البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التبرير الفلسفي لغزو العالم

الباحث :  محمد نعمة فقيه
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  29
السنة :  شتاء 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 16 / 2023
عدد زيارات البحث :  3046
تحميل  ( 537.036 KB )
خرجت الفلسفة الأوروبيّة الحديثة، منذ رينيه ديكارت، بكلّ اجتهاداتها وتوجّهاتها وما أسّست له مِن قواعد ومناهج، لتواكب الانقلاب الإيديولوجي الذي أحدثه التّفكيك في نمط الاجتماع الأوروبي وكسر الموحّد الإيديولوجي الكاثوليكي لهذا الاجتماع تحت ضربات الحروب الدينيّة على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر، فبدأت تبحث عن صيغٍ وقواعدَ جديدة لهذا الاجتماع يتلاءم مع احتياجات ومتطلّبات العصر الجديد المُقحَم عنوةً عليه.

ولعلّ المحور المركزي الذي أخذ به النشاط الفكري، هو إنشاء منظومات معرفيّة، غايتها التنظير للتمركز الغربي باعتباره حجر الرحى في الحضارة العالميّة العقلانيّة. وإنطلاقًا مِن هذا التأسيس، مضى التنظير الفلسفي إلى تسويغ وتبرير الامتداد الاستعماري الأوروبي نحو أرض الغير بذريعة نقل حضارة العقل بقطع النظر عن الآثار المترتّبة على الغزو وحروب الإبادة بحقّ الشعوب المستعمرة.

كلمات مفتاحيّة: إيديولوجيا الهيمنة – الفلسفة العنصريّة – هيغل – ماركس – الفعل الاستعماري.

تمهيد
على غير ما هو شائع، لم تكن الصراعات التي اندلعت في أوروبا الغربيّة والشماليّة منذ عشرينيّات القرن السادس عشر تعبّر عن تناقضات فيما بين نمطين لعلاقات الإنتاج، بل عن تناقضات حادّة فيما بين إيديولوجيّتين ونمطي حياة أحدهما يلغي الآخر: إيديولوجيا كاثوليكيّة سائدة تأسَّس عليها الاجتماع الأوروبي الغربي، فانتقلت به مِن حالته البربريّة التي تفشّت بأوصاله بعد انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة، فصنعت له هذه الإيديولوجيا هويّته الحضاريّة[2] وقادته للخروج مِن قرونه الوسطى بعد أنْ مكّنته مِن الاندفاع في حروبه الصليبيّة مع خارجه، وفي احتلال الأندلس وطرد العرب والمسلمين منها، وصولًا إلى تحقيق الانقلاب في التوازن السياسي الدّولي لصالحه والدخول في عصر الاكتشافات العلميّة والجغرافيّة.
أمّا الإيديولوجيا الأخرى في الصراع، والتي سنطلق عليها تجاوزًا اسم الإيديولوجيا الرأسماليّة، فهي إيديولوجيا تفكيكيّة دخيلة على المجتمع؛ أي لم يتمّ إنتاجها ضمن حركة تطوّر ذاتيّة وبأواليّات المجتمع الدّاخليّة، بل أقحمتها عليه بالدسائس والمكائد البيوتات الماليّة اليهوديّة التي كانت تعيش على هامش المجتمع، وتقبض على أعناق رجال الإقطاع بالمديونيّة العالية، وقد تمكّنت تلك البيوتات مِن تحويل احتجاجات الراهب مارتن لوثر إلى حروب دينيّة مدمِّرة للمجتمع تحت شعارات الإصلاح الديني.

ومنذ ما قبل انتهاء الشّكل الدّموي للحروب الدينيّة بانتصارٍ واضحٍ لرجال الإقطاع، الذين حملوا لواء البروتستانتيّة، على أمثالهم المتحالفين مع الكنيسة الكاثوليكيّة، كانت الإيديولوجيا البديلة قد رسّخت وجودها في الواقع الأوروبي، ترفدها جموعٌ مِن المفكّرين والمثقّفين والكتبة، حيث نشطت تلك الجموع في نشر هذه الإيديولوجيا وتسفيه سابقتها. وبدأت المقولات الفلسفيّة بالظهور لتسهم في تأطير الوعي المُحصّل مع مستجدّات الواقع الجديد، والحلول محلّ الفلسفة اللاهوتيّة في تفسير الوجود وفي توصيف ما هو حقّ وما هو باطل وتعيين التّخوم فيما بينهما، وفي تبرير النوازع الماديّة وتغليبها على الروحيّة، وفي تحديد معايير جديدة للجمال والفن، وأهداف حديثة للأدب وأساليبه. والأهمّ مِن كلّ ذلك، فقد اشتغل الفلاسفة الأوائل، لا سيّما الفرنسيّون منهم كرينيه ديكارت وشارل مونتسكيو وجان جاك روسّو وغيرهم، بمواضيع ذات صلة بالدولة الحديثة وأنظمة الحكم وفصل السلطات والعقد الاجتماعي.
نلاحظ أنَّ هموم فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر تركّزت على مجابهة الفكر اللاهوتي، أو إعادة تفسيره وتوظيفه في خدمة معركة السّادة الجُدُد لاستئصال الفكر الكنسي مِن المجتمع، أو محاصرته وتسفيهه لمنعه مِن الفعل فيه. ولم تعر اهتمامًا يُذكر لما هو خارج نطاقها الجغرافي، مع أنّ نصوصها توحي بأنّها ذات بُعدِ إنساني، نستثني مِن ذلك فلاسفة الاقتصاد السياسي، ديفيد ريكاردو وآدم سميث، اللذين لحظا دور الثروات القادمة مِن المستعمرات في الاقتصادات الأوروبيّة، ولكنّهما لم يتجاوزا البحث فيها سوى بوصفها نتائج «للتجارة الخارجيّة» أو «التجارة البعيدة المدى».

وستنتظر قضايا المستعمرات والرؤية الفلسفيّة لعلاقة المستعمِر بمستعمراته إلى ما بعد مؤتمر فيينا (1813-1815)، الذي جاء إثر تفكيك آخر إمبراطوريّة شملت القارة الأوروبيّة، إمبراطوريّة نابليون، وبروز الدولة القوميّة فيها، وازدهار الفكر العنصري، أكان فيما بين الأوروبيين أنفسهم أو فيما بين الأوروبيين كعرق وغيرهم مِن الأعراق البشريّة.
فبينما كانت «الدولة القوميّة» تأخذ طريقها للترسُّخ في الواقع الأوروبي الغربي كدولة تحمي مكاسب الرأسماليين، وضمنًا البيوتات الماليّة، ولو استدعى ذلك خوض الحروب الطاحنة، كان الغزو الأوروبي للشعوب والمجتمعات غير الأوروبيّة على أشدِّه، وكان الفكر الفلسفي الأوروبي المتناسق زمنيًّا مع هذا التطوّر، قد سقط في مغبّة التسليم بتفوّق العنصر الأوروبي الغربي، وبرسالة الرأسماليّة في تطوير «العالم المتأخّر»، وانخرط في التنظير لهذا التفوُّق وتلك الرسالة.
سنتناول في هذا البحث مقولات لشخصيّتين مِن أعلام الفكر الفلسفي الأوروبي، وهما الألمانيّان هيغل وماركس، باعتبارهما أعلى مستويات تجلّي هذا الفكر، وعلى استنتاجاتهما ورؤيتيهما ترتكز جميع المقولات الفلسفيّة والفكريّة، وحتّى السياسات الاقتصاديّة والتنمويّة تجاه المجتمعات غير الأوروبيّة، على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين وحتّى يومنا هذا في بدايات الألفيّة الثالثة. وإلى حدٍّ كبير، يمكن اعتبار هيغل بأنَّه كان مكمِّلًا ومنجزًا لفكر شيلنغ، الذي كان قد تابع وطوّر فلسفة فيخته، والذي كان بدوره مكمّلًا لفكر كانط، ومِن ثَمَّ ليأتي كارل ماركس ليُعدِّل فلسفة هيغل، فـ «يُطهّرها» بتخليصه لها مِن رواسب وأدران الإيمان الماورائي، ويوقف جدليّته المثاليّة على قدميها، ويحوّلها إلى جدليّة ماديّة كما ذكر رفيقه وصنوه فريديريك أنجلز. وستقتصر المقولات التي سنتناولها في البحث تلك المتّصلة برؤيتهما لطبيعة ودور الحركة الاستعماريّة في المجتمعات غير الأوروبيّة.

التنظير لفلسفة الاستعمار
لم يكن انطلاقنا مِن لدن هذين الفيلسوفين الشهيرين في بحثنا هذا عبثيًّا، ولا هو استعادة لنقاشات قد تبدو عند آخرين محسومة وأنَّ نقاشها قد انتهى. فما يبدو لهم أنّه انتهى، ما زال فاعلًا ومؤثّرًا إلى حدٍّ كبير لدى مختلف المفكّرين والدّارسين للمشكلات التي تعاني منها الدول والمجتمعات المُخضَعة للاقتصاد الدّولي ومشيئته. كما أنّ النقاش غالبًا لم يبرح «صحن الدّار»؛ أي إنّه كان يحرّك على الأرضيّة نفسها. فحتّى الذين عارضوا أو دحضوا بعض المقولات والمفاهيم، لم يقطعوا معها، بل أعادوا هذه الهفوة أو تلك الكبوة لهذا المُعطى أو ذاك، وبالمحصلة وجدوا أنّ لها ما يبرّرها. ورغم اختلاف البُعد الإيديولوجي والثقافي للمفكّرين المعاصرين، نجد بشكل واضح أنَّ مقولاتهم، بمجملها، ترتكز على ركائز نظريّة، نجد أصولها الفلسفيّة عند أحدهما أو كليهما في بعض الأحيان.

وقد نتج عن ارتكاز هؤلاء على ركائز نظريّة أسّس لها هيغل وماركس، أنْ انطلقوا مِن نقطة الانطلاق نفسها في قراءتهم وتحليلهم لما تعانيه المجتمعات غير الأوروبيّة مِن مشكلات، وفي تصوّرهم لآفاق التغلُّب على تلك المشكلات. ونقطة الانطلاق هذه تتمثّل في تسليمهم بنموذجيّة المشهد الأوروبي، وهي لا ترى في المجتمعات سوى أنّها مجتمعات متخلّفة، ونراها تستخدم ذاك النموذج لقياس مدى التطوّر أو التخلّف في بلاد العالم، وتحكم على صحّة المسار الذي تسير عليه تبعًا لتطابقه أو عدم تطابقه مع المسار الذي سارت عليه الرأسماليّة في أوروبا الغربيّة.
وتبعًا لهذا التصوّر – الفرضيّة، وضع هؤلاء الباحثون الشعوبَ غير الأوروبيّة أمام مصيرٍ واحد لا ثانٍ له، فهم باعتبارهم لمجتمعات العالم كافة بأنّها محكومة بالسير قدمًا ضمن خطٍّ نسقيّ واحد ومتطابق، وإنْ تباعدت الفترات الزمنيّة لتحقيق الخطوة نفسها مِن بلد إلى آخر. وإذا كنّا نجد عند هيغل أنَّ على شعوب العالم غير الأوروبي أنْ تدخل في عبوديّة مستعبديها الأوروبيين وترضى بـ«قدرها»، لأنّها آثرت الحياة على القتال في سبيل حريّتها، فاستحقّت عبوديّتها. وبالتالي، لم يرَ هيغل لتلك الشعوب مناصًا ممّا هي فيه؛ لأنَّ «الروح» بلغت سموّها الأقصى في بلاد الجرمان، بينما نجد عند أتباعه في «المدرسة الهيغليّة»، «بارقة أمل» لتلك الشعوب في التخلّص مِن عبوديّتها إنْ سلكت مسالك ملائمة للتطوُّر، وأهمّ تلك المسالك هو أنْ تتحلّل مِن قيمها وخصوصيّاتها الحضاريّة وتقلّد الغرب في سلوكيّاته وتستلهم معارفه وثقافته. ونجد عند ماركس والماركسيين أنَّ على تلك الشعوب أنْ تدمّر «مجتمعها التقليدي»، وتفتح ذراعيها للرأسماليّة الوافدة مع الاستعمار لتلحق بركب الحضارة الأوروبيّة، وأنّ على البلدان كافّة أنْ تسير في طريق تطوّرها على الخطا نفسها لبلوغ الهدف نفسه، وأنَّها بكسرها لنمط اجتماعها وتقاليدها الخاصّة، تتمكّن مِن حجز موقع لها في السباق الحتمي نحو التقدّم.

أوّلًا: هيغل واضع اللبنة الأساسيّة للفكر العنصري
إذا كان يحقُّ اعتبار ديكارت «أبا الفلسفة الأوروبيّة الحديثة»، فليس مبالغًا فيه القول بأنَّ هيغل هو «حصيلة» هذه الفلسفة و»خاتم» الفلاسفة. وهذا التصنيف يشمل كلّ مَنْ لحقه مِن فلاسفة ومفكّرين، التّابعين له أو المجدّدين لفلسفته، وحتّى المعارضين لها ككارل ماركس ورفيقه وصنوه فريدريك أنجلز، فهو أطّر وطوّر وشذّب مقولات سلسلة كبيرة مِن المفكّرين والفلاسفة الكبار في الغرب كانوا قد سبقوه أو عاصروه، مثل الفرنسيَّين شارل مونتسكيو وجان جاك روسّو، والفلاسفة الألمان مثل إيمانويل كانط ويوهان فخته وفريدريك شيلنغ، إضافة للمفكّرين الاقتصاديين الإنكليز كآدم سميث وديفيد ريكاردو وغيرهم، ووضع الأرضيّة التي عمل ضمن دوائرها مَنْ لحقه، أكان مؤيّدًا أو معارضًا.

قبل هيغل، وعلى امتداد تاريخ البشريّة، كان يقتصر اعتداد الشعوب والقبائل بنفسها مِن خلال أعمال أدبيّة ورد فيها التفاخر بأمجاد الأجداد وذمّ عدو أو أعداء هذه القبيلة أو ذاك الشعب، ويأتي استثناء على ذلك الفكر اليهودي الذي يقوم على فكرة أنَّ اليهود هم شعب الله المختار، وأنَّ ما عداهم فهم مِن الوثنيين الذين تقع عليهم لعنة الربّ، ولا يحقّ لهم الدخول في دينهم. بينما نجد أنَّ تفاخر أتباع الأديان الأخرى بأنّهم «خير أمّة أُخرجت للناس» كما يقول المسلمون، أو أنّهم الأمّة التي فداها الربّ بجسده وخلّصها كما يقول المسيحيّون؛ فإنَّ هذا التفاخر، المسيحي والإسلامي، لا يقتصر على شعب مِن الشعوب، بل على كلّ مَنْ يدخل في الدين مِن شعوب الأرض، باعتبار أنَّ هذين الدينين مفتوحان للدعوة والبشارة.

والفكر العنصري الذي قدّمه هيغل، ليس مجرّد نضحٍ مِن وعائه الفلسفي، بل هو عصب فلسفته ومحورها، وهو الذي وضع اللّبنة الأساسيّة لهذا الفكر الذي شاع خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأنتج حروبًا مدمّرة، فهو بالتالي أبو الفكر العنصري الغربي ومؤسّسه ومنظّره كتعبير عن انبهاره بما حقّقته جيوش أوروبا الغربيّة منذ بدء حركة الاستعمار مِن انتصارات على شعوب العالم؛ فنراه وقد صاغ الفكر العنصري بقالب فلسفي مانحًا له تبريراته، باعتباره ضرورة لا بدّ منها لقيام الدّولة وإظهار روحها المسؤولة عن تألّق الشعب وتطوّره أو خموله وتقوقعه ووقوعه في العبوديّة، مختزلًا التاريخ وحركة الشعوب وحضاراتها بهلاميّة ابتدعها وأطلق عليها اسم «روح» تحرّك خارج التاريخ وخارج الموجودات، ليبني على هذه الهلاميّة أدوات لوي عنق الحقيقة وخنقها، ليدّعي بعدها بتفوّق العنصر الجرماني على باقي شعوب الأرض، ولتقوم على رؤياه الفلسفيّة العنصريّات البيولوجيّة والإيكولوجيّة على همّة كلٍّ مِن مورغان وداروين وغيرهما في القرن التاسع عشر، وكذلك فلسفة البقاء للأقوى النّيتشيّة التي أسّست للفكر الفاشي والنّازي في القرن العشرين، وعليها قامت فلسفة ماكس فيبر البروتستانتيّة – اليهوديّة التي عملت على تطويع العالم الأوروبي والأميركي للرأسماليّة اليهوديّة النّاشطة في مساعيها للقبض على مفاصل الاقتصادات الدوليّة.
فهو قدّم في فلسفته رؤية لحركة الشعوب في التاريخ تقوم على ما أسماه «روح شعب» و«روح عصر»، حيث أنّه لم يرَ في الطبيعة ولا في الفنّ، أو الإبداع، ولا في الاكتشافات، ما مِن شأنه «توليد العلاقة الحيّة بين الفرد والمدينة»[3]، إنّما «الرّوح»، «روح الفرد» باعتبارها حالة تتخطّى الفرد، لتكوّن ما أسماه «روح شعب»، أو «روح دين». وهذه الروح هي التي تؤشِّر، تبعًا لفلسفته، إلى صيرورة الشعب وصيرورة الدّين، إمّا إلى التألّق والحريّة، وإمّا إلى التلاشي والاضمحلال أو الدّخول في العبوديّة للمنتصر.

العبث بالحقائق التاريخيّة:
لم يكتفِ هيغل بالتلاعب بمنطق الأشياء وحقيقتها ودلالاتها ليدعم آراءه الفلسفيّة، بل نراه يعبث بالتاريخ ووقائعه وحقائقه عبثًا مريعًا ويلوي عنقه، حتّى قطع صلته بالعلم تحت مظلّة توليفته الخاصّة لفلسفة التاريخ، التي استخلص منها أنَّ «الرّوح» في الحضارة الصينيّة قبل أربعة آلاف سنة؛ أي حين كان برابرة الجرمان لم يكتشفوا أنفسهم بعد، فيدّعي أنّها كانت، أي «الرّوح»، في أدنى مراحلها وأكثرها بؤسًا؛ نظرًا لأنَّ التقاليد الاجتماعيّة التي قامت عليها حضارة الصين، منعتها مِن الانطلاق وتحقيق وعيها، وهو الوعي الذي لم يصل إلى الكمال، حسب رأيه، إلّا في عالمه الجرماني.

وهو ليثبت ترسيمته الخاصّة للتاريخ، الترسيمة التي يدّعي بناءً عليها بأنَّ روح «العالم اليوناني» تلقّفت الحضارة التي انتقلت مِن الصين إلى الهند ومنها إلى بلاد فارس، واضعًا الحضارة الفرعونيّة كجزءٍ مِن الحضارة الفارسيّة، ومنها إلى «العالم اليوناني»، حيث استقرّت ونمت وتألّقت الحضارة الإنسانيّة مع تألّق «الروح» في بيئتها الجديدة، البيئة الملائمة لها، بينما اضمحلّت وتلاشت لدى الشعوب القديمة، وهذا ما يجعل تلك الشعوب قابلة للدخول في العبوديّة للغرب.
معتبرًا انتصار الإسكندر المقدوني على إمبراطور فارس داريوس في القرن الرابع قبل الميلاد، انتقالًا للحضارة مِن الشرق إلى «العالم اليوناني»، متجاهلًا بأنَّ الحضارات الرّاسخة والأكثر تطوّرًا في ذاك العصر، في بلاد الشام وبابل وفارس ومصر، كانت قد هضمت في أواليّاتها الداخليّة الإسكندر وجيوشه والشعب الذي كان يرافق تلك الجيوش.

فالترسيمة التي وضعها هيغل للتاريخ، والتي يعتمد فيها على جهل معاصريه للحقائق التاريخيّة، لتتلاءم مع فرضيّته العنصريّة، ضرب بها كلّ حقائق التاريخ، خاصّة بتجاوزه للحضارة السومريّة في بلاد ما بين النّهرين، وهي الحضارة التي ترافقت مع الحضارة الفرعونيّة، ومِن ثَمَّ الحضارة البابليّة التي سبقت الحضارة الفارسيّة، وهذه الحضارات هي سابقة تاريخيًّا للحضارتين الصينيّة والهنديّة، وبذلك تجاهل أهمّيّة ما قدّمته الحضارتان السومريّة والفرعونيّة مِن علوم، لا سيّما منها ترميز الأصوات البشريّة في حروف وكلمات، أدخلت البشريّة في التاريخ المكتوب الذي شكّل ثورة أساسيّة في التطوّر البشري، ومدّعيًا للحملة المقدونيّة على بلاد الشرق إنجازات حضاريّة ليست لها، وهي التي ما لبثت أن تشتّتت وذابت في حضارة الشرق خلال أقلّ مِن عقدين مِن الزمن؛ ومتجاهلًا بأنَّ اللقب الذي اشتهر به الإسكندر المقدوني، وهو لقب «ذو القرنين»، لم يحصل عليه إلّا بعد انتصار عسكري، وليس بعد انتصار حضاري، على إمبراطور فارس داريوس الذي كان يحمل هذا اللّقب، فأخذه الإسكندر لنفسه على عادة الملوك المنتصرين في ذاك الزمان[4]؛ وأنّ الحضارة الهلنستيّة (Hellenismus)[5] التي قامت على مدارس الإسكندريّة (مصر) وأنطاكيا (سورية) وسلوقيا (بلاد ما بين النهرين). وبالتالي، فهي لم تكن في حقيقتها سوى مرحلة مِن مراحل تطوّر الحضارات الفرعونيّة والسوريّة والفارسيّة.
والحقيقة الأبرز التي شاء هيغل مِن ترسيمته هذه الالتفاف عليها، هي دور الكنيسة الكاثوليكيّة في نقل المعارف والعلوم العربيّة والإسلاميّة مِن بلاد الشام والأندلس، وترجمة امّهات الكتب العربيّة إلى اللاتينيّة، لا سيّما منها كتب الفلسفة والرياضيّات والطب، حتّى بات ابن سينا وابن رشد وابن الهيثم مِن أهمّ أساتذة «أبي الفلسفة الأوروبيّة الحديثة» رينيه ديكارت.

حرب الإخضاع، وليس الإلحاق، ضرورة:
ويعبّر هيغل عن عنصريّته بشكل صارخ حين يتوصّل إلى الاستنتاج، وهو استنتاج بنى عليه فلسفته في «فينومينولوجيا الروح»، أنَّ كلّ شعب، أيّ شعبٍ كان وفي أي زمانٍ كان، يمتلك فرادته الخاصّة في التاريخ، فهو يملك عبقريّته الخاصّة وطريقته الخاصّة في الوجود. وهو، بذلك، يتعارض مع الشعوب الأخرى ويستبعد مِن ذاته فرديّات وخصوصيّات شعوب أخرى.
وعلى هذا النحو تبرز ضرورة الحرب في حياة الشعوب، وعلاقة شعب بشعب آخر يمكن أنْ تكون علاقة تعايش ونظام سلم متفاوت في ثباته، ولكنْ هناك، حتمًا، في برهة أو في أخرى، علاقة حرب بسبب فرديّة الشعب ذاتها، وبسبب طابعه الحصري والسلبي. والحرب هي الامتحان الكبير في حياة الشعوب. فهي، بالحرب، تُبرِز إلى الخارج ما هي عليه داخليًّا، وتوطّد حريّتها أو تسقط في العبوديّة[6].

ويتوصّل هيغل إلى اعتبار أنَّ الحرب التي «تهدّد حياة الكلّ» شرط ضروري «لصحّة الشعوب الأخلاقيّة»، وأنَّ شعبًا مِن الشعوب لا يتعرّض للحرب أو للتهديد بالحرب، فهو سيفقد بالتدريج معنى حريّته، وأنْ يسترخي في الرّتابة (العادة)، ويستغرق في تعلّقه بالحياة الماديّة. ولذلك، فإنَّ هيغل لا يتردّد في القول بأنَّ سلّمًا طويلًا يمكن أنْ يؤدّي إلى ضياع أمّة، ويشبّه الحرب بأنّها «كعصف الرياح التي تحمي مياه البحيرات مِن الأَسَن». فمن واجب الحكومة أنْ تفكّك بالحرب نظامًا أصبح مغرقًا في الرّتابة، وبذلك لها أنْ تنتهك حقوق الأمم في الاستقلال ما دامت غير قادرة على حماية استقلالها، ولها أنْ تدخلها في عبوديّتها، وليس هناك مِن عبيد إلّا لأنَّ هناك أناسًا فضّلوا الحياة على الحريّة، ولكنَّ الإنسان الحرّ هو الإنسان الذي لا تستعبده الحياة وأنماط الوجود[7].
والحرب التي يدعو لها هيغل، هي حرب للإخضاع وليس للإلحاق، والأنظمة التي يقول إنّها تعيش في «الرّتابة» و«الركود»، هي أنظمة المجتمعات المستقرّة، أكانت في دول الجوار أو فيما وراء البحار، التي تحوّلت إلى أهداف لغزو القوى الاستعماريّة. وفي تمجيده للحرب ولدورها الإيجابي، يمجِّد ما تقوم به تلك القوى مِن نهبٍ واستعباد لشعوب تلك المجتمعات ولسياسات المستعمرين فيها. والشعوب التي تشكِّل لها الحرب «شرطًا لصحّتها الأخلاقيّة»، إنّما هي شعوب الدول الاستعماريّة التي بالحرب يؤكّد أبناؤها عشقهم «لأسمى أنواع الحريّة، الحريّة التي هي ألّا تكون عبدًا للحياة»[8]، فيقتحمون الموت وينتصرون عليه.

فالحريّة هي إذًا، وحسب هيغل، إيثار الموت على العبوديّة، فهي مرهونة بالتجربة، فعند التجربة؛ أي حين يقع على المرء أو على الشعب الخيار فيما بين الموت أو الحياة في ظلّ العبوديّة؛ فهو إنْ اختار القتال حتّى ولو كلّفه هذا الخيار حياته، فقد حقّق حريّته، أمّا إذا خشي الموت وفضّل الحياة دون الخوض في غمار الحرب، فقد وجب عليه الدخول في العبوديّة؛ أي ليس هناك حريّة محقّقة إلّا إنْ خضعت لتجربة هذا الخيار. و«التجربة» هي بالمفهوم الذي جاء في الصلاة المسيحيّة الواردة في إنجيل متّى: «وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِن الشِّرِّير»[9]. ولكنَّ وقائع التاريخ تدحض استنتاجات هيغل وما بناه على هذه المعادلة مِن تمجيدٍ للقوّة وتبرير للاستعباد والنّهب العنيف، فشعوب العالم التي كانت تتعرّض للغزو والاستعمار، أُدخِلَت في «تجربة» الخيار بين الحريّة والموت، فقاومت الغزاة ما استطاعت ولم يرهبها الموت، فمات خيرة رجالها دفاعًا عن حرّياتهم، وللأسف مِن دون أنْ تلقى النجاة مِن «الشرّير»، فانتصر «الشرير» واستعبدها، وقد استعبدها «الشرير» ليس دفاعًا عن حرّيته، فحريّته لم تكن مهدّدة أصلًا، وليس لأنّه آثر الموت على العبوديّة، بل لأنّه طمع بثرواتها التي ما غزاها واستعبدها إلّا في سبيل نهبها.

استعباد الشعوب «قدر إلهي»:
ولتأكيد وجهته العنصريّة، فهو لا يلبث أنْ يحذِّر مِن مغبّة تداخل الشعب المنتصر بالشعوب المهزومة، ويقول بأنَّ للحرب نتائج مضرّة، وهو يلحّ على ذلك إلحاحًا لافتًا في «الفينومينولوجيا»، فهي قد تؤدّي، حسب قوله، إلى انصهار «الجماعات القوميّة المتميّزة» في غيرها مِن قوميّات إذا ما نتج عنها قيام إمبراطوريّة كالإمبراطوريّة الرومانيّة التي تجمع الشعوب في «بانتون» (معبد الآلهة الذي يجمع أشخاصًا مِن مختلف الفئات والأجناس)، وتُفْقِدُ الشعب المتميّز وحدته وفرادته الأصيلة. إنَّ مثل هذه الإمبراطوريّة لا يمكن أنْ تكون غاية وهدفًا للتاريخ، كما لا يمكن أنْ يكون غاية له اتحاد دول تأخذ على نفسها ضمان سلم دائم[10]، فوجود «شعوب متميّزة» هو ضرورة روحيّة، والروح لا تتجسّد في التاريخ إلّا على هذا الشكل المشخَّص[11].
ويصل هيغل في قراءته لفلسفة التاريخ إلى الاستنتاج بأنَّ لا الإمبراطوريّة ولا اتحاد الدول بقادرين على تشكيل حلّ للمسألة التي يطرحها «تعدُّد أرواح الشعوب الخاصّة». إنَّ التاريخ وحده هو الذي سيشكّل، في فلسفة هيغل النهائيّة، حلًّا لهذه المسألة: «إنَّ ما يرينا إيّاه التاريخ هو سلسلة مِن الحضارات والدول التي تظهر متعاقبة في مقدّمة المسرح التاريخي، وتصل إلى ذروتها ثمّ تهوي كي لا تعود إلى الظهور... إنَّ نجاح دولة وتفوّقها العابر هما نجاح مبدأ روحي يعبّر عن أعلى درجة وصلت إليها الروح الإلهيّة، التي تنفذ إلى العالم في تلك البرهة؛ فهناك، إذ ذاك، الفرد الذي يمثّل الكلّي، ولكنَّه يمثّله بشكل ناقص، وهذا هو سبب سقوطه المشتقّ مِن عدالة ضمنيّة: فالتاريخ هو لاهوت»[12]؛ أي إنّ التاريخ فعل إلهي، وهو حتميٌّ بإرادة إلهيّة. فهذه «الحتميّة الإلهيّة» التي يُلحُّ عليها هيغل، ليست سوى إضفاء الصّفة القدسيّة على كلّ الجرائم التي ترتكبها الرأسماليّة الاستعماريّة الأوروبيّة حول العالم، فهو يقرّر بأنَّ تفوَّق دول أوروبا الغربيّة بكل ما تمثّله مِن همجيّة، فتقتل وتنهب وتدمّر المجتمعات وتستعبدها، فهذا، حسب هيغل، إرادة إلهيّة، وبالتالي فهو قدر محتوم لا خروج منه.

الدولة القومية تحمي مِن خطر المساواة بين الأمم:
ويعتبر هيغل أنّ الدولة الحديثة على ما يكفي مِن القوّة لتفسح مكانًا، في صميمها، لتقسيم الفكرة، وعلى هذا النحو، تتضمّن في ذاتها المجتمع المديني، وتعترف بحريّة الفرد الذاتيّة التي أصبحت أساسيّة في روح العالم منذ المسيحيّة، ولكنَّها بتوافقها مع هذه الحريّة، تحقّقها وتضعها في الوجود. فهيغل يسلّم، إذًا، بمساواة الناس المثاليّة، على شرط ألّا تؤدّي إلى كوزموبوليتيّة «لا معنى واقعي تاريخي لها» حسب قوله. فـيجب التنبُّه مِن ألّا تأخذ فكرة «المساواة بين النّاس» مداها «الكوزموبوليتي»؛ أي أنْ لا تطال هذه المساواة الشعوب كافّة، بل تبقى ضمن الحدود القوميّة. فهو «يحذِّر» مِن التّمادي في المساواة، ومِن أنْ يختلط الأمر على بعض النّاس فيعتقدون بمساواة شعوب العالم، الجرماني بشكل خاصّ، مع باقي شعوب الأرض. والاختلاف بين شعوب الأرض إنّما «يعود إلى الثقافة، إلى الفكر بوصفه وعيًا للفرد في شكل الكلّي، أنْ أُتصَوَّر كشخصٍ كلّي، وهذا التعبير الأخير يشمل كلّ الناس على أنَّهم واحد. فقيمة الإنسان تعود إلى كونه إنسانًا، وليس إلى كونه يهوديًّا أو كاثوليكيًّا أو بروتستانتيًّا أو ألمانيًّا أو إيطاليًّا. وهذا الوعي لقيمة الفكر الكلّي ذو أهمّية لا متناهية. إنَّه لا يصبح خطأ إلّا إذا تبلور على شكل كوزموبوليتّية ليعارض الحياة المشخّصة للدولة»[13].

ونخلص مِن هذا العرض المُكثّف لفهم هيغل لفلسفة التاريخ، وفي الجانب الذي يعني بحثنا هذا، إلى الاستنتاج بأنَّه لم يرَ في الاستعمار سوى أنّه القدر الإلهي الذي أتاح لشعب مِن الشعوب المكانة الرفيعة التي مكّنته مِن السيطرة على شعوب جعل الله قدرها أنْ تكون خاضعة، وأنْ تدخل في عبوديّة المنتصر، وأنَّ هذا القدر لا مناص منه، وأنَّ على الدول المنتصرة العمل لتثبيت سيطرتها وهيمنتها لما فيه خير شعوبها. فالحتميّة عنده إذًا حتميّة إلهيّة، ولكنّه، وهو المسيحي، لم يرَ الحتميّة الإلهيّة كما هي في المسيحيّة، ولا كما هي في الإسلام وفي غيرهما مِن ديانات الحضارات الكبرى في العالم، بل هي متناقضة مع تلك الدّيانات، ولا تتّفق سوى مع الديانة اليهوديّة.

قدّم هيغل فهمًا خاصًّا لماهيّة الصراع بين البشر مناقضة لماهيّته في المسيحيّة وغيرها؛ فبينما ترى المسيحيّة بأنَّ ماهيّة الصراع هي الصراع بين الخير والشرّ، بين الحقّ والباطل؛ رآه هيغل بأنّه صراع يهدف إلى الكشف عمّن هو الأقوى والأجدر بالسيادة. وفي حين نرى أنَّ المشيئة الإلهيّة، لم تظهر في أيّ نصٍّ لاهوتي على أنّها تناصر الأقوياء على الضعفاء، بل على العكس مِن ذلك، فنصوص العهد الجديد تزخر بمناهضة السيّد المسيح للمستبدّين ومناصرة المستضعفين، ومنها «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِن أَجْلِي، كَاذِبِينَ، افرحوا وتهلّلوا، لأنّ أجركم عظيم في السماوات، فإنَّهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم»[14]. وأنَّ المسيح عليه السلام في مجيئه الثاني سينصر المظلومين ويخلّصهم ويحارب ملوك الأرض[15]. وبالتّالي، فإنَّ القدر الإلهي في المسيحيّة، كما هو في الإسلام وفي كبرى ديانات البشريّة، هو حتميّة انتصار الحقّ على الباطل. بينما يُقدِّم هيغل فهمًا نقيضًا لهذا الفهم، فهمًا يقول بأنَّ الصراع يدور بين الأقوياء والضعفاء، وأنّ الحتميّة الإلهيّة أو القدر الإلهي، هو في انتصار الأقوى واستعباد الأضعف، وأنَّ على الأضعف الاستسلام لقدره باعتباره، لهذا القدر، بأنّه مشيئة الله في عباده. فهو يقدِّم لنا الله كما يقدِّم اليهود «يهوه» الذي ادّعوا أنّهم «شعبه المختار» مِن بين الأمم، وأنّه سخّر لهم باقي الأمم ليكونوا عبيدًا لهم.

ثانيًا– رؤية ماركس للاستعمار والمستعمرات:
إذا ما تمكنّا مِن كشح إضافات الماركسيين عن الماركسيّة بتفسيراتهم لها وتعديلاتهم عليها وتخيّلاتهم لما يجب أنْ تكون عليه، سنجد أنفسنا أمام نصٍّ يتبنّى الفهم الهيغلي للعلاقة فيما بين الدول الاستعماريّة والمستعمرات بعد إجرائه لبضعة تعديلات، بعضها شكلي وبعضها الآخر أساسي يطال الجوهر.

تعديلات ماركس على هيغل:
ويمكن تلخيص ما هو جوهري مِن هذه التعديلات بثلاث مسائل:
الأولى: إحلال مفهوم الصراع الطبقي كنتيجة لتطوّر القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج محلّ مفهوم «العقل» باعتبار أنَّ المعرفة نتاج الواقع.
الثانية: اعتباره للعلاقة التي تقيمها الدول الاستعماريّة مع المستعمرات، بغضّ النظر عن الشكل القانوني لهذه العلاقة، أكانت ضمن صيغة إمبراطوريّة أو استعباديّة، فهي تقوم بدورٍ تقدّمي وثوري مِن خلال إدخال «الحضارة» إلى المستعمرات، أكان ذلك بإرادتها أو بغير إرادتها.

أمّا الثالثة، وهي المسألة التي سنركِّز بحثنا هذا حولها، والتي تقوم على ما قرّره كارل ماركس بأنَّ مختلف المجتمعات البشريّة تتطوّر بالاتجاه نفسه للوصول إلى الغاية عينها، وأنَّ شعوب الدول المتطوّرة ترى في شعوب المستعمرات ماضيها الخاصّ. وهذا ما يجعلنا نستنتج بأنَّ ماركس تخلّى عن رؤية هيغل الاستعباديّة لشعوب المستعمرات، واستبدلها بالرؤية الإلحاقيّة؛ أي إنّها تُلحِق هذه المستعمرات بها وتتولّى تطويرها لتَلحقها بالتطوّر. فالدول الرأسماليّة الاستعماريّة بينما تمارس عمليّة سيطرتها على المستعمرات وتقيم معها «تجارتها»، فهي تكون في الوقت نفسه تُدخل علاقات الإنتاج الرأسماليّة إليها، وتطوّر القوى المنتجة فيها، و«تضعها على الطريق الصحيح للتطوّر» مِن دون أنْ تكون غايتها، بالضرورة، تطوير اقتصادات تلك البلدان، وإنّما تكون تسعى إلى تحسين شروط نهبها والسيطرة عليها.
ولكنَّ هذا التعديل الماركسي على هيغل لم يُخْرِجْه مِن أسْرِ رؤية هيغل لشعوب المستعمرات بأنّ «قَدَرَها» وضعها في موضع الجهة الخاضعة للدول الاستعماريّة، وأنَّ هذا «القَدَر» يحتِّم عليها الانصياع للتعديلات والتغييرات العظمى التي تجريها تلك الدّول على البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة في المستعمرات، حتّى ولو كانت تلك التغييرات تتمّ بشكلٍ قهري. فحافظ ماركس على زاوية الرؤية نفسها تجاه المستعمرات، ونظر لها نظرة رجل الغرب المتفوِّق المقتنع بتفوُّق الغرب، بل وبضرورة هذا التفوُّق. ولذلك نراه يُناصب حركات المقاومة الوطنيّة في المستعمرات العداء، وينعتها بأقسى النّعوت القِيميّة، كالهمجيّة والرجعيّة والقوى التي تعتقد بأنّها تستطيع الوقوف بوجه حركة التاريخ، ويبشّرها بأنَّ عجلة مصانع الغرب الرأسمالي ستسحقها. وبذلك يكون ماركس لم يفعل إزاء مقولة هيغل «أنَّ التاريخ لاهوت»؛ أي إنّه يَحْرُك بفعل إرادة إلهيّة، سوى أنّه استبدل هذا المفهوم بمفهوم «الحتميّة التاريخيّة»؛ أي إنّه «القدر» الذي لا مفرّ منه.
وبقي الاتجاه الحاكم لمقولة ماركس وحتميّته التاريخيّة القائمة على الماديّة الديالكتيكيّة، وهي الحتميّة التي حلّت عند ماركس محلّ «الحتميّة الإلهيّة» عند هيغل، وعلى حتميّة انصياع المجتمعات البشريّة كافّة لقانون التطوّر النسقي المتطابق، وباتجاه واحد. وعليه، نرى أنفسنا مهتمّين بما قاله العالم الفرنسي الشهير في علم الإناسة (الأنثروبولوجيا) كلود ليفي شتراوس: «أعتقد أنَّ الأيديولوجيا الماركسيّة الشيوعيّة والشموليّة السلطة، ليست إلّا حيلة مِن التاريخ لتشجيع تعجيل تفرنج (تغريب) الشعوب التي بقيت خارج هذه الحركة حتّى زمن حديث»[16].

ما بين هيغل وماركس:
إنَّ فكر ماركس وهيغل هنا يصبّان في مجرى واحد، وهو أنَّ ممارسة صراع الطبقات في المجتمع عند ماركس، هو التقدّم في العقلنة عند هيغل؛ لأنَّ الصراع الطبقي يؤدّي في المحصلة إلى انتصار الطبقة التي تحمل المشروع الأكثر مواءمة لحركة التاريخ؛ أي المشروع الأكثر عقلانيّة؛ أي، بمعنى آخر، الأكثر استجابة وانسجامًا مع «قدريّة» التاريخ و«حتميّته». فالتاريخ، إذًا، هو تغلّب تلك القدريّة، أو تلك الحتميّة، على القوى التي تقف بوجه حركة التاريخ، الحركة التي اعتبرها هيغل بأنّها آيلة إلى إخضاع المستعمرات لإرادة المستعمرين واستعبادها، واعتبرها ماركس بأنّها تعمل على تدمير هياكل المجتمع القديم الذي يسمُها بالتأخّر، ويزرع فيها «غرسات الغرب». فبدل الدولة كمنظّم لقضيّة العقلنة والتقدّم عند هيغل، نجد صراع الطبقات كتعبير عن التطوّر الحاصل في القوى المنتجة، عند ماركس، هو الذي يلعب هذا الدور في مختلف مراحل تطوّر المجتمعات البشريّة كافّة[17].

وكلاهما، هيغل وماركس، اعتبرا أنَّ العامل الحاسم في الصراع ما بين الدول الاستعماريّة وشعوب المستعمرات، أكان صراعًا طبقيًّا ناجًما عن تفاوت تطوّر القوى المنتجة كما هو عند ماركس، أو إنْ كان صراعًا بين العقول كما هو عند هيغل، إنّما هو للقوّة، فالنصر في هذا الصراع معقودٌ للأقوى، أكان أقوى في قدراته الماديّة، أو إنْ كان الأقوى في قدراته العقليّة والمعرفيّة. وكلاهما غيّب موضوعة الصراع ما بين الخير والشر، ما بين الحقّ والباطل، واعتبرا بأنَّ هذه المفاهيم، الخير والشر والحقّ والباطل، إنّما هي معايير أخلاقيّة قِيَميّة نسبيّة وغير ثابتة، ويرتبط تحديدها وتعريفها تبعًا لاحتياجات ظرفيّة للجماعة، بينما يعترفان للأقوى بأنَّ له حقّ الاحتفاظ بما استحوذ عليه مهما كانت الوسيلة التي استخدمها في سبيل ذلك.

حركة التاريخ عند ماركس:
يرى بعض الماركسيين بأنَّ فلاديمير لينين، قائد الحركة الشيوعيّة البلشفيّة الروسيّة، قد أدخل تعديلًا على رؤية كارل ماركس حول حتميّة انتقال المجتمعات مِن مرحلة الإنتاج الما قبل رأسمالي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي كشرط للانتقال إلى الاشتراكيّة، وذلك حين قال لينين بأنَّه «من غير الصحيح التأكيد بأنَّ مرحلة التطوّر الرأسمالي هي مرحلة محتومة بالنسبة للأقوام المتأخِّرة»([18]) في طريق انتقالها إلى الاشتراكيّة. إلاّ أنَّ رؤية هؤلاء تسقط بمتابعة جيّدة لمغزى قول لينين، الذي لم يخرج عن الفهم الماركسي لتطوّر المجتمعات «المتأخِّرة»، وبقي أمينًا على الخطّ التطوّري العام بالمنظور الماركسي. فكلُّ ما قاله لينين هنا، هو أنَّه بالوسع أنْ تختصر المجتمعات «المتأخّرة» مرحلة مِن مراحل تطوّرها التاريخي، ألا وهي المرحلة الرأسماليّة، وأنْ تنتقل مباشرة إلى المرحلة الاشتراكيّة؛ وبكلام آخر، فبسبب وجود الدولة الاشتراكيّة الكبرى، التي يقودها لينين بنفسه، فإنَّ الشكل الحقوقي لملكيّة وسائل الإنتاج، ليس مِن الضروري أنْ يمرّ بمرحلة الملكيّة الرأسماليّة. وهذا يعني بأنَّ التاريخ يمكنه، حسب لينين، أنْ يصعد «الدّرج» متجاوزًا إحدى الدرجات.
ولكنَّ لينين الذي رأى أنّه بالإمكان حصول ذلك، فهو أهمل، لسببٍ ما، المفهوم المركزي عند ماركس لحركة التاريخ المتمحور حول الصراع الطبقي. فحركة التاريخ عند ماركس ليست وليدة ظروف سياسيّة أو إداريّة، بل هي وليدة صراع الطبقات الذي يتبلور ويشتدّ مع اشتداد التناقض الحاصل ما بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، حيث تشكّل القوى المنتجة العامل الحاسم في هذا الصراع الذي يدفع باتجاه اللحظة التاريخيّة التي تقود نحو ولادة مرحلة تاريخيّة جديدة. فالعلاقة الديالكتيكيّة التي افترضها ماركس ما بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ترسم لنا صورة لصراع يبدأ مع كلّ تطوّر تشهده القوى المنتجة، وأنَّ هذا التطوّر يصل إلى حدود تصبح فيه علاقات الإنتاج عاملًا معيقًا لتطوّر القوى المنتجة، فتدفع هذه الأخيرة نحو التصادم العنيف مع علاقات الإنتاج القائمة، فيشهد المجتمع حركة تناحريّة تهدف إلى إحداث تطوير أو انقلاب في علاقات الإنتاج تلك، ممّا يُفسح في المجال أمام القوى المنتجة للتطوّر بالشكل الملائم لحركة التاريخ.

هذا ما يطلق عليه ماركس «الحدث التاريخي»، وهو الانتقال مِن مرحلة تاريخيّة إلى أخرى؛ أي الانتقال مِن علاقات إنتاج إلى أخرى. هذا ما أكّد عليه، وما تمحورت حوله كلّ أبحاثه، وعلى قاعدة «قانون التراكم» و«التضادّ» و«التناقض ضمن الوحدة» ومقولات أنَّ الشيء بتناقضاته الدّاخليّة يُنتِج نقيضه مِن «رحمه»، ولكنْ مِن دون أنْ يُعلمنا كيف اعتبر الرأسماليّة وليدةً للإقطاع ومِن «رحمه» وكنتيجة للتناقض ضمن الوحدة!.

القرصنة والتراكم الأوّلي لرأس المال:
تجاهل كارل ماركس، مثلما فعل آخرون مِن أساتذة علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي في أوروبا الغربيّة، وعلى رأسهم ديفيد ريكاردو وآدم سميث، دور القرصنة في التأسيس لنشأة الرأسماليّة ودورها في تكوين ما أطلق عليه آدم سميث «التراكم الأوّلي لرأس المال» الذي أعاده للبخل والتقتير، الذي يتّصف به الرأسماليّون الأوائل، بينما اعتبر كارل ماركس أنّ هذا التراكم يتعلّق بالفترة التي تمّ فيها فصل العمل عن شروطه الموضوعيّة.
وقد أصرّ كارل ماركس على القول بأنّ التاريخ الحديث لرأس المال يبدأ «في القرن السادس عشر مع قيام نظام تجاري عالمي وفتح السوق العالميّة»، معتبرًا أنَّ تداول السّلع «شكّل نقطة انطلاق رأس المال»، ويقول إنّ امتلاك الإنسان للمال والأدوات اللازمة للعيش والآلات ووسائل إنتاج أخرى يعمل عليها بنفسه أو مع أسرته، لا يجعل منه رأسماليًّا، بل إنَّ الشرط الإلزامي ليكون رأسماليًّا يفترض وجود مكمّل في الإنتاج، ألا وهو الأجير، وهذا الأجير يجب أنْ يكون مجبرًا على بيع قوّة عمله في سبيل البقاء، وليس له أيّ خيارٍ آخر. وأنَّ هذا الفصل ما بين العامل ورأس المال، هو المصدر الأوّل لتراكم رأس المال النّاجم عن فائض القيمة الذي يحصّله الرأسمالي مِن عمل الأجير. وأنّ الإنتاج السلعي في المدن الإيطاليّة لا يمكن اعتباره بداية لنشوء الرأسماليّة؛ لأنَّ ذاك الإنتاج قام قبل أنْ يتحقّق انفصال العمل عن رأس المال، بل كان إنتاجًا للتبادل ضمن اقتصاد تلبية احتياجات الاستهلاك الأُسَري[19].

قبل مواصلة عرضنا لمقولات كارل ماركس في هذا الإطار، نجد لزامًا الإشارة إلى بحثٍ ضخمٍ صدر مؤخرًا في كتاب الاقتصادي المعاصر توماس بيكيتي «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»[20]، يقول بيكيتي: «تاريخيًّا، يبدو أنَّ الأشكال الأولى لتراكم رأس المال تتعلّق بكلّ مِن الأدوات (الأدوات المصنوعة مِن الحجر، إلخ) والأدوات الزراعيّة (الأسوار، والري، قنوات الصرف، وما إلى ذلك)، فضلًا عن أساسيّات السكن (الكهوف، الخيام، الأكواخ وما إلى ذلك) قبل الانتقال إلى الأشكال المتزايدة التعقيد لرأس المال الصناعي والمهني وأماكن المعيشة الأكثر تطوّرًا»[21]. وتوصّل بيكيتي إلى اعتبار الأدوات المصنوعة مِن الحجر، وكذلك المصنوعة مِن غصون الأشجار، التي استخدمها البدائي في الصيد وجني الثمار، كانت بداية عصر يقوم على التمييز فيما بين مَنْ يملك ومَنْ لا يملك، وأنَّ تلك الأدوات، إضافة إلى كونها أدوات إنتاج، فهي في الوقت نفسه أدوات إخضاع واستعباد، خاصّة مع تطوّر استخدامها كأسلحة للسيطرة على الجماعات والأفراد الذين لا يملكون مثيلًا لها، أو الذين لا يتقنون فنون القتال.

نجح كارل ماركس في القبض على جانبٍ مِن شروط تكوُّن التراكم الأوّلي لرأس المال، ولكنّه أخفق في اكتشاف الجانب الآخر الأكثر أهميّة، ألا وهو وجود خارج قابل للنّهب. وهذا الإخفاق هو الذي جعله يقع في إخفاق آخر، ألا وهو إخفاقه في تحديد تاريخ بداية التراكم الرأسمالي في الاقتصاد الأوروبي الغربي. فهو حدّد القرن السادس عشر كنقطة لانطلاق هذا التراكم، والإخفاق لا يتعلَّق فقط بموضوع التوقيت، بل بما يعبِّر عنه هذا التوقيت. وما أراد ماركس إخفاءه جرّاء إصراره على هذا التوقيت رغم لويه لعنق التاريخ ليتوافق مع منهجه الفلسفي.
شاء ماركس إخفاء عامل النّهب في نشأة الرأسماليّة، النّهب بالقرصنة الذي به تشكّل التراكم الأوّلي لرأس المال، وهذا «الإخفاء» ينطوي على إمعانٍ في الكذب التاريخي حول ذاتيّة أوروبا في التطوُّر مِن جهة، وعلى ما يراه ماركس مِن ضرورة لانسجام منظومته الفكريّة التي تقول إنّ الرأسماليّة ولدت مِن رحم الإقطاع وليس مِن خارجها مِن جهة ثانية، ليصل إلى استنتاجه بأنَّ «حفّاري قبور» الرأسماليّة، أي البروليتاريا، يلدون مِن رحم الرأسماليّة، وأنّ المسألة تتعلّق بمدى «وعي» البروليتاريا لوجودها الطبقي، ووعي مهمّتها التاريخيّة ببناء النظام اللّاطبقي. وهو فوق ذلك، يريد إخفاء أنَّ ما يتنعّم به الغرب مِن ازدهار وتطوّر، إنّما يعود لما نهبه «المغامرون الأوائل» مِن ثروات الشعوب بالقوّة والقرصنة.

لعبت القرصنة الدّور الأساس في خلق التراكم الأوّلي لرأس المال، وهو دورٌ برز منذ زمنٍ مبكّرٍ في القرون الوسطى، حيث كان يقتصر على جني المنهوبات وتبديدها دون استثمارها رأسماليًّا، ولكنّه كان يُسهم في الدورة الاقتصاديّة لأوروبا الغربيّة، وإنْ كان بشكل محدود، خاصّة خلال القرنين الميلاديين التاسع والعاشر، ولكنّه منذ أنْ تمكّن القراصنة النورمانديّون مِن أخذ موقع قدم لهم على جزيرة صقلّية عام 1062، وقيام علاقات فيما بينهم وبين المرابين اليهود، الذين كانوا يعيشون في كنف الدولة الإسلاميّة في الجزيرة، ستقوم تلك العلاقات بين القراصنة وهؤلاء المرابين، على أنْ يستثمر المرابون منهوبات القراصنة في صناعة احتياجاتهم مِن أسلحة ومراكب وملابس ومؤن يتولّى المرابون تأمينها لهم مِن مشاغل تولّوا تمويلها، أو مِن المدن الإسلاميّة في شمالي أفريقيا؛ أي مِن المدن التي كان القراصنة قد غزوها وجلبوا المنهوبات منها، وقد تكون هذه العمليّة هي مِن أوّل عمليّات «غسل الأموال» في التاريخ.
وستزدهر هذه العمليّة ويصبح دور القرصنة في الاقتصاد الأوروبي دورًا جوهريًّا مع توسُّع الاستثمار الرأسمالي لمنهوبات القراصنة، فتقوم عليه اقتصادات المدن الإيطاليّة، كالبندقيّة وجنوى، وبشكل خاصّ عندما ستنطلق عمليّات القرصنة المنظّمة تحت راية الحروب الصليبيّة أواخر القرن الحادي عشر، ويبدأ تدفّق نهر الذهب مِن بلاد الشام ليصبَّ في الاقتصاد الأوروبي، وهي الحروب التي وصفها أرنست ماندل بأنّها «أضخم قرصنة شهدها التاريخ».

ورغم تبديد البابويّة وملوك أوروبا الغربيّة للقسم الأعظم مِن تلك المنهوبات على الإنفاق غير المنتج ببناء القصور والكاتدرائيّات وغيرها مِن أبواب الإنفاق البذخي، إلّا أنَّ حصّة كبيرة مِن تلك المنهوبات سيتمّ توظيفها واستثمارها استثمارًا رأسماليًّا في الإنتاج السّلعي؛ وذلك لتلبية احتياجات القراصنة أنفسهم لتطوير جهازهم النّهبي. وهذا ما سيؤدّي بعددٍ مِن المدن الإيطاليّة إلى أنْ تشهد تطوّرًا هائلًا، خاصّة جنوى والبندقيّة، حيث تحوّلت إلى قوى عُظمى في أوروبا تسعى البابويّة وملوك أوروبا إلى استمالتها للحصول على مساعدتها في أعمال الغزو، لا سيّما خلال الحملات الصليبيّة، التي كانت البندقيّة وجنوي شريكتان فيها مِن خلال تمويلها.
منذ ذلك التاريخ، كانت الرأسماليّة تنمو وتتطوّر خارج النظام الاقطاعي، وعلى هامش علاقات الإنتاج الإقطاعيّة، فهي لم تلد في «رحم» الإقطاع، ولا حتّى في «رحم اصطناعي» له. حتمًا كارل ماركس كان يعلم ذلك، وبسبب علمه هذا، هرب مِن الوقائع التاريخيّة للتطوّر الرأسمالي إلى القول بأنَّ تلك الفترة لم يكن الفصل بين العمل ورأس المال قد تحقّق بعد، وأنَّ الإنتاج السّلعي الذي ظهر في تلك الأوقات المبكّرة، كان لتلبية الاحتياجات الأسريّة فقط.

لن نغوص هنا في مناقشة هذه المقولات كي لا نبتعد كثيرًا عن موضوع بحثنا هذا، ولكنْ نطرح سؤالين اعتراضيين يحملان الإجابة بذاتهما:

هل كانت أحواض ومصاطب صناعة السفن وما بها مِن أجراء وحرفيين، التي ازدهرت في المدن الإيطاليّة منذ بدايات القرن الحادي عشر لتلبية احتياجات القراصنة، بما فيها قرصنة الحروب الصليبيّة، والتي لم يكن لرجال الإقطاع أيّ سلطة على تلك المدن بسبب استقلالها عن أيّ تأثير مباشر عليها مِن البابويّة أو رجال الإقطاع في البرّ الأوروبي، إنتاجًا سلعيًّا لتلبية استهلاكات الأسر؟
وهل أنَّ الذهب المدفوع للملوك والأمراء الإقطاعيين مِن تجّار «المدن الإيطاليّة» للحصول على الفحم الحجري وخامات الحديد مِن مناجمهم وتوريدها إلى «حرفيي» تلك المدن لصناعة الأسلحة ومدفعيّة السفن وتصفيحها في تلك المصاطب والأحواض، يمكن تصنيفه على أنّه إنتاج حرفيّ أسريّ لتلبية استهلاكات الأسرة؟
على كلٍّ، فبهذا التوصيف لحركة التاريخ الذي قدّمه كارل ماركس، كان يريد القول بأنَّ الفعل في هذه الحركة محكومٌ بفاعل، أو بفواعل، أو مفاعيل، ذات مصدرٍ داخلي صرف؛ أي إنَّ إنجاز مهام التطوّر والتطوير والانتقال مِن مرحلة تاريخيّة إلى أخرى، لا سيّما الانتقال مِن مرحلة ما قبل الرأسماليّة إلى الرأسماليّة، مرهونٌ بمدى التطوّر الحاصل في القوى المنتجة، والتي هي عوامل محض داخليّة، وأنَّ هذه الفواعل والمفاعيل أنتجت في أوروبا الغربيّة «نظامًا ثوريًّا وتقدميًّا» هو علاقات الإنتاج الرأسماليّة، التي اعتبرها كارل ماركس بأنّها منسجمة مع حركة التاريخ، بل هي حتميّة تاريخيّة.

هكذا قرأ ماركس الانتقال مِن الإقطاع إلى الرأسماليّة في أوروبا الغربيّة، وهكذا قرأ التطوّر الاقتصادي الاجتماعي فيها؛ أي بفعل عوامل ومُحفّزات داخليّة، بينما حين يتعلّق الأمر بما هو غير أوروبي غربي؛ أي في المجتمعات غير الأوروبيّة، فالأمر يستدعي تدخّل الخارج، ولو بالقوّة التدميريّة والإبادات الجماعيّة، لدفع تلك المجتمعات للتطوّر وسلوك المسالك التي تجعلها، حسب قوله، على الطريق الملائم للتطوّر.

أثر الفعل الاستعماري في المستعمرات عند ماركس:
رغمًا عمّا رآه ماركس مِن نتائج سلبيّة للحركة الاستعماريّة على المستعمرات، وقال بأنَّ الاستعمار بممارسته للقسوة والشدّة والنّهب عليها، إلّا أنّه بارك ذلك وأثنى عليه؛ لأنّه يُحدِث قطعًا حضاريًّا بين ماضي المستعمرة ومستقبلها. وهو لذلك أضفى على الاستعمار صفة ثوريّة وأوكل له مهامًا تقدميّة في المستعمرات، فاعتبر أنَّ الجرائم التي يرتكبها الاستعمار في المستعمرات، إنّما تضع تلك الشعوب على «الطريق السليم للتطوّر».
ونراه وكأنّه يطالب بممارسة المزيد مِن القسوة والشدّة لتحقيق ما يراه جزءًا مِن المهام الثوريّة والتقدميّة، التي على الاستعمار إنجازها في المستعمرات، حين يقول في معرض تحليله للوضع القائم في الهند تحت الاستعمار البريطاني: «إنَّ جميع الحروب الأهليّة، والفتوحات والغزوات والثورات والمجاعات، مهما يمكن أنْ يتراءى فعلها المتلاحق في هندستان معقّدًا وسريعًا ومدمِّرًا بصورة فائقة، بيد أنَّها لم تذهب إلى أبعد مِن السطح. لقد قصمت بريطانيا مجمل إطار المجتمع الهندي دون أنْ تظهر حتّى الآن أيّة إمارة على رغبة في بناء شيء جديد. إنَّ فقدان العالم القديم يطبع بؤسه الراهن بكآبة خاصّة دون أنْ يكون هذا الهندي قد كسب عالمًا جديدًا. وبذلك يفصل هندستان، الواقعة تحت السيطرة البريطانيّة، عن جميع تقاليدها القديمة وعن مجمل تاريخها الماضي»[22].

ويشير ماركس إلى «أنَّ كلّ ما قد تضطر البرجوازيّة الإنكليزيّة إلى صنعه، لن يحرّر جمهرة الشعب أو يبدِّل ماديًّا شرطها الاجتماعي، هذه الأمور التي لا تتوقّف على نموّ القوى الإنتاجيّة فحسب، بل على استملاكها مِن قبل الشعب، لكنَّ الأمر الذي لن تقصّر في صنعه، هو إرساء المقدّمات الماديّة لها»[23].
وفي معرض توصيفه للواقع المرير الذي أضحت عليه الهند تحت الاستعمار البريطاني، يرى ماركس أنَّ على الاستعمار البريطاني في الهند مهمّة إحياء الهند في الوقت الذي يكون عليه تدمير نمط الإنتاج الآسيوي السابق على الرأسماليّة، التي ستبنيها بريطانيا عبر مدّ خطوط السكّك الحديديّة وإدخال النقد إلى السوق، فهو يقول: «على إنكلترا أنْ تنجز مهمّة مزدوجة في الهند، إحداهما تدميريّة، والأخرى إحيائيّة: القضاء على المجتمع الآسيوي القديم، وإرساء الأسس الماديّة للمجتمع الغربي في الهند»[24].

وحسبما استنتجه عالم الاجتماع الكندي الماركسي غي روشيه مِن أعمال ماركس وأنجلز حول آثار الاستعمار في المستعمرات، يقول: «لقد كانت غاية ماركس وإنجلز مِن وراء اعتماد هذا المسلك في تحليل وتفسير المجتمعات، الغوص في أصول تطوُّر المجتمع باتجاه رأسمالي، وأنْ يحلّلا جذور تبلور النظام الاجتماعي الرأسمالي في العصر الحديث، وتبيان كيف أنَّ الصراع الذي أحدثه المجتمع الرأسمالي بين الطبقتين المتعارضتيْن، طبقةُ الرأسماليين الذين يملكون وسائل الإنتاج ويسيطرون عليها، وطبقةُ البروليتاريا المُعدَمة التي لا تملك سوى قوّة عملها، وأنَّ هذا الصراع سيزداد حِدَّةً وضراوةً فيما بينهما مع ازدياد حِدَّة الشرخ بين هاتين الطبقتين، فيقولا: إنَّ هذا الصّراع سيؤدّي حتمًا إلى انفجار المجتمع الرأسماليّ ليحلّ محلّه نظامٌ يقوم على دكتاتوريَّة البروليتاريا يهيئ لقيام نمط إنتاجي جديد، لمجتمع جديد، وهو المجتمع الشيوعيّ الخالي مِن الطّبقات»[25].
وإذا عرضنا ما نجم عن اجتياح «الرأسماليّة» لكلٍّ مِن القارّة الأميركيّة وأُستراليا ونيوزيلندا، وهي مجتمعات استخدم نموذجها ماركس وإنجلز في «البيان الشيوعي» للدلالة على دور الرأسماليّة في «جرّ» الدول «المتأخّرة» إلى المدنيّة، فيقولا فيه ما مفاده أنَّ البرجوازية تجرُّ «إلى تيّار المدنيّة كلّ الأمم، حتّى أشدّها همجيّة»، وأنَّها تجبر «كلّ الأمم، تحت طائلة الموت، أنْ تقبل الأسلوب البرجوازي في الإنتاج»؛ أي أنْ تُدخل إليها المدنيّة المزعومة؛ أي أنْ تصبح برجوازيّة. «فهي، بالاختصار، تخلق عالمًا على صورتها ومثالها»[26]. فإنَّ هذا النموذج يرتدّ عكسيًّا على التحليل الماركسي، فالوقائع تشير إلى أنّ الاستنتاجات الماركسيّة لا تعبّر عن واقع الحال، وقد تأكّدت في تلك المجتمعات همجيّة الرأسماليّة، همجيّة «الرّسالة» التي تحملها لها. فخلال السنوات القليلة التي تلت عام 1848، عام إصدار «البيان الشيوعي»، كان قد أصبح واضحًا أنَّ الحضارة الأوروبيّة في العالم الجديد تلخّصت بهدف وحيد، ألا وهو إبادة «الشعوب الهمجيّة» في سبيل تمدينها، وليس مجرّد تهديدها بالموت.

فقد جرّد الأوروبيّون في النصف الثاني مِن القرن التاسع عشر حملات إبادة منظّمة وحقيقيّة ضدّ الهنود الحمر، السكّان الأصليّين للعالم الجديد. هذه الحملات التي كانوا قد بدؤوها على نطاق محدود منذ أنْ بدأت مغامراتهم في الأميركتين، إلّا أنَّ هذه الحملات لم يكن بوسعها أنْ تحقّق النتائج نفسها في الشمال والجنوب؛ وذلك تبعًا للكثافة النسبيّة للسكّان الأصليين في الجنوب بالنسبة للشمال. إذًا، ما أنجزه الأوروبيّون في أميركا الشماليّة، هو أنَّهم دخلوا على مناطق شاسعة شاهرين أسلحتهم الفتّاكة على شعوب آمنة مبعثرة أو متناثرة، أبادوا تلك الشعوب، ومارسوا فيها أنماط عيشهم وعلاقات إنتاجهم مِن دون إحداث أيّ انتقال مِن نمط إنتاج إلى آخر. إنَّ الوضع القائم في الأميركيّتين المعبّر عن نفسه بتفاوت هائل ما بين الشمال والجنوب مِن حيث مستوى الدخل والإنتاجيّة وجزاء العمل والموقع في العلاقات الدوليّة والتقسيم الدولي للعمل، يُبرز بوضوح مدى الصّلة ما بين الاستيطان الإبادي «ونضوج ثمرات الغرب».

والعمليّة نفسها التي قام بها الأوروبيّون في القارة الأميركيّة، مارسوها على سكّان أستراليا الأصليين: مئات مِن السنين تمرُّ على ممارسة «الحضارة الأوروبيّة» في أستراليا، الانعكاس الوحيد على السكّان الأصليين هو: إبادة الجزء الأكبر منهم، وإحكام الحصار على الجزء الآخر في الغابات الكثيفة، وفرضوا عليهم عدم مغادرتها... ولا ننسى أنَّ ذلك في سبيل «تمدينهم».
وكذلك، فإنَّ محاولات الفرنسيين في «زرع بذور الغرب» في الجزائر عبّرت عن نفسها بإبادة الشعب الجزائري عبر التنكيل والقتل الشّنيع الذي أدّى إلى مقتل أكثر مِن عشرة ملايين مواطن، حسبما يؤكّد أكثر مِن مصدر، ومنها مصادر فرنسيّة. وأيضًا الجهود الإيطاليّة الجبّارة في ليبيا، قبل استيلاء الفاشيين على السلطة في إيطاليا وبعدها، التي أدّت إلى قتل ونفي وتهجير ثلثي الشعب الليبي والاستيلاء على أرضه وتوطين إيطاليين فيها، وغيرها الكثير مِن الجرائم وعمليّات الإبادة الجماعيّة حول العالم التي ارتكبها المستعمرون «المتمدّنون»، يتمّ اعتبارها «واقعة مهمّة وموائمة لتقدّم الحضارة»[27] على حدّ تعبير أنجلز.

مكامن الخلل الدّاخلي لرؤية ماركس:
يمكننا ملاحظة نقطتين محوريّتين رئيستين في النظريّة الماركسيّة حول أثر الاستعمار على المستعمرات أثّرتا تأثيرًا سلبيًّا على صحّة استنتاجات كارل ماركس حول ما سينجم مِن تأثيرات على علاقات الدول الاستعماريّة بالمستعمرات. تدلّ هاتان النقطتان إلى مكامن الخلل الدّاخلي في رؤية ماركس لأثر الرأسماليّة في المستعمرات، وكذلك حول افتراضه لدورٍ ثوري عالمي للطبقة العاملة الأوروبيّة يُساهم في «تثوير» الطبقات العاملة، المُفترضة هي أيضًا، في المستعمرات.
نقطة الارتكاز النظري الأولى تتمثّل في إسقاطه لما أسماه «الدّور الثوري» للرأسماليّة في المستعمرات مِن خلال مواجهة «المجتمع القديم»؛ أي الدور الذي لعبته هذه الرأسماليّة في مواجهة النظام الإقطاعي الأوروبي، فيعتبر أنّها ستقوم بالدور نفسه، وتعمل على تدمير «التنظيم الاجتماعي – الاقتصادي التقليدي» في المستعمرات، لتقيم فيها نظامًا رأسماليًّا على شاكلتها، على شاكلة النظام الرأسمالي في أوروبا الغربيّة.

والنقطة الثانية تتمثّل فيما أضفاه على طبقة البروليتاريا الأوروبيّة في المجتمعات الصناعيّة مِن «مهمّة تاريخيّة» عالميّة، عليها إنجازها مِن خلال نشر «الوعي الطبقي» في صفوف الطبقة العاملة في المستعمرات؛ أي نشر وعي مهمّتها التاريخيّة هذه، والتي مِن شأن إنجازها القضاء على النظام الرأسمالي العالمي وإقامة النظام اللّاطبقي[28].

لن نناقش هنا ماهيّة «ثوريّة» الدور الذي لعبته الرأسماليّة في أوروبا خلال مراحل تطوّرها وتثبيت إيديولوجيّتها، ولكنْ يكفي القول بأنّ هذه «الثوريّة» اقتصرت على أنّها دمّرت القيَم والمفاهيم والنظام القائم، وفرضت بديلًا جديدًا جرّد الإنسان مِن قيمه الرّوحيّة، وساقه وساق المجتمعات معه لتسلك مسالك أدّت إلى نظامٍ عالمي يقوم على النّهب والسّحق الحضاري لمختلف المجتمعات.
ولكنَّ كارل ماركس كان قد أشار إلى أنَّ هذه الرأسماليّة كانت قد فقدت دورها وطابعها الثوري والتقدّمي بشكل حاسم في أوروبا منذ أنْ أنتجت مِن صلبها طبقة بروليتاريّة ثوريّة نقيضة لها، حيثما ساد نمط الإنتاج الرأسمالي، ولكنّه، وهو ينزع «الثوريّة» عن الرأسماليّة في مرحلتها الجديدة؛ أي بعد سيطرتها على السلطات السياسيّة في البلاد، وفرضها لعلاقات الإنتاج الرأسماليّة في المجتمع، يتمسّك بكلّ ما سبق للرأسماليّة أنْ حقّقته مِن إنجازات إيديولوجيّة، ومنها خلق الدولة القوميّة. إلّا أنّه اعتبر أنَّ المرحلة التالية، هي مرحلة قيام «البروليتاريا»، الطبقة التي أنجبتها الطبقة الرأسماليّة، الطبقة الثوريّة الجديدة، بقيادة ثورتها على أسس الصراع الطبقي، الذي يتجاوز القوميّات، لتفرض ديكتاتوريّتها العالميّة تمهيدًا لبناء العالم الجديد، العالم الخالي مِن التناقض الطبقي.
وبينما ينزع عن الرأسماليّة ثوريّتها في أوروبا، فهو يرى أنَّ لهذه الرأسماليّة في المستعمرات، في «المجتمعات المتأخّرة»، دورها الثوري الذي يجب أنْ تقوم به لنقل تلك المجتمعات إلى نعيم الرأسماليّة، ولتخلق هناك، كما فعلت في أوروبا، البروليتاريا التي لن تتأخّر عن الانخراط في الصراع الطبقي العالمي. ولكنّه أهمل، أو أنّه لم يشأ ملاحظة أنَّ المستعمرين ليسوا معنيين في بناء مجتمعات صناعيّة في المستعمرات بقدر عنايتهم ببناء أسواق استهلاكيّة لمنتوجاتهم، وبالسيطرة على المواد الأوليّة اللازمة لصناعاتهم في دولهم. كما أنّ الرأسماليين الأوروبيين سيتمكّنون مِن رشوة البروليتاريا الأوروبيّة وجعلها في خدمة وحشيّة رأس المال، ليس مِن خلال إعادة ما للعمّال مِن حقوق ممّا يسرقونه منهم عن طريق احتفاظهم بـ«فائض القيمة»، ولكنْ مِن خلال ما ينهبونه مِن المستعمرات، ليصبح الفعل الاستعماري بذاته هدفًا لهذه الطبقة، البروليتاريا، فترى بأنّ واجبها هو القتال تحت راية الرأسماليّة لتثبيت الاستعمار وتوسعته وزيادة المنهوبات. وهذا ما أفقد هذه الطبقة طابعها و«مهمّتها» التاريخيّة، التي افترضها ماركس، لنرى هذه الطبقة بأنّها سرعان ما سلّمت عنانها للرأسماليّة بعد أنْ أخذت هذه الأخيرة تغدق عليها خيرات البلدان المستعمَرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحوّلت هذه الطبقة، أي البروليتاريا الأوروبيّة، إلى أداة استغلال ونهب المستعمرات لصالح برجوازيّتها التي ترمي لها بفتات هذا النهب.
لم يكن بمقدور المنظومة الفكريّة لكارل ماركس أنْ تساعده على رؤيّة واقعيّة لطبيعة المقاومة التي تبديها المجتمعات الحيّة في المستعمرات، بل فرضت عليه تلك المنظومة أنْ يرى في تلك المقاومة جهدًا يعرقل التقدُّم، ويعاند الحتميّة التاريخيّة التي تشكّل حجر الزاوية في بنية الفلسفة الماركسيّة. فهذه المنظومة الفكريّة القائلة بحتميّة سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي حيثما تحلُّ جيوش الرأسماليّة حول العالم، وأنَّ سيادة نمط الإنتاج هذا في المستعمرات سيحوّل الصراع فيها إلى صراع طبقيّ يتلاءم مع الصراع الطبقي الدائر فيما بين الرأسماليّة والبروليتاريا في الدول الصناعيّة، ينتج عن هذه الملاءمة ثورة اشتراكيّة عالميّة تقضي على النظام الرأسمالي العالمي وتقيم النظام العالمي اللّاطبقي.

دفعت هذه المنظومة الفكريّة، التي حبس كارل ماركس نفسه ضمن جدرانها، دفعت به إلى أنْ يتّخذ موقفًا معاديًا لحركات المقاومة ضدّ الاستعمار في المستعمرات، ورأى بها أنشطة رجعيّة وهمجيّة وتقف بوجه حركة التاريخ؛ أي خارج السّياق الذي رسمه هو بنفسه للتاريخ وحتميّته، ولم يستطع رؤية أنَّ تلك المقاومة تعبّر عن مصالح تلك لشعوب وأهدافها وبناها الثقافيّة المستمدّة مِن عمق الحضارات المتأصِّلة فيها والممتدّة عميقًا في التاريخ. ولا كان بإمكانه، أو لم يشأ، رؤية إمكانيّة أنْ يكون لتلك الشعوب خيارات أخرى للتطوّر مختلفة عن خيارات المجتمعات الأوروبيّة، التي يعتبرها هدفًا على شعوب العالم أنْ تسعى للوصول إليه.
ولذلك أيضًا، نراه يُغيِّب الهدف الرئيس للدول الاستعماريّة في سعيها للسيطرة على شعوب العالم، ألا وهو النهب وامتصاص الفائض الاقتصادي مِن المستعمرات باتجاه المتروبول وتدمير بناها الاقتصاديّة لتحويلها إلى ميادين لإنتاج المواد الأوليّة لمصانعها وأسواق لتصريف منتجاتها بأيّ طريقة ممكنة، حتّى ولو استدعى ذلك إبادة مجتمعات بكاملها، وهو لم يرَ في المنهوبات القادمة مِن المستعمرات سوى «تجارة خارجيّة».
لقد ربط ماركس ما بين تطوّر القدرات العسكريّة لأوروبا وتطوّر القوى المنتجة، واعتبر بأنَّ ذلك كان نتيجة للتطوّرات العلميّة التي تطوّرت الصناعات المختلفة في ظلّها، ومنها الصناعات الحربيّة. ولكنَّ التدقيق في تاريخ الصناعات العسكريّة الأوروبيّة يضعنا أمام حقيقة واضحة، ألا وهي ارتباط هذه الصناعات بأعمال القراصنة منذ القرن العاشر الميلادي، وهي كانت ذاتيّة التموين والتطوير، وهذا ما يُظهر ضحالة ربط ماركس بين الأمرين، وكيف أنَّه يضع العربة أمام الحصان. ونكتفي بالقول إنَّه يكفي العبد لقتل سيّده والاستيلاء على قصره، أنْ يسرق سيفه ويقطع عنقه. والتذكير بأنَّ الطّغاة ما طوّروا علمًا ولا اكتشفوا اكتشافًا خدمة للعلم ورفاهية البشريّة، إنّما فعلوا ذلك في خضمِّ بحثهم عن تطوير جهازهم للنَّهب العنيف.

ثالثًا: الوقائع تدحض رؤيتي هيغل وماركس للفعل الاستعماري:
لا شكّ بأنَّ الحركة الاستعماريّة بدأت تشكِّل جوهر الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة في أوروبا الغربيّة منذ ما بعد فتح العثمانيين للقسطنطينيّة عام 1453 والقضاء على الإمبراطوريّة البيزنطيّة. وهو الحدث الذي ترافق مع خسارة العرب لمعظم ممتلكاتهم ووجودهم السياسي في الأندلس، وانحسار وجودهم في غرناطة في جنوب شرقي الأندلس التي ما لبثت أنْ سقطت عام 1492 بأيدي تحالف القشطاليين والآراغونيين، لتؤذن بقيام مملكة إسبانيا القويّة المزهوّة بالنّصر، ولتحثُّ على البحث، متنافسة مع جارتها في شبه جزيرة إيبيريا، البرتغال، عن موقع قيادي لها في الاقتصاد الأوروبي يزاحم المدن الإيطاليّة، البندقيّة وجنوى خاصّة، التي كانت تحتكر لنفسها خطوط التجارة الدوليّة مع الشرق عبر السلطنة المملوكيّة والسلطنة العثمانيّة.
وفي العقد الأخير مِن القرن الخامس عشر، سنجد إسبانيا قد انضمّت للبرتغال في السّعي لاكتشاف طرق جديدة للوصول إلى مراكز التجارة في الشرق، أكان عبر الدوران حول أفريقيا أو إنْ كان عبر الإبحار في الأطلسي للوصول إلى الشرق، فكان أنْ أدّى ذلك إلى أنْ تتقاسم المملكتان العالم بموجب معاهدة توردسيلاس (Tordesillas) الموقّعة عام 1493، والتي تمّ تعديلها عام 1494، والتي رعاها وباركها البابا إسكندر السادس (رودريغو بورجيا)، فأصدر فرمانًا بابويًّا أعلن فيه إباحة العالم بأسره لهاتين المملكتين اللتين تقاسمتاه بموجب خطّ وهمي تمّ رسمه في المحيط الأطلسي، حصلت البرتغال على نصف العالم الذي يقع شرق هذا الخطّ، بينما حصلت إسبانيا على نصفه الآخر الواقع غرب الخطّ المزعوم[29].

وبذلك، يمكننا تحديد العام 1493 تاريخًا «رسميًّا» لبداية الحركة الاستعماريّة حول العالم؛ أي قبل أكثر مِن ثلاثة قرون على ظهور فلسفة هيغل، وأكثر مِن ثلاثة قرون ونصف على ظهور فلسفة ماركس، فننتبه بذلك إلى أنَّ حركة الكشوفات الجغرافيّة والاختراعات العلميّة التي مكّنت هاتين المملكتين مِن تطوير أجهزتهما النّهبيّة إلى الدرجة التي مكّنتهما مِن إحداث الانقلاب في التوازنات الدوليّة لصالحهما، فكُسِرَت البندقيّة، الخارجة على البابويّة، في أوروبا وفي البحر المتوسّط[30]، وكُسِرَت السلطنتان المملوكيّة والعثمانيّة على التوالي في محيطهما، المحيط الهندي، وفي بحر العرب، وأخرجتهما البرتغال مهزومتين مِن أسواق الشرق، وهي الإنجازات الحربيّة التي أسفرت عن افتتاح عهد تدفُّق الثروات الهائلة في القرن السادس عشر مِن المستعمرات البرتغاليّة في أفريقيا الغربيّة والشرقيّة والهند وجزر المحيط الهندي إلى خزائن ملك البرتغال، وفي الوقت الذي بدأ «نهر الذهب والفضّة» وغيرهما مِن الثروات المنهوبة مِن «العالم الجديد» يصبُّ في خزائن ملك إسبانيا.

كانت هذه الثروات المنهوبة مِن الضخامة بحيث أنّها أحدثت أثرًا هائلًا في القدرات الاقتصاديّة، وفي مجمل هياكل الاقتصاد، ليس في إسبانيا والبرتغال وحسب، وإنّما في عموم أوروبا الغربيّة والشماليّة، عبّرت عن نفسها على شكل فورة اقتصاديّة عظمى أرخت ظلالها وتأثيراتها على العلوم والفنون والفكر في كامل أوروبا الغربيّة. فننتبه، آنئذٍ، إلى أنَّ كلّ هذه التطوّرات والإنجازات حدثت تحت رعاية الكنيسة الكاثوليكيّة، وعلى أيدي أنظمة ملكيّة قائمة على الحكم المُطلق و«علاقات الإنتاج» الإقطاعيّة.
في هذه الأجواء، سيطرت مملكتا البرتغال وإسبانيا على النشاط الاستعماري والاستكشافي طوال القرن السادس عشر، وحين ستدخل هولندا ومِن ثَمَّ بريطانيا وتليها فرنسا ميدان التسابق على حيازة المستعمرات، كان الهاجس، أو العامل الحاسم في عمليّة التفوّق في هذا الميدان، هو إدخال المزيد مِن التطوير على أجهزة النّهب العنيف، حيث أدّى إدخال المحرّك البخاري على البحريّة الإنكليزيّة وانتقالها مِن السفن ذات الهيكل الخشبي إلى السفن ذات الهيكل المعدني، أدّى إلى إحداث انقلاب كبير في موازين القوى بين المتنافسين للسيطرة على بلاد العالم واستعمارها. مع الإشارة إلى أنَّ هاجس تطوير المحرّك لم يكن لإدخاله في تطوير الإنتاج الصناعي ولا مزيد مِن رسملة الإنتاج لتحقيق «الفصل بين العمل وشروطه الموضوعيّة»، بل كان الهاجس هو تطوير جهاز العنف، بدليل أنّ هذا المحرّك لم يدخل في النشاط الصناعي إلّا بعد نصف قرن مِن دخوله في سلاح البحريّة الملكيّة الإنكليزيّة. ومع الإشارة إلى أنَّ كلّ هذه وتلك التطوّرات حدثت أيضًا في ظلّ «علاقات الإنتاج الإقطاعيّة»، ولم يكن رجال الإقطاع عقبة كأداء بوجه تطوّرها، بل على العكس مِن ذلك، فكانت تتمّ تبعًا لتوجيهاتهم وتشجيعهم لها، فقط لأنَّ نتائج النّهب الذي تحقّقه كانت تصبُّ في خزائنهم.

على أيّ حال، لن نتجاوز في هذا البحث هذه التساؤلات وما تحتويه مِن إشارات، ونترك تعميق البحث فيها للباحثين في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي. ولكنْ قبل الانتقال إلى مسألة أخرى في هذا البحث، نجد مِن المفيد طرح مجموعة مِن الأسئلة المترابطة لنخلص منها إلى سؤال مركزي في مرحلة ما قبل التشكُّل القومي في أوروبا الغربيّة، وهو التشكُّل الذي بدأت خطواته تتسارع إثر الحروب الدينيّة التي انتهت «رسميًّا» عام 1712، وليحلّ الانقسام القومي تدريجيًّا محلّ الانقسام الدّيني. وبحسب هيغل، فإنَّ الدّولة القوميّة هي حاضنة «روح الشعب» ومجال حراكه وسموّه. وبحسب كارل ماركس، فإنَّ الدولة القوميّة هي حصن البرجوازيّة الوطنيّة وأداتها للتطوّر، مِن جهة، ومن جهة أخرى لاستغلال الطبقة العاملة، وإنَّ الحروب مع قيام الدولة القوميّة انتقلت مِن الدفاع عن الملك إلى الدّفاع عن البرجوازيّة ومصالحها، وتحت شعار كاذب هو «حماية الأمّة».
السؤال هو: مَنْ ذا الذي جنى ثمار تدمير المجتمعات الأوروبيّة، وأرهق كاهل الملوك والأمراء بالمديونيّة لتمويل تلك الحروب، غير أولئك الذين أثاروا تلك التناقضات في الكنيسة الكاثوليكيّة؟ وكيف فرض هؤلاء الدّائنون (المرابون) على الملوك الكبار دكّ حصون الإقطاعيين في ممالكهم بحجّة منع تعدّيات النبلاء على ثروات المرابين وعلى خطوط تجارتهم العابرة للمقاطعات كخطوة مِن خطوات قيام الدّولة القوميّة المركزيّة؟ وهي الدولة التي وصفها هيغل بأنَّها تدلُّ على «نجاح مبدأ روحي يُعبّر عن أعلى درجة وصلت إليها الروح الإلهيّة التي تنفذ إلى العالم في تلك البُرهة»[31]، بينما لم تكن سوى المرتع الذي رتعت فيه القوى الماليّة، وأخذت تهيمن فيه على مفاصل الحياة في تلك الدول تحت مسمّى «الرأسماليّة الصّاعدة»، فطغى هذا المسمّى على ما سبقه مِن مسمّيات للتناقضات فيها، كاليهوديّة والبروتستانتيّة في مواجهة الكاثوليكيّة، فبات المسمّى الجديد «رأسماليّة بريطانيّة» و«رأسماليّة فرنسيّة» وأخرى ألمانيّة وإيطاليّة وهولنديّة وغيرها، وهي التي ستقود فيما بعد معارك كسر الملوك أنفسهم لتجلس على عروشهم باسم «الديمقراطيّة»، وهي مفردة استحضرتها تلك القوى مِن التراث الإغريقي[32] في القرن الخامس قبل الميلاد، وتحمل دلالة واضحة، حكم الشعب لنفسه بنفسه، ولكنَّها في التطبيق العملي، ومنذ الإغريق، لم تكن سوى حكم «النخبة» لباقي فئات الشعب وطبقاته[33].


الخاتمة
الخلاصة الأساسيّة التي ينبغي استنتاجها ممّا مرَّ معنا في هذه الدراسة، هي أنَّ التراث الفلسفي للحداثة الغربيّة لم يكن بريئًا مِن التوظيف السياسي والإيديولوجي للسلطات الحاكمة في الغرب. ولعلّ الموجات الفلسفيّة التي زامنت نشوء الدولة المركزيّة في أوروبا، تشير بشكل واضح إلى مثل هذه النتيجة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت ترسيمة هيغل لحركة التاريخ مثالًا صارخًا على التوظيف السياسي لمفهوم الغلبة والاستعلاء الأوروبيين، وذلك على النّحو الذي جعله يرى أنَّ «الرّوح» سارت بمسيرة عكس حركة الأرض حول الشمس، فرآها سارت مِن الصين إلى الهند ومنها إلى بلاد فارس، حيث انتقلت منها إلى الإغريق لتنتشر وتتطوّر وتسمو في العالم الجرماني، متجاهلًا حضارة بلاد ما بين النهرين والحضارة الفرعونيّة السابقتين على الحضارة الصينيّة والهنديّة، فإذ بنا نراه يرسو، متسكّعًا حينًا، وهائمًا حينًا آخر، على هامش علم التاريخ وحركته، وأيضًا على فلسفته، طالما نراه يُلِحُّ على تطويع التاريخ ليتوافق مع منظومته الفكريّة التي وضعها في خدمة مشروع الدولة القوميّة الألمانيّة، التي كانت تقودها بروسيا منذ هزيمة مشروع بونابرت الإمبراطوري في أوروبا.

وإذا كان الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس قد اعتبر ذات يوم بأنَّ «الماركسيّة الشيوعيّة، والشموليّة السلطة، ليست إلّا حيلة مِن التاريخ لتشجيع تعجيل تفرنج (تغريب) الشعوب التي بقيت خارج هذه الحركة حتّى زمن حديث»[34]، فالحقيقة أنَّ هذا الكلام يمكن إسقاطه على مجمل فلسفة القرن التاسع عشر بشكل خاص؛ فهي شجّعت، ليس فقط على «تفرنج» شعوب العالم، بل وأيضًا على التبشير بالرأسماليّة في أوروبا، والادّعاء بأنَّها القدر الذي لا بدّ منه، وأنّها التعبير عن التطوّر التاريخي القويم لتلك المجتمعات، التي سُلِبَت خصائصها وروحها الخاصّة تحت عنوان التطوّر الرأسمالي.
لقد تأكّد بما لا يدع مجالًا للشكّ أنَّ التنظير الفلسفي للتمركز الحضاري الغربي شكّل الغطاء الثقافي لمجمل الوقائع البشعة التي مورست مِن جانب الدول الاستعماريّة في بلدان أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة، وليس مِن قبيل التكرار القول إنَّ تنظيرات هيغل في تمجيد العرق الآري وتبريرات ماركس لاستعمار الهند والجزائر، لم تكن سوى النموذج الأكثر بيانًا على التبرير الفلسفي لغزو العالم.

لائحة المصادر والمراجع
المصادر والمراجع العربيّة والمعرّبة:
القرآن الكريم.
العهد الجديد.
آرمسترونغ، كارين: «النزعات الأصوليّة في اليهودية والمسيحيّة والإسلام»، ترجمة: محمّد الجورا، دار الكلمة للطباعة والنشر، طبعة أولى، دمشق، 2005.
أنجلز، فريدريك: «عبد القادر»، مقال في «الماركسيّة والجزائر» لماركس وأنجلز، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1978.
برييه،أميل: «تاريخ الفلسفة»، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت، 1985، سبعة أجزاء.
حسين مؤنس: «الحضارة»، سلسلة «عالم المعرفة» رقم 1، المجلس الوطني للثقافة والعلوم، الكويت، كانون الثاني 1978.
حيدر، محمود وآخرون: كتاب: «نحن وأزمنة الاستعمار: نقد المباني المعرفيّة للكولونياليّة وما بعد الكولونياليّة»، 4 مجلّدات، تحرير الدكتور محمود حيدر، منشورات العتبة العباسيّة، بيروت، 2018.
دوفيز، ميشال: «أوروبا والعالم في نهاية القرن الثامن عشر»، ترجمة: إلياس مرقص، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت، د.ت.
ديورانت، ول: «قصة الحضارة»، ترجمة: فؤاد أندراوس ومحمّد علي أبو دُرّة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة، 2001، المجلّد الرابع عشر، ج. 27.
غي روشيه، «مقدّمة في علم الاجتماع العام»، الجزء الثالث، «التغيّر الاجتماعي»، تعريب محمّد نعمة فقيه (الكاتب)، دار مكتبة الفقيه، بيروت، الطبعة الأولى 2016، الجزء 3.
قرم، جورج «التنمية المفقودة»، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1981.
لينين، فلاديمير: تقرير اللجنة المختصّة بالمسألة القوميّة ومسألة المستعمرات في المؤتمر الثاني للأمميّة الشيوعيّة 26 تموز 1920، فصل مِن كتاب «حركة شعوب الشرق الوطنيّة التحرريّة»، دار التقدّم، موسكو، د. ت.
ماركس – أنجلز: «البيان الشيوعي»، طبعة دار التقدّم، موسكو، 1974.
ماركس،كارل: «بؤس الفلسفة»، ترجمة: حنّا عبّود، راجع الترجمة ودقّقها محمّد نعمة فقيه (الكاتب)، دار مكتبة الفقيه، بيروت، الطبعة المنقّحة الثانية، 2020.
ماركس، كارل: «رأس المال»، ترجمة: الدكتور جمال الشامي، طبعة دار التقدّم العربي، بيروت، د.ت.، ثلاثة أجزاء. وطبعة دار ابن خلدون، بيروت، 1982، ترجمة: فالح عبد الجبّار، مجلّدان. وطبعة مكتبة المعارف، ترجمة محمّد عيتاني، بيروت 10 مجلّدات.
ماركس، كارل: في: ماركس – أنجلز: «في الاستعمار»، ترجمة: د. فؤاد أيّوب، دار دمشق للطباعة والنشر، د. ت.
هيبوليت، جان: «مدخل إلى فلسفة التاريخ عند هيجل»، دار مكتبة الفقيه، ترجمة: د. أنطون حمصي، راجع الترجمة ودقّقها محمّد نعمة فقيه (الكاتب)، بيروت، ط2، 2021.
هيغل، ج. ف. ف.: «أصول فلسفة الحقّ»، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996.
هيغل، ج. ف. ف.: «فنومينولوجيا الرّوح»، ترجمة: د. ناجي العونلِّي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2006.
ولز، ج. هـ.: «معالم تاريخ الإنسانيّة»، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1961، أربع مجلّدات.

المراجع والمصادر بلغات أجنبيّة:
Droysen, Johann Gustav: “Geschichte des Hellenismus”, 2 v.(1600 p.), Cambridge University Press, 2011.
Encyclopædia Britannica, Inc, John Hearsey, McMillan Salmon. “The Wars of Religion”.
Georg Wilhelm Friedrich Hegel, “La phenomenology de l’esprit”, ed. L’Harmattan, Paris, 2006.
Lévi-Strauss, Claude:Une interview avec le journal français “Le Monde”, Paris, le 21-22 Janvier 1979.
Piketty, Thomas: “Le capital au XXIe siècle”, Editions Seuil, Paris, 2013.
Toussaint,Eric: “Thomas Piketty et Karl Marx : deux visions totalementdifférentes du Capital”, Comite pour l’abolition des dettesillegitimes, 9 mars 2021.

---------------------------------------
[1]*- باحث وأستاذ محاضر في فلسفة التاريخ – لبنان.
[2]- ميشال دوفيز: «أوروبا والعالم في نهاية القرن الثامن عشر»، ص17، حسين مؤنس: «الحضارة»، ص201.
[3]- يطلق هيغل اسم «المدينة» على المحيط الاجتماعي للفرد، حيث يعتبر بأنَّ المدينة، وليس الريف، هو المجال الحيوي لتفاعل الأفراد وتطوّرهم، مرتكزًا في ذلك على الاستخدام الإغريقي لمفهوم المدينة - الدّولة.
[4]- تمدّنا الآيات: 83–98 مِن سورة الكهف في القرآن الكريم بمعلومات عن «ذي القرنين» كشخصيّة تحمل هذا الاسم أو اللقب بمواصفات مناقضة لصفات الإسكندر وسابقة عليه.
[5]- الهلنستيّة (Hellenismus) مصطلح صاغه المؤرّخ يوهان دريزن في منتصف القرن التاسع عشر للإشارة إلى الفترة التي انتشرت فيها الثقافة اليونانيّة في العالم غير اليوناني بعد غزو الإسكندر للشرق في كتابه «تاريخ الهلنستيّة» (Geschichte des Hellenismus) تمييزًا لها عن المرحلة «الهلّينيّة» التي كانت تقوم في بلاد اليونان في ظلّ أنظمة المدينة – الدولة. وقد يكون انتشار هذا المفهوم لأنّه يُسهم في التّعمية على حقيقة أنّ مجمل ما يُطلق عليه اسم «الحضارة الهلّينيّة» أو «الحضارة الهلنستيّة» ليست في حقيقتها سوى نتاج تفاعل الحضارات في مصر وسورية وبلاد ما بين النّهرين وفارس، حيث كان الإسهام الأساسي للإسكندر هو في تمكين أبناء هذه الحضارات مِن التفاعل المباشر فيما بينهم. وتُظهر أسماء علماء وفلاسفة ذاك العصر بأنّهم كانوا يتّبعون إحدى المدارس في هذه الأقطار، حيث كانت تُنتج المعارف والعلوم. وانتشار الأسماء بالصيغة اللغويّة الإغريقيّة لا يعود لكونهم إغريقًا، بل لأنَّ الأوروبيين تعرّفوا عليهم عن طريق الإغريق مثلما وصل اسم الإمبراطور الفارسي دارا لهم بصيغة داريوس، واسم الكنعانيين على الساحل السوري باسم «فينيقوس» وأعيد تعريبه إلى فينيقيين.
[6]- Georg Wilhelm Friedrich Hegel, “La phenomenology de l’esprit”, part 2, p. 23, ed. L’Harmattan, Paris, 2006.
[7]- راجع حول هذا التصوّر البطولي للحريّة الديالكتيكيّة الشهيرة، ديالكتيكيّة «الصراع مِن أجل الحياة والموت» في الفينومينولوجيا 9، ص158، وهي ديالكتيكيّة متبوعة بالديالكتيكيّة المتعلّقة بالعلاقات بين السيّد والعبد، 1، ص161.
[8]- جان هيبوليت، «مدخل إلى فلسفة التاريخ عند هيجل»، دار مكتبة الفقيه، ترجمة: د. أنطون حمصي، راجع الترجمة ودقّقها محمّد نعمة فقيه (الكاتب)، بيروت، ط 2، 2021، ص106.
[9]- إنجيل متّى، 6: 13.
[10]- حول دور الحرب التي تزيل خصوصيّات الجماعات القوميّة في إمبراطوريّة. راجع: الفينومينولوجيا 2، ص42–43.
[11]- جان هيبوليت، المرجع المذكور، ص111.
[12]- أميل برييه: المرجع المذكور، الجزء السادس، ص205.
[13]- فلسفة الحقّ: 6، ص169.
[14]- انجيل متى، 5: 11. وطوبى كلمة آراميّة الأصل تعني: يا لسعده، هنيئًا له.
[15]- إنجيل متى 24-25، ومرقس13ولوقا 5: 21 و26 ويوحنا 14: 25- 29، بالإضافة لسفر الرؤيا.
[16]- كلود ليفي شتراوس، صحيفة «لوموند» الباريسيّة، تاريخ 21 – 22 كانون الثاني 1979، ص14.
[17]- د. جورج قرم، «التنمية المفقودة»، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1981، ص82.
[18]- لينين: تقرير اللجنة المختصّة بالمسألة القوميّة ومسألة المستعمرات في المؤتمر الثاني للأمميّة الشيوعيّة 26 تموز 1920، فصل مِن كتاب «حركة شعوب الشرق الوطنيّة التحرريّة»، دار التقدّم، موسكو، ص406.
[19]- كارل ماركس، «رأس المال»، ترجمة: الدكتور جمال الشامي، طبعة دار التقدّم العربي، بيروت، د.ت.، الجزء الأوّل، ص165. وفي طبعة دار ابن خلدون، بيروت، 1982، ترجمة: فالح عبد الجبّار، المجلّد الأوّل، الجزء الثاني، ص5.
[20]- Thomas Piketty, “Le capital au XXIe siècle”, Editions Seuil, Paris, 2013.
[21]- Eric Toussaint, “Thomas Piketty et Karl Marx : deux visions totalement différentes du Capital”, Comite pour l’abolition des dettes illegitimes, 9 mars 2021.
[22]- كارل ماركس، في: ماركس – أنجلز: «في الاستعمار»، ترجمة: د. فؤاد أيّوب، دار دمشق للطباعة والنشر، بلا تاريخ، ص36–37.
[23]- ماركس: «في الاستعمار»، مرجع مذكور، ص90.
[24]- ماركس: «في الاستعمار»، المرجع السابق، ص85.
[25]- غي روشيه، «مقدّمة في علم الاجتماع العام»، الجزء الثالث، «التغيّر الاجتماعي»، تعريب: محمّد نعمة فقيه (المؤلّف)، دار مكتبة الفقيه، بيروت، الطبعة الأولى 2016، الجزء 3، ص13–14.
[26]- ماركس – أنجلز: «البيان الشيوعي»، طبعة دار التقدّم، موسكو، 1974، ص46.
[27]- فريدريك أنجلز: «عبد القادر»، مقال في «الماركسية والجزائر» لماركس وأنجلز، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1978، ص14.
[28]- كارل ماركس، «بؤس الفلسفة»، ترجمة: حنّا عبّود، راجع الترجمة ودقّقها محمّد نعمة فقيه (المؤلّف)، دار مكتبة الفقيه، بيروت، الطبعة المنقّحة الثانية، 2020، ص195 – 196.
[29]- ج. هـ. ولز، «معالم تاريخ الإنسانيّة»، المجلّد الثالث، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1961، ص1029.
[30]- كانت جمهوريّة البندقيّة آخر المناطق في شبه الجزيرة الإيطاليّة الموالية للإمبراطوريّة البيزنطيّة، وكان ذلك مثار حساسيّة وتوتّر دائم بينها وبين البابويّة في الفاتيكان، رغم التحالفات المتكرّرة التي كانت تنضمّ البندقيّة لها تحت رعاية بابا الفاتيكان، لاسيّما منها مشاركتها الفاعلة في أكثر مِن حملة صليبيّة على بلاد الشام، ومنها الحملتان الثالثة والرابعة، وكذلك في الحشود البابويّة في مواجهة التمدّد العثماني في أوروبا. وقد شكل وضع البندقيّة هذا حافزًا للهجرة اليهوديّة الكثيفة إليها، وقبضوا على مفاصل تجارتها وأمسكوا بـ «بورصة» تحديد المعادل التبادلي للسلع والمنتجات، وعلى سبك النقود والمدافع وصناعة التعدين بشكل عام، وكانوا يتولّون عمليّات الإقراض والتمويل، بما فيها تمويل التجارة والحملات الحربيّة ما وراء البحار. وكان معظمهم يتّخذ مِن منطقة مجاورة لمدينة البندقيّة تُدعى «جيتو» نسبة للمسبك الموجود فيها، حيث أنَّ كلمة «جيتو» بالإيطاليّة تعني «مسبك». وكان اليهود يحظرون على غير اليهود الدخول إلى هذه المنطقة نظرًا لطبيعتها الخاصّة وحفاظًا على أسرار المهن التي يزاولونها. ولكنْ بعد سقوط القسطنطينيّة عام 1453 طمحت البندقيّة إلى لعب دور قيادة العالم الأرثوذوكسي بدل القسطنطينيّة متكئة على موقعها في طرابزون على البحر الأسود وعدد مِن الممتلكات الخاصّة بها في البحر الأبيض وبحر إيجة. ولكنْ أفسد عليها طموحاتها تلك الانطلاقة الكبيرة التي حقّقها دوق موسكو إيفان الثالث الذي انتصر على قبيلة القرن الذهبي التتريّة في معارك حاسمة، ومباشرته بتأسيس الإمبراطوريّة الروسيّة وإعلانه وراثته للإمبراطوريّة البيزنطيّة بسبب مصاهرته لآخر الأباطرة البيزنطيين، وسعيه لاستعادة القسطنطينيّة، فالتفّ السلاف والأرثوذوكس عمومًا في أوروبا الشرقيّة حوله. في هذا الوقت تحرّكت شهوة بابا الفاتيكان لكسر شوكة البندقيّة في أوروبا معتمدًا على حلف أقامه مع ملك إسبانيا وملك فرنسا عرف باسم «حلف كامبري» عام 1508، فتمكّن البابا بعد عدّة حروب وصولات كرّ وفرّ مِن تطويع البندقيّة، وفرض عليها تقييد النشاط التخريبي الذي يقوم به اليهود في عموم أوروبا انطلاقًا مِن البندقيّة، وجرى عام 1516 محاصرة مكان سكنهم في «جيتو» فتمّ تسويره ووضع الحراسات عليه لتقييد حركتهم. وقد أعطت هذه المنطقة اسمها لكلّ الأحياء اليهوديّة في أوروبا فيما بعد.
[31]- برييه، مرجع مذكور، ج6، ص205. وورد عند جان هيبوليت، مرجع مذكور، ص111.
[32]- يمكن هنا ملاحظة ما استحضره مفكّرو «عصر الأنوار» في أوروبا لكثير مِن المفردات مِن التراث الإغريقي، وليس الروماني اللاتيني، وربط الفكر الأوروبي بالتاريخ والحضارة الإغريقيّتين، متجاوزًا الحضارة الرومانيّة. ويحقّ لنا هنا تسجيل ملاحظة نتركها للباحثين المتخصّصين، بأنَّ اليهود في الإمبراطوريّة الرومانيّة، لاسيّما منهم سكّان مدينة روما، ومنذ القرن الميلادي الأوّل، تخفّوا وراء الشعب اليوناني وأتقنوا الإغريقيّة، وكتب مثقّفوهم وحاخاماتهم بالإغريقيّة (ومنهم الحاخام يوسفوس مؤلّف كتاب تاريخ اليهود المعروف باسمه، والذي كتبه في سبعينيّات القرن الأوّل الميلادي بالإغريقيّة)، وهم يكنّون العداء الصّارخ للرومان لأسباب متعدّدة. وبما أنَّ الكنيسة الكاثوليكيّة تعتبر نفسها وريثة للإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة اللاتينيّة اللغة، فقد نفر اليهود، وتاليًا البروتستانت، مِن اللغة اللاتينيّة إلى اللغة الإغريقيّة.
[33]- لعلّه مِن المفيد الإشارة هنا إلى أنَّ الكلام عن ممارسة الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد لنظام يقوم على «سلطة الشعب» عبر الانتخاب، هو كذبة مِن الأكاذيب والحيل التي أشاعتها النُّخب الثقافيّة اليهوديّة في أوروبا خلال معركتها لتثبيت الإيديولوجيا الرأسماليّة ونزع الصفة المسيحيّة عن الحضارة الأوروبيّة وإعادتها للزمن الوثني، وكذلك في سبيل إزاحة السلطات السياسيّة القائمة، والقول بأنَّ الازدهار الذي تحقّق في بلاد الإغريق في عصور ما قبل الميلاد، يعود للنظام الذي كان يقوم على حكم الشعب بنفسه مِن خلال انتخاب قياداته، وليس مِن خلال الحقّ الإلهي. فالصحيح هو أنَّ القائد الأثيني كليسثنيس عمد عام 507ق.م لتخفيف وطأة التنافس بين زعماء الأسر النبيلة العشر الحاكمة في مدينة أثينا، فاتخذ قرارًا بأنْ تنتخب كلّ أسرة مِن هذه الأسر ممثّلين عنها في البلاط، مخفّفًا عن نفسه مغبّة الاختيار والوقوع في خصومات مع الذين لم يقع عليهم خياره، وأطلق على هذه العمليّة اسم «ديموس كراتوس»، وتمّ دمج الكلمتين في كلمة «ديموكراتيا» أي «حكم الشعب». و«الشعب» ليس عموم النّاس، بل هو تلك الأسر العشر النبيلة، أو بالأحرى على الذكور النّاضجين منهم. بينما لم يكن يحقّ للعبيد والنساء والمذمومين المشاركة في هذا الاختيار، علمًا أنَّ الغالبيّة العظمى مِن شعب أثينا يومها كان مِن العبيد. وهذه الحالة شائعة جدًا في مختلف الجماعات البشريّة، ولكنْ لم تكن تحمل هذا الاسم. وفي الواقع، فإنَّ الديمقراطيّة والانتخابات في عصرنا ليست أمرًا آخر يختلف عن ذلك.
[34]- شتراوس، مرجع مذكور.