الباحث : قراءة وتحرير ومراجعة مدير التحرير
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 30
السنة : ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 22 / 2023
عدد زيارات البحث : 608
يدرس كتاب «النصّ القرآنيّ» للباحثة الإيرانيّة فاطمة سروي مقاربات الاستشراق الأوروبيّ للكتاب الإلهيّ في النصف الثاني من القرن العشرين. وهذا الكتاب الذي صدر حديثًا عن المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة هو الأوّل ضمن سلسلة «القرآن في الدراسات الغربيّة»، حيث سعت الكاتبة من خلاله إلى تحرِّي آراء المستشرقين وتوجّهاتهم حيال القرآن الكريم، ونقد مناهجهم التي لا تخلو في الغالب الأعم من إسقاطات مفاهيميّة مستمدّة من الرؤية الوضعيّة التاريخانيّة للنصوص المقدّسة.
قد يكون الوجه الأهمّ في هذه الدراسة، تلك التي تكشف عن الحكاية الاستشراقيّة ودورها في تحوير الكلام الإلهيّ وحرفه عن مقاصده الوحيانيّة. وبصرف النظر عن الأسباب التقنية المتعلّقة بترجمة الآيات إلى اللغات اللاتينيّة ولا سيّما الإنكليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، وقصورها عن الوفاء بمقاصد العربيّة التي بها تنزَّل الوحيُ على قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ الصفة الغالبة للتناول الاستشراقيّ للقرآن الكريم، إنّما تقع في الفضاء الثقافيّ الإجماليّ الذي لا يمكن فصله عن النزوع الثقافيّ الهيمنيّ للغرب الاستعماريّ.
كيف عالجت المؤلّفة هذه القضيّة وما المنهج الذي اعتمدته في إنجاز دراستها؟
من البيِّن أنّ من أهمّ مزايا هذا الكتاب مقارباته المعمَّقة والفريدة لتقنيات التفكير الغربيّ حيال القرآن الكريم، ففي هذ الجانب سعت الكاتبة إلى إجراء عمليّة تفكيك للبنية المعرفيّة والقواعد المنهجيّة التي اعتمدها الباحثون الغربيّون، فضلًا عن بيان اتجاهاتهم المختلفة. وهو ما أضفى على البحث طابعه العلميّ، كما أرسى أساسًا متينًا للجدل الحجاجيّ حيال أطروحاتهم، فلقد اشتمل نطاق البحث على جميع التفاسير المدوّنة من قِبَل المستشرقين خلال العقود الخمسة الثانية من القرن العشرين المنصرم، فضلًا عن السنوات الَّلاحقة؛ بغضّ النظر عن معتقدهم الدينيّ ومنهجهم التفسيريّ.
من أجل ذلك امتازت هذه الدراسة عن غيرها في شمولّيتها التحليليّة والنقديّة لشتّى المشارب الفكريّة ووجهات النظر التي تبنّاها المستشرقون على صعيد تفسير القرآن الكريم، حيث سلّطت الضوء على باحثين تقليديّين؛ أمثال: ريتشارد بيل، ويوسف درّة الحدّاد، وجون وانسبرو، وباحثين تجديدييّن؛ أمثال: أوري روبين، وأنجيليكا نويورث، ونيل روبنسون، وغابريال سعيد رينولدز، وقدّمت استعراضًا عامًّا لرؤى المستشرقين في تفسير الآيات والعبارات والمصطلحات القرآنيّة وبيانًا لخلفيّاتها في إطار نقديّ تقويميّ يفكّكك بين التفاسير المنسجمة مع القرائن التفسيريّة وتلك التي هي مجرّد تفسيرات بالرأي وتخميناتٍ وفرضيّاتٍ منبثقة من إسقاطات أيديولوجيّة ورؤى اختزاليّة.
مدار البحث في هذا الكتاب هو الوقوف على تفاسير القرآن الكريم المدوّنة من قِبَل المستشرقين في العقود الماضية، وبالتحديد خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين والفترة التي تلتها، وإلى ذلك إجراء المقارنة بين توجّهاتهم الفكريّة. ومن الواضح أنّ بيان تفاصيل الموضوع بشكلٍ دقيقٍ ومسهبٍ يتيح لنا بيان نقاط القوّة والضعف في البحوث التفسيريّة الاستشراقيّة؛ إذ يتمّ تقويم فرضيّاتهم الدخيلة في تفسير آيات القرآن الكريم وعباراته في بوتقة النقد والتحليل.
محاور الكتاب ومنهجيته
في مقارباتها المعمَّقة للقضيّة التي اشتغلت عليها، عملت الباحثة على الأخذ بالمبادئ الأساسيّة الصارمة للبحث العلميّ من دون أن تغفل التحليل النقديّ لبنية التفكير الاستشراقيّ حيال القرآن الكريم.
وهكذا يمكن تلخيص محاور الكتاب ومنهجيّته بما يلي:
المحور الأوّل ـ تمّ فيه استعراض عامّ لرؤية المستشرقين في تفسير الآيات والعبارات القرآنيّة، وبيان خلفيّاتها في إطارٍ نقديّ.
المحور الثاني ـ تناول تحليل فرضيّاتهم في بيان معاني بعض المصطلحات القرآنيّة.
المحور الثالث ـ اعتمد منهجيّة التمييز بين التفاسير المنسجمة مع الوجهة التفسيريّة الإسلاميّة والقائمة على شواهدَ قطعيّةٍ ومبدأ التناصّ، وبين التفاسير التي تستند إلى تخميناتٍ وفرضيّاتٍ مرتكزةٍ على النهج التفسيري المتّبع في الكتاب المقدّس أو المنبثقة من رؤيةٍ اختزاليّةٍ.
وعمومًا تتركّز أبواب الكتاب بشكلٍ أساس حول بيان نماذج من التفاسير التي طرحها الباحثون الغربيّون التقليديّون الذين يشكِّلون أكبر تيّار تفسيريٍّ في العالم الغربيّ، كذلك ضُمِّنت بعض التفاسير الفرعيّة التي دوّنت بأقلام عددٍ من الباحثين التجديديّين حول ألفاظٍ وعباراتٍ قرآنيّةٍ معيّنةٍ، حيث سلّطنا الضوء عليها بمهنيّةٍ بحثيّةٍ وحياديّةٍ في رحاب مداليل النصّ القرآنيّ. وعليه، فقد طرحت هذه التفاسير الاستشراقيّة للنقد والتحليل في إطار دقيقٍ وشاملٍ من خلال إثبات أنّها لم تعتنِ بالتفاسير التقليديّة الإسلاميّة كما ينبغي، وإنّما اعتمدت على مضامينها الشكليّة بأدنى مستوى ممكنٍ وبأسلوبٍ انتقائيٍّ.
وفي السّياق نفسه سعت الباحثة إلى تبيين المرتكزات الفكريّة التي طرح المستشرقون وأقاموا على أساسها نظريّاتهم التفسيريّة. والسبب هو أنّ معظم المستشرقين لا يذكرون النهج الفكريّ الذي يرتكزون عليه في بحوثهم، ولذلك لم تعثر المؤلّفة كما تقول على خطّة بحثٍ علميٍّ واضحةَ المعالم في أطروحاتهم التفسيريّة، بل غاية ما في الأمر أنّها واجهت أحيانًا فوضًى منهجيّةً في البحوث العلميّة على ضوء المقتضيات العقديّة والإيديولوجيّة للمستشرق. وحسب الكاتبة أنّ البحوث التفسيريّة المطروحة من قِبَل المستشرقين غالبًا ما تكون عاريةً من الانسجام والترابط، وما أكثر تلك الحالات التي تسفر الخلفيّة الدينيّة والعقديّة أو الفكريّة والفلسفيّة للباحث عن تشكيكه بالمعنى المتعارف للآية أو العبارة القرآنيّة وتُرغمه على البحث عن معنًى آخرَ لها؛ لذلك لا نجد عددًا كبيرًا من البحوث التفسيريّة ولا نلاحظ تفاسيرَ متعدّدةً للآيات والعبارات القرآنيّة من قِبَل هؤلاء، وغاية الأمر أنّ هناك مدوّناتٍ مشتّتةً أو مقالاتٍ تفسيريّةً غيرَ ممنهجةٍ وهي بشكلٍ عامٍّ منبثقةٌ من مشاربَ فكريّةٍ متنوّعةٍ؛ بحيث يمكن اعتبارها بالمعنى الكلّي للمفهوم التفسيريّ نافذةً لبيان أحد الألفاظ أو العبارات القرآنيّة فحسب.
ومع أنّ عنوان الكتاب يتمحور -كما أوردت مؤلّفته- حول بيان معالم تفسير القرآن الكريم من وجهةٍ استشراقيّةٍ إبّان النصف الثاني من القرن العشرين والفترة التي تلتها في إطارٍ نقديّ تحليليٍّ، إلّا أنّها وجدت نفسها مضطرة أحيانًا إلى الحديث عن بعض الآراء المطروحة في هذا المضمار قبل الفترة المشار إليها، وأحيانًا أخرى بادرت إلى شرحها وتحليلها؛ لأجل بيان مختلف جوانب الموضوع، ومعرفة المشارب الفكريّة التي انبثقت هذه الأطروحات الاستشراقيّة منها.
وقد اعتمدت المؤلّفة في فهرسة أبواب الكتاب وفصوله على مواضيعَ مطروحةٍ في البحوث التفسيريّة الاستشراقيّة الأكثر شهرةً في الأوساط الفكريّة. قد تضَّمنت ثلاثة دوائر أساسيّةٍ هي:
الدائرة الأوّلى: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن النبيّ عيسى (عليه السلام) والسيّدة مريم.
الدائرة الثانية: التفسير الاستشراقيّ لمصطلحي «الكتاب» و«القرآن» في النصّ القرآنيّ.
الدائرة الثالثة: التفسير الاستشراقيّ للآيات التي تتحدّث عن رسالة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشخصيَّته.
يتناول موضوع البحث في الباب الأوّل بيان فهم المستشرقين للآيات القرآنيّة المرتبطة بالنبيّ عيسى(عليه السلام)؛ من حيث صلبه، ووفاته، ورفعه إلى السماء، ونزوله مرّةً أخرى إلى الأرض، والسيّدة مريم، وكلّ ما ذكرته الآيات القرآنيّة بخصوصها قبل ولادتها، وفي سنّ طفولتها، وحين اصطفائها وحملها، إضافةً إلى مباحثَ أخرى.
موضوع الباب الثاني يدور حول المعنى المقصود من مصطلح «الكتاب» في الآيات القرآنيّة من وجهة نظر المستشرقين، وتجدر الإشارة -هنا- إلى أنّ قراءتهم المطروحة بخصوص مفهوم الكتاب لا تتّصف بالتناسق والاتّزان التفسيريّ، فهي مرتكزةٌ بشكلٍ أساس على التعامل مع الموضوع، في ظلّ تحليلٍ نصّيٍّ قائمٍ على الرجوع إلى نصوصٍ أخرى؛ مثل: التوراة والإنجيل، وعلى ضوء تحليلٍ غيرِ نصّيٍّ عبر تفسير الموضوع؛ وفق دلالته الذاتيّة، بحسب منشئه السماويّ، وارتكازه على العلم الإلهيّ.
وأمّا في الباب الثالث فيذهب البحث إلى تحليل تفاسير المستشرقين للآيات المرتبطة بالنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تحكي عن خصائصه الفريدة؛ مثل: خاتميّة نبوّته، وكونه أمّيًّا، وكذلك الآيات التي يمكن الاستدلال منها على ميّزاتٍ خاصّة به دون غيره؛ وفي هذا السّياق ادّعى بعض المستشرقين وضع هذه الآيات من قِبَل المسلمين بعد عهده؛ مستدلّين على ذلك بأنّها غيرُ متناسقةٍ مع سياق سائر الآيات، وبعضهم استند إلى مضامينها وسياقاتها ففسّرها على غرار تفسير العلماء المسلمين.
ثلاث وجهات نظر في الرؤية الإستشراقيّة
ويمكن تسليط الضوء على التفاسير القرآنيّة المطروحة من قِبَل المستشرقين ضمن وجهات نظر ثلاث تختلف التفريعات المنبثقة من كلّ واحدةٍ منهما مع التفريعات المنبثقة من الأخرى، أي وجهات غير منسجمة، لكنّها بشكلٍ عامٍّ تعكس الأساليب والتوجّهات التفسيريّة المتعارفة بين هذه الشريحة الفكريّة:
1. وجهة النظر الأولى: تبنّى بعض المستشرقين وجهاتِ نظرٍ تفسيريّةً تتّسم بنوعٍ من الاحتياط؛ بحيث لم تكنْ لديهم رؤيةٌ إبستيمولوجيّةٌ تشاؤميّةٌ متطرّفةٌ، مثلما هو حال جون وانسبرو، وقد اعتمدوا في تفسيرهم للآيات والعبارات والألفاظ القرآنيّة على النظريّات اللغويّة والنحويّة، ولا سيّما تلك النظريّات الموروثة من علماء اللغة والنحو المسلمين القدامى، وكذلك اعتمدوا على تفاسير العلماء المسلمين؛ لكن اللافت للنظر أنّهم في معظم الأحيان سلّطوا الضوء عليها في إطارٍ نقديّ.
وقد اعتمد المستشرقون في التفسير الاستشراقيّ الذي يقوم على تفسير القرآن بالقرآن، على النصّ القرآنيّ ذاته؛ بدل اللجوء إلى القضايا الفرعيّة في التأريخ الإسلاميّ وخلال عهده الأوّل بالتحديد، حيث استندوا إلى منهج تشذيب النصّ وتغيير ترتيب حروفه وآياته، كما لجأوا إلى أساليبَ لغويّةٍ أثمرت في بعض الحالات نفي الطابع العربيّ للقرآن الكريم، كذلك صاغوا استنتاجاتهم التفسيريّة على أساس سياق معيّنٍ يتّسم بطابعٍ مسيحيٍّ يهوديٍّ؛ بحيث تكرّرت إرجاعاتهم إلى الكتاب المقدّس بشكلٍ ملحوظٍ.
2. وجهة النظر الثانية: ويمثلها تيّار استشراقيٌّ يوصف بالإصلاحيّ تعامل أتباعه مع النصّ المقدّس على ضوء منهجيّةٍ ورؤيةٍ تحليليّةٍ لغويّة ليشكّكوا به من الناحية التاريخيّة، وفي هذا السّياق نأوا بأنفسهم عن الفرضيّات المتعارفة في تأريخ الفكر الإسلاميّ، حيث لم يطرحوا قراءةً لغويّةً تاريخيّةً للقرآن الكريم، بل كانت قراءتهم لغويّةً بحتةً اتّسمت بالتخمين والتعصّب المبالغ فيه.
وجدير بالذكر أنّ القراءة اللغويّة البحتة للنصّ القرآنيّ من قِبَل هذه الشريحة من المستشرقين، فحواها أنّ هذا الكتاب السماويّ لم يظهر في منطقة الحجاز إبّان القرن السابع الميلاديّ بشكله المتعارف اليوم، وإنّما تبلور في العراق خلال القرن التاسع الميلاديّ؛ لذا فهو بحسب هذه الرؤية ليس تأريخًا بحدّ ذاته، بل انعكاسًا لمرحلةٍ تاريخيّةٍ؛ ولدى تحليلهم مداليل النصّ القرآنيّ استندوا في غالبيّة الأحيان إلى الكتاب المقدّس والتعاليم اليهوديّة.
هذا يعني حسب المؤلّفة أنّ فهم مدلول النصّ القرآنيّ في رحاب الكتاب المقدّس أو على أساس البحوث التي دُوّنت بخصوص هذا الكتاب، يسفر عن طرح آراء اختزاليّةٍ بطبيعة الحال؛ أي تقليص نطاق المعنى القرآنيّ ضمن مفاهيمَ ضيّقةٍ تدور في فلك عبارات العهدين؛ وهناك العديد من المحاولات البحثيّة التي لجأ المستشرقون فيها إلى تخميناتٍ وتصوّراتٍ غيرِ واقعيّةٍ قائمةٍ على رؤيةٍ وضعيّةٍ، هادفين من ورائها إلى بيان غرض كاتب النصّ القرآنيّ، وفي هذا السّياق برّروا عدم اتّساق بعض مفاهيم النصّ القرآنيّ مع مفاهيم نصّ الكتاب المقدّس بأسبابٍ عدّة، من جملتها ما يلي:
ـ الزعم الباطل بأنّ النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في خطأٍ؛ وذلك بسبب عدم امتلاكه فهمًا تامًّا لمضمون الكتاب المقدّس.
ـ رواج تصوّراتٍ ومعتقداتٍ خاطئةٍ بين عوامّ اليهود والنصارى في المدينة (يثرب).
ـ الفراغ العقديّ الذي واجهه المسلمون خلال الفترة التي تلت صدر الإسلام.
إضافةً إلى أسباب أخرى، حيث اعتبروها عواملَ أساسيّةً في الاختلاف الكائن بين القرآن والعهدين.
وأمّا أهمّ نقاط الضعف التي يؤاخذ عليها هؤلاء، فيمكن تلخيصها بما يلي:
ـ تبنّي رؤيةٍ تفسيريّةٍ محدودةِ الأطر.
ـ عدمِ الاهتمام كما ينبغي بسياق الكلام.
ـ خضوعٍ غيرِ مبرّرٍ لفرضيّاتٍ منبثقةٍ من توجّهاتٍ اعتقاديّةٍ وتحليل النصّ على أساسها؛ مثل: الاعتقاد بأفضليّة الكتاب المقدّس على القرآن الكريم.
فضلًا عن نواقصَ ونقاطِ ضعفٍ أخرى.
أما وجهة النظر الثالثة: فتتمثل بوجود تيّار فكريٌّ تعديليٌّ (تنقيحيٌّ) Revisionist يتبنّى المنضوون تحت قوام مظلّته استنتاجاتٍ لمفاهيم الكتاب المقدّس والتعاليم اليهوديّة في أغلب الأحيان، ويتطرّقون إلى تحليل المضمون القرآنيّ بأسلوبٍ لغويٍّ بحتٍ، ومعظم آرائهم عبارةٌ عن تخميناتٍ وفرضيّاتٍ ظنّيّةٍ تتّسم بالتعصّب. وجدير بالذكر أنّ بعض الاختلافات العجيبة الموجودة بين النصّ القرآنيّ ونصوص العهدين أثّرت على المتبنّيات الفكريّة للمستشرقين الغربيّين؛ بحيث تجاهلوا الفرضيّات والأسس الفكريّة المتعارفة في العالم الإسلاميّ على مرّ التأريخ، واعتمدوا على أسسٍ إبستيمولوجيّةٍ يهوديّةٍ في استنباط الدلالات القرآنيّة على ضوء شواهدَ خارجةٍ عن النصّ؛ فحواها أنّ القرآن الكريم ولد وترعرع في بيئةٍ طائفيّةٍ تطغى عليها النزعة اليهوديّة؛ لدرجة أنّهم أنكروا بعض الحقائق الثابتة التي لا يشوبها أدنى شكٍّ أو تردّدٍ.
استخلاصات إجماليّة
النتائج العامّة التي توصلت إليها الباحثة تندرج ضمن مجموعة من الاستخلاصات نشير في ما يلي إلى أبرزها:
أوّلًا: يشكّل الأسلوب الظاهراتيّ -الفينومينولوجيّ- (phenomenology) أحد أبرز الأساليب التي شاعت مؤخّرًا على صعيد دراسة واقع الإسلام والمسلمين وتحليلها، وعلى هذا الأساس اعتُبِر الإسلام ظاهرةً، والمسلمون بدورهم جزءًا لا ينفكّ عنها.
ثانيًا: الدراسات التي دوّنها الباحثون الغربيّون في تفسير النصّ القرآنيّ، يمكن تصنيفها ضمن تيّارين أساسيّين؛ هما:
أ. تيّار تفسيريٌّ تقليديٌّ (Traditionalist) وهو التيّار الغالب في الدراسات الغربيّة.
ب. تيّار تفسيريٌّ تجديديٌّ (تعديليٌّ) (Revisionist)، والباحثون الذين ينضوون تحت مظلّة التيّار الأوّل جعلوا بنية النصّ القرآنيّ محورًا لدراساتهم، وفي هذا المضمار اعتمدوا على أسلوبٍ لغويٍّ وتحليلٍ نصّيٍّ -تناصٍّ- في رحاب التأريخ وفقه اللغة، لدى بيانهم مسألة تكوين النصّ القرآنيّ، وحين استقصائهم العلاقة الرابطة بينه وبين تعاليم الكتاب المقدّس وما تلاه.
ثالثًا: يعتقد المستشرقون أنّ القرآن الكريم نادرًا ما ينقل قصص الكتاب المقدّس بحذافيرها، فهو برأيهم ذكر تفاصيلَ توضّح هذه القصص ضمن إطارٍ تفسيريٍّ جديدٍ؛ وحاول تعريف مخاطَبيه بما جرى فيها على ضوء تصويره شخصيّات الكتاب المقدّس نفسها وفق أساطير الأناجيل المنتحلة -أبوكريفا- وحكاياتها والنصوص اليهوديّة المسيحيّة غير الرسميّة.
رابعًا: التعالق النصّيّ -التناصّ- برأي معظم المستشرقين أكثر ما يكون شبيهًا بنظريّة التأثير والاقتباس المطروحة من قِبَل هارولد بلوم، لكنّ هذا الرأي لا يشبه نظريّة التناصّ المطروحة من قِبَل الباحثة جوليا كريستيفا وسائر الباحثين الذين تبنّوا آراء ميخائيل باختين.
خامسًا: الآراء التفسيريّة التي تبنّاها غالبيّة المستشرقين الذين تطرّقنا إلى بيان وجهات نظرهم في هذا الكتاب تقوم على مسألة التناصّ، حيث فسّروا الألفاظ والعبارات القرآنيّة وفق مبدأ التعالق النصّيّ؛ وهذا التوجّه في الحقيقة يعدّ استثمارًا نفعيًّا لهذا المنهج التفسيريّ؛ وهو يجسّد تعارضًا بين النظريّة والعمل.
سادسًا: الأسلوب الوضعيّ والاختزاليّ المتّبع من قِبَل المستشرقين إزاء النصّ القرآنيّ، جعل القرآن الكريم عرضةً للنقد والاعتراض حين مشاهدة أوجه التشابه بينه وبين الكتاب المقدّس ضمن موارد الاختلاف في ما بينهما، أو ضمن موارد اختلافه مع النصوص الفرعيّة اليهوديّة المسيحيّة.
سابعًا: أتباع تيّار الفكر الإصلاحيّ تحدّوا النصّ المقدّس، حيث حرّروا أنفسهم من الفرضيّات التقليديّة المتعارفة في التأريخ الإسلاميّ، على ضوء اتّباع أسسٍ تحليليّةٍ ومنهجيّةٍ لغويّة، وفي هذا المضمار لم تعتمد دراساتهم وبحوثهم التفسيريّة على قراءاتٍ تاريخيّةٍ ولغويّةٍ، بل تعاملوا مع النصّ القرآنيّ بأسلوبٍ لغويٍّ بحتٍ، ومن ثمّ فسّروا الآيات وفق ظنونٍ وتخمينات لا أساس لها من الصحّة، متّبعين نهجًا متطرّفًا للغاية.
ثامنًا: حينما نمعن النظر في التفاسير التي تبنّاها هؤلاء المستشرقون، يتّضح لنا أنّ دعوة التغيير (Revisionism) التي تُطرَح من قِبَلِهم تتّسم -أحيانًا- برغبةٍ جامحةٍ في تجاهل حقائقَ ثابتةٍ لا غبار عليها، حيث يسعون من وراء ذلك إلى الترويج لعقيدةٍ خاصّة.
تاسعًا: لا شكّ في أنّ الفرضيّات الظنّيّة القائمة على التصوّر والتخمين ليس من شأنها إقناع الطرف المقابل، بل تُعَدّ سببًا أساسًا لتشويش الذهن وتشتيته، كما أنّ أتباع التيّار الفكريّ الإصلاحيّ الذي ظهر في الدراسات الاستشراقيّة المتأخّرة، لم يتقيّدوا بالحدود المنطقيّة للتصوّر والظنّ حين البحث عن الحقائق، وهذا الأمر مشهودٌ في دراساتهم وبحوثهم؛ ومثال ذلك: وصفهم بعض القصص التاريخيّة المنقولة في النصّ القرآنيّ، بأنّها مجرّدُ أساطيرَ لا غير؛ في حين أنّ صياغتهم الجديدة للتأريخ - وهي في الحقيقة مجرّد تصوّراتٍ- تقوم برأيهم على شواهدَ تاريخيّةٍ متقنةٍ، وتعدّ أكثرَ انسجامًا مع الأسس العقليّة!
عاشرًا: غفل هؤلاء المستشرقون عن أنّ الله -تعالى- يبعث نبيًّا جديدًا إلى الناس بعد أنْ يُعرِضُوا عن النصّ المقدّس الذي كان بين أيديهم ويتحيّرون في متاهات الضلال، إذ الهدف من هذه البعثة هو هدايتهم في رحاب كتابٍ مقدّسٍ نزلت ألفاظه ومعانيه، أو معانيه -فقط-، على أقلّ تقديرٍ، عن طريق الوحي؛ ليكون نبراسًا تهتدي به الأجيال اللاحقة، وسدًّا منيعًا؛ كي لا يضلّوا من جديدٍ.
حادي عشر: الغالبيّة العظمى من المستشرقين الذين ذكرنا آراءهم ونظريّاتهم في هذا الكتاب، لم يوضّحوا المعالم الأساسيّة لنهجهم التفسيريّ، فضلًا عن أنّهم لم يوضّحوا مقصودهم من النهج التفسيريّ القائم على مبدأ التناصّ لدى تفسيرهم النصّ القرآنيّ؛ لذلك نراهم -أحيانًا- يخوضون في فوضًى منهجيّةٍ ضمن طرح وجهات نظرهم؛ لكنْ مع ذلك هناك مستشرقون وضّحوا منهجيّاتهم التي اعتمدوا عليها في تدوين دراساتهم القرآنيّة؛ مثل: أنجليكا نويورث، ونيكولاي سيناي، وأوري روبين، وحتّى غابريال سعيد رينولدز إلى حدٍّ ما.
ثاني عشر: إحدى الشبهات التي يتشبّث بها التيّاران الفكريّان الاستشراقيّان في مجال تفسير الألفاظ والعبارات القرآنيّة؛ هي أنّ التفاسير التي طرحها غالبيّة المفسّرين المسلمين ليست معتبرةً، بل منبثقةً من دوافعَ عقديّةٍ.
ثالث عشر: يعدّ السّياق أفضل مرشدٍ نتمسّك به لمعرفة مراد المتكلّم، لذا تتعدّد -أحيانًا- مصاديق إحدى المفردات؛ بحيث تصبح مشتركًا لفظيًّا، كما أنّه من المتعارف في الاستعمال اللغويّ اللجوء إلى الاستعارات والألفاظ المجازيّة؛ وهذه الأمور موجودةٌ -أيضًا- في النصّ القرآنيّ؛ لذا يأتي الدور -هنا- إلى السّياق، إذ بإمكاننا الاعتماد عليه لمعرفة المصداق الذي يقصده المتكلّم أو المعنى الذي يريده، كذلك يعيننا على معرفة ما إنْ كان اللفظ مستعملًا بصيغته الحقيقيّة أو المجازيّة.
رابع عشر: في مطلع القرن العشرين شهدت الأوساط الفكريّة الغربيّة اهتمامًا بالغًا بالدراسات التحليليّة النقديّة، وقد انعكست تداعيات هذه الظاهرة في التراث الفكريّ لبعض المستشرقين؛ من أمثال: ألفيس شبرنغر، وويل ديورانت، وهرتفيك هرشفلد، وفي هذا المضمار فنّدوا بعض روايات السيرة؛ باعتبار أنّها اقتُبست وطُوّرت في رحاب القصص والمواعظ الموجودة في الأسفار الخمسة؛ فهي -برأيهم- مجرّد اقتباسٍ منها؛ وهذه الرؤية تبلورت في الآراء التفسيريّة الاستشراقيّة التي ظهرت بين الأوساط الفكريّة الاستشراقيّة في المنتصف الثاني من القرن العشرين والفترة التي لحقته، حيث فسّروا القصص والألفاظ والعبارات القرآنيّة على أساس توجّهٍ من هذا القبيل.
خامس عشر: لا تقتصر نقاط الضعف في التفاسير الاستشراقيّة على تجزئة الآيات القرآنيّة وتجاهل السّياق، بل هناك مؤاخذةٌ أخرى تَرِد عليهم؛ وهي: تجزئتهم المواضيع القرآنيّة؛ ومثال ذلك: ما ذكرناه في الباب الثالث من الكتاب، إذ على ضوء مساعيهم الرامية إلى إثبات أنّ النبيَّ محمّدًا ليس خاتم الأنبيّاء والمرسلين، تطرّقوا إلى تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب ضمن المباحث الخاصّة بالإرث، وادّعوا بهذا الصدد أنّ المسلمين قد حرّفوا النصّ القرآنيّ.
سادس عشر: الاستدلالات التي تمسّك بها المستشرقون تضرب بجذورها في النظريّات المطروحة من قِبَل الباحثين الغربيّين، فهذا الأمر مشهودٌ في النهج التفسيريّ الذي ذكروا آراءهم في رحابه، إذ غالبًا ما نجد أحد المستشرقين يستند في رأيه التفسيريّ إلى النظريّات الشائعة في الأوساط الغربيّة.
سابع عشر: هناك بعض الحالات التي نلمس فيها أنّ المستشرق؛ جرّاء عدم إلمامه باللغة العربيّة ودقائقها؛ مثل: الاستعارة، والتشبيه، والكناية، والمجاز...، يتبنّى رؤيةً تفسيريّةً خاصّة.
ثامن عشر: هناك كلامٌ للمستشرق البريطانيّ آرثر آربري حول الترجمات التي قام بها المستشرقون للنصّ القرآنيّ، يصدق على التفسير الاستشراقيّ للألفاظ والعبارات القرآنيّة؛ حيث قال: إنّ الترجمة الأولى للقرآن دُوِّنَت في أوروبا إبّان القرن الثاني عشر الميلاديّ، لكنّها اتّسمت بعدم الدقّة وعدم فهم مضمونه بشكلٍ صحيحٍ، لذا فالبنية الفكريّة الأولى التي تقوم عليها التفاسير الاستشراقيّة كانت تَنْهَلُ مِنْ هذه الترجمة السقيمة، لكنْ في ما بعد اتّسمت التفاسير الاستشراقيّة تدريجيًّا بنهجٍ أكثرَ واقعيّةً وانسجامًا مع التفاسير الإسلاميّة.
أخيرًا: لا شكّ بأن تفسير القرآن الكريم من قِبَل المستشرقين هو ظاهرةً مستحدثة ترافقت إجمالًا مع بدايات الاستشراق الأوروبيّ، لكنّ التفاسير التي دوّنوها قليلة جدًّا، والميزة الفارقة لها أنّ أساليب البحث المعتمدة فيها على نسق الأساليب المتّبعة في تفسير الكتاب المقدّس، فضلًا عن ذلك، فالآثار الاستشراقيّة المدوّنة حول القرآن الكريم في الحقبة الأخيرة قامت بشكلٍ أساس على منهجيّة العلوم الإنسانيّة والمعطيات التي تمّ التوصّل إليها في مضمار هذه العلوم من قِبَل العلماء والمفكّرين الغربيّين، وهذا الأمر جليٌّ بوضوحٍ في غالبيّة البحوث التفسيريّة الاستشراقيّة، وخلاصة كلامهم أنّ القرآن الكريم عبارةٌ عن نصٍّ أدبيٍّ -لغويٍّ يمكن أن تطبّق عليه جميع الأساليب المعرفيّة المتّبعة في الثقافة الغربيّة من شتّى الجوانب المادّيّة والاعتباريّة؛ سواء أكانت هذه الأساليب أسطوريّةً أو واقعيّةً أو تاريخيّةً أو فلسفيّةً، فهي قابلةٌ للتطبيق على النصّ القرآنيّ، وعلى هذا الأساس أكّدوا على عدم وجود اختلاف بين تفسير الآيات القرآنيّة وشرح مقاطع التوراة والإنجيل وسائر النصوص الأدبيّة غير الدينيّة.
الكتاب: النصّ القرآني- التفسير الاستشراقيّ للنصّ القرآنيّ في النصف الثاني من القرن العشرين.
المؤلف: فاطمة سروي.
المترجم: أسعد مندي الكعبي.
الناشر: المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة - بيروت/ العراق، 2020.