الباحث : حبيب الله بابائي
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 30
السنة : ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 22 / 2023
عدد زيارات البحث : 1891
عندما نغوص في بحث المقارنة بين حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة، سنعثر على عناصر وعوامل الوحدة الحضاريّة في النقاط المتنوّعة والعناصر المتعدّدة؛ ومن بين تلك العناصر عنصر الدين بوصفه عاملًا للتلاقي والارتباط بين الحضارات، وفي ضوء هذه المقارنة ستجيب هذه الدراسة على سؤال مركزيّ يرتبط ببيان نقاط الانعطاف الدينيّ في تاريخ الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة في بنية وشكل الوحدة الحضاريّة، حيث ستركّز على دراسة موقع الدين المسيحيّ في حضارة الغرب والدين الإسلاميّ في الحضارة الإسلاميّة عبر ثلاث مراحل، وهي: مرحلة التأسيس، ومرحلة الازدهار، ومرحلة الأفول في كلّ واحدة من هاتين الحضارتين، والعمل على دراسة وتحليل عوامل الاتحاد وعوامل الافتراق في كلّ واحدة منهما.
ويبدو المصير الحضاريّ للإسلام مختلفًا جدًّا عن التاريخ الحضاريّ للغرب، مع وضوح الكلام في سلسلة من نقاط الافتراق بين الإسلام والمسيحيّة والعناصر الحضاريّة لذلك في التاريخ، وعلى الرغم من وجود الاختلافات في المسارين الحضاريّين للغرب والإسلام، إلّا أنّ ثمّة أنواعًا كثيرة من أوجه الشبه بينهما، بحيث تجعل من عمليّة التحليل والمقارنة بين هاتين الديانتين في سياق المسار الحضاريّ والالتصاق بين تنوّعاتهما الثقافيّة أمرًا بالغ التعقيد.
الكلمات المفتاحيّة
الحضارة الغربيّة، الحضارة الإسلاميّة، الدين والترابط الحضاريّ، العلم، الدين
1 ـ الغرب الإنسانيّ بوصفه مركزًا لـ«الاختلاف الحضاريّ»
في الرؤية التاريخيّة والمقارنة بين حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة، يمكن العثور على عناصر وعوامل الوحدة الحضاريّة في النقاط المتنوّعة والعناصر المتعدّدة؛ ومن بين تلك العناصر عنصر الدين بوصفه عاملًا للتلاقي والارتباط بين الحضارات ومن بينها حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة في الماضي التاريخيّ. وفي هذا الشأن يمكن لنا دراسة موقع الدين المسيحيّ في حضارة الغرب والدين الإسلاميّ في الحضارة الإسلاميّة عبر ثلاث مراحل، وهي: مرحلة التأسيس، ومرحلة الازدهار، ومرحلة الأفول في كلّ واحدة من هاتين الحضارتين، والعمل على دراسة وتحليل عوامل الاتحاد وعوامل الافتراق في كلّ واحدة منهما. وفي هذا الشأن يبدو المصير الحضاريّ للإسلام مختلفًا جدًّا عن التاريخ الحضاريّ للغرب، وإنّ تاريخ هاتين الديانتين في كلا طرفي الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة يمثّل واحدًا من نقاط الانطلاق في الفرق والاختلاف بين هاتين الحضارتين، وفي الانسجام أو عدم الانسجام الحضاريّ بينهما. إن كانت الحضارة تعني «منظومة العلاقات الإنسانيّة الأوسع شمولًا»، عندها يرد هذا السؤال القائل: ما هو أداء كلّ واحد من الإسلام والمسيحيّة في إيجاد التغييرات الحضاريّة الشاملة وفي بلورة الاتحاد الحضاريّ؟ وهل كان لأدائهما الوحدويّ أو التنويعيّ مسار منطقيّ وعقلانيّ، أم كان هذا المسار طبيعيًّا وغير منظّم وناظرًا إلى الاحتياجات العامّة واليوميّة للبشر في الغرب أو في العالم الإسلاميّ (شبكة الاحتياجات الاجتماعيّة)؟[2]
لو تمّ التركيز في هذه الدراسة على مجرّد نقاط الاختلاف بين الإسلام والمسيحيّة في بلورة الاتحاد الحضاريّ في الغرب وفي عالم الإسلام، فلن يكون هذا البحث بالغ التعقيد، ويمكن في هذا الشأن بيان سلسلة من نقاط الافتراق بين الإسلام والمسيحيّة والعناصر الحضاريّة لذلك في التاريخ، بيد أنّ المشكلة إنّما تكمن في أنّه على الرغم من وجود الاختلافات في المسارين الحضاريّين للغرب والإسلام، إلّا أنّ ثمة أنواعًا كثيرة من أوجه الشبه بينهما، بحيث تجعل من عمليّة التحليل والمقارنة بين هاتين الديانتين في سياق المسار الحضاريّ والالتصاق بين تنوّعاتهما الثقافيّة أمرًا بالغ التعقيد. فعلى سبيل المثال صحيح أنّ من بين الخصائص المهمّة في حضارة الغرب هي العلمانيّة التي تركتّ تأثيرها في إيجاد الانشقاقات الحضاريّة في الغرب؛ ولكن ربما أمكن رؤية هذه الخصوصّية ذاتها في التاريخ والحضارة الإسلاميّة، والعثور فيها على نقاط مهمّة من الدنيويّة والعلمانيّة التي كان لها سهم في حدوث الشقاق في عالم الإسلام أيضًا. كما ربما أمكن لنا ملاحظة إحدى الاختلافات بين هاتين الحضارتين في وجود نوع من التعدّد والتكثّر المذهبيّ والثقافيّ (التعدّديّة) في حضارة الغرب؛ ولكن في النظرة إلى ماضي التاريخ والحضارة الإسلاميّة يمكن مشاهدة مثل هذا التنوّع المذهبي والثقافيّ أيضًا، والعثور على مصداق ذلك في كتب الملل والنحل والاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة في تاريخ الإسلام. وقد يطرح هذا السؤال نفسه: ما هي نقاط الانعطاف الدينيّ في تاريخ الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة في صلب هذه الأنواع من أوجه الشبه والاختلاف، وما هو اختلاف هاتين الديانتين في بنية الوحدة الحضاريّة وشكلها؟ من الواضح جدًّا أنّ الإجابة التفصيليّة عن هذه الأسئلة تقع خارج نطاق هذه الدراسة، ومن هنا سوف نكتفي في هذا القسم بمجرّد الإشارة إلى المراحل الثلاثة، وهي مرحلة التأسيس، والنموّ والازدهار، والنهاية في الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة[3]، مع بيان الاختلافات المحتملة والممكنة بين هاتين الحضارتين.
أ ـ مراحل «التأسيس» ومسألة «الدين والترابط الحضاريّ»
إنّ تاريخ اليونان والروم في العصر القديم قد ترك بتأثيره سواء من ناحية التقدّم الزمانيّ، وكذلك من طريق التأثير الذي تركه بواسطة القدّيس بولس في تشكيل المسيحيّة، وكذلك بلحاظ المرجعيّة التي نالها في عصر النهضة وتحوّل بذلك إلى أسطورة حضاريّة بالنسبة إلى الإنسان الغربيّ، كان نقطة بداية في الحضارة الغربيّة. لقد كان الظهور البارز للغرب القديم والحضارة اليونانيّة والروميّة القديمة قد تمثّل في العلمانيّة المنبثقة عن بناء المدن، ففي المرحلة القديمة وصولًا إلى ظهور الدين على مسرح الحياة، لم يكن هناك من أثر لحياة المدن، وحيث تتبلور المدن، يتمّ فيها تهميش الأديان (ذات الماهيّة الأسريّة)، ولا يبقى أثر للدين في تحوّلات حياة المدينة. وبعبارة أخرى: في هذه النقطة التاريخيّة هناك نسبة عكسيّة بين حياة المدينة وبين الدين، فإنّ الحياة في المدينة لا تطيق الدين، وكذلك الدين بدوره لا يستوعب تدبير الحياة في المدينة.
في المرحلة اليونانيّة (من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد)، حيث تحوّلت فيه التركيبة الأسريّة القديمة (جينوس) إلى التركيبة المدنيّة الحديثة، وتمّ فيها تأسيس الدولة/ المدن، فقد أدّى إيجاد المجتمعات الجديدة باسم «دولة المدينة»[4] إلى حدوث تحوّلات واسعة النطاق في مجالات متنوّعة[5]. ومن ناحية أخرى فإنّ الارتباط بالحضارات الأخرى والتعرّف على العوالم الأخرى والأفكار الجديدة، زعزع ثقة اليونانيّين بأصولهم القديمة، وشجّعهم على التأسيس لأصول اجتماعيّة جديدة. وكلّما كان الاطلاع والارتباط مع الأديان والحضارات الأخرى أكثر، كلّما أفل نجم الدين في الغرب. لقد كانت الأديان اليونانيّة والروميّة في المرحلة المتقدّمة على الميلاد والمسيحيّة في مرحلة ما بعد الميلاد تعاني من تحدّيات كبرى في المواجهة المستمرّة والتلاقي مع الأديان الأخرى، ومن بينها دين أهورامزدا، ثمّ الدين الإسلاميّ بعد ذلك، بل إنّ التعرّف والاطلاع على الأديان الأخرى، وحتى الفرَق المسيحيّة الأخرى من قبيل المواجهة بين المسيحيّين الكاثوليك في روما الغربيّة وبين المسيحيّين الأورثودوكس في روما الشرقيّة في الحروب الصليبيّة، قد أدّى إلى ظهور العلمانيّة وحذف الدين من المسار الحضاريّ للغرب[6].
إنّ مرحلة عصر النهضة السابقة للميلاد في اليونان القديمة (750ق.م) -والتي يجب تسميتها بعصر تعدّد المدن ومرحلة نشاط السفسطائيّين- هي مرحلة إلغاء الدين وحذفه من مسرح الحياة[7]. إنّ تنوّع المدن وظهور الطبقات الاجتماعيّة الجديدة، ورسم الحدود الطبقيّة، وفصل الفقراء والمعدمين (طبقة العوام) عن المدن، وحرمانهم من القوانين المدنيّة والأمور الحكوميّة[8]، وإيجاد النزاع والاختلاف الاجتماعيّ[9]، وتبلور الأصول الاجتماعيّة الجديدة، ومقاومة الفقراء في مواجهة البطارقة (طبقة الأشراف والنبلاء) من أجل الحصول على الامتيازات العسكريّة والاقتصاديّة[10]، والدخول إلى المدن، وبداية النزاع السياسيّ من أجل الحصول على السلطة والقوّة[11]، وتعقيدات الأنظمة السياسيّة، وظهور المناصب الإداريّة والسياسيّة المتعدّدة والمتنوّعة[12]، وتقسيم الأراضي وإحداث الملكيّة الفرديّة، والقضاء التدريجيّ على الاقتصاد المستند إلى الأرض، والذي لم يكن ثمّة حقّ في امتلاكها لغير رجال الدين[13]، وظهور الصناعات والحرف، من قبيل: صناعة الفخار والخزف، والنجارة، والحدادة، والدباغة وبيع الجلود، وضرب النقود التي لم تكن خاضعة للسلطة الدينيّة والمذهبيّة، بحيث كان بمقدور حتّى الطبقات العامّة والفقيرة أن تمتلكها[14]، وبالتالي سقوط الأباطرة وزوال احتكار الأمور من قبل الأشراف والنبلاء، وإلغاء الشروط الدينيّة والمذهبيّة في تولّي المناصب الاجتماعيّة والسياسيّة في أثينا، من بين الأحداث المصيريّة في هذه المرحلة، وخروج الدين عن مسرح التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة[15]. ومنذ ذلك الحين تمّ التخلّي عن الدين، وأضحى الملاك والمعيار المعتبر في إدارة الأمور والسياسة هو «صلاح العامّة»، وصارت جميع القوانين تُسنّ ويتمّ وضعها وإقرارها والمصادقة عليها في ضوء هذا المعيار[16].
لقد كان دور السفسطائيّين مهمًّا للغاية في هذا المسار التاريخيّ للغرب من المجتمع الدينيّ إلى الحضارة العلمانيّة. ويرى بينجسون أنّ موقع السفسطائيّين في اليونان يجب مقارنته بمفهوم التنوير في القرن الثامن عشر للميلاد، «فقد كان هذان التيّاران الفكريّان متشابهين في تأثيرهما الذي تركاه في العالم»[17]. ويبدو أنّ اليونان في مرحلتها الحضاريّة، لم تكن يونانًا فلسفيّة أو أفلاطونيّة، وإنّما كانت عبارة عن يونان تسيطر عليها الثقافة السفسطائيّة، وكان التفكير القائم على محوريّة الإنسان[18] والفردانيّة للسفسطائيّين هو الغالب على الأفكار الجمعيّة لأفلاطون[19].
في المرحلة الهيلينيّة ـ التي يجب تسميتها بعصر مناهضة الكيانات الأخرى الشرقيّة/ الإيرانيّة، وتوسيع الإمبراطوريّة اليونانيّة[20]، قام فيليب المقدونيّ أوّلًا ثمّ الإسكندر المقدونيّ بعد ذلك بالاستفادة من الظروف المتأزّمة في اليونان، وانطلقا في توسيع الغرب نحو الشرق. لقد كان تأسيس عالم هيلينيّ وقيام إمبراطوريّة تحت سيطرة الهيلينيّين، قد شكّل واحدًا من أهمّ هواجس اليونانيّين في تلك الحقبة من الزمن. إنّ النقطة المهمّة في هذه المواجهة التي احتدمت بين اليونان وإيران، هي الآثار والنتائج التي حصل عليها الإغريق في مواجهة الدين والآلهة الإيرانيّة. وبسبب الخلأ الإيمانيّ الذي كان يعاني منه الإغريق، فقد استسلموا لآلهات الشرق التي كانت تحظى باحترام وتقديس بالغ من قبل الإيرانيّين، ومن خلال تركهم الدين القديم، فقد نسوا آلهتهم السابقة في اليونان[21]. وإنّ ما ذكره ول ديورانت في هذا الشأن جدير بالملاحظة؛ إذ يقول: «إنّ اليونان أعطت الفلسفة إلى الشرق، وقام الشرق بدوره بمنح الدين إلى اليونان. وأصبح الدين هو الفاتح في البين؛ لأنّ الفلسفة كانت مجرّد بضاعة كماليّة بالنسبة إلى عدد معدود من الأشخاص، في حين كان الدين بلسمًا لآلام الكثيرين»[22].
والذي كان يحظى بالأهمّيّة في الحضارة والإمبراطوريّة الرومية هو حقوق الروم وليس دين الرومان. إنّ دين الرومان كان أمرًا ثقافيًّا ولم يكن له سهم في البنية، وفي المقابل كان قد تمّ التأسيس للحقوق الروميّة في بنية الإمبراطوريّة الرومانيّة. لقد كان عصر الجمهوريّة الروميّة هو عصر التأسيس القانونيّ في روما، من قبيل البرلمان الذي كان يقوم بعمليّة سنّ القوانين والتشريعات[23]، والجمعيّة العامّة التي كانت تعمل على إقرار أو رفض تشريعات البرلمان[24]، والقنصل الذي كانت مهمّته تتلخّص في تطبيق القوانين التي تمّت المصادقة عليها[25]، والمستبدّ الذي كان يتمّ انتخابه من قبل البرلمان في الأزمات[26]. إنّ النقطة المهمّة في مرحلة انهيار الحضارة الروميّة تكمن في تزامن ازدهار المسيحيّة وسقوط الإمبراطوريّة الروميّة. يذهب بعض المؤرّخين إلى إرجاع سبب سقوط الإمبراطوريّة الروميّة إلى ظهور المسيحيّة؛ إذ إنّ هذا الدين بما كان يشتمل عليه من الخصائص الجديدة قد قضى على الديانة الروميّة القديمة، واستبدل الرواقيّة بنوع من الرمزيّة الشرقيّة. كما قامت المسيحيّة بنقل الأفكار العامّة من هذا العالم إلى العالم الآخر، ودفعت بالناس ليجعلوا من السعادة الفرديّة غاية أصليّة لهم. لقد كان من بين أهداف المسيحيّة، إحداث التغيير في ثقافة الإمبراطوريّة والكفّ عن الحرب وسفك الدماء؛ كي تتمكّن -من خلال أصولها الأخلاقيّة القائمة على عدم المقاومة- من إيجاد النظم الإنسانيّ والمعنويّ في الغرب[27]. ومع وجود هذا النفوذ لعناصر من الفكر والثقافة اليونانيّة والتراث اليهوديّ في المسيحيّة (مسيحيّة ما بعد بولس)، فقد تمّ إخراج المسيحيّة من شكلها الدينيّ المؤثّر، وتحويلها إلى ثقافة متأثّرة ببيئتها وتاريخها.
بالإضافة إلى ما قيل عن العصر القديم ومرحلة تأسيس الحضارة الغربيّة (في اليونان وروما)، لا بدّ من التذكير بأنّ بداية اليونان وروما بالنسبة إلى الغرب المعاصر، تأتي أوّلًا: من جهة أنّ اليونان وروما القديمة في مرحلتها الحديثة بعد عصر النهضة [الأولى] كانتا موضعًا للرجوع والعودة. وثانيًا: كان هناك حضور للفلسفة الإغريقيّة والحقوق الرومانيّة في الغرب المعاصر أيضًا. وثالثًا: إنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة في رؤيتها إلى موقع الدين (في العلمانيّة)، هي كما كان عليه واقع الغرب القديم ومتأثّرة به أيضًا. إنّ التوسّع المنطقيّ للغرب القديم في مساره التاريخيّ، كان سينتهي لا محالة إلى الغرب العلمانيّ المعاصر؛ بحيث ربما أمكن القول إنّ العلمانية من الناحية التاريخيّة، كانت تعدّ من ذاتيّات الحضارة الغربيّة.
وبذلك يجب التأكيد على أنّ مرحلة التأسيس في الغرب القديم لم تكن مرحلة دينيّة، ولم يكن الدين في صلب تشكيل الحضارة الغربيّة ومركز الحضارة القديمة. وبعد ميلاد المسيح لم تتحوّل المسيحيّة إلى مركزيّة حضاريّة أيضًا. وبالتزامن مع ظهور السيّد المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام)، لم يتمّ التأسيس لمدينة مسيحيّة، ولم ينعم المسيحيّون في حياتهم الدينيّة بالأمن والحرّيّة. وعلى الرغم من أنّ ظهور السيّد المسيح كان ظهورًا لشخصيّة اجتماعيّة وسياسيّة؛ ولذلك فقد تعرّض لحملة شعواء من جانب الفرّيسيّين والصدوقيّين وهيرودوس الأوّل، ثمّ قام اليهود بمرافعته لدى الحاكم الروميّ لمدينة (بونس بيلات)، متّهمين إياه بالكفر ودعوة الناس إلى الخروج على الحكّام، والسعي إلى تنصيب نفسه ملكًا، ولهذا السبب فقد تمّ إصدار حكم الإعدام بحقّه[28]، ولكن على الرغم من كلّ ذلك لم يكن شعار السيّد المسيح سوى الزهد والابتعاد عن الدنيا، وربما لهذا السبب لم يبادر السيّد المسيح (عليه السلام) إلى بناء مدينة، ولم يستلم مقاليد الحكم، بل وأعرض حتى عن الزواج أيضًا، وبالتالي فإنّه لم يتمكن من لعب دور على المستوى العامّ في الحضارة الغربيّة. فقد حدث دخول المسيحيّة إلى مضمار السياسة في روما الشرقيّة (البيزنطيّة) في القرن الرابع للميلاد، وفي ظلّ الثقافة الشرقيّة بطبيعة الحال، حيث لم يكن بالإمكان فصل الدين فيها عن الدنيا[29]. إنّ هذا المسار من الصيرورة الاجتماعيّة والسياسيّة في روما الغربيّة قد امتدّ به الزمن إلى ما يقرب من ألف عام، وقد تزامن ذلك مع بداية الحروب الصليبيّة، دون أن تتمكّن المسيحيّة من الدخول في مضمار السياسة وحلبة الإدارة الاجتماعيّة، وممارسة نشاطها العسكريّ في إطار النظام الإقطاعيّ.
إنّ ما قيل حتى الآن في مورد الدين في الحضارة الغربيّة القديمة، ينطوي على اختلافات جوهريّة مع تاريخ ومسار الحضارة الإسلاميّة. لم تكن هناك في الحضارة الإسلاميّة نسبة عكسيّة بين الدين وحياة المدينة، ولم تكن هناك نسبة مخالفة بين الدين والارتباط بسائر الحضارات الأخرى. فقد شهد الإسلام في الحضارة الإسلاميّة انتشاره الأكبر في مراكز المدن منه إلى مراكز القرى والأرياف. كما كان للإسلام انتشار أكبر فيما يتعلّق بالارتباط مع الحضارات الأخرى، مثل الحضارة الإيرانيّة أو الحضارة اليونانيّة والغربيّة، فلم يمض على عمر الدعوة الإسلاميّة سوى عقد من عمرها حتى قام النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بتأسيس مجتمع المدينة، وأقام نظامًا مدنيًّا ونظامًا اجتماعيًّا سياسيًّا جديدًا. وفي الحقية فإنّ الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة لم يكن مجرّد تحوّل في المعايير الأخلاقيّة فقط، بل قام في ذلك العصر بتأسيس نظام سياسيّ جديد في ظل الإسلام. ومن هذه الناحية فإنّ الهجرة إلى المدينة لم تكن مجرّد هروب من مكّة، وإنّما كانت فرصة لإقامة نظام جديدة وحياة اجتماعيّة حديثة. وفي الحقيقة فإنّه على الرغم من أنّ الدين الإلهيّ كان يقتضي التقوى الفرديّة في الوهلة الأولى؛ إلّا أنّ التقوى الشخصيّة كانت تقتضي سلوكًا اجتماعيًّا أيضًا؛ ومن هنا فإنّ التأكيد الإسلاميّ لم يقتصر على مجرّد إصلاح الأفراد فقط، بل كان إصلاح المجتمع هو المطلوب والمنشود على الدوام، وكان من الواجب العمل على تحقيق حياة جديدة على مقاس اجتماعيّ أكبر؛ ومن هنا فقد تمّ رفض حياة الرهبانيّة في الإسلام، وانتشر الإسلام في جميع أبعاد الحياة ومرافقها؛ ليشمل تأثيره حتى الأبعاد التجاريّة والاقتصاديّة أيضًا[30]. إنّ هذه الأمّة الجديدة التي كانت تحتوي على نمط أخلاقيّ جديد منبثق عن الارتباط مع الله، قد عملت على إيجاد صنف واحد لم يكن فيه النظم الأخلاقيّ/ المعنويّ أمرًا فرديًّا، بل وكان ناظرًا إلى المسؤوليّة وإلى البيئة الاجتماعيّة أيضًا[31].
والنقطة المهمّة هي أنّ المدينة في الغرب، كانت هي في حدّ ذاتها مصدرًا للقيَم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، في حين أنّه في المدينة الإسلاميّة لم تكن المدينة في حدّ ذاتها هي المصدر للقيَم المدنيّة، وإنّما كانت القيَم الإنسانيّة والإلهيّة هي التي تعدّ مصدرًا للقيَم المدنيّة الأخرى. وفي الأساس فإنّ المدينة الإسلاميّة قد بدأت من حيث انتهت المدينة الغربيّة. في نموذج المدينة الغربيّة، كانت المدن الأخرى تقتفي أثر المدينة الكبرى والأصليّة (المدينة الأمّ)؛ في حين أنّ المدينة الإسلاميّة منذ أيامها الأولى كانت تعدّ نموذجًا وقدوة لمختلف المدن الأخرى من جهات متعدّدة. ولم يقتصر الأمر على المدينة المنوّرة فقط، بل كانت الكوفة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة والأستانة جميعها من المدن المثاليّة، حيث كانت المدن الأخرى تقتدي بها وتسير على إثرها. ومن ناحية أخرى كان تطوّر المدينة الأوروبيّة في العصر الجديد، يُعدّ دليلًا على التقدّم الإنسانيّ، في حين أنّ هذا النوع من التقدّم الدنيويّ في النموذج الإسلاميّ قد يُعدّ نهاية لعمر دولة ما وسقوط العمران والازدهار[32]. ومن ناحية أخرى فقد كانت المدينة في التاريخ الأوروبيّ مرتبطة بالصناعة والإصلاح الدينيّ والإصلاح السياسيّ؛ بيد أنّ نقطة انطلاقة تاريخ الإسلام عبارة عن عقائد كانت منبثقة عن الرسالة السماويّة للنبيّ الأكرم، وإنّ ظواهر الحياة والأمور الدنيويّة بدورها تنبثق عنها أيضًا[33]. وكذلك فإنّ المدينة في تاريخ الغرب كانت على الدوام مقرونة بنوع من الانضباط[34]، وكان نظمها منبثقًا عن توافق وعقد اجتماعيّ وقانونيّ، في حين أنّ نظام المدينة في تاريخ الإسلام، كان نظامًا منبثقًا عن التربية الروحيّة والتزكية الفرديّة للأشخاص.
ومن ناحية أخرى في مرحلة تأسيس الحضارة الإسلاميّة وفي مدّة قصيرة تمّ تداول القرآن الكريم بين الناس بوصفه كتابًا سماويًّا ناظرًا إلى الحياة الدنيويّة، وكان بمقدور الناس من خلال الرجوع إليه أن يقوموا على الدوام بحركة ذهاب وإياب بين النصّ المقدّس وبين الحياة، وأن يسعوا على الدوام إلى تطبيق الحياة مع النصّ؛ ومن هنا فإنّ أهمّ نقطة في مرحلة التأسيس (مرحلة الثلاثة وعشرون سنة من عمر الرسالة) تتجلّى في دخول التعاليم السماويّة إلى ثقافة العرب الجاهليّين والتغييرات التي أحدثها الوحي في ثقافة الناس.
إنّ نزول الوحي في قالبي الكتاب والسنّة، وتأسيس قواعد الحضارة الإسلاميّة على أساس الوحي الإسلاميّ بوصفهما خصّيصتين أصليّتين في هذه المرحلة، وكذلك فإنّ كتابة القرآن وانتقاله إلى أيدي الناس بوصفه نصًّا واضحًا في حلّ النزاعات الثقافيّة والعقائد الاجتماعيّة، ووجود وتربية حفّاظ القرآن والحديث، وانتقاله إلى مسرح الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، قد عمل منذ البداية ومن الناحية العمليّة على تظهير الأداء الاجتماعيّ والثقافيّ والحضاريّ للإسلام في السنوات الأولى من نزول الوحي إلى حدّ كبير وملحوظ.
إنّ الدور المحوريّ للقرآن الكريم بوصفه نصًّا كان منتشرًا في جهات متنوّعة ونقاط متعدّدة من العالم الإسلاميّ، ليس بين المفسّرين فحسب، بل وبين الفقهاء والعرفاء والفلاسفة والمتكلّمين أيضًا، بل وليس بين العلماء فقط، بل وبين رجال السياسة والمصلحين الاجتماعيّين والفنّانين والأدباء والشعراء والمهندسين، وليس بين النُخَب فحسب، بل وكان كذلك حاضرًا ومؤثّرًا بين عموم الناس على الدوام بوصفه مصدرًا معرفيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، فقد تحوّلت آياته ومسائله إلى أصول وقواعد حياة متنوّعة في السياسة وفي العلم وفي الثقافة[35]. إنّ القرآن ليس مجرّد كتاب علميّ بحت، بل هو تلبية واستجابة لاحتياجات العصر[36].
إنّ هذا الحضور العامّ والواسع للقرآن الكريم في مختلف أبعاد الحياة هو الذي أدّى ليصبح القرآن الكريم -بالإضافة إلى بُعده المعرفيّ بالنسبة إلى مختلف الطبقات الاجتماعيّة- عنصرًا وعاملًا أساسيًّا لوحدة الهويّة المشتركة بين المسلمين في الحضارة الإسلاميّة. وقد ذكر مارشال هاجسن هذا السؤال في كتابه إعجاز الإسلام، قائلًا: كيف تحقّق التماسك الإسلاميّ بين المسلمين المتفرّقين؟ فعلى الرغم من تعدّد المجتمع وتنوّعه من الناحية الثقافيّة، وعلى الرغم من أنّه لم تكن هناك مركزيّة ثقافيّة وحضاريّة لأيّ مدينة من المدن الإسلاميّة، إلّا أنّ الحضارة الإسلاميّة لم تتفكّك، ولم تتعرّض الوحدة الإسلاميّة في دار الإسلام إلى الانهيار[37]. وفي الأساس كان هناك على المستوى الدينيّة في الحضارة الإسلاميّة الكثير من عناصر الوحدة والاتحاد بين المسلمين، فجميع المسلمين يؤمنون بـ«القرآن الكريم» بوصفه نصًّا ومصدرًا سماويًّا مشتركًا بينهم، وهذا الأمر يؤدّي إلى حصولهم على لغة مشتركة، وتفرض بطبيعة الحال تحدّيات مشتركة أيضًا؛ ولكن حيث إنّ الكثير من المسلمين بالإضافة إلى القرآن يقرأون الكتب اللاحقة الأخرى، فقد تحوّلت السنّة بدورها إلى عنصر مشترك بين المسلمين أيضًا[38]. في النظم الاجتماعيّ الحديث للمسلمين، كان القرآن الكريم بوصفه مصدرًا للحياة يعمل على وضع القوانين والقواعد في الأمور العسكريّة والأسريّة والسياسيّة والاجتماعيّة. وعمد إلى حلّ بعض الأزمات الاجتماعيّة.
أمّا الذي حدث في المسيحيّة فهو الحفاظ على التقاليد الثقافيّة من قبل رجال الدين المسيحيّين. وفي الحدّ الأدنى كانت الكنيسة والمسيحيّين قد تجاوزوا المسيحيّة في مرحلة العصور الوسطى. إنّ الدين والمسيحيّة في الغرب في العصور الوسطى، لم يحافظ على سنن وتقاليد وأعراف المجتمع الروميّ فحسب، بل وقد أجرى وعمل على تطبيق ذات تلكم التقاليد والأعراف في تشكيلاته ومؤسّساته الداخليّة أيضًا، وأقام نظامه الدينيّ وصاغة على تلك الشاكلة أيضًا[39]. ومن الناحية القضائيّة والحقوقيّة تأثّر القانون الكنسيّ بدوره بالحقوق الإقطاعيّة أيضًا، ويعزى سبب ذلك إلى أنّ قائدًا باسم غراتيانوس كان متأثّرًا بدراساته حول الحقول الروميّة، قد عمد في عام 1142م إلى استنباط وجمع الأصول والقوانين من كلمات أرباب الكنيسة وقرارات المجامع الكنسيّة وضمّها في كتاب. وإنّ هذا الكتاب -الذي اكتسب عنوان فهرسة القوانين المناقضة والمعارضة للكنيسة- قد حظي بشهرة واسعة، وكان الباباوات يضيفون إليه بعض المسائل من حين إلى آخر. وحيث إن معرفة القوانين الكنسية كانت تمثّل طريقًا موثوقًا للوصول إلى الاتجاهات الإداريّة، فقد اكتسبت دراسة هذه القوانين مزيدًا من الانتشار[40].
وخلافًا لما كان عليه حال المسيحيّة في روما الغربيّة، فإنّ الذي حدث في الإسلام وفي الحضارة الإسلاميّة لم يكن أبدًا هذا النوع من الاستسلام والرضوخ أمام الأوضاع الثقافيّة المعاصرة. وبطبيعة الحال فإنّ الإسلام كان يمتزج بالثقافات المحلّيّة في المناطق التي يصل إليها، ولكن هذا لا يعني تحوّل الإسلام إلى حالة ثقافيّة، فقد تمكّن الإسلام من تغيير العديد من الثقافات وإعطائها صبغة إسلاميّة. أمّا هذه الثقافات المحلّيّة والمناطقيّة، فلم يكن لها وجه مشترك. ومع دخول الإسلام فقد ارتبطت فيما بينها. وإنّ الذي كان يربط بين هذه الثقافات، عبارة عن ثقافة سامية ومتعالية[41]، وليست ثقافة عامّة[42]. إنّ ذات هذا المستوى من الثقافة (المستوى الأعلى) كان شاملًا للعناصر الدينيّة أيضًا؛ ومن هنا فإنّ تعيين حدود وثغور الحضارة الإسلاميّة لم يتمّ رسمها على أساس الجغرافيا والثقافة الشرقيّة على سبيل المثال، وإنّما على أساس خطوط انتشار السنن الثقافيّة العُليا[43]. وإنّ الذي جمع بين هذه السنن برمّتها في الحضارة الإسلاميّة إنّما هو الإسلام. لقد دخلت الدوافع والحوافز الإسلاميّة في الأمور الثقافيّة، ومزجتها بالروح الإسلاميّة، وبذلك فقد ارتبطت السنن الثقافيّة والدينيّة فيما بينها[44]. وفي الحد الأدنى فإنّ التطلعات الثقافيّة في مرحلة ما قبل الحداثة كانت ناظرة إلى الدين ومنبثقة عن التعاليم الدينيّة.
وبذلك فإنّ المسيحيّة التي انقسمت إلى شقّين غربيّ وشرقيّ، لم تتمكّن من الناحية العمليّة من إيجاد نوع من الاتحاد والارتباط بين هذين الشقّين، بيد أنّ المسلمين على الرغم من الرقعة الشاسعة التي انتشر فيها الإسلام لم يخسروا ارتباطهم الوثيق، واستمرّت الحوارات الثقافيّة فيما بينهم على الدوام، وقد حافظ الدين على تأثيره حتى في مواطن ضعفه أيضًا. إنّ هذه الخصوصيّة قد أدّت إلى بلورة سنن أدبيّة واجتماعيّة لها قابليّة الانطباق على جميع أبعاد الحياة. لقد صار الإسلام سببًا في ارتباط الناس على مختلف ثقافاتهم المتنوّعة فيما بينهم، وعلى الرغم من التنوّع الكبير والواسع بين المسلمين، فقد تمكّنوا بفضل الإسلام من إيجاد حالة من الثبات والاستقرار والتلاحم المصيريّ في تاريخهم[45].
ب ـ مراحل الازدهار و«مسألة الدين والارتباط الحضاريّ»
إذا أردنا أن نأخذ ازدهار الحضارة الغربيّة منذ المرحلة الحديثة في الغرب ومن القرن السابع عشر أو القرن الثامن عشر للميلاد، وأن نأخذ مرحلة ازدهار الحضارة الإسلاميّة من القرن التاسع للميلاد بنظر الاعتبار، سوف نجد شرخًا كبيرًا بين مرحلة الازدهار في الحضارة الإسلاميّة ومرحلة ازدهار الحضارة الغربيّة في حين أنّ نقطة بداية الحضارة الغربيّة قد سبقت نقاط انطلاق الحضارة الإسلاميّة بألف عام. بيد أنّ هذا الشرخ بين مرحلة التأسيس في القرن الأوّل ومرحلة الازدهار في القرن الثالث والرابع للميلاد، كان قصيرًا جدًّا، وخلال هذه الفاصلة كان الإسلام بدوره يعمل على إعداد مقدّمات تبلور الحضارة الإسلاميّة، حيث تشكّلَ جانب منها في مرحلة الفتواحات الإسلاميّة والتعرّف على الحضارات الأخرى[46].
في تشكيل الحضارة الغربيّة -سواء في مرحلة التأسيس أو في مرحلة الازدهار- لا يمكن غضّ الطرف عن دور المسيحيّة في بلورة الحضارة الغربيّة وتشكّلها، سواء أكان في العصور الوسطى المتأخّرة أم في المرحلة الحديثة؛ بيد أنّ هذا لا يعني مركزيّة المسيحيّة في الحضارة الغربيّة. وفي مرحلة ما قبل اندلاع الحروب الصليبيّة، توصّلت المسيحيّة بعد تجربة طويلة تمتدّ لما يقرب من ألف عام إلى نتيجة مفادها أنّها إذا أرادت أن تؤدّي دورها بوصفها مؤسّسة فاعلة ومؤثّرة، فليس أمامها من طريق سوى العمل على بناء نظام اجتماعيّ وسياسيّ. وفي الأساس فإنّ «الضرورة الدينيّة تقتضي التأسيس لمنظومة وأجهزة دينيّة مستقلّة تعمل بوصفها مؤسّسة موازية للدولة، وجنبًا إلى جنبها، وحيث إنّ المدّة الزمنيّة لهذه المؤسّسة الحديث -طبقًا للفلسفة القائمة- تعمل على التعريف بمصالح ومنافع أسمى من المصالح الدنيويّة، يجب أن تكون هذه المؤسّسة -بطبيعة الحال- فوق الدولة»[47]. وفي خضم ذلك أدّى غياب رسم الحدود الواضحة للتلفيق بين سلطة البابا وسلطة الملك لإدارة الحكومة الدينيّة من جهة، وسعي كلّ من البابا والملك إلى احتكار السلطة لنفسه من جهة أخرى، إلى تجاوز كلّ واحد منهما حدود سلطة الآخر[48]. وبذلك فقد أصبح الأساقفة أكثر سيطرة على مصادر النظم ومركزيّة السلطة في المدن من حكام روما، وحلّ مجمع الأساقفة محلّ مجمع المحافظة والمدينة في اتخاذ القرارات. إنّ المسيحيّة من خلال حلولها محل الدولة الروميّة، بدأت بفتح الولايات، وجعلت العاصمة مسيحيّة، وسعت إلى إقامة الانضباط من الحدود إلى الحدود[49].
إنّ النقطة المهمّة في هذه المرحلة هي غاية المسيحيّين المتمثّلة في إقامة عالم مسيحيّ موحّد. وفي هذه القرون قامت المسيحيّة بجهود كبيرة من أجل الوصول إلى هذا الهدف المنشود لها منذ القدم، وحملت المجتمع البشريّ على التماهي معها في هذه المسألة. وقد تمكّنت الحضارة الغربيّة في ظلّ الكنيسة من العمل على تنظيم تنسيقاتها ومؤسّساتها الاقتصاديّة. وعندما انتعشت الحياة الاقتصاديّة وانتقلت الحياة لتشهد مزيدًا من التعقيد، أخذ هذا التنسيق والاتحاد يتّجه إلى الضعف والضمور[50]. وعلى الرغم من ثقة الناس وإيمانهم بالمسيحيّة[51]، فقد عملت الإصلاحات الدينيّة ثمّ التحوّلات العلميّة والفلسفيّة على زعزعة المكانة السابقة للديانة المسيحيّة[52]، وأدّت الحروب الدينيّة والمذهبيّة وظهور الفرق الدينيّة المتنوّعة إلى إيجاد نوع من انعدام الثقة بالمسائل القطعيّة الدينيّة، وظهور نوع من الشكّ بين عموم الناس[53].
وفي هذه المرحلة تمّ تهميش الزهد الكنسيّ، واتّسعت رقعت الاهتمام بالدنيا وعلمنة الحياة. وأدّى الإعراض العام عن الأفكار الكنسية المتعلّقة بالزهد، والنزوع إلى التحرّر من القيود الاجتماعيّة والحصول على المنافع الشخصيّة، وإيجاد التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلى توجّه عامّة الناس نحو اكتناز الثروة وتنظيم الحياة الدنيويّة والتشكيك الجاد في عقائد الكنيسة[54].
هذا الاتجاه الدنيوي ذاته كان موجودًا في العالم الإسلاميّ، ولا سيّما في العصر الأمويّ وأيّام حكم معاوية بن أبي سفيان أيضًا. يقول الأستاذ حسين نصر بشأن بداية العلمانيّة في العالم الإسلاميّ في هذه المرحلة:
«على الرغم من انتصار الإسلام على أفكار الشرك، بيد أنّ نتيجة حرب صفّين وما تلاها من قيام الخلافة الأمويّة على يد معاوية بن أبي سفيان، قد أشارت إلى بداية مرحلة لدخول العلمانيّة الطفيليّة إلى الحياة السياسيّة في الإسلام؛ بمعنى أنّ السياسة أو جانب منها في الحدّ الأدنى قد ابتعد عن أصول الوحي وتعاليم السماء، وانجرفت نحو أودية السياسة المستندة إلى السلطة التي يلعب فيها طمع الإنسان دورًا حاسمًا»[55].
وعلى الرغم من ذلك كلّه إلّا أنّ مقولة الدين لم تحذف من تاريخ الإسلام بعد معاوية أبدًا؛ لا في عصر بني العبّاس ولا في مرحلة ما بعد سقوط الخلافة العبّاسية وفترة حكم التتر والاجتياح المغولي للأقطار الإسلاميّة. إنّ الاتجاه العلمانيّ بمعناه الغربيّ الخاصّ، لم يكن أمرًا شائعًا لا في عالم التشيّع ولا بين أهل السنّة أيضًا. فقد كان الدين والدراسات الدينيّة وحضور الدين في مشاهد الحياة وفي مجالات السياسة مؤسّسًا على نحو جادٍّ.
والنقطة المهمّة في عصر النهضة وما بعد المرحلة الحديثة هي العودة إلى ماضي التاريخ والتأكيد على اليونان وروما القديمة. إنّ هذه العودة قد حدثت في التاريخ الإسلاميّ المتأخّر وفي البحث عن أسباب تخلّف المسلمين، وقد سعت تيّارات كثيرة إلى العودة إلى السيرة النبويّة ومجتمع مدينة النبيّ الأكرم ’ تحت مختلف العناوين والمسمّيات، ولكن كانت هناك اختلافات كبيرة بين العودة إلى العهود القديمة في الغرب وبين العودة إلى مدينة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسلام. فقد كانت العودة إلى المرحلة القديمة في الغرب عبارة عن عودة إلى التراث الدنيويّ وإلى تراث مجرّد من الدين؛ لإثبات المشروعيّة الراهنة والجذور التاريخيّة للغرب، في حين أنّ الكلام في تاريخ الإسلام يدور حول العودة إلى العصر النبويّ والتراث الدينيّ الأصيل؛ وقد يكون هناك -بطبيعة الحال- أوجه للشبه بين إحياء الحضارة الإسلاميّة وإحياء حضارة روما الغربيّة، بيد أنّ المراد من إحياء الحضارة الإسلاميّة في بعض الأحيان ليس هو مجرّد العمل على إحياء المجد والعظمة الدنيويّة، بل التأكيد على عظمة الدين في مشهد الحياة وجدوائيّته في تلبية جميع ما يحتاج إليه الإنسان.
والنقطة المهمّة الأخرى في تحليل المسار الحضاريّ للغرب، هو البرجوازيّة في الحضارة الحديثة، ففي هذه المرحلة كان الأهمّ من ظهور فلسفة التنوير والآفاق الفكريّة الجديدة في تاريخ التفكير الغربيّ، ظهور الثورة الاقتصاديّة التي تمكّنت من تحقيق عالم جديد ومختلف عما كان في مرحلة العصور الوسطى وسيادة النظام الإقطاعيّ. وفي الأساس فإنّ النظام الإقطاعيّ في هذه المرحلة قد تهاوى بفعل ظهور التيّار البرجوازيّ (لقد عمل النظام الإقطاعيّ على توظيف جميع إمكاناته وطاقاته من أجل إقامة النظام البرجوازيّ)، فظهر نوع من الطبقيّة الاجتماعيّة الجديدة التي لم يكن لها موقع لرجال الكنيسة ولا لطبقة النبلاء القديمة فيها. وفي هذه المرحلة تمّ التأسيس للنظام المصرفيّ الحديث؛ حيث تمّ افتتاح البنوك وأسواق البورصة، وأخذ يتمّ تداول السفتجات وشراء وبيع الصكوك البنكيّة[56]. فشاعت روح النفعيّة وبلغت ذروتها، وتراكمت الثروات وتمّ استخراج المعادن الثمينة. وقد عمل فرانكلين -الذي يمكن الحديث عنه بوصفه مثالًا للتفكير البرجوازي- على قلب نظريّة أرسطو التي يقول فيها «إنّ النقود لا تلد النقود»، وقال: «عليكم أن تتذكّروا بأن للنقود طبيعة وفطرة مسالمة... إنّ بمقدور النقود أن تلد نقودًا، ومن خلال صغار النقود الذين ولدتهم، يمكن خلق صغار آخرين بكل يُسر وسهولة، وقس على ذلك حتى النهاية... إنّ الذي يعمل على إخفاء عملة نقديّة صغيرة بحجم الدانق في طميرة، إنّما يقضي بذلك على جميع ما كان يمكن لتلك العملة النقديّة أن تنتجه والتي يمكن أن تبلغ حتى إلى مئات الدنانير»[57].
من الجدير بالذكر أنّ مسار الثورات الدينيّة والعلميّة والسياسيّة والصناعيّة في الغرب، وكذلك مسار العلمانيّة في هذه الحضارة والأبعاد الأرضيّة التي اكتسبها الإنسان الحديث، إنّما كانت محدودة ومحصورة بحضارة الغرب، ولم يكن للحضارة الإسلاميّة في ظهورها وازدهارها مثل هذا المسار في العلمانية وفي الصيرورة السياسيّة والصناعية. ليس هناك من أثر للنظام الإقطاعي في الحضارة الإسلاميّة (على ما كان شائعًا في العصور الوسطى)، كما لم يكن فيها من أثر للبرجوازيّة أيضًا. إنّ الإقطاعيّة والبرجوازيّة من خصائص الحضارة الغربيّة، كما كان لها سهم كبير للغاية في تشكيل وقيام الحضارة الغربيّة. وبعبارة أخرى: لم يكن هناك في المجتمعات الإسلاميّة طبقة رأسماليّة تقوم على أساس النقود ومستقلّة عن أصحاب السلطة ورجال الدين الذين أمسكوا بمقاليد التغييرات والتحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتعمل في إطار إحداث التغييرات الثقافيّة بشكل مستقلّ ومنفصل عن معقل السلطة والدين. إنّ الفلسفة الإنسانيّة بمعنى أصالة الإنسان بوصفه ظاهرة طبيعيّة يتمّ إنتاج كلّ شيء فيها على نحو التأصيل الذاتيّ ومحوريّة الذات (على أساس الاحتياجات الطبيعيّة والعقل التجريبيّ للإنسان دون الالتفات إلى السماء)، لم يكتب لها الظهور في تاريخ الإسلام[58].
إنّ النقطة الأخرى التي تركت تأثيرها على أفول المسيحيّة والحضارة المسيحيّة، تكمن في النزاعات العلميّة التي احتدمت بين غاليلو ورجال الكنيسة، الأمر الذي أدّى إلى ظهور دنيويّة متزايدة في الحياة الفكريّة للأوربيّين والإعراض عن التوجّهات الدينيّة على نطاق واسع في حياة العالم الغربيّ. إنّ انتصار الآراء العلميّة جعل من الأضرار والإصابات التي لحقت بالعقائد الدينيّة أمرًا غير قابل للتضميد والعلاج تقريبًا، وانتهت بدورها إلى التنصّل عن الدين، والإقبال على الدنيا بشكل متزايد في الحياة الفكريّة لدى الأوروبيّين؛ وهذا كان تمامًا على خلاف ذلك الشيء الذي تصبو إليه الكنيسة وعقدت عليه آمالها من أجل الحيلولة دون وقوعه في الاعتراض على كوبرنيك. إنّ الكثير من المفكّرين في القرن السابع عشر للميلاد على الرغم من تعلّقهم بالعلم كانوا يسعون إلى الإبقاء على إيمانهم بالمعتقدات الدينيّة أيضًا، وكانوا يعتقدون أنّ نتائج هذا الشرخ سوف تؤدّي إلى مصائب كثيرة. وهناك من كان يذهب إلى الاعتقاد بأنّ هذا الشرخ لا ضرورة له البتّة؛ بيد أنّ البعض الآخر كان يشعر بالحاجة الماسّة إلى التأليف بين الله والإنسان والكائنات التابعة للقوانين الميكانيكيّة في الفلسفة الجديدة[59].
إنّ الذي حدث في الحضارة الإسلاميّة لم يكن تضادًّا أو تعارضًا بين العلم والدين. لا في الفترة التي شهدت ذروة النشاط في ترجمة الكتب اليونانيّة والإيرانيّة وغيرهما التي ظهرت في البقاع الإسلاميّة؛ حيث أدّت هذه الترجمات ومواجهة العلماء المسلمين مع الأفكار المتنوّعة في الحضارات الأخرى في حدّ ذاتها إلى ظهور بعض الأسئلة، والتي برزت في إثرها طبقات الإسلام الخافية والظاهرة في الحقول العلميّة والفلسفيّة والطبيعيّة وفي الفيزياء والكيمياء والنجوم على نحو أكبر، فلم يقتصر عمل العلماء والمفكّرين على الترجمة فقط، وإنّما تصدّوا للتأليف والنقد أيضًا، وقد أدّى هذا الأمر إلى ترسيخ دعائم وأسس الحضارة الإسلاميّة بشكل أكبر. إنّ التجربة العلميّة لم تقتصر على المراحل الحضاريّة في القرن الثالث والرابع للهجرة فقط، بل وقد تكرّرت في عصر البويهيّين أيضًا، ولم يؤدّ دخول العلم والمعرفة وازدهارهما إلى حدوث مشكلة مع الدين، بل وأدّى ذلك في الأساس إلى ازدهار ورسوخ الإسلام في هذه المرحلة أيضًا. وإنّ النقطة المهمّة تكمن في مراحل الاجتياح المغوليّ للمجتمع الإيرانيّ؛ حيث إنّه على الرغم من الخراب الكبير الذي شهده العالم الإسلاميّ، إلّا أنّه منذ عصر غازان خان ومن تلاه من الحكّام وما قاموا به من الإصلاحات، قد عملت على تمهيد الأرضيّة لحدوث التحوّلات العلميّة في ربع رشيدي[60]، ومرصد مراغة، والمدرسة السيّارة، والمرافق الأخرى التي أسّسوها في مختلف المواقع؛ الأمر الذي أدّى إلى ازدهار العلوم الإسلاميّة من جهة، وترسيخ الإسلام في الثقافة العامّة من جهة أخرى. إن الذي حدث في القرنين الأخيرين، لم يكن عبارة عن ازدهار العلم، ولا دخول العلم إلى العالم الإسلاميّ، بل كان عبارة عن دخول الاستعمار الجديد إلى عالم الإسلام حاملًا معه علومًا تابعة ومنتقاة، تعمل على تسريع وتشديد العزف على تجريد الإنسان من هويّته وتقويض مبانيه الإسلاميّة والشرقيّة. ومن ناحية أخرى كان هناك الكثير من الأشخاص المستغربين في العالم الإسلاميّ الذين أخذوا يعملون -بدلًا من استيراد العلم الجديد- على تمهيد الأرضيّة لتسلّل الثقافة العلمانيّة، ويا ليتها كانت ثقافة تمّ تقليدها من الغرب بشكل رصين ومتقن، بل كانت للأسف الشديد ثقافة كاريكاتيريّة منتقاة من الغرب إلى العالم الإسلاميّ خصيصًا، الأمر الذي حمل علماء الإسلام على الوقوف أمامها والتصدّي لها، وقد تمّ اتهامهم لذلك من قبل بعض المنبهرين بالغرب والفاقدين لهويّتهم بمناهضة العلم والتقدّم.
إثر الثورة الاقتصاديّة في الغرب، تمّ التأسيس للثورات الفكريّة والفلسفيّة الكبرى، وبفعل الثورة الفكريّة، ازدهرت ثقافة النُخب. وفي عام 1750 م تمّ طبع ما يقرب من 300 كتاب، حتى وصل هذا العدد في عقد الثمانينات من القرن الثامن عشر للميلاد إلى 1600 كتاب لكلّ عام. «لقد كان الاقتصاد في الغالب وليد الحوارات التي تحدث في محافل أصحاب القصف والمكاشرة، وقلّما كان متمخضًا عن الدراسات العلميّة، وهو في أكثر الحالات متبنّى صالات الظرفاء وقلّما ترعرع في المدارس. لقد كان الاقتصاد على علاقات وثيقة وحميمة مع جميع الثورات الفكريّة المعاصرة»[61]. وفي المقابل لم تشهد الثقافة العامّة تقدّمًا ملحوظًا، وكانت آثار من عدم الثقافة أو الثقافة الرديئة ملحوظة فيها. ويمكن مشاهدة أمارات ذلك في المهرجانات السنويّة التي كانت تقام في تلك المرحلة بوضوح[62]. إنّ التمرّد العقليّ والمطالبة بالحرّيّات الفرديّة (تمرّد الأفراد)، كان يُنادي بعدم الحاجة إلى الموازين الأخلاقيّة والقوانين والقواعد القيَميّة. ولم يقتصر هذا التمرّد على الفلسفة فقط، بل كان يسجّل حضوره حتّى في السياسة والاقتصاد والثقافة على نحو واضح وصارخ أيضًا. وفي هذا المجال -بمقتضى التمرّد الذي كان يصدر عن الإنسان- كان يُعدّ الكلام والحديث عن القيَم والموانع الإنسانيّة والأخلاقية أمرًا عبثيًّا ولغوًا. وهكذا فقد حلّ النظام المتحرّر «القيَم/ الرغبات» محلّ نظام «القيم/ الكيفيّة»[63]. إنّ التكالب الجنونيّ المسعور من قبل الناس على اكتناز الثروات، أدّى إلى إعراض الناس عن الأخلاق والإيمان الدينيّ بالمرّة. وقال لويس في هذا الشأن:
«من ناحية أيقظت القدرة على اكتساب المنافع والمزيد من الأرباح في المعاملات التجاريّة، وتحسين ظروف الحياة بواسطتها، الرغبة الجامحة في الحصول على المنافع والمصالح الشخصيّة بين أفراد المجتمع، ومن ناحية أخرى أيقظت النزعة إلى الاكتشافات الجغرافيّة؛ الأمر الذي أثار لدى جماعة من الناس الاندفاع نحو خوض المجازفات والميل إلى التحرّر من المحيط الاجتماعيّ المغلق، والرغبة إلى الاستقلال الفرديّ. وزال أصل تكريم الخدمة -الذي كان يُعدّ غاية مطمح من قبل علماء الأخلاق في العصور الوسطى- بالتدريج، وحلّ محلّه حبّ المال واكتناز الثروة بوصفه غاية للنشاطات والجهود الفرديّة والاجتماعيّة، وبالتالي فقد حلّ عالم مليء بالتشنّجات والمغامرات محلّ العالم الهادئ والمتعادل الذي كان قائمًا في العصور الوسطى. ومثل جميع المراحل التي يتحرّر فيها أفراد المجتمع عن قيود السنن والتقاليد القديمة، كان الكثير من الناس في هذه المرحلة على الرغم من اللوم المتواصل من قبل علماء الأخلاق، يواصلون السير والتقدّم المغرق والمفرط في حبّ المال والكماليّات والجماليّات»[64].
في مثل هذا الوضع، جاءت الثورة التقنيّة والصناعيّة لمساعدة الثورة الاجتماعيّة البرجوازيّة أكثر من ذي قبل. إنّ التقدّم الصناعيّ والثورة الصناعيّة في أوروبا أدّت بدورها إلى المزيد من التحوّلات الاقتصاديّة. وإنّ الرأسماليّة الناجمة عن النظام الصناعيّ عملت بنفسها على تحويل الاحتكارات الجزئيّة إلى احتكارات شاملة لا يمكن التنافس معها أبدًا، وهذا الحجم من التقدّم الاقتصاديّ كان يؤدّي في بعض الأحيان إلى تشديد المواجهات ومفاقمة الصراعات والنزاعات الاجتماعيّة[65]. ومنذ ذلك الحين حلّت الماكنة محل اليد العاملة، ومن خلال تنوّع وتكثر المكائن في حقل الأسواق التجاريّة في إنجلترا، تمّ الاعتراف بالثورة الفنّيّة والتقنيّة بوصفها مفتاحًا للتنمية والازدهار.
ومن الجدير ذكره أنّه بالإضافة إلى الثورة الدينيّة، من قبيل: الثورة الإصلاحيّة لمارتن لوثر وكالون وغيرهما في الغرب، والثورة الصناعيّة في الغرب بما تشتمل عليه من المراحل الثلاثة، وكذلك مختلف الثورات السياسيّة في الأصقاع الغربيّة، من قبيل: الثورة الفرنسيّة والثورة الأميركيّة، فقد كان للجهود الاستعماريّة الغربيّة -سواء في مرحلة الاكتشافات (أو لنسمّها الاحتلالات والاجتياحات الأولى)، أو في مرحلة ما بعد نابليون بونابارت- تأثير كبير على مسار التنمية وسيادة الحضارة الغربيّة. ومع ما ظهر في المرحلة الجديدة على شكل الثورات، تراجعت أسهم الدين في التحوّلات الحديثة من الناحية العمليّة، وفقد دوره المحوريّ الذي كان يتمتّع به في السابق[66].
في هذه المرحلة من الحضارة الغربيّة، جنحت العلمانيّة نحو الراديكاليّة والتطرّف، ووصلت محوريّة الدنيا إلى ذروتها، وأصبحت النزعة المادّيّة والتنصّل عن المعنويّات أقوى ممّا كانت عليه في المرحلة القديمة. وفي هذا الاتجاه تغيّر حتى مفهوم الإنسان أيضًا، وحصل فهم جديد عن الإنسان يتطابق بالكامل مع الفضاء الاجتماعيّ الجديد. لقد كان الإنسان في هذا الفهم يُعرف بوصفه كائنًا مادّيًّا ينتمي إلى هذا العالم، دون أن تتضح علاقته بالنسبة إلى العالم الآخر، أو يتمّ رسم أو تعريف الارتباط القائم بينه في هذا العالم وذلك العالم. وقد تمّ إبطال الكلام القائل بأنّ الرغبات الخاصّة بالجسد تعدّ إثمًا، وظهر اعتقاد جديد يقول إنّ الدنيا وفلسفة الحياة يجب أن تشكّل حاضنة لتلبية الغرائز الجسديّة للإنسان، ولم يعد الاهتمام بالحياة يعتبر بوصفه شرًّا، بل أخذ يُنظر إليه بوصفه خيرًا محضًا أيضًا[67].
على الرغم من وجود الكثير من نقاط الضعف في مسار تاريخ الحضارة الإسلاميّة، ولكن لم يتمّ الاعتراف بالعلمانيّة في تفكيره، كما لم يتمّ الإقرار رسميًّا بالتجربة العلمانيّة وفصل الدين عن متن الحياة في تاريخها الاجتماعيّ. وبطبيعة الحال كان هناك على الدوام نزاع بين مختلف المذاهب الإسلاميّة، وكان هناك شرخ متواصل بين الحكام والعلماء، بيد أنّ الحكام والسلاطين، بل وحتّى سلاطين المغول (من أمثال غازان خان وأولجايتو) قد اعتنقوا الإسلام وإن كان ذلك بحسب الظاهر ورعاية لمصلحة حكمهم وسيادتهم. لم يكن هناك في تاريخ الإسلام (تاريخ ما قبل تسلّل الغرب إلى العالم الإسلاميّ) كلام عن العلمانيّة ومحوريّة الإنسان، كما لم يكن هناك حديث عن العلمانيّة وفصل الدين عن مسرح الحياة، ولا بحث في مورد اللادينيّة وفصل الدين عن السياسة. ولو شوهد في موضع مؤشّر على النزعة الدنيويّة والعلمانيّة في تاريخ الإسلام، فإنّما هو على مستوى منخفض وناتج عن عدم الالتفات إلى الشريعة في البرنامج السياسيّ والاجتماعيّ. وفي هذا البين لم يتمّ القبول بالعلمانيّة في حدّها الأعلى أبدًا (العلمانيّة الإلحاديّة) في العالم الإسلاميّ، ولم يكن مرحلة لتبلور وتشكيل الحضارة؛ وهذا لا يعني عدم حدوث إلحاد في تاريخ الإسلام، ولم يكن هناك ردّة في التاريخ الإسلاميّ، بل المراد منه هو أنّ الإلحاد (العلمانيّة في حدّها الأعلى) لم يكن له دور في تبلور الحضارة الإسلاميّة وانتقال ثقافة المسلمين من مرحلة إلى المرحلة اللاحقة. لقد ظهرت العلمانية في حدّها الأدنى، وحتّى في حدّها الأعلى في عالم الإسلام، بعد دخول الغرب الحديث في هذا العالم، حيث يمكن لنا مشاهدة نماذج ذلك في بعض كتابات الليبراليّين في نهاية القرن التاسع عشر للميلاد في مجلّة المقتطف، من أمثال: شبلي شميّل، وفرح أنطوان، ويعقوب صروف، وإسماعيل مظهر، وكذلك إسماعيل أدهم[68].
إنّ النقطة المهمّة التي يجب التأكيد عليها في تبلور الحضارة الإسلاميّة -وربما أمكن أخذها بنظر الاعتبار بوصفها نقطة اختلاف عن الحضارة العلمانيّة في الغرب- هي سهم النصّ المقدّس (القرآن والسنّة) في المسار الحضاريّ من جهة، ودور الشخصيّات الدينيّة المؤثّرة، من أمثال: النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار(عليهم السلام) وعلماء الدين وبعض حكام المسلمين في بعض الأحيان من جهة أخرى. ربما أمكن من خلال إطلالة على المراحل الأصليّة للحضارة الإسلاميّة في تاريخ الإسلام المنصرم، الإقرار بهذه النقطة وهي أنّ كلّ مرحلة من هذه المراحل قد شهدت ظهور شخصيّة دينيّة لعبت دورًا كبيرًا في صلب التحوّلات الاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة والسياسيّة، وتركت آثارًا مهمّة في تلك المرحلة.
ج ـ مراحل الأفول والسقوط الحضاريّ (مسألة الدين والشرخ الحضاريّ)
إنّ النقطة المهمّة التي يمكن ذكرها وبيانها في أفول الحضارة الإسلاميّة وتنزّل الحضارة الغربيّة، هي أنّ أفول الحضارة في الغرب كان ناجمًا عن أسباب وعوامل داخليّة، في حين أنّ تنزّل وركود الحضارة الإسلاميّة قد اقترن بتسلّل الأسباب والعوامل الخارجيّة إلى العالم الإسلاميّ. وبعبارة أخرى: إنّ الذي أوصل الحضارة الغربيّة -على حدّ قول بومر- إلى مرحلة الاضطراب وعدم الاستقرار[69]، وساقها -على حدّ تعبير جورج زيمل- إلى عصر الافتقار إلى الشكل[70]، أو سجّل -على حدّ تعبير بيتر برغر- مرحلة التيه والتشرّد[71]، وجعل الإنسان المعاصر مغتربًا عن ذاته[72]، لم يكن شيئًا آخر غير الحضارة الغربيّة نفسها. وقد ربطوا نقطة أفول الحضارة الرومانيّة القديمة بظهور المسيحيّة أو النماذج الأخلاقيّة لروما، وربطوا سقوط المسيحيّة وانحطاطها بظهور الحضارة الغربيّة الحديثة بعد عصر التنوير، كما عرّفوا وبيّنوا زوال وأفول الحضارة الحديثة بما بعد الحداثة ووصولها إلى عصر الاضطراب. وإذا ظهر في البين العامل والعنصر الخارجيّ، من قبيل: الحروب الصليبيّة، فإنّ هذا العامل الخارجيّ إنّما كان منبثقًا من إرادة الغرب نفسه؛ إذ كان هو البادئ بالحرب فيها على المسلمين. وكذلك وإن صحّ أنّ ظهور العوامل والأسباب غير الغربيّة في الغرب، من قبيل: التيّارات الإسلاميّة كان أمرًا جادًا، بيد أنّ ظهور هذا النوع من الحركات والتيّارات، لم يشكّل خطرًا على الحضارة الغربيّة في العالم الغربيّ أبدًا، وإذا كان هناك من تهديد، فقد تمثّل في التحدّي الذي واجه حضور الغرب في العالم الإسلاميّ. بيد أنّ الذي تمّ الحديث عنه في بيان مرحلة الحضارة الإسلاميّة هو اقتران دخول الغرب إلى العالم الإسلاميّ بانحطاط الحضارة الإسلاميّة أو تخلّف العالم الإسلاميّ[73]. وبطبيعة الحال لا بدّ من دراسة ما إذا كان دخول الغرب إلى العالم الإسلاميّ، هو الذي أدّى إلى تخلّف هذا العالم الإسلاميّ وزوال أو انطفاء جذوة الحضارة الإسلاميّة؟ أم أن أرضيّات الضعف في الحضارة الإسلاميّة هي التي سهّلت دخول الحضارة الغربيّة إلى عالم الإسلام؟ في أبحاث وتحقيقات أخرى.
والنقطة الأخيرة تكمن في موقع الدين في المرحلة الأخيرة من حضارة الغرب؛ حيث عبّر بعضهم عن هذه المرحلة بمرحلة ما بعد الحداثة الفاقدة للشكل (عصر الاضطراب)، وعمد بعض أيضًا من خلال الانتقادات المتنوّعة للحضارة الغربيّة إلى تصحيح هذه النظريّة القائمة على افتقار الحضارة الغربيّة للشكل. في هذه المرحلة لا يتمّ حذف الدين أبدًا، ولكن يتمّ الاعتراف رسميًّا بحضور الدين بالإضافة إلى آلاف الخيارات الدينيّة والمعنويّة الأخرى. إنّ مثل هذه التعدّديّة المنفلتة لا تبقي من الناحية العمليّة أيّ مجال للدين والهويّة الدينيّة أبدًا، ويجعل العلمانيّة شرسة وأكثر تطرّفًا وراديكاليّة. واليوم لا نخوض في عالم الإسلام -على الرغم من تسلّل الحداثة أو الثقافة الغربيّة إلى العالم الإسلاميّ- سوى تجربة قليلة عن الحالة العلمانيّة الراديكاليّة والعلمانيّة التعدّديّة. لا تزال أرضيّات وحدتنا باقية ولم تفن بشكل كامل، ويمكن لذلك أن يشكّل كوّة للعالم الإسلاميّ، كي يعيد بناء نفسه من جديد ويعالج تعدّديّته الداخليّة، ويعمل على تقوية وتعزيز اتحاده بشكل أكبر.
يمكن أن نصل مما قيل بشأن مسار تبلور الحضارة الغربيّة واختلافاتها عن الحضارة الإسلاميّة أوّلًا: إلى أنّ الدين كان بالنسبة إلى الغرب أمرًا عرضيًّا، في حين كان الدين بالنسبة إلى الحضارة الإسلاميّة من جملة ذاتياتها الحضاريّة. إن مسار تشكيل وتكوين الحضارة الغربيّة ومراحل تبلورها لم يكن مسارًا معنويًّا، بل كان مسارًا مادّيًّا ودنيويًّا؛ إذ تبلور ردحًا من الزمن في إطار السفسطائيّين، وحينًا في إطار الإقطاعيّين، وردحًا آخر من الزمن في إطار البرجوازيّين، في حين لم يكن في الحضارة الإسلاميّة سفسطائيّون ولم يتمكّن الإقطاعيّون من الاستيلاء على المراحل والقرون الحضاريّة وجعل علماء الإسلام إقطاعيّين، ولم يكن ثمّة في الأساس ظهور أو تشكل للبرجوازيّة في عالم الإسلام وفي مرحلة من المراحل الحضاريّة للإسلام. فعلى الرغم من وجود نوع من العلمانيّة في العالم الإسلاميّ، إلّا أنّ العالم الإسلاميّ والحضارة الإسلاميّة لم تخض تجربة الحضارة والثقافة العلمانيّة أبدًا، ولم يتمّ الاعتراف رسميًّا بالإلحاد المنبثق عن العلمانيّة إطلاقًا. إنّ الحضارة الإسلاميّة حتّى في أحلك المراحل تأزّمًا في عصر الغزو المغّوليّ والتتريّ لم تستسلم لظروف الحياة القاسية؛ حيث لجأت إلى نوع من الروحانيّة الصوفيّة والعرفانيّة، ولم تفصل مسارها عن الطرق السماويّة حتّى في أشدّ الظروف والأوقات حرجًا ومرارة.
إنّ الذي يمكن الحصول عليه من الغرب بوصفه نقطة اختلاف حضاريّ، هو أنّ الحضارة الإسلاميّة تختلف عن الحضارة الغربيّة من الناحية الثبوتيّة في نقاط تاريخيّة جوهريّة، وإنّ مقارنة شرائط الحضارة الإسلاميّة مع الحضارة الغربيّة، وتقليد المسار الحضاريّ الغربيّ والقول بوجود تشابه بين هاتين الحضارتين، ثمّ العمل على رسم نموذج لـ«الاتحاد والتنوّع» في الحضارة الإسلاميّة على أساس تاريخ مسألة «الاتحاد والتنوّع» في الحضارة الغربيّة، أمر مجانب للصواب. إنّ الغفلة عن هذا الاختلاف، وتقليد المشروع الحضاريّ للغرب في تكوين الحضارة الإسلاميّة، لن تعجز عن مجرّد حلّ التحدّيات المرتبطة بـ«التنوّع» و«التشتّت» أحيانًا فحسب، بل وسوف تعمل في سياق هذه المقارنات الخاطئة على إيجاد اختلافات وتشتّتات جديدة، وسوف تقضي على أرضيّات الاتحاد الحضاريّ في العالم الإسلاميّ أيضًا.
2 ـ الغرب الاستعماريّ بوصفه نقطة «خصم حضاريّ»
إنّ الحضارة الغربيّة في مواجهتها للوجودات الحضاريّة الأخرى[74]، لم تكن تعدّ نقطة اختلاف حضاريّ بالنسبة إلى الحضارة الإسلاميّة فقط، بل وحيث تتخذ دورًا استعماريًّا، فإنّها تلعب دورًا بوصفها خصمًا حضاريًّا، وتتحوّل من مجرّد مختلف إلى موضع الخصام والعداوة. إنّ الحضارة الغربيّة لم تنظر إلى الحضارة الشرقيّة بوصفها الآخر العدوّ والخصم لها في المرحلة الحديثة فحسب، بل وحتّى في المراحل التاريخيّة السابقة كانت تنظر إلى الشرق على الدوام بوصفه خصمًا منافسًا لها، ومن هنا فقد بدأت الحضارة الغربيّة حروبًا تاريخيّة كبيرة ضد بلاد فارس، ويمكن مشاهدة نموذج هذه الحروب في الزحف العسكريّ الذي قاده الإسكندر المقدونيّ على هذه البلاد. وقد استمرّ هذا النهج المعادي للغرب ضد أقاليم الشرق وبعد ذلك ضدّ الإسلام والحضارة الإسلاميّة، في مرحلة الحروب الصليبيّة باسم المسيحيّة، وبعد ذلك ظهر النموذج الشامل لهذه النزعة السلطويّة المعادية في العصور اللاحقة في مرحلة الاستعمار، وأدّت باسم الحداثة والحداثويّة إلى إيجاد الكثير من الشروخ والتصدّعات بين الأمّة الإسلاميّة. «واليوم يمكن القول فيما يتعلّق بالعالم الإسلاميّ أكثر من أيّ مرحلة تاريخيّة أخرى: إنّ الأمّة الإسلاميّة قد أصبحت -بسبب تأثير الحداثة من الناحية السياسيّة والثقافيّة- أكثر تفكّكًا من ذي قبل»[75].
«إنّ الإمّة الإسلاميّة تعاني اليوم من تشرذم وتفكك غير مسبوق من الناحية السياسيّة، وقد واجهت حملات واسعة وتحديات غير متوقّعة فيما يتعلق بالعلمانيّة الحديثة، وهي أعظم بكثير مما كان عليه الوضع إبان الهجوم المغوليّ على البلاد الإسلاميّة»[76].
ومن الضروريّ التأكيد على أنّ نقطة العدوان من قبل الحضارة الغربيّة على العالم الإسلاميّ لا تظهر على شكل الطبقات العسكريّة الصلبة فقط، بل وقد تقع هذه الماهيّة العدائيّة في بعض الأحيان على شكل تصدير الحداثة غير المتجانسة والنقل الكاريكاتيريّ للعناصر غير المتناغمة والمدمّرة من قبل الغرب تجاه العالم الإسلاميّ. من ذلك -على سبيل المثال- أنّ ذات «الاختلاف والتكثّر» الحديث القادم إلى الشرق، والمنبثق من التحوّلات المدينيّة[77]، والصناعيّة[78]، والعالميّة[79] في الغرب[80]، قد أوجدت تحدّيات مدمّرة لهويّة المسلمين والمجتمع العالميّ للإسلام. وفي هذه النقطة نجد أنّ معطيات التحدّي الغربيّ لعالم الإسلام كانت في الغالب من نوع الشرخ وليس الوفاق، وفي الأساس فإنّ الاختلافات الفكريّة والثقافيّة والخلافات المذهبيّة والعقائديّة في عالم الإسلام من قبيل العلمانيّة والتعدّديّة[81]، إنّما زادت وتفاقمت في ظلّ دخول الغرب الحديث ثمّ الغرب الحداثويّ إلى عالم الإسلام.
وعلى كلّ حال فإنّ الموقف المعادي للغرب تجاه العالم الإسلاميّ وحضارة المسلمين، قد استدعى موقفًا معاديًا من قبل المسلمين تجاه الغرب، فقد كان المسلمون في المرحلة الجديدة غاضبين على الغرب، ولا سيّما الولايات المتّحدة الأميركيّة، وكانوا يعبّرون عن هذا الغضب بواسطة الألفاظ أحيانًا وبواسطة الأفعال أيضًا. إنّ هذه المواقف المعادية مع الغرب والولايات المتّحدة الأميركيّةبشكل خاصّ، ليست محدودة ولا تقتصر على إيران ومرحلة ما بعد الثورة الإسلاميّة فقط، وفي الأساس فإنّ الموقف المعادي للغرب بمعيّة الولايات المتّحدة الأميركيّةتجاه البلدان الإسلاميّة كان موجودًا قبل قيام الجمهوريّة الإسلاميّة، ويعود بجذوره إلى التضادّ الماهويّ بين المجتمع الإسلام وبين نظام الهيمنة العالميّة بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة. إنّ هذا التقابل بين الغرب والإسلام إنّما أصبح أكثر جدّيّة وازداد شرعة وتحوّل إلى بغض شامل عندما تغلّبت الأبعاد الاستعماريّة للغرب على أبعاده الثقافيّة. وقد تمّ بيان هذا البغض بشكل صريح في الاستطلاع الذي شمل عشرة آلاف شخص في تسعة بلدان إسلاميّة ما بين شهر كانون الأوّل من عام 2001 م إلى شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2002 م. وقد كان اعتقاد الأشخاص المستلطعة آراؤهم يقول إنّ أميركا «قاسية وعدوانيّة ومتكبّرة ومتعجرفة، يسهل استفزازها، وأنّ سياستها الخارجيّة منحازة»[82]. وقد صرّحت مؤسّسة أخرى للأبحاث والدراسات باسم (P.E.W) في مشروع تحقيقيّ لها تحت عنوان «أميركا في النظام العالميّ» بهذه النقطة، وهي «أنّ مختلف بلدان العالم تنتقد السياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة الأميركيّة، في حين أنّ المسلمين يحملون تجاهها مشاعر الكره والبغضاء»[83]. وقد أظهر الاستطلاع اللاحق الذي أجري في عام 2003 م أنّ «ما بين 56 إلى 85% من الشعب في مصر والأردن وأندونيسيا ولبنان والسنغال وتركيا وباكستان، يعارضون قيادة الولايات المتّحدة لما تسمّيه الحرب ضد الإرهاب. وأكثر المتواجدين في لبنان وتركيا يحملون نظرة سلبيّة إلى حدّ ما أو سيّئة جدًّا تجاه الولايات المتحدة الأميركيّة»[84].
وفي التقرير الأخير الذي أرسله المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان المؤشّر العربيّ 2017-2018م، ظهر أنّ ما نسبته 90% من الناس في البلدان العربيّة يضع سياسات إسرائيل في المرتبة الأولى بوصفها تشكل تهديدًا لعالم الإسلام. وأمّا المرتبة الثانية في هذا الاستطلاع والتي تبلغ نسبتها 84%، فهي تخصّ الولايات المتّحدة الأميركيّة[85]. وفي هذا الاستطلاع ذاته ذهب ما نسبته 84% من المستطلعين من البلدان العربيّة فيما يتعلّق بسياسة الولايات المتّحدة الأميركيّةتجاه فلسطين، و81% تجاه سوريا، و82% تجاه العراق، إلى الاعتقاد بأنّها سيّئة أو سيّئة للغاية. ومن الواضح جدًّا أنّ هذا الاتجاه السلبيّ والمشترك بشأن موقف الولايات المتّحدة الأمركيّة من البلدان الإسلاميّة والبلدان العربيّة، يُعدّ من نقاط الاشتراك والارتباط بين البلدان الإسلاميّة، وقد كان ولا يزال مؤثّرًا في تلاحم الأمّة الإسلاميّة على طول وعرض جغرافيّتها في عالم الإسلام.
كما سبق أن ذكرنا، فإنّ هذا التقابل لا يعود بجذوره إلى منهج التفاوت والاختلاف الفكريّ بين الغرب العلمانيّ وبين الإسلام، وإنّما يعود بجذوره إلى النظام الصانع للثنائيّات في الغرب. وبعبارة أخرى: إنّ التضادّ بين الحضارة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة قبل أن يمتدّ بجذوره في الرؤية الإسلاميّة وثقافة المسلمين، يعود بجذوره إلى محاربة الحضارة الليبراليّة الغربيّة للآخر المختلف. صحيح أنّ المسلمين لا يتماهون مع ثقافة الهيمنة الغربيّة، بيد أنّهم يعترفون بالغرب الإنسانيّ كما يعترفون بالغرب المسيحيّ، ولا يوجد تضاد بينهم وبين الإنسان الغربيّ أو الأديان الإبراهيميّة، ولا يوجد مثل هذا الاتجاه من ناحية الحضارة الغربيّة بالنسبة إلى مثيلاتها الأخريات نوعًا ما، ومن الطبيعي أن تؤدّي المواجهة مع هذه الحضارة -التي تتلخّص ماهيّتها وهويّتها في سلب الآخرين هويّاتهم ومحاربتهم- إلى العنف والمواجهة على الدوام. وقد أشار مؤلّف كتاب (مواجهة الغرب المعاصر مع العالم الإسلاميّ) في هذا الشأن إلى تحليل جاك دريدا، وقال: «يذهب جاك دريدا إلى الاعتقاد بأنّ الميتافيزيقيّات الغربيّة عبارة عن مجموعة من سلاسل المراتب الحتميّة والعنيفة من المواجهات الثنائيّة. إنّها تنظر إلى الشرق المسلم بوصفه نموذجًا من الواقع الأدنى في قبال الشرائط المنشودة للغرب. وعندما تتجلّى أمور من قبيل: الوضع المنشود، والأدنى، والأعلى، وكذلك قوالب المقارنة القيَميّة في البين، تظهر تجلّيات من سلسلة المراتب»[86].
قائمة المصادر والمراجع
أ ـ المصادر: الفارسية والعربية:
ـ القرآن الكريم.
ـ نهج البلاغة.
1ـ آدميت، فريدون، تاريخ فكر، انتشارات روشنكران و مطالعات زنان، 1376هـ.ش.
2ـ بدن، لويس تاريخ عقايد اقتصادي، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: هوشنگ نهاوندي، انتشارات مرواريد، 1343هـ.ش.
3ـ هرمان بينجسون، يونانيان و پارسيان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: تيمور قادري، طهران، 1376هـ.ش.
4ـ بهمنش، أحمد، تاريخ يونان قديم، دانشگاه طهران، طهران، 1338هـ.ش.
5ـ فرانكلين لوفان بومر، جريانات بزرگ در تاريخ انديشه غربي، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: حسين بشيريه، مركز بازشناسي اسلام و ايران، طهران، 1384هـ.ش.
6ـ بهاء الدين پازاركاد، تاريخ فلسفي سياسي، نشر زوار، طهران، 1348هـ.ش.
7ـ أندريه بيتر، تاريخ اقتصادي: بررسي در روابط نهادي اقتصادي و تحولات تمدن بشري از ابتدا تا عصر حاضر، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: ضياء الدين دهشيري، دانشگاه طهران، طهران، 1355هـ.ش.
8ـ جوان. أ. غريدي، مسيحيت و بدعت ها، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عبد الرحيم سليماني، مؤسسه فرهنگي طه، ط1، قم، 1377هـ.ش.
9ـ ديورانت، ويليام جيمز، تاريخ تمدّن (قصة الحضارة)، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: مجموعة من المترجمين، انتشارات علمي فرهنگي، ط3، طهران، 1370هـ.ش.
10ـ ديورانت، ويليام جيمز، تاريخ تمدّن؛ مشرق زمين گاهواره تمدن (قصة الحضارة؛ الشرق مهد الحضارة)، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد آرام، وع. باشائي، وأمير آريان پور، سازمان انتشارات و آموزش انقلاب اسلامي، ط2، طهران، 367هـ.ش.
11ـ دوكلانج، فوستل، تمدن قديم، ترجمه إلى اللغة الفارسية: نصر الله فلسفي، انتشارات كيهان، ط3، طهران، 1343هـ.ش.
12ـ دولاندلن، ش. تاريخ جهاني، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أحمد بهمنش، دانشگاه طهران، طهران، 1367هـ.ش.
13ـ رابينسون، تشارلز الكساندر، تاريخ باستان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: إسماعيل دولتشاهي، انتشارات علمي و فرهنگي، طهران، 1370هـ.ش.
14ـ رندال، هرمن، سير تكامل عقل نوين، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو القاسم پاينده، انتشارات علمي و فرهنگي، ط2، طهران، 1376هـ.ش.
15ـ عارف، نصر محمّد، الحضارة/ الثقافة/ المدنية، دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، أميركا/ فرجينيا، 1415هـ/ 1994م.
16ـ فوغل، جكسون شبيغل، تاريخ تمدن مغرب زمين، انتشارات أمير كبير، طهران، 1387هـ.ش.
17ـ عبد الله ف. قسان، «نئوسكولاريسم در جهان عرب»، في: مجموعة من الكتاب: سكولاريسم از ظهور تا سقوط، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: سيد رحيم راستي تبار، سيد محمد حسين صالحي ورحمت الله رضائي، پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي، قم، 1393هـ.ش.
18ـ موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام، عويدات للطباعة والنشر، 2003م.
19ـ كامبل، جون، انقلاب صنعتي در قرون وسطى، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: مهدي سحابي، نشر مركز، ط1، طهران، 1374هـ.ش.
20ـ لوكاس، هنري، تاريخ تمدن، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عبد الحسين آذرنگ، انتشارات كيهان، طهران، 1366هـ.ش.
21ـ إبراهيم متقي، رويارويي غرب معاصر با جهان اسلام، 1391هـ.ش.
22ـ مورغان، لويس هنري، جامعه باستان، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محسن ثلاثي، مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگي، طهران، 1371هـ.ش.
23ـ حسين، نصر، حسين، دين وسكولاريسم، معنا و نحوه ظهور آنها در تاريخ اسلام، سكولاريسم از ظهور تا سقوط، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: سيد حسين راستي تبار وآخرون، انتشارات پژوهشگاه علوم وفرهنگ اسلامي، قم، 1393هـ.ش.
24ـ نصر، حسين، قلب اسلام، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: سيد محمد صادق خرازي، نشر ني، طهران، 1385هـ.ش.
25ـ يغر، ورنر، پايديا، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد حسن لطفي،، انتشارات خوارزميّ، ط1، طهران، 1376هـ.ش.
ب ـ المقالات
26ـ بيتر، بيرغر، وآخرون، «تجدد و ناخرسندي هاي آن»، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمد رضا بور جعفري، مجلة أرغنون، العدد 13، خريف عام 1394هـ.ش.
27ـ علي بيات، «بايسته هاي دوره بندي تمدن اسلامي»، مجلّة نقد و نظر، العدد 74، 1393هـ.ش.
28ـ هالة لاجوردي، «درباره تضاد فرهنگ مدرن»، مجلّة أرغنون، العدد 18، خريف عام 1380هـ.ش.
ج ـ المصادر اللاتينيّة
29 - Gallup Press Release; 27 February 2002.
30 - Hodgson, Marshall G. S; The Venture of Islam, Conscience and History in a World Civilization. The Classical Age of Islam; Chicago and London, The University of Chicago Press, Vol. 1, 2, 3. 1974.
31- Hunter, James Davision; To Change the World, the Irony, Tragedy, & Possibility of Christianity in the Late Modern World; New York, Oxford University Press, 2010.
32- Peter L. Berger; The Heretical Imperative, Contemporary Possibilities of Religious Affimation.
-----------------------------------
[1]*ـ مفكر وأستاذ في الحوزة العلمية- إيران.
- تعريب: حسن علي مطر.
[2]- وبطبيعة الحال توجد في هذا الشأن أسئلة مهمّة أخرى، يجب أخذها بنظر الاعتبار في المقارنة الجارية بين الإسلام والمسيحيّة، وهل تمكن كلّ من الإسلام والمسيحيّة من الحصول في مسارهما التاريخيّ على المستوى الحضاريّ، وهل أمكن لكلّ واحد منهما تحقيق ذاته في ذلك المستوى العامّ، أو لم يتمكّن الدين المسيحيّ ـ وربما الدين الإسلاميّ ـ من الارتقاء من مستوى الثقافة إلى مستوى الحضارة؛ وأنّه أيّ عنصر من بين العناصر والأدوات الحضاريّة المهمّة من قبيل: العلم، والأخلاق، والعقلانيّة، والمعنويّة، والقدرة، والثروة، أمكن إيجاده على يد المسيحيّة في حضارة الغرب، وأيّ عنصر منها تمّ إيجاده بواسطة الإسلام في الحضارة الإسلاميّة؟ وهل كان التحوّل أساسًا ـ عند نقطة بداية التحوّلات الحضاريّة من قبل الدين المؤسّس أو النبي المؤسّس لحضارة ما ـ قد تحقّق في الأنظمة الاجتماعيّة الصلبة أم كانت نقطة انطلاق التحوّلات كامنة في التغيير في الأنظمة الثقافيّة والمعنويّة؟
[3]- ربما أمكن القول إنّه لا يوجد هناك بحث عن الركود والأفول في مورد حضارة الغرب؛ ولكن يمكن توظيف المبنى التصوّريّ لهذه المرحلة في الغرب من الزاوية الفكريّة لأشخاص من أمثال لوفان بومر الذي عمد إلى تقسيم العالم الغربيّ إلى ثلاثة أقسام، وهما: عصر الدين، وعصر العلم، وعصر الفوضى والاضطراب (anxiety). (انظر: فرانكلين لوفان بومر، جريانات بزرگ در تاريخ انديشه غربي، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: حسين بشيريه، ج1، مركز بازشناسي اسلام و ايران، طهران، 1382هـ.ش).
[4]- polis.
[5]- انظر: بهمنش، أحمد، تاريخ يونان قديم، ص57-59، دانشگاه طهران، طهران، 1338هـ.ش. (مصدر فارسي).
[6]- انظر: دوكلانج، فوستل، تمدن قديم، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: نصر الله فلسفي، ص236، انتشارات كيهان، ط3، طهران، 1343هـ.ش.
[7]- انظر: المصدر أعلاه، ص203-205.
[8]- انظر: المصدر أعلاه، ص245-246.
[9]- انظر: رابينسون، تشارلز الكساندر، تاريخ باستان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: إسماعيل دولتشاهي، ص167، انتشارات علمي و فرهنگي، طهران، 1370هـ.ش.
[10]- انظر: دوكلانج، فوستل، تمدن قديم، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: نصر الله فلسفي، ص288، 1343هـ.ش.
[11]- انظر: المصدر أعلاه، ص293.
[12]- انظر: رابينسون، تشارلز الكساندر، تاريخ باستان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: إسماعيل دولتشاهي، ص157، 1370هـ.ش.
[13]- انظر: يغر، ورنر، پايديا، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمد حسن لطفي، ص309، انتشارات خوارزميّ، ط1، طهران، 1376هـ.ش.
[14]- إن هذا التحوّل أدّى إلى تمكّن الطبقات السفلى في المجتمع، وقد شكّل هذا بداية لاندلاع ثورة أخرى في المجتمع اليونانيّ. وبفعل ثراء جزء من عامّة الناس، وصل التنافس على السلطة في الساحة السياسيّة بين الطبقات الاجتماعيّة إلى مرحلة جديدة الأمر الذي فاجأ البطارقة. (انظر: فوستل دوكلانج، تمدن قديم، ص287).
[15]- انظر: ديورانت، ويليام جيمز، تاريخ تمدّن (قصة الحضارة)، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: مجموعة من المترجمين، ج2، ص294-295، انتشارات علمي فرهنگي، ط3، طهران، 1370هـ.ش.
[16]- انظر: المصدر أعلاه، ص336.
[17]- انظر: هرمان بينجسون، يونانيّان و پارسيان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: تيمور قادري، ص141-142، طهران، 1376هـ.ش.
[18]- يمكن لنا أن نستفيد من الآثار الأولى لهم (اليونانيّين) بوضوح أنّ الإنسان كان يقع في مركز التفكير الإغريقيّ. فقد كان لآلهتهم شكل إنسان. وكانت مسألة جسم الإنسان من أهمّ المسائل في فنّ النحت والتجسيم، بل وحتّى الرسم أيضًا. (انظر: يغر، ورنر، پايديا، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمد حسن لطفي، ص29، 1376هـ.ش).
[19]- يرى شرّاح تاريخ اليونان، أنّ هذه النقطة وهي نشر فلسفة الفرديّة المفرطة على الرغم من وجود الأعداء الخارجيّين والموقع الجغرافيّ لأثينا، هی التي تسبّبت بسقوط تلك الدولة وبسط فيليب المقدوني سيطرته على أثينا والاستيلاء على المدن اليونانيّة من قبل القوات المعادية. (انظر: المصدر ذاته، ص127).
[20]- انظر: هرمان بينجسون، يونانيان و پارسيان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: تيمور قادري، ص288-306، 1376هـ.ش.
[21]- انظر: رابينسون، تشارلز الكساندر، تاريخ باستان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: إسماعيل دولتشاهي، ص264، 1370هـ.ش.
[22]- انظر: ديورانت، ويليام جيمز، تاريخ تمدّن؛ مشرق زمين گاهواره تمدن (قصة الحضارة؛ الشرق مهد الحضارة)، ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد آرام، وع. باشائي، وأمير آريان پور، ج2، ص647، سازمان انتشارات و آموزش انقلاب اسلامي، ط2، طهران، 367هـ.ش.
[23]- انظر: آدميت، فريدون، تاريخ فكر، ص164، انتشارات روشنكران و مطالعات زنان، 1376هـ.ش. (مصدر فارسي).
[24]- انظر: المصدر أعلاه، ص166-167؛ مورغان، لويس هنري، جامعه باستان، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محسن ثلاثي، ص480-481، مؤسسه مطالعات و تحقيقات فرهنگي، طهران، 1371هـ.ش.
[25]- انظر: آدميت، فريدون، تاريخ فكر، ص163-164، 1376هـ.ش.
[26]- انظر: المصدر أعلاه، ص168.
[27]- على الرغم من اقتران ظهور المسيحيّة مع سقوط روما؛ ولكن يقال إنّ الدين المنحطّ والآلهة الفاسدة لروما قد مهّد لانهيار الحضارة الرومانيّة حتى قبل ظهور المسيحيّة. يرى ول ديورانت أنّ الدين الروميّ بما يشتمل عليه من رموز الفساد قد فاقم من انحطاطه الأخلاقيّ وسقوطه الاجتماعيّ، فقد كانت بذور الفساد والجريمة كامنة في الدين الروميّ. وكانت الآلهة تعمل على توجيه الغرائز الجنسيّة للناس بشكل منحرف وعلى نحو فاضح. (انظر: ويل ديورانت، تاريخ تمدّن (قصّة الحضارة)، ج4، القسم الأول، ص647).
[28]- انظر: دولاندلن، ش. تاريخ جهاني، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أحمد بهمنش، ج1، ص359، دانشگاه طهران، طهران، 1367هـ.ش.
[29]- من الجدير ذكره أن الدين في روما الغربيّة حيث يتمّ فرضه على الناس بالإكراه وله سلسلة مراتب تبدأ من الأعلى إلى الأسفل، فقد كان البابا والإمبراطور يتصارعان على امتلاك السلطة؛ وأمّا في روما الشرقيّة، فقد كان الدين يتبلور في صلب الثقافة العامّة، ويكون له نفوذ من تلقائه على رأس المجتمع أيضًا. وفي الأساس فإنّ الثقافة الشرقيّة ثقافة ممزوجة بالدين، في حين أنّ الثقافة الغربيّة كانت ثقافة خالية من الدين والمذهب، وإنّ هذين المهدين المختلفين قد كان لهما تأثير بالغ في تشكيل وبلورة دينين مختلفين. في ظل هذا الفضاء الدينيّ لم يكن تصوّر فصل الدولة عن الكنيسة أمرًا يحظى بالقبول من قبل الناس؛ وذلك لأنّ الدين كان قد تغلغل في جميع الأمور، بحيث إنّ الإمبراطور كان يعتبر نفسه خليفة الله في الأرض. وقد كتب جوان. أ. كريدي في هذا الشأن: «كان الاعتقاد بصفة القداسة للإمبراطور قد بدأ منذ عصر ما قبل المسيحيّة واستمرّ إلى المرحلة المسيحيّة، وكان الإمبراطور يعتبر نفسه خليفة لله؛ وعلى هذا الأساس فإن التأسيس لمجالس الشورى العامّة من قبل الإمبراطور، لم يكن نشاطًا لقائد سياسيّ، وإنّما كان يُعدّ نشاطًا لقائد الأمّة المسيحيّة. وبالتالي فقد كان من الطبيعيّ أن يطالب الإمبراطور بالتدخّل في الأبحاث اللاهوتيّة؛ ولذلك كان يتمّ تشكيل مجالس الشورى العامّة، ويتمّ توجيهها بواسطة سلطة الحكم والدولة». (انظر: جوان. أ. غريدي، مسيحيت و بدعت ها، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عبد الرحيم سليماني، ص148-149، مؤسسه فرهنگي طه، ط1، قم، 1377هـ.ش). وعلى هذا الأساس كانت رؤية كلّ واحدة من هاتين الكنيستين إلى مقولة التكنولوجيا والتكنيك رؤية مختلفة ومتفاوتة أيضًا. فقد كانت الكنيسة الأورثودوكسيّة اليونانيّة تعارض الاعتقاد بالأفكار الجديدة والتماهي مع التكنولوجيا، في حين أن الكنيسة الرومية في القرون الوسطى كانت ترحّب بالفن والتكنولوجيا. ولهذا السبب كانت الكنائس الغربيّة تستخدم المنتجات الصناعيّة ومن بينها الساعة على سبيل المثال. وأمّا في الكنيسة اليونانيّة، فلم تكن هذه الأمور لتحظى بالقبول على الإطلاق. (انظر: كامبل، جون، انقلاب صنعتي در قرون وسطى، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: مهدي سحابي، ص212 و153، نشر مركز، ط1، طهران، 1374هـ.ش).
[30]- See: Hodgson, Marshall G. S; The Venture of Islam, Conscience and History in a World Civilization. The Classical Age of Islam; vol. 1, p321. Chicago and London, The University of Chicago Press, Vol. 1, 2, 3. 1974.
لا ينبغي ـ من وجهة نظر مارشال هاجسن ـ أن ننسى الدور المحوريّ للإسلام في تطوير الأدوات وإنعاش التجارة. لقد عمل الإسلام على إيجاد نوع من الأمن التجاريّ والاقتصاديّ، وعمل على تحقيق النشاط الاجتماعيّ للأمّة الإسلاميّة، بل وحتى لغير المسلمين أيضًا
(See: Ibid, p305).
[31]- See: Ibid, pp.173–174.
[32]- انظر: عارف، نصر محمد، الحضارة/ الثقافة/ المدنيّة، دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، ص53، المعهد العالميّ للفكر الإسلاميّ، أمريكا / فرجينيا، 1415هـ/ 1994م.
[33]- انظر: المصدر أعلاه، ص53-54.
[34]- الانضباط (discipline): مجموعة من القواعد السلوكيّة للحفاظ على النظام والتبعيّة بين أعضاء مجموعة معيّنة. (المعرّب).
[35]- يذهب مارشال هاجسن إلى الاعتقاد بأنّ الطاقة الأخلاقيّة التي حرّرها الإسلام كانت مؤثّرة بالكامل في بلورة النهضة الثقافيّة في عصر الخلافة الإسلاميّة. وفي هذا الشأن فقد أدّى ذات التضادّ والاختلاف بين السنن في مرحلة تبلور الإسلام، إلى تبلور نقيضة جديدة وتشكيل ثورة في الحضارة الإسلاميّة.
See: Hodgson, Marshall G. S; The Venture of Islam; vol. 1, p236.
[36]- بسبب هذه الخصّيصة في القرآن الكريم، ذهب الكثير من غير المسلمين إلى اعتباره كتابًا مضطربًا ومبعثرًا. حيث يذهب غير المسلمين إلى افتقار القرآن إلى التطوّر المنطقيّ والمتوازن، ولم يتضح لهم كيف يعتبره المسلمون نصًّا جميلًا؟
See: Ibid, p184.
[37]- See: Ibid, vol. 2, pp9- 11.
[38]- See: Ibid, p88.
[39]- انظر: رندال، هرمن، سير تكامل عقل نوين، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو القاسم پاينده، ج1، ص89، انتشارات علمي و فرهنگي، ط2، طهران، 1376هـ.ش.
[40]- انظر: لوكاس، هنري، تاريخ تمدن، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: عبد الحسين آذرنگ، ج1، ص536، انتشارات كيهان، طهران، 1366هـ.ش.
[41]- high culture.
[42]- folk culture.
[43]- See: Hodgson, Marshall G. S; The Venture of Islam; vol. 1, p92.
[44]- See: Ibid, pp232–236.
[45]- See: Ibid, pp93- 95.
[46]- انظر: علي بيات، «بايسته هاي دوره بندي تمدن اسلامي»، مجلة نقد و نظر، العدد 74، 1393هـ.ش. (مصدر فارسي).
[47]- انظر: بهاء الدين پازاركاد، تاريخ فلسفي سياسي، ص 229، نشر زوار، طهران، 1348هـ.ش.
[48]- انظر: المصدر أعلاه، ص280.
[49]- انظر: ول ديورانت، تاريخ تمدن (قصّة الحضارة)، ج3، ص723.
[50]- انظر: رندال، هرمن، سير تكامل عقل نوين، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو القاسم پاينده، ج1، ص110-111، 1376هـ.ش.
[51]- انظر: فوغل، جكسون شبيغل، تاريخ تمدن مغرب زمين، ج1، ص804، انتشارات أمير كبير، طهران، 1387هـ.ش. ومن الجدير ذكره أنّ هذا الأمر لم يكن يروق لبعض القساوسة؛ وذلك لأنّ المسيحيّين الكنسيّين كانوا يعتبرون أنفسهم خرافيّين أكثر منهم مؤمنين.
[52]- انظر: فوغل، جكسون شبيغل، تاريخ تمدن مغرب زمين، ج1، ص804، 1387هـ.ش.
[53]- انظر: المصدر أعلاه، ص771.
[54]- انظر: بدن، لويس تاريخ عقايد اقتصادي، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: هوشنگ نهاوندي، ص7-9، انتشارات مرواريد، 1343هـ.ش.
[55]- انظر: حسين، نصر، حسين، دين و سكولاريسم، معنا و نحوه ظهور آنها در تاريخ اسلام، سكولاريسم از ظهور تا سقوط، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: سيد حسين راستي تبار وآخرون، ص249-250، انتشارات پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي، قم، 1393هـ.ش.
[56]- انظر: موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام، ص120، عويدات للطباعة والنشر، 2003م.
[57]- انظر: أندريه بيتر، تاريخ اقتصادي: بررسي در روابط نهادي اقتصاديّ وتحولات تمدن بشري از ابتدا تا عصر حاضر، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: ضياء الدين دهشيري، ص83، دانشگاه طهران، طهران، 1355هـ.ش.
[58]- في حوار مع الأستاذ علي بيات من جامعة الإلهيّات، حقل تاريخ وحضارة الشعوب الإسلاميّة، جامعة طهران.
[59]- انظر: فوغل، جكسون شبيغل، تاريخ تمدن مغرب زمين، ج1، ص756-757، 1387هـ.ش.
[60]- ربع رشيدي: معلم تاريخيّ في مدينة تبريز، كان في الأصل عبارة عن جامعة باسم رشيد الدين فضل الله الهمداني، يعود بناؤها إلى ما قبل سبعة قرون تقريبًا، ولم يبق من آثارها حاليًّا سوى الشيء القليل. (المعرّب).
[61]- انظر: أندريه بيتر، تاريخ اقتصاديّ: بررسي در روابط نهادي اقتصادي و تحولات تمدن بشري از ابتدا تا عصر حاضر، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: ضياء الدين دهشيري، ص60، 1355هـ.ش.
[62]- انظر: جكسون شبيغل فوغل، تاريخ تمدن مغرب زمين، ج1، ص798-800، 1387هـ.ش.
[63]- انظر: أندريه بيتر، تاريخ اقتصادي: بررسي در روابط نهادي اقتصادي و تحولات تمدن بشري از ابتدا تا عصر حاضر، ترجمه إلى اللغة الفارسية: ضياء الدين دهشيري، ص51-95، 1355هـ.ش.
[64]- انظر: بدن، لويس، تاريخ عقايد اقتصاديّ، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: هوشنگ نهاوندي، ص6-7، 1343هـ.ش.
[65]- انظر: موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام، ج5، ص128، 2003م.
[66]- انظر: المصدر السابق، موريس كروزيه، تاريخ الحضارات العام، ج3، ص456.
[67]- انظر: رندال، هرمن، سير تكامل عقل نوين، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: أبو القاسم پاينده، ج1، ص127، 1376هـ.ش.
[68]- انظر: عبد الله ف. قسان، «نئوسكولاريسم در جهان عرب»، في: مجموعة من الكتاب: سكولاريسم از ظهور تا سقوط، ترجمه إلى اللغة الفارسية: سيد رحيم راستي تبار، سيد محمد حسين صالحي ورحمت الله رضائي، ص265-266، پژوهشگاه علوم و فرهنگ اسلامي، قم، 1393هـ.ش.
[69]- انظر: فرانكلين لوفان بومر، جريانات بزرگ در تاريخ انديشه غربي، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: حسين بشيريه، ص809، مركز بازشناسي اسلام و ايران، طهران، 1384هـ.ش.
[70]- انظر: هالة لاجوردي، «درباره تضاد فرهنگ مدرن»، مجلة أرغنون، العدد 18، ص248، خريف عام 1380هـ.ش. (مصدر فارسيّ).
[71]- انظر: بيتر، بيرغر، وآخرون، «تجدد و ناخرسندي هاي آن»، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: محمد رضا بور جعفري، مجلّة أرغنون، العدد 13، ص157، خريف عام 1394هـ.ش.
[72]- Peter L. Berger; The Heretical Imperative, Contemporary Possibilities of Religious Affimation; p18 – 19.
[73]- انظر: علي بيات، «بايسته هاي دوره بندي تمدن اسلامي»، مجلة نقد و نظر، العدد 74، 1393هـ.ش. (مصدر فارسي).
[74]- Others.
[75]- انظر: نصر، حسين، قلب اسلام، ترجمه إلى اللغة الفارسيّة: سيد محمد صادق خرازي، ص159، وص190، نشر ني، طهران، 1385هـ.ش.
[76]- المصدر السابق، نصر، حسين، قلب اسلام، ص190.
[77]- Urbanization.
[78]- Industrialization.
[79]- Globalization.
[80]- See: Hunter, James Davision; To Change the World, the Irony, Tragedy, & Possibility of Christianity in the Late Modern World; pp200–201. New York, Oxford University Press, 2010.
[81]- Plural Secularization.
[82]- See: Gallup Press Release; 27 February 2002.
نقلًا عن إبراهيم متقي، رويارويي غرب معاصر با جهان اسلام، ص235، پژوهشگاه فرهنگ و انديشه اسلامي، قم، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).
[83]- انظر: المصدر أعلاه، ص235.
[84]- انظر: المصدر أعلاه، نقلًا عن إبراهيم متقي، رويارويي غرب معاصر با جهان اسلام، ص236.
[85]- انظر: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، المؤشّر العربيّ، 2017-2018م، ص68.
[86]- انظر: إبراهيم متّقي، رويارويي غرب معاصر با جهان اسلام، ص236-237، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).