البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المفكّر الأزهريّ محمّد البَهِيّ ناقداً أصيلاً لمذاهب الغرب وداعية استقلال

الباحث :  غيضان السيد علي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  26
السنة :  شتاء 2022م / 1443هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 4 / 2022
عدد زيارات البحث :  710
تحميل  ( 447.841 KB )
يُعد محمد البَهِيّ (1905-1982) أحد أهمّ المفكّرين في الفكر العربيّ المعاصر من الذين تصدّوا للفكر الغربيّ الوافد دون الوقوع في براثن الانغلاق الفكريّ. فقد ركز البَهِيّ على الحلول الإسلاميّة بوصفها الأنسب والأقرب إلى علاج مشكلاتنا الراهنة. هاجم المَذَاهِب الغربيّة رائياً إليها على أنّها ليست مذاهب فكر ومنطق تستهدف حماية الإنسان من التلبيس والخداع، إنّما هي بالأحرى دعوة إلى التلبيس والخداع والغفلة. فمعظم هذه المَذَاهِب الهدّامة تدعو إلى العالميّة، والعالميّة في حقيقتها ليست سوى دعوة لمفارقة المسلمين نظامهم القيميّ الذي هو بمثابة الإطار الذي يجمع شملهم ويحفظ وحدتهم من الانفراط وهذه الدعوة من ناحية أخرى هي مسعى إلى ذوبانهم في الآخرين، والإذعان إلى القيم الغربيّة.

لقد وجَّه البَهِيّ سهام نقده للفكر الغربيّ عبر دعوته للاستقلال التامّ للأمة الإسلاميّة سياسةً وفكرًا عبر كتابه القيِّم والمهم «الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ» الذي فصَّل فيه القول حول بيان السبيل لمن يحرص من أبناء الشرق الإسلاميّ على الاستقلال في الفكر والسياسة من مفكّري الإسلام وزعمائه السياسيّين. وهذا السبيل ليس هو سبيل الغرب الذي يدعونا إليه؛ لأنّ في سبيل الغرب قبول الاستعمار والمذلّة والدعوة إلى التخلّف والتبعيّة، وإنّما هو سبيل الشرق(الإسلاميّ) الذي يريد أن يتحرّر من استعمار الغرب وإذلاله وحرصه على أن يبقى متخلّفا. وقد اهتم البَهيّ اهتماماً خاصّاً بنقد الفكر المادّيّ المسيطر على فكر الغرب في مختلف أشكاله وصوره.

كلمات مفتاحيّة: المادّيّة المعاصرة – الفكر الهدّام – الإصلاح الدينيّ- الشالإصلاح معاصرة - الفكر رق الإسلاميّ- المذاهب الفكريّة.

وجَّه البَهِيّ سهام نقده للفكر الغربيّ عبر دعوته للاستقلال التام للأمّة الإسلاميّة سياسةً وفكرًا في كتابه القيِّم والمهمّ «الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ» الذي فصَّل فيه القول حول بيان السبيل لمن يحرص من أبناء الشرق الإسلاميّ على الاستقلال في الفكر والسياسة من مفكّري الإسلام وزعمائه السياسيّين. وهذا السبيل ليس هو سبيل الغرب الذي يدعونا إليه؛ لأنّ في سبيل الغرب قبول الاستعمار والمذلّة والدعوة إلى التخلّف والتبعيّة، وإنّما هو سبيل الشرق(الإسلاميّ) الذي يريد أن يتحرّر من استعمار الغرب وإذلاله وحرصه على أن يبقى متخلّفا. وقد اهتم البَهِيّ اهتمامًا خاصًا بنقد الفكر المادّيّ المسيطر على فكر الغرب في مختلف أشكاله وصوره. وقد كان هذا شغله الشاغل في كلّ كتبه ومؤلّفاته حتى تلك المؤلّفات التي انشغل فيها بتفسير القرآن الكريم راح يبيّن فيها أنّ الوحي المكّي قد حارب مادّيّة الفكر التي كانت تسيطر على عقول العرب المكّيّين. مرتئيًا أنَّ المادّيّة المعاصرة ما هي إلّا شكل آخر من أشكال المادّيّة لا يختلف في أساسه عن المادّيّة القديمة. مقررًا أنّ مواجهة الفكر الدخيل ومذاهبه الهدّامة هي ضرورة حتميّة لبقاء المجتمع الإسلاميّ مستقلًّا بأيديولوجيّته محافظًا على وحدته وقوّته.

وبالرغم من توجيه البهيّ سهام نقده إلى الفكر الغربيّ، إلّا أنّه كان حريصًا على ألّا يقع في الانغلاق الفكريّ والتقوقع حول الذات، فدعا الأمّة الإسلاميّة ألّا تغلق النوافذ تجاه الفكر المعاصر، كما لم تغلقها قديمًا دون الفكر الإغريقيّ أو الفارسيّ أو الهندّي أو الدينيّ المسيحيّ اليهوديّ، ولكن يجب أن تتريّث في قبوله ولا تتوانى في ردّه إن كان يحمل خطرًا يهدّد وجودها واستقلال ذاتيّتها كما فعلت بالأمس. ومن ثمّ كان قصده الأوّل هو تقويم هذا الفكر الوافد بهدف أن تبقى رسالة الله في بعدٍ عن صفة الإنسان؛ كي ترسم الطريق المستقيم لهداية الناس جميعًا، كما يُبقى الفكر الإنسانيّ مستقلًّا عن أن تشوبه عقيدة أو إيمان كي لا يُحجم الإنسان عن نقده وتقويمه. 

أوّلًا- حياته ومؤلّفاته
وُلد محمّد البَهِيّ في قرية «أسمانية»  التابعة لمركز «شبراخيت» بمحافظة البحيرة بمصر في الثالث من شهر أغسطس/آب من عام 1905م. حفظ القرآن الكريم في كُتَّاب قريته وهو في العاشرة، وأتمّ تجويده في دسوق في الحادية عشرة، ثمّ التحق عام 1917 بمعهد دسوق الدينيّ. وبعد ثلاث سنوات انتقل إلى معهد طنطا الدينيّ، ثمّ إلى معهد الإسكندريّة الدينيّ حيث حصل منه على الشهادة الثانويّة الأزهريّة، وكان ترتيبه الأوّل على طلاب الإسكندريّة والثامن على جميع المعاهد. وبعد ذلك تابع دراسته في الأزهر الشريف بالقاهرة. وحصل على شهادة العالميّة النظاميّة بعد أن تقدّم من الخارج مختصرًا بذلك المدّة الدراسيّة، وكان عدد المتقدّمين من الخارج 400 طالب نجح منهم أربعة فقط، كان هو الأوّل عليهم[2]. ثمّ التحق بقسم التخصّص في البلاغة والأدب، وأتمّ دراسته في هذا القسم وحصل على درجة التخصّص عام 1931، وكان البحث الذي تقدّم به للحصول على هذه الدرجة تحت عنوان» أثر الفكر الإغريقيّ في الأدب العربيّ نثرًا ونظمًا»[3]. 

وفي جمادى الأولى سنة 1353 هـ / سبتمبر 1931م سافر إلى ألمانيا لدراسة الفلسفة مبعوثًا من مجلس مديريّة البحيرة إحياءً لذكرى الشيخ محمّد عبده،  فحصل على دبلوم عال في اللغة الألمانيّة عام 1356 هـ / 1934م، كما حصل على الدكتوراه في الفلسفة والدراسات الإسلاميّة بتقدير ممتاز من جامعة هامبورج  عام 1358هـ/1936م وحملت أطروحته للدكتوراه عنوان «الشيخ محمّد عبده والتربية القوميّة في مصر”.

وبعد عودته إلى مصر اشتغل بتدريس الفلسفة في كلّيّة أصول الدين، ثمّ نقل عام 1950 إلى كلّيّة اللغة العربيّة أستاذًا ورئيسًا لقسم الفلسفة، وعمل بجانب التدريس مديرًا عامًّا للثقافة الإسلاميّة في الأزهر، ثمّ عُين أوّل مدير لجامعة الأزهر بعد صدور قانون تطوير الأزهر عام 1961. وفي سبتمبر 1962 عُيّن وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر. وفي مارس 1964 عُيّن مرّة أخرى مديرًا لجامعة الأزهر، فاستقال وعُيّن أستاذًا للفلسفة الإسلاميّة بكلّيّة الآداب جامعة القاهرة. وعندما بلغ الستين من عمره ترك التدريس وتفرّغ للكتابة والتأليف إلى أن وافته المنيّة في 10 سبتمبر 1982، وعمره سبعة وسبعون عامًا[4].

أمَّا عن أهم ّمؤلَّفاته فللدكتور محمد البَهِيّ إنتاج علميّ غزير ومتنوِّع، ومعظم هذا الإنتاج ألّفه في العشرين عامًا الأخيرة من حياته بعد أن ترك التدريس والمناصب العامّة وتفرّغ للتأليف، وقد بلغ عدد الكتب التي ألّفها 23 كتابًا، فضلًا عن عدد من الرسائل الصغيرة التي بلغت 22 رسالة. وقد قام الدكتور البَهِيّ بتفسير (23) سورة من سور القرآن الكريم، بالإضافة إلى تفسير (جزء عمَّ) كلّه. وأهمّ مؤلّفاته المبكرة في الفلسفة الإسلاميّة كتابه «الجانب الإلهيّ من التفكير الإسلاميّ» 1984. أمَّا الكتاب الذي كان سبب شهرته في العالمين العربيّ والإسلاميّ، فهو كتابه «الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ» 1957. ومن أهمّ مؤلفاته التي تَوالى صدورها منذ أواسط الستينات، ما يلي:

الدين والدولة من توجيه القرآن الكريم.
الفكر الإسلاميّ المعاصر.. مشكلات الحكم والتوجيه.
الفكر الإسلاميّ المعاصر.. مشكلات الأسرة والتكافل.
الإسلام ونظم الحكم المعاصرة.
الإسلام في الواقع الأيديولوجيّ المعاصر.
طبقية المجتمع الأوروبيّ وانعكاس آثارها على المجتمع الإسلاميّ المعاصر.
الجانب الإلهيّ من التفكير الإسلاميّ
منهج القرآن في تطوير المجتمع.
تهافت الفكر المادّيّ التاريخيّ.. بين النظرية والتطبيق
نحو القرآن
من مفاهيم القرآن في العقيدة والشريعة.
المجتمع الحضاريّ وتحدّياته من توجيه القرآن الكريم.
الإسلام في حياة المسلم.
غيوم تحجب الإسلام.
الإسلام ومواجهة المَذَاهِب الهدّامة.
التفرقة العنصريّة في الإسلام.
الإسلام في حلّ مشاكل المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة.
الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ.
الإخاء الدينيّ ومجمع الأديان وموقف الإسلام.
الدين والحضارة الإنسانية
رأي الدين بين السائل والمجيب في كلّ ما يهم المسلم المعاصر(أربعة أجزاء)

حياتي في رحاب الأزهر: طالبًا وأستاذًا ووزيرًا، سيرته الذاتيّة وقد كتبها قبل وفاته بعامين ولم تُنشر إلّا بعد وفاته. ويعدّ هذا الكتاب وثيقة مهمّة لتسجيل بعض الأحداث التي مرّت به ولها صلة ببعض التطوّرات السياسيّة والأحداث التي مرّت بالأزهر[5]. وقد عنيَ في معظم مؤلّفاته بنقد الفكر الغربيّ ومذاهبه الهدّامة.

ثانيًا- المقصود بالمَذَاهِب الهدّامة عند البَهِيّ
يقصد الدكتور البَهِيّ بالمَذَاهِب الهدّامة تلك المَذَاهِب الفكريّة التي ارتضاها الغرب لتبرير استخدامه الغاشم للقوّة التي طغى بها على مجتمعاتنا الإسلاميّة مستغلًّا ضعفها. وحرصًا منه على بقائها ضعيفة كي يستمرّ في استغلالها[6]. وبالرغم من أنّ البَهِيّ يطلق عليها مصطلح «مذاهبـ« إلّا أنّه يقرّر أنّها ليست مذاهب بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنَّما هي حِيَل وألاعيب تخفي وراءها أهواء ورغبات[7]. فهي إذن أنساق فكريّة تخفي وراءها مصالح خاصّة؛ تطمح إلى استغلال كلّ ما يمكنها استغلاله من طاقات بلاد الإسلام وإمكانيّاته وثرواته سواء أكانت طاقات بشريّة أو إمكانيّاّت اقتصاديّة تتمثّل في الثروات والمواد الأوّليّة الخام أو في تسويق منتجات الغرب الصناعيّة. فقد أقيم منذ عهد الاستعمار – كما يقول البَهِيّ – جسرًا بين بلاد المجتمع الصناعيّ وبين بلاد إفريقيا وآسيا لنقل ثروة المواد الخام إلى أوروبا الغربيّة، واستغلال المجهود البشريّ لسكّان هاتين القارّتين الرخيص في تقويمه وتكلفته لاستخراج هذه المواد وإعدادها للشحن والنقل. حتى تكدّست ثروة القارّتين الاقتصاديّة في أوروبا [8].  ولذلك عمل الغرب وعملاؤه على نشر تلك المَذَاهِب وترويجها بين الأمم الضعيفة لتبقى ضعيفة وتابعة تعاني الفقر والحرمان والمرض والتبعيّة الفكريّة المقيتة.

إذن فالغربيّون أنفسهم هم الذين يدفعون بهذه المذاهب الهدّامة إلى بلاد الشرق الإسلاميّ، ويدافعون عنها بينهم، ويجنّدون لها عملاء من أبناء هذه الأمم ليكونوا يدهم الطولى في نشر هذه المَذَاهِب بين الناس في المدارس والجامعات؛ لتظلّ واقعًا في حياة المجتمعات الإسلاميّة. ومن ثمّ رأى البَهِيّ أنّ مواجهة الفكر الدخيل أيًّا كان نوعه ومصدره هي ضرورة حتميّة لبقاء المجتمع الإسلاميّ مستقلًّا بأيديولوجيّته ومحافظًا على وحدته وقوّته[9].

ويرى الدكتور البَهِيّ أنَّ المَذَاهِب الهدّامة قامت ونشأت لتهدم فعلًا؛ لتهدم الدعوة إلى مؤازرة الضعفاء بعضهم بعضًا فيما بينهم على أساس من الإيمان بالله.. لتهدم سعي هؤلاء في سبيل التمكّن من الاستقلال ودفع التبعيّة والاستغلال بسبب الضعف، بعيدًا عن أنفسهم.. لتهدم محاولات هؤلاء أن يستقلّوا بإمكانيّاتهم الاقتصاديّة ومواردهم من المواد الأوّليّة.. لتهدم سيادتهم على أموالهم وطاقاتهم.. لتحول دون أن تكون لهم إرادة حقيقيّة وفعليّة في الإشراف على هذه الأموال، وفي التصرّف فيها[10]. وباختصار العمل على إضعاف المسلمين وإبقاء مجتمعاتهم ضعيفة.
وقد عَمَدَ الغرب إلى تفعيل هذه المَذَاهِب الهدّامة في حياة المسلمين ليتشربوا مبادئها وتصير جزءًا من فكرهم وعاداتهم وسلوكاتهم، فراح يعمل جاهدًا على نشر هذه المبادئ في التربية والتعليم، والتشريع، وفي الأسرة، والعلاقات بين الأفراد في المجتمعات الإسلاميّة عن طريق ما يسمى بتنظيم النسل، واقتباس شرع الناس بدلًا من شرع الله والاحتكام إليه في كلّ مناحي الحياة. وهو يهدف من وراء ذلك- كما سبقت الإشارة – إلى استغلال الطاقات البشريّة الرخيصة للمسلمين، والتصرّف بطريق مباشر أو غير مباشر في المواد الأوّليّة والإمكانيّات الاقتصاديّة التي وهبها الله للمسلمين في أرضهم وأوطانهم. وفي ذلك يقول الدكتور البَهِيّ: «وغرض أصحاب النزعة الاستعماريّة- كما نعرف جميعًا- إبعاد العرب عن أمجاد تاريخهم الماضي، وقطع صلتهم بالقيم وبالرسالة التي حملوها وأشاعوها بين البشريّة، وأسسوا بها حضارة عربيّة إسلاميّة أسهمت وما زالت تسهم حتى هذه اللحظة في البناء الحضاريّ المعاصر»[11].

 وقد حصر الدكتور البَهِيّ هذه المَذَاهِب الهدّامة في ستة مذاهب قام بشرحها وبيان خطورتها وكيفيّة التصدي لها، وجعل من هذا الهدف محورًا لكافّة مؤلّفاته، مرتئيًا أنّ هذه المَذَاهِب الهدّامة متشابكة ومتداخلة بعضها في بعض، وأنَّه من السهل أن يتعاون أصحاب المصلحة من الشرق والغرب على السواء في ترويجها ضد الإسلام. من أجل ذلك يرى البَهِيّ أنّ مواجهة هذه المَذَاهِب الهدّامة المتشابكة والمتداخلة لا بدّ أن تكون مواجهة كلّيّة لا مواجهة كلّ مذهب على حدة، وأنّ السبيل إلى هذه المواجهة الكلّيّة يكمن في التربية الإسلاميّة ورفع الوعي العربيّ والإسلاميّ بحقيقة هذه المذاهب الخبيثة.  

ثالثًا- نقد البَهِيّ للمذاهب الهدّامة
يرى البَهِيّ أن تلك المَذَاهِب الهدّامة توجّه كمعاول هدم ضدّ الإسلام في غفلة من أكثر المسلمين، وربما عن وعي لقلّة منهم.. وربما أيضًا بمعاونة قلّة تعي ما يُصنع للإسلام[12]. كما يرى أنّ القوى التي تقف وراء إشاعة المَذَاهِب الهدّامة في ربوع بلاد الإسلام تتوسّل إلى ذلك عبر آليّتين أساسيّتين؛  تتمثّل الأولى  في اختيار العملاء من أبناء المسلمين أنفسهم ومساعدتهم على تولّي الوظائف القياديّة في المجالات الحيويّة الحسّاسة، مثل التعليم، والإعلام، والثقافة، والروابط والشؤون الاجتماعيّة. أمّا الثانية فتتمثّل في عدم معارضة القوى الدوليّة الكبيرة فيما تسلكه هذه القوى من طرق قد يكون بينها ما هو عنيف ومدمّر لإضعاف هذا القطر أو ذاك من أقطار بلاد الإسلام. ويضرب البَهِيّ الأمثلة التي تدلّل على هذه الآلية باجتماع «يالطا» الذي تمّ بين الزعماء الذين عُرفوا بالثلاثة الكبار: الأميركيّ فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطانيّ ونستون تشرشل، والسوفييتيّ جوزيف ستالين، الذين اجتمعوا في منتجع «يالطا» السوفييتيّ المطلّ على البحر الأسود. للاتفاق على عدم معارضة أيًّا منهم في نهب ثروات العالم الإسلاميّ لتعويض خسائرهم المادّيّة الفادحة في الحرب العالميّة الثانية. كما كانت الحرب ضدّ باكستان الكبرى في ديسمبر 1970م باتفاقهم، وكان دخول السوفيت أفغانستان باتفاقهم أيضًا[13]. ويحصر البَهِيّ تلك المَذَاهِب الهدّامة التي سيتصدى لتفنيدها ونقدها في ستّة مذاهب هي: العلمانيّة، الماسونيّة، الصليبيّة العالميّة، الاستشراق، الإلحاد العلميّ، العلم والدين.

 في نقد العلمانيّة
يرى البَهِيّ أنَّ العلمانيّة هي فصل الدين عن التربية والتشريع معًا، وأنّها نبتٌ أوروبيّ محض، وهي تقف كطرف مقابل لكلّ ما هو دينيّ مقدّس. وإنها نشأت في -أساسها الأول- كرد فعل على تسلط الكنيسة الكاثوليكية الكهنوتية التي أمعنت في اضطهاد العلماء والمجددين التنويريين والوقوف بمثابة حجر عثرة في سبيل تقدم العلم، فكان لزامًا التخلص منها للانتقال من عصور الظلام إلى عصور الإحياء والتنوير والحداثة.

وهنا يرى البَهِيّ-على النقيض- أنّه لا مكان للعلمانيّة في البيئات الإسلاميّة، ويتوجّب رفضها؛ لأّنه ليس في  الإسلام  دولة دينيّة ولا سلطة مقدّسة، هذا فضلاً عن أنّ  الإسلام يرفض مفهوم رجل الدين والكهانة والكهنوت، ولم يشهد الإسلام على مدى عصوره أيّ مؤسّسات قمعيّة تقوم بقمع العلم ومحاربة العلماء والمجدّدين؛ ومن ثمّ فلا حاجة إليها في بلادنا على الإطلاق. كما يعد البَهِيّ الإسلام دين الحضارة الإنسانيّة، ودين الطبيعة البشريّة الذي لا يخلّف مشاكل لو اتبع، والذي يحلّ المشاكل القائمة إذا أُخذ به[14].

ويرى البَهِيّ أنَّ مفهوم العلمانيّة يؤول إلى الفصل بين سلطتين: إحداهما دينيّة (الكنيسة)، والأخرى دنيويّة (الدولة). أو ما بات يُعرف بالسلطة الروحيَّة والسلطة الزمنيَّة. حيث تمثّل السلطة الأولى سلطة الكنيسة وهي سلطة إلهيّة معصومة من الخطأ؛ لأنّ «بابا» الكنيسة عندما يُنَصب عليها تحلّ فيه «روح المسيح» وهو ابن الله في اعتقاد طائفة من المسيحيّين. بينما حكومة الدولة هي حكومة بشريّة تصيب وتخطئ، ومن ثمّ فلا عصمة لها. ومعنى الفصل بين السلطتين: أنّ كلّ سلطة لها حرّيّة التصرّف، ودون معارضة من السلطة الأخرى؛ فالكنيسة لها الرأي الأوّل في شؤون الأسرة: في التعميد، وفي الزواج، وفي الحكم بإلغاء الزواج، وفي الوفاة ومراسيمها. والدولة الزمنيَّة لها الحرية في: التعليم، والتشريع، والاقتصاد، وفي الشؤون السياسيّة وفي فرض الضرائب وجبايتها، وفي إعلان الحرب وقبول السلام..إلخ[15].

ثمّ يعقّب البَهِيّ بعد هذا العرض الموجز أنّ العلمانيّة لا تُطبّق على الوجه الأكمل في أوروبا، وأنَّ الفصل بين السلطتين لم يُطبق هناك إلّا بشكل ظاهريّ، فلم تزل الكنيسة ذات تأثير قويّ في الحياة السياسيّة الغربيّة عن طريق الأحزاب الديمقراطيّة المسيحيّة في العالم الكاثوليكيّ كلّه[16]. بل يقرّر أنّ سلطة الكنيسة قد أخضعت السلطة الزمنيَّة لها؛ فإذا كانت السلطة السياسيّة في أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة تأتي عن طريق التصويت الشعبيّ حسب مقتضيات النظام الديمقراطيّ؛ فإنّ الحزب السياسيّ الذي يستطيع التفوّق في معركة التصويت الشعبيّ هو الحزب الذي يبذل لتنفيذ اتجاه الكنيسة من الوعود والعهود أكثرها، إذا ما وصل إلى كرسيّ الحكم[17].

وقد فرض الغربُ العلمانيّةَ على البلاد الإسلاميّة منذ القرن التاسع عشر عندما استعمر معظم أقطارها. ولكن المستعمر الغربيّ –فيما يرى البَهِيّ- قد فرض علمانيّة أخرى بمفهوم مغاير ليس هو مفهوم الفصل بين السلطتين، ولكن بمفهوم مغاير هو «إبعاد الدين» عن الدولة؛ أي إبعاد الدين عن الحكم وشؤونه؛ إذ ليس في الإسلام مكان لسلطتين، ولا لحكومتين، فسلطة الحكم في الإسلام سلطة واحدة تعمل بكتاب الله وسنّة رسوله، وهي سلطة غير معصومة عن الخطأ؛ لأنّها سلطة بشريّة رغم استنادها إلى القرآن والسنّة الصحيحة[18].

ويرى البَهِيّ أنَّ الغرب يسعى لتوطين العلمانيّة (كمذهب هدَّام) في بلاد الإسلام، عن طريق ازدواج التعليم بين تعليم (دينيّ) وآخر (مدنيّ)، وازدواج أنظمة التقاضي ما بين شرعيّ وأهليّ أو مدنيّ كخطوة أولى، فتقام المحاكم المدنيَّة بجوار المحاكم الشرعيّة، ثمّ تدريجيًّا تتضاءل الثانية بجوار الأولى حتى تُلغى نهائيًّا، وهو ما حدث في مصر وتونس ومجتمعات إسلاميّة أخرى بالفعل. واستبعاد مقرّرات التربية الإسلاميّة من مناهج التعليم المدنيّ، وإلغاء الجامعات الدينيّة وتحويل مواد الدراسة فيها إلى كلّيّة تنشئها باسم كلّيّة الدراسات العربيّة والإسلاميّة تضاف إلى كلّيّات الجامعة المدنيّة أو العلمانيّة، وهو ما تمّ بالفعل في إلغاء جامعة البيضاء الإسلاميّة بليبيا وضمّ الدراسة فيها إلى جامعة بنغازي المدنيّة، وفي إلغاء جامعة الزيتونة وضمّ الدراسة فيها إلى جامعة تونس المدنيّة والعلمانيّة، وقد كانت هذه المحاولة في مصر بالنسبة للأزهر، ولكنّها لم تتم حتى الآن[19]. وهكذا يحرص الغرب- من منظور البَهِيّ- على استبدال فكر إنسانيّ انكشف ضعفه، وهواه وعصبيّته، وانتهى أجله واعتباره بالفكر الإسلاميّ الرفيع، كي يظلّ الشرق تابعًا يستورد ولا يخلق[20].

كما يلفت البَهِيّ الأنظار إلى أنّ العلمانيّة تفعل فعلها في هدم الهويّة الإسلاميّة فيما يتعلّق بقضيّة (تحرير المرأة)، ذلك الشعار الذي يحمل في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب؛ حيث يقوم التحرير على رفع «الحواجز» وتحرير المرأة في نفسها وفي وضعيّتها في المجتمع، بحيث لا يُبقى اعتبارًا للتفريق بين ما يسمى علاقة شرعيّة وما ليس بشرعيّ في علاقة المرأة بالرجل، وأن تفعل المرأة ما تشاء من تهتّك وانحلال دون وازعٍ من دين أو ضمير[21]. والحقيقة أنّ خدعة (تحرير المرأة) هذه انطلت على الكثير من المجتمعات الإسلاميّة التي انخدعت ببريق الدعوة المضلِّلة؛ إذ إنّها نجحت بالفعل في تحريم ما أحلّ الله في قضيّة تعدّد الزوجات كما حدث في تونس، أو تقييده بما يخرجه عن كونه (رخصة) ويجعله مصدر ضرر، وقيّدت ولاية الرجل على المرأة من حيث خروجها بدون إذنه، وخروجها للعمل مع غير المحارم واختلاطها بهم، بل وتولّيها رئاسة مؤسّسات كبرى في الدولة ولو كان هذا على حساب تماسك الأسرة أو رعاية الأولاد.

 في نقد الماسونيّة
الماسونيّة أو ما عُرف بحركة البنّائين الأحرار، هي جمعيّة سرّيّة يهوديّة الأصل تأسّست في لندن 1717م، وهي حركة ذائعة الانتشار، فبعد تأسيسها بقرنين من الزمان انتشرت انتشار النار في الهشيم، لا سيّما في فرنسا وبريطانيا وأميركا والهند، حتى صار عدد المحافل الماسونيّة في أميركا وحدها عام 1907 أكثر من خمسين محفلًا رئيسيًّا تتبعها آلاف المحافل الفرعيّة، في حين نشرت المخابرات الإيطاليّة سنة 1937 أنّها اكتشفت 36 ألف جمعيّة ماسونيّة حول العالم يتّبعها ملايين الناس.

 وقد زعم دعاة هذه الجمعيّة أنّهم يهدفون إلى تحقيق مبادئ ثلاثة هي: الحرّيّة والإخاء والمساواة[22]. ويؤكد الدكتور البَهِيّ على خضوع المحافل الماسونيّة للنفوذ اليهوديّ، وعلى سيطرة العقليّة اليهوديّة العالميّة على توجّهاتها؛ ولذلك كانت ممنوعة في ألمانيا على عهد الاشتراكيّة الوطنيّة[23]. ومما يؤكّد رأي الدكتور البهيّ هو أنّ اليهود يعتقدون أنّهم شعب الله المختار، وأنّهم الأذكى والأحسن، وأنّ الأمم الأخرى كالبهائم منها ما هو مُعدّ للذبح، ومنها ما هو مخلوق لخدمتهم؛ ولذلك كان الهدف الأصيل الذي تسعى إليه الماسونيّة هو التوصّل إلى تشكيل حكومة عالميّة، تضمّ كافّة سكّان الأرض، لا يدين أهلها بدين، أو حسب ما جاء في بيان المؤتمر الماسونيّ المنعقد بباريس عام 1900 «إنّ هدف الماسونيّة هو تكوين جمهوريّة لا دينيّة عالميّة» - لأنّهم كالبهائم  ليسوا أهلًا لحمل اليهوديّة كدين- يحكمها اليهود بشريعتهم[24].

لكن تبقى أهداف الماسونيّة المعلنة هي تحقيق: الحرّيّة، والإخاء، والمساواة. والتي يبدو أنّها تّتخذ عناوين رنّانة محبّبة إلى النفس، لكنّها في الحقيقة مبادئ مؤدلجة لها أهدافها الخبيثة؛ فالحرّيّة يُقصد بها في الجمعيّات الماسونيّة أن يتحرّر الناس من أديانهم، وأن يرتكب الإنسان ما شاء له هواه دون رادع أو زاجر، وأن يخالف كلّ ما تأمر به الشرائع، وأن تفعل المرأة ما شاءت من الزيغ والرجس والفساد والتهتّك والانحلال. كما أنّ مقصودهم من الإخاء هو محاربة روح التمسك بالدين، وأنَّه لا فرق بين يهوديّ ونصرانيّ ومسلم ومجوسيّ وبوذيّ وشيوعيّ؛ فالناس كلّهم إخوان، وعليهم أن يحاربوا أيّ استمساك بأيّ دين، ويصفون من يلتزم مبادئ دينه بأنَّه متعصّب مذموم. كما أنّ مقصودهم من المساواة هو ملء قلوب الفقراء بالحقد والضغينة ضد الأغنياء، وملء قلوب الأغنياء بالحقد والضغينة على الفقراء[25]
ولذلك تكمن وسائل الماسونيّة التي يُراد منها تحقيق أهدافها في: تجريد سكّان العالم من جميع قيمهم الدينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وتدمير كلّ الحكومات الشرعيّة، وإقامة حكومات انقلابيّة ثوريّة؛ لأنّ في ذلك تعطيلًا للقوانين ونشرًا للفوضى مما يعجّل بتحقيق الهدف الأسمى للماسونيّة. والإتيان بالماسونيّين إلى سدّة الحكم. وبثّ سموم الشقاق والنزاع داخل البلد الواحد وتمزيقه إلى فئات متناحرة، وإشاعة الحقد والبغضاء بين أبنائه حتى تتقوّض جميع مقوّمات المجتمع الدينيّة والأخلاقيّة والمادّيّة. وبثّ روح الصراع والفرقة بين الأمم[26].

وبناء على هذه الأهداف الخبيثة يضع البَهِيّ الماسونيّة على رأس المَذَاهِب الهدّامة، ويرى أن تحقيقها في بلاد الإسلام يتمّ عن طريق العملاء(الوطنيّين) الذين يتمّ  تجنيدهم لتحقيق الأهداف المرسومة لهم، حيث يتمّ وضعهم في مراكز القيادة في الاقتصاد بالذات، وفي التوجيه الإعلاميّ والسياسيّ، وبطرق غير مباشرة «يتوسّط» ممثّلو هؤلاء الأقوياء لدى بعض رجال الحكم، عند منح قروض أو مساعدات اقتصاديّة  لشأن من شؤون الدولة في ترقية بعض «المناسبين» من العملاء (الوطنيّين) في هذا المجال أو ذاك[27].

وهكذا بدت الماسونيّة عند البَهِيّ مذهبًا هدّامًا يهدف في المقام الأوّل إلى تحطيم روح الدين في نفوس أهله، ومساعدة كلّ حركة تساهم في تحقيق هذا الهدف، ومن ذلك مساندتها لنظريّة دارون في التطوّر والارتقاء لما تثيره من بلبلة ضدّ الأديان. وأنّ وسيلتها المُثلى لتحقيق أهدافها هي تمكين عملائها من الاستيلاء على المناصب الحسّاسة والمراكز المرموقة، والسيطرة على الأبواق الإعلاميّة والأقلام الصحفيّة الكبرى في العالم الإسلاميّ.

وهو الأمر الذي تصدّى له الدكتور البَهِيّ بكلّ قوّة؛ فالإسلام عند البَهِيّ هو المصدر الطبيعيّ لتوجيه الإنسان، فهو دين البشر والإنسانيّة، ولا انفكاك لمجتمع  يريد أن يحقّق إنسانيّته من الإسلام يميّزه إيمانًا ومنهجًا في الحياة[28]. فالإسلام – كما يُعرف من القرآن والسنة الصحيحة يتضمّن العقيدة والإيمان، كما يتضمّن التشريع، للتهذيب والمعاملات. وكلّ هذه الأنواع ليس بعضها متولّدًا عن بعض بصنعة إنسانيّة، وإنّما كلّها وحي منزل من لدن عليم خبير، فكلّها مجتمعة تهدف إلى غاية واحدة: إلى التوازن، إلى الاستقامة، إلى الاعتدال[29].

 فإذا كانت الغاية من الإسلام هي استقامة الإنسان في سلوكه، وفي تفكيره، وفي علاقته بالآخرين، فلا شك أنَّ الإنسان صاحب الإيمان الدينيّ وبالتالي لن يكون إسهام صاحب الاستقامة  في بناء الحضارة إسهامًا قويًّا فحسب، وإنّما إسهامًا حضاريًّا صافيًّا يعبّر عن الحضارة في أجلى صورها[30]. وهذا ما لا يريده أصحاب المَذَاهِب الهدّامة وعلى رأسها الماسونيّة تلك الأفعى الملعونة التي تتعدّد رؤوسها ووجوهها.

 في نقد الصليبيّة الدوليّة

ويعني البَهِيّ بمفهوم الصليبيّة العالميّة: عودة العالم المسيحيّ المعاصر عن طريق الدبلوماسيّة والأساليب الهادئة غير المباشرة إلى ممارسة الحروب الصليبيّة ضد الإسلام، انتقامًا منه، ومحاولة لإبقاء المسلمين ضعفاء[31]. مرتئيًا أنّ الروح الصليبيّة لم تزل حيّة في نفوس الغربيّين، ولم يزالوا يصدرون عنها في أحكامهم عن الإسلام والمسلمين.

كما يرى البَهِيّ أنَّ الفصل بين السلطتين الروحيَّة والزمنيَّة التي اقتضتها العلمانيّة لم يمنع الكنيسة من أن تمارس النشاط السياسيّ فيما بعد الفصل- وهو أخصّ نشاط تتميّز به الدولة- عن طريق الأحزاب الديمقراطيّة المسيحيّة، كما لم يمنع من جهة أخرى الدبلوماسيّة العلمانيّة للدول المسيحيّة المعاصرة من أن تباشر الدين، عن طريق خدمة الكنيسة وتوجيهها في المجتمعات الإسلاميّة العديدة.

وهنا يشكّك البَهِيّ في التطبيق الكامل لمبادئ العلمانيّة المزعومة في الغرب، ويرى أنّ العرب والمسلمين يخدعون أنفسهم إذا اعتقدوا –أو ظنّوا على الأقلّ-أنّ العلمانيّة في الدول الغربيّة حاجز ضدّ تدخّل الدين في سياسة هذه الدول-؛ إذ لم يتغّير أمر هذه الدول بعد الفصل بين السلطتين عمّا كان من قبل، إلّا في الأسلوب والوسيلة، وإنجلترا وتاجها هو «الحامي» للبروتستانت، وفرنسا هي الحامية للكثلكة، ومعهما الولايات المتحدة الأميركيّة، وهي الحامية للكنيستين، تؤدّي كلّ واحدة فيهما دور»الحماية» في كثير من اليقظة أو على وجه السرعة لدور الكنيسة، أيّ كنيسة، في العالم الخارجيّ[32]. ومما يدعم هذا الرأي استخدام الرئيس الأميركيّ الأسبق جورج بوش مصطلح «الحروب الصليبيّة» في حربه على الإرهاب عقب أحداث سبتمبر 2001.

ويرى البَهِيّ أن تطبيق مبادئ الصليبيّة الدوليّة في البلاد الإسلاميّة تتمّ بالطريقة نفسها التي تطبّق بها الماسونيّة، والمجالان: الاجتماعيّ والثقافيّ هما المفضّلان لدى الأقوياء أصحاب المصلحة في الدعوة إلى الصليبيّة الدوليّة في إسناد الوظائف ذات النفوذ أو ذات الرياسات العليا، إلى أوليائهم من العملاء (الوطنيّين). ومن جانب آخر يحاصر الأشخاص أصحاب الرأي المعارض أو الكاشف للصليبيّة الدوليّة في المجتمع الإسلاميّ في دوائر عملهم، بحيث لا يتجاوزونها..، وبحيث لا تسلّط عليهم الأضواء في الصحف ووسائل الإعلام، وبحيث لا يشاركون في نشاط خارجيّ عن دائرة عملهم الرسميّ، ولا يكلَّفون بمهام أخرى في مؤسّسات دوليّة، ولا يُقلَّدون أيّ وسام من حكوماتهم يشير إلى جدارتهم[33].

 في نقد الإلحاد العلميّ
الإلحاد العلميّ هو ذلك النوع من الإلحاد الذي يحاول أصحابه تبريره بواسطة الكشوف والنظريّات العلميّة كنظريّة التطوّر وقوانين الفيزياء الكمّيّة، واستخدام نتائج هذه النظريّات في إثبات إمّا عدم الحاجة إلى الإله أو نفي وجود الإله. وبالرغم من أن اعتراضات هذا الفريق، الذي يعتمد على نتائج العلم لتبرير إلحاده، لا تتجاوز ساحة الإشكال على الدين وليس على الذات الإلهيّة أو نفي وجود الإله[34]، مما يجعله إلحادًا قائمًا على قواعد هشّة سرعان ما تنهار أمام النقد أو التناول المنطقيّ. ويرى البَهِيّ أن مفهوم «الإلحاد العلميّ» مسألة رئيسة في الفلسفة الماركسيّة؛ تلك الفلسفة التي تقوم على الحماس والإثارة أكثر مما تقوم على الفكر والمنطق. فقد عملت على إثارة العامّة ضدّ الدين بإدّعاء أنّه مخدِّر للشعوب في صرفهم عن حقوقهم ضدّ مُلّاك الأرض الزراعيّة والمصانع، وضدّ أصحاب رؤوس الأموال. وقد تعمّدت الماركسيّة هدم النظام الاقتصاديّ القائم على الرأسماليّة بإدِّعاء تحقيق العدل الاجتماعيّ وإزالة الفوارق الاقتصاديّة والاجتماعيّة بين الطبقات.

وقد قام مفهوم «الإلحاد العلميّ» على أنّ العلم يثبت أنَّ الدين أمرٌ لا وجود له، فهو اختراع بشريّ اخترعه الأغنياء للسيطرة على الفقراء، وأنّ العلم يثبت عدم وجود الإله، ومن ثمّ فلا مجال للحديث عن رسل وأنبياء وشرائع؛ لأنّ ذلك كله ما هو إلّا أساطير اُبتِدعت لتسكين الكادحين والمحرومين عن مقاومة الإقطاعيّين والرأسماليّين، وعن طريق الدين اُستغلت الطبقة الكادحة سنين طويلة، وجريمة الدين ضد العدل الاجتماعيّ جريمة منكرة[35].

وهنا يتساءل البَهِيّ مستنكرًا: أي علم يثبت عدم وجود الله؟ وبالتالي أسطورة الوحي؟  أهو علم التجربة؟ وهل التجربة هي وحدها مصدر العلم؟ وإذا كان الأمر كذلك: هل التجربة مصدر علوم الرياضة، أم مصدرها العقل وحده؟ وإذا لم تكن التجربة هي المصدر الوحيد للعلم، كيف يحمل الإنسان على التزام ما لا يلزم، وهو الإيمان بعدم وجود الله؟ لينتهي البَهِيّ من تساؤلاته إلى القول إنّ الإلحاد العلميّ إدعاء زائف لا يسنده دليل[36].

ويرى البَهِيّ أنّ الإلحاد العلميّ يُطبق في المجتمعات الإسلاميّة بطرق متعدّدة أهمّها: الرقابة على النشر ضدّ كلّ ما ينقده ويبيّن تهافته؛ إمّا بمنع الرأي الآخر إذا تعرّض لنقد الإلحاد الماركسيّ، أو بالتضييق عليه وتسفيه آراء صاحبه، بحيث يفقد القيمة الذاتيّة لو نُشر. أو بتمكين المناصرين للإلحاد العلميّ من الوصول إلى منصب رقباء النشر أو المسؤولين عن الإعلام والثقافة.

 في نقد مفهوم الاستشراق
يعرف البَهِيّ الاستشراق بأنَّه بحوث ودراسات في قضايا التراث الإسلاميّ: في العقيدة، والفقه، والشريعة، والتاريخ السياسيّ.. في الإمامة والخلافة، والفلسفة، والاجتماع .. وغير ذلك من علوم ومعارف تتعلّق بالتراث الإسلاميّ، قام بها قساوسة ولاهوتيّون بتكليف من الكنيسة، أو من وزارات الخارجيّة للدول الغربيّة أو الشرقيّة على السواء لتحقيق أهداف دينيّة وسياسيّة دبلوماسيّة، وفي بعض الأحيان لأسباب تجاريّة أو شخصيّة مزاجيّة[37]. ويرى البهيّ أنّ ثمّة فريقًا من الناس دخلوا ميدان الاستشراق من باب البحث عن الرزق عندما ضاقت بهم سبل الرزق العاديّة، أو دخلوه هاربين عندما قعدت بهم إمكانيّتهم الفكريّة عن الوصول إلى مستوى العلماء في العلوم الأخرى، أو دخلوه تخلصًا من مسؤوليّاتهم الدينيّة المباشرة في مجتمعاتهم المسيحيّة[38].

ويدَّعي معظم المستشرقين التزامهم بمناهج البحث العلميّة، وأنّهم بعيدون عن كلّ تحيّز وهوى، ومعظمهم أبعد ما يكون من ذلك، وقد يدرسون قضايا أدبيّة أو لغويّة في العربيّة إمّا للتمويه، أو للإبراز فقط.. ينتقلون منها إلى إدعاء شيء معيّن. كمشروع كتابة العربيّة بالأحرف اللاتينيّة، ادعاءً لتيسير النطق بالعربيّة وتخفيف الحركات الإعرابيّة. ثم دخل الاستشراق الآن من ليسوا قساوسة ولا لاهوتيّين، وإنّما متخرّجون في الجامعات ومسيّرون في بحثهم طبقًا لمنهج الاستشراق العامّ[39].

يرى البَهِيّ أنّ الاستشراق هو أبرز المجالات لتمكين الصليبيّة الدوليّة؛ حيث إنّه ينتهي إلى نتائج غير صحيحة، إمّا نتيجة سوء فهم باللغة العربيّة والتراث العربيّ. أو أن تكون نتائجه هذه مقصودة بغرض التحريف في مبادئ العقيدة، وبالأخص ما يقع في دائرة ما يختلف فيه القرآن عن التوراة والإنجيل[40]. مقرّرًا أنّ جلّ ادعاءات المشتشرقين لا تخرج عن كونها صياغة حديثة لما كان يدّعيه مشركو مكّة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم، التي كانت ادعاءاتهم نتيجة لاعتقادهم في الشرك والوثنيّة. أو الاعتماد على روايات مكذوبة أو تأويلات غير سليمة للنصوص.

حيث يقرّر البَهِيّ أنّ عمل المستشرقين ينطوي على نزعتين رئيسيتين: النزعة الأولى: تمكين الاستعمار الغربيّ في البلاد الإسلاميّة، وتمهيد النفوس بين سكان تلك البلاد لقبول النفوذ الأوروبيّ والرضا بولايته. أمَّا النزعة الثانية: الروح الصليبيّة في دراسة الإسلام، تلك النزعة التي لبست ثوب البحث العلميّ، وخدمة الغاية الإنسانيّة المشتركة[41].

وتتجلّى مظاهر النزعة الأولى في إضعاف القيم الإسلاميّة الدينيّة عن طريق شرح تعاليم الإسلام ومبادئه شرحًا يضعف في المسلم تمسّكه بالإسلام، ويقوّي في نفسه الشكّ فيه كدين؛ أو على الأقل كمنهج سلوكيّ يتّفق وطبيعة الحياة القائمة[42]. كما تتجلّى مظاهر هذه النزعة في تمجيد القيم الغربيّة المسيحيّة من خلال إبراز التفوّق الغربيّ، وزيادة الدخل الخاصّ والعامّ الناشئ عن هذا التفوق؛ تلك الزيادة التي ترتّب عليها رفع مستوى المعيشة وتيسير أمر الحياة الإنسانيّة لدى الغربيّين[43]. وهنا يؤكد البَهِيّ أنّه لا صلة بين التقدّم العلميّ المادّيّ وبين المسيحيّة كدين إلّا أنّ المباشر لهذه الحضارة يعتنق المسيحيّة وينتسب إلى الشعوب المسيحيّة!! وليست المسيحيّة دينًا للحضارة الإنسانيّة، وإنّما هي دين للسلوك الفرديّ في الحياة الإنسانيّة[44]. بعكس الإسلام الذي يدعو إلى تلقّي العلم من المهد إلى اللحد. وأنّ تخلّف المسلمين ليس نتيجة لتخلّف مبادئ الإسلام، ولكن لقصور المسلمين وعدم حرصهم على طلبه على الوجه الأكمل.

كما تتجلّى مظاهر النزعة الثانية في كتابات المستشرقين التي لا تنبئ فحسب عن ميل لإضعاف المسلمين، بل تنمّ عن حقد على المسلمين، وعن سخرية وتهكّم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسالته الإلهيّة؛ إذ يرى البَهِيّ أنّ أساس الاستشراق قام على أنّ الإسلام من صنع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالإسلام دين بشريّ! وعلى أنّ الرسول لفّق فيه من المسيحيّة واليهوديّة، وأنّه حرَّف في نقله تعاليم هاتين الديانتين: إمَّا لأنّه لم يستطع فهمها كما يذكرون. وإمّا لأنّ نفسه لم ترتفع إلى مستوى عيسى حتى يتصوّره على حقيقته؛ ولذلك أنكر محمّد على عيسى أنّه ابن الإله، وبالتالي أنكر التثليث، وتشبّث بالتوحيد وبشريّة الرسول!! نعم قام الاستشراق على مثل هذا الأساس، ولكن المستشرقين يختلفون فيما بينهم في تصوير آرائهم، وفي تقرير شروحهم لمبادئ الإسلام. وأشدّهم حِدة وعاطفة وهوى جامحًا، وبعدًا عن أدب الكتابة، فضلًا عن البعد عن الأسلوب العلميّ في الدراسة والحكمة مستشرقو فرنسا، ومستشرقو الكثلكة على العموم في أوروبا وأميركا[45].

كما ينتقد البَهِيّ تلك الثقة التي لاقتها بحوث المستشرقين في الأوساط الأكاديميّة والعلميّة الإسلاميّة، ويرجع هذه الثقة إلى الصورة العامّة المنظّمة التي يتّبعها المستشرقون في التبويب والتصنيف والإخراج، وبما شاع عن الغربيّين في بلاد الإسلام أنهم أهل حضارة وقادة في الثقافة والعلم، وبحوثهم غاية في الجودة والدقة. ونتيجة الفراغ في التأليف الإسلاميّ والعربيّ من المسلمين أنفسهم.

ويُفَعَّل الاستشراق في البلدان الإسلاميّة عبر آليّات مختلفة أهمّها دفع النابغين في الجامعات الإسلاميّة إلى كبار المستشرقين في الجامعات الأوروبيّة والأميركيّة لتوجيههم وتأهيلهم أكاديميًّا بحيث يتشربون كلّ ادعاءات المستشرقين التي يكون حصولهم على المؤهّل الأكاديميّ رهنًا بقبولهم لهذه الشبهات وتبنّيها في بحوثهم وكتاباتهم. ومن ثمّ يشيعونها في جامعاتنا الإسلاميّة، ويقع شبابنا تحت تأثير «عقدة الخواجة» التي تفعل فعلها في نفوس الشباب المسلم.

 في نقد مقولة « تناقض العلم والدين»
يرى البَهِيّ أنّ مفهوم العلم لا يعني مطلق المعرفة، وإنّما يعني المعرفة التي يتمّ الحصول عليها عن طريق الملاحظة والتجربة. بينما الدين هو مجموعة المعارف الغيبيّة التي لا تخضع للبحث التجريبيّ الحسّيّ؛ لذلك يرى دعاة هذه المقولة المشبوهة الهدّامة أنّه لا يمكن الوثوق بما يتمّ التوصّل إليه عبر كلّ علم لا يخضع للملاحظة الحسّيّة والتجربة المعمليّة.

وهكذا يتمّ إعلان الخصومة بين العلم والدين على حساب الدين بدعوى أنّه عودة إلى الأساطير والخرافات التي كان يقوم عليها الكهانات، ومن ثمّ تتمّ المطالبة بإبعاد الدين عن جوانب الحياة الإنسانيّة حفاظًا على حُسن توجيه الإنسان كما يدَّعون، وهم بذلك يقلّلون من شأن الدين ويدفعون المتديّنين إلى الشكّ في قيمة التديّن. ومن هذه النقطة تُفتح النافذة على «العالميّة».. وتضعف الحدود التي تفصل -باسم الدين-مجموعة من البشر عن مجموعة أخرى. وهو هدف الماسونيّة الأكبر؛ لأنّ الدين الحقّ هو أكبر عائق في سبيل الماسونيّة؛ حيث إنّ الدين يدعو إلى الإيمان بالله الخالق، ربّ العالمين، الذي يدعو إلى التعاون على البرّ والتقوى، وإلى ما فيه خير الناس جميعًا، وإلى الأخوّة الإنسانيّة. الأمر الذي ينجم عنه ازدهار الحياة الإنسانيّة ونماؤها[46].

ومن ثمّ يرى البَهِيّ تهافت هذا الرأي الذي يرى أنّ ثمّة خصومة بين الدين والعلم؛ لأنّه إذا كانت التطوّرات العلميّة المتلاحقة تكشف عن سقوط اليقين عن نتائج العلم التجريبيّ؛ فإنّه ليس هناك حجّة تفضيليّة تفضِّل نتائج العلم التجريبيّ بوصفه علمًا تجريبيًّا على العلم الغيبيّ الذي يقدّمه الدين بوصفه يفتقد إلى اليقين. ومن ثمّ يكون الفرق هيّنًا – أو لا يوجد فرق على الإطلاق- بين العلم التجريبيّ والعلم الغيبيّ .. وعلى ذلك تكون الخصومة بين العلم والدين هي خصومة مزعومة تقوم على «التحيّز»  و«الهوى» وليس على أسس حقيقيّة.

ويرى الدكتور البَهِيّ أنّ العمل على نشر هذه الخصومة بين الدين والعلم في المجتمعات الإسلاميّة يتمّ عن طريق بعض الأساتذة في الكلّيّات الجامعيّة في الوطن العربيّ والإسلاميّ، تلك الفئة من الأساتذة التي يتمّ شراؤها بالمال أو بسائر الإغراءات الأخرى؛ ويحث هؤلاء الأساتذة شباب الجامعات على قبول الشكّ في الإسلام وتصويره على أنّه دين لا يحوي إلّا على مجموعة من الأساطير التي لا تستند إلى دليل علميّ، وما دام العلم هو لغة العصر، فإنّ الحقيقة هي ما يقرّها العلم، أمّا ما يرفضه العلم الحسّيّ التجريبيّ فلا مفرّ من رفضه.

ويرى البَهِيّ أنّ هذا التشكيك في الدين يمثل اهتزازًا في مستقبل المجتمعات الإسلاميّة، وضعفًا في الأمّة الإسلاميّة، وتفريقًا للشباب نفسه بين مؤمن ومعارض للإيمان أو بين يمينيّ ويساريّ، حيث يعدّ ذلك بمثابة أخطبوط غريب داخل المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة لمساعدة الداعين من الأساتذة العملاء إلى عداوة العلم للإسلام في محاضراتهم الجامعيّة. ورغم أنّ هؤلاء الأساتذة قلّة، لكن نجد أنّه كثيرًا ما توجه إليهم الدعوات من المحطات التلفزيونيّة ومن بعض الجامعات الإسلاميّة في شتّى بقاع العالم الإسلاميّ، وإلى الكتابة في الصحف والمجلّات العربيّة والإسلاميّة بمكافآت سخيّة وبصفة منتظمة[47].

ولذلك لم يفت البَهِيّ أن يلفت الأنظار إلى تهافت هذه الدعوة المضلّلة التي تشير إلى وجود خصومة بين العلم والدين، وخاصّة في ظلذ الدين الإسلاميّ الذي دعا إلى العلم مع أوّل آياته نزولًا، حيث يؤكّد البهيّ مرارًا على أنّ العلم هو سبيل الإنسان للاستفادة مما أودعه الله في هذا الكون من نعم وخيرات، فـ»الإنسان لا يتمكّن مما خُلق وسُخّر له في عالمنا من الموجودات الأخرى، إلّا إذا وقف على أسرارها ووصل في كشفها إلى معرفة القوانين التي تحكمها»[48].

ولا يمكن أن يتسنّى للإنسان الوقوف على أسرار الكون إلّا بالعلم التجريبيّ الحديث الذي يقوم على أسس من القوانين التجريبيّة التي استخلصها العلماء بالاستعانة بما أقاموه من معامل وما اخترعوه من وسائل مُعِينة؛ ولذلك أوجب الإسلام على الإنسان أن يهتمّ بالعلم والمعرفة، لا ليدرك ربّه فحسب فيؤمن به ويعبده في قدسيّته وجلاله، ولكن لينتفع بما سخّر له في كونه، وآيات القرآن التي تحث المسلم على ذلك كثيرة ومتنوعة. فالإنسان الذي يعطل خصائصه البشريّة فلا يدرك كرامته، وإن أدركها لا يسعى إلى تحقيق سيادته عن طريق العلم والكشف هو إنسان ملوم في نظر الإسلام؛ إذ يقول الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) (السجدة:9). فالإنسان يكون مقصّرًا في استخدام ما وُهِبَ من وسائل العلم، وبالتالي يكون قليل الشكر للمولى جلّ شأنه، إذا تكاسل عن متابعة التطوّر في العلم التجريبيّ، وهو العلم الحديث؛ لأنّه بوقوفه فيه عند مرحلة معيّنة من مراحل تطوّره يكون قد قضى على نفسه بالتزام نتائج ربما يكشف الغد عن وهن فيها، أو يأتي بما هو أدقّ وأقدر على التحكّم في خصائص الطبيعة واستخدامها عما كان له من قبل. والخير كلّ الخير أن يكون الإنسان في غده أكثر تمكّنًا وأقوى سيادة منه في أمسه[49].

فتكريم الإنسان يساوي تمكينه من السيادة على ما في الكون، وبالأخصّ على ما في عالمه الأرضيّ، والعلم التجريبيّ هو أحد أهمّ مصادر التمكين، فإذا ما عجز الإنسان وتكاسل وتخاذل عن طلبه وتحصيله يكون قد تسبّب في ضياع سيادته وتهاون في كرامته. وبذلك يبرهن البَهِيّ على تهافت هذه القضية التي تقر بوجود خصومة مطلقة بين العلم والدين.



خاتمة
وهكذا ينتهي هذا البحث الذي تناول نقد الدكتور محمّد البهيّ للمذاهب الغربيّة الهدّامة إلى مجموعة من النتائج المهمّة، كان منها:

أوّلًا- إنّ المَذَاهِب الهدّامة من منظور الدكتور البَهِيّ هي مذاهب لها أهداف محدّدة أهمّها إبقاء المجتمعات الإسلاميّة ضعيفة ومهلهلة وممزقة لتظلّ في تبعيّة دائمة للغرب، ويظلّ الغرب مستوليًا على ثرواتها الاقتصاديّة ومواردها الطبيعيّة.

ثانيًا: إن هذه المَذَاهِب الهدّامة هي اتجاهات متشابكة ومتداخلة، ومن السهل أن يتعاون أصحاب المصلحة في ترويجها ضد الإسلام. ومن هنا كان « الوفاق» بين قمّة القوّة الإلحاديّة، وقمّة القوّة الصليبيّة الدوليّة أمرًا ميسّرًا؛ فسيطرة الشيوعيّة الدوليّة على مجتمع إسلاميّ ما، قد تكون مقبولة في نظر القوة الصليبيّة لفترة تطول أو تقصر حسب النتائج التي تظهر من ترويج الإلحاد العلميّ فيه، وقد تكون باتفاق الطرفين؛ ونفوذ القوّة الصليبيّة في مجتمع إسلاميّ ما قد تباركه القوّة الإلحاديّة العالميّة طالما الإسلام تحت هذه النفوذ في طريقه للضعف. وبناء عليه لم يكن من السهل مواجهة هذه المَذَاهِب كلّ على حدة، ولكن يجب مواجهتها مواجهة شاملة ككلّ لا يتجزّأ. ويرى الدكتور البهيّ أنّ الحلّ يكمن في التربية الإسلاميّة للفرد المسلم التي تعمل على يقظة المسلمين وأجيالهم الصاعدة وتوعيتهم على كلّ ما يحاك لهم بليل من أجل إضعافهم، وتأكيد الوعي اليقظ المطعم بقوة العقيدة مع التربية النوعية التي تؤهّلهم للمهن والحرف المختلفة.

ثالثًا: أكّد البَهِيّ على ضرورة أن يلعب الإعلام الإسلاميّ دورًا بارزًا لتفادي هذه المَذَاهِب الهدّامة، منها: أن يواجه هذه المَذَاهِب الهدّامة بأسلوب علميّ موثّق، ونقضها نقضًا منهجيًّا من خلال محاورة كبار الأكاديميّين ذوي الاتجاهات الإسلاميّة المستنيرة، واستكتابهم في مشاريع علميّة تُنشر بحوثها على إطار واسع في العالم العربيّ والإسلاميّ.

رابعًا:  رأى البهيّ ضرورة أن تهتمّ البلاد الإسلاميّة بالعمل على وضع منهج للتربية الأساسيّة للفرد المسلم في جميع مراحل التعليم، بما فيها مرحلة التعليم الجامعيّ، وبالأخصّ في دراسة كلّيّات التربية. على أن يكون هدف هذا المنهج هو إعداد «الصلاحية» و«الأهليّة» لدى الفرد المسلم لأداء الواجب في ظلّ رقابة ذاتيّة، وفي خشية من الله لأداء وظيفته في المجتمع التي تؤهّله لها تربيته النوعيّة في المهنة أو الحرفة.

لائحة المصادر والمراجع
محمّد البهِيّ، حياتي في رحاب الأزهر..طالب ..وأستاذ .. ووزير، القاهرة، مكتبة وهبة، د.ت.
محمّد البهيّ، المبشّرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام، الإدارة العامّة للثقافة الإسلاميّة- الجامع الأزهر، مطبعة الأزهر، د. ت.
محمّد البهِيّ، الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة، 1964.
محمّد البهيّ، الإسلام في الواقع الإيديولوجيّ المعاصر، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1970.
محمّد البهِيّ، تهافت الفكر المادّيّ التاريخيّ بين النظريّة والتطبيق، القاهرة ، مكتبة وهبة ، الطبعة الثالثة، 1975.
محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، القاهرة ، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1981.
محمّد البهِيّ، الجانب الإلهيّ من التفكير الإسلاميّ، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة السادسة، 1982.
محمّد البهِيّ، طبقيّة المجتمع الأوروبيّ وانعكاس آثارها على المجتمع الإسلاميّ المعاصر، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية، 1982.
محمّد البهِي، الدين والحضارة الإنسانيّة، الجزء الأوّل، إصدار خاصّ لهيئة كبار العلماء(8)، هديّة مجلّة الأزهر لشهر ربيع الأول 1437هـ- ديسمبر 2015/ يناير 2016.
محمّد البهِي، الدين والحضارة الإنسانيّة، الجزء الثاني، إصدار خاصّ لهيئة كبار العلماء(9)، هديّة مجلّة الأزهر لشهر ربيع الآخر 1437هـ- يناير 2016/ فبراير 2017.
محمّد البهِي، الدين والحضارة الإنسانية، الجزء الثالث، إصدار خاص لهيئة كبار العلماء(10)، هديّة مجلّة الأزهر لشهر جمادى الأولى 1437هـ- فبراير / مارس 2017.
عبدالقادر شيبة الحمد،  أضواء على المذاهب الهدّامة، الرياض، 1433هـ.
علي حمزة زكريا، أنواع الإلحاد– نظرة مجملة، كتاب إلكترونيّ منشور على الرابط التالي: http://alfeker.net/library.php?id=3799       
محمّد أبو الغيط الفرت، محمّد روّاس قلعة جي، العقيدة الإسلاميّة في مواجهة المذاهب الهدّامة، القاهرة، دار البحوث العلميّة، الطبعة الأولي، 1983.
محمود حمدي زقزوق، من أعلام الفكر الإسلاميّ الحديث، القاهرة، سلسلة دراسات إسلاميّة العدد(152)، وزارة الأوقاف- المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، 1429هـ/2008.

--------------------------------
[1]*ـ أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة المشارك بكلّيّة الآداب جامعة بني سويف- جمهوريّة مصر العربيّة
[2]- محمد البهِيّ، حياتي في رحاب الأزهر..طالب ..وأستاذ .. ووزير، القاهرة، مكتبة وهبة، د.ت، ص5.
[3]-  محمود حمدي زقزوق، من أعلام الفكر الإسلاميّ الحديث، القاهرة، سلسلة دراسات إسلاميّة العدد(152)، وزارة الأوقاف- المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، 1429ه/2008، ص 97.
[4]-  محمود حمدي زقزوق، من أعلام الفكر الإسلاميّ الحديث، ص 98.
[5]-  محمود حمدي زقزوق، من أعلام الفكر الإسلاميّ الحديث، ص 99.
[6]-  محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1981، ص4.
[7]-  المصدر السابق، ص4.
[8]- محمّد البهِي، تهافت الفكر المادّيّ التاريخي بين النظريّة والتطبيق، القاهرة ، مكتبة وهبة ، الطبعة الثالثة، 1975، ص18.
[9]-  محمّد البهِي، الجانب الإلهي من التفكير الإسلاميّ، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة السادسة، 1982، ص5.
[10]-  محمّد البهِي، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة ، ص4.
[11]-  محمّد البهِيّ، الدين والحضارة الإنسانيّة، الجزء الأوّل، إصدار خاصّ لهيئة كبار العلماء(8)، هديّة مجلّة الأزهر لشهر ربيع الأول 1437هـ- ديسمبر 2015/ يناير 2016، ص 90.
[12]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة ، ص9.
[13]- محمّد البهِيّ، المصدر السابق، ص14.
[14]- محمّد البهِيّ، طبقية المجتمع الأوروبيّ وانعكاس آثارها على المجتمع الإسلاميّ المعاصر، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية، 1982، ص77.
[15]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص15.
[16]- محمّد البهيّ، المصدر السابق، ص16.
[17]-  محمّد البهِيّ، الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة، 1964،  ص245.
[18]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص16.
[19]- المصدر السابق، ص17.
[20]-  محمّد البهي، الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، ص267.
[21]-  المصدر السابق، ص373.
[22]- عبدالقادر شيبة الحمد،  أضواء على المذاهب الهدّامة، الرياض، 1433ه ، ص11.
[23]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص19.
[24]-  محمّد أبو الغيط الفرت، محمّد رواس قلعة جي، العقيدة الإسلاميّة في مواجهة المذاهب الهدّامة، القاهرة، دار البحوث العلميّة، الطبعة الأولي، 1983، ص385.
[25]- عبدالقادر شيبة الحمد، أضواء على المذاهب الهدّامة، ص12.
[26]-  محمّد أبو الغيط الفرت، محمد رواس قلعة جي، العقيدة الإسلاميّة في مواجهة المذاهب الهدّامة، ص386-388.
[27]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص22.
[28]-  محمّد البهِيّ، الدين والحضارة الإنسانيّة، الجزء الثالث، إصدار خاص لهيئة كبار العلماء(10)، هدية مجلّة الأزهر لشهر جمادى الأولى 1437هـ- فبراير / مارس 2017، ص 18.
[29]-  المصدر السابق، ص48.
[30]-  المصدر السابق، ص34.
[31]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص22.
[32]- المصدر السابق، ص23.
[33]- المصدر السابق، ص24.
[34]- على حمزة زكريا، أنواع الإلحاد – نظرة مجملة، ص 8-10، كتاب إلكترونيّ تمّ الإطلاع عليه في يوم 23/1/2022- على الرابط التالي:
 http://alfeker.net/library.php?id=3799
[35]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص28.
[36]- المصدر السابق، ص28.
[37]- محمّد البهيّ، الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، ص523.
[38]- محمّد البهيّ، المبشّرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام، الإدارة العامّة للثقافة الإسلاميّة- الجامع الأزهر، مطبعة الأزهر، د. ت، ص12.
[39]- محمّد البهيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص30.
[40]- المصدر السابق، ص30.
[41]- محمّد البهِيّ، الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، ص39.
[42]-  المصدر السابق، ص39.
[43]-  محمّد البهِيّ، الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربيّ، ص50.
[44]-  المصدر السابق، ص51.
[45]-  المصدر السابق، ص52.
[46]-  محمد البهيّ،الإسلام في الواقع الإيديولوجيّ المعاصر، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1970، ص123-124.
[47]- محمّد البهِيّ، الإسلام ومواجهة المذاهب الهدّامة، ص37.
[48]-  محمّد البهِيّ، الدين والحضارة الإنسانيّة، الجزء الثاني، إصدار خاصّ لهيئة كبار العلماء(9)، هدية مجلّة الأزهر لشهر ربيع الآخر 1437هـ- يناير 2016/ فبراير 2017، ص 80.
[49]-  محمّد البهِيّ، الدين والحضارة الإنسانيّة، الجزء الثاني، إصدار خاصّ لهيئة كبار العلماء(9)، هدية مجلّة الأزهر لشهر ربيع الآخر 1437هـ- يناير 2016/ فبراير 2017، ص83.