن والرفاهية والسلام بعيداً عن كلّ تشويشٍ وقلقٍ ومعاناةٍ، ناهيك عن أنّ كلّ إنسان ذكراً كان أو أنثى سيتلذّذ بنعيم الجنّة بقدر أعماله الصالحة في الحياة الدنيا.
إذاً، الآية الكريمة تدلّ بوضوحٍ على هذه الحقيقة ولا تتضمّن أيّ مفهومٍ يمكن اتّخاذه ذريعةً للتشكيك بمقام المرأة الإنساني أو ادّعاء أنّها ستكون في الحياة الآخرة أقلّ شأناً ومرتبةً من الرجل، ولا نبالغ لو قلنا أنّ هذه الآية تدلّ في مضمونها على واقع الرؤية الإسلامية تجاه إنسانية البشر، لذا فهي تدحض رأي أولئك المتطرّفين الذين يزعمون أنّ الإسلام دينٌ منحازٌ للجنس المذكّر، إذ تؤكّد على أنّ الثواب لا شأن له بجنس الإنسان، فمن يعمل صالحاً ينال ثوابه ذكراً كان أو أنثى دون أدنى تمييزٍ أو إجحافٍ.

* تصوير اقتدار المرأة في جاذبيتها الجنسية
معظم المبادئ التي تطرح في المشروع الفيميني الغربي تقتضي تجاهل الثنائية المفهومية بين الذكر والأنثى في مختلف الجوانب الطبيعية والثقافية، المتعالية والباطنية، الكلّية والجزئية، الذهنية والجسمانية، العقلية والشعورية، العامّة والخاصّة. ومرتكزهم في هذا المضمار أنّ المجتمعات البشرية تمنح الجنس المذكّر أهميةً أكسيولوجيةً عليا بينما تتنزّل بشأن الجنس المؤنّث إلى مقامٍ أدنى ضمن مختلف المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالذكورة والأنوثة، ومن ثمّ تسفر هذه الثنائية ـ الازدواجية ـ عن تدنّي شأن المرأة ثقافياً في البنية العامّة لحياة البشر.
بعض الفلاسفة النسويين قالوا إن حرمان المرأة من الخوض في القضايا الفلسفية أسفر عن رواج آراء قوامها أرجحية التجارب والمهن المختصّة بالرجل، ويمكن تشبيه هذه الحالة بما ذهبت إليه الفلسفة الغربية الحديثة في تأصيل بعض القضايا كحرّية الرأي والمساواة والفردانية عبر تصوير الإنسان بشخصية وجودية تختلف عن غيرها، فالرجل هو الإنسان والمرأة هي الغير.
النسويون في هذا المجال أكّدوا على أنّ النظريات الأخلاقية متقوّمةٌ بأسسٍ ازدواجيةٍ بمحورية تجارب الرجل وعرّفت النزعة الأخلاقية بكونها مضماراً عامّاً لا خاصّاً، وعلى الرغم من أنّ الأخلاق النسوية قوامها رؤيةٌ واحدةٌ، لكنّ مناهجها تتلخّص في الترويج لقضايا أنثويةٍ متنوّعةٍ على صعيد السلوك الأخلاقي، فقضية الأمومة مثلاً تدلّ على وجود ارتباطٍ ذي نمطٍ معيّنٍ بين الأمّ وطفلها، وهذا الارتباط عبارة عن أنموذج للسلوك الأخلاقي، وقضية حرّية الجنس المثلي بالنسبة إلى المرأة تدلّ على ترتكز على حرّية الاختيار بدل التكليف المتعارف، حيث يسعى النسويون إلى طرح مفاهيم يمكن للمثليات على أساسها أن يحقّقن أهدافهنّ ويبلغن أعلى مستوًى من الجنس المثلي، أضف إلى ذلك فالمنهج النسوي الأخلاقي يرتكز في أساسه على إضفاء تغييراتٍ إلى المبادئ المتعارفة في المجتمع والتي تمنح الرجل سلطةً على المرأة كي تبقى خاضعةً له ومنقادةً لأوامره ورغباته في شتّى المجالات العامّة والخاصّة.
المناهج النسوية على الصعيد الأخلاقي تضرب بجذورها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، حيث نلمسها جليةً في آثار بعض المفكّرين الغربيين من أمثال ماري ولستون كرافت وجون ستيوارت ميل وهاريت تايلور، وهذه المناهج التي تدخل في مراحلَ جديدةٍ يوماً بعد آخر، حيث تؤكّد على الأهمية البالغة للخصائص التقليدية التي اتّصف بها المرأة مثل العناية بأسرتها وشفقتها على أعضائها وإرادة الخير لها وتربية أبنائها والرأفة بهم والتعامل معهم بأخلاقٍ عالية، وهذه الأهمية لا تقلّ شأناً عن الخصائص التقليدية للرجل كالعقلانية والعدل والقدرة على الاستدلال. وفي هذا السياق أكّدت الفيلسوفة وعالمة النفس الأمريكية كارول جيليغان على أنّ المرأة تنزع بشكلٍ عامٍّ إلى طرح آرائها بلطفٍ وعنايةٍ لا بلحن العدالة، وذلك لأسباب عديدة، وفي كتابها الشهير «بصوتٍ مختلفٍ: النظرية النفسية وتنمية المرأة» قالت أنّ الأسس الأخلاقية للذكر تتّسم بطابعٍ مختلفٍ بالكامل عن الأخلاق الأنثوية، وبما أنّ المرأة تتولّى مهمّة تربية الأطفال وتربيتهم أخلاقياً، فهي على إلمامٍ بالمبادئ الأخلاقية وتعرف المسؤوليات الملقاة على كاهلها.[27] لكن على الرغم من هذه الوجهة العلمية المتقوّمة بأسسٍ سيكولوجيةٍ خاصّةٍ بكلّ واحدٍ من الجنسين، إلا أنّ النسويين لا ينفكّون عن المبالغة في القابليات الجنسية التي تمتلكها المرأة، ومن هذا المنطلق طرحوا قضايا أخلاقيةً خاصّةً بمحورية الخصال الجنسية الأنثوية هادفين من وراء ذلك إلى تعويض الضعف الكائن في ميزاتها الإنسانية - بحسب زعمهم - حيث ادّعوا أنّها افتقدت الكثير من خصالها الأصيلة جرّاء خضوعها لسلطة الرجل وإثر تهميشها في مضمار الحياة العامّة.
الجدير بالذكر هنا أنّ العقود الأخيرة شهدت رواج قضايا جنسيةٍ مرتكزةٍ على إغراءاتٍ بدنيةٍ، إلا أنّ المجتمعات البشرية في العهود السالفة شهدت شيوع رؤيةٍ فلسفيةٍ ودينيةٍ إزاء الخصائص الجسمية للإنسان، فالحكيم أفلاطون على سبيل المثال تبنّى فكرة أفضلية الذهن على البدن المادّي، وقال إنّ هناك مراتبَ خاصّةً مرتبطةً بهما مؤكّداً على أنّ الأرجحية فيها دائماً ما تكون للذهن. بعد التغييرات الجذرية التي طرأت على الرؤى الغربية وترجيح الخصائص الجسمانية على الخصائص الذهنية، سادت فكرةٌ فحواها أنّ وظيفة المرأة تتلخّص في منح الرجل السعادة في الحياة، وعلى هذا الأساس صوّر الفيلسوف جان جاك روسو المرأة وكأنّها مجرّد وسيلة لا غاية، إذ صرّح في كتابه المعنون «أميل» قائلاً: «تعليم المرأة بأسره يجب أن يتمحور حول الرجل، فعليها أن ترضيه وتنفعه وتفعل ما يحبّه وتكنّ له الاحترام، وعليها تعليمه في طفولته، وحينما يكبر يجب أن تعتني به وتكون مصدراً لطمأنينته بحيث تجعل حياته بهيجةً. هذه المهمّة الملقاة على عاتق المرأة يجب أن تروّج تربوياً في جميع الأزمنة ويجب أن تبدأ منذ سنّ الرضاعة».[28] الجدير بالذكر هنا أنّ التيارين الأوّل والثاني للنزعة النسوية عارضا هذه الرؤية لدرجة أنّهما انتقدا المسابقات التي تقام لاستعراض جمال المرأة أو لاختيار ملكة الجمال وشبّها الحاضرين فيها بقطعان الماشية، وذلك من منطلق اعتقادهم بأنّ بعض السلوكيات من قبيل استخدام المكياج وارتداء الباروكة والتعطّر ليست سوى تداعياتٍ لمبادئ الفكر الرأسمالي الذي بسط نفوذه على نطاق واسع، والطريف أنّ هذا التوجّه أثمر نتائجَ ملموسةً تجسّدت في أضرارٍ مادّيةٍ للشركات المنتجة لوسائل التجميل، لكن سرعان ما انقلبت الصورة وتغيّرت وجهات النظر النسوية وانطلق التيار النسوي الليبرالي الذي سحب البساط من تحت قدمي سلفه الراديكالي، فحلت الأستيطيقا الليبرالية محلّ الأستيطيقا الراديكالية التي اعتبر أتباعها أنّ مشاركة المرأة في عالم الجمال تعدّ تبلوراً لاقتدارها ونفوذها في المنافسات الاجتماعية المحتدمة، فهي على ضوء خصائصها الأستيطيقية تشعر باقتدارٍ.
جسم المرأة في عصر ما بعد الحداثة أصبح وسيلةً تجاريةً رابحةً في شتّى الصناعات والنشاطات الاقتصادية، ومن هذا المنطلق بادرت الشركات متعدّدة الجنسيات (Multinational Corporation) إلى إنجاز مشاريعَ تعود عليها بفوائدَ ماليةٍ كبيرةٍ عن طريق الترويج لظاهرة السفور الفاضح الذي لم يكن معهوداً في المجتمعات القديمة، وبهذا استقطبت أنظار الناس نحو الاهتمام بالجانب الجمالي في الجسم وشجّعتهم على الزينة والتبرّج، وفي يومنا هذا تكفّلت التقنية الحديثة بذلك وخضعت لها الأسس الطبيعية التي كانت متعارفةً بين البشر مثل عملية الإنجاب والعمليات الجراحية وبما فيها عمليات التجميل البلاستيكي، حيث انتشرت على نطاقٍ واسعٍ وفق أسس أستيطيقية وما زالت تتمدّد يوماً بعد آخر وتبسط نفوذها بين البشر إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ، كما أنّ التطوّر الإلكتروني لعب دوراً مصيرياً في التغييرات التي طرأت إبّان العصر الحديث، فالمواقع الإنترنتية التي لا حصر لها خلقت لدى متابعيها رغباتٍ وطموحاتٍ وهميةٍ وافتراضيةٍ بدلاً عن تلك الرغبات والطموحات الحقيقية.
جسم الإنسان في عصر ما بعد الحداثة أصبح آلةً وموضوعاً من المواضيع العلمية، حيث تمحورت بحوث بعض العلوم الجديدة حوله ولا سيّما البيوكيمياء والجينات الوراثيية، لذلك خرج عن طبيعته الميتافيزيقية فأصبح ذا طابعٍ علمانيٍّ، وإثر ذلك تغيّرت رؤية الإنسان الغربي إزاء الجندر والبدن ومن ثمّ ابتعد عمّا كان شائعاً بين أسلافه من مفاهيمَ جنسويّةٍ الأمر الذي دعا الكثير من البلدان الغربية إلى أن تعيد النظر في قوانين الزواج ومختلف المقرّرات الرسمية والعرفية المرتبطة به لكون الرغبات والممارسات الجنسية الخارجة عن النطاق العرفي والقانوني أصبحت مشروعةً اجتماعياً ولم يعد الناس يرفضونها كالسابق، كما أنّ الأطفال الذين يولدون ضمن علاقاتٍ غير شرعية أصبح حالهم حال أقرانهم الذين يولدون من علاقاتٍ شرعيةٍ. تزامناً مع هذه التغييرات الجذرية شهد العالم الغربي شيوع مظاهرَ جديدةٍ أخرى من جملتها التأكيد على سلامة البدن ومختلف الشؤون الصحّية بفضل التطوّر الطبي الكبير، ومن هذا المنطلق بدأ الناس يهتمّون بشكلٍ ملحوظٍ بأوضاعهم الجسمانية ويعتنون بها قدر المستطاع.
إذاً، جسم الإنسان الذي كان في العصور السابقة مسخّراً للعمل، أنيطت له في عصر ما بعد الحداثة مهام جديدة أبرزها استعراض محاسنه والتأكيد على جوانبه الجنسية، ومن هذا المنطلق تمكّن الرأسماليون من تحقيق أرباحٍ ماليةٍ طائلةٍ على المستويين الفردي والجماعي، إذ بات التنوّع أصلاً ارتكازياً في المجتمعات الغربية الحديثة، فهو بطبيعة الحال يرفع من مستوى الاستهلاك وبالتالي ينصبّ في مصلحتهم بعد أن بذلوا كلّ ما بوسعهم لتأصيله في حياة البشر وترويجه على نطاقٍ أوسعَ.
الاستهلاك بات مرتكزاً أساسياً في عصر ما بعد الحداثة، ولم يَعد الروح أهمَّ من البدن كما كان عليه الحال سابقاً، ناهيك عن أنّ البدن أصبح مقدّساً وله الأولوية في كلّ مضمارٍ.
يدّعي النسويون أنّ المرأة بفضل محاسنها الجسمانية وسحرها الجنسي لها القدرة على مواكبة المبادئ الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البشرية جرّاء سيادة النظام الأبوي، لكنّهم غفلوا عن أنّ القابليات الجندرية المستودعة في باطنها ليست عامّة بحيث يدّعى وجودها في باطن جميع النساء، إذ ليس كلّ امرأة لها القدرة على تسخير قابلياتها الطبيعية في هذا المضمار أو استثمارها بشكلٍ صائبٍ، ومن ثمّ لا يمكنها إثارة شهوة الرجل وتأجيج مشاعره بحيث تسيّره كيفما تشاء وتجلعه عبداً لجسمها وجذابيتها الجنسية. إذاً، على الرغم من أنّ الشبق والرغبة الجنسية الجامحة جزء من ذات الأنثى وميزةٌ أساسيةٌ لطبيعة خلقتها، لكنّ كلّ قابليةٍ جنسيةٍ مفتقرةٌ من الأساس إلى تربيةٍ صحيحةٍ وعليها أن تحذر من عدم الوقوع في فخّ الشذوذ الجنسي الذي بات ظاهرةً شائعةً في العالم الغربي إبّان العصر الحديث، فقد تمّ تسخير جسم المرأة لأغراض شهوانية وجنسية واقتصادية بعد أن خدعت بشعاراتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ برّاقةٍ ومغريةٍ أغفلتها عن أنّ هدف من روّج لها هو تحقيق مكاسبَ اقتصاديةٍ.[29]
الحقيقة التي لا يُنكرها أحد هي أنّ المرأة الغربية خُدعت فكرياً بمظاهر الحياة العصرية في هذه الحقبة التأريخية الزاخرة بشتّى الأحداث والتغيُّرات المتسارعة، وذلك حينما لُقّنت أفكاراً منحرفةً صوّرت جسمها كآلةٍ وجمالها كوسيلةٍ، فتوهّمت إثر ذلك بأنّها ستقبى بهذا الشكل حتّى آخر عمرها، حيث توهّمت أنّها قادرةٌ على استثمار جذابيتها الجنسية في جميع الأحيان لصياغة شخصيتها الأنثوية التي يعشقها الرجال.
الإغراءات الجنسية الأنثوية في الواقع ليست كما تتصوّر المرأة الغربية المعاصرة، فهي غيرُ قادرةٍ مطلقاً على تأصيل عشقٍ أزلي في عمق قلب الرجل، بل التعرّي بحدّ ذاته هو الذي يغتال العشق ويطمس الحبّ الحقيقي، ولا نرى بأساً هنا بالإشارة إلى ما ذكرته الباحثة النسوية وندي شليث نقلاً عن الفيلسوف الشهير إيمانويل كانط: «المعشوق في الحبّ الجنسي ليس سوى عنصرٍ يثير الشهوة الجنسية، لذا بعد أن يُشبع العاشق رغبته من هذا المعشوق وتخمد شهوته فهو يتخلّى عنه ويلقيه بعيداً عنه كما تلقى الليمونة التي امتصّ عصيرها ولم يبقَ فيها شيءٌ يمتصّه».[30]
خلافاً لما ذهب إليه النسويون وبشهادة الحقائق التأريخية، فتحلّي المرأة بالخجل والحياء والعفاف يعني عملها وفق تلك الأصول الأخلاقية والقواعد الغريزية الأصيلة التي تتمكّن في رحابها من تأجيج نار العشق في قلب الرجل لدرجة أنّها تصبح لديه مقدّسةً وذات شأنٍ رفيعٍ،[31] وبما أنّها خلقت بطبيعتها محبّبةً ولطيفةً، فهي بكلّ تأكيد لديها مهارة امتلاك قلب الجنس المقابل والتربّع فيه كمعشوقةٍ يفعل لأجلها المستحيل. لكن حينما ينظر البشر إلى الجنس المؤنّث وكأنه مخلوقٌ عديمٌ الهوية وخالي الوفاض من عناصر الشخصية الإنسانية الحقيقية باعتباره كائناً يمتلك بدناً مثيراً للشهوة، تمسي المرأة آلةً جنسيةً ذاتَ أعضاءٍ بدنيةٍ ناعمةٍ ومثيرةٍ يمكن للرجل التمتع بها جنسياً لإشباع غرائزه وشهواته، ففي هذه الحالة تدنّس شخصيتها وتتعرّض هويتها لصفعةٍ مؤلمةٍ تحطّ من كرامتها الإنسانية الأصيلة.
ما يدعو للأسف أنّ المرأة في رحاب الثقافة الغربية لم تعد تحتفظ بذلك الحياء الذي يجعلها تستهوي الذكر وهي مقتدرة إلى جانب كونها لطيفةً وناعمةً، بل جرّاء خسرانها حياءها باتت ضعيفةً حقّاً ولا محيص لها سوى أن تمدّ يد الحاجة والسؤال للآخرين، وهذه الحالة تفاقمت أكثر بعد رواج الفكر النسوي الذي سخّر قدرتها على الجانب الجنسي الشهواني في العالم الغربي، لذلك خسرت شأنها الأنثوي اللطيف الذي هو جزءٌ لا ينفكّ عن شخصيتها ومن ثمّ هُزمت في معترك الحياة وطُمست كرامتها ودنّس شرفها الذي هو في واقع الحال العنصر الأساسي الذي يجعلها معشوقةً للرجل.[32]
لا شكّ في أنّ الحصيلة الطبيعية لطغيان هذه الظاهرة الشاذّة المتقوّمة بمرتكزاتٍ جنسيةٍ شهوانيةٍ، هي رواج معقتداتٍ خاطئةٍ فحواها قدرة المرأة على التصدّي للنظام الأبوي - البطريركي - الذي جعل الرجل يستحوذ على مقاليد أمورها، والأمر هنا لا يقتصر على المرأة فحسب، بل إنّ أشدّ المؤيّدين للمدّ التنويري في العصر الحديث وأبرز المفكّرين المعاصرين يعيرون أهمية بالغة لأنوثة المرأة بشكلٍ مباشرٍ، لكنّهم ينظرون إلى جانبها الإنساني بشكلٍ عرضي.

* الاستحقاق الكمّي بدل الحقّ النوعي
منذ القرن السابع عشر الميلادي شهدت المجتمعات الغربية تحوّلات واسعة النطاق في شتّى المجالات جرّاء النهضة العلمية والفلسفية الكبيرة التي اجتاحت الأوساط الفكرية من أقصاها إلى أقصاها ولا سيّما على صعيد القضايا الاجتماعية التي ولدت من رحمها حركة الدفاع عن حقوق الإنسان، ومعظم الباحثين والمفكّرين في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين سلّطوا الضوء في كتاباتهم ودراساتهم على الحقوق الفطرية والطبيعية للبشر ودافعوا عنها بكلّ قوّةٍ من منطلق اعتقادهم بكونها حقوقاً إنسانيةً لا يحقّ لأيّ كائنٍ تجريد أيّ إنسانٍ منها، ولم يتوانوا لحظةً عن الترويج لهذه الأفكار ودعوا إلى تعليم الناس أصولها، والأسماء الشهيرة كثيرة هنا لكن أبرزها في العصر الحديث جان جاك روسو وفرانسوا ماري أرويه المعروف باسم «فولتير» وشارل لوي دي سيكوندا المعروف باسم «مونتسكيو«.
المحور الأساسي الذي ارتكزت عليه آراء ونظريات هؤلاء الفلاسفة والمفكّرين هو أنّ الإنسان بفطرته وطبيعته الإنسانية يمتلك مجموعةً من الحقوق والحرّيات التي لا يمكن لأيّ فردٍ أو جماعةٍ تجريده منها، ناهيك عن أنّ هذه الحقوق تسري لكلّ قومٍ من البشر وهنا أيضًا تعدّ لازمةً ولا يحقّ لأيٍّ كان سلبها منهم تحت أيّ ذريعةٍ أو تبريرٍ، وحتّى صاحب الحقّ بذاته غير مخوّلٍ بتجريد نفسه منها ومنحها لغيره برغبته وإرادته. هذه النهضة الفكرية ذات الطابع الاجتماعي آتت أكلها لأوّل مرّةٍ في بريطانيا عام 1668م ثمّ في الولايات المتّحدة الأمريكية عام 1776م وبعد ذلك في فرنسا عام 1789، حيث تبلورت ضمن حركاتٍ وانتفاضاتٍ وثوراتٍ أسفرت عن تغيير الأنظمة الحاكمة، وتمخّضت في ما بعد عن إصدار مواثيق وتوقيع اتّفاقياتٍ محلّيةٍ ودوليةٍ لتسري بالتدريج إلى شتّى أرجاء العالم.
الجدير بالذكر هنا أنّ أوجه الشبه والاختلاف بين الذكر والأنثى هما المرتكز الأساسي والعنصر المشترك في مختلف الرؤى النسوية في الدفاع عن حقوق المرأة، حيث يعزو النسويون السبب في تخلّف المرأة عن ركب الحضارة وحرمانها من حقوقها الإنسانية الثابتة إلى انعدام العدل والتطرّف المجحف في تقسيم الأعمال بحسب الجنس وإبعادها عن الرجل في المراكز الحسّاسة وعدم منحها مناصبَ هامّةً إلى جانب تهميشها في سائر المشاغل الأساسية، وفي خضمّ هذه الأوضاع حُرمت من التعليم ولم يسمح لها بأداء دورها الاجتماعي اللائق بشأنها، إذ ينظر إليها المجتمع على ضوء جنسها الأنثوي بصفتها إنساناً من الدرجة الثانية في الحياة الاجتماعية وحتّى في الأعمال التي تزاولها خارج المنزل، وقد انعكست هذه الرؤية في الأجور التي تتقاضاها إزاء الأعمال التي تنجزها، فالمجتمع لم ينصفها حتّى في ثمن جهودها، ومن هذا المنطلق شمّر أتباع الفكر الفيميني عن سواعدهم لإعادة النظر بشكلٍ أساسيٍّ في المفاهيم الجنسية والجندرية - ولا سيّما مفهوم الأنوثة - بهدف تعيين المقصود من التأنيث وتحديد أطره الخاصّة لانتشال المرأة من واقها المرير وتخليصها من القيود الجنسية التي تمّ تكبيلها بها على مرّ العصور. النسويون قالوا أنّ مفهوم الأنثى في المجتمعات البشرية لا ينمّ عن أمرٍ واقعٍ، وإنّما هو انعكاسٌ لأمرٍ مزيّفٍ، وعلى هذا الأساس اعتبروا مفهوم الجنس sex مختلفاً عن مفهوم الجندر gender وعلى الرغم من اعتقادهم بكون الاختلافات الجنسية متأصّلة في طبيعة البشر، لكنّهم عزوها إلى مناشئ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ، لذلك قالوا من الخطأ بمكانٍ تصوّر أنّ الجندر له جذورٌ جنسيةٌ، أي أنّه ليس من الصواب الاعتقاد بكون كلّ أنثى يجب أن تقتضي طبيعتها لعب دور المرأة، فهذا التلازم - برأيهم - من صياغة ثقافة البشر.
الثمرة الطبيعية لهذا الاستنتاج النسوي هي أنّ الرجل أيضًا له شخصيةٌ جنسيةٌ مزيّفةٌ لكون جندره مختلفاً عن جنسه، فالذكورية حتّى وإن كانت شأناً طبيعياً وحقيقياً إلا أنّ الجنس الذكري من صياغة البشر وحصيلة للثقافة التي تمخّضت عن النظام الأبوي الذي هدف رعاته إلى الإبقاء على سلطة الرجل وخلق تحدّيات على ضوء مفهوم الأنوثة المزيّف. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ النسويين استندوا إلى واقع التعامل مع المرأة في العصور القديمة لإثبات مزاعمهم هذه، وفي هذا السياق طالبوا بإلغاء التقسيمات الجنسية في مجال العمل معتبرين هذه المطالبة ركناً أساسياً لإحقاق حقوق المرأة، حيث يعتقدون بأنّ تقسيم الأعمال والوظائف الاجتماعية متقوّمٌ بأسسٍ جنسيةٍ لكون الأعمال الإنتاجية تناط إلى الرجل في حين أنّ الأعمال المنزلية وتربية الأطفال تلقى على كاهل المرأة[33].
روّاد الفكر النسوي أكّدوا على عدم فائدة الشعارات التي تُرفع للمطالبة بحرّية الشعوب واحترام حقوق الإنسان ما لم تُمنح المرأة حرّيةً تامّةً وتتساوى مع الرجل بالكامل، وعلى الرغم من دورهم الإيجابي في إثبات أنّ المرأة تعرّضت لظلمٍ واضطهادٍ بسبب أنوثتها، إلا أنّهم أخفقوا في الأسلوب الذي يجب أن ينتهج للمطالبة بحقوقها. في حقبةٍ من الزمن تعالت صيحاتٌ نسويةٌ لانتشال الأنثى من الأعمال الإجبارية التي كلّفت بها قائلين إنّها ليست مجبرةً على أن تبقى أنثى، لكنّ بعضهم اليوم يقولون كفى، إذ تجاوزت الدعوات الحدّ المقرّر لكونهم أدركوا أنّ رجولة المرأة منهكةٌ لها.[34]
الملفت للنظر هنا أنّ المرأة في البلدان الغربية حتّى وإن منحت في ظاهر الحال إرادةً حرّةً، إلا أنّ الإرادة تختلف في الواقع عن القدرة على الاختيار الذي يعني رغبة الإنسان في انتخاب أمرٍ من بين عدّة أمورٍ، ومن المؤكّد أنّ الرغبة ترتبط بالدوافع المكنونة في النفس الإنسانية والتي عادةً ما تتأصّل فيها إثر خلفياتٍ سابقةٍ ضمن نظامٍ معيّنٍ. النظام المادّي الغربي يعتبر أعضاءه ومؤسّساته ومختلف المكوّنات التابعة له مسؤولةً عن تصميم وإنتاج شتّى القضايا التي يمكن للمرأة اختيار ما يعجبها منها، بل ويمكن لجميع الناس اختيار ما يرغبون به منها.
وفي مقابل الانتخاب، يدلّ الاختيار على الإيجاد، ويمكن تشبيهه بالصفحة البيضاء التي يبادر الإنسان إلى كتابة ما يشاء فيها، أي أنّه يصوغ ما يشاء بإرادته وليس كالانتخاب الذي تصاغ له الأمور فيختار منها ما يشاء بإرادته أيضًا.
الجدير بالذكر هنا أنّ الحرّية الحقيقة تتجلّى في عالم الواقع ضمن قدرة الإنسان على الاختيار، والإنسان بحسب الرؤية المادّية عبارة عن كائن ينزع إلى الانتخاب وله الحقّ في أنّ يتمتّع بحقوقه كإنسانٍ وينعم بحرّيةٍ سياسيةٍ في شتّى المجالات. المنظّرة النسوية أوكين مولر أكّدت على ضرورة أنّ تسعى المرأة لإيجاد طبقةٍ اجتماعيةٍ خاصّةٍ بها، واعتبرت الشعارات التي ترفع دفاعاً عن حقوق الإنسان تنصبّ لصالحها، لذلك دعت النسويين إلى كسب دعم أصحاب هذه الشعارات.[35]
الدكتورة الأمريكية توني غرانت المتخصّصة بسيكولوجيا الإنسان والمدافعة عن حقوق المرأة، وصفت أوضاع الجنس المؤنّث في العصر الراهن كما يلي: «المرأة المعاصرة تحرّرت إلى حدٍّ ما من الوضع السابق الذي كانت فيه مجرّد وسيلةٍ لإشباع شهوة الرجل وعطشه الجنسي، إلا أنّ السؤال الذي يطرح اليوم هو: بعد أن تحرّرت، ماذا عليها أن تفعل؟ الكثير من النساء يمضين حياتهنً مع الرجال تحت سقفٍ واحدٍ دون أن يفكّرن بمستقبلهنّ، ومنهنّ من يمنحنّ أبدانهنّ لهم بكلّ سهولةٍ بشكلٍ يفوق ما فعلته أسلافهنّ على مرّ العصور، لكن مع ذلك ليست لديهنّ الكثير من المطالبات الأساسية».[36]
مفهوم «المساواة» الذي رفع من قبل أتباع الفكر النسوي كشعارٍ ارتكازي، استخدم بدلاً عن مفهوم «التشابه» بشكلٍ مقصودٍ أو غير مقصودٍ، حيث اعتبروهما شيئاً واحداً، وعلى هذا الأساس باتت إنسانية المرأة مدعاةً لنسيان أنوثتها، لذا لا نبالغ لو قلنا أنّ هذه الحركة لا تسعى في واقع الحال إلى إقرار المساواة والعدل القانوني بين الجنسين ونبذ جميع أشكال التمييز بينهما، بل محورها إيجاد أوجه شبه آليةٍ بينهما ومساواة في الحقوق بغضّ النظر عن قابليات كلّ واحدٍ منهما وهويته وواقعه التكويني.

* الجندر في التعاليم الإسلامية
المبادئ الإنسانية المعتمدة في التعاليم الإسلامية كمعيارٍ لتقييم البشر نساءً ورجالاً، هي في الحقيقة متكافئة ولا تمييز فيها بين الجنسين لكونها تتقوّم بشكلٍ أساسي بفضائل روح الإنسان لا جسمه، إذ لا فرق بين الرجل والمرأة من هذا الجانب.
هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تطرّقت إلى بيان القيم الأصيلة التي يتمّ في رحابها تصوير الشخصية الحقيقية للإنسان وبيان المعالم الأساسية لهويته بغضّ النظر عن كونه ذكراً أو أنثى، ومن جملتها ما يلي: العلم والجهل، الإيمان والكفر، الكرامة والذلّة، السعادة والشقاء، الفضيلة والرذيلة، الحقّ والباطل، الصدق والكذب، التقوى والفجور، الطاعة والعصيان، الانصياع والتمرّد، الغيبة وتركها، الأمانة والخيانة، وإلخ من مسائلَ أكسيولوجيةٍ أخرى تتجاوز نطاق الجندر والخصائص الجنسية، إذ لم يخصّص الفضل والانحطاط فيها بالذكر أو الأنثى. أضف إلى ذلك أنّ المسائل العلمية ومختلف الشؤون الأكسيولوجية الدينية وغير الدينية لا شأن لها بجنس الإنسان، ومن المؤكّد أن النفس الإنسانية هي موضوعها الأساسي.
لا ريب في وجود اختلافاتٍ بين بني آدم، فهم ليسوا على نسقٍ واحدٍ، وهي كثيرة ومتنوّعة لدرجة أنّ المقنّن عاجزٌ عن سنّ قوانين تعمّها قاطبةً، فهذا الأمر إن لم يكن مستحيلاً فهو غير عملي، ناهيك عن أنّ سنّ قوانين كهذه يتعارض مع مبادئ التقنين المتقوّم على رؤى واقعية والمنبثق من المصالح والمفاسد، لأنّ القوانين في الحقيقة ليست مجرّد قضايا اعتبارية. هذه الاختلافات التكوينية التي تتسبّب بحدّ ذاتها في حدوث اختلافٍ على صعيد المصالح والمفاسد، هي في الواقع منشأٌ لاختلاف الناس بالحقوق والتكاليف من مقتضى الحكم الضروري بالقياس، أي أنّ التكاليف والأحكام الاجتماعية عندما تكون متناسقةً مع واقع الحياة فهي تضمن سعادة الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء في ما لو رُوعيت بشكلٍ صحيحٍ، وبما أنّ هذه السعادة تعدّ ركناً أساسياً في الحياة على الصعيدين الفردي والاجتماعي، فالعقل يحكم بضرورة سنّ قوانينَ ومقرّراتٍ تتناسب مع واقع الحياة استناداً إلى المصالح والمفاسد طبق ما تقتضيه خصائص وميزات كلّ جنسٍ.
لا شكّ في أنّ منشأ الاختلاف بين الذكر والأنثى يعود إلى عدم تشابه خصائصهما الجسمانية، وهذا الأمر انعكس في الرؤية الواقعية القرآنية، وعلى أساسها صيغت المبادئ والتشريعات القرآنية الخاصّة بكلّ جنسٍ، فالاختلاف الجسماني يعدّ بطبيعته منشئاً لكلّ تباين بين الرجل والمرأة، لذا فهو وازعُ للإذعان بالحقائق والضرورات التي لا يمكن تجاهلها بتاتاً.
الخصائص الجسمانية التي تضرب بجذورها في خلقة الإنسان، هي في الحقيقة مصدرٌ للقابليات والمؤهّلات البدنية والقدرات الفردية، ناهيك عن أنّها من الضرورات الأساسية في حياة البشر، لكن لا بدّ من الالتفات هنا إلى أنّ التأهيل الجسماني لا يمكن اعتباره مجرّد قدرة بدنية، فالقدرة البدنية للرجل على سبيل المثال حتّى وإن كانت تفوق قدرة المرأة، إلا أنّ جسم المرأة فيه قابلياتٌ يمكن استثمارها لكنّ جسم الرجل محرومٌ منها، وحتّى إن كان جسم الرجل أكثر مقاومةً أمام العوامل الخارجية، لكنّ جسم المرأة يمتاز بلطافته وجماله، ومن هذا المنطلق فإنّ فضائل البدن وقابلياته ومؤهّلاته الخاصّة لكلّ من الذكر والأنثى ترتبط بواقع الحياة والأطر التي يمكن أن تتبلور في رحابها، لذا لا يوجد جسم أفضل من غيره ذاتياً، وإذا كان بدن الرجل أكثر مقاومةً وقدرةً عضليةً وأرقى قابليةً إنتاجيةً واقتصاديةً، فإنّ بدن المرأة أكثر لطافةً وجمالاً وأرقى إنتاجيةً لبني البشر، بل لا يمكن أن يولد إنسان بدونه.
الجدير بالذكر هنا أنّ الأوضاع السابقة والحالية للمرأة في حياة البشرية لا صلة لها بهويتها الأنثوية ومؤهّلاتها الذاتية، وإنّما يعود منشؤها إلى السلطة التي خضعت لها والمجتمع الذي حرمها من حقوقها المشروعة وجعلها إنساناً من الدرجة الثانية، لأنّ شخصيتها في واقع الحال كشخصية الرجل، فمن شأنها أن تتنامى وتتكامل وترتقي إلى أعلى المستويات، كما أنّها مثله حينما يخضع لنير الاستعمار ويعاني من ظلم السلطة الحاكمة واضطهادها، فهو في أوضاعٍ كهذه يعاني من الجهل والحرمان، وكلّ مسألةٍ سلبيةٍ في هذا المضمار ليست منبثقة من مؤهّلاته الذكرية وإنّما هي ناجمةٌ عن حرمانه من تفعيل هذه المؤهّلات وسلب حقوقه المشروعة وقمع قابلياته المكنونة في هويته الإنسانية.
هذه الحقائق طرحتها التعاليم الإسلامية ضمن منهجيتها الحقوقية ومبادئها الأسرية ورؤيتها تجاه الذكر والأنثى قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، وهي تختلف في الواقع عمّا هو شائعٌ اليوم، فالإسلام لم يقرّ نمطاً واحداً من الحقوق والتكاليف للذكر والأنثى في جميع الشؤون والقضايا التشويقية والعقابية، حيث ارتأى الشارع المقدّس أنّ بعضها مناسبٌ للجنس المذكّر وبعضها الآخر يتناسب مع كيان الجنس المؤنّث، فيما أقرّ أحكاماً مشتركةً في بعض الموارد، ولا شكّ في أنّ تشابه الجنسين في الخصال الإنسانية وتكافؤهما من هذا الحيث يعني مساواتهما في الحقوق الإنسانية وليس في القوانين التي يجب وأن يتناسق كلٌّ منها مع واقعهما الذاتي.
الكمّية كما هو معلوم غير النوعية، ومن البديهي أنّ الشريعة الإسلامية لم تقرّ حقوقاً تكوينيةً لكلّ واحدٍ من الجنسين، لذا فهي لم تمنح الجنس المذكّر أيّ امتيازٍ ولم ترجّحه على الجنس المؤنّث من الناحية الحقوقية، حيث راعت مبدأ المساواة بين البشر كأصلٍ ارتكازي، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّها لا تعارض تساويهما في الحقوق، لكنّها تعارض تشابه حقوقهما.[37] الاشتراك بين الذكر والأنثى في الحرمة الشخصية والكرامة الإنسانية لا يقتضي تشابههما من حيث الحقوق بالتمام والكمال، لأنّ الأصول والمقرّرات الحقوقية لا يتمّ إقرارها دائماً للبشر بما هم بشر، وإنّما هناك الكثير منها تسنّ لتنظيم العلاقات بين الناس بمختلف خصائصهم، إلا أنّ المرتكز الأساسي هو تساوي الجنسين بحقوقهما العامّة والإنسانية، إذ مع وجود اختلافٍ راسخٍ ومؤكّد بين الذكر والأنثى، فلا بدّ من تقسيم الأعمال والمهامّ في مابينهما إلا إذا مسخت هويتيهما الذكرية والأنثوية ففي هذه الحالة لا ينبغي القيام بأيّ تقسيمٍ، فالتساوي في الواقع غير التشابه، حيث يعني التكافؤ بينما الثاني يعني الانسجام.
الشريعة الإسلامية كما ذكرنا آنفاً، لم تمنح الجنس المذكّر أيّ حقوق ومزايا على حساب الجنس المؤنّث ولم ترّجح الذكر على الأنثى حقوقياً وأكسيولوجياً، لكن غاية ما في الأمر أنّها سنّت أحكاماً متباينةً على ضوء مبدأ الحقّ والتكليف بحيث تتناسب مع قابليات كلّ واحدٍ منهما، وفي بعض الموارد منحت أحد الجنسين صلاحيات أكثر[38].
خلاصة الكلام أنّ الرجل والمرأة في رحاب الرؤية الحقوقية الإسلامية مختلفان بالكامل عن بعضهما من الناحية التكوينية، أي أنّهما ليسا متشابهين بيولوجياً وسيكولوجياً وشعورياً، ونظراً لهذا الاختلاف لا يمكن تشابههما بالحقوق مطلقاً، فحسب أصول الجندر هما من نوعٍ واحدٍ لكنّ اختلافهما يكمن في صفاتهما، وعلى هذا الأساس يصبح الاختلاف الحقوقي بينهما أمراً ضرورياً، ولا بدّ من الالتفات هنا إلى أنّ الحقوق الطبيعية تدلّ بذاتها على هدفية الطبيعة، وعلى ضوء هذا الهدف اُستودعت في باطن الكائنات قابلياتٌ متباينةٌ بحيث اختصّ كلّ نوعٍ منها بمؤهّلاتٍ تميّزه عن غيره، لذا إن أردنا معرفة واقع الحقوق الطبيعية وأسسها النوعية فلا بدّ لنا من التحرّي في طبيعة الخلقة، لأنّ كلّ قابليةٍ مستودعةٍ في باطن الإنسان تعدّ برهاناً طبيعياً يدلّ على وجود حقٍّ طبيعي، وهذا الحقّ يوجب إقرار تناسبٍ حقوقيٍّ بين الجنسين لا تشابهاً حقوقياً، إذ إنّ اشتراك الجنسين بالهدف الأساسي من الخلقة لا يقتضي ضرورة تشابه واجباتهما بالتمام والكمال.
إذاً، المقوّمات الإنسانية موجودةٌ في باطن كلا الجنسين الذكر والأنثى، إلا أنّ المقوّمات الذكورية مستودعة في الرجل فقط والمقوّمات الأنثوية مستودعة في المرأة فقط، أي أنّهما مشتركان في الإنسانية ومختلفان في الجنس، ومن هذا المنطلق فالتكليف الديني المشروط بالوعي والاستطاعة والاختيار يتعلّق بجميع البشر ولا يقتصر على جنسٍ معيّنٍ، لذلك نلاحظ الرؤية الدينية تجاه المرأة ترتكز على وجود اختلافاتٍ طبيعيةٍ بينها وبين الجنس المذكّر، وتؤكّد على وجوب التعامل بعدلٍ معهما للحفاظ على النظام المثالي في الحياة وبلورة جوهرتهما الإنسانية في ظلّ حقوقٍ وتكاليف متبادلةٍ.
المرأة بحسب الأسس الأكسيولوجية الإسلامية تمتلك القابليات المناسبة التي تؤهّلها للنهوض بواقعها الإنساني وبلوغ ذروة العبودية، وإلى جانب ذلك لديها مؤهّلاتٌ طبيعيةٌ تمكّنها من التصدّي لمسؤولية الأمومة، وخروجها من المنزل للعمل أو لأيّ غرضٍ آخر لا يعني بالضرورة رقي شخصيتها الإنسانية وتناميها، ومن هذا المنطلق سوّغت الشريعة الإسلامية لها أن تزاول نشاطات في الحياة الاجتماعية على نحو التجويز لا على نحو الضرورة.
خلاصة الكلام أنّ المرأة في الإسلام عبارة عن إنسانٍ حالها حال الرجل، ومن هذا المنطلق فهي تتّسم بثلاثِ خصالٍ إنسانيةٍ مشتركةٍ هي حرّية الإرادة والمسؤولية والقابلية على بلوغ مرتبة الكمال، فهي مثل الجنس المذكّر من حيث امتلاكها إمكانياتٍ تجعلها قادرةً على النهوض بشخصيتها والنجاح في حياتها.

------------------------------------
[1]* ـ باحث في العلوم السياسية وأستاذ مساعد في جامعة الفنّ بمدينة أصفهان-إيران .
ـ المصدر: مجتبى عطار زاده، مقالة تحت عنوان: بررسی تطبیقی مفهوم جنسیت در اسلام و غرب، مجلّة "مطالعات راهبردي زنان" المعنية بشؤون البحث العلمي، شتاء 1387هـ. ش. (2008م)، العدد 42، الصفحات 43 - ص 78.
ـ ترجمة: أسعد مندي الكعبي.
[2] - Millet K. (1972), Sexual Politics, New York: Avon, p. 34.
[3] - للاطّلاع أكثر، راجع: ناصر فکوهي، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: هویت جنسي، نشرت في صحيفة "شرق"، العدد 374، 2004م.
[4] - Schuon F.(1980), Summary of Integral Metaphysics, Fordham University, Foundation for International Philosophical Exchange, New York: NY, ETATS – UNIS, p. 29
[5] - Lings, M.(2006), Symbol and Archetype/A Study of the Meaning of Existence, US: Fonts Vitiate, p. 122.
[6] - Schuon F. (1995), The Reign of Quantity, Sophia Perini’s, p. 145.
[7] - الذاريات: 49.
[8] - الأنبياء: 30.
[9] - غافر: 57.
[10] - الآية الخامسة والثلاثون من سورة الأحزاب: Nإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًاM.
[11]- Bordo, S. (2001), Unbearable Weight: Feminism, Western Culture and the Body, University of California press, p. 97.
[12]- Harding S. (1980), The Norm of Social Inquiry and Masculinity Experience: Philosophy of Science Association, p. 112.
[13]- Jones, A. (1996), Feminism Reclaimed, New York: Rutgers University Press, p. 92.
[14] - Ibid, p. 98.
[15] - Daly M. (1973), Beyond God the Father: Toward a Philosophy of Women’s Liberation, Boston: Beacon, p. 32.
[16] - توماس میشيل، کلام مسیحي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسین توفیقي، إيران، قم، منشورات معهد دراسات وبحوث الأديان والمذاهب، 1998م، ص 54.
[17] - جينيفيف لوید، عقل مذکر: مردانگی و زنانگی در فلسفه غرب (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية محبوبة مهاجر، إيران، طهران، منشورات "ني"، 2002م، ص 22.
[18] - جينيفيف لوید، عقل مذکر: مردانگی و زنانگی در فلسفه غرب (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية محبوبة مهاجر، إيران، طهران، منشورات "ني"، 2002م، ص 147.
[19] - المصدر السابق، ص 150.
[20] - Landis Vicky (1972), Feminism & Social Studies, political Studies, xxix. 3, p. 112.
[21] - Zimmerman jean (1975), Public man, Private Women. Princeton: Princeton University Press, p. 48.
[22] - جينيفيف لوید، عقل مذکر: مردانگی و زنانگی در فلسفه غرب (باللغة الفارسية)، ص 102.
[23] - محمّد حسين فضل الله، المرأة في ظل الإسلام، ترجمة مریم نور الدین، الجزء الرابع، لبنان، بیروت، منشورات "دار الزهراء"، 1405هـ، ص 33.
[24] - الأنفال: 20.
[25] - محمّد بن يعقوب الكليني الرازي، الکافي، إيران، طهران، منشورات "دار الکتب الإسلامیه"، 1988م، ج 1، ص 11.
[26]- النحل: 97.
[27] - Gilligan Carol, (1982), In a Different Voice, Harvard University press, p. 131.
[28] - جان جاك روسو، امیل یا آموزش وپرورش (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية منوتشهر کیا، إيران، طهران، منشورات "گنجینه"، 1970م، ص 221.
[29] - مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، الجزء الثامن، إيران، طهران، منشورات "صدرا"، 1996م، ص 9.
[30] - وندي شلیث، فمینیسم در آمریکا تا سال 2003 (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية معصومة محمدي وآخرون، إيران، قم، منشورات مكتب نشر المعارف، 2005م، ص 35.
[31] - ويل ديورانت، تاریخ تمدن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، إيران، طهران، منشورات "آموزش و انقلاب اسلامي"، 1994م، ص 614.
[32] - غلام علي حداد عادل، فرهنگ برهنگی و برهنگی فرهنگی (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات "سروش"، 1980م، ص 61.
[33] - فريبا علاسوند، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: فمینیسم: خاستگاه کنوانسیون، نشرت في مجلة "کتاب نقد" الفصلية، العدد 29، 2003م، ص 24.
[34] - توني جرانت، زن بودن (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية فروزان كنجي زاده، إيران، طهران، منشورات "ورجاوند"، 2002م، ص 86.
[35] - Moller Okin, Susan (1998), Is Multiculturism Bad for women, New Jersey: Preston University, p. 102.
[36] - توني جرانت، زن بودن (باللغة الفارسية)، ص 90.
[37] - مرتضى مطهري، نظام حقوق زن در اسلام (باللغة الفارسية)، الجزء الثامن، ص 15.
[38] - منيرة طاهري، مقالة باللغة الفارسية تحت عنوان: احقاق حقوق زن: کنوانسیون یا اسلام؟، نشرت في مجلة "کتاب نقد" الفصلية، العدد 26، 2003م، ص 79 - 80.