الباحث : سامر توفيق عجمي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 27
السنة : ربيع - صيف 2022م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث : November / 12 / 2022
عدد زيارات البحث : 3178
الدارونيّة أو التطوّريّة، من الفلسفات الغربيّة التي شكّلت تحديًّا علميًّا أمام العقل الدينيّ لجهة معارضتها النصوص الوحيانيّة في الخلق، وربطها بالإلحاد بذريعة استغناء الطبيعة عن الإله، وقد نهض مجموعة من اللاهوتيّين لنقدها، كالأفغاني، الحورانيّ، الجسر، الزنجانيّ... ومن أهمّ التجارب النقديّة الأولى مشروع أبي المجد الأصفهانيّ في كتابه «نقد فلسفة دارون-1911هـ. ش». حول دوافع مشروعه النقديّ يصرّح الأصفهاني بأنّها تكمن في: إثبات الصانع الحكيم، الدفاع عن مطلق الدين، إنكار الملازمة بين صحّة فرضيّة دارون والإلحاد، نفي تعارض العلم والدين، مستخدمًا في ذلك المنهجيّة القائمة على أساس الموازين العلميّة والعدالة النقديّة، محلّلًا طبيعة شبهات الفلسفة الغربيّة الحديثة بأنّها مبنيّة على التجريبيّات، وعلى اصطلاحات تسهل معرفتها، وأنّها دخلت بلاد الإسلام من موقع تمتّع الغرب بالقوّة والتمدّن، فوُصِف المتشبّه به بـ«المتمدّن» و«المتنوّر»، وغيره بـ«الوحشيّ»، وهنا تكمن الخطورة التي تمنح النقد والردّ على الشبهات قيمة مضافة، باعتبار أنّه ليس كلّ ما يصدر عن الغرب فوق النقد. مركّزًا على ضرورة التزام المنهج العلميّ التجريبيّ بحدود دراسة الطبيعة وعدم تجاوزها إلى ما ورائها من الغيبيّات، الذي هو ميدان اختصاص المعرفتين الفلسفيّة والدينيّة، مناقشًا المنهج العلميّ في ظنيّة الاستقراء وقابليّته للتكذيب، مبرهنًا على ثبات الحقائق الدينيّة اليقينيّة بنحو لا تعارض القضايا العلميّة اليقينيّة ولا تعارضها المعطيات العلميّة التخمينيّة، واصفًا فرضيّة دارون بأنّها مجرّد احتمال لا يرقى إلى مرتبة الحقيقة العلميّة؛ لعدم تأييد الشواهد والقرائن الحسّيّة لها، فهي مخطئة في تطوّريّة الإنسان من كائنات حيّة وحيوانات أخرى، بل الإنسان نوع مستقلّ خلق بالإبداع من تراب، مسجّلًا أنّه على فرض صحّة الدارونيّة فإنّها لا تستلزم نفي وجود الخالق، مستشهدًا بآراء دارون نفسه، ولامارك ووالاس وهكسلي وسبنسر، بل التطوّرية تمكّننا من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بنحو أكبر لحاجة الأحياء في نشوئها وارتقائها وتكيّفها وبقائها... المتجه بها نحو القصدية والغائية إلى إشرافه وعنايته.
* * *
كلمات مفتاحيّة: الداروينيّة- الإلحاد- العلم – الدين – التطوّريّة – نظريّة الخلق.
تمهيد
استفزت رؤية دارون منذ بداياتها مطلقَ العقلَ الدينيّ من حيث بروز تعارضها مع ما هو معلوم الثبوت في نصوص الكتب الوحيانيّة من إبداع خلق الإنسان من تراب -كما ورد في العهد القديم (سفر التكوين، 2/ 7): «وجبل الربُّ الإلهُ آدمَ ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حيّةً». وفي القرآن الكريم (سورة ص: 71-72): ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي..﴾- التي اصطُلح عليها «نظريّة الخلق» مقابل «نظريّة التطوّر». وزاد في الطين بلّة أن استقبلت الاتجاهات المادّيّة والإلحاديّة واللاأدريّة والماركسيّة... كتاب دارون بحفاوة، موظّفةً رؤيته في استغناء المادّة عن الخالق في اكتساب التنوّع الأحيائيّ، مستغلّة لها في بروباغندا التناقض بين الدين والعلم التجريبيّ. في هذا المناخ، وانطلاقًا من الباعث الدينيّ، أبصرت النور مجموعة تجارب في نقد الدارونيّة، مثل: جمال الدين الأفغانيّ 1838-1897م في «رسالة الرد على الدهريّين»، مهدي بن محمد النجفي الأصفهانيّ (و. 1298هـ) في كتابه المرتفق، إبراهيم بن عيسى الحورانيّ 1844-1916م، في كتابيه: «مناهج الحكماء في النشوء والارتقاء» الصادر في بيروت 1884م، و«الحقّ اليقين في الردّ على بطل داروين» الصادر عام 1886م، حسين الجسر 1845-1909م في كتابه الرسالة الحميديّة المنشورة سنة 1888م، عبد الكريم الزنجانيّ 1887-1968م في «دروس الفلسفة»، مصطفى صبري 1869-1954 في كتابه «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين»، وأبو المجد محمّد رضا النجفيّ الأصفهانيّ 1861-1943م في كتابه «نقد فلسفة دارون»... وآخرون. ولا ريب في أنّ القيمة العلميّة لهذه التجارب متفاوتة، بل لم يوفّق بعضها في فهم الدارونية فضلًا عن نقدها.
وبعد مرور أكثر من 160 عامًا على صدور كتاب دارون، ما زالت فرضيّته حاضرة بقوّة في طريقة التفكير العلميّ المعاصر، خصوصًا مع استفادة التطوّريّة الجديدة من تقدّم أبحاث البيولوجيا وعلم الأحياء التطوّريّ وعلم الجينات والوراثة والأجنّة والتشريح... فكان لها أنصار كثر في العالم، ليس على مستوى كونها فرضيّة علميّة فحسب، بل بتوظيفها في توهيم الإله وأسطرة الدين، أمثال: دانيال دينيت[2]، وريتشارد دوكينز وغيرهما، وللأخير كتب محوريّة في هذا المجال، «الجين الأنانيّ-1976، «الدارونيّة الجديدة صانع الساعات الأعمى-1986»، «وهم الإله-2006»... رافضًا كون التعقيد في الكائنات الحيّة دليلًا على وجود التصميم الذكيّ من صانع حكيم، معتبرًا أنّ وجوده مجرّد فرضيّة ضعيفة الاحتمال، مُبدِيًا تحيّره من أنّه كيف يمكن أن يكون العالِم المتطوّر مؤمنًا بالله... وما زال الصراع الفكريّ حول الدارونيّة واللوازم الإلحاديّة التي رتّبها عليها أنصارها دائرًا علميًّا بين البيولوجيّين المثبتين والمضعّفين، وأيديولوجيًّا بين الملحدين والمتديّنين، خصوصًا حركة التصميم الذكي intelligent design movement.
في هذه المقالة نتوقّف عند دراسة نموذج من التجارب الإسلاميّة الأولى في نقد الدارونيّة، وهي محاولة أبي المجد الأصفهانيّ في كتابه نقد فلسفة دارون، منطلقين من التعريف المختصر بشخصيّته.
ملخّص سيرة أبي المجد الأصفهانيّ
أبو المجد محمّد الرضا[3] بن محمّد حسين بن محمّد باقر بن الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين. وُلد يوم 20 المحرم 1287هـ (1870م) في النجف الأشرف، سافر عام 1296هـ إلى أصفهان، ماكثًا فيها بضع سنين، ثم رجع إلى النجف الأشرف سنة 1300هـ. ومكث في النجف إلى أن وقعت الحرب العامّة الأوربائيّة، فخرج إلى كربلاء وسكن فيها، ثمّ خرج منها مع زميله مؤسّس حوزة قم العلّامة الشيخ عبد الكريم الحائريّ، متوجّهًا إلى أصفهان، فوصل إليها سنة 1334هـ. انشغل في أصفهان بالتدريس والتأليف، وفي عام 1344هـ سافر إلى مدينة قم المقدّسة بدعوة من زميله الحائريّ، درس في المدرسة الفيضيّة لمدّة سنتين، تتلمذ فيها على يديه مجموعة من الفقهاء، منهم: الإمام روح الله الخمينيّ، السيّد محمّد رضا الكلبايكانيّ، السيّد شهاب الدين المرعشي النجفيّ، ثمّ عاد إلى أصفهان، واستقرّ بها حتّى وفاته في 24 من المحرّم 1362ﻫ (1943م).
تتلمذ في مراحله الدراسيّة المختلفة على يد كبار مراجع الشيعة في عصره، مثل: شيخ الشريعة الأصفهانيّ، السيّد محمّد كاظم اليزديّ، الأخوند الخراسانيّ، السيّد محمّد الفشاركي، الميرزا حسين النوري، والآغا رضا الهمداني... وحضر في العلوم الرياضيّة على الميرزا حبيب الله العراقيّ، وتعلّم الشعر وعلوم الأدب بمعاشرة السيّد جعفر الحلّيّ.
له العديد من المؤلَّفات بالعربيّة والفارسيّة، منها: ذخائر المجتهدين في شرح معالم الدين، وقاية الأذهان والألباب ولباب أُصول السنّة والكتاب، سمطا الآل في الوضع والاستعمال، تنبيهات دليل الانسداد، الحواشي على أكر ثاوذوسيوس، الردّ على البهائيّةـ وأخيرًا وليس آخرًا «نقد فلسفة دارون».
يقول آغا بزرك الطهرانيّ في بيان سموّ مقامه الاجتهاديّ والعلميّ: «... جدّ في الاشتغال في دوري الشباب والكهولة، حتى أصاب من كلّ علم حظًّا، وفاق كثيرًا من أقرانه في الجامعيّة والتفنّن، فقد برع في المعقول والمنقول، وبرز بين الأعلام متميّزًا بالفضل، مشارًا إليه بالنبوغ والعبقريّة، وذلك لتوفّر المواهب والقابليّات عنده، حيث خصّه الله بذكاء مفرط، وحافظة عجيبة، واستعداد فطريّ، وعشق للفضل، وقد جعلت منه هذه العوامل إنسانًا فذًّا، وشخصيّة علميّة رصينة، تلتقي عندها الفضائل. كان مجتهدًا في الفقه، محيطًا بأصوله وفروعه، متبحّرًا في الأصول متقنًا لمباحثه ومسائله، متضلّعًا في الفلسفة، خبيرًا بالتفسير، بارعًا في الكلام والعلوم الرياضيّة، وله في كلّ ذلك آراء ناضجة ونظريات صائبة، أضف إلى ذلك نبوغه في الأدب والشعر...»[4].
«نقد فلسفة دارون»
يمثّل كتاب «نقد فلسفة دارون» لأبي المجد الأصفهانيّ المصدر الوحيد لفهم طبيعة نقده لفلسفة الغرب، وهو في ثلاثة أجزاء، طبع اثنان منها [للمرّة الأولى] في بغداد سنة 1331هـ [1912م تقريبًا]، ولم يزل الثالث مخطوطًا وكان الأغا الطهراني رآه عنده بخطّه[5]. وحديثًا (2015م) أُعيد طبع الكتاب في بيروت، مؤسّسة التاريخ العربيّ، بتحقيق الدكتور حامد ناجي الأصفهانيّ، ولكنّه خالٍ من الجزء الثالث أيضًا، ولا نملك معلومات عنه.
لقيَ الكتاب إعجاب بعض المفكّرين، نذكر نماذج من أقوالهم:
يقول الآغا بزرك: «... الجزء الأول ممحّض للنقود والردود على خصوص فلسفة داروين، المشهورة بفلسفة النشوء والارتقاء، كما أنّ فيه جميع شبهات المبطلة والردّ عليها، وهو من أحسن ما كُتب في إثبات الواجب والردّ على كلمات المادّيّين، كما أنّه أشهر مؤلّفات المترجَم له ومن أجلّ آثاره، وبعد انتشاره بمدّة ردّ عليه الشاعر العراقيّ الكبير الفيلسوف جميل الزهاويّ بكتاب خاصّ، فأجابه الرضا أيضًا بكتابه (القول الجميل) إلى صدقي جميل»[6].
ويقول عبّاس محمود العقّاد (1889-1964م): «... وبعد كتابة الردّ على الدهريّين بنحو من ثلاثين سنة ظهر كتاب «نقد فلسفة داروين»، لمؤلفه الشيخ محمد رضا آل العلّامة التقيّ الأصفهانيّ، وهو باحث فاضل، من علماء الشيعة بكربلاء المعلّى، تحرّى النظر في مجموعة وافية من مراجع النشوء العربيّة والإفرنجيّة التي وصلت إلى الشرق الإسلاميّ... وأنصف المؤلّف مذهب النشوء، فلم يحسبه من مذاهب الإلحاد والتعطيل، لأنّ القول بالنشوء لا يقتضي إنكار الخالق، وإنّما يتسرّب إليه الإلحاد من تفسيرات المادّيّين لمقدّماته على الوجه الذي يوافق نتائجهم المقرّرة عندهم قبل ظهوره...»[7].
ويقول الأستاذ محمّد أحمد باشميل (1917-2005م): «لقد ناقش فلاسفة الشرق وجهابذة الفكر من المسلمين والمسيحيّين نظريّة داروين مناقشة واعية مركّزة، عارضوا مذهب داروين، وبرهنوا على اهتزاز هذا المذهب وعدم صحّته... ولعلّ أقوى هؤلاء العلماء حجّة في نقض نظرية داروين... علّامة الشيعة الكبير الشيخ محمّد رضا آل العلّامة التقي الأصفهانيّ من علماء كربلاء... فقد نقد مذهب داروين، إلّا أنّه -مع عدم تسليمه بصحّة هذا المذهب- كان أخفّ وطأة في هجومه على داروين من الفيلسوف الأفغانيّ، وكان مع ذلك أكثر تعمّقًا في المناقشة، وأكثر دقّة في البحث والمقارنة. ولقد كان العلّامة الشيعيّ -مع رفضه لمذهب داروين- لا يرى في القول بالنشوء والتطوّر والارتقاء أيّ إلحاد أو إنكار للخالق سبحانه وتعالى»[8].
مع ذلك، لم يحظَ الكتاب بمنزلته التي يستحق في المناخ الحوزويّ والأكاديميّ، فإلى تاريخ بحثنا لم نعثر على من قد أوفى نظريّات المؤلّف حقّها بالدراسة والتحقيق، بل يكاد الكتاب يكون مجهولًا عند أهل الاختصاص في علم الكلام والفلسفة.
دوافع نقد الدارونيّة عند أبي المجد الأصفهانيّ
يقول أبو المجد: «... إنّما القصد [في هذه الرسالة] النظر في الأمور الجوهريّة التي يتركّب منها الرأي الداروينيّ، وهي النشوء والارتقاء وتعليلها بالانتخاب الطبيعيّ، ثمّ البحث في الغرض الذي أوجب انتحال المعطّلين لهذا الرأي وإعجابهم به، وتأليف الكتب والمقالات فيه، أعني الاستغناء به عن الصانع الحكيم وإقامة الانتخاب الطبيعيّ مقام الخالق جلّت آلاؤه».
ويقول: «سألت عن أمر هذه الآراء المنسوبة إلى داروين المعروفة فلسفة النشوء والارتقاء، وذكرت ما بلغ من شيوعها عند الغربيّين، وانتحال جماعة لها من الشرقيّين، وجعلهم ذلك أساسًا للزندقة والإلحاد من الجحود للصانع والإنكار للشرائع... وطلبت أن أرسم لك فيها فرقانًا بَيْنَ باطلها وحقِّها وميزانًا تُميِّز به كذبها من صدقها..»[9].
ويقول في موضع ثالث: «الغرض الذي أنشأنا هذه الرسالة له، هو دفع شبهات المعطّلين من أهل هذه الأهواء، وإيضاح أنّ التوحيد هو المقصد الوحيد الذي ينتهي إليه جميع الآراء، وبيان أنّ وجود الصانع أظهر من أن يخالفه رأي فلسفيّ أو نظر علميّ، وأنّ هذه الآراء لو تمّت فلا تفضي إلى التعطيل ومفترضاتهم إن صحّت فلا تغني عن الخالق الجليل»[10].
يفيد تحليل هذه النصوص وغيرها، أنّ الدافع المحرّك لأبي المجد في مشروع نقده فلسفة دارون يتلخّص في أربعة أمور:
الأوّل: إثبات الصانع وتوحيده.
الثاني: الدفاع عن مطلق الدين أو الدين المطلق وليس خصوص الإسلام، إذ يقول: «وليعلم أنّ كتابي هذا موضوع للدفاع عن الدين المطلق في قبال اللادين المحض...»[11].
الثالث: إنكار الملازمة بين نتائج الدارونيّة وبين الإلحاد، فلو فُرِض التسليم بصحّة فرضيّة دارون، فإنّها لا تستلزم نفي وجود الخالق.
والرابع: نفي تعارض العلم والدين، وبهذا يمكن القول إنّ أبا المجد الأصفهانيّ من أوائل العلماء المسلمين الذين طرقوا باب البحث حول ثنائيّة العلم والدين، فهو يعتبر رسالته «موضوعة لتطبيق نواميس الطبيعة على الحقائق الدينيّة»[12].
منهج أبي المجد ومصادره المعرفيّة في نقد الدراونيّة
يقول أبو المجد: «... كان أقرب مسالك الكلام إلى ما قصدناه وألصقها بما أردناه، هو الجري على أصولهم ما أمكن، وإن كانت فاسدة، وتسليمها وإن كانت غير مسلّمة، ودفع شبهاتهم على مقتضيات أصولهم ومقرّرات رؤسائهم، فإذا بَنيتُ الردّ على أصل أو التزمت بفرض لدى النقض، فلا يلزم اعتقادي بذلك الأصل أو الفرض، فكثيرًا ما أجري فيها على أمور لا أعتقدها لأنّها أقرب إلى أفهماهم وأنسب بما ألفته نفوسهم من مقرّراتهم... وهذه موضوعة لقوم لا تطمئنّ قلوبهم بغير قوى الطبيعة ولا يسلّمون إلّا ما يطابق نواميسها المعلومة.... وإن كان مذهبي سواه واعتمادي على غيره»[13].
يلتزم أبو المجد في نقده فلسفة دارون بالمنهج الجدليّ، وهو أحد الصناعات الخمس في المنطق الأرسطيّ، الذي لا يهدف إلى إنتاج المعرفة المضمونة الحقّانيّة بما هي مطابقة للواقع –بخلاف البرهان-، بل إلزام الخصم بالاعتراف بالنتائج التي يريدها المُجادِل في مقام النقاش العلميّ. مع ذلك، لم يكن هدفه متمحِّضًا في الجدليّة، بمعنى مجرّد إرادة غلبة الخصم بأيّ وسيلة متاحة، وإنّما إقناعه بالحقيقة إن أمكن؛ لذا يقول: «... ولهم علينا أن نستعمل الإنصاف لا المكابرة، فإنّما غرضنا تمحيص الحقائق لا المجادلة»[14]. ونفيه المجادلة هنا، ليس بمعناها المنطقيّ، بل اللغويّ المرادف للمغالطة المنطقيّة؛ إذ» الجدل لغة هو اللّدد واللّجاج في الخصومة بالكلام مقارِنًا غالبًا لاستعمال الحيلة الخارجة أحيانًا عن العدل والإنصاف، ولذا نهت الشريعة الإسلاميّة عن المجادلة»[15]. والشاهد، اعترافه باستعمال أسلوب المجادلة في ضوء المنطق القرآنيّ، فيقول: «...توخيّنا حسن المجادلة الذي أُمرنا به في محكم الكتاب، فنزهّنا كتابنا عن الشتم والسبّ ونحوهما مما تثير عواصف العصبيّة؛ فتعشى العيون عن النظر إلى الحقيقة العلميّة...»[16]. ويقول: «آن أنْ ننظر إلى هذه الآراء من الجهة العلميّة، والحقيقة ضالّتنا التي ننشدها ونأخذ بها حيث نجدها، نوافق دارون فيما ظهر لنا أنّه الحقّ من آرائه ولا نستنكف من اتّباعه، ونخالفه فيما خالف الحقّ فيه ولا يهولنا كثرة أتباعه، لسنا من أعدائه فنعادي الحقائق ونرفض كلّ ما قال... والموازين العلميّة هي الحاكمة بيننا»[17]. فمن النقاط المهمّة في منهجه النقديّ العدالة النقديّة، أي لم يدفعه خلافه العقديّ مع فلسفة دارون ليتجاوز العدالة والإنصاف، حيث يقول: «لا تَخَلْ أنّي أنهاك عن تعلّم ما اهتدوا إليه من العلوم وتصديق [معطوفة على: أنهاك عن، والمعنى: لا تَخَل أنّي أنهاك عن تصديق] ما اهتدوا إليه من المسائل وأقاموا عليه محكمات الأدلّة، ولا أنّي أشير عليك بأن تبخسهم حقوقهم وتنكر من ذوي الفضل منهم فضله، كيف وهذا الدين الشريف قد أدّبنا بأحسن الآداب، فنهانا عن بخس الناس في محكم الكتاب، وأمرنا مشرّعه صلى الله عليه وآله بأن نستعين في كلّ صنعة بصالحي أهلها، وجعل الحكمة ضالّة المؤمن يطلبها حيث يجدها، ومثّلها أمير المؤمنين إذا كانت في غير أهلها بدرّة في فم خنزير يأخذها المؤمن ويغسلها ثمّ ينتفع بها»[18].
وفيما يتعلّق بمصادر مشروعه النقديّ ومراجع فهمه لفلسفة دارون يلتفت أبو المجد إلى ثغرة غياب النصّ الأصليّ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القارئ العربيّ لم يطّلع إلّا في حدود عام 1918م مباشرة على أطروحة دارون في «أصل الأنواع» الصادر عام 1859، وذلك في تعريب إسماعيل مظهر للكتاب، ثمّ إعادة تنقيحه ونشره عام 1928م، وهذا يعني أنّ النصّ الداروينيّ لم يعرّب إلّا بعد مرور ما يقارب 6 سنوات على نشر أبي المجد الأصفهانيّ كتابه، فيقول: «كَتَبَ دارون وسائرُ رؤساء هذه الفلسفة كتبًا عندنا غير موجودة، وبلادنا عن البلاد التي نشأت فيها هذه الآراء بعيدة، وقد طلبناها من مواضعها، وكان الحزم تأخير تصنيف هذا الكتاب إلى زمن وصولها لولا الباعث الدينيّ»[19]. ويقول أيضًا: «وما فيه من النقل فقد تحرّينا فيه أوثق ما عندنا من المصادر، ولم نذكر أسماءها غالبًا طلبًا للاختصار، ... ولا نستبعد خطأ الناقل في فهم مراد القائل، ولا تقصير المترجم في أداء مراده، ولكنّا بالإرشاد إلى الأصل المأخوذ منه النقل نُسقِط عنّا ضمان الصِّحة ونُلقي تبعة الخطأ على ناقله»[20].
الوعي بطبيعة شبهات الفلسفة الغربيّة
من الخصائص المضيئة في فكر أبي المجد الأصفهانيّ تسليطه الضوء على طبيعة شبهات فلسفة الغرب وتحليلها بطريقة تبيّن وعيه بنقاط قوّتها وانعكاسها السلبيّ على الفكر الدينيّ. ونعالج المسألة ضمن نقطتين:
النقطة الأولى: تقسيمه أدوار الشبهات في خطّ علاقتها مع الدين الإسلاميّ إلى ثلاثة[21]:
الأوّل: شبهات عصر البعثة: وكانت تنحصر في استبعادات فطريّة واستدلالات بسيطة خالية من البراهين والموازين العلميّة، كاستبعاد المعاد، وعلم الله تعالى بالأشياء... وقد عرض القرآن هذه الشبهات وردّ عليها.
الثاني: شبهات العصر العباسيّ: ففيه «نقلت علوم اليونانيّين إلى بلاد المسلمين، وتُدُوْوِلَت بينهم العلوم العقليّة، وعُرِفت الموازين المنطقيّة، فتهافت عليها الملاحدة والذين في قلوبهم زيغ، ورتّبوا شبهاتهم على الأصول اليونانيّة، وألبسوها حلل البراهين المنطقيّة، وأخذوا مع ذلك يرعبون الناس تارة بأعلام يونانيّة غريبة واصطلاحات علميّة لا عهد للمسلمين بها، وأخرى بإصاباتهم في العلوم التي مباديها حسّيّة أو قريبة من الإحساس كبعض الطِّب والرياضيّات، وظنوا أنّه قد هدموا بذلك أركان الدين، وبلغوا مرامهم من إضلال المسلمين. ولكن لم تدم لهم تلك الفرحة، بل وعادت عليهم وبالًا وترحة، إذ كانت في تلك الآيات التي وردت للعصر الأوّل كنوز مدّخرة لهذا العصر استخرجها علماء الإسلام، وأضافوا إليها ما وصل إليهم من أحاديث صاحب الشريعة والأئمة القائمين مقامه، فأجابوا عن تلك الشبهات بأجوبة مطابقة لمصطلحاتهم مبنيّة على الصحيح من أصولهم، ودفعوا بساطع البرهان ما كان لهم من الأصول الفاسدة... وبرزت الأصول الدينيّة في حلل البراهين العقليّة الجامعة للشروط المنطقيّة»[22].
والدور الثالث: شبهات عصر الاحتكاك بالغرب المعاصر والتأثّر به، حيث قضت المصالح السياسيّة والعلائق التجاريّة الانفتاح على الغرب، خصوصًا مع رؤية المسلمين أنفسهم في حاجة إلى أشياء كثيرة من لوازم المعيشة قد سبقهم الغرب إلى إتقانها أو اختراعها، ففزعوا إلى قوم منهم أرسلوهم إلى تلك البلاد لينقلوا لهم ما ينفعهم في المعاش، فجلبوا إليهم ما لا ينفعهم فيه ويضرّهم في المعاد[23].
والنقطة الثانية، هي القراءة المقارنة بين شبهات الأدوار الثلاثة قوّة وضعفًا، معتبرًا شبهات الدور الأخير أهون من الدورين السابقين، ولكن الضرر منها على الدين أعظم، والخطر الناتج منها أشدّ. أمّا أنّها قصرت عن شبهات الدور الأوّل، لما فاتها من رونق الفطرة وحسن صبغتها، ولكنّها لبساطتها وعاميّتها زالت سريعًا بمحكمات الآيات والأدلّة العلميّة. وأمّا أنّها لم تلحق شبهات الدور الثاني فلقوّة مبانيه واستحكام أدلّته، حيث كانت مبنيّة على أصول دقيقة واصطلاحات علميّة جليلة، وأذهان عموم الناس بعيدة عن فهمها، وكان لا يخشى الضرر منها إلّا على أناس قليلين صرفوا في تلك العلوم أعمارهم وقليل ما هم.
أمّا الشبهات الحديثة والمعاصرة لفلسفة الغرب، فإنّها مبنيّة غالبًا على تجربيّات ودعاوى مشاهدات، وقد جعلوا على طبقها اصطلاحات يسهل على عموم الناس معرفتها، وهذا واضح بالمقابلة بين مباحث الهيولى والصورة وأحكام المعلول والعلّة، وبين مباحث هذه الفلسفة واصطلاحاتها من تنازع البقاء وقانون الوراثة والارتقاء.
والأمر الآخر الذي يُلفِت إليه أبو المجد، أنّ علوم اليونان لم تُنقل إلينا إلّا بعد زوال عزّهم وانقراض دولتهم، ولم يكن لهم في ذلك الزمان رعب متمكّن في النفوس ولا هيبة في الصدور، أمّا آراء الغربيّين فقد دخلت بلاد الإسلام وهم في مجدهم ومنتهى سلطنتهم، وقد ملكت عاداتهم وصفاتهم ولغاتهم البلاد القليلة التي لم تملكها سيوفهم جريًا على ناموس القوّة، حتى زعموا أنّهم رُزقوا من العقل والذكاء ما ليس لسواهم، وصار أقوى البراهين في العلميّات أنّ الأفرنج يقولون كذا، وفي العمليّات أنّ البلاد المتمدّنة يفعلون كذا، وعظم الأمر وتفاقم الخطب حتى جرى الاصطلاح في تسمية من يقلّدهم ويتشبّه بهم وإن لم يكن له حظّ من علومهم بـ «المتمدّن» و «المتنوّر»، ونبز من يخلفهم في شيء بـ «الوحشيّ» و «الجاهل» إلى غير ذلك مما يُبكي طَرْفَ المؤمن الغيور دمًا...[24].
ميدان العلم التجريبيّ وإشكاليّاته المنهجيّة
يعتقد أبو المجد أنّ المنهج التجريبيّ أو الاستقرائيّ له ميدانه الخاصّ، وهو عالم المادّة والطبيعة، فلا ينبغي أن يتجاوزه إلى غيره من العوالم الغيبيّة واللامحسوسة. فإرادة فهم عالم ما وراء الطبيعة والغيب في ضوء المنهج العلميّ التجريبيّ يورّط الباحث في آراء فاسدة، فيقتصر ميدان البحث عن ما وراء الطبيعة والغيبيّات على اختصاص المعرفتين الدينيّة والفلسفيّة. وفي السياق، يعاتِبُ أبو المجد دارونَ على تحيّره في كيفيّة التوفيق بين وجود الصانع وبين ثبوت صفة الرحمانيّة له تعالى لعجزه عن إدراك المصالح في خلق ما يرى أنّه شرور، وهي أزمة تورّط فيها كثيرون؛ إذ لم يتمكّنوا من معالجة كيفيّة الجمع بين وجود إله رحيم محبٍّ للخير وبين مشكلة الشرّ في العالم، فكانت حجّتهم ضدّ الله أنّ الكون يبدو في غاية القسوة والظلم -على حدّ تعبير الكاتب الإيرلنديّ C. S. Lewis-، يقول أبو المجد: «وتصدّي هذا الرجل لهذه الشبهة ممّا يُعاتب فيه لتعاطيه ما لا يدخل في فنّه، وتكلّفه ما ليس من وظيفته، فإنّ حلّ هذه الشبهة وأمثالها شأن العلوم الدينيّة وعلم ما وراء الطبيعة، ولا تُحلّ عقدتها بما صرف فيه نقد عمره من جمع صنوف الزيزان وتربية الحمام ونحوهما من تجاربه التي لا تجديه إلّا في آرائه... وكان الأولى لهما [مضافًا إلى ولس] أن يَدَعَا لغيرهما هذا المجال ويقولا: لكلّ فنّ أهل ولكلّ علم رجال»[25].
وفي الجانب المعرفيّ يشخّص مشكلة ناتج المنهج العلميّ والاستقراء -في نصّ يقترب به مع فكرة كارل بوبر في نظريّة التكذيب-: «إنّه –أي العلم- كما تعلم آراء مبنيّة على ناقص الاستقراء، وتعليلات تختلف باختلاف الآراء، تُبنى زمانًا، ثمّ تهدم وتبرم، ثمّ تُنقض... تمرّ على الناس أيّام يرونها أحسن ما تعلّل به الأشياء، فيأخذون بها، ويظفر قوم بعدهم بأحسن منها فيعدلون عنها، فكأنّ لكلّ تعليل من تعليلات نظام الكون دولة، تحكم زمانًا على العقول، وتقهر سواها، فتحكم كسابقتها حتى تنقضي أيّامها، ويقوم غيرها مقامها.
ويتابع القول: هذا نظام سكون الأرض وحركة الأفلاك، حكم على علماء العالم أكثر من ألفي سنة، وكانت تعدّ من الواضحات الملحقة بالأوّليّات، ويعدّ المنكر لها كالمنكر للبديهيّات، فكم مُلئت الكتب من أوضاع الأفلاك وكيفيّاتها وعدد تداويرها وممثّلاتها، ثمّ انقضت أيّامها فسقطت، وقام بعدها نظام حركة الشمس حول الأرض وحركة السيّارات حول الشمس، ولم تطل أيّامه حتى قام نظام حركة الأرض والسيارات جميعًا حول الشمس. والله سبحانه وحده هو العالم بما يكون بعده، وكانت الحرارة المركزيّة هي التعليل الوحيد لتكوّن البراكين وحدوث الزلازل، إلى أن قام اللورد كلفن فعلّله بغيره ووافقه دارون. إلى غير ذلك مما إحصاؤه خروجٌ عن مقتضى المقام»[26].
وعليه تكون معطيات العلم التجريبيّ متبدّلة ومتغيّرة، فكلّما تقدّمت البشريّة خطوة في الزمان تبيّن خطأ نظريّة لتحلّ محلّها أخرى وهكذا دواليك، فمن سمات النظريّات العلميّة التغيّر واللاثبات.
أمّا الدين في رؤيته فهو»الثابت الذي لا يعتري حقائقه الزوال، ولا تتبدّل على مرور الأعصار، فكلّ حقيقة أخبر بها أوّل المرسلين يؤكّدها خاتم النبيّين، والجميع قد أخبروا بوجود الخالق العظيم ووحدة ذاته وبديع صفاته ووجود الملائكة وثبوت المعاد والحساب والعقاب إلى غير ذلك من الحقائق المعلومة من الأديان. فهل ترى اختلافًا بين النبيّين كما تشاهده بين الطبيعيّين؟! وهل يهدّد الدين بمثل هذه الآراء الموقّتة أم على الوحي يُخشَى من خيالات دارون؟!»[27]. ويطرح نموذجًا على ذلك -فيه بحسب وصفه موعظة لهؤلاء لو عقلوا وأمثلة لو أنصفوا- فيقول: «كان الدين يخبرنا بمعراج خاتم الأنبياء وأنّ المسيح صعد بجسده الشريف إلى السماء، وكان برهان امتناع الخرق للفلكيّات يعدّ من الممتنعات، فكم من ملحد صال على الدين بهذا الدليل، ومؤمن لم يجد إلى حلّه من سبيل؟! حتى هدم الزمان أساس ذلك البرهان، وزادت قوّة واستحكامًا قواعد الإيمان.
وكان الوحي يخبرنا بأن الله تعالى خلق سبع أرضين، والمسلمون يرتّلون في صلواتهم: سبحان الله ربّ السماوات والسبع وربّ الأرضين السبع، ويخبرهم المعصوم بأنّ هذه قبّة أبينا آدم، وإنّ لله وراء هذه القبة تسعًا وأربعين قبّة، فيها خلق لا يعلمون أنّ الله خلق آدم، وكان البرهان العقليّ يهدّده بأنّ وجود أرض أخرى يستلزم من المحال أحد ثلاثة أشياء: إمّا الخرق والالتيام في الأفلاك، أو لزوم الخلاء، أو عدم كرويّة السماء. ويردف قائلًا: وأنت تعلم قيمة هذه الشبهة وأمثالها اليوم في سوق العلم. ولعمري إنّ العلم لا يتقدّم إلى الارتقاء خطوة، إلّا وتكشف للدين حقائق خفيّة وتزداد أدلّتها قوة...»؛ ولذا لا يرتضي طريقة تأويل الحقائق الدينيّة القطعيّة في ضوء المعطيات العلميّة التخمينيّة، قائلًا: «... يتّخذه آخر سلاحًا يهدّد به الدين، وبعضهم يوجب على أهل الدين تأويل الحقائق الثابتة فيه، ومنهم من يقسّمها بين العلم والدين كما تقسم الممالك بين السلاطين»[28].
ويقسّم أبو المجد القضايا العلميّة إلى قسمين:
القضايا العلميّة اليقينيّة، وهي لا تعارض ما هو معلوم الثبوت من الدين، بل هي من جنود الدين في تشييد قواعد التوحيد وصدق النبوة.
القضايا العلميّة التخمينيّة، والتي لا اعتبار لها في معارضتها للدين.
ويقول: «أمّا المسائل اليقينيّة من العلم الثابتة بالبراهين القطعيّة فليس فيها شيء يخالف المعلوم من صحيح الأديان، بل هذا القسم من العلم من أقوى جنود الدين وأحسن أعوانه وهو حليفه الذي لا يفارقه، فهل شّيدت قواعد التوحيد إلّا به؟! وعُرف صدق النبيّين إلّا منه؟! فمن شاء أن يفرّق بين الدين وهذا القسم من العلم فقد ذهب سعيه باطلًا.
وأمّا القسم الذي دليله الحدس والتخمين، وأقصى مدارجه أوّل درجة الظنّ فضلًا عن اليقين، فأسعده ما وافق شيئًا من ظواهر الدين، وأشقاه ما بُلِيَ بتكذيب الصدّيقين». معتبرًا أنّ فرضية دارون تندرج تحت قسم القضايا العلميّة التخمينيّة، قائلًا: «... فهل مبانيها إلّا حدسيّات جيولوجيّة وعمدة أدلّتها الأعضاء الأثيريّة أو الصورة المزوّرة الجنينيّة؟! وسوف تقف على ضعف تلك المباني والأدلّة في النظر العلميّ...». ويتابع قوله: «كان دارون معترفًا بأنّ آراءه تخمينيّة، فقال في كتاب أصل الإنسان: «إنّ كثيرًا من الآراء التي بسطتها تخمينيّة للغاية، ولا أشكّ في أنّه سيتضح فساد بعضها بالبرهان القاطع، ولكنني قد أوضحت الأسباب التي ساقتني إلى التمسّك برأي دون رأي»[29].
معقِّبًا، بأنّ آراء تلك مبانيها وهذه أدلّتها لجدير بأهلها أن لا يحاربوا بها الأديان. ثمّ يناقش حجج الملاحدة ليدلّسوا بها على ضعفاء العقول من أنّ الدين ينافي البحث عن علل الأشياء وأنّه واقف في طريق العلم، وأنّ المؤمنين لا يرون التعليل إلّا بالإرادة الربّانيّة، مجيبًا:» إنّ المؤمنين يمتازون عن الملحدين بأنّهم يثبتون للكون صانعًا حكيمًا خلق المادّة وجعل لها نواميس يجري عليها الأشياء بحسب ما يريد ويشاء، وتلك النواميس خاضعة لقدرته موجودة بمشيئة، ولا ينكرون قطّ علل الطبيعة، ولا يطفرون مرحلة الأسباب، ومن الكلام المشهور عندهم: «أبى الله أن يجري الأمور إلّا بأسبابها»، ويصفونه تعالت قدرته بمسبِّب الأسباب، وهذا عندهم أتقن للحكمة وأدلّ على العلم والقدرة، وإلّا لم تضرّ بمعتقدهم تنقّلات النطفة تحت نواميسها الثابتة إلى أن تصير طفلًا، ثمّ شابًا وكهلًا، فماذا عليهم من تنقّلات الماّدة تحت نواميسها المجعولة لها إلى أن تصير شمسًا وأرضًا إن تمّت الأدلّة العلميّة لها وسلمت من الانتقاد عليها»[30]. وسيأتي مزيد معالجة لهذه النقطة في آخر البحث.
دوائر مناقشة أبي المجد للدارونيّة
إذا أردنا أن نرتّب أفكار أبي المجد الأصفهانيّ بطريقة موضوعيّة في مناقشة فرضيّة دارون، فيمكن أن نلّخصها في عدّة نقاط:
الأولى: النقاش العلميّ في الفرضيّة، وهي أنّها مجرّد احتمال لم يرتقِ بعد إلى مستوى أن يكون نظريّة أو حقيقة علميّة، لأنّها تصبح كذلك إذا تراكمت القرائن حولها بنحو تسدّ أبواب الاحتمالات الأخرى. في حين أنّ القرائن والشواهد لا تؤيّد فرضيّة دارون، بل تضعفها أو تنفيها. فيقول: «لو كان الخصم ممن يبني كلامه على قواعد الدليل والبرهان، ويلتزم بالواضحات المقررة في علم الميزان، ويعرف شيئًا من آداب المناظرة وواضحات المسائل الثابتة في العلوم العالية، فيعلم أنّ الاحتمال لا يكفي في الاستدلال، وأنّ على المُستدِل سدّ جميع أبواب الاحتمال، وأنّ الوقوع لا يَثبت بمجرد الإمكان، ويعلم أنّ الملازمة إذا كانت غير بيّنة لا بدّ لها من البيان...»[31].
ومازال النقاش قائمًا حتى لحظتنا هذه حول كون رؤية دارون هل هي مجرّد فرض لا يمكن اختباره أمبريقيًّا أم أصبحت حقيقة علميّة ثابتة، فبين مناصر لكونها حقيقة علميّة مثل ريتشارد دوكنز -بغض النظر عن إمكانيّة النقد الإبستمولوجيّ لنزعة اليقين التي يتمتّع بها دوكنز- منزلًا التشكيك بالدارونيّة بمنزلة التشكيك بكرويّة الأرض، وبين من يضعّف من علماء الطبيعة والبيولوجيا -خصوصًا في حركة التصميم الذكي أمثال جوناثان ويلز في كتابه Icons of Evolution -2000- رؤية دارون لعدم تراكم كثرة الشواهد والقرائن حولها، وعلى كلّ حال تبقى فرضيّة دارون موضع خلاف بين علماء الطبيعة أنفسهم.
الثانية: فرضيّة دارون بلحاظ ذاتها فيما يتعلّق بأصل الإنسان. ويناقشها من ناحيتين: علميّة، وسيأتي التعرّض لها، والثانية: الدينيّة، حيث يرفضها لتعارضها ما هو ثابت بالقطع في الرؤية الدينيّة من تكريم الإنسان وتشريفه، وخلقه ابتداءً من تراب، فيقول: «... ما يخالف الدين من هذه الآراء [الدارونيّة]، فأعظمها في مبدأ الإنسان، إذ المعلوم بالضرورة من هذا الدين بل ومن أمّهات الأديان الثلاثة أنّ أصل جميع البشر من إنسان ابتدع الله تعالى خلقه من التراب، ومن امرأة خلقها أيضًا، ولم يكونا قبل ذلك حيوانًا ولا نباتًا، فنوع الإنسان مستقلّ في الخلق عن سائر الأنواع، وكونه ضروريًّا واضح لديهم ولدى غيرهم ممن عرف مذهبهم»[32].
وينقد على من حاول -نتيجة انبهاره بالعلم الحديث- تأويل الحقائق الدينيّة في ضوء هذه المعطيات التخمينيّة، كالقول: إنّ مذهب النشوء لا ينافي الدين في حقيقته، فلا بدّ من تطبيق الوحي على الحقائق العلميّة، بحيث يحملون ما استعمل في الدين عن الإنسان بأنّه من باب المجاز دون الحقيقة، ويُشكِل عليهم بأنّه لو اعتُمِد هذا المنهج في تأويل حقائق الدين بالنسبة للنصوص الدالّة على أصل الإنسان، فإنّه لن يكون تأويلها بأسهل من تأويل ما دلّ على غيره من ضروريّات الأديان، وحينها ماذا تُبقي يد الشبهات من يقينه؟! وكيف تثبت على زعازع الأهواء أصول إيمانه؟!
النقطة الثالثة: مناقشة فرضيّة دارون باعتبار لوازمها، فينكر الملازمة بين التسليم بصحّتها وبين الإلحاد، منطلقًا من قبليّتين عقليّتين مُستدلَّتين، هما: الاعتقاد بالعلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة بمفهوميهما الفلسفيّ والدينيّ، فـ «جميع الموجودات بأراضيها وسماواتها وما فيها من صنوف المخلوقات من نباتاتها وحيواناتها والبشر على صنوفها واختلاف لغاتها صنع إله واحد قادر حكيم... خلق جميع الأصناف من جميع الأنواع عن قصد واختيار»[33]. ويعتقد أنّ الافتراض بأنّ الكائنات الحيّة خُلقت من مواد قبليّة حيوانيّة، بأن يكون أصل الجمل مثلًا ضفدعًا، أو أصل الفيل سنونوًا، فإنّ ذلك لا يضرّ بالاعتقاد بضرورة وجود الصانع الحكيم، بل يؤكّده كون أدلّة الصنع ظاهرة في هذه الكائنات، فيقول: «أمّا كيفيّة الخلق، وأنّ هذه الأنواع كلّها خُلِقت خلقًا مستقلًّا، ووجدت عن كتم العدم ابتداءً، وأنّها لم تتغيّر عمّا كانت عليه في أوّل الخلق، فهذا أمر لم يرد فيه نصٌّ صريح من الكتاب ولا متواتر من السنة، وسواء أكانت آباء الجمال جمالًا أو كانت ضفادع تنقّ في الماء، والجدّ الأعلى للفيل فيلًا أو سنونوًا يطير في الهواء، فإنّ أدلة الصنع عليهما في الحالين ظاهرة، وفيهما على وجود الصانع الحكيم آيات باهرة»[34].
وعليه، يستنكر على الملاحدة فرحتهم بفرضيّة دارون وغيرها بجعلها أساسًا للإلحاد، واصفًا لها بأنّها من أغرب الأشياء. ويتابع القول بأنّها أقصى ما يمكن أن تثبته –على علّاتها وضعف أدلّة أكثرها- ليس فيها إلّا بيان ترتيب المخلوقات وكيفيّة الصنع فيها، وأهل الدين لا ينكرون ذلك، لأنّهم لم يدّعوا أنّ الله تعالى خلق جميع المخلوقات في وقت واحد مستقلًّا عن الآخر، فقانون النموّ التدريجيّ من مادّة قبليّة هو أمر صنعه الله تعالى بلطف حكمته، فلو كان النظام السابق بترتيبه حجّة للمعطّلين على مذهبهم، فالأَوْلى أن يستدلّوا بالنشوء والارتقاء الفرديّ الذي يشاهده كلُّ أحدٍ، فيستدلّوا مثلًا بترتيب خلق الإنسان وتنقّله عن مراتب كثيرة إلى مرتبة النطفة ثمّ المراتب التي يقطعها في الرحم والطوارئ الكثيرة التي تعتريها فيه إلى أن يخرج طفلًا، ثم تنقّله في مدارج الحياة إلى الممات...
ويدعم وجهة نظره بنماذج من تصريحات الآباء المؤسّسين لفرضيّة النشوء والارتقاء:
النموذج الأوّل: دارون نفسه، حيث نَسبَ إليه القول: «إنّ جميع هذه الأجناس أصلها من خمسة أو ستة، نفخ فيه الخالق روح الحياة»[35]، معلّقًا: «دارون نفسه لا ينكر الخالق...»، مستشهدًا بقوله: «إنّ بعض الأفاضل يظهرون اقتناعهم التامّ بأنّ كلّ نوع خُلق بطريقة مستقلّة. أمّا أنا فعلى ما يظهر لي أنّ ما نعرفه من النواميس التي فرضها الخالق على المادّة يطابق بالأكثر ظنّنا»[36].
ونضيف على ما ذكره أبو المجد، قول دارون: «العقل يقول لي: إنّه من الصعب جدًّا، بل من غير الممكن، أن نتصوّر أنّ هذا الكون الهائل الجميل بما فيه من مخلوق يتمتّع بقدرات إنسانيّة كبيرة، قد جاء كنتيجة لصدفة عمياء أو ضرورة؛ لذا عندما أتأمّل، أشعر بأنّي مدفوع للبحث عن سبب أوّل، لديه عقل ذكيّ يشبه بدرجة ما عقل الإنسان، ومن ثمّ أنا أقبل أن يُقال لي إنّي مُوحِّد»[37]. وفي الحدّ الأدنى يكون دارون ربوبيًّا Deist.
النموذج الثاني: لامارك (جان باتيست 1744-1829م)، -والذي يعتبره أبو المجد بأنّ له الفضل في هذا المذهب والذي لولاه لم يكن دارون؛ ولذا يصحّ اعتباره أب هذا المذهب ومؤسّسه الأوّل- يسلّم بوجود الصانع وينسب إليه الهيولى المركّب منها الكون. ولكن لامارك يعتقد أنّ الخالق بعد أن خلق الهيولى بخصائصها لم يفعل شيئًا وأنّ الحياة والأجسام الآليّة والعقل جميعها نتائج الهيولى ونتائج قواها. ويعقّب أبو المجد بأنّ لامارك لا يخالف أهل الدين في وجود الخالق بل يخالفهم في كيفيّة الخلق، مع أنّ كلامه لا يرجع إلى محصّل[38].
النموذج الثالث: الدكتور ولس (ألفرد راسل والاس 1823-1913م)، شيخ علماء الطبيعة وشريك دارون في هذا الاكتشاف، ومقامه ظاهر لدى المعطّلين وهو سابق على دارون في إظهار فلسفة النشوء والارتقاء، وقد كتب أصولها في مقالة وبعثها إلى دارون، وطلب منه أن يرسلها بعد اطلاعه إلى ليل (تشارلز لايل 1797-1875م، مؤلف كتاب «مبادئ الجيولوجيا»)... صنّف كتابًا بالتوحيد وسمّاه كتاب عالم الحياة (The World of Life: A Manifestation of Creative Power, Directive Mind and Ultimate Purpose). وينقل أبو المجد عن المستر ستد: «لو قلت لرجال الدين منذ أربعين سنة إنّ شريك دارون في اكتشاف ناموس النشوء، يؤلف كتابًا يقيم أقطع الأدلّة وأصرحها على ألوهيّة الخالق وأزليّته وعنايته التامّة بمخلوقاته لهزئوا بك؟؟... وصدر من عقل ولس كتاب عالم الحياة وما من كتاب دينيّ أدلّته أقطع من هذا الكتاب»[39].
النموذج الرابع: جوليان سوريل هكسلي 1887-1975م، والذي قيل فيه إنّه سعى لنشر مذهب الارتقاء أكثر من دارون نفسه، وهو ممّن نابذ الأديان، ولكنّه –من وجهة نظر أبي المجد- لا ينكر الصانع تعالى ولا يرى مذهب الارتقاء منافيًا لوجوده، ومن قرأ كتابه المعنون داروينا (Darwiniana: Essays) علم أنّه أقرّ هنالك على رؤوس الأشهاد بأنّه يستحيل نقض الألوهيّة بحسب مذهب الارتقاء. ومن تمعّن في مقالته التي كتبها إلى ده كارت علم أنّه جلّى هنالك عن رسوخ في حقائق الفلسفة مسندًا تعاليمه إلى إدراك القوّة الفاعلة في هذا الكون. ناقلًا عن هكسلي قوله في مقالة ما نصّه: «إنّ من ينكر وجود الإله كما تصوّره سبينوزا لأحمق»[40].
يطرح أبو المجد قراءة جديدة للاأدريّة هكسلي، فلئن اعتُبِر أحد من ينسب إليه الإلحاد، ووضع كلمة أغنيستك Agnosticism وانتحلها، أوجب أن يعدّه المترجمون له في صفّ المتحيّرين، ولكن «بعد التأمّل في مجموع كلماته، والبحث عمّا دعاه إلى ذلك، تجده معتقدًا بالله تعالى أعظم اعتقاد، ومؤمنًا به أشدّ إيمان، وإنّما أراد بذلك الاعتراف بأنّه لا يعرف سرّ الخليقة، وأنّ عقله يقصر عن فهم بعض الحقائق الدينيّة، فكأنّه يرى العلم خصوص ما يعرف بالعقل معرفة تفصيليّة، ولا يعدّ منه ما يُعرف بالدين أو يُعرف بالعقل إجمالًا، فهو بهذا الاصطلاح لا يخالف أهل الدين، لأنّك لا تجد في عقلائهم من يدّعي معرفته أسرار الخلق وجميع حقائق الدين معرفة تفصيليّة بالعقل فقط»[41]، مستشهدًا على ذلك أيضًا بخطبة سرجون لبوك أعظم أصدقاء هكسلي وأعرف الناس به في مناظرة أكسفورد الشهيرة سنة (1860م Oxford evolution debate)، وفي تحرير مجلّة التاريخ الطبيعيّ، وفي عدّة جمعيّات علميّة كجمعيّة ما وراء الطبيعة التي أنشأت عام 1869م، ينقل لبوك عن هكسلي قوله: «لست من المادّيّين لأنّني لا أقدر أن أتصوّر وجود المادّة من غير وجود عقل يكيّف صورة وجودها، ولا من المعطّلين لأنّ مسألة العلّة الأولى من المسائل التي لا تدركها عقولنا القاصرة على ما أرى».
النموذج الخامس: هربرت سبنسر 1820-1903م، -الذي يطريه أهل التعطيل غاية الإطراء، ويعرفون كغيرهم مقامه في مذهب الارتقاء، حتى قالوا: إنّ رأسه قد امتلأ من مذهب النشوء قبل أن يخطّ دارون حرفًا واحدًا من كتابه- يقسم الوجود إلى قسمين: الأوّل: فيما لا يمكن معرفته؛ والثاني: في نواميس ما يمكن معرفته، وخلاصة رأيه في القسم الأوّل أنّ إدراك الإنسان محدود، فإذا بلغ حدّه استحال عليه معرفة ما وراء ذلك، وأنّ في الطبيعة قوّة يستحيل على العقل البشريّ إدراكها، ويردّ كلّ المسائل المتعلّقة بواجب الوجود وعلّة العلل أو العلّة الأولى والغاية الأخيرة إلى الدين، أو إلى ما لا يُدرَك بالعقل البشريّ، أو إلى ما هو وراء الطبيعة؛ لأنّ العقل مقيّد في بحثه بقيود لا يستطيع حلّها، فما يستطيع العقل إدراكه محصور في العلل والغايات الثانويّة، أي في الأسباب التي نراها مباشرة للمسببات وفي النتائج التي نراها تنتج عنها[42].
وعليه، يمكن القول إنّ ما يرتّبه الملحدون على نظريّة دارون من إنكار وجود الخالق هو استنتاج عقليّ منهم لا يتّصل بالفرضيّة العلميّة بذاتها، ولا تكون معارضة هذا الاستنتاج معارضة للعلم على فرض التسليم بصحّة النظريّة. يقول أبو المجد: إنّ فلسفة النشوء والارتقاء لا تقتضي إنكار الخالق، والباحث فيها من حيث كونها ناموسًا طبيعيًّا لا ينبغي أن ينصرف إلى ما وراء الطبيعة. لكن، الجهّال جلبوا على الدارونيّة العار، ولو تركوا في فلسفة النشوء مجالًا لأفكار العقلاء والملّيّين يوضحون دلائلها ويمضون حقّها من باطلها، فتسري على ناموس الارتقاء حتى ترتقي ذروة مجدها[43]. بل يقلب الطاولة على رأس الملحدين، ويعيد بناء الهرم على قاعدته بعد أن كان واقفًا على رأسه، فيذهب أعمق من ذلك، معتبرًا هذه النظرية في النشوء والارتقاء على ما فيه من بديع هذا النظام والترتيب في الخلق لو تمّت وسلمت أدلّتها من الانتقاد لكانت أبدع في الصنع وإثبات وجود الصانع الحكيم[44]. قائلًا إنّ كيفية وجود هذه الأحياء ونشوء بعضها من بعض دليل على وجود الصانع.
مناقشة أدلّة فرضيّة التطوّر
وفي المناقشة التفصيليّة لأدلّة فرضيّة التطوّر في ضوء نصوص دارون، ينقل أبو المجد عن دارون قوله: «... أمّا النتيجة التي توصلت إليها هنا، والتي يعتقد بها الآن جماعة من العلماء ذوي الأهليّة لبثّ الأحكام السديدة، فهي: إنّ الإنسان قد نشأ عن حيوان أحطّ منه بنية، والأركان التي شُيّدت عليها هذه النتيجة لن تتزعزع أبدًا، لأنّ المشابهة الشديدة بين الإنسان والحيوانات الدنيا في نشوء الأجنّة وفيما لا يحصى من أحوال البُنية والتركيب من كثير الأهمّيّة وقليلها والأعضاء الأثريّة الباقية فيه وتعرّضه من وقت إلى آخر للشرود عن المألوف والعودة إلى الأصل، جميع هذه الحقائق لا مراء فيها، وقد عُرِفت هذه الحقائق في زمن بعيد، ولكنها لم تُنبئنا فيما يختصّ بأصل الإنسان إلّا منذ عهد قريب...
والأدلّة التي سيقت على مذهب التحوّل هذا، هي:
أوّلًا: قابلية التغيير بشرط ارتقاء الإنسان.
أن يكون قابلًا للتغيير جسدًا وعقلًا.
وأن يكون خاضعًا لنواميس الإرث التي بمقتضاها تنتقل التغييرات التي تحدث فيه إلى نسله.
وأن تكون هذه التغييرات معلولات للعلل العامّة التي تشتمل بأسرها جميع الكائنات الحيّة.
فجميع هذه الشروط مستكملة فيه»[45].
يفهم أبو المجد أنّ استدلال دارون على وقوع التحوّل قائم على دعوى قابليّة الإنسان له واجتماع شروطه فيه، فـ»الإنسان أحد الكائنات الحيّة التي هي قابلة للتغيير، وخاضعة للنواميس العامّة، ومتى ثبتت القابليّة وُعلِم وجود النواميس العامّة التي حوّلت غيره، فلا بدّ من تحويلها الإنسان أيضًا»[46]. وأقصى ما تثبته رؤية دارون بقابليّة التغيير هو إمكان التحوّل وحصول الصورة الإنسانيّة به، لا نفي وقوعه بسبب آخر كالإبداع، فمجرّد القابليّة لا يثبت الحكم بالوقوع، فليس ثمّة ملازمة بين القول بنواميس التحوّل وبين وقوعها في الإنسان.
ويتابع دارون القول: «ثانيًا: مشابهة البنية. إنّ جسد الإنسان مركّب بوجه عامّ على مثال أجساد الحيوانات الأخرى ذوات الأثدي، فعظام هيكله لها مقابل في هيكل القرد والخفّاش وعجل البحر مثلًا، ويتمشّى هذا التمثيل على عضلاته وأعصابه وأوعيته الدمويّة وخلاياه الداخليّة ودماغه، وهو يشترك مع الحيوانات في قابليّته للعدوى ببعض الأمراض مثل «الجدريّ» و «الزهريّ» و»الكوليرا» وغيرها، مما يدلّ دلالة قاطعة على شدّة المشابهة بينه وبينها في الدم والأنسجة من حيث دقّة التركيب والبنية، وزد على ذلك أنّ القرد معرّض للزكام والصرع والتهاب الأمعاء وباكتيريا العين والحمّى، وأن العقاقير الطبيّة تفعل فيه فعلها في الإنسان، ومن النظر إلى شدة ميل بعض أنواع القردة إلى شرب الشاي والقهوة والمشروبات الروحيّة التي تسكر، وإلى الآلام العصبيّة التي تصاب بها على أثر السكر يتضح لنا شدّة مشابهتها للإنسان حتّى في الذوق والحسّ العامّ، وتسطو على الإنسان حليمات خارجيّة وداخليّة من نفس جنس الحليمات التي تنتاب الحيوانات الأخرى من ذوات الأثدي. وجميع ذلك يدلّ على شدّة المشابهة بين الإنسان والحيوانات العليا، ولا سيّما القرود في عموم البنية ودقّة الأنسجة والتركيب الكيميّ والألفة...»[47].
هنا، يناقش أبو المجد قرينة المشابهة من زاويتين:
الأولى: الزاوية الدينيّة من باب المحاججة، فيعتبر أنّ نظريّة دارون لا يمكن أن تُلزِم خصومه من أهل الدين بسبب الخلاف المبنائيّ بينهما، فشرْطَا فرضيّة دارون غير مسلّم عندهم؛ الأوّل: وجود أصل حيويّ للإنسان، وهو مما ينكره الملّيّون لاعتقادهم بالإبداع، والثاني: مرور ملايين السنين على هذا الأصل حتى تعمل النواميس البطيئة عملها، ولا يوافق عليه المليّون لذهابهم إلى أنّ اختراع خلقة الإنسان من مدّة قليلة بالنسبة إلى الزمان الذي يفرضه دارون لتصحيح آرائه، بمعنى أنّ ما يفرضه دارون من الزمان الطويل الذي استمرّ ملايين السنين لتأثّر النواميس التي يبنى عليها مذهبه في إحداث التغييرات التي نشاهدها في أصناف البشر لا يسلّم به الملّيّون.
والزاوية الثانية في نقده قرينة التشابه قوله: «كان الأولى أن يذكر بدلًا عن بيان وجوه المشابهة وجه الاستدلال بها، فإنّ مجرّد المشابهة بين شيئين لا يلزم [منه] تحولُّهما عن ثالث، أو تحوّل أحدهما عن الآخر...»[48].
ويُلفت إلى أنّ أئمة المسلمين وعلماءهم ملتفتون إلى هذا الشبه دون أن يجعلوا القرد أصلًا، طارحًا ثلاثة نماذج: الأول: الإمام الصادق عليه السلام، والثاني عن الدميري، والثالث عن إخوان الصفا، ونكتفي بنقل نصّ الإمام الصادق عليه السلام: «تأمّل خلقة القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه، أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر، وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضًا بأحشاء الإنسان، وخُصَّ مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يؤمي إليه، ويحكي كثيرًا مما يرى الإنسان يفعله، حتى أنّه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه. أن يكون عبرة للإنسان في نفسه، فيعلم أنّه من طينة البهائم وسنخها إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب. وأنّه لولا فضيلة فضّله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم، على أنّ في جسم القرد فصولًا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان كالخطم (مقدم الأنف والفم) والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله. وهذا لم يكن مانعًا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه، والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان -في الحقيقة- هو النقص في العقل والذهن والنطق»[49].»[50].
وفي هذا السياق، نِعْمَ ما قاله مصطفى صبري عن الدارونيّة: «لا يصحّ كونه مذهبًا علميًّا مبنيًّا على التجربة الحسّيّة، وإنّما هو مبنيّ على الفرض والتخمين؛ لأنّ تولّد الأنواع بعضها من بعض لا يكون في متناول الحسّ والمعاينة. وليست معاينة المستحاثّات المستخرجة من تحت الأرض المتوسطة بين نوعين موجودين من الحيوان معاينة التوالد، ولا معاينة كونها واسطة في التوالد، لاحتمال كون كلّ من الواسطة وطرفيها نوعًا مستقلًّا مخلوقًا برأسه، وليس من حقّ المجرّب أن ينتقل من التشابه المحسوس إلى التوالد غير المحسوس مهما وجد الوسائط المقرّبة بين المتشابهين، فإن انتقل كان خارجًا عن حدود التجربة التي يدعوان الوقوف عندها»[51].
أمّا فيما يتعلّق بقرينة الأجنّة، فيسجّل أبو المجد على دليل الأجنّة في نظريّة النشوء والارتقاء، انعدام الثقة بالعلماء الطبيعيّين فيما يدّعونه من عيّنات تجاربهم، لأنّ التجربة تشهد على أنّهم يلجأون إلى تزوير المعطيات لتوافق فرضيّاتهم المسبقة، مستشهدًا باعتراف هيكل (أرنست هاينرش فيليب أوغوست 1834-1919م) بتزوير صور الأجنّة وقوله في مقالته المؤرّخة 24 ديسمبر 1908م: «فبعد هذا الاعتراف يجب أن أحسب نفسي مقضيًّا عليّ وهالكًا، ولكنّه يُعزّيني أن أرى بجانبي في كرسي الاتهام مئات من شركائي في الجريمة، وبينهم عدد كبير من الفلاسفة المعوَّل عليهم في التجارب العلميّة وغيرهم من علماء الأحياء، فإنّ كثيرًا من الصور التي توضح علم أبنية الأحياء وعلم التشريح وعلم الأنسجة وعلم الأجنّة المنتشر المعوّل عليها مزوّر مثل تزويري تمامًا...»[52].
أمّا الدليل الرابع عند دارون فهو الأعضاء الأثريّة، حيث يقول: «لا يخلو فرد من الحيوانات العليا وفي جملتها الإنسان من وجود الأعضاء الأثريّة فيه، كالثندوتين في صدر الرجل، والناب الذي تحت اللثّة من المجترّات، فهذه الأعضاء وما شابهها تدعى أثريّة لعدم نفعها الآن لذويها، ممّا يدلّ على أنّها لم تنشأ تحت الأحوال الحاليّة، وهي شديدة التغيير لعدم نفعها، ويترتّب على ذلك عدم خضوعها لفعل الانتخاب الطبيعيّ واختفائها في غالب الأحيان... والظاهر أنّ السبب الأوّل في صيرورة بعض الأعضاء أثريّة هو عدم الاستعمال لها في إبان الاحتياج إليها... وتنتقل هذه الأثريّات بطريق الإرث إلى الأعقاب، ويكون ظهورها في نفس المدّة التي ابتدأ ظهورها فيها، وفي جسم الإنسان عضلات أثريّة وعضلات في حالة الظهور الكلّيّ لها مقابل في العجماوات».
ويناقش أبو المجد هذا الدليل بأنّ عدم الوجدان ليس دليلًا على عدم الوجود، قائلًا: من الواضح الذي لا يرتاب فيه أحد أنّ علم الفيسيولوجيا لم يعرف البشر جميع مسائله دفعة واحدة بل بالتدريج، بدءًا من الواضحات، ثمّ سرى على ناموس الارتقاء حتى بلغ ما هو عليه اليوم، فمرّ زمان على البشر لا يعرفون سوى منافع بعض الأعضاء، ولم يكن جهلهم بمنافع أعضاء أخرى دليلًا على عدم نفعها، ثمّ مع تقدّم الزمن وتطوّر علم وظائف الأعضاء والتشريح تبيّن قليلًا قليلًا نفع أعضاء ما كان يجهله الإنسان، أترى والحال هذه أنّ الإنسان لا يظن إن لم يقطع بأنّ هذه العدّة من الأعضاء التي يسمّونها أثريّة كباقيها ذات منافع جمّة ولها وظائف مهمّة، وإن خفي عليه الوجه فيها كما خفي على من سبقه في أكثر منها!! أفليس الأولى به أن يسعى في معرفتها ويجهد في رفع حجاب الجهل عنها؟ ويؤدي فرضه المقدّس من إكمال نقصان العلم ما أمكنه ما فعله السابقون، ويقول إن لم يوفق لذلك إنّ وظيفتها مجهولة، أو لم تُعلم بعد، أو الأولى أن يجزم بأنّ جميعها أعضاء باقية من أدوار الإنسان البهيميّة وليست لها وظائف فعليّة، فيوصد باب العلم على الأفهام[53]؟!!
ثمّ على فرض التسليم بعدم النفع الفعليّ لهذه الأعضاء، «فبأيّ دليل نسلّم لهم أنّ هذه الأعضاء كانت عاملة في الإنسان قبل ارتقائه وبقيت ضامرة لفقدانها وظايفها في حالته الحاضرة؟! ولِمَ لا تكون ابتداءً نشوءًا لأعضاء ذات أهمّيّة في تحوّلات الإنسان الآتية؟ وظاهر أنّ الأعضاء التي يحتاج إليها الحيوان في حال ارتقائه لا توجد دفعة، بل توجد وتكمل تدريجيًّا حتى تصير قابلة لأداء وظائفها في وقتها...»[54].
والملاحظة الجديرة بالذكر -بالعودة إلى ما تقدّم من كون هدف أبي المجد في نقد فرضيّة دارون يتمركز في محورين: الأوّل: عدم منافاتها مع وجود الصانع الحكيم، والثاني: عجزه عن نفي الخلق الابتدائيّ الإبداعيّ للإنسان- يعيد أبو المجد تسجيل ما تقدّم سابقًا أنّ هذه المظاهر التي يستشهدون بها لدعم فرضيّتهم هي أصلح ليستدلّ بها المتديّن لدعم إيمانه، فيعتبر أنّ أقصى ما يفيده دليل الأعضاء الأثريّة أنّ هذه الأعضاء كانت عاملة في الإنسان سابقًا وكان محتاجًا إليها وهو في غنى عنها الآن، وهذا لا يدلّ على أنّه كان حينئذٍ حيوانًا حتى على أصولهم، فإذا كان الإنسان محتاجًا إلى زيادة الأسنان قبل اهتدائه إلى الطحن والطبخ مثلًا وهكذا في بقية الأعضاء بسبب شروط البيئة، فإنّه بعد تقدّمه في الحضارة واستخدامه لقوى الطبيعة واهتدائه إلى تليين الطعام بالطبخ استغنى عنها، فأزالتها عنه يد الحكمة الإلهيّة التي أوجدتها له حين احتياجه إليها، فسبحانه من خالق ما أعظم حكمته وأجلّ قدرته وأعلمه بمصالح مخلوقاته وأرأفه بعباده»[55].
ويقول: «إنّ الاستدلال بأثريّة هذه الأعضاء إنّما يصحّ من المؤمنين الذين يثبتون لهذا الكون صانعًا حكيمًا، تجلّ أفعاله عن العبث واللغو، ويقولون بالقصد والغرض الغائيّ في خلق الأشياء.
وأمّا خصومنا الذين ينسبون الخلق إلى الطبيعة، ويصفونها بأنّها عمياء، ويعزونها إلى الصدفة، وهي باعترافهم صمّاء، ويبنون فلسفتهم على أنّ الموجودات نتيجة الاضطرار لا القصد والاختيار، فأيّ مانع على مذهبهم من أن يدخل في تركيب السلحفاة أجزاء تختص بالجمل؟! أو يوجد حيوان تسعة أشعار أجزائه زائد لا ينتفع بها ولا تستعمل؟! وذلك لا يبعد من العمياء والصمّاء.
وايم الله، ما هذا إلّا لأنّ القصد والاختيار وأنّ الكون بأسره فعل الصانع المختار، أم أنكرته ألسنتهم واعترفت به فطرتهم»[56].
والخلاصة في بيان أصل الإنسان وفق قوله: «الذي علمنا من ضرورة الدين أنّ الإنسان خُلق إنسانًا، ويبقى كذلك نوعه، وأمّا هذه التغييرات الطفيفة التي لا تضرّ بالصورة النوعيّة فمما لم يعلم من الدين عدمها، بل لعلّ فيه شواهد عليها، وكما لا يضرّ بنوعيّة الإنسان ما نشاهده في كثير من أفراده من زيادة عدد الأصابع أو نقصانه لا تضرّ بها أمثال هذه التغييرات، وإذا كان تعدّد الرأس واشتراك بعض الأعضاء بين شخصين متلاصقين ونحوهما من شواذ الطبيعة وأنواع الهولات العجيبة لا يضرّ بصدق اسم الإنسان، فبالأولى لا تضرّ به الزيادة في عضلات الرأس والأسنان ونحوهما من التغييرات الجزئيّة»[57].
فالمعيار الكلّيّ -من وجهة نظره- في الفرق بين الإنسان وغيره هو في الكمالات النفسيّة والقوى العقليّة، وإن كان شديد المشابهة مع الحيوانات في المستوى الجسديّ، وليست للقوى العقليّة بقايا في الطبقات الجيولوجيّة لكي تعرّفنا بأنّه من أيّ الصنفين وملحق بأيّ المملكتين[58]. ويخلص إلى أنّه: «لو زادوا عشرين على ما عدّوه للأرض من الطبقات، وبلغوا مركز الأرض في الحفريّات، وملؤوا معارض أوروبا بالعظام البالية، وادّعوا أنّها بقايا حيوانات عاشت في الأعصر الخالية، فلا يجدون شيئًا يوجب الوهم في تحوّل الإنسان ولا طريقًا إلى معرفة أصله، إلّا الإذعان بما أخبر به الدين وهو أنّ أبا البشر جميعًا إنسان مخلوق من الطّين»[59].
ويضيف في مناقشة الأعضاء الأثريّة: «فهب أنّا سلمنا وجود الأعضاء الأثريّة في الحيوان، فهل هي إلّا أعضاء وُجدت بل أوجدت عند احتياج الحيوان إليها، وتوقّف معيشتها عليها؟! ثم دُفِع عنه ثقلُها عند استغنائه عنها ووُضع عنه عبؤها على ما اقتضته الرحمة الشاملة أوّلًا، والحكمة آخرًا، ولو لم يكن في صفحة الإمكان شيء سواه لكان كافيًا لكلّ من منح أوّل درجة العقل ولم يفسد منه الوجدان بأن يعلم أنّ للكون مدبرًا حكيمًا يوجد الأشياء عند الضرورة ويعدمها لدى الاستغناء عنها تدريجًا كما أوجدها كذلك، على ما اقتضاه النظام الأعلى وجرت عادته المقدّسة في سائر الكون.
فانظر هداك الله تعالى إلى هذه الأشياء التي ذكرها، هل تعبث بالدين أو تعبث بلحيته ولحى أصحابه المادّيّين الذين يرون الكون نتيجة الصدفة العمياء؟! وماذا على الصدفة العمياء إن تبقّى في الجسم ما لا نفع فيه من الأعضاء؟ أتخشى أن يكون ذلك نقضًا في حكمتها أو منافية لقصدها[60]؟!
مسار التهافت
فلا يبقى أمام الداروينة إلّا أحد أمرين: الأوّل: رفع اليد عن هذه الآراء والقول بالتحوّل الفجائيّ، وأنّ هذه الأعضاء تبدو دفعة واحدة عند التحوّل إلى النوع الذي يلزمه تلك، وهذا نقض لهذه الفلسفة من أساسه. والثاني: الالتزام بالبديهيّات الثلاث أعني القصد والعلم والغاية في خلق الأشياء، فالطبيعة عمياء على مذهب الدارونيّة، فكيف تميّز الزوائد التي لا تنفع إلّا بعد أحقاب فتدّخرها ويحذف سواها؟!! فأكرم بعمياء غير شاعرة تعلم أنّ هذه الحشرة تعود جملًا بعد تحوّلات عديدة، وتلك تكون رجلًا بعد أجيال تعدّ بالملايين وتعلم ما يحتاجه كلّ منهما من الأعضاء الكثيرة المختلفة في الكم والكيف والوضع والتركيب و... في كلّ دور من أدواره الآتية، فلا تزال تدّخر النافع في كلّ دور من أدواره وتحذف المضرّ وغير النافع حتى يعود حيوانًا أو إنسانًا كامل الأعضاء تامّ التركيب متناسب الأعضاء[61]. ألا سائلًا من هؤلاء عن هذه القوّة الشديدة ما سببها؟ وبأيّ ناموس توصّلت الطبيعة إلى حفظ التناسب بها؟ وإذا طال عنق حيوان بالتنازع أو كبرت كفّه بالاستعمال بماذا يتبعه الجسم بتلك النسبة مع أنّه لا يشمله ذلك السبب؟ فلو أصابوا رشدهم لسمّوا نظريّتهم بالتحسين الإلهيّ بدلًا عن التحسين الطبيعيّ؛ إذ كيف تميّز الطبيعة بين الحسن وغيره وهي بزعمهم عمياء؟! وكيف تحسّن وهي عندهم غير شاعرة؟! ولذا تُبقي الحسن دون غيره وهي على مذهبهم لا تقصد غاية. وهل هذا إلّا خروج عن المذهب المادّيّ واعتراف بالأمرَين الأمَرَّيْنِ من العلقم في أذواقهم؟! بل نقض للغرض الذي أُسّست لأجله هذه الآراء، والتزام بعد الصخب واللغط وارتكاب فنون من الشطط والغلط بما التزم به سائر العقلاء.
وبالجملة هذا القول مما تبرّأ منه أهل الدين ولا ينطبق على أصول المعطّلين، فلا بدّ له من أحد أمرين: إمّا الإيمان بالخالق الجليل أو الالتزام بمجرد الصدفة وترك التعليل[62].
ويسجّل عليهم في الجانب القيميّ والأخلاقيّ أنّهم إنّما يتبنّون هذه الفرضيّة على علّاتها بنحو يربطونها بالإلحاد وإنكار الصانع من باب التهرّب من المسؤوليّة التي يقتضيها الانتماء إلى الدين في الالتزام والانضباط السلوكيّ، فالانغماس في اللذّات مع أمن الفظائع لا يحصل إلّا بإنكار الصانع، ليأمن الوعيد فيفعل ما يريد[63]، وإلّا لولا هذه الغشاوة التي هي وليدة الهوى والشهوة لما وافقوا على هذه الآراء واستهزؤوا بها، متمثّلًا قول الشاعر:
إنّما تنجح المقالة في المَر ءِ إذا وافقت هوىً في الفؤادِ
ويقول: «ومنهم من له في انتحال التعطيل مآرب وفي إنكار القصد [والغاية من الخلق] مقاصد؛ إذ الاعتقاد بالصانع يستلزم الانقياد للشرائع، والشرائع الإلهيّة كما علمت تمنع القبائح وتردع عن الفضائح وتزع الأنفس عن كثير من شهواتها، وتحبسها عن البغي والبغاء ونحوهما من مبتغياتها، تذمّ الفحشاء والمنكر، ولا ترخص في البولندريّة[64] Polyandry، ولا تسمّي السفاح بالحبّ الحرّ، ولا تقول إنّ الفضائل رذائل ولا تعدّ الغيرة على المحارم ضربًا من الحسد والبخل ... وكيف يخضع للشرائع الإلهيّة من أقصى جهده قضاء شهواته البهيميّة؟[65]
ومن النقاط المهمّة في نقده، مناقشة المقولة التي اشتهرت منذ أيّام أوجست كونت، بل قبله، في أنّ الإنسان إنّما يحتاج إلى التفكير الدينيّ ويلجأ إلى فكرة الإله باعتبار جهله بالأسباب الطبيعيّة والعلاقات القائمة بين الظواهر الماديّة، بحيث إذا اكتشف السبب الطبيعيّ بواسطة الملاحظة الحسّيّة والمنهج العلميّ تراجع الإله خطوة إلى الوراء، وشكر العلم سعيه على الخدمات التي قدّمها في هذا السياق، ويعرض أبو المجد وجهة نظرهم بقوله: من يقول إنّ تقدّم العلوم في هذا العصر بسبب أبحاث المتأخّرين لم يدع حادثًا من غير تعليل، وليس كما سبقه من الأعصار التي كان العلماء لا يهتدون إلى علل كثير من الحوادث فيفزعون إلى القدرة الإلهيّة، وقد علمنا الآن من نواميس الطبيعة ما يكفي لتعليل أكثر ما خفي على المتقدّمين الوجه فيه، وعلى المستقبل رفع الحجاب عما خفي علينا الآن، وبالتالي فلا حاجة إلى الله. ويردّ عليهم بأنّ تقدّم العلوم قد زادنا بصيرة في الدين، وأورثنا يقينًا على يقين؛ إذ تضاعفت به عندنا شواهد الإثبات، وببركته ظهرت لنا كنوز الآيات الخفيّات، فهل صنع تقدّم العلم شيئًا سوى أنّه كشف لنا تعدّد تلك الشواهد وأعطانا ألفًا بواحد، وأبان لنا تضاعفها، ولم تكن قطّ تلك الحوادث التي لا تعليل لها دليلًا يعتمد عليه المؤمنون كي يضعف هذا الدليل بتقدّم العلوم، بل كان الدليل هو انتظام تلك العلل المرتّبة، فكلّما ازدادوا معرفة بها ازداد يقينًا بخالقها ومبدعها[66].
ولذا يقول أبو المجد في نقد قولهم «إنّ الأحياء إذا كانت تتحوّل وترتقي بنواميس طبيعيّة، فلم يبق حينئذ احتياج إلى الله»، وهذا الكلام في غاية الأهمّيّة، حيث إنّ «أعظم شبهة دخلت في أمر التوحيد على هؤلاء وأكبر داعٍ لهم إلى التنويه بفلسفة النشوء والارتقاء هو: ظنّهم أنّ الموحّدين التجؤوا إلى الإقرار بالخالق حيث جهلوا الأسباب الطبيعيّة التي يجري الكون عليها، وأنّهم رأوا حوادث عجزوا عن تعليلها لنقصان علومهم فعلّلوها بالقدرة الإلهيّة، ولو عرفوا الأسباب الطبيعيّة أجمع لدانوا مثلهم بترك الدين واستغنوا عن الاعتراف بربّ العالمين، وحيث كانت هذه الفلسفة تتوسّع في بيان العلل الطبيعيّة للأحياء ولا تدع حادثًا فيها بلا تعليل، إن لم يكن بالممكن فبالمحال، أو باليقين فبالاحتمال، هاموا بها واعتنقوها وجعلوا وكدهم الإطراء عليها والذبّ عنها، ولو عرفوا حقيقة معتقد أهل الدين وأنّ معرفة الأسباب تزيدهم يقينًا على يقين، لتركوها ترك الظبي لكناسه وظلّه وزهدوا فيها زهد المسافر فيما جفّ من زاده إلّا قَدِمَ إلى أهله»[67].
معتبرًا أنّ وجود الأسباب الطبيعيّة ممّا لا ينكره أحد من العقلاء فضلًا عن أهل الدين، فالمتديّنون لا ينكرون وجود الأسباب، بل يستدلّون بحسن ترتيبها وبديع انتظامها على وجوده وبديع حكمته وعظيم قدرته؛ ولهذا تراهم من أحرص الناس على معرفتها والبحث عن خباياها في خفاياها، فقد علموا أنّهم لا يتقدّمون فيها خطوة إلّا ويرتقون من المعرفة درجات، ولا يتجلّى لهم سرّ للطبيعة إلّا وللنور المقّدس فيه تجلّيات... وأهل الدين لم يعترفوا بوجود الخالق جلّت قدرته إلّا بما عرفوه ضرورةً بالأدلّة القطعيّة من حدوث المادّة وإمكانها وضرورة انتهائها إلى واجب بالذات، ومنها هذه العلل، ولم يستدلّ أحد على ذلك بوجود حوادث لا يُعرف لها علّة طبيعيّة... فلا تضرّهم معرفة العلل الطبيعيّة، ولا تضرّهم فلسفة النشوء، بل فيها من النفع لهم أضعاف ما قدّروا من الضرر منها عليهم. وأهل الدين إذا وصفوا الله سبحانه بأنّه خالق الشيء فلا يريدون به أنّه أوجد بمحض قدرته الكاملة الابتدائيّة ولم يوسّط فيه غير إرادته المقدّسة، بل يريدون به أنّه أوجد بإرادته واختياره، سواء أوجده بلا أسباب طبيعيّة أصلًا، كما في العلّة الطبيعيّة الأولى، وهي المادّة أو القوّة بزعم هؤلاء، أو بتوسّط ألوف من الأسباب المرتّبة والمركّبة كما في الأحياء الموجودة الآن[68].
والخلاصة التي يخرج بها: «إنّ أهل الدين لا ينكرون ترتيب الأسباب والمسبّبات، بل يمنعون وجود شيء في الكون دقّ أو جلّ إلّا بعلّة كافية، ويبيّنون لتلك العلّة علّة أيضًا، وهكذا، حتى ينتهي إلى علّة العلل، وهم في المحافظة على الأسباب بمرتبة لا يبلغها هؤلاء، فهم يدّعون الضرورة على بطلان الصدفة والاتفاق... إنّ أهل الدين يعترفون بكلّ ناموس طبيعيّ، اكتشف إلى الآن أو يستكشف مدى الزمان، إن كان مما يثبته الاختيار، ولا تكذبه شواهد الامتحان، وليس ذلك عندهم مما يضرّ بالدين بل يزيدهم يقينًا على يقين»[69].
الخاتمة
الحوزة العلميّة من أقدم مؤسّسات التربية والتعليم تجذّرًا في التاريخ. تميّزت منذ محطاتها الأولى بالانفتاح الفكريّ على محيطها الحضاريّ العام، ولم تتعامل مع الآخر في ضوء عقليّة المشاهِد، أو منطق الرفض، إنّما قرأت، نقدت، تمثّلت، وحدّثت في الحقول المعرفيّة المختلفة. وأفضل ما يمكن الاستشهاد به هو الأبحاث الكلاميّة، المشحونة بدراسة الآخر في ضوء المناهج التوصيفيّة، والنقديّة، والمقارِنة: كالأشاعرة، المعتزلة، الزيديّة، الخوارج، النصرانيّة، اليهوديّة، البراهمة، والدهريّة... وكذلك شدّة اهتمامها بالفكر اليونانيّ، كالطِّب، الفلك، الرياضيّات، المنطق، الأخلاق، والسياسة... ومن شديد أسف، أنّه ثمّة مرحلة تاريخيّة ضعف بل انقطع فيها ارتباط الحوزة العلميّة بمحيطها الحضاريّ داخليًّا وخارجيًّا، فلم نعد نشاهد ذلك الاهتمام الرسميّ بفكر الآخر وعلومه، ولو من باب إرادة فهمه للمقارنة أو النقد أو الردّ على شبهاته، خصوصًا الغرب الحديث الذي دخل إلى الحواضر الإسلاميّة من بوابة نوعين من الحروب: الفيزيقيّة بالسيطرة على الجغرافيا والديموغرافيا والثروات الطبيعيّة... والميتافيزيقيّة بنهب التراث والمخطوطات وإدارة الوعي وغزو العقول في ميادين الفلسفة والعلم والسياسة والاقتصاد والأدب والفنّ... عن طريق المؤسّسات التربويّة والتعليميّة والأحزاب السياسيّة والمجلّات العلميّة والكتب... نعم، لم تُعدَم المبادرات الفرديّة الرائدة في القرنين الماضيين في نقد الغرب معرفيًّا وفلسفيًّا، تمثّلت عند الإماميّة في تجارب: جمال الدين الأفغانيّ، وعلي المدرِّس الزنوزيّ 1818-1889م في «بدايع الحكم»، وعبد الكريم الزنجاني، ومحمد حسين الطباطبائيّ 1892-1981م وتلميذه مرتضى مطهّري 1919-1979م في «أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ»، ومحمّد باقر الصدر 1935-1980م في «فلسفتنا» و«الأسس المنطقيّة للاستقراء»... وما أحوجنا اليوم، إلى إعادة تمثّل هذه التجارب وتجربة أبي المجد الأصفهاني في نقد فلسفة دارون، لإحياء إرادة فهم الآخر الغربيّ ونفخ الحياة في الحماسة النقديّة للردّ على شبهاته والإجابة عن إشكاليّاته.
لائحة المصادر والمراجع
The Autobiography of Charles Darwin. اللاهوت المعاصر دراسات نقديّة، الدين والعلوم التجريبيّة، العتبة العباسيّة المّقدسة، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الدارونيّة، مرتضى فرج.
العقّاد، عباس محمود، الإنسان في القرآن، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة.
باشميل، محمد أحمد، الإسلام ونظريّة داروين، دار الفتح، بيروت، ط2، 1388-1948.
فرويد، سيغموند، محاضرات تمهيديّة في التحليل النفسيّ، ترجمة أحمد عزّت راجح، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة، 1966م، ج3، نقلًا عن: هوستن، سميث، لماذا الدين ضرورة؟ ترجمة سعد رستم، دار الجسور الثقافيّة، حلب، 2005م.
الجعفيّ، المفضّل بن عمر، توحيد المفضل إملاء الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، تعليق كاظم المظفر، مؤسّسة الوفاء، بيروت، ط2، 1404هـ-1984م.
الدميري، محمّد بن موسى، حياة الحيوان الكبرى، وضع حواشيه وقدم له أحزد حسن بسج، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2015م، ج2.
الطهرانيّ، آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، ط1، 1430هـ-2009م، ج14، وأنظر حول أقوال العلماء فيه: الصدر، حسن، تكملة أمل الآمل، تحقيق حسين علي محفوظ وآخرون، دار المؤرخ العربي، بيروت، ج5، ترجمة رقم 2310. الأميني، محمد هادي، معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام، ط1، 1384-1964م، ج1، حرف الألف (الأصفهاني/ 80).
الطهراني، طبقات أعلام الشيعة، مصدر سابق، ج14، وأنظر: الطهرانيّ، آغا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، دار الأضواء، بيروت، ط2، مجلد24، تحت رقم 1430.
المظفر، محمد رضا، المنطق، تعليق الشيخ غلام رضا الفياضي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، ط1.
انظر حول قراءة دارون عربيًّا: الشاكري، مروة، قراءة داروين في الفكر العربيّ 1860-1950، ترجمة محمد سعيد كامل. وللمؤلِّفة نفسها: إرث دارون في الشرق العربي: العلم والدين والسياسة-1870-1914م.
انظر: الطهراني، آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، ط1، 1430ه-2009م، ج14. والأمين، محسن، أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، ط2، 1401هـ، ج32، ومقدّمة السيد محمد رضا الحسينيّ الجلاليّ على كتاب نقد فلسفة دارون، الطبعة الحديثة 2015م.
صبري، مصطفى، موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين، دار التربية، دمشق، ط1، 2007م، ج2.
نقد فلسفة دارون، أنظر: Thomas H. Huxley, 1894, Collected Essays, Vol. IX,
…the God so conceived is one that only a very great fool would deny, even in his heart.
-----------------------------------------------
[1]*ـ باحث في الفكر الإسلامي- لبنان.
[2]- يعتبر دينيت في كتابه Darwin’s Dangerous Idea «فكرة دارون الخطيرة»: أنّ الانتقاء والتكيّف في الكائنات الحيّة في مدّة زمنيّة قد تستغرق مليارات السنين في عمليّة عمياء وسلسلة غير عاقلة من الحوادث المتعاقبة كفيلة في تحقيق التنوّع الأحيائيّ الموجود في كوكبنا حتى الكائن البشريّ بما يتمتّع به من ذكاء ووعي دون حاجة إلى افتراض مصمّم ذكي مبدع يشرف على هذه العمليّة.
[3]- أنظر: الطهراني، آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، ط1، 1430ه-2009م، ج14، ص747-753. والأمين، محسن، أعيان الشيعة، دار التعارف، بيروت، ط2، 1401ه، ج32، ص19-23. ومقدّمة السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ على كتاب نقد فلسفة دارون، الطبعة الحديثة 2015م.
[4]- الطهرانيّ، آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، ط1، 1430ه-2009م، ج14، ص747-753. وأنظر حول أقوال العلماء فيه: الصدر، حسن، تكملة أمل الآمل، تحقيق حسين علي محفوظ وآخرون، دار المؤرّخ العربيّ، بيروت، ج5، ص371، ترجمة رقم 2310. الأمينيّ، محمّد هادي، معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام، ط1، 1384-1964م، ج1، حرف الألف (الأصفهانيّ/80)، ص36.
[5]- الطهرانيّ، طبقات أعلام الشيعة، مصدر سابق، ج14، ص748-749.
[6]- الطهرانيّ، طبقات أعلام الشيعة، مصدر سابق، ج14، ص752. وأنظر: الطهرانيّ، آغا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، دار الأضواء، بيروت، ط2، مجلد24، ص277، تحت رقم 1430.
[7]- العقّاد، عبّاس محمود، الإنسان في القرآن، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 96-97.
[8]- باشميل، محمّد أحمد، الإسلام ونظريّة داروين، دار الفتح، بيروت، ط2، 1388-1948، ص55-58.
[9]- نقد فلسفة دارون، ص9.
[10]- نقد فلسفة دارون، ص4.
[11]- م.ن، ص5-6
[12]- م.ن، ص6.
[13]- م.س، نقد فلسفة دارون، ص4-5.
[14]- نقد فلسفة دارون ، ص6.
[15]- المظفر، محمد رضا، المنطق، تعليق الشيخ غلام رضا الفياضي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، ط1، ص382.
[16]- نقد فلسفة دارون، ص7.
[17]- م.ن، ص101.
[18]- م.س، نقد فلسفة دارون، ص18-19.
[19]- م.ن، ص6.
[20]- م.ن، ص7.
[21]- نقد فلسفة دارون، ص11-13.
[22]- م.ن، نقد فلسفة دارون، ص13-14.
[23]- م.ن، ص14-15.
[24]- نقد فلسفة دارون، ص17-18.
[25]- نقد فلسفة دارون، ص31.
[26]- ن.م، ص33.
[27]- ن.م، ص36.
[28]- م.س، نقد فلسفة دارون، ص36-37.
[29]- نقد فلسفة دارون، م.س، ص38
[30]- نقد فلسفة دارون ، ص39.
[31]- م.ن، ص46.
[32]- نقد فلسفة دارون ، ص42.
[33]- نقد فلسفة دارون ، ص31.
[34]- م.ن، ص21.
[35]- نقد فلسفة دارون، ص21. يقول دارون في خاتمة كتاب أصل الأنواع: «إنّ هناك جمالًا وجلالًا في هذه النظرة عن الحياة بقواها العديدة التي نفخها الخالق الأوّل مرّة في عدد قليل من الصور أو في صورة واحدة».
[36]- م.ن، ص31.
[37]- The Autobiography of Charles Darwin, p92- 93. نقلًا عن: اللاهوت المعاصر دراسات نقديّة، الدين والعلوم التجريبيّة، العتبة العباسيّة المقدّسة، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة، الدارونيّة، مرتضى فرج، ص115.
[38]- م.ن، ص25.
[39]- م.ن، ص25.
[40]- نقد فلسفة دارون، ص27. أنظر:
Thomas H. Huxley, 1894, Collected Essays, Vol. IX, p. 140
…the God so conceived is one that only a very great fool would deny, even in his heart.
[41]- نقد فلسفة دارون، ص28.
[42]- نقد فلسفة دارون، ص30.
[43]- م.ن، ص23.
[44]- م.ن، ص24.
[45]- نقد فلسفة دارون، ص47-49.
[46]- م.ن، ص49.
[47]- نقد فلسفة دارون، ص50-51.
[48]- م.ن، ص52.
[49]- الجعفي، المفضل بن عمر، توحيد المفضل إملاء الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، تعليق: كاظم المظفر، مؤسّسة الوفاء، بيروت، ط2، 1404هـ-1984م، ص60-61:
[50]- الدميري، محمد بن موسى، حياة الحيوان الكبرى، وضع حواشيه وقدّم له أحزد حسن بسج، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2015م، ج2، ص330.
[51]- صبري، مصطفى، موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين، دار التربية، دمشق، ط1، 2007م، ج2، ص266.
[52]- نقد فلسفة دارون، ص58.
[53]- نقد فلسفة دارون، ص64-65.
[54]- م.ن، ص65.
[55]- نقد فلسفة دارون ، ص68.
[56]- نقد فلسفة دارون، ص70-71.
[57]- م.ن، ص67.
[58]- م.ن، ص86.
[59]- نقد فلسفة دارون، ص98.
[60]- نقد فلسفة دارون، ص146.
[61]- م.ن، ص121-122.
[62]- نقد فلسفة دارون، ص 125-126.
[63]- ن.م، ص134-135.
[64]- شكل من أشكال تعدّد الزوجات، الذي تتّخذ فيه المرأة زوجين أو أكثر في الوقت نفسه.
[65]- م.ن، ص 232.
[66]- نقد فلسفة دارون ، ص217.
[67]- م.ن، ص151.
[68]- نقد فلسفة دارون ، ص153-154-156.
[69]- م.ن، ص223.