البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاختزالية النسويّة في الفنّ السابع

الباحث :  ثريا بن مسميّة
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  1247
تحميل  ( 354.347 KB )
يتّصل هذا البحث في ما يمكن تسميته مجازاً بـ «الجندريّة العربيّة» التي وَفَدت إلينا بالأصل مع الموجات الثقافية الاستعماريّة، ولا سيما منها الأكاديميّة والفنيّة. ومن الطبيعي والحال هذه أن تنعكس مؤثراتها على مجمل نواحي الحياة في المجتمعات العربيّة ومنها على الأخصّ مجتمعات المغرب العربي التي نالت نصيباً وافراً من الهيمنة الثقافية الفرنسية ولمّا تزل.
هذا البحث يتطرّق إلى مقاربة مفهوم الجندر كما تظهر تطبيقاته في ما يُعرف بـ «الفن السابع». وقد أجرت الباحثة والأكاديميّة التونسيّة ثريا بن مسميّة تطبيقاً لهذه المقاربة على التجربة السينمائيّة التونسيّة كنموذجٍ يستظهر الصورة الاختزاليّة لواقع المرأة العربية، ويقدّمها ككائنٍ متمردٍ على القيم والتقاليد المجتمعيّة المحلية من جهةٍ، ويسعى إلى الأخذ بالنمط الليبرالي الغربي في النظر إلى القضية النسوية من جهةٍ ثانيةٍ.

المحرّر

-------------------------------------
يتركّز بحثنا التالي على تبيين إشكاليةٍ مركبةٍ تتعلّق بالكيفيّة التي تعاملت فيها السينما العربيّة، والتونسيّة بوجه خاصّ مع الواقع النسوي. الوجه الأوّل من الإشكاليّة له صلةٌ بالصورة التي تختزل المرأة بمظهرها الفيزيائي «الجسدي»، وتوظيف هذا الاستظهار في الدعاية والإعلان وصرف الوعي العام عن فهم المكانة الحقيقيّة للمرأة في المجتمع العربي والإسلامي. أمّا الوجه الثاني من الإشكالية، فيتعلّق بالتقليد النمطي لنماذج الإنتاج الأوروبيّة والأميركيّة.
هذه الإشكاليّة المركّبة تبيّن السمة الاختزالية للجندرية العربية المعاصرة وهو ما سنأتي على بيانه من خلال إيراد شواهدَ تحليليّةٍ ممّا أنتجته السينما العربيّة والتونسيّة خصوصاً خلال العقود الفارطة.
بدت الاختزالية النسويّة في الإنتاج السينمائي العربي شديدة التركيب، فمن جهةٍ كان اختزال المرأة كإنسانٍ خاضعٍ لتطوّر رأسمال السوق، ومن جهةٍ أخرى اختزالها بوصفها أنثى، أي ككائنٍ من الدرجة الثانية بسبب طبيعتها البيولوجيّة ووضعها الاجتماعي. وإذا كانت تجربة الحداثة في أوروبا تمتلئ بشواهدَ تاريخيّةٍ دامغةٍ على هذه العملية الاختزاليّة، فالمشكلة في العالم العربي تبدو أكثر تعقيداً.
هناك في البداية أسئلةٌ تفرض نفسها بقوةٍ؛ مؤداها ما يلي: كيف تعاملت السينما العربية مع المرأة؟ وكيف قدّمتها للمشاهد العربي؟ وهل استطاعت أن تعكس حقيقة واقع المرأة العربية؟

 من خلال معاينةٍ عامةٍ للأفلام المنتجة، هنالك صورتان مختلفتان عن المرأة:
- الأولى: تُقدّم المرأة في صورة شخصيةٍ ضعيفةٍ، خدومةٍ، تعيش تحت ظلّ الرجل، بالعمل على إبراز شخصيته للظهور في الواجهة. وهذه الشخصية تتمثل إما في الأم الحنون، أو الأخت الودود أو الزوجة المطيعة والمغرمة المخلصة. وتكفي إطلالةٌ قصيرةٌ على الفيلمو-غرافيا العربيّة، منذ الأربعينات وإلى بداية التسعينات من القرن الماضي، لنعلم كيف تكرَّست مثل هذه الصورة السلبية الاختزالية للمرأة.
 أما الصورة الثانية: فهي نقيضةٌ للأولى، ذلك أنها تبرز المرأة المتمرّدة المتحرّرة، التي تتحدى المجتمع وسلطة الرجل أيّاً كانت آلياتُ تشكّل هذه الصورة والنتائج الاجتماعيّة والأخلاقيّة الناجمة عنها. ما يدلّ على ذلك مجموعةٌ هائلةٌ من الإنتاجات السينمائيّة العربيّة، ولا سيّما تلك التي ظهرت في السنوات الأخيرة من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي وتأثّرت إلى حدٍّ بعيدٍ بموجات العولمة وقيم الليبراليّة الكاسرة لكلّ المعايير القيّمة والأخلاقيّة. ولئن كانت الأعمال السينمائية، خلال هذه الفترة، قد حاولت أن تخدم قضية المرأة في المجتمع، إلا أن الصورة السلبية للمرأة كانت طاغيةً على نحوٍ بيِّنٍ. فقد خلصت إحدى الدراسات[2]1 التي أُجريت على 31 شريطاً سينمائياً، أُنتجت ما بين 1990 و 2000 إلى أن صورة المرأة جاءت سلبيةً ولم تنقل حقيقة الواقع. فلقد حُكمت بمعاييرَ ومتطلّباتِ السوق والتركيز على عنصر الإثارة الذي يعتمد الإغراء لجذب الجمهور. فكانت النتيجة أن المرأة قُدّمت في العمل السينمائي كتاجرةِ مخدراتٍ، أو فتاةٍ ليلٍ، أو مدمنةٍ، أو خائنةٍ، وفي أحسن الأحوال عصبية ومعقدة. وقد أسهم ذلك كلّه في تكريس هذه الصورة النمطية، لدى الجمهور المأخوذ بثقافة الاستهلال الغرائزي.
واقع الحال أن المرأة نفسها أيضًا انساقت وراء الشهرة أيّاً كانت الوسائل المعتمدة، والنتائج المترتّبة على ذلك. فقد بيّنت مجموعةٌ من استطلاعات الرأي والأبحاث الميدانيّة أن السينما العربيّة لا تتطرق إلى مشاكلَ المرأة الحقيقية، أو إلى مستقبلها. وقد انعكس هذا على الإعلام، الذي حصر المرأة في الموضة والحياة الرغيدة والطبخ. وفي هذا الإطار ندرج شهادتين نسائيتين ذواتا مغزًى عميقٍ: الأولى للممثلة والمخرجة والكاتبة المغربية بشرى إيجورك، الرافضة للأدوار الساقطة، ورأت أن السينما العربيّة عموماً والمغربيّة خصوصاً كرّست المرأة الجسد كأداةٍ للمتعة والإغراء والتحريض، وتشير في هذا الإطار إلى غيابٍ شبه تامٍّ لأعمالٍ سينمائيةٍ تحتفي بالنساء المفكرات أو المقاومات... أما الشهادة الثانية فهي للقاصة السورية مي الرحبي، التي أوضحت أنه من خلال رصدها للأفلام التسجيلية في سوريا (400 فيلم)، وجدت نحو 35 منها يتحدث عن قضيةٍ اجتماعيةٍ، و6 أشرطة فقط تتحدث عن قضية المرأة، منها شريطان دعائيان قدما المرأة بصورةٍ ورديةٍ جداً، و4 أشرطة تحدثت عن واقع المرأة العاملة في سوريا. ما جاء في هاتين الشهادتين ينطبق كذلك على السينما المغربيّة. فالأفلام الجديدة جعلت من المرأة قضيتها المركزية، لكن من منظورٍ نمطيٍّ يرتكز على الطابوهات والكليشيهات المتجاوزة، ليس فقط لتحقيق الربح المادي، وإنما أيضًا وأساساً لزعزعة قيم المجتمع وتحطيم أواصر الأسرة، وخصوصاً العلاقة بين الرجل والمرأة وبين المرأة ومحيطها الاجتماعي. وخلاصة القول، إن تعاطي السينما العربية مع قضية المرأة ساده اتجاهان متضادان: اتجاهٌ تقليديٌّ محافظٌ أجحف في حقِّ المرأة، واتجاهٌ نقديٌّ تغييريٌّ صداميٌّ متطرفٌ زاغ بالقضية عن الطريق السوي[3].

الاختزالية للنمط الليبرالي
ما من شكٍّ في أن الحديث عن المرأة في السينما التونسيّة اليوم هو حديثٌ عن مجتمعٍ بأكمله، ويترجم لنا الواقع المغاربي بالخصوص والعربي بالعموم. إذ لا يخلو أيّ فيلمٍ من حضور المرأة سواءً أكانت ممثلةً أم مخرجةً ناقدةً أو منتقدةً. ولكن الذي يُطرح بقوّةٍ هو التالي: كيف ظهرت الصورة النسويّة في السينما التونسيّة، وما هي العوامل التاريخيّة والسياسيّة والسوسيولوجيّة التي جعلت المرأة ذات منزلةٍ اجتماعيّةٍ خاصّةٍ في تونس؟
المعروف أنّه بحكم النمط الليبرالي الذي طبع مرحلة ما بعد الاستقلال والتي تعرف بالحقبة البورقيبيّة فقد شهدت تونس تحوّلاً جذريّاً في النظر إلى المرأة. والقانون الشهير الذي صُوِّب في 13 آب (أغسطس) 1956، شجع المرأة على دخول الحياة العامّة، ومنها إلى مجال الإبداع السينمائي[4]. فكانت حاضرةً في العمليّة الإنتاجيّة للأفلام كعنصرٍ دراميٍّ أساسيٍّ، وكانت السمة المميّزة فيه قائمةً على تقديم صورتها كعنصرٍ جماليٍّ محضٍ. فقد احتفت السينما التونسية بالجمال الأنثوي واعتبرته ثورةً في مجالها مقارنةً بالسينما المغاربية والعربية عامة. وعلى الرغم من زعم القيِّمين على الإنتاج أن تقديم المرأة في وجهها الأنثوي والاهتمام بجمالها لا يهمل دورها داخل المؤسسة الاجتماعية كأمٍّ وأختٍ وزوجةٍ، إلّا أن الواقع جاء إجمالاً على خلاف ما يشاع. فإذا كانت السينما المصريّة قد اشتغلت داخل مفردات الواقع الاجتماعي ومختلف هياكله، فقد تميّزت السينما التونسية بالتقليد الفرنسي من خلال مفرداتها الخاصّة، وغلبة الطابع السيكولوجي الفردي الذاتي، الأنانوي (SOLLIPTIQUE) في معالجة مفاهيمَ تتعلّق بالأنا الفردي، كالجسد والرغبة والجمال والأنوثة...»[5].

التقليد الغربي للمرأة-الجسد
التركيز على العنصر الاستعراضي الجمالي للمرأة من أبرز ما لجأت إليه السينما التونسيّة في سياق اندهاشها بالنمطيّة الغربيّة. فقد ترسّخت القناعة لدى السياسات الإنتاجيّة بأن تحليل أيّ واقعٍ اجتماعيٍّ أو انتقاده ينبغي أن يمرّ ضرورة بالمرأة. فلا أقدر منها على نقد وضعيّتها ولا أبلغ منها في التعبير عن مشاكلها. غير أن تقليد السينما الغربيّة جعلها تذهب بعيداً في الغلوّ، حيث انتهجت الجرأة في مواضيعها حتى وصلت إلى أخص الخصوصيّات في الحياة اليوميّة للمرأة. كان الجسد هو المحور الأساسي في مثل هذا المنهج. وذلك بذريعة أنّه يشكّل معيار «الخطاب النسوي» المطالب بالحرية الأنثوية[6]. لذلك سنرى من خلال جولةٍ بانوراميّةٍ للفيلم التونسي أن «الجسد الأنثوي» شكّل محور الهم الإخراجي والتمثيلي، وبالتالي كمادّةٍ دراميةٍ أساسيةٍ تظهر المرأة من خلاله ككائنٍ متمرّدٍ على كلّ التقاليد والقوانين والقيم. فعلى سبيل المثال يعدُّ فيلم «صمت القصور» تصويراً لقبول الأمّ وابنتها للاستغلال الجنسي. وهذا الفيلم الذي قدِّم كتعبيرٍ عن ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ في المجتمع، لا يعكس سوى حياةِ شريحةٍ صغيرةٍ جدّاً تنتمي إلى طبقةٍ ارستقراطيّةٍ تعيش خواءً داخليّا،ً وتظهر فيه كلّ فظاعات استغلال المرأة من حيث إن أصحاب القصر يجبرون الخادمات على معاشرتهم وخدمتهم كما يُجْبرن على الإجهاض القسري.
 من هذا الوجه يظهر فيلم «صمت القصور» كنموذجٍ لعملٍ سينمائيٍّ يدافع عن المرأة المضطهدة الخادمة داخل القصور، ألا أنّه يسِّوغ حريّة استخدام الجسد للدلالة على التمرّد والثورة على التقاليد. كانت الطفلة «علياء» هي النموذج لهذا التسويغ وذلك كردّة فعلٍ على ما حصل مع أمّها، حيث تهب جسدها كدليلٍ على ثوريّتها وسخطها على انحراف المجتمع الأرستقراطي. لهذا نلاحظ كيف أن الفيلم المشار إليه، وعلى الرغم من النقد الشكلي لاستغلال المرأة ظلّ حبيس لغة «الجسد» ولم يتحرر منها حتى في الجانب الثوري الذي حاولت بطلته «علياء» تقديمه.
ربّما بسبب شيوع هذا النوع من الإنتاج الاختزالي، انبرى عددٌ من النقّاد إلى وصف السينما في تونس بسينما «الحمام» و «الجسد» و «الكبت الجنسي»، وعلّلوا ذلك الوصف بأنّه ترجمةٌ للرواسب النفسية للذاتيّة المستحكمة بالمنتج والمؤلِّف والمخرج معاً. ذلك بأنّ جلَّ الأفلام في تونس تنتمى إلى خانة «سينما المؤلف”، حيث نلمس فيها الذاتيّة المتطرّفة في طريقة تقديم القصص والأبطال[7]. والجدير ذكره أن هذه الرؤية يتقاسمها العديد من النقاّد وعموم التونسيين المتابعين للسينما، ما جعل البعض يفقد الأمل في جدوى الإنتاج السينمائي النسوي، لأنّ هذا الإنتاج على الجملة لا يترجم الواقع السوسيولوجي الثقافي لتونس عموماً، ولا واقع المرأة التونسية على الخصوص.

تسلّل الروح الاستشراقيّة
لم يقتصر تأثّر السينما التونسيّة بالغرب على التقليد التقني، وطريقة تقديمه للمرأة ككائنٍ جماليٍّ يخدم العمليّة الاستهلاكيّة لليبراليّة الرأسماليّة، بل إنّ المشكلة الأكثر خطورةً هي تسلّل الثقافة الاستشراقيّة إلى قلب الصناعة السينمائيّة. ومن هذا الجانب يمكن النظر إلى الاستشراق باعتباره عمليّةَ غزوٍ سينمائيٍّ متقنٍ للمزاج الشعبي في مجتمعاتنا.
 وفي هذا السياق يمكن أن نسوق جملةَ ملاحظاتٍ مهمةٍ للكاتب المصري ممدوح الشيخ، وردت في كتابه «الاستشراق الجنسي»، حيث يذكر كيف أن فرنسا مثلت نموذجًا لِمَا يُطلق عليه «التمثيل الجنسي للاستعمار» منذ نشط مفكروها وفنانوها التشكيليون في التركيز على ما يلوح في الخيال الأوروبي عن الشرق في القرن التاسع عشر، وتحديداً جسد المرأة الشرقيّة والعربيّة. وما يجدر ذكره أن بعض المفكّرين والرحالة في كتاباتهم عن الشرق، الذي كان مجهولًا لشعوبهم آنذاك، صوّروا المرأة الشرقية ككائنٍ «يقدم المتعة» والشرق على أنه «المؤنث الأبدي» والأدنى تحضرًا. وما من شكٍّ فإنّ من اليسير ملاحظة أنّ هذه الصورة موجودةٌ إلى الآن في جلّ أفلامنا التونسية. فكما جسّد المستشرقون الموضوعات التي كانت تشغل المخيلة الأوروبية ذات الطابع الغرائبي «مثل قصور الأمراء وأجنحة الحريم» لا تزال هذه الموضوعات حاضرةً في أغلب الأفلام من خلال التركيز على اهتمام النساء بأجسادهن في غرفهن الخاصة، وتصوير عُقدهن النفسيّة والاجتماعيّة. فالمرأة الشرقيّة تُصوَّر دائماً على أنّها امرأةٌ متذبذبةٌ بين الشفقة والرغبة، فهي مضطهدةٌ ومقهورةٌ أو متهتكةٌ ومستسلمةٌ لأقدارها[8].
لكن إلى أيّ مدى يمكن اعتبار السينما التونسية حاملةً لرسالة تحرير المرأة وما طبيعة هذه الرسالة؟
في الواقع يعتبر حضور المرأة مادةً دراميّةً أساسيّةً في العمل السينمائي التونسي. غير أن هذا الحضور كان حبيس رؤيا صارمة فرضها «الشريك الفرنسي» على المخرجين والمنتجين. والجدير بالذكر أن فرنسا تُعتبر من أكبر داعمي الإنتاج السينمائي في تونس. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إلزام الفن السابع التونسي بنمطيةٍ استتباعيّةٍ أثَّرت إلى حدٍّ بعيدٍ على إمكان قيام عملٍ سينمائيٍّ تونسيٍّ مستقلٍّ يعكس حقيقة المرأة في مجتمع له قِيَمُه وتقاليدهُ وتراثهُ الخاص.
الصورة المعهودة للمرأة في السينما التونسية ظلّت -كما سبق وأشرنا- رهينةَ أطرٍ مكانيةٍ مخصوصةٍ لكنّها في الوقت نفسه تعكس عقدة تفوّق الآخر. لذا جرى التركيز على صورة المرأة/ الجسد، في حين جرى التغافل عن المرأة المثقفة التي تحافظ على خصوصيّاتها وهويّتها الحضاريّة. من هذا الوجه يصحّ ما ذهب إليه كثيرون من النقّاد عندما نعتوا السينما التونسية بـ «سينما الجسد»، التي تحتفل دوماً في كلّ مشهدٍ من مشاهدها بتعبيرية الجسد وبكلِّ ما هو ديونيزوسي. بل هي في الحقيقة تُحيي -كما يقول عددٌ من النقّاد- ولا سيّما في الحقب الأخيرة، فلسفة نيتشه العدميّة، وأدب محمود المسعدي الليبرالي، لجهة النظر إلى المرأة كجسدٍ محضٍ[9].
القيّمون على الفن السابع التونسي يدافعون مع الأسف عن هذا النوع من الإنتاج السينمائي، ويحتّجون بذلك بطريقةٍ ذرائعيّةٍ، فيعتبرونه محاولةً لفضح الواقع الاستبدادي، وسعيًا إلى إخراج المرأة من ظلم المجتمع والمطالبة بحقوقها. لكن في الواقع سنلاحظ أن ما حدث هو العكس، فقد أعطت هذه الأفلام تصنيفاً سلبياً للسينما التونسية وللوسط الثقافي لينطبق عليها صراحة صفة سينما الجنس والإثارة والابتذال.
في هذا الإطار تقول الممثلة جميلة الشيحي أن الصورة المقدمة للمرأة لا علاقة لها بالواقع الحقيقي للمجتمع التونسي. فهي إمّا صورةٌ موغلةٌ في الإباحية أو الانحطاط الأخلاقي أو التأزم والمأساوية أو الخيالية أو أنّها غارقةٌ في الرومنسية والمثالية والرواية المتخيّلة. تضيف: إن بعض الأعمال السينمائيّة-النسويّة إن لم نقل جلّها، لم تطرح المسألة التي تعكس حقيقة المرأة التونسية المثقفة والمسؤولة أو تلك المتحدية للصعوبات والمسكونة بالطموحات والإنجاز والتغيير، وكأن بعض المخرجين يسعون لإرضاء النظرة الغربية للمرأة في بلادنا[10]. ثمّ إن عدداً من العاملين البارزين في الفن السابع التونسي يذهبون إلى القول بأن الغرب يرغب في مشاهدة الصورة الفلكلورية التقليدية للمرأة التونسية ونقيضتها الإباحيّة في آنٍ. وهذه كلّها صورٌ موغلةٌ في السلبية، ومتعاليةٌ على واقع المرأة، بل وتحجب عنها ملكة العقل والقدرة على التفكير والفعل[11].
لقد راهن السينمائي التونسي على المرأة كجسدٍ لبلوغ نجاح أفلامه، وستر هذا الرهان بدافع الانتقاد الاجتماعي والفكري لوضعية المرأة. أمّا النتيجة فكانت سينما تجارية ذات طابعٍ ذاتيٍّ أنانيٍّ لشخصية المخرج، ويفتقد بالتالي إلى دراسةٍ موضوعيةٍ لواقع المرأة التونسيّة. ولعلّ هذا الأمر يرجع كذلك إلى أن أكثر مخرجي السينما التونسية ومنهم مخرجات رائدات كـ «مفيدة التلاتلي» و «سلمى بكار» هن من خريجات المدرسة السينمائية الفرنسية والبلجيكية. حيث نقلوا مناهج وتجربة هذين البلدين الأوروبيين وأسقطوها إسقاطاً على المرأة العربية من دون وعيٍ منهن باختلاف الوعي الاجتماعي والثقافي للثقافتين كليهما[12].
أما لجهة البعد التجاري والإيغال في الذاتيّة، فهي مع الأسف سمةٌ أساسيّةٌ في السينما التونسيّة والسينما العربية عامة. فقد حملت نشأة السينما في بلادنا حريةً مفتوحةً غير معهودةٍ من قبل، وبسببها يمكن أن تتحول هذه الحريّة المفتوحة إلى أداةٍ تُستخدم لأغراضٍ ربحيةٍ، فتتخلى بذلك عن الاعتبارات الإنسانيّة والمعايير الأخلاقيّة. ولقد بدا بوضوحٍ أنّه حين تنخرط السينما في المشروع العولمي وتصبح أداةً للإشهار وبثّ روح الاستهلاك ودمج المجتمع داخل عقلانيةٍ أداتيةٍ، فإنّها تتحول بذلك إلى أداةٍ للتأثير وآليةٍ للاستلاب والاغتراب. وإذا ما رجعنا إلى أهم الأفلام الرائدة في السينما التونسيّة التي تهتم بقضايا المرأة نجدها دائماً تقاضي الرجل وتجرِّمه. وهذا يتجلّى مثلاً في فيلم «الخشخاش» الذي تظهر بطلته ضحية الحرمان الجنسي، ما جعلها تدمن نبتة «الخشخاش» لعجزها عن البوح بسرّ زوجها الذي مضى بعيداً في الانحراف السلوكي وتركها تعاني الكآبة والوحدة. وعليه تقوم المخرجة بتبرير ردّة فعل الزوجة في الانحراف المعاكس، ثمّ تقدّم هذه القضيّة كمشكلةٍ أساسيّةٍ للمرأة في تونس، في حين أن الموضوع الذي يعالجه الفيلم يُعتبر حالةً اجتماعيّةً استثنائيةً، لا من القضايا الجوهرية في الحياة اليومية للمرأة في المجتمع التونسي. بل رأى البعض أن القضية أصلاً كانت مجرّدَ ذريعةٍ لتبرير تصرفاتٍ وسلوكاتٍ يرفضها المجتمع التونسي والعربي عامة[13].

الطموح إلى العالميّة الكاذبة
يبدو واضحاً على الإجمال أن الإنتاج السينمائي في العالم العربي عموماً وفي تونس بصفة خاصة، مسكونٌ بالرغبة في بلوغ العالميّة. بل إن هذا الإنتاج يحرص على تحقيق تلك الرغبة مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك غيرَ مهنيّةٍ وغيرَ أخلاقيّةٍ. فالأفلام الدعائيّة التي تُقدَّم هي من هذا الجانب بالذات أفلامٌ ممولةٌ ومشروطةٌ بمحدداتٍ فنيّةٍ وقيميّةٍ يفرضها الممّول نفسه، وهي شبكةٌ من الشركات الأميركيّة الكبرى التي تدفع بالمنتجين والمخرجين إلى اعتماد سياساتها لتحقيق حلم العالميّة. والحقيقة حسب ما يؤكد الناقد التونسي «أمير العمري» أن «العالمية» في السينما لا ترتبط بالمستوى الفني بتاتاً، بل بوجود هذه الشبكة الهائلة لتوزيع الأفلام في العالم، وهي خاضعةٌ لعددٍ من الشركات الكبرى التي بإمكانها تصنيف الأفلام كما هو الحال مع فيلم «زوربا اليوناني». في حين أن الفيلم الدعائي والممول لا حياة له»، فالجمهور يدرك بحسه التلقائي أنه يشاهد عملاً ممولاً بغرض الدعاية والترويج لصورةٍ ربما يراها أيضًا متناقضةً مع ما يعرفه عن الواقع، أو ما يقرأ عنه يومياً في الصحف ويشاهده على شاشات التلفزة، وذلك على قاعدة: إنّك لن تستطيع أن تُحسِّن صورتك إلا إذا تَحسَّنَ الواقعُ عندك أولاً»[14].
لقد ظهر بوضوحٍ أن الوصول إلى العالميّة، وهاجس تحصيل جوائزها، دفع بالعديد من المنتجين السينمائيين العرب إلى الإستعانة بالمخرجين الأجانب واتباع النمط الغربي في معالجة قضايا مجتمعاتهم لعلّها بذلك تصل إلى الرضا والعالميّة المنشودة. هذا مع العلم بأن هذه الأفلام على الرغم من رصد التمويلات الضخمة، وما جرى من تنازلاتٍ وتشريكِ نجومٍ أجانب عالميين في أفلامٍ عربيةٍ، كما هو الحال في فيلم عمر المختار، وكذلك دور حمزة عم الرسول في فيلم الرسالة اللذين جسدهما الممثل الأميركي الراحل «أنطوني كوين». واللافت أن التمويلات الضخمة التي لقيتها أفلام العقاد لم تصل إلى مستوى العالمية حتى بوجود نجومه العالميين[15].
على هذا المسار نفسه من التوظيف الهابط سارت السينما التونسية، فجعلت من أفلامها مطيةً لبلوغ العالمية، وقد يكون فيلم «بزناس» للنوري بوزيد مثالاً لهذه الصورة المهينة للعربي أمام الغربي. و«إذا كانت الأدلجة بمعناها السلبي هي الغشاوة المبتذلة التي ألقاها النوري بوزيد على فيلمه «صفائح من ذهب»  فإن العائق الرئيسي في «بزناس» هو ورطة الإنتاج المشترك والتنازلات المهينة التي حصلت من أجل إنجاز العمل[16]. فلقد قدّم فيلم «بزناس» المشار إليه صورة العربي كجاهلٍ مقابل سائحٍ فرنسيٍّ مثقفٍّ ومنحرفٍ سلوكيّاً، فكان «بزناس» هو تلك الشخصيّة العربيّة الانتهازيّة التي تحاول الاستفادة من السائحات الأجنبيات، والإيقاع بهن طمعاً في أن ترسل له إحداهن دعوةً وتذكرةَ طائرةٍ للشغل في بلدها، في حين يصور الفيلم الفتاة «خمسة» تتردّد مراراً على بيت الرجل الغربي «الرّومي» لترى صورها التي التقطها لها معلقةً على جدران غرفته، كأنها تريد اكتشاف ذاتها من خلال نظرته لها. إنّ هذا الاستيلاب العربي داخل المنطق الغربي يعتبر اغتراباً للسينما العربية والتونسية؛ لهذا كانت نظرة النوري بوزيد لمشاكل المرأة وقضاياها الجوهريّة تتّسم بالسطحيّة إلى أبعد الحدود، كما ظهرت «صياغته للحوار بين العرب والغرب متأثرةً بكليشيهاتٍ أدبيةٍ عربيةٍ لا تمت للواقع بصلة... وهي بالتأكيد تنازلٌ مسبقٌ أمامَ غربٍ يُريد تنميق وتلميع صورة مواطنيه وسلوكاتهم في البلدان العربية النامية»[17] والحاصل في أفلام «النوري بوزيد» كما سواه من السينمائيين التونسيين فإنّ قضيّة المرأة تحوّلت لديهم إلى نوعٍ من المزايدات الجنسية الخاوية من أيِّ إبداعاتٍ في قراءة الصراعات الاجتماعية. لذا فقد أخفقت هذه الأفلام في الوصول إلى مراتبَ العالمية، وظلّت ضمن دائرةِ التوظيف السياحي والتسطيح الاستهلاكي.
وبالمقارنة الإجماليّة مع صناعاتٍ سينمائيّةٍ في دولٍ إسلاميّةٍ أخرى سنجد التالي: في حين أخفقت السينما التونسيّة في مقاربة قضيّة المرأة، نجحت السينما الإيرانيّة بامتياز، وكذلك التركيّة بنسبةٍ معيّنةٍ في بلوغ مرتبة العالميّة. وللإشارة يعتبر المخرج الإيراني عباس كيارستمي[18]» اليوم من أهم المخرجين في العالم إنْ لم نقل أهمهم إطلاقاً.
 لسنا هنا بالطبع في كتابة مرثيةٍ للسينما العربية التونسيّة، بل هو للإقرار بعدم استقلاليّة السينما في بلادنا بسبب التبعيّة والهيمنة الهوليوديّة على عمليّة إنتاجها.

الفن السابع بين الاستتباع والاستقلال
ماذا بإمكان العرب فعله حيال الهيمنة الأميركيّة والأوروبيّة في الصناعة السينمائيّة؟
يحتاج مخيالنا المشوش إلى مزودٍ قارٍّ وقويٍّ. فأميركا في مجال الصّور، هي التي دوماً تضحكنا وتبكينا، وهي التي ستُخيفنا وتُسكت هلعنا، وبالتالي هي التي تكتسب النية المطلقة في التحكم في مخيالنا الجشع والمستسلم. وما من شك فإن هذه السلبية الفكرية في الإنتاج والإخراج السينمائي، لا حلّ لها سوى بإجراء مراجعاتٍ عميقةٍ لإنجازاتنا في مجال الفنّ السينمائي، تعكس استقلالية مواردنا والإلتزام بقضايانا، وتصوير واقعنا بما هو عليه لا كما يريده لنا المستعمر أن يكون. ولعلّ رجوع السينما إلى صورة المقاومة النسائية للمستعمر هي ما يمكن أن يُقدم كبديلٍ عن الصورة الهجينة للمرأة التونسيّة. على سبيل المثال الإجمالي لا نجد أفلاماً تونسيةً تُقدم صورة المقاومة للاستعمار باستثناء قلةٍ من الأفلام، لعلّ أبرزها فيلم «حماية 1881»[19] وهو فيلم للمخرج التونسي «طارق إبراهيم» والمنتج «محي الدين التميمي» وكانت كلّ من «سندس بلحسن» كما «أنس العبيدي» إلى جانب «الشاذلي صفر» من أبرز ممثليه، وقد اتخذ الفيلم طابعاً توثيقياً سجّل فيها ظروف دخول الاستعمار الفرنسي لتونس بداية بالاستعمار المادي واقتراض تونس من فرنسا عدة مراتٍ إلى حين إعلان إفلاسها سنة 1869. نشير هنا إلى أن الفيلم قدّم وجوه المقاومة التونسية في مختلف الجهات من قبل رجال الدين والأولياء والقبائل المسلمة. وقد كان للممثلة «سندس بلحسن» حضورٌ إيجابيٌّ أخرج الفيلم من الطابع الوثائقي الجّاف إلى البُعد الروائي، ما أعطاه مسحةً إبداعيةً وتوثيقيةً ساحرةً، منتقدةً للاستعمار الفرنسي الذي بدأ باستعمارٍ اقتصاديٍّ من خلال التغطية بالإعانات والقروض ثم سلب البلاد ثرواتها وخيراتها لتفقيرها وفرض الاستعمار الكامل والتدخل الأجنبي للسلطات الفرنسية على البلاد والعباد. وما يجدر ذكره أن فيلم «الحماية 1881» نال جائزةَ أفضل فيلمٍ وثائقيٍّ، فهو فيلمٌ متميزٌ بالخروج عن سينما «الكليشيهات» أو السينما النمطية الفرجوية، ليقدم لنا سينما ذات عمقٍ نقديٍّ للاستعمار واستغلال الثروات، وكانت فيه المرأة التونسية مساهمةً في هذا الإبداع النقدي كعنصرٍ فاعلٍ لا كموضوعٍ مستهلكٍ صورةً وجنساً.

نسيان المرأة المجاهدة
لقد سجلّت المرأة التونسية تاريخها كمجاهدةٍ ضدّ الاستعمار، وهذا ما ألغته أو ما قصّرت في حقه السينما في إنتاجها ولم تلتفت إليه إلّا قليلاً. والواقع يدلّ بوضوح على تاريخٍ عريقٍ للمرأة التونسيّة في النضال ضدّ الاستعمار الفرنسي. بل هناك مجاهداتٌ تونسياتٌ يعتبرن بطلاتٍ رائداتٍ في المقاومة، وقد ناضلن جنباً إلى جنبٍ مع الرجال، نذكر منهن «فاطمة بنت بوبكر» التي تعرضت لأبشع أنواع التعذيب من قبل المستعمر لمشاركتها في عدة معارك، و»مبروكة القاسمي» و»هنية بنت بلقاسم» كما «أم السعد يحيى» وغيرهن ممن خضن تضحياتٍ جمّة ضدّ المستعمر الفرنسي فكانت منهن من تحمل السلاح أو تُجهز «المؤونة للفلاقة» وهم الرجال المرابطون في الجبال، كما قامت هاته النساء بإيواء المقاومين والمجاهدين على الرغم مما تعرضن له من أشكال ووسائل التعذيب من اغتصابٍ وسجنٍ وحتى القتل. وما يُؤسفُ له أن هذه الفئة من النساء وهذا الوجه المقاوم للمرأة التونسية كان باهتاً أو غائباً على الجملة في السينما التونسية. والأسباب الكامنة وراء هذا الغياب تعود إلى استعمارٍ من نوعٍ آخر لا هو بالاستعمار الاقتصادي ولا السياسي، بل حصارٌ معنويٌّ وإعلاميٌّ، أدّت نتائجه إلى شيوع نظرةٍ سلبيةٍ للواقع التونسي كمجتمعٍ ذكوريٍّ متخلّفٍ، وهذا ينطبق على كلّ المجتمعات العربية في نظرة الغرب في سياق الهيمنة فكريّاً وتقنيّاً ليظهر بوجه المصدر للانفتاح والملاذ للتطور وصاحب التحرّر المشفق على المرأة العربية من التسلط الذكوري. ولو تعمقنا في هذا المشكل سنجد أن مأساة المرأة الغربية تفوق بكثيرٍ ما يُروّج عن المرآة العربية من استغلالٍ ماديٍّ وعاطفيٍّ وحتى جنسيٍّ، ولكن هذا ليس مجال حديثنا في هذا البحث.
وفي هذا الإطار يؤكّد الممثل محمد علي بن جمعة[20] على الطابع التجاري للسينما التونسية بقوله إنّها حساباتٌ تجاريةٌ «أعتقد أن قلة الإنتاجات السينمائية والتي تكون في أحايينَ كثيرةٍ محكومةً بحساباتٍ تجاريةٍ بحتةٍ سواءً في السينما القصيرة أو الطويلة، ولكن نحن نستشرف مستقبلاً أفضل لصورةٍ أشدّ التصاقاً وقرباً من واقع هذه المرأة في بلادنا ومجتمعنا في ظلّ ما نتمتع به من حقوقٍ وتشريعاتٍ تؤكد ذلك، وما تضطلع به من أدوارٍ ومهامٍ ومسؤولياتٍ في مختلف المناصب والهياكل الإدارية والتسييرية وموجة المخرجين والكتاب الشبان سيكون اتجاههم إلى هذه الصورة»[21].

البعد الاختزالي لصورة المرأة
في مقام نقد الصورة التي تقدمها السينما التونسية للمرأة، لا نجد سوى صورةٍ ذات بُعدٍ أحاديِّ الوجهة، خصوصاً وأنّه يركز على المرأة/ الجسد. ولعلّ الطابع الذكوري للمنتج التونسي هو الذي أفضى إلى الحضور السلبي للمرأة في السينما كما أسلفنا القول.
واقع الحال أن السينما التونسيّة تقدم نوعاً من الوصاية الذكورية في تظهير مشهدٍ مصطنعٍ لحضور المرأة كممثلةٍ أو كمخرجةٍ، حيث تزعم ريادةً مصطنعةً للمرأة في السينما، فمهرجان قرطاج السينمائي[22] التونسي على سبيل المثال لا تغيب فيه هذه العنصرية الذكورية، وهذا الحضور الشكلي للمرأة، فافتتاح المهرجان كلّ سنةٍ يعكس السينما المنغلقة على المرأة/ الجسد، حيث يقتصر عموماً على استعراضٍ رديءٍ لجمال ممثلاتٍ بلباسٍ مبالغٍ في العري. وهو ما أثار نقوداتٍ لاذعةً من جانب الصحافيين والنقّاد لافتقاده القدرة على الارتقاء لمستوى الحدث الفكري والثقافي لمهرجان من المفترض له أن يحضر مساراً إبداعيّاً ثقافيّاً وفكريّاً يترجم حقيقة حضور المرآة ككائنٍ إنسانيٍّ في الفنّ السينمائي.
يمكن إرجاع هذه الصورة النمطية للمرأة في السينما التونسية لعدةٍ أسبابٍ منها السياسية وخصوصاً في زمن حكم «الحبيب بورقيبة» لتونس، إذ اهتم هذا الأخير بقضايا تحرّر المرأة، وقام بسنّ قوانينَ كثيرةٍ تضمن لها حريّتها واستقلاليّتها. يتّضح هذا خاصة في «مجلة الأحوال الشخصيّة»[23] التي شعارها «تحرير المرأة وتحديث المجتمع التونسي»؛ لذا شكّلت السينما التونسية نوعاً من الاستجابة لهذا الخطاب السياسي وهذه السلطة القانونيّة أكثر منها كالتزامٍ فكريٍّ وإبداعيٍّ[24]. وعلى هذا الوجه من التحديث ركّزت السينما على التعقيدات الاجتماعيّة والإجراءات التي تمارس على المرأة، وانتقدت التقاليد والأعراف التي أظهرتها في وجهٍ سلبيٍّ، مع أن المرأة التونسيّة أنجزت ما يُفتخر به كامرأةٍ مناضلةٍ ضدّ الاستعمار فضلاً عن دورها في التأسيس لأسرةٍ وعائلةٍ مستقرةٍ ومتوازنةٍ. لم تلحظ السينما التونسيّة واقع المرأة التي تشتغل بيديها في التطريز والنسيج في المدينة، أو تلك المرأة الريفية المساندة لزوجها في الحقل حيث قدّمت نموذجاً أصيلاً للمجتمع التونسي. أمّا المرأة/ الضحية التي عملت السينما على تظهير صورتها، فهي امرأةٌ مصطنعةٌ لا تعكس سوى منطقٍ استعماريٍّ لا يفقه الحضور الخاص للمرأة التونسية والعربية عامة في مجتمعها، بل يتعمد تقديم صورة دنيا لها محاولةً منه لنقد وانتقاد الموروث العربي الإسلامي للثقافة التونسية[25]. ولا شكّ، فإن هذه النظرة السطحية في السينما التونسية ألغت نموذج المرأة المتعلمة والمرأة العاملة كما العالمة والفقيهة. بهذا المعنى باتت صورةُ المرأة على هذا الوجه السلبي والمستنكر ضحيةَ السينما لا ضحيةَ الواقع الاجتماعي. وعلى وجه العموم فقد بدت المشهدية النسويّة في تونس قائمةً وسلبيّةً. فالمرأة على صفحات الجرائد هي ضحيةٌ لعنفِ الرجل، وفي الفيديو كليب هي راقصةٌ مثيرةٌ وفي السينما والتلفزيون ممثلةٌ تتركز أغلب أدوارها على الإغراء والإثارة أو الضحية فتكون على شاكلة ربة البيت المضطهدة والمغلوبة أو الريفية الجاهلة وغيرها من الأدوار الدونية السلبية... وفي الإعلانات هي مجردُ وجهٍ جميلٍ وقوامٍ رشيقٍ، وكذلك الحال في عروض الأزياء وألعاب الفيديو... وتكاد تُجمع وسائل الإعلام على توظيف المرأة بما هي صورةٌ لوجهٍ وجسدٍ جميلين لكنها في أحيانٍ كثيرةٍ فارغةُ العقل، إذ إن أغلب السيناريوهات موضوعها الجنس والإثارة. وقد كشفت البحوث الميدانيّة على مسؤوليّة السينما في تكاثر جرائم الاغتصاب الناجمة عن التأثر بأفلام الجنس والعري ولدورها في إثارة الغرائز بدافع التقليد للنمطيّة الغربيّة. والملفت للنظر أن مثل هذه المشاهد أصبحت صنو أيّ عملٍ فنيٍّ حيث يوليها السيناريو والمخرج العناية الاستثنائيّة لإطلاق رحلةٍ لا تنتهي في التوفير التدريجي لنظام القيم، وكلّ ذلك لأسبابٍ ربحيةٍ وتجاريةٍ بحتةٍ على اعتبار أن ذلك يضمن رواجاً للعمل والإقبال»[26].
تبعاً لهذا التهميش المتعمد بدا بوضوحٍ أنّ الإعلام الغربيَّ كإعلامٍ مسيِّرٍ ومسيطرٍ يقدم صورةً مركبةً للرجل العربي هي في غاية التشويه: فهو إمّا ثريٌّ متسلطٌ أو إرهابيٌّ مجرمٌ أو متخلفٌ غير متحضرٍ، وفي المقابل بدت المرأة العربية جاهلةً وخاضعةً لسلطته وسلطة المجتمع والتقاليد بمنطقها الذكوري المتوحش فلا يتعدى دورها دور الجارية لا دور لها سوى إرضاء سيّدها.
لقد ابتعدت السينما التونسيّة عن النقد السياسي، وقد تمثّل ذلك بتغييب الفيلم، فالقمع السياسي والحصار الاقتصادي والفكري جعل المنتجين يبحثون عن مادةٍ سينمائيةٍ مضمونة الرواج وبعيدةٍ عن أيِّ انتقادٍ للسلطة. أمّا النتيجة الإجماليّة لهذا المشهد العام فهي تشجيع السلك على مصادرة الحريّات بالمطلق وخصوصاً حريّة الإبداع. ففي زمن «بن علي» راجت سينما هشّة أو لنقل سينما تجارية باهتة ومتهافتة. ربّما علينا الإقرار بأن علاقة السينما بالديمقراطية علاقةٌ ضروريةٌ تضمن لها حرية التعبير والخروج من المواضيع التقليديّة المجترة إلى فضاء الإبداع والإنتاج النقدي الفاعل في المجتمع بطرح القضايا الحقيقيّة فيه من سياسةٍ واقتصادٍ وغيرها من أساسيات نهوض المجتمعات دون انغلاقٍ على سينما أحادية الرؤيا لتنعت بـ «سينما المرأة» أو «سينما العروض الجنسية» بدعوى الالتزام بقضايا اجتماعيةٍ، وفي الحقيقة أنها لا تأخذ من المرأة وحضورها السينمائي إلا مهرباً من الالتزام الفعلي بالقضايا المصيرية لمجتمعها خوفًا من السلط الموجهة للفن، راسمةً له حدود إبداعه وخريطة إنتاجه التي لم تخرج من مسالة «المرأة الجسد» و»الرجل العربي المتسلط».
ما نخلص إليه، أن السينما التونسية بخاصّةٍ والعربية إجمالاً لم تفِ المرأة حقّها ولم تقدمها في صورتها المثلى، بل إنّها اختزلتها إلى مجرد كائنٍ جسدانيٍّ محضٍ. وفي الحقيقة إن ما أنتجته هذه السينما في الغالب كان استجابةً لهيمنةٍ إمبرياليّةٍ ثقافيّةٍ غايتها تحييد المجتمعات العربيّة عن مشاكلها الأساسيّة والظهور في صورة المرشد المتحرر. أما كيف ومتى تتجاوز المجتمعات العربيّة هذه السلطة المعرفيّة الغربيّة فذلك ينبغي على الانتلجنسيا العربيّة عموماً والتونسيّة بصفة خاصّة أن تعثر على إجابةٍ وافيةٍ في شأنه...

-------------------------------------
[1]*ـ  باحثةٌ في الفلسفة وأستاذةُ الفنّ الإسلامي – جامعة الزيتونة – تونس.
[2]- راجع الدراسة الميدانيّة المنشورة بعنوان صورة المرأة في السينما التونسيّة - موقع مغرس - www.maghress.com.
[3]- راجع الدراسة الميدانيّة المنشورة بعنوان صورة المرأة في السينما التونسيّة - موقع مغرس - www.maghress.com.
[4] -  سمير الزغبي – السينما التونسيّة والفضاء العمومي – من سلسلة الفن والقضاء العمومي – مركز النشر الجامعي – تونس – 2005 – ص: 82.
[5]-  سمير الزغبي – السينما التونسيّة والفضاء العمومي – المصدر نفسه.
[6]- «ce qui unifie et constitue une unité discursive de la majorité des films de femmes tunisiennes c’est l’élaboration de ce que nous pouvons considérer comme un discours féministe alimenté par une revendication de liberté féminine « Sonia Ghamkhi , les cinéma du Maghreb et leur publics , Africultures N°89 , Paris , L’harnattan 2012 p.29
[7]- سمير الزغبي السينما التونسية والفضاء العمومي- من سلسلة الفن والقضاء العمومي – مركز النشر الجامعي – تونس – 2005 – ص: 85.  
[8] - انظر: ثريا بن مسمية –المشهد التونسي في السينما التونسيّة- واقع إشكاليّات. محاضرة ألقيت في الحلقة الدراسيّة حول السينما التي نظمتها الجامعة متعددة الاختصاصات – جنوب المغرب- 15/ 5/ 2019.
[9]- السينما والفضاء العمومي، د.سمير الزغبي، مرجع سبق ذكره، ص: 83  
[10]- من حوار مع الممثلة التونسيّة جميلة الشيحي أجرته معه الصحافيّة نزيهة الغضباني - راجع - جريدة الصباح- 13-01-2015  
[11]- المصدر نفسه.  
[12]-  جميلة الشيحي – المصدر نفسه.
[13]- السينما والفضاء العمومي، د.سمير الزغبي، مرجع سبق ذكره، ص: 92  
[14]- أمير العمري، ناقد وكاتب مصري، صدر له ستّة عشر كتاباً في النقد السينمائي، وتنشر كتاباته ومقالته حاليا بإنتظام في جريدة «العرب» الدولية. 
[15]- أمير العمري، حلقة «المشاء» بتاريخ 15/ 11/ 2015.   
[16]- العرب والحداثة السينمائية، الهادي خليل، دار الجنوب للنشر، تونس – 2013، ص: 21.   
[17]-  العرب والحداثة المرجع نفسه، صفحة 22. 
[18]- عباس كيارستمي (بالفارسية: عباس کیارستمی) (مواليد 22 يونيو 1940 في طهران - 4 يوليو 2016 في باريس) مخرج سينمائي إيراني عالمي شهير وكاتب سيناريو ومنتج أفلام ومصور.
عمل في مجال صناعة الأفلام منذ عام 1970، عمل في أكثر من 40 فيلماً عالميّاً بما فيها أفلام قصيرة ووثائقيّة، حقق نجاحاً في لفت الانتباه والنقد بأفلامه خصوصاً ثلاثي كوكر وطعم الكرز وستحملنا الريح. يُعرف كيارستمى بأنه مخرج عالمى وكاتب سيناريو ومنتج أفلام بالإضافة إلى أنه عمل كـ شاعر ومصور ورسام ومصمم جرافيك.
يُعتبر من مخرجين تيار الموجة الإيرانية الجديدة حيث انضم لمخرجين السينما الإيرانية التى بدأت في أواخر 1960 أمثال فروغ فرخزاد وسهراب شهيد ثالث وبهرام بيضائي وپرويز كيمياوى. بعض من الخصائص المشتركة الواضحة لمخرجين هذا التيار، أسلوب المحادثات الشعرية، ورواية القصص التمثيلية المتعلقة بمواضيع الفلسفة والسياسة. كان استخدام كيارستمى كاميرا ثابتة في العادة، وكثافة المحادثات السابقة داخل السيارات، ورواية القصص بطريقة وثائقية في أفلام المناطق الريفية وأيضاً استخدامه لأبطال أطفال من أهم خصائصه. استخدم الأدب الفارسي بكثرة في المحادثات وأسماء ومواضيع الأفلام.
[19]-  “حماية 1881» فيلم ينبش تاريخ الحكم وحقيقة النظام ضد المستعمر وقد قدمه المخرج طارق ابراهيم بقوله «التاريخ -مثلما يقال- حمّال أوجه وقد حرضت في فيلم «حماية 1881» الحقيقة التي غابت عن أجيال من التونسيين التي ظلت محفوظة مثلما عليه في الأرشيف العسكري التونسي والفرنسي وفي بعض الكتب التاريخية التي وثقت أبرز الأحداث والأوضاع والعوامل التي عرفتها بلادنا قبل وأثناء وبعد عهد الحماية وحقيقة النضال والمقاومة أثناء تلك الفترة»، حوار مع المخرج طارق إبراهيم، جريدة الصباح 2016.
[20]-  محمد علي بن جمعة ممثل ومساعد مخرج مسرحي ومغني راب تونسي، ولد في 13 نوفمبر 1970 بتونس العاصمة، مثل عدة أدوار في العديد من الأفلام التونسية والعالمية وفي المسلسلات، ويكيبيديا.
[21]- مقال صورة المرأة التونسية، جريدة الصباح، تحقيق نزيهة الغضباني، 13-01-2008   
[22]- أيام قرطاج السينمائية : مهرجان سينمائي تأسس سنة 1966 ببادرة من الطاهر شريعة وهو أقدم مهرجان سينمائي في دول الجنوب، يرأسه وزير الثقافة ويعقد كل سنة ما بين شهر أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، ويكيبيديا الموسوعة الحرّة.
[23]- مجلة الأحوال الشخصية : هي سلسلة من القوانين التقدمية التونسية صدرت في 13أغسطس 1956 بمقتضى أمر من باي تونس، ودخلت حيز التنفيذ في 01 يناير 1957، وتهدف إلى اقامة المساواة بين الرجل والمرأة في عدة مجالات ... حيث تم إلغاء تعدد الزوجات ووضع مسار إجراءاتٍ قضائيةٍ للطلاق وأخيرا اشتراط رضاء الزوجين لإتمام الزواج، على عكس ما تم إشاعته فإن العديد من كبار وعلماء وشيوخ تونس من جامع الزيتونة شاركوا في صياغتها أو تم استشارتهم، وعلى رأسهم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور الذي كان عضو لجنة الصياغة، وكذلك والده العلامة محمد الطاهر بن عاشور ومفتي الديار التونسية محمد عبد العزيز جعيط الذين تم استشارتهم، ويكيبيديا الموسوعة الحرّة.
[24]- “ the critical preoccupation ئith the social of women .but also gender relation in general , from one of the main threads of tunisian cinema since the 1970 “
Donmez-colin Gunul (dir) , the cinema of North africa and Middle East, london, wallflower, 2007
[25]- “أعتقد أن المخرج السينمائي الذي يعيش في برجه العاجي يمكنه أن يتصور سينما مبهرة لكنها سينما مفصولة عن الواقع”
L’expérience cinématographique de Souad Chraibi publication de l’association des critiques de cinéma, Maroc, P28 
[26]- صورة المرأة التونسية في الأعمال السينمائية والتلفزية وفي الفيديو كليب.