البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مناعة القطيع كأطروحة مستأنفة للمالتوسية، زمن العبث البيولوجي

الباحث :  إدريس هاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  20
السنة :  السنة الخامسة - صيف 2020م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 5 / 2020
عدد زيارات البحث :  644
تحميل  ( 345.903 KB )
تقوم هذه المقالة على إجراء وصل معرفيّ بين الأثر المترتِّب على جائحة كورونا والتنظير الديمغرافي الذي وضعه فيلسوف الاقتصاد السياسي الانكليزي توماس مالتوس (1834-1766)؛ بغاية إنقاض العالم من خطر التّكاثر السكّاني. أمّا نظريّته التي سيناقشها الكاتب فهي تنطلق من أنّ وتيرة توالد البشر هي أسرع من وتيرة الإنتاج الغذائي، الأمر الذي يؤدّي إلى اختلال التوازن العام ويفضي إلى الحروب والأوبئة. لكن المعضلة الكبرى في المالتوسيّة والتي نشأت كتيّار واسع في الغرب، تكمن في التوظيف العنصري لنظريّتها، وخصوصًا لجهة تسويغ الحروب ونشر الأوبئة وإبادة أكبر نسبة ممكنة من التكاثر السكّاني.

المحرّر

-------------------------

استطاع فايروس كورونا أن يقنع العالم بخطورته في وقت متأخّر، وبعد تردّد طويل من منظّمة الصّحّة العالميّة. لكن ما يبدو أنّه أشدّ خطرًا من اللّقاح المنتظر، هو البحث عن نشأته المعدّلة وما إذا كنّا بصدد الدّخول في حمى معركة بيولوجيّة لا تُبقى ولا تذر.. منذ البداية حاولت اجتناب هذا الجدل على أهمّيته، ليس تهرّبًا من الأفق الرمادي للأجوبة المفترضة، وإنّما لإحساسي المسبق أنّ القضيّة لا تتعلّق بسؤال النّشأة، حيث المعضلة باتت بنيويّة، ولم يعد بإمكاننا العودة الميكانيكية لترصُّد الأعطال في بيئة كلّ ما فيها حيويّ؛ لأنّنا لسنا من اخترع نظام الطبيعة. وإن كنت أستبعد إغراء السرديات التي تتحدّث عن النشأة، فلأنّني معنيّ بالمآل الذي ستنتهي إليه الجائحة. لكن الفرضيّة ستظلّ قائمة حول وجود تدبير ومكر جيوستراتيجي، يشتغل خارج قسم أبقراط ويستهدف الجنس البشري. إنّ فرضيّتي هنا قديمة؛ وقديمة لأنّ المالتوسيّة المسكوت عنها لها حضور قلق في قلب المخطّط العربي. وإنّ إدارة الديمغرافيا العالميّة بات شأنًا لها، وبأنّه في زمن التوازنات التي تمنع من سهولة الدّخول في الحروب كان لا بدّ من التفكير في حروب بيولوجية صامتة تطيح بالملايين. لكنّنا سنرى كيف أنّ المالتوسيّة تصلح مدماكًا لنظريّة المؤامرة في العقل الغربي، ولا تصلح لتكون حلًّا للديمغرافيا في زمن كورونا.

مرحلة العبث البيولوجي

قد تكون كورونا في وجه من وجوهها الغامضة مثالاً في طور التجريب لحرب بيولوجيّة تستهدف الآخر غير الغربي. أي المناطق الأكثر كثافةً من الناحية الديموغرافيّة. وبالطبع لا نستطيع أن نمضي أبعد في هذا التأويل، أو أن نتحدّث عن واقع العلاقات الدّولية من وجهة نظرٍ بريئةٍ تستبعد فعل التآمر. وفي هذا السياق لا مناص من الإشارة إلى أنّ الصّين في المخطّط الإمبريالي هي معضلة، ولا مجال للتصرّف حيال هذه المعضلة بالترسانة النوويّة، ولا بأيّ تدبير آخر. ذلك لأنّ الصين تتحرّك كعملاق واثق الخطى، ويبتلع الأسواق، ويضع له في كلّ ناحية نقاط متاجرة ومراقبة. والأهمّ من كل هذا، أنّ أحفاد سان تزو لا يقدّمون مبرّرات للعدوّ لشنّ حرب ضدّهم، وهم من أسّس «بنج-فا» أو فنّ الحرب. فلا يزال صوت المعلّم سان تزو يؤكّد على عبثيّة الحرب طويلة الأمد، ويؤكّد على وجوب أن تكون حربًا مضمونة الانتصار حتمًا. لقد استطاعت الصين أن تحتوي الرأسماليّة لصالح أجندتها الاقتصاديّة، وهي لا محالة تدرك أنّ مصيرها لم يعد مجرّد كونها دولة عادية. وإلى هذا يدرك الصينيون قيمة الديمغرافيا والعمق التّاريخي والحضاري وكل المؤهّلات التي تجعل منهم أمّة عصيّة على التنازل عن مطلب استرجاع مجدها الأمبراطوري. وهو الأمر الذي سيكلّفها على مدى حقبة طويلة من التّنافسية الصامتة والذكية مسؤوليّة الحفاظ على النّظام العالمي. وبقطع النّظر عن الجدل الذي لم ينته بعد حول العوامل المسبِّبة لجائحة كورونا أو حول منشئها الصيني، فلا ينبغي أن نتجاهل أنّ الصين مثّلت عامل احتواء الفجوة، التي تسبّب فيها سقوط الاتّحاد السوفياتي. فهي حسب المركز الغربي والأميركي على وجه الخصوص، البديل المطروح اليوم، مع أنّ فكرة البديل يجب أن تُفهم بعيدًا عن فكرة القطيعة التّامة مع الغرب. ومن هنا كان التّعامل معها في الدوائر الغربيّة محفوفًا بكثير من الغموض والمخاطرة. لكن الوعي الغربي بالخطر الصيني يعود في جذوره إلى ميلاد الجغرافيا السياسية الحديثة، وتحديدًا مع ماكيندر في المحور الجغرافي للتاريخ حيث نبّه إلى الآثار المترتّبة على هذه الخطورة، وخصوصًا على نقطة الارتكاز العالمي للمجال الأوراسي. فقد تحدّث عن الخطر الأصفر على الحرية في العالم، وذلك بناء على الأهميّة التي يشغلها قلب العالم(Heartland). ففي مقالته التأسيسيّة «( le pivot géographique de l’histoire(1904)»[2]،  يبدو العالم هنا عبارة عن خريطة تتمركز فيها منطقة القلب، جغرافيا توزيع الهيمنة، حيث أوروبا الشرقيّة مفتاح أساسيّ لبلوغ منطقة القلب، كما أنّ من يهيمن على أوراسيا قد أحكم القبضة على العالم: المفتاح السّري للجغرافيا السياسية التي طرأ عليها الكثير من التجديد لكنّها استمرت بكيفيّة أخرى؛ وعليه فإنّ معادلة التحوّل العالمي الجديد تقوم على جملة من مفاتيح التحكّم التالية:

- من يتحكّم في شرق أوروبا يسيطر على قلب الجزيرة العالميّة

- من يتحكّم في منطقة القلب يسيطر على الجزيرة العالميّة

- ومن يتحكّم في الجزيرة العالميّة يسيطر على العالم

   أيّة علاقة بين المالتوسيّة وكوفيد 19؟

 ومن دون أن نستغرق في مناحي هذه الجغرافيا والتعديلات التي طرأت عليها، فإنّ ما يهمّنا في هذا المقام هو أنّ الغرب يعيش الآن محاولة استكمال تمركزه العسكري والاقتصادي؛ حيث استند إلى الرؤية المبكرة ذاتها عن الصين باعتبارها الخطر المحدق على العالم.

أمامنا إذًا، مادّة دسمة ومغرية لاختزال الحدث في نظريّة المؤامرة، فثمّة إحالات كثيرة تنحو المنحى المذكور، ووثائق مقنعة من حيث نسقها التفسيري، لكنّنا لسنا في وارد التّسامح في الاستنتاج وسنتركها جانبًا في انتظار الأدلّة القاطعة، فالعالم متسمّم سياسيًّا وإيكولوجيًّا، ومصانع الشّر لها في كلّ ناحية مراكز وغرف عمليات، والحرب البيولوجيّة واردة، ولكنّها إن حدثت فستكون شكلاً من تدبير الديمغرافيا وتحيينًا للمالتوسيّة وتنزيلًا لمخرجاتها. الفرضيّة التي ننطلق منها منذ أكثر من ثلاثة عقود، هي أن ننتظر شيئًا يتهدّد الديمغرافيا الصينيّة[3]، الأمر لا يتعلّق بكورونا بل بتجربة، ولا شكّ إن صحّت الفرضيّة فإنّ اللّقاح موجود على كلّ حال في الدوائر التي أنتجته[4]. نعم إنّ الفيروس هشّ وضعيف وجبان، لكن خطورته تكمن في جبنه وقدرته على التكيّف، فهو مُعرّض للإبادة أيضًا وعدد الموتى منه يُعدّ بالملايين لكنّه عنيد وخبيث، وهو يهتدي كلّ مرة لتعديل نفسه واكتسابه لياقة في الاختراق، هو ضعيف من حيث لا يملك أن يعيش بعيدًا عن الخليّة التي يستعمل مكوّناتها لبلوغ مراده، أو لنقل قدرته الفائقة على إعادة برمجة الخليّة لصالح أهدافه.

لقد وقفنا على عشرات الأحجيات التي تمتاح من نظريّة المؤامرة، بعضها متين جدّا في حجم الذّكاء الذي تنظّم من خلاله المقدّمات، لكن المتّجه (le vecteur) تارة يتّجه من الصين إلى الولايات المتحدة الأميركية وتارة العكس، هذا بالمفهوم المنطقي والرياضي عبث وسخف (absurdite)، ولكنّنا حين نقبل بهذه النقائض نؤكّد بأنّنا دخلنا زمن الهلاوس ونعبّر عن مستوى من التفاعل الباثولوجي مع الحدث. نستطيع من خلال تأويل الأحجيات والرُّؤى أن نصنّف نوعيّة المرض الذي يسمح بهذا النّوع من الخيال غير الآبه بالمقدّمات المنطقيّة للاستنتاج، وستجد الذّات الجماعيّة في هذه الهلاوس سُكنى وطمأنينة، فالهُّجّاس الذي تحبكه بعض الأفكار يستند إلى متلقّي جماعي في حالة من الجزع والحيرة. ويمكننا أن نبيِّن من خلال تفكيك الخطاب المالتوسي كم نحن نبني على أوهام، وسيكون من الخطأ أن أصفها بأنّها أوهام خاطئة؛ لأنّ الأوهام حقائق لها شروطها الخاصّة، وبأنّ الخيال كما ذهب ابن عربي لا يخطئ، وبأنّ الواقعيّة حسب هايدغر تطلق على الذّهب وعلى النّحاس المذهّب، كلاهما حقيقة واقعية، غير أنّنا في نهاية المطاف نحن من يدرك أن الخطأ يبدأ حين نجعل من وظيفة منتج الصّور ملكة للحكم.

من خلال هذا التحليل نستطيع التأكيد على أنّ المالتوسية لم تفكّك بما فيه الكفاية لا من قبل مجايليها ولا المتأخرين، وأمّا في المجال العربي فإنّني على يقين بأنّ محاولة مالتوس لم تُقرأ كما ينبغي. وفي دحض هذه السردية نكون قد أخذنا فكرة عن هشاشة نظريّة المؤامرة حين تصبح عقيدة لا فرضيّة، حكم قيمة وليس استنتاجًا. ونحاول هنا أن نتفاعل مع الفكرة المحوريّة لمحاولة مالتوس بالتلخيص والتحليل معتمدًا المصدر الأساسي والأطروحة الكلاسيكية نفسها حول المعضلة السكانية؛ حيث نعتمد في تحقيق هذه المهمّة على المصدر التالي:

Robert Malthus (1798), Essai sur le principe de population; Paris: ةditions Gonthier, 1963, 236 pages. Collection: Bibliothèque Médiations. (Préface et traduction par le docteur Pierre Theil).

يعطينا كورونا من النّاحية النّظريّة فكرةً كاملةً عن نظريّة سابقة في الاقتصاد السياسي، ألا وهي المالتوسيّة. لم يكن أحد يدرك أي معنى لحلّ معضلة علاقة الإنتاج بالديمغرافيا، من خلال نفض ملايين البشر عبر آليات الحرب، لكن الحرب اليوم قائمة وهي لا تقلّ فتكًا عن الحرب النوويّة، إنّها تستطيع وفي صمت مريع تقويض ملايين البشر.

لقد كانت الديمغرافيا ولا زالت واحدة من معضلات المستقبل البشري، لكن الصين خطّأت هذا الهلع الديمغرافي وقدّمت نموذجًا مختلفًا، ولم ينظر مؤسّسها ماو تسي تونغ للكائن كمستهلك فقط، بل نظر إليه كمنتج لغذائه. وبهذا المعنى ستصبح الديمغرافيا إشكاليّة حقيقيّة بالنسبة لنمط الإنتاج الرأسمالي، الذي ينتج البطالة والعزل والصراع الطبقي. فالأمّة التي تضمّ ما يقارب سُبع البشريّة تمتلك أفضل وسيلة للإنتاج والتوزيع، ولا وجود للمجاعة في الصين ولا شرائح تحت خطّ الفقر، ولذلك كانت الصين هي أقوى اقتصاد يدبّ على الأرض، بينما ازداد فيها أمل الحياة، وستسجّل مستشفيات الصين نجاة امرأة مسنّة تبلغ من العمر مئة وثلاث سنوات من الإصابة بكورونا في ذروة الجائحة. ثمّة ملاحظات كثيرة على فكرة مالتوس التي عبّر عنها بأسلوب بلاغي في أطروحته التي وصفت بالكئيبة حول مبدأ السكان. فقد رتّب فكرته على قسمين: قسم خطّأه التّاريخ؛ حيث تضاعف السكّان في دول ليبراليّة، مثل الولايات المتحدة الأميركية وازداد مع ذلك الإنتاج. وقسم يتعلّق بمفارقات النّظام الرأسمالي؛ حيث تراجع الإنجاب والزواج. ولكن مالتوس لم يتوقّع ارتفاعًا في معدّل الشيخوخة مقارنة بالشباب في المجتمعات الرأسماليّة. فالتوصيات التي قدّمها كان من شأنها أن تنشئ مجتمعًا داروينيًّا بامتياز، ولهذا أمكننا اعتبارها إحدى وجوه الداروينيّة الاجتماعيّة التي ساهمت في التمهيد للفكرة الداروينيّة، التي أخذت بها فلسفة المحافظين الأميركيين الجدد في نهاية القرن العشرين. باختصار إن كنّا نريد أن نفهم مالتوس بعيدًا عن بلاغاته التي منحها مصطلحًا رياضيًّا، فإنّه كان يرمي لتفقير المجتمع بكيفيّة ممنهجة حتى لا يقوده النّمو إلى حالة العودة إلى الفقر. الحلول المالتوسية ذات بعد طبقي بامتياز، وجب على شريحة من المجتمع أن تتأخّر في الزواج ووجب أيضًا أن لا يكون هناك زيادة في الأجور، على الطبقات الشعبية أن لا تدخل في دورة الاستهلاك، عليها أن تجوع وتُحشر في مواجهة الحاجات؛ لكي لا تفكّر في الزواج والتكاثر. انظر كيف يتحدّث عن توصيات تتعلّق بفئة من المجتمع. لم يقرأ مالتوس مسار الاقتصاد السياسي إلاّ في ضوء معضلة إنجلترا يومئذ، ستشهد أوروبا نضالًا عمّاليًّا وثورات للشّغيلة، وقد استمرّت في وضع من الرفاهية والتكاثر إلى حدّ ما.

تفكيك الخطاب المالتوسي

لا أريد أن أتوسّع أكثر في مناقشة أطروحة مالتوس حول السكّان بشكل تفصيلي، ولكن لا بدّ من تفكيك الخطاب لندرك أنّ النّزعة القدريّة الكامنة هنا، ليس فيما يتعلّق بمخالفته للخطاب الدّيني الذي طالما نظر للإنجاب ومؤسّسة الزواج بازدراء بوصفها من النّعم، بل يوجد في نزعته القدريّة الكئيبة بالفعل، ما يوحي  بوجود استنتاج مسبق ألا وهو عدم الجدوى من التّنمية. وكان يقول بأنّ علينا أن لا نخالف غايات الطبيعة من محاولة تحسين معيش الطبقات الفقيرة. إنّها إحدى التعبيرات المنسجمة مع خطاب كو كلوكس كلان، أي حين نفكّر في إبادة العنصر البشري ونكرّس وضعيّته الاجتماعية، تصبح التنمية مجرد حصار اجتماعي؛ لكي لا يفكّر المجتمع في التّطوّر خارج حدود ما فرضته الطبيعة بالمفهوم الدّارويني، الذي يمنح القويّ كلّ الحقّ في احتكار الحياة الأفضل. ففي عمق المالتوسية نكتشف الأفق الجديد لنظام عبوديّ لا يمنح العبيد الحقّ في تحسين أوضاعهم، وكلّ ذلك يتمّ بناء على الفضيلة والطبيعة والاعتقاد، لنتذكّر أنّه في مقاطع من أطروحته اعتبر مالتوس التكاثر مخالف للفضيلة وللأمر الإلهي. قلت لا بدّ من الوقوف عند المالتوسية؛ لأنّها هي نفسها تمّ اختزالها وقراءتها قراءةً سيّئة ومبتورة ككلّ الأفكار الكلاسيكيّة، التي يتمّ قراءتها في العالم العربي باختزال.

نكاد لا نلمح في محاولة مالتوس سوى الدعوى المتكرّرة لضبط الطبّقة الفقيرة – خلافًا للعليا والمتوسّطة - ولكي نحقّق تراجعًا سريعًا في معدّل الولادات والانفجار الديمغرافي سيكون على الطبقة الفقيرة أن تدفع الثّمن، فهي وحدها المسؤولة عن هذه المأساة، بل هي حين تكون فقيرة وتحرس أن تتكاثر؛ بسبب ما أودعته الطبيعة في الكائن الحيّ، سيكون الفقير الذي يعلم بمآله، أي ينجب دون أن يكون قادرًا على إعالة أبنائه، بمثابة كائن لا أخلاقيّ. لم يكن مالتوس صاحب خطاب اختزاليّ يجعل كلّ محاولات تحسين حياة الفقراء من دون جدوى فحسب، بل كان حفّار قبور يبحث إحصائيًّا وأيضًا استشرافيًّا في أفضل طريقة لتصحيح التدفّق الديمغرافي، تمجيدًا للحرب والطاعون اللذين كان لهما كبير دور في كبح جماح هذا النمو السكاني، إنّه تمجيد طبقيّ للموت.

في مقدّمته الجديدة التي يشرح فيها الدّافع وراء محاولته تلك، يذكّر بأنّه كان متأثّرًا ببعض الكتب التي تناولت موضوع السكان من أمثال غودوان، واعتمادًا على ما كان بين يديه من كتب لكلّ من هيوم ووالاس وآدام سميت ود. برايس. وهذا يعني أنّ مالتوس التقط جانبًا واحدًا من أسباب الفقر ليحوّلها إلى السبب الرئيسي الذي لا مفرّ من معالجته بتدبير ممنهج إلى حد تعديل قوانين تحسين أوضاع الفقراء. غير أنّه سرعان ما سيبيّن بأنّ تحسّن أوضاع الفقراء سيكون هو السبب الأساسي للنمو السكاني، وهذا ما أسمّيه بالمفارقة المالتوسيّة، وهي مفارقة تجعل ادّعاء المقدّمة ينتهك مضمون البحث في المبدأ السّكاني، حيث أصبحنا أمام سؤال إشكالي من شقين:

-هل إنّ الفقر سببه النمو السكاني؟

- هل إنّ تحسن أوضاع الفقراء هو سبب النمو السكاني؟

وإذًا:

- هل يجب أن نقلّل من النمو السكاني لنقضي على الفقر؟

- هل يجب أن نحاصر الفقراء لكي لا تتحسّن أوضاعهم فيفكّرون في الزواج والتكاثر؟

نستطيع صياغة ما أسمّيه نقيضة مالتوس التي تنتهي إلى خُلف منطقي ـ وفق الأورغانون الأرسطي نفسه ـ الذي استند إلى صاحبه كواحد ممن لفتوا إلى معضلة التدفّق السكاني- على الصورة الآتية:

«لكي لا نكون فقراء علينا أن لا نتناسل، ولكي لا نتناسل علينا أن نبقى فقراء».

المالتوسيون الجدد ومناعة القطيع

عند تفكيك الخطاب المالتوسي سنجد أنّ المستهدف في هذا البرنامج هم الفقراء وشريحتهم، ولذا يجب أن يخضعوا لإجراءات تستهدف وجودهم عبر أساليب الحصار الطّبقي، وكبح تطلّعهم إلى تحسين أوضاعهم؛ حيث هناك مكمن الخطر في النمو الديمغرافي. فالنّمو السكّاني في نظره ينتج الفقر والبؤس بالنسبة للطبقات السُّفلى، ومن هنا حاول تفسير أسباب فشل الجهود المبذولة من قبل الطبقات العليا لإنقاذ الطبقة الفقيرة.

ولم يخفِ مالتوس غايته من تكرار الكثير من الأمثلة؛ لأنّ الغرض كان هو التأثير على القدر الأكبر من الفقراء، باعتبار أنّ فكرة الخطر السكّاني في نظره، مما تناوله فلاسفة من قبله كأفلاطون وأرسطو وآخرون مثل فرانكلين وسير جيمس ستيوارت وأرتور يونغ الخ، لكن هذه الإشارات مرّت من دون أن يلتفت إليها الرأي العام.

 يلجأ مالتوس إلى مغالطة الاختزال والتضخيم؛ ذلك لأنّ المعضلة السكانيّة لم تكن يومًا في أولويات برنامج تحسين الوضع الاقتصادي، ولا نظر لها أولئك على أنّها جوهر المشكلة الاقتصاديّة، وهكذا سيتجاهل مالتوس كل العوامل الأخرى سواء ما يتعلق بتحسين الأوضاع الاجتماعية أو ما يتعلّق بوسائل احتواء الديمغرافية، على الرغم من أنّه قلّل من قيمة قدرة العوامل الطبيعية الدوريّة كالوباء أو حتى الحرب على كبح جماح التكاثر.

تكمن مغالطة أخرى عند مالتوس في مقارنة هجينة بين النبات والحيوان والإنسان، فلئن كان النّبات والحيوان يخضعان للغريزة ولا يخضعان لأيّ مخطّط للمستقبل، فالنّبات إذا تجاوز الحدّ الطبيعي تنبت محلّه نباتات أخرى بعد أن تقوم بتدميره، كما أنّ الحيوانات تتآكل فيما بينها. مُماثلة أخرى يجريها بين بريطانيا والعالم، حتى إنّه يقفز من الحديث عن بريطانيا إلى الحديث عن الكوكب برمّته، وكأنّ البشر الموزعون على الأرض استغرقوها بالكامل، دون استحضار شروط كلّ البلدان من حيث المسافة وشروط الإنتاج؛ وحينما نقيم مماثلة من دون الأخذ بعين الاعتبار الفروق بين المتماثلين نكون قد فتحنا بابًا للمغالطة. ولا يخفّف من هذا العطب المماثلاتي التمييز بين الوتيرتين الحسابيّة والهندسيّة في وصف النّمو السكاني والنّمو الغذائي؛ لأنّ التمييز الأساسي يجب أن يحضر في جريان المماثلة، ومن هنا أعتبر أنّ مالتوس لم يغالط مرّة واحدة في إقامة مماثلة هجينة بين حيّز جغرافيّ ضيّق وبين الكوكب فحسب، بل غالطنا حين تجاهل الفروق في المماثلة الأولى؛ لكي يستحضر الفرق بين وتيرتين في النموّ وكأنّه ملتفت للفروق فقط في المثال الثاني، إنّه يغالطنا بلغة الرياضيات. 

تعيدنا واقعيّة مالتوس لخيبة أمل من نوع آخر، فالحروب تتراجع بسبب التحضّر – وهي حكاية أخرى حيث لم يشهد الحرب العالمية الأولى والثانية- إلاّ أنّ الحضارة قضت على ذلك الشّكل من الهمجيّة، كما يصفها مالتوس بخصوص المجتمعات البدائيّة – يقصد السكان الأميركيين الأصليين – حيث إنّ الضراوة التي نلاحظها عند هؤلاء لا يعني أنّهم يقاتلون لينتصروا ولا ليدمّروا، ولكن من خلال موت العدو يستطيع المنتصر أن يؤمّن حياته. فالإروكوا يعبّر عن الغاية من خوض الحرب بعبارة: «هيّا بنا لنأكل أولئك القوم». 

ويؤكّد مالتوس بأنّ في قلب الهمجي يقترن حبّ الحياة بحب المجتمع الذي ينتمي إليه، حيث تمثّل قبيلته الضامن الوحيد لوجوده. وهذا الشعور يلازمه حتى إنّه يستبعد أفكار الشّرف والشجاعة التي تألفها المجتمعات المتحضّرة.

لا يكفي الجوائح في تدمير زوائد الديمغرافيا وفق المنظور المالتوسي، وهو لهذا يريد تحقيق احتواء تدميريّ للديمغرافيا قائم على مخطّط منهجيّ وكجزء من برنامج طويل الأمد، وهذا ما يجعله يخفّف من أهميّة الجوائح التي كانت تضرب أوروبا مرة أو مرتين في القرن، وتذهب بربع من في البلاد أحيانًا، نظير ما حصل في بروسيا وليتوانيا سنة  1692 حتى عام 1757، ما يعني أنّ ما يحدث اليوم بفعل وباء كورونا لا يمثّل أيّ أهميّة في المنظور المالتوسي، فالأعداد مهما بدت كبيرة فهي ليست كافية لكبح الديمغرافيا.

لا يوجد أيّ نموّ حقيقيّ للثروة يستطيع تحسين مصير الفقراء، هكذا يرى مالتوس، فمهما تحسّنت الأجور فهذا لا يعني شيئًا إذا لم يواكب ذلك تطوّر في كميّة الكفاف، بل لا يشكّل في نظره سوى ارتفاع شكليّ؛ لأنّه سرعان ما سيصاحبه ارتفاع في ثمن المعيشة، ففي نهاية الأمر تظلّ وضعة الفقراء ثابتة. 

مالتوسيًّا، يجب أن لا ننزعج من الأمراض، فهي إنذار تقدّمه الطبيعة ضدّ الفقر والكسل والوساخة، مثل الطاعون الذي ضرب قسطنطينية ومدن الشرق. فالجسد البشري في نظر مالتوس لا يتحمّل درجة فائقة من الوساخة والكسل، بل هذا مخالف للسعادة والفضيلة. وحتى هنا يكون الحديث مبدئيًّا لا إشكال عليه، لكن في تطبيقه على المجموعات البشريّة فإنّ القذارة والكسل والمرض والفقر الذي يعتبره مالتوس مخالفًا للطبيعة والفضيلة، هو أنّ هذه الشرائح لم تعد تستحقّ الحياة، لكن في نهاية المطاف وجب أن تقوم الطبقة العليا بتنفيذ هذا القرار الطبيعي ضدّ الفقراء، أليس كذلك؟ تلك هي نتيجة مفارقة مالتوس. لقد ساهم الطاعون الذي ضرب لندن في سنة 1666 في نظر مالتوس في تحسين سلوك الأجداد، حيث انعكس على العمران وتشييد الطرق والسكن الواسعين والابتعاد عن مصدر العدوى؛ ذلك لأنّ مالتوس يعتبر أنّ تاريخ الأوبئة يؤكّد بأنّ معظم الضحايا يلتقون في الطبقات السفلى للشعب، والتي لا تتمتّع بتغذيةٍ جيّدةٍ وتعيش حالة الازدحام في مناطق ضيّقة ووسخة. يعود مالتوس ليتحاكم إلى الطبيعة، لكنّه في الوقت نفسه لا يقدّم حلاّ للفقراء سوى بتدمير منخولي لفائض الديمغرافيا.

قد يفهم الكثير من الباحثين وباختزال شديد أنّ مالتوس يقترح الحروب لتقويض النّمو السكّاني، هذا ليس هو لبّ المالتوسية؛ لأنّها اعتبرت الحروب لا تكفي، كما اعتبرت الأوبئة مجرّد إنذار، لكن مالتوس يراهن على مخطّط منهجيّ بعيد الأمد في صلب السياسة الاقتصادية. إنّها قضيّة تدبير سياسي، للتدمير المنهجي المستدام للديمغرافيا. وقد تجد الحروب الجرثوميّة والأساليب الإمبرياليّة في إدارة الصناعة الدوائيّة وهيمنة الحسابات التجاريّة على الأهداف الإنسانيّة وسيلة لتفكيك ما أنتجه النموّ من ارتفاع في أمل الحياة، لكن هذا النّوع من الحروب الجرثوميّة غير عمليّ؛ لأنّه يطرح إشكاليّة السيطرة. إنّه لن يوقف تدفّق الديمغرافيا، بل يستطيع إبادة الجنس البشري؛ ذلك لأنّ الفايروس لا يملك كودًا طبقيًّا للقضاء على الفقراء دون أن يصيب اليوم سائر الشرائح الاجتماعية، فلقد اتّحد مصير كلّ الفئات أمام تحدّي الوباء.

إنّ ما نسمّيه نقيضة مالتوس تؤكّد أنّ القاعدة المالتوسيّة واسعة الانتشار حول تضارب النّمو السكّاني بوتيرة هندسية والنمو الغذائي بوتيرة حسابيّة، قد تصبح حسب تحليل المحاولة الملتوسيّة إلى صيغة أخرى؛ ذلك لأنّنا إذا سلّمنا مالتوسيًّا بأنّ النّمو الغذائي يظلّ ثابتًا فإنّ المعادلة تظلّ ثابتة حتى لو اعتبرنا النّمو السكّاني يجري بوتيرةٍ حسابيّةٍ أيضًا مقارنة بثبات الإنتاج الغذائي. كما أنّ هذه النقيضة هي من شقّين: الأوّل يتعلّق بالمغالطة النظريّة التي ذكرناها سابقًا والثاني يتعلّق بالشقّ العملي، أي أنّ قرار تدبير الديمغرافيا يثير إشكاليّة قيميّة ترتبط بمفهوم العدالة، وتتناقض مع مفهوم العقد الاجتماعي، أي المالتوسيّة هنا كانقلاب على روسو، وتجعلنا أمام شكل يفوق حتى فكرة عقود الإذعان، وهو ما يجعل المالتوسيّة جزءًا من برنامج الأخلاق البراغماتيّة بأثر رجعي.

-----------------------------

[1]*ـ  مفكر وباحث في الفكر الفلسفي – المملكة المغربية.

[2] - publié par l’ Institut de Stratégie Comparée dans la revue Stratégique

 :http://www.stratisc.org/strat_055_MACKINDERP.html

[3]- ربطنا بين جائحة كورونا والنظرية المالتوسية جاء في وقت مبكّر جدّا، ولم يأت جزافا، بل إنّها اللحظة التي تعزّز فرضية لطالما تناولناها في كتبنا السابقة، وجدير بالذّكر – لمن يعود إلى المقالات الأولى التي باشرناه في هذا الصدد والمؤرّخة في مصادرها – أنّني أوّل ما لفت الإنتباه إلى هذه النظرية في سياق الجائحة بعد أن كنا نتوقّع أنّها ظلت كامنة في انتظار اللحظة التاريخية المناسبة لتحيينها كوسيلة لاحتواء التضخم الديمغرافي.

[4] - الربط بين المالتوسية الجديدة والمؤامرة مما أفضنا فيه قبل سنوات، وستجد ميلا لتعزيز فكرة المؤامرة في قراءتي على هامش مؤتمر السكان الذي انعقد بالقاهرة سنة 1994، هناك أكدت على أن «العالم الثالث عموما لا يزال يقف من الغرب موقفا تاريخيا يجعله يشك في كل نواياه ومخططاته نتيجة التدمير الاستعماري الغربي التاريخي للبلاد النامية» وانتهيت إلى توصيف مؤتمر السكان في جولته الثالثة بالقاهرة بعد جولتين له سابقة في بوخارست 1974 والأخرى بمكسيكو 1984، بالقول:« لقد كان المؤتمر الأخير وفق هذه الاعتبارات أصعب مؤتمر دولي منذ الحرب العالمية الثانية وأعقد لقاء جمع بين الأمم»، لكنني اعتبرت أنّ المالتوسية اليوم هي أكثر ملتوسية من مالتوس وذلك جوابا على  سؤال اختزال معضلة التنمية في الديمغرافية من منطلق أن الملتوسية كانت محكومة بإطار جغرافي وتاريخي و«لو أننا طرحنا الوضع الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي اليوم على مالتوس لكان رأيه مختلفا تماما».

انظر: ادريس هاني: «العرب والغرب: أية علاقة، أي رهان»، ط1، بيروت، توزيع دار الطليعة، 1998م، ص 178 -186.