العدد 33

العدد 33

فهرس المحتويات

المبتدأ

■ الأخلاق شرعة الاجتماع البشري

الشيخ حسن أحمد الهادي

الملف

■ منشأ الحقّ وأصوله الموضوعة

الشيخ محمد تقي مصباح يزدي

■ فلسفة حقوق الإنسان  في رؤية آية الله جوادي الآملي

 حميد پارسانيا

■ إمكان المعرفة الأخلاقية

محمّد علي عبد اللهي - محمّد سعيد عبد اللهي

■ الأخلاق الدينيّة والواقعيّة الأخلاقيّة

محمّد لغنهاوزن

■ ما بعد الأخلاق وما بعد الفضيلة

نورة بوحناش

■ نمط الحياة الطيّبة بين الإسلام والغرب

حسن  خليل رضا

أبحاث ودراسات

■ أزمة المركزيّة الغربيّة وتبدّد وعودها

عبد الحليم فضل الله

■ الأدوات الاقتصادية وغير الاقتصاديّة في السيطرة والإخضاع

محمد نعمة فقيه

■ هل فرضية الله مُستبعدة؟

لوغان پول غايج (Logan Paul Gage)

منتدى الاستغراب

■ صانعُ الساعات الأعمى: التطوُّر وإلغاء الله؟

أليستر ماكغراث (Alister McGrath)

■ العلمويّة الغربية

إدارة التحرير

ترجمة ملخصّات المحتوى بالإنكليزيّة

 

 

المبتدأ

الأخلاق شرعة الاجتماع البشري

أولت الشرائع السماويّة والأرضيّة الأخلاقَ والقيمَ الفرديّة والاجتماعيّة أهميّةً استثنائيّة؛ وذلك لوجود صلة مستحكمة، ورابطة متجذّرة لها بالحياة الإنسانيّة، وبالمبادىء والقواعد المنظّمة للسلوك الإنساني وحفظ المجتمعات والدول، ولهذا نجد أنّ ‌مسألة الأخلاق من القضايا التي كانت حاضرةً بقوّة في ما طرحه الفلاسفة منذ القدم،‌ وتحت عناوين مختلفة، من قبيل: أطروحة تربية الفرد، وبناء المجتمع، وحفظ كيان المجتمع والدولة. حيث كان‌ البحث‌ في‌ موضوع‌ الأخلاق‌، وكنهها، وكيفيّتها، وطريقة‌ تحقيقها وتطبيقها في‌ المجتمعات‌ البشرية‌، وفي‌ نفوس‌ الناس‌، من‌ الضروريات‌ الأساسيّة‌ للمجتمع الإنساني.

كما نستخلص‌ من‌ استقراء‌ النصوص‌ المقدّسة‌، وتاريخ‌ الأديان‌ الإلهيّة‌، أنّ‌ الانبياء والرسل(عليهم السلام) قد حملوا رسالة السماء، وعملوا على هداية البشريّة إلى عقيدة التوحيد من الناحية الإيمانيّة، وإلى التربية على الفضائل الأخلاقيّة والروحيّة والعمل بها من الناحية العمليّة.

وقد حدّد الله تعالى غايةً رئيسةً لبعثة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ) (الأنبياء: 107) أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشريّة كلّهم -والدليل عليه الجمع المحلى باللام- وذلك مقتضى عموم الرسالة.

وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدينٍ في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم وأُخراهم. وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقّة في مجتمعاتهم، مما يظهر ظهورًا بالغًا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته(صلى الله عليه وآله وسلم) وتطبيق إحدى الحياتين على الأخرى[1]. وربط أئمة أهل البيت(عليهم السلام) هذه الغاية بمكارم الأخلاق، كما ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «بُعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها»[2]. 

إنّ الأنظمة القانونيّة المنطلقة من الدِّين ترتبط بالأخلاق بأوثق رباط؛ وذلك لما للأخلاق من موقع مهمّ في منظومة القِيم الدِّينيّة. ويتأكّد هذا الارتباط عندما نلاحظ غاية الأهداف التي رسمها الإسلام للإنسان من خلال نظامه القانونيّ، والمتمثّلة في تربية الإنسان وإيصاله إلى مرحلة التكامل المعنوي والروحي، وهذا التكامل هو الهدف المنشود من الأخلاق الإسلاميَّة، وعليه لا يشاهد المراقب الدقيق لبنية النظام التشريعي الإسلاميّ أيّ لون من ألوان التعارض بين القوانين الإسلاميَّة وبين الأخلاق، وهذا امتياز للقانون الإسلاميّ يدفع المسلمين إلى امتثال أحكامه بدافع الميل والرغبة. فالعدالة مثلًا لها جنبة ارتباط بالقانون، وهي بالوقت نفسه «من أمّهات الفضائل الأخلاقيّة، بل إنّ العدالة المطلقة حاوية لجميع الفضائل الباطنيّة والظاهريّة، والروحيّة والقلبيّة، والنّفسيّة والجسميّة؛ لأنّ العدل المطلق هو الاستقامة بكلّ معانيها»[3]، و«إنّ الاعتدال الحقيقيّ لا يتيسّر إلّا للإنسان الكامل»[4]. وجاء في الأحاديث أنّ «العدل أحلى من العسل»[5]، وأنّه «من دعائم الإيمان»[6]، وأنّه «رأس الإيمان»[7]، وأنّه «ميزان الله في الأرض»[8]، وأنّه «أعمّ الأخلاق نفعًا»[9]. أمّا فيما يتعلّق بعالم الوجود، فقد ذكرت الرّوايات أنّه «بالعدل قامت السمّاوات والأرض»[10].

وهذا غيضٌ من فيض الشّواهد التي تُبيّن عظمة هذه الفضيلة وأهمّيتها. وإذا كان الجود من أشرف الفضائل، فإنّ العدل أفضل منه كما جاء في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) لمّا سُئل: «أَيّهما أَفضل: العدل، أَو الجود؟ فقال: الْعَدْلُ يَضَعُ الأمُورَ مَوَاضِعَهَا، والْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامٌّ، وَالْجُودُ عَارضٌ خَاصٌّ، فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُمَا وَأَفْضَلُهُمَا»[11].

وبناءً عليه، يتكامل البناء الأخلاقي القيمي مع البُعدين الرئيسين الآخرين في الشخصيّة، وهما: البُعد العقدي الإيماني، والبُعد الفقهي الحقوقي، وبهذا تكتمل أبعاد الشخصيّة في الرؤية الإسلاميّة الأصيلة. وإنّ البُعد الأخلاقي القيمي لا يقلّ أهميةً عن البُعدين الإيماني والحقوقي؛ وذلك باعتبار أنّ هذا البُعد يستثير في المؤمن جنبة استشعار الرقابة الإلهيَّة الدائمة، فيسعى لتهذيب نفسه، وضبط غرائزها، وتعديل مشاعرها وميولها، وتقوية إرادتها، ويعمل على حفظ كرامته، وعزّة نفسه، واكتساب الفضائل، ومن جملتها: التقوى، والعدالة، والصدق، والعفة، والحياء، والصبر، والحلم، والشجاعة، والقناعة، وحفظ النعم، وتكريم الوالدين والعلماء والمعلّمين، وخدمة الناس، وتثمين الحياة الأسريّة وحسن المعاشرة، والإحسان، والمداراة، والإيثار، والرأفة، والاحترام، والعيش الحلال، والاستقلال، والإدارة والتخطيط لأموره الشخصيّة والحياتيّة والعمليّة، والنظم والانضباط. ويعمل بجد على الوقاية من الرذائل، ومن جملتها: حب الدنيا، والظلم، والجهل، والعصبيّة المذمومة، والخمول، وإضاعة الوقت، والنفاق، والضعف، والتكبّر.

وبالمقابل عندما ننظر إلى الأخلاق والحقوق في الفكر الغربي، سنجد أنموذجًا يضجّ بالتناقضات إلى حد وصف الأخلاق أنّها أصبحت بلا أخلاق. حيث برزت جهود غربية كثيرة تهدف إلى القضاء على الأخلاق، وإخراجها من حياة الناس بمرجعيّاتها الدينيّة والاجتماعيّة، منها: كتاب «نهاية الأخلاق»، وتبنّي نظريّة «الخطأ الأخلاقي» التي ترى أنّ جميع الأحكام الأخلاقيّة خاطئة، وهذا يعني أنّ على العالم أن يتخلّى عن الأخلاق كأحد أهم العناصر في تماسك المجتمعات ومحافظتها على الفضيلة، والبديل هو في التصدّي التشريعي البشري بوضع القوانين والتشريعات التي تعتبر أكثر ضبطًا للسلوك البشري من الأخلاق. وهذا ما انعكس على المستوى النظري في كتابات طائفة من المفكّرين والباحثين الغربيين، وتجسّد على المستوى العملي بأنماط جديدة في الحياة والسلوك الفردي والأسري والاجتماعي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر المفاعيل التشريعيّة التي سادت العالم  للحركة النسويّة، ونظريّة النوع الجنساني، والميول الجنسيّة، والشذوذ...، وما حقّقته من إنجازات تشريعيّة وقانونيّة لتقنين وشرعنة حرية الانحراف الجنسي بكلّ أنواعه المعروفة أو تلك التي لم تعرف بعد. وهذا ما يكشف بوضوح عن حالة الطلاق الواضح  بين الأخلاق والميتافيزيقا التي كانت سائدة عند الفلاسفة في العصور السالفة...، وهذا ما تكشف عنه الدّراسات واستطلاعات الرأي، التي باتت تكشف بأرقام صادمة عن حالة إخراج الأخلاق من حياة الناس، وهدم الأسس التي تقوم عليها، تحت لافتات علميّة منهجيّة.

ويبدو أنّ قضيّة نهاية الأخلاق في المجتمعات قد تخطّت كونها مسألةً فكريّةً فلسفيّة، بعد أن تمّ تسريتها في المجالات كافة، بل وسُخّرت برامج الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والمؤسّسات الأكاديميّة الكبرى في العالم، لتُهيّء لها البيئة الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة بغطاء واسع من التشريعات ومنصّات الإعلام العالميّة، ذلك كلّه لتتمكّن من النجاح في عمليّة تحويل العالم، والانتقال به إلى مرحلة جديدة (اللاأخلاق) قابلة للسيطرة والتحكّم بكلّ تفاصيلها وجزئيّاتها. وكما يقول جون ستيورات ميل إنّه يجب «في كل الأحوال أن يُترك الفرد بحريّته الكاملة -الاجتماعيّة والقانونيّة- لأن يفعل ما يريد وأن يتحمّل نتائجه»[12]. هذا مع العلم أنّ مثل هذه الحرية لا يمكن أن تكون مرجعيّةً صالحةً حتى لدعاة الحريّة أنفسهم؛ لأنّها لا تتضمّن في ذاتها أيّ معيار أخلاقيّ، ولا توجد مرجعيّة بلا معيار أخلاقي. حتى مع كلّ التحسينات التي ذكروها في تعريفات الحرية المزعومة. وعندما ندقّق في المشهد الأخلاقي الغربي أكثر، نجد أنّ الغرب قد ضخّم الحرية ونقلها من قيمة إلى مرجعيّة، وهذا ما فتح الباب واسعًا لكلّ ما يمكن أن يتصوّره العقل من رغبات مجنونة تتصادم حتى مع الفطرة الإنسانية، وهكذا لن تكون الحريّة الليبراليّة سوى وسيلة لتضخيم الرغبات وهيمنتها على الإنسان، والوصول إلى السقوط والانحدار الأخلاقي المتسارع في مختلف مفاصل المجتمع الغربي؛ ولذلك تجد اليوم من يقول إنّه أنثى مع كونه رجلًا، ويطالبك بأن تقرّ له بأنّه كلب أو أيّ حيوان آخر، فلا يكفي اليوم أن تتركه حرًا في ادّعائه بأنّه كلب أو حمار، هذه مرحلة تجاوزها الإنسان الغربي، هو يريد أن ينتزع منك اعترافًا بأنّه كذلك... وهذا غاية الانحدار الإنساني فضلًا عن الأخلاقي.

ولهذا من غير المفاجىء أن يتقمّص الإنسان الغربي الفردانيّة، ويجعلها محور سلوكه وحكمه على الأشياء من حوله، والفردانيّة تعني في حدّها الأدنى تمحور الفرد حول مصالح ذاته[13]، وهي كما وصّفها كثيرون تعود في أصلها إلى الأنانيّة، أو هي «الإنكار لأيّ مبدأ أعلى من الفرديّة» على حدّ تعبير الفرنسي رينيه غينون، والذي يرى «أن الفردانية هي السبب الحاسم للانحطاط الراهن للغرب»[14]. وبسيطرة الفردانيّة على السلوك الفردي والاجتماعي، تعمّقت المشكلة الأخلاقيّة التي فتكت بكلّ شيء، فوفق المنطق الفرداني أصبح الإنسان معنيًّا بمصالحه الخاصة، دون أيّ مبالاة بالصالح العام.

والحمد لله ربّ العالمين

 

--------------------------------

[1]- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج14، ص331.

[2]- المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص405.

[3]- روح الله الموسويّ الخمينيّ، جنود العقل والجهل،  ص143.

[4]- م.ن، ص149.

[5]- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص542.

[6]- م.ن، ج2، ص50.

[7]- المحقّق النّوريّ، مستدرك الوسائل، ج11، ص319.

[8]- م.ن، ج11، ص317.

[9]- الآمدي، غرر الحكم، ص376.

[10]- الأحسائي، عوالي اللآلي، ج4، ص102.

[11]-  نهج البلاغة، الحكمة 437.

[12]-  ستيورات ميل، أسس الحرية الليبرالية، ص208.

[13]-  يراجع: كاترين أودار، «ما الليبرالية»، ص 44 وما بعد.

[14]- غينون، رينيه، أزمة العلم الحديث، ترجمة: عدنان نجيب الدين {النجف، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ط1، 2016) ص77.