البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

علم فلسفة الأخلاق، دراسة نقدية مقارنة بين فهم الغرب والواقعية الإسلامية

الباحث :  فادي ناصر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  20
السنة :  السنة الخامسة - صيف 2020م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 5 / 2020
عدد زيارات البحث :  2098
تحميل  ( 432.882 KB )
يعالج هذا البحث علم فلسفة الأخلاق كواحدٍ من أكثر المفاهيم مدعاة للجدال والمساجلة في الحضارات الإنسانية المختلفة.

ولأجل هذه الغاية يدخل الباحث في الفكر الإسلامي الشيخ الدكتور فادي ناصر إلى هذا الميدان بمنهج تأصيلي للمفهوم في سياق دراسة نقدية مقارنة لعلم فلسفة الأخلاق بين فهم الفلسفة الغربية الحديثة والفهم الإسلامي الواقعي.

المحرر

--------------------------

الدخول إلى علم فلسفة الأخلاق يحتاج في البداية إلى تفكيك مصطلحين أساسيين، ثمّ إعادة تركيبهما في وحدة اندماجيّة ترسم من خلالها صورة العلم ورسمه، كمقدّمة أساسيّة وضروريّة؛ من أجل فهم أهدافه وأهمّيته ومنشأه وآثاره الفردية والاجتماعية وغيرها من الأمور المتعلّقة بأبحاث فلسفة العلم، وهما مصطلح «الفلسفة»، ومصطلح «الأخلاق». فمصطلح «الفلسفة» لوحده يشير إلى بيان العلوم النظريّة الّتي تبيّن الخصائص الكليّة لوجود ما أو لعلم من العلوم بالأسلوب العقلي والاستدلال البرهاني. ويعرفه أرسطو بأنّه دراسة المبادئ الأولى، وتفسير المعرفة عقليًّا. وهي تشمل عنده الفلسفة النظرية والعملية. أمّا ابن سينا فيرى في كتابه «منطق الشفاء» أنّ الفلسفة هي الوقوف على حقائق الأشياء كلّها، سواء كان وجودها باختيارنا أو خارج عن إرادتنا واختيارنا. ويعتبره علمًا نظريًّا وعمليًّا في الوقت نفسه، حيث تندرج تحت القسم النظري منه علوم الطبيعيات والرياضيات والإلهيات. وتحت القسم العملي تدبير المدن والمنزل والأخلاق[2].

وأمّا مصطلح «الأخلاق» فإنّه يحكي عن الصفات الفاضلة والمذمومة في الإنسان التي يمكن أن يكتسبها عن طريق الأفعال الإرادية والاختيارية. والعلم الّذي يتكلّم عن هذه الصفات والسلوكيات القبيحة والحسنة يسمّى بـ«علم الأخلاق». وهناك من يعتبر أنّ الأخلاق ليس مقتصرًا على الصفات النفسيّة بشقّيها السلبي والإيجابي، بل يعتبر أنّ علم الأخلاق هو علم السلوك أيضًا، أي الأفعال، وبالتالي فهو يعتقد أنَّ علم الأخلاق مرتبطٌ بالسلوك الإنساني لا بالصفات والطبائع الباطنية. والأخلاق عنده عبارة عن قوانين السلوك الإنساني التي تُوصِل الإنسان إلى هدفه فيما لو عمل بها. لذلك نلاحظ أنّ البعض عندما أراد أن يُعرّف علم الأخلاق عرّفه بشقّه العملي السلوكي، فقال إنّ «علم الأخلاق هو علم السلوك وهو من أقسام الحكمة العمليّة، ويُسمّى أيضًا بتهذيب الأخلاق والحكمة الخُلقيّة»[3]، وهذا في الحقيقة خلط بين المبدأ والأثر، وبين الأصل والفرع، وبين الهدف والوسيلة؛ لأنّ السلوكيات هي نتائج المبادئ، التي هي الصفات الراسخة والمنطبعة في النفس، والتي منها تتولّد الأفعال بشكلٍ تلقائيٍّ ومن دون أيّ تفكير أو تحليل حتى. لذلك تجد أنّ التعريف الذي يُقدّمه صاحب كتاب جامع السعادات حول الأخلاق من أكثر التعاريف دقّة في هذا المجال؛ حيث يعرّف الأخلاق بأنّها: «ملكة للنفس مقتضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر ورويّة. والملكة كيفيّة نفسانيّة بطيئة الزوال»[4].

ما هو علم الأخلاق؟

بعد بيان مصطلحي الفلسفة والأخلاق، وقبل الحديث عن علم فلسفة الأخلاق، يبقى مقدمة منهجيّة هامّة تتعلّق بمعرفة المقصود من علم الأخلاق.

بناءً على ما تمّ تأسيسه يصبح علم الأخلاق هو علم الصِّفات الفاضلة والرذيلة التي يمكن أن يكتسبها الإنسان، عن طريق الأفعال الاختياريَّة والإراديَّة، وهذه الصفات هي موضوع علم الأخلاق. والهدف من علم الأخلاق هو تحلية النّفس الإنسانيَّة بالصفات الفاضلة، وتخليتها من الصفات القبيحة. وهذه الرؤية للأخلاق تنسجم مع رؤية خاصّة للإنسان حيث ترى جوهر الوجود الإنسانيِّ يتلخَّص في نفسه وروحه، وكمالاته الروحيَّة لا في جسده. من هنا نضع إصبعنا على جرح الاختلاف المفتوح منذ القدم حول النظريات الأخلاقية التي ترجع في حقيقة الأمر إلى كيفيّة النّظر إلى الإنسان. من هنا نقول بشكل صريح وواضح إنّ نقطة البدء في معالجة هذه الأطروحة المعقّدة والتي لم تجد حلّا منطقيًّا، ولا اّتفاقًا جامعًا حولها؛ هو بالرجوع إلى علم معرفة الإنسان، وإلى ضرورة تفعيل هذا العلم وإعطائه حقّه ومكانته في الأبحاث الفكرية والإنسانية. فمن دون حسم النّقاش حول هويّة هذا الإنسان وحقيقته، ومن دون اكتشاف أبعاده وقواه، ومن دون بذل الجهود الحقيقية لناحية الأبحاث والنظريات والدراسات الفكرية والعلمية والمعمّقة حول الإنسان. فإنّ الدراسات الأخلاقيّة ستكون ناقصة وغير مكتملة. وهذا النّوع من الدراسات الإنسانيّة سوف تترك آثارًا عظيمة وهائلة على حقول المعرفة الإنسانية والطبيعيّة معًا؛ لأنّ الجوهر والأصل في المعادلة يبقى الإنسان لكونه هو المتحكم بالطبيعة.

 فكما أنّ الدّراسات المعمّقة حول الطبيعيّة؛ بهدف اكتشاف قوانينها من خلال التجارب المتتالية قد أحدثت ثورة على مستوى التطوّر التقني والتكنولوجي، الذي انعكس على المجتمعيات الإنسانية بشكل واضح. فإنّ الدراسات المعمّقة؛ بهدف اكتشاف الإنسان وحسم النقاش حول حقيقته وأبعاده وقواه وكيفية تفعيلها على نحو صحيح، سيشكّل الثورة العلمية الثانية التي تحتاجها البشرية اليوم، والتي ستبقى تتخبّط في التيه والضياع ما لم يحسم هذا الجدل المعرفي التاريخي، وتوضع نقاط حقيقة الإنسانيّة على حروف الواقع الإيجابي لا السلبي.

وبالعود إلى مسألة الاختيار، فمن المقطوع به أنّ هناك العديد من العوامل تؤثّر في اختيار الإنسان، ويمكن أن نختصرها بعاملين أساسيين: الأوّل هي العوامل الخارجيّة كالثقافة والتقاليد الاجتماعية والبيئة الاجتماعية. والثاني عوامل داخليّة أهمّها وأبرزها الصفات النفسية التي يتحلّى بها الإنسان كالشجاعة والعفّة والتكبّر والحسد وغيرها من الصفات...

 ويشترك كلا العاملين في أنّهما سببٌ مباشرٌ لقيام الإنسان بأفعال وسلوكيات خاصّة بها أو تتناسب معها. فكما أنّ معاشرة الصالحين ستحفّز الفرد على القيام بالأعمال الصالحة، كذلك من كان فيه صفة الكرم فإنّ هذه الصفة ستحرّكه للجود على الآخرين والإحسان إليهم. من هنا ولأجل ضمان جودة الأعمال وصحّتها كان لا بدّ من العمل على تربية هذه النفس بهدف صقلها بالصفات الإيجابية من أجل الاطمئنان إلى صوابية ذهاب الأعمال في الاتّجاهات الصحيحة. فامتلاك الصفات النفسانية الفاضلة والحسنة عاملٌ محرّك للقيام بالأعمال الحسنة التي تجلب بطبيعة الحال الراحة والسكون والسعادة للإنسان. من هنا مسّت الحاجة إلى علم يدرس هذه الصفات وتأثيرها على السلوكيات، بهدف تصحيحها والعلم المتكفل بهذه المهمة هو «علم الأخلاق».

علم فلسفة الأخلاق

العلم الّذي يبحث عن مبادى‏ء النظريّة والعقليّة لعلم آخر يُسمّى «فلسفة» ذلك العلم. من هنا يسمّى العلم الّذي يبحث عن هذه المبادئ في علم الأخلاق بـ«فلسفة الأخلاق»، والمنهج المتّبع في تحقيق هذا العلم هو المنهج العقلي المبني على الاستدلال والبرهان. ففلسفة الأخلاق تحقيق فلسفيّ (عقليّ) حول المبادى‏ء التصوريّة والتصديقيّة لعلم الأخلاق. بمعنى آخر؛ «الأخلاق الفلسفية هي: الاعتماد على التحليلات العقلية والفلسفية وعلى البراهين المنطقية لإثبات حسن الفضائل وقبح الرذائل وإثبات لوازمها وتوابعها»[5].

فلسفة الأخلاق هي علم يبحث عن المبادئ التصوريّة والتصديقيَّة لعلم الأخلاق؛ أي عن المفاهيم والتصورات المستعملة في علم الأخلاق، وكذلك عن المبادئ التصديقيَّة التي تتوقَّف القضايا الأخلاقيَّة على حلّها. من هذه القضايا مثلا التي يتوقّف عليها علم الأخلاق: هل تحكي القضايا الأخلاقيَّة عن أمور واقعيَّة، أم إنَّها تابعة للاعتبار والتوافق؟ وما هو المعيار الأصلي للقيـم الخلقيَّة؟ وكيف يمكن تقييم الأفعال الأخلاقيَّة؟ وهل الأخلاق مطلقة أم نسبيّة؟ وغيرها من الأسئلة التي تشكّل القاعدة والركيزة الأساسية التي يبتني عليها علم الأخلاق. ويبقى السؤال قائمًا حول أسلوب التحقيق في فلسفة الأخلاق، بمعنى هل إنّه يجب علينا أنْ نجيب عن الأسئلة المذكورة بالأسلوب العقلي فقط كما فعل أكثر فلاسفة الغرب، أو من خلال الدين فقط كما يقول البعض، أو إنّه يُمكننا صوغ منهج جمعي ندمج من خلاله الدين والعقل معًا وهو منهج الرؤية الإسلامية الأصيلة، أو ما يعرف بالمقاربة الإسلامية لفلسفية علم الأخلاق.

وهناك ضرورة للتماهي بين البعد العقلي والديني في معالجة القضايا الإنسانية عمومًا والأخلاقية خصوصًا؛ لأنّ التحقيق العقلي حول هذه الأسئلة الأخلاقية الملحّة يعطينا فرصة للدفاع العقلاني عن الرؤية الدينية للطرح الأخلاقي، وإثبات حقّانيتها. ومن الطبيعي أن يكون هذا المنطق العقلاني والمنهج الاستدلالي في مقاربة مسألة فلسفة الأخلاق، أمرًا مطلوبًا وضروريًّا، بل ويمكن اعتباره مكمّلاً لإثبات حقانيّة الإسلام، وعاملاً مهمًّا في استقطاب الباحثين من أجل التعرّف إلى رؤى آخر غير تلك التي اعتادوا عليها في دراساتهم وأبحاثهم الأكاديميّة. بل ربّما يمكن القول إنّ هذا الطريق هو من أفضل الطرق وأقصرها لإثبات حقانيّة المذهب الأخلاقيّ الإسلامي في مقابل بقيّة المذاهب الأخرى. فحاجة البشر إلى الدين في مجال الأخلاق يرجع في الواقع إلى عدم قدرة العقل الإنساني لوحده على تشخيص مبادئ الأخلاق الإنسانية الصحيحة، وتحديد آثارها وانعكاساتها على نحو دقيق على الفرد والمجتمع بما يخدم الأهداف والتطلّعات الإنسانية الواقعيّة والحقيقيّة. وما هذا التخبّط والانتشار العشوائي للنظريات الأخلاقية – الذي بدأ من أفكار الشرق القديم مرورًا بالنظريات اليونانية وصولًا إلى الآراء الفلسفية الغربية في العصر الوسيط وما بعده- والنظريات الإسلامية النابعة من مدارسه المختلفة، إلّا مؤشّرًا يكشف لنا عن الضرورة الفائقة والأهميّة الاستثنائية لهذا العلم، وعن عجز الإنسان لوحده عن الوصول إلى النظرية الكاملة المنسجمة مع بناء الإنسان التكويني. وهذا ما يتكفّل به المنهج الوحياني الأصيل بحسب الرؤية الإسلامية المرتكزة على القواعد والأسس الإلهيّة الصحيحة. فالعقل في النظريّة الوحيانيّة للمعرفة هو مصدر من مصادر معرفة الأحكام الإلهية، وكذلك هو مصدر من مصادر معرفة الأخلاق أيضًا، وبالتالي لا يوجد تعارض بين العقل وبين النّقل، ولا يوجد تعارض بين العقل وبين اكتشاف الأصول والقواعد الأخلاقية الدينية، بل العقل سيكون مُعينًا على الفهم الدقيق للقيم الأخلاقية. ومن مجمل ما ذكرناه نستطيع أن نستنتج أنّ تحقيق المسائل المذكورة في علم الأخلاق، يحتاج دائمًا إلى أسلوب برهاني عقلي، هو بمثابة المقدّمة لهذا العلم، ويُسمّى هذا العلم بـ «فلسفة الأخلاق».

تاريخ فلسفة الأخلاق 

العلوم لا يمكن أن تنشأ من خارج سياقها التاريخي والطبيعي، كما أنّها لا يمكن أن تتولّد فجأة وعلى سبيل الصدفة، بل هي مسار تاريخيّ متصاعد ومتكامل، يمرّ بمنعطفات ومزالق، يرتفع حينًا وينخفض أخرى؛ حتّى يصل إلى أوج اكتماله على مستوى البيان والمضمون. الأمر بعينه ينطبق على علم الأخلاق الذي تمتدّ دراسته إلى بدايات تاريخ الفكر الفلسفي الإنساني، وإن كان البعض يصرّ على تحديد نقطة انطلاق التفكير الفلسفي الأخلاقي بالحضارة اليونانية؛ بسبب الطابع النظري الذي اتّسمت به تلك الحضارة. ولكن عند التأمّل في الحضارات السابقة على الحضارة اليونانية من جهة، واعتقادنا أنّ العلوم لا تبدأ بطفرة أو بصدمة معرفيّة، نلاحظ أنّ الفكر الأخلاقي الفلسفي كان حاضرًا بقوّة خصوصًا في الحضارات الشرقيّة القديمة، المتأثّرة بشكلٍ قويّ، بل والمبتنية على الفكر الديني على اختلاف مبادئه وأصوله وتعاليمه.

فإذا نظرنا إلى الحضارة المصرية القديمة وجدنا أنّ الطابع الذي ظهر في هذه الحضارة وعكس نظرتها الأخلاقية البارزة هو سيطرة الوازع الديني، فلم يكن هناك تباين بين الأخلاق والإيمان الديني عند المصريين القدماء، وإن لم تكن لديهم منظومة أخلاقية كاملة، بل مجرّد سلوكيات؛ من أجل تسيير أمور حياتهم اليوميّة، وخصوصًا الأسريّة[6].

وإذا انتقلنا إلى الحضارة الفارسية القديمة، نلاحظ أيضًا أنّ الأخلاق فيها لا تنفصل عن الفلسفة والدين، حيث كانت الزردتشية تدعو إلى نظريّة الخير العام الذي هو أصل عالم الوجود، وكانت على ارتباط عميق بالتعاليم الدينية وقواعده. والعدالة عند زرادشت تكمن في «التخلّص من الخطأ عن طريق المعرفة الحقّة لكلّ ما هو صائب والنور الذي يكشف عن هذه المعرفة إن هو إلا التناسق الأبدي الإلهي. فإنْ تعرِف الحقّ تعرِف الله، وما العالم أجمع إلا نسيج حتى ينسج طريقه متّجهًا إلى إله الحق»[7].

 والأمر بعينه ينطبق أيضًا على الأخلاق في الحضارة الهنديّة القديمة، حيث الديانة البراهميّة التي أولت اهتمامًا خاصًّا بالأخلاق في معرض ردّها ومحاربتها للتعسّف الطبقي السائد والدعوة إلى المساواة، كما هو الحال أيضًا في البوذية. وإن كان السائد على تلك الرؤى الأخلاقية هو النزعة السلبيّة تجاه الدنيا، والرغبة في الزهد[8]، بعكس الأخلاق في الحضارة الصينية القديمة التي تتميّز عن غيرها من الحضارات الشرقية، حيث ابتعدت في أخلاق كونفيوشيوس عن سيطرة الفكر الديني، واقتربت أكثر من نظرية الواجب؛ لتكون هي أساس السلوك الأخلاقي، والقيم السامية. فالأخلاق في الفلسفة الكونفيوشيوسية هي الهدف والمطلب الأساس، والواجب هو مصدر هذه الأخلاق، وهو عبارة عن الخضوع لصوت الباطن الذي ينبع من أعماق وجود الإنسان، والمسمّى عندهم بالضمير الخلقي. وبالتالي الأخلاق عندهم مستمدّة من قوّة داخلية تلزم الإنسان بالعمل وفق سننه التكوينية، وهذا الالتزام بالواجب هو على مستويين: الأول التزام نحو المجتمع ممثّلا بالإسرة، وآخر التزام نحو الذات الإنسانية، بحيث لا ترى المجتمع بعيدًا عنها، بل تفنى هذه النّفس في المجتمع من خلال الأعمال النافعة والبنّاءة[9].

وهنا يُمكننا أن نلاحظ بشكلٍ واضحٍ أنّ فكرة الواجب الأخلاقي قد طرحت قبل مئات السنين من طرح إيمانويل كانط لها وجون جاك روسو، الذين اعتقدا بفكرة الواجب الأخلاقي ولكن كلّ من حيثيّة مختلفة عن الآخر. وهذا تأكيد على أنّ النظريات الأخلاقية لا تنشأ صدفة ومن دون مقدماتها التاريخية. فمعظم الدراسات الفلسفية الغربية وخصوصًا الأخلاقية منها، وإن كان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضارة اليونانية التي تشكل ركيزتها الأساسية، إلا أنّه في الحقيقة ممتنّة إلى إسهامات الحضارات الشرقية القديمة التي كانت بمثابة البذرة التي نبتت وتفرّعت منها المسارات الفكرية على اختلاف مشاربها. وهذا ما أكّده هيغل بنفسه عندما قال إنّه: «في آسيا استرق ضوء الرّوح ومن ثم بدأ التاريخ الكلي»[10]. كما يؤكّد أيضًا ول ديوارنت في كتابه الشهير قصّة الحضارة على هذه الفكرة بقوله إنّ الفكر والفلسفة والأخلاق لم يكن مهدها يونانيًا بل «إنّه بدأ بآسيا، ليس لأنّ آسيا كانت مسرحًا لأقدم مدينة معروفة وحسب، ولكن لأنّ تلك المدنيات كوّنت البطانة وأساسات للحضارة اليونانية والرومانية التي ظنّ خطأً السير هنري مين أنّها المصدر الوحيد الذي استقى منه العصر الحديث. وسوف يُدهشنا كم مخترعًا من ضروريات حياتنا وكم من نظامنا الإقتصادي والسياسي وكم مما لدينا من علوم وآداب ومن فلسفة ودين يرتد إلى مصر والشرق»[11]. ويذهب جورج جيمس صاحب كتاب «التراث المسروق» أبعد من ذلك، ليتحدّث بشكل صريح وواضح عن سرقةٍ ممنهجةٍ وبشكلٍ علنيٍّ للفكر والمعرفة، معتبرًا أنّ الفلسفة اليونانية ما هي إلا فلسفة مصريّة مسروقة، ويستدلّ على نظريّته بأدلّة وشواهد من المفيد الاطّلاع عليها[12]. والسبب في هذا الظلم الذي لحق لناحية الاعتراف بهذا التعاضد التاريخي المعرفي على مستوى العلوم، هو قلّة الوثائق التي وصلتنا عن الحضارات الشرقية القديمة من جهة، وتألّق الحضارة اليونانيّة على مستوى التدوين والبحث من جهة ثانية، ونشوء المدارس والكليات المختلفة التي انتشرت في ذلك العصر، ما أعطى استنتاجًا غير منطقي جعل يؤرّخ أنّ التفكير الفلسفي بدأ مع الحضارة اليونانية، وأنّ إليها يرجع أصل كلّ تنظير أخلاقي. وهذا بحاجة إلى إعادة نظر وتدقيق وتمحيص أكثر من تاريخانية المعرفة الإنسانية على مستوى الأصول والمنطلقات والأسس.

نعم علينا أن نفرّق بين مصطلح الفلسفة وبين علم الفلسفة كعلم يُحرّك العقل؛ ليقوم بتحليل الواقع بهدف الوصول إلى معرفة حقيقة ما أو تفسير ظاهرة ما. فمصطلح الفلسفة لا شك أنّه جاء من اليونانيين، أمّا المعنى والمضمون الذي يبحث فيه هذا المصطلح فنجد أنّه ليس من ابتكارات اليونانيين، بل هناك ما يوازيه في الأمم الأخرى. وقد أدرك بعض الفلاسفة هذه المسألة في وقت مبكر، حيث أوضح الفارابي المتوفّى سنة 329ه أنّ علم الفلسفة كان حاضرًا في القدم عند الكلدانيين وهم أهل العراق، ثم صار إلى أهل مصر، ثم انتقل إلى اليونانيين. كما يتحدّث ابن سينا عن منطق المشرقيين، وعن الحكمة المشرقية في كتابه «منطق المشرقيين»، ويتأسّف لضياع تفاصيل هذه الحكمة وعدم وصولها إلينا على نحو مكتمل. كما يُؤكّد أيضًا شيخ الإشراق السهروردي على تأثير حكمة المشرقيين في الفلسفة اليوناية طبقًا لما حكاه صدر المتألهين الشيرازي عنه[13].

وعليه يمكن أن نقول بكلّ ثقة إنّ تاريخ التفكير الفلسفي، خصوصًا الأخلاقي منه، لم يكن يوناني المنشأ، ولا يمكن أن نحدّده بزمان ومكان محدّدين، ولا أن نحصره بعرق ما أو جنس خاص، إنّما هو حاجة كلّ الشعوب البشرية، لكون التفكير الفلسفي منسجم مع تكوين الإنسان العاقل والمفكّر من ناحية، وميله الباطني لاكتشاف المجهول ومعرفة الواقع المحيط به من ناحية ثانية، وحاجته على مستوى الاجتماعي على قواعد علميّة تنظّم له حياته الجماعية وقدرته على التواصل مع الآخرين من أجل تأمين احتياجاته المختلفة من ناحية ثالثة. وعليه فإنّ «التاريخ الصحيح للوعي الفلسفي يبدأ مع ظهور الكائن البشري العاقل على الأرض؛ لأنّ هذا الكائن منذ تجربته الأولى في الحياة واستثماره الطبيعة ما انفكّ يثير السؤال تلو السؤال عن مبدئه ومصيره وحيقيته وحقيقة العالم المحيط به»[14]، ومن هذه الحقائق التي شغلت الفكر الإنساني على مرّ العصور هي الأخلاق لارتباطها والوثيق والمباشر بسلوك الإنسان، وانعكاساته الواضحة على السلام الاجتماعي والعام، والإنساني الفردي الخاص. إذا لا سلام اجتماعي ولا فردي من دون الأخلاق. وهذا الأمر يدركه أي إنسان بالبداهة والوجدان ولا يحتاج إلى كثير تأمّل وبرهان. وقد أدركه المفكّرون الواعوون المهتمون بصلاح البشريّة ومنفعتها، ومن أبرز أولئك المفكرين الأنبياء والرسل على مرّ التاريخ الإنساني.

 وما يدعو للعجب أن يتغافل الفكر البشري عن دور هؤلاء الأعاظم وما قدموه من فوائد جمة للإنسانية. ولو أنّنا نظرنا إليهم كمفكرين فقط لا كأنبياء كما نظرنا إلى بقيّة المفكرين اليونانيين والغربيين لإنصفناهم، وأنصفنا ما أتوا به ولو على مستوى الاحتمال -كما نفعل مع غيرهم من أصحاب الرأي والفكر- وما تحمّلوه من مصاعب في هذا الطريق الوعر؛ لكي يقدّموا يد العون إلى هذه البشريّة التائهة. ولو كنّا أهل إنصاف وموضوعيّة في العلم والبحث عن الحقيقة لكان الأجدر بنا أن ندرس هذه الظاهرة التي اسمها «الدين» وما تفرّع عنها من مسائل أساسيّة كالنبوّة والقضايا المتعلّقة بفلسفة التشريع، والرؤية الكونية الوجودية. إنّ العلم الأجدر بالدراسة والتفكير والبحث والتنقيب اليوم هي علوم الأديان وما يتفرع عنها، لا العلوم الطبيعية، لكون الدين ظاهرة اجتماعية واقعية، لا نقاش في وجودها، بل وتواترها يعتبر من البديهيات، والعقل يحكم باستحالة الاتّفاق على هذا التواتر التاريخي النابع من حاجة الإنسان الواقعية، وإن حاول البعض لأسباب واهية وغير علميّة ولا منطقيّة أن يضرب هذه الظاهرة متذرّعًا بأدلّة أقلّ ما يقال فيها إنّها فرضيات وليست يقينيات. ولكن بما أنّ منطق الأقوى هو الذي يسود عندما تضيع المعايير المنطقية السليمة للترشيد والفكر الإنساني، فإنّه من الطبيعي أن تتحوّل هذه الفرضيات التي يطرحها البعض إلى يقينيات؛ بهدف إسقاط أيّ فرضيّة أخرى مقابلة ولو كانت متسلّحة بالتواتر التاريخي والاجتماعي والإنساني كما هو الحال بالنسبة إلى ظاهرة الأنبياء والرسل على مرّ التاريخ الإنساني، والتي هي بلا شكّ أقوى حضورًا على مستوى اليقين العقلي من الفرضيات الأخرى المناقضة، التي يطرحها أصحاب الفكر اللا أدري أو اللا ديني. واليقين يقوى ويشتدّ عندما نعاين التعاليم والقوانين التي جاء بها الأنبياء من أجل بناء الإنسان، والمجتمع وخصوصًا في الجوانب الأخلاقية منها.

فما من نبيّ من الأنبياء إلّا وكانت أطروحته الأخلاقيّة هي على رأس أولويّاته؛ لكونها أمرًا وجدانيًّا يدركه الإنسان بالبداهة، ويطلبه حثيثًا من أجل الوصول إلى الراحة. ونحن لو نظرنا نظرة إنصاف وعدل إلى تاريخ الوجود البشري في هذا العالم، وآمنّا بأنّ الإنسان الأوّل كان نبيًّا، فمن الطبيعي إذًا أن يكون أوّل من طرح الرؤية الأخلاقية الإنسانية هم الأنبياء والرسل، خصوصًا وأنّهم عايشوا حضارات مختلفة، ومن الطبيعي أن يسري تأثيرهم على هذه الحضارات. ولكن لسبب ما نجهله حتى الآن، وهو أشبه بالسنّة المتعاقبة، كان الأنبياء دائمًا يُبلّغون رسالات السماء ثم يغادرون ليأتي من يقتنص من هذه التعاليم ما يرغب منه، وما يرى فيه مصلحته، فيؤسّس على أنقاض هذه التعاليم التي غالبًا ما كان ينقلب عليها أهل زمانها، مدارس فكريّة تأخذ ضغثا من هنا وضغثا من هناك من تشريعات السماء، وتقوم بمزجها؛ لتصبح هذه الرؤى والنظريات المسروقة هي الأصل وتُنسى تعاليم الأنبياء الدينية.

ويمكن أن نستخلص من خلال قراءتنا للتاريخ البشري وما جرى فيه من أمور واقعيّة أنه تاريخٌ دينيٌّ بامتياز، وهذه الحقيقة ثابتة لا نقاش فيها، بل النقاش في تلك الإشكالات التي طُرحت لتضع أسفينا ملتويًا في حائط المسيرة البشرية المفعمة في كلّ عصر ومصر بدعوة نبي من الأنبياء، مع ما حملوه من قوانين وتعاليم لصالح البشرية جمعاء. فلماذا نقبل قانونًا وضعيًّا اتّفق عليه البشر للصالح العام، ولا نقبل قانونًا نبويًّا جاء للغرض نفسه؟! وبالعود إلى موضوعنا «فما لا شك فيه أنّ الأبحاث الأخلاقية، ولدت مع أوّل قدم وضعها الإنسان على الأرض؛ لأنّ النّبي آدم لمُ يعلّم أبناءه الأخلاق فقط، بل إنّ الباري تعالى، عندما خلقه وأسكنه الجنّة، أفهمه المسائل الأخلاقيّة والأوامر والنّواهي، في دائرة السّلوك الأخلاقي مع الآخرين. وآتخذ سائر الأنبياء طريق تهذيب النّفوس والأخلاق، والتي تكمن فيها سعادة الإنسان، حتى وصل الأمر إلى السيّد المسيح، حيث كان القسم الأعظم من تعاليمه، هو أبحاثٌ أخلاقيّةٌ، فَنَعَته حواريّوه وأصحابه بالمعلِّم الأكبر للأخلاق. ولكن أعظم مُعلِّمي الأخلاق، هو: رسول الله»[15].

 فالدين شئنا أم أبينا حقيقة إنسانيّة واقعيّة لا يمكن تجاوزها والحكم عليها بأحكام غير موضوعيّة، لما لهذه الظاهرة الاجتماعيّة من حضور وتأثير كبير على الفرد والمجتمع. فالدين «مؤسّسة اجتماعيّة لا تستغني عنها أيّة جمعيّة بشريّة مهما كانت بدائيّة. وفكرة الدين مندمجة بالإنسان منذ أوّل نشأته، وقد دلّ التنقيب على أنّ البشريّة حتى في أدوار ما قبل التاريخ كانت متأثّرة بفكرة الدين... وليس بين المؤسّسات الاجتماعية مؤسّسة تضاهي سلطان الدين في سيطرته على الأفراد وزجرهم وكبح جماح غرائزهم سواء أكان الفرد بدائيًّا أم متمدّنًا»[16].

أسس بناء رؤية فلسفية أخلاقية صحيحة ومنطلقاتها

إنّ أهميّة الأخلاق ليس بالأمر الخافي على أحد من الفلاسفة والمفكّرين؛ لأنّ الإصلاح الإنساني الفردي والاجتماعي وحلّ مشاكل البشريّة، وإنقاذها من الظّلم والفساد متوقّف على بناء منظومةٍ أخلاقيّةٍ، وقواعد سلوكيّة أصيلة ويقينيّة وغير قابلة للشكّ أو التزلزل. وما المجازر وحروب الإنسانية المتعاقبة منذ إنسان ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا إلا شاهد على ضرورة تأسيس قواعد هذا العلم، ودعوة النّاس إلى الالتزام بمبادئ الأخلاق الإنسانيّة، لكونها السبيل الوحيد لضمان ديمومة المجتمعات، وسعادة وراحة أفرادها.

في الرؤية الإسلاميّة جعلت التربية الأخلاقية هدفًا أساسيًّا لبعثة الأنبياء، وخصوصًا نبيّ الإٍسلام محمد؛  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ  ﭤ  ﭥ     ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ  ﭫ  ﭬ  ﭭ         ﭮ   ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ‏[17]. وفي الحديث المشهور المروي عن النبي محمد  أنّه قال: «إنّما بعثت بمكارم الأخلاق»[18]. وعن الإمام الصادق أيضًا أنّه قال في روايةٍ رُويت عنه يُبيّن فيها بشكلٍ صريحٍ وواضحٍ أنّ الله تعالى كرّم أنبياءه بالأخلاق فمن أحبّ أن ينال هذه المكرمة عليه أن يتخلّق بأخلاقهم: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّ رُسُلَهُ بِمَكَارِمِ‏ الْأَخْلَاقِ‏؛ فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ ذلِكَ مِنْ خَيْرٍ؛ وَإِنْ لَا تَكُنْ فِيكُمْ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ، وَارْغَبُوا إلَيْهِ فِيها"[19]. فهذه النصوص وغيرها تشير بشكلٍ واضحٍ إلى مركزيّة التعاليم الأخلاقية في المنظومة الدينية الإسلامية، ومحوريّتها في البناء الحضاري، ودورها الفعّال في تحقيق أهداف الدعوة الإٍسلامية. وليست هذه المقالة بوارد الاستدلال أو الاستشهاد على محوريّة الأخلاق في تعاليم رسالة الإسلام الخالدة؛ لأنّه خارج أهدافنا، ولأنّه سيطول الكلام ويطول عنده الغوص في كنوز ما أتى به هذا الدين العظيم من تعاليم أخلاقية رفيعة، وقوانين سلوكية سامية...

فالبعض من غير المطّلعين على دور الأخلاق ومنزلتها في تعاليم الدين، يظنّ خطأ «أنّ المسائل الأخلاقيّة تمثّل أمرًا خاصًّا في حدود الحياة الشّخصية للإنسان، أو أنّها مسائل مقدّسة معنويّة، لا تفيد إلاّ في الحياة الاُخرويّة، وهو اشتباه محض؛ لأنّ أكثر المسائل الأخلاقيّة لها أثرها في واقع الحياة الاجتماعيّة للإنسان، سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، فالمجتمع البشري بلا أخلاق سينقلب إلى حديقةِ حيوانات لا يُجدي معها إلاّ الأقفاص؛ لِردع أفعال الحيوانات البشريّة عن أفعالها الضّارة، وستُهدر فيها الطّاقات، وتحطّم فيها الاستعدادات، وسيكون الأمان والحريّة لعبة بيد ذوي الأهواء، وستفقد الحياة الإنسانية مفهومها الواقعي. وعندما نتحرّى التأريخ، نرى أنّ كثيرًا من الأقوام البشريّة قد حَلّ بهم البوار، وتمزّقوا شرّ مُمَزّق نتيجةً لانحرافاتهم الأخلاقيّة. وكم رأينا في التأريخ حُكّامًا، عرّضوا شعوبهم لمصائب أليمة وويلات، نتيجةً لضعفهم الأخلاقي!!. وكم يوجد من اُمراء فاسدين وقيادات عسكريّة متعنّتة، عرّضوا حياة جنودهم للخطر الفادح، بسبب استبدادهم بالرّأي وعدم المشورة. والحقيقة أنّ الحياة الفرديّة للإنسان، لا لَطافةَ ولا شفافيّة لها بدون الأخلاق. ولن تصل العوائل إلى برِّ الأمان من دونها، ولكنّ الأهمَّ من ذلك هو الحياة الاجتماعيّة للبشر، فما لم يتمسّك أفراد المجتمع بالأخلاق، فستكون نهاية المجتمع أليمة وموحشة جدًّا»[20].

نعود إلى أصل هذه الدراسة، لنقول إنّه يوجد في علم الأخلاق مذاهبٌ كثيرةٌ ومتنوّعة يمكن أن نقسّمها إلى قسمين، رؤى أخلاقية ترتكز على أسس دينيّة، وأخرى لا تعتمد على الدين في مقاربتها للموضوعات الأخلاقية، بل تبني رؤيتها على معايير وأسس مختلفة سوف نشير إلى بعضها. ولكن ما يجمع جميع هذه المذاهب الأخلاقية أنّها تستمدّ أصولها النظريّة من خلال نظرتها الخاصّة إلى الكون والإنسان.

بمعنى أنّ هناك ارتباطًا عميقًا بين النظريّة الأخلاقية لفيلسوف ما أو مدرسة فكريّة ما وبين نظرتهم إلى الكون أي الرؤية الكونيّة، ونظرتهم إلى الإنسان أي المعرفة بحقيقة الإنسان. ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن يتأسّس مذهب فلسفي أخلاقي من دون هاتين النظرتين؛ لأنّ الأخلاق في نهاية المطاف تطال الإنسان الذي يعيش في هذا العالم الكوني المسمّى بالأرض، فمن يعتقد أنّ الإنسان جسد فقط بلا روح، أو جسد وروح ولكن بلا عالم آخر غير هذا العالم، أو من يعتقد أنّ لدى الإنسان جسد وروح وحياة أخرى ولكن يخطئ في تحديد الاحتياجات الواقعية للإنسان بسبب النقص الحاصل في المعلومات والتحليلات المجتزأة حول الكون والإنسان. فمن الطبيعي أنّ كلّ واحد من هؤلاء الفلاسفة سوف يصل إلى رؤية أخلاقيّة مغايرة للفيلسوف الآخر؛ لأنّ المطلوب في رسم معالم الرؤية الأخلاقية الصحيحة أن تكون قواعدها الكونية والإنسانية صحيحة، وأن تكون تامّة وكاملة وشاملة وغير ناقصة أو مجتزأة أو فيها عيوب تحول دون بناء الرؤية الأخلاقية الإنسانية والاجتماعية المتكاملة والمنسجمة في مسائلها مع مبادئها، والشاملة لكلّ احتياجات الإنسان، والمجيبة على أسئلته التفصيليّة المتعقلّة بالمصير والوجود والهدف والغاية من هذا الوجود. وعليه «فالّذين يفصلون: معرفة العالم النظريّة[21]عن الأخلاق والأوامر والنواهي الأخلاقية للعقل العملي، وينكرون أية علاقة بينهما، إنطلاقًا من أنّ معرفة العالم والكائنات الطبيعيّة تعتمد على الدلائل المنطقيّة والتجربيّة، والحال أنّ الأوامر والنّواهي الأخلاقية، هي سلسلة من القضايا تحكم السّلوك، فهؤلاء أغفلوا نقطةً مهمّةً، ألا وهي أنّ الأوامر الأخلاقيّة تصبح حكيمةً، إذا ما كوّنت لها علاقةً بالعالم الخارجي، وإلاّ فستكون اُمورًا اعتباريةً فارغةً وغير مقبولة»[22].

عرض مباني بعض المذاهب في فلسفة الأخلاق نقدها

بالعود إلى المدارس والمذاهب الأخلاقية المختلفة والمتعاقبة نلاحظ أنّ كلّ اتّجاه بنى منظومته الأخلاقية وفق نظرته للكون والإنسان، سواء صرّح بهذا الأمر أو لم يصرح، إلا أنّ في قرارة الفكر وعمق النظريّة يمكن للباحث أن يستنبط بسهولة المباني المعرفية التكوينية والإنسانية التي تتأسّس عليها أيّ مدرسة من هذه المدارس الفلسفية. وفيما يلي سوف نذكر عيّنة من بعض هذه المدارس؛ بهدف معرفة كيف بنت منظومتها الأخلاقية بالاعتماد على رؤيتها الكونية والإنسانية الخاصّة بها:

مذهب اللذّة:

مذهب اللّذّة من المذاهب الفلسفيّة القديمة، وله امتداد في التاريخ يصل إلى حدود القرن الخامس قبل الميلاد مع أحد تلامذة سقراط ويدعى أريستيبوس (ت 435 ق.م)، وصولًا إلى أبيقور وهو أحد فلاسفة اليونان القدماء (ت243 ق.م)، انتهاءً بما عُرف بمذهب المنفعة عند كلّ من جرمي بنتام (ت 1832م) وجون استيورت ميل (ت1873)، الذي يُعتبر مذهبهما نسخةً معدّلةً عن الأبيقورية، التي تجعل من اللّذّة غاية الحياة ومعيار كلّ فعل أخلاقي. فكلّ مخلوق عند أبيقور يصارع من أجل اللّذّة، والسعادة عنده تعتمد على اللّذّة، ويُؤكّد على «أنّ اللّذّة هي بداية وهي غاية الحياة السعيدة. فلو تعرّفنا على ذلك على أنّه الخير الأوّل، الفطري فينا، وأنّه القاعدة التي ننطلق منها في تحديد ما ينبغي اختياره، وما ينبغي تجنّبه، والمرجع الذي نلجأ إليه كلّما اتّخذنا من الإحساس معيارًا للخير»[23]. ولكن لأنّ اللّذّات بطبيعتها تتزاحم وتتعارض فيما بينها، ولا يمكن استيفاؤها معًا، يرى أبيقور ضرورة إعمال العقل من أجل ترجيح بعضها على البعض الآخر. وهنا يفترق مذهب آريستيبوس عن أبيقور، فالأوّل يرى أنّ طبيعة الإنسان وحدها هي منشأ كلّ الواجبات والمحرّمات الأخلاقيَّة؛ بينما يرى أبيقور أنّه ينبغي اللّجوء إلى العقل في عمليّة التحديد، ويرى أنَّ العمل الذي يوجب لذّةً أطول أفضل من غيره، وكلّ عمل يوجب الألم شرّ ومبغوض، حتى لو ولّد سعادة عابرة في أوَّل أمره[24].

وإذا عدنا إلى «بنتام» و«استيورت ميل»، نلاحظ أنّهما اعتمدا المبدأ نفسه للفعل الأخلاقي، وهو اللّذّة مع وجود فوارق طفيفة في رؤيتهما للذّة. ومقصودهما باللّذّة اللّذّة الحسيّة التي يشعر بها أيّ إنسان ولا حاجة فيها إلى التحليل والشرح والاستدلال، كلذّة الأكل والشرب، وقراءة كتاب ممتع، والاستماع إلى الموسيقى، والقيام بفعل خير وما شاكل. فبنتام مثلا يرتكز مذهبه على «أساس مذهب اللذة السيكولوجي، أعني النظرية التي تقول إنّ كلّ موجود بشريّ يبحث بطبيعته عن تحصيل اللذة وتجنب الألم. وهذا المذهب ليس بالطبع مذهبًا جديدًا، فقد طرحه في العالم القديم أبيقور بصفة خاصّة، بينما دافع عنه في القرن الثامن عشر كلّ من هلفتيوس في فرنسا، وتيكر في انجلترا»[25]. والإضافة التي قام بها كلّ من بنتام واستيروت مل أنّهما قاما بتوسيع دائرة اللذّة لتخرج من إطار الفرد وتدخل في أفق المنفعة العامّة. فهما يعتقدان أنّ اللّذّة وإن كانت هي التي تحقّق السعادة والخير للإنسان، إلا أنّ هذه السعادة ينبغي أن تكون لأكبر قدر ممكن من الناس، فالفعل الحسن عندهما هو الذي يحقّق النفع للمجتمع أي اللذّة العامّة، فلا تكون محدّدة فقط باللذة الفردية الخاصّة.

ونلاحظ بشكل عام أنّ مذهب اللّذّة الذي اتّخذ من اللّذّة -سواء كانت فردية أو فردية واجتماعية- مبدأً للخير ومعيارًا للفعل الأخلاقي، قد ركّز على اللذّة الحسيّة والماديّة في الإنسان -سواء كانت فردية أو اجتماعية- وأهمل اللذّة الروحيّة والمعنويّة، كما أنّه يحصر وجود الإنسان بهذا العالم ويغفل بالكامل عن فرضيّة وجود عوالم وجوديّة أخرى، وهذا بطبيعة الحال مرّده إلى النظريّة الكونيّة والإنسانيّة لأتباع هذا المذهب.

المذهب الاجتماعي:

يعتبر أميل دوركايم (1858-1919) من أبرز مؤسّسي المذهب الاجتماعي في الأخلاق، وهو من أتباع الفلسفة الوضعية، التي تأسّست على يد الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت، والتي قامت فلسفته على أثر الانتقادات التي وجّهت للفلسفة التقليدية اليونانية وصولًا إلى مذهب كانط. فقد كانت الوضعية ردّ فعلٍ على الاتّجاه العقلي، والمثالي الروحي، وذهبت إلى تمجيد العلم، وقامت بتفسير الظواهر تفسيرًا علميًّا. فالوضعي يطلق على الواقعي والفعلي المستقلّ عن الشرع الإلهي، والمقابل للتأملي، والمرادف للتجريبي، فهو باختصار مقابل اللاهوتية والميتافيزيقية[26]. هذه المقدّمة حول الخلفيّة الفكريّة لمذهب دوركايم تكشف لنا عن مبادئ مدرسته الأخلاقية التصوريّة والتصديقيّة. فقد حدّد دوركايم القاعدة الأخلاقية وبيّن أنّها تتكوّن داخل المجتمع، حيث جعل المجتمع مصدرًا لكلّ حياة أخلاقيّة، بل مصدر كلّ خيرٍ يمكن أن يصل إلى الفرد. وبالتالي تحوّل مذهبه الأخلاقي إلى ما يشبه المذهب الفلسفي الذي يؤمن بالحتميّة الاجتماعيّة، والذي يكاد يصبح فيه المجتمع دينًا للفرد. فدوركايم يعتقد أنّ المجتمع هو المصدر الوحيد للأخلاق، ورأى في المجتمع سلطة عليا على الأفراد، فهو الذي يحدّد مدى صحّة أفعال الأفراد، محدّدًا الصحيح منها عن الخطأ. فما حسّنه المجتمع هو الحسن وما قبّحه المجتمع هو القبيح، «على شرط أنّه يمكن مع ذلك أن ينظر إلى هذا المجتمع باعتباره شخصيّة تختلف كيفيًّا عن الشخصيات الفرديّة التي يتألّف منها، أي أنّ الأخلاق تبدأ على هذا الاعتبار حيثما يبدأ الترابط في الجماعة أيًّا كانت الجماعة»[27].

وهناك العديد من الملاحظات التي سجّلت على مذهب دوركايم الأخلاقي، حيث ذهب خصوم المذهب الاجتماعي إلى القول إنّه ليس ثمّة شيء يمكن أن يسمح لنا بالقول بأنّ ما يحسّنه المجتمع فهو الحسن وما يقبّحه هو القبيح، فإنّ مثل هذا القول لا يصدق حتى على الغرائز التي جادت بها علينا الطبيعة، كما أنّه لا يصحّ الاعتماد على رأي المجموع للحكم على المسألة بأنّها أخلاقية أو لا؛ لأنّه قد يكون رأي هذا المجموع فاسدًا، وبالتالي لا مانع من أن تكون القاعدة الأخلاقية فاسدة حتى لو كانت مبدأ عامًا تعتنقه الجماعة بأسرها[28]. وهناك مشاكل إضافيّة تعترض هذا المذهب الأخلاقي كلّها تنبع من الرؤية نفسها التي تحدّثنا عنها سابقًا فيما يخصّ الرؤية الإنسانية الكونية، التي ترى الفرد معدومًا أمام المجتمع، ولا يُعير أيّ اهتمام للأبعاد الإنسانية الأخرى سواء الروحية أو الميتافيزيقة. وبالتالي شأنه شأن المدارس الأخلاقية الأخرى التي تحصر الأخلاق بهذا العالم المادي فقط. والصحيح أنّ المجتمع في الناحية الفلسفية هو أمر انتزاعي واعتباري كمفهوم الجيش، والشعب، وبالتالي لا يمكن القبول بوجود آثار خاصّة تترتّب على المجتمع، غير الآثار الخاصّة بالفرد؛ لأنّ الفرد هو أساس المجتمع لا العكس. والمشكلة الثانية التي يوقعنا بها هذا المذهب هو مسألة النسبيّة في الأخلاق، حيث إنّ الأخلاق سوف تختلف من مجتمع إلى مجتمع، فما يحسّنه مجتمع ما قد يقبّحه مجتمع آخر، وبالتالي سوف نفقد الثبات والأصالة في القواعد الأخلاقية، وعدم إمكانيّة رفض هذه المبادئ الأخلاقية الاجتماعية، مع أنّه «قد وجدت عبر التاريخ كثير من الحالات التي يرى فيها فرد من الأفراد أنّ القيم الحاكمة في مجتمعه والعادات السائدة فيه خاطئة ومهلكة، فيحاول أن يخلّص مجتمعه وربّما البشرية جمعاء من هذه المهالك ويقودها نحو السعادة والكمال. وهذا العمل يتمّ في كثير من الأحيان عبر التمرّد على القوانين الاجتماعية وعصيانها، وما يؤدّي إلى معاقبته وتجريمه من قبل المجتمع، وتاريخ الأنبياء والمصلحين مشحون بهذا النّوع من الأعمال»[29].

مذهب القوّة:

مثلما أقام شوبنهور فلسفته على مفهوم إرادة الحياة، أقام فريدريك نيتشه فلسفته ونظريّته الأخلاقيّة على مفهوم إرادة القوّة. لقد اعتاد نيتشه أن يتحدّث عن مذاهب معيّنة، أو نظريات كما لو كانت ميلا للمحافظة على الذات، أو أدوية منشطة تعطى للذات. فنظريّة العود الأبدي مثلا هي اختبار للقوّة، أو لقدرة نيتشه على أن يقول (نعم) للحياة بدلا من قول شوبنهور (لا). ولكن رغم أنّ نيتشه استمدّ دافعًا قويًّا من المتشائم العظيم، فإنّه لم يكن تلميذًا لشوبنهور على الإطلاق، فقد كان الإلهام الذي استمدّه من فلسفة شوبنهور واضحًا، نحو تأكيد الحياة وليس إنكارها، وأكّد أنّه يعبّر عن موقف من الحياة يناقض موقف شوبنهور[30]. كما ويعدّ مذهبه ردّة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي، فكان اعتراضه على المسيحيّة أنّها تولّد في النفس روحيّة الإذعان والعبوديّة تجاه الآخرين، وتربّي إنسانًا خاملًا وذليلًا بحسب زعمه وهو ما يرفضه نيتشه بالكامل. ويرى نيتشه أنّ القوّة والسلطة هي أساس الأخلاق الفاضلة، ويرى أنّ كلّ إنسان بحكم محبّته لذاته يريد المحافظة عليها، ولا يمكنه ذلك إلا بمنطق القوّة. فما صدمه في كتابات شوبنهاور، قوله إنّ الأنانية ليست من الأخلاق، وإنّ على الإنسان أن لا يكون أنانيًّا وأن يتجرّد من حبّ الذات. فثار نيتشه على هذه العقيدة معتبرًا أنّه يجرحه كثيرًا نقد شوبنهاور للأنانيّة، لكونه داعيًا لها[31]. وفي كتابه «بمعزل عن الخير والشر» يقول نيتشه إنّه اكتشف نوعيّة من الأخلاق: أخلاق سادة وأخلاق عبيد. بالنسبة لأخلاق العبيد المعيار فيه ما يكون مفيدًا أو نافعًا لجماعة الضعفاء والعاجزين، والذي يمجّد صفاتًا مثل التعاطف، والشفقة، وهذه القيم عند نيتشه تعتبر شرًّا وأمورًا قبيحة. أمّا أخلاق السادة أو الأخلاق الارستقراطية كما يُسمّيها فهي الخير، وهم الذين يعطون للسطلة قيمة ذاتية[32]. وأفضل خلاصة لمذهبه في الخير والشر الأخلاقي هو ما يذكره في كتابه «عدو المسيح» عندما يقول: «ما هو الخير؟ إنّه كلّ ما يربي الشعور بالقوّة إرادة القوّة، القدرة ذاتها داخل الإنسان. ما هو الشر؟ إنّه كلّ ما يتأتّى عن الضعف. ما هي السعادة؟ الشعور بأنّ القوّة تتنامى وأنّ المقاومة تُتجاوز. ليس أنّها الرضى، بل قوّة أزود، ليس السلام، ولا بأية طريقة، لكنّما الحرب، لا الفضيلة، بل الكفاءة. الضعفاء والفاشلون يجب أن يهلكوا، تلك هي القاعدة الأساسية في حبّنا للإنسان. وفوق ذلك يجب أن تقدّم لأولئك المساعدة كي يهلكوا»[33].

والملاحظة الأساسيّة على المذهب رغم بعض الانتقادات الصحيحة التي وجّهها إلى بعض المدارس الأخلاقية التي كانت سائدة في أوروبا، إلا أنّه أفرط في اعتباره السلطة والقوّة ذات قيمة مطلقة، وفي عدم إعطائه للرحمة والعطف على الآخرين أيّ قيمة أخلاقية، وخالف بذلك الوجدان الإنساني والمنطق العقلي السليم. كما أنكر نيتشه بمذهبه هذا حسن العدل وقبح الظلم، اللذان يعتبران من البديهيات الإنسانية، حيث اعتبر الأعمال التي توجب الضعف قبيحة وظالمة، والأعمال التي توجب القوّة والسلطة حسنة وعادلة[34]. وعند التحليل الدقيق لمبادئ فلسفة نيتشه الأخلاقية نلاحظ مثله مثل بقيّة المذاهب الأخلاقية التشوّه الكبير الذي لحق برؤيته الكونيّة للإنسان إلى الحد الذي اعتبر معه أنّ النّزاع بين البشر والتغلّب عليهم هو الحلّ الوحيد من أجل البقاء في الحياة والنفوذ فيها. وهذا يعني اعتقاد نيتشه برفضيّة التنافي الدائم بين حياة الناس ومنافعهم. وهذا مردّه إلى النظرة المحدودة والسطحية لحقيقة الإنسان بأبعاده وشؤوناته التي يمكن أن تكون طريقًا لتكامله من خلال الآخرين لا لتسافله، من خلال التنازع مع الآخرين، وبالتالي صيرورة الإنسان حيوانًا متطوّرًا لا غير. وهذا يكشف عن إهمال نيتشه للأبعاد الروحيّة والمعنويّة في الإنسان وقراءته قراءةً ماديةً على نحو مبالغ فيه.

مذهب الواجب:

يعدّ إمانويل كانط (1724-1804) مؤسّس مذهب الواجب الأخلاقي، حيث يعتبر أنّ الفعل ليكون حسنًا من الناحية الأخلاقيّة لا بدّ أن يتّصف بأمران أساسيان هما:

الإرادة الخيّرة:

الإرادة الخيّرة هي مفتاح أساسي في رؤية كانط الأخلاقية، حيث يقول إنّه «لا يوجد شيء يمكن عدّه خيرًا على وجه الإطلاق إلا شيء واحد هو الإرادة الخيرة»[35]. وقوله إرادة خيّرة لأنّه ليس كلّ إرادة تتّصف بأنّها خيّرة؛ لأنّ إرادة الإنسان متأثّرة إمّا بالحسّ أو بالعقل اللذان يؤثّران بشكل مباشر بإرادة الإنسان واختياره. والإرادة الحرّة عند كانط هي التي تكون خاضعة لسلطة العقل العملي المسؤول بحسب رؤية كانط عن تحديد ما ينبغي وما لا ينبغي. والإرادة الخيرة ذات قيمة ذاتية، بمعنى أنّه «لا تكون خيّرة بما تحدثه من أثر، أو بما تحرزه من نجاح، بل إنّها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده...(فهي) خيّرة في ذاته»[36]. ولكن هذه الإرادة الخيّرة لوحدها لا يمكنها أن تؤدّي الغرض الأخلاقي المطلوب منها، بل لا بدّ أن يعيّنها قوّة طبيعيّة مفطورة في الإنسان موجودة في داخله، هي التي تبعث في إرادة الخير، ويُسمّيها بالـ «الواجب».

موافقًا للواجب:

الواجب عند كانط أو الضمير عند جان جاك روسو، هو ذلك الشعور الوجداني الباطني الموجود في داخل كل إنسان، والذي يجعله يشعر بالتأنيب واللّوم عند قيامه بالأعمال السيّئة. والفعل الأخلاقي عند كانط هو الذي يكون موافقًا للواجب ويسمّيه بـ«القانون الأخلاقي»، ويحدّد له ثلاثة مبادئ أساسيّة:

الأوّل: أن يؤدّى الفعل عن شعور بالواجب فقط لا عن ميلٍ أو أيّ شعورٍ آخر. فالتاجر الذي يعامل زبائنه بأمانة لكي يزداد ربحه لا لأنّ الواجب الأخلاقي يتطلّب منه ذلك، لا يعدّ عمله أخلاقيًّا[37].

الثاني: أن يصدر الفعل بنيّة أداء الواجب؛ لأنّ القيمة الأخلاقية عند كانط مرتبطة بمنبع الفعل وأساسه أي النية لا بالغاية المتوخّاة منه. فالتلازم ينبغي أن يكون قائمًا بين القيمة الأخلاقية والنية، فلا يكفي أن يكون العمل منسجمًا مع القانون فقط، فالتاجر الذي لا يغش لأجل المحافظة على مصالحه، والشخص الذي يعطف على الآخرين لكي يقال عنه إنّه محبّ للخير، هما ليسا في الحقيقة من أصحاب الفضيلة الأخلاقية، لكون نيتهما غير مطابقة لمبدأ الواجب ولا نابعة منه[38].

الثالث: أن يؤدّى الفعل بخلفيّة احترام القانون، وهي بمثابة النتيجة المترتّبة على المبدأين الأوّلين. فالأفعال تكون أخلاقيّة عنده عندما تتمّ لأجل احترام القانون الأخلاقي، وليس لأيّ هدف أو غاية أخرى.

وفي معرض مناقشة ما قاله كانط حول نظريّته في فلسفة الأخلاق، يمكن أن نذكر إشكالين فقط من باب طرح الفرضية الأخرى الممكنة، ولكي لا نقع في الإطالة المخلّة بهدف البحث:

أوّلا: إنّ كانط رغم أنّه يُرجع الأخلاق إلى ما أسماه الواجب، أي الضمير الموجود في كلّ إنسان، واعتباره أمرًا ذاتيًّا وقوّة مطلقة يحقّ لها أن تكون الآمر الناهي ويجب طاعته، إلا أنّه يقع في مشكلة كبيرة لناحية رفضه أن يكون الله مصدرًا للأخلاق رغم اعتباره أنّ الأخلاق لا تتعارض مع الألوهيّة، بل تُؤكّد على وجود الله. وسبب هذا الرفض هو صيرورة الأخلاق مستمدّة من سبب خارجي، وهذا ما يتعارض مع مبدأ الذاتيّة القبلية للواجب، وبالتالي يرفض كون الدين مصدرًا من مصادر التشريع الأخلاقي، وهذا ما يوقعنا في المحدوديّة حتمً؛ا بسبب ضعف الإمكانات الإنسانية أمام موضوع عميق وخطير بهذا المستوى يطال الإنسان والمجتمع معًا، ويطال فلسفة وجودهما بالكامل. فكانط يصرّ على «أنّ الفعل لا يكون أخلاقيًّا إلا إذا اتّخذ شكل الطّاعة الخالصة للوجدان من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أيّ قيدٍ أو شرط أو غاية، بحيث إذا سئل الفاعل: لماذا تقوم بهذا الفعل؟ أجاب: لأنّ ضميري يأمرني به. وليس له أي هدف آخر. وإن أجاب بأنّني أفعله من أجل هدف آخر فقد خرج الفعل عن كونه أخلاقيًّا»[39]. فمعيار الفعل الأخلاقي عند كانط منحصر بالتكليف الفطري الوجداني، وهذا الحصر لا يستند إلى دليلٍ علميٍّ قويٍّ ومتين، خصوصًا إذا سألنا عن مصدر هذا التكليف الفطري ومنبعه التكويني والوجودي. في حين يطرح مرتضى مطهري فرضيّةً علميّةً أخرى يقول فيها إنّه «في الوقت نفسه الذي نقول بالوجدان الأخلاقي، وأن الإنسان يلتذّ بالفطرة من عمل الحسن وينفر من العمل القبيح، فإنّنا نؤمن بأنّه لو لم يكن في البين إله وخلقة هادفة فإنّ عملنا سوف لن يتخلّص من العبث مطلقًا»[40]. وبالتالي يُعطي بعدًا إلهيًّا دينيًّا للفطرة، لا يمكن أن يمنع منه أي فرض علمي آخر تحت أيّ مسمّى، ويرى أنّ الله هو الحقيقة المطلقة الوحيدة التي يمكن نسبة الأخلاق الإنسانيّة إليها.

ثانيًا: مع قبولنا بأثر النيّة في تحديد الفعل الأخلاقي، ولكن يمكن أن نسأل كانط أنّه ما هي أكثر النوايا قيمة؟ والجواب أنّ ترجيح نيّة على غيرها بالنسبة له هو في أن يكون الفعل صادرًا عن نيّة الخير، التي هي مساوية عنده لـ «نيّة أداء الواجب العقلي». ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار أنّه: ما الدليل على هذه المعادلة المفترضة، أي أنّ نيّة الخير تساوي نيّة أداء الواجب؟ فنيّة الخير أو نيّة أداء الواجب العقلي هي النيّة الراجحة عنده على غيرها من النوايا المختلفة، كجلب المنفعة أو تحصيل اللذّة، أو الوصول إلى السعادة والكمال، ولكن لا يوضّح لنا سبب كون نيّة أداء الواجب وحدها هي الراجحة، وهي الخير بالذّات دون سواها[41].

أهمّ مبادئ فلسفة الأخلاق من منظور إسلامي

 البحث عن النظام الأخلاقي الصحيح ينبغي أن ينطلق من رؤيةٍ إنسانيّةٍ ووجوديّةٍ عميقةٍ وأصيلةٍ؛ لكي تأتي النتائج متوافقة واحتياجات الإنسان الواقعيّة. لذا فإن من خصائص النّظام الأخلاقي السليم أن يتّسم بالأصالة والثبات من جهة، وبالشموليّة والسّعة من جهة ثانية، والانسجام الداخلي من جهة ثالثة، وتأمينه لحاجات الإنسان الحقيقية من جهة رابعة. وأخيرًا ينبغي أن يكون لهذا النظام قابليّة الإثبات والاستدلال العقلي والمنطقي السليم. وفيما يلي نذكر أهمّ مرتكزات المنظومة الأخلاقية وقواعدها في الإسلام:

الاختيار الإنساني المبدأ الأوّل:

الأخلاق وإن كانت ملكةً أو صفةً نفسيّةً كما عُرّفت في المصادر الإسلامية، إلّا أنّ هذه الملكة تبقى مستترة ما لم تظهر من خلال السلوك والعمل. والسلوك الإنساني يكشف عن قيمة وميزة اختصّ بها الإنسان ألا وهي الاختيار. فنقطة الانطلاق عند مقاربة النظريّة الأخلاقيّة في الإسلام هي الاختيار، إذ لا معنى للحديث عن منظومة أخلاقيّة من دون الوقوف عند منطلقات هذه المنظومة وأسسها، ومن أهم هذه الأسس الاختيار البشري. فالإنسان كائن حرّ، يتمتع بقدرة الاختيار بين الأمور المختلفة، وحتى المتناقضة من أجل تحديد مساراته الحياتيّة والعمليّة على النحو الذي يرى في سعادته وكماله. فالاختيار الإنساني وجهته دائمًا كلّ ما يرى فيه الإنسان سعادته وكماله. بمعنى أنّ الإرادة والاختيار الإنسانيين متعلقه دائمًا، والهدف الذي من أجله يكون الفعل؛ هو الوصول إلى السعادة والكمال من وراء أيّ عمل. ومن هنا يكون الاختيار الإنساني على علاقةٍ وثيقةٍ بالرؤية الأخلاقية، «فجميع النّظم الأخلاقيّة تصرّح بكون الإنسان مختارًا كمبدأ موضوعي، وإمّا تسلّم به ضمنًا وإن لم يلتفت إليه أتباع ذلك النظام، وسيتمّ بيان هذه الحقيقة كمبدأ موضوعيّ في النّظام الأخلاقي في الإسلام. من هنا فإنّنا حينما نبحث عن أساس النظام الأخلاقي في الإسلام، وتعريف مبادئه الموضوعيّة نعتبر اختيار الإنسان المبدأ الأوّل فيها»[42]. لوضوح أنّ من لا يملك الحرية والاختيار، لا يمكن أن نتوقّع منه انتخاب الأفعال الموصى بها أخلاقيًّا، وترجيحها على غيرها. كما لا يمكن أن يطلب منه تجنّب ما يعيقه عن الوصول إلى الهدف المرجو من وراء الفعل الأخلاقي.

الغائيّة المبدأ الثاني:

مبدأ التسليم بكون الإنسان كائنًا مختارًا، بحيث يمكنه ممارسة أعماله بحريّة ومن دون أيّ إلزام أو إجبار، يقودنا إلى مبدأ ثاني لا يقلّ أهميّة عن هذا المبدأ الأوّل، بل هو نتاجٌ طبيعيٌّ ومنطقيٌّ له. لأنّنا عندما نحدّد أن اختيار الإنسان سوف يتّجه تكوينًا نحو ما يرى فيه كمالًا له أو سعادة، فإنّ هذا التوجّه يكشف عن وجود هدفٍ ما وغاية من وراء هذا السلوك الإنساني. وبالتالي يصبح الحديث عن الفعل الأخلاقي على علاقة وثيقة بالغاية والهدف، وهو ما يصطلح عليه بالمعرفة الغائيّة للسلوك الإنساني الأخلاقي. وجميع النّظم والمدارس الأخلاقية تشترك فيما بينها في هذا الاعتقاد؛ أي وجود غاية نهائيّة من وراء كلّ فعل أخلاقي، إلا أنّهم يختلفون في تعيين مصداق هذه الغاية. «والنّظام الأخلاقي الصحيح هو الذي يستطيع أن يحدّد هدفًا أصليًّا لكلّ أنشطة الإنسان وأفعاله الاختيارية، بحيث تكون قيمته كامنة في الوصول إلى تلك الغاية. ومن الواضح أنّ هذا الهدف ينبغي أن يكون مطلوبًا ذاتيًّا للإنسان وغاية قصوى له. بحيث يكون شاملًا لكلّ أهدافه الفرعيّة الأخرى، فلا يبقى هدف أو غاية مطلوبة خارج نطاقه ودائرة حدوده»[43]. والخطوة الأولى من أجل معرفة الغاية الأصيلة المفترضة من وراء أيّ سلوكٍ أخلاقيٍّ إنسانيٍّ، تبدأ من معرفة النّفس. فالحديث عن الغاية متوقّف على نظرتنا إلى هذا الإنسان. فإذا كانت نظرتنا له ماديّة حسيّة، فمن الطبيعي أن تكون الغاية منسجمة مع هذه الرؤية. وإذا كانت نظرتنا له روحيّة وما ورائيّة الطبيعة وحدود المادّة، فإنّ الغاية من وراء السلوك الأخلاقي ستتّخد منحًى آخر يقودنا إلى ما ينسجم مع هذه الرؤية أيضًا.

في الرؤية الفلسفيّة الإسلاميّة، الإنسان جسمانيّ الحدوث روحانيّ البقاء[44]، وبالتالي فإنّ الغاية من وراء هذه السلوكيات الأخلاقية ينبغي أن تتوافق مع بقائه الروحاني في عالم الخلود والأبديّة. فالحديث عن النّفس والرّوح على مستوى الحقيقة والنشأة والتكامل وصولًا إلى المقصد، له ارتباطٌ وثيقٌ بالمنظومة الأخلاقية الإسلاميّة. من هنا إذا أردنا أن نحدّد هذا المقصد علينا الرجوع إلى المراد الحقيقي لهذه النّفس الإنسانية المجرّدة، والذي بحسب الرؤية الفلسفية الإسلامية تكشف عنه الفطرة الإنسانيّة المودعة في باطن هذه النّفس، والتي يتوقّع أن يقودنا التأمّل فيها إلى معرفة الغاية الواقعيّة للوجود الإنساني في هذا العالم. والسبب في ذلك هو بداهة الأحكام الفطريّة؛ لأنّ «أحكام الفطرة أكثر بداهةً من كلّ أمرٍ بديهيّ، إذ لا يوجد في الأحكام العقليّة جميعها حكمٌ مثلها في البداهة والوضوح، حيث لم يختلف فيه النّاس ولن يختلفوا. وعلى هذا الأساس تكون الفطرة من أوضح الضروريات وأبده البديهيات، كما أنّ لوازمها أيضًا يجب أن تكون من أوضح الضروريات وأجلى البديهيات»[45].

في الرؤية الإسلاميّة الميّزة الأساس والدور المحوري للفطرة الإنسانيّة هو توجيه الإنسان نحو الكمال الحقيقي الذي يتّسم بالإطلاق وعدم المحدوديّة. بمعنى أنّ الفطرة الإنسانيّة تطلب دائمًا السعادة والكمال على نحو اللاتناهي واللا محدوديّة. ففي كلّ الإنسان كما يقول الإمام الخميني «حبًّا فطريًّا للكمال المطلق وللوصول إلى الكمال المطلق، وهذا الحبّ ممّا يستحيل أن يفارق الإنسان كليًّا، كما أنّ الكمال المطلق يستحيل أن يتكرّر أو يتثنّى، فالكمال المطلق هو الحقّ جلّ وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفوا قلوبهم ولا يعلمون»[46].

وهنا بالتحديد نقطة الافتراق الجوهريّة بين المدرسة الأخلاقيّة الإسلاميّة وغيرها من المدارس. في الإسلام الهدف والغاية النهائيّان من وراء أيّ فعل أخلاقيّ هو الله تعالى؛ لأنّه لا يوجد كمال أو سعادة يمكن أن تليق بهذا الإنسان بحسب خلقته وتكوينه وجبلّته إلا الذات الإلهية المقدّسة، التي هي بحسب الرؤية الكونيّة الإسلامية أصل كلّ كمال وجمال وسعادة في هذا الوجود. و«ممّا ذكر نستنتج أنّ أيّ إنسان ذو غاية أو غايات نهائيّة ويسعى لتحقيقها، وهذه الحقيقة تطرح في عالم الأخلاق كمبدأ؛ لأنّ تزكية النّفس وتهذيب الأخلاق يقعان في إطار الأعمال الاختيارية للإنسان، وتنجز بقصد الوصول إلى الغاية والمطلوب النهائيين. وعليه فإنّ المبدأ الثاني من المبادئ الموضوعة للنظام الأخلاقي هو أنّ الإنسان ذو غاية نهائيّةٍ»[47] وأنّ غايته هو الله تعالى.

قابليّة النّفس للتكامل:

معرفة النّفس -كما بيّنّا سابقًا- شرطٌ أساسيٌّ لبناء تصوّر صحيح لأيّ منظومة أخلاقيّة. والإنسان بحسب الرؤية الإسلاميّة موجودٌ مركَّب من روح وبدن. وما يتميّز به من قوّة  الفكر، والوعي، والإرادة، والاختيار هي أمور متعلّقة بالبعد الروحي المجرّد فيه. وقد برهن على تجرّد النّفس الإنسانيّة في الكتب الفلسفيّة الإٍسلاميّة على نحو تفصيلي[48]، حيث استفاضت في بيان الأدلّة والبراهين على تجرّد النّفس سواءً من خلال نظريّة العلم الحضوري، أو من خلال بعض خصائص النّفس اللا ماديّة من قبيل الحبّ، والأحلام الصادقة والتخيّل والتعقّل وغيرها... فإذا أدركنا أنَّ نفس الإنسان وروحه هي الأصيلة، لا بدّ من معرفة الغاية القصوى لهذه النّفس عبر النّظر إلى خصوصيّاتها والتأمّل فيها، وهذا الأمر يسعفنا في تحديد الهدف والنتيجة النهائيّة التي نأمل الوصول إليها من الأخلاق. ومن الخصوصيات المهمّة للنّفس الإنسانيَّة أنّها مستعدّة للتكامل، ولولا هذا الاستعداد الموجود في النّفس لمَا صحّ البحث عن الكمال الأخلاقي، والتوصية به؛ لأنّ جوهر القضيّة الأخلاقيّة في الإسلام هو حصول التكامل في النّفس من أجل الوصول إلى الكمال الإنساني المتمثّل بالارتباط بالله تعالى والقرب منه؛ لأنّه لا معنى للتقرّب إلى الله والفوز بهذا المقام السامي من دون التخلّق بالأخلاق الإلهيّة النابعة بدورها من المقاصد الإلهيّة. وهكذا تصبح الأخلاق في الإٍسلام طريقًا واقعيًّا للكمال الإنساني الحقيقي. و«مفاد قاعدة تكامل النّفس؛ أنَّ النّفس تختلف عن سائر الموجودات المجرّدة – التي لا صلة لها بالمادّة ولا تقبل التغيير – في أنَّها متحرّكة تقبل التغيير تبعًا للبدن، فيمكن للنّفس أن تتكامل شيئًا فشيئًا؛ أي أن تنتقل من مرحلة وجوديَّة إلى مرحلة أعلى، فتكتسب وعيًا أكثر، وتوسِّع من دائرة إرادتها وحريتها. وبكلمة عامّة يمكنها أن تحوز كمالات لم تكن، قد حازتها من قبل. ولكن ما يُهمّنا الآن هو الإشارة إلى أنَّ ما يعتبر كمالاً وجوديًّا للنّفس، يُعَدُّ أقصى غاياتها التي يمكنها الوصول إليها. ومن هنا، ينبغي أن يكون هذا الأمر هو الكمال الأخلاقي، والهدف الأخير للإنسان»[49]؛ بسبب أولوية الأخلاق وتقدّمها على كلّ القضايا الإنسانية الأخرى ومحوريّتها في سعادة الفرد والمجتمع معًا. فالنّفس إذًا، يمكنها الوصول إلى هدفها الأعلى الذي هو الكمال الأخلاقي، وهو في الوقت عينه كمالها الحقيقي.

في المحصّلة تعتبر هذه المبادئ الثلاثة من أمّهات القواعد والأصول التي تبتني عليها المنظومة الأخلاقية في الإسلام رؤيتها، وبها تتميّز عن بقيّة المدارس الأخلاقيّة. وإن كان في المقام المزيد من القواعد التي ينبغي الحديث عنها والإشارة إليها، ولكن عند التدقيق نجد أنّها متفرّعة عن أحد هذه المبادئ الأساسية الثلاثة. وعليه يمكن أن نلاحظ بشكل واضح أصول الأختلاف بين الرؤية الإٍسلامية للأخلاق الإنسانيّة وغيرها من الرؤى والمدارس. فنلاحظ أنّ النظريّة الإسلاميّة تنسجم مع هندسة الإنسان الوجوديّة وأهدافه الواقعيّة أكثر من غيرها؛ من أجل ضمان تحقّق أفضل مقصد إنسانيّ يتّسم بالجماليّة بالدرجة الأولى، والطمأنينة بالدرجة الثانية، التي هي أنشودة كلّ إنسانٍ باحث عن الحقيقة في هذا العالم.

--------------------------

[1]*ـ باحث في الفكحر الديني واستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة المعارف – لبنان.

[2]- مدكور، إبراهيم: المعجم الفلسفي، لا ط، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983م، ص138.

[3]- صليبا، جورج:  المعجم الفلسفي، ط1، قم، منشورات ذوي القربى، 1385ه ش، ج1، ص540.

[4]- النراقي، محمد مهدي: جامع السعادات، ط 1، قم، مؤسّسة اسماعليان، 1421ه، ج1، ص26.

[5]-  مجموعة من الباحثين: معجم المصطلحات الأخلاقية، ط1، بيروت، مركز باء للدراسات، 2006م، ص13.

[6]-  محمد عبد الرحمن، مرحبا: الموجز في تاريخ الأخلاق، ط1، طرابلس لبنان، 1988م، ص156.

[7]- مراد، سعيد: المدخل في تاريخ الأديان، ط1، مصر، 2000م، ص 156.

[8]- زيعور، علي: الفلسفات الهندية، لا ط، بيروت، دار الأندلس، 1982م، ص70.

[9]- جعفر، عبد الوهاب: مذكرة في فلسفة الأخلاق، جامعة الاسكندرية، 1991م، ص93.

[10]- هيجل: محاضرات في فلسفة التاريخ، ترجمة: عبد الفتاح إمام، ط2، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، 2005م، ص13.

[11]- ديوارنت: قصة الحضارة، ترجمة مجموعة من المترجمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر سنوات متفرقة.

[12]- انظر: جروج، جي، أم، جيمس: التراث المسروق، الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة، ترجمة شوقي جلال، لا ط، مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 1996م.

[13]- الرفاعي، عبد الجبار: مبادئ الفلسفة، ط2، بغداد، مركز دراسات الفلسفة والدين، 2007م، ج1، ص17.

[14]- م.ن، ج1، ص18.

[15]- الشيرازي، ناصر مكارم: الأخلاق في القرآن، ط2، قم، المؤسّسة الإسلامية، 1426ه، ج1، ص28و29.

[16]- الهاشمي، طه: تاريخ الأديان وفلسفتها، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1963م، ص9 و10.

[17]- سورة الجمعة، الآية2.

[18]- المجلسي، محمد تقي: بحار الأنوار، ط2، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403ه، ج68، ص382.

[19]-  الكليني، محمد بن إسحاق: الكافي، ط1، قم، دار الحديث، 1429ه، ج3، ص144.

[20]-  الشيرازي، ناصر مكارم، الأخلاق في القرآن، م.س، ج1، ص34.

[21]- العالم الكوني والإنساني.

[22]- الشيرازي، ناصر مكارم، الأخلاق في القرآن، م.س، ج1، ص47.

[23]- كوبلستون، فردريك،:تارخ الفلسفة، ترجمة: حبيب الشاروني ومحمد سيد أحمد، ط1، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2010م، ج1، ص542.

[24]- مصباح، مجتبى: فلسفة الأخلاق، ترجمة: محمد زراقط، ط1، لبنان، معهد الرسول الأكرم العالي للشريعة والدراسات الإسلامية، 2002م، ص64.

[25]- كوبلستون فردريك، تاريخ الفلسفة، م.س، ج8، ص30.

[26]- صليبا، جيمل، المعجم الفلسفي، م.س، ج1،  ص577.

[27]- دوركايم، أميل: علم الاجتماع والفلسفة، ترجمة: حسن أنيس، ط1، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1966م، ص70.

[28]-  بدوي، محمد: الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، لا ط، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 2000م،  ص228.

[29]   مصباح، مجتى: فلسفة الأخلاق، م.س، ص 58.

[30]-  كوبلستون، فردريك، تاريخ الفلسفة، م.س، ج7، ص491 إلى 493.

[31]-  نيتشه، فريدريتش: في جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة: محمد محجوب، ط1، تونس، دار سيناترا، 2010، ص 33.

[32]-  كوبلستون، فردريك، تاريخ الفلسفة، م.س، ج7، ص498.

[33]-  نيتشه، فريدريك: عدو المسيح، ترجمة: جورج ميخائيل ديب، ط2، دار العربية للعلوم ناشرون، ص25.

[34]- مصباح، مجتبى، فلفسة الأخلاق، مصدر سابق، ص78.

[35]- كانط، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار  مكاوي، مراجعة عبد الرحمن بدوي، ط1، كولونيا، منشورات الجمل، 2002م، ص37.

[36]- كانط، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سابق، ص 39.

[37]-  كانط، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.س، ص47.

[38]-  كوبلستون، فردريك، تاريخ الفلسفة، ج6، ص429-430.

[39]-  مطهري، مرتضى: فلسفة الأخلاق، ترجمة: محمد الخافاني، ط2، بيروت، مؤسّسة البعثة، 1995م، ص194.

[40]-  مطهري، مرتضى: الهدف السامي للحياة الإنسانية، لا ط، الكويت، مكتبة سفينة النجاة، لا ت، ص57.

[41]-  مصباح، مجتبى، فلسفة الأخلاق، م.س، ص90-91.

[42]-  اليزدي، مصباح: الأخلاق في القرآن، ط2، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 2010م، ج1، ص17.

[43]- مصباح، مجتبى، فلسفة الأخلاق، م.س، ص119.

[44]-  عبوديت، عبد الرسول: النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، ترجمة: علي الموسوي، ط1، بيروت، مركز الحضارة، 2016، ج4، ص322.

[45]-  الخميني، روح الله: الأربعون حديثا، ترجمة: محمد الغروي، ط4، بيروت، دار التعارف، 1992م، ص 211.

[46]-  الخميني، روح الله: وصايا عرفانية، ط1، بيروت، مركز بقية الله الأعظم، 1998م، ص20.

[47]-  اليزدي، مصباح، الأخلاق في القرآن، م.س، ج1، ص23.

[48]-  راجع: كتاب الأسفار الأربعة لصدر الدين الشيرازي، وكتاب الشفاء لابن سينا. المنهج الجديد في تعليم الفلسفة لمصباح اليزدي حيث ذكر في طياتها العديد من المباحث حول تجرد النفس الإنسانية؛ عبوديت، عبد الرسول، النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية، م.س، ج4، ص133.

[49]- مصباح، مجتى، فلسفة الأخلاق، مصدر سابق، ص124.