البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

"نحن والتغريب" دراسات في نقد الاستتباع للنسقِ الحضاريّ الغربيّ

الباحث :  نعيم تلحوق
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  30
السنة :  ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2023
عدد زيارات البحث :  545
تحميل  ( 590.149 KB )
يتضاعف الجدل على نحو لافت حين يحتدم النقاش حول الآثار الثقافيّة والحضاريّة المترتّبة على التمدّد الاستعماريّ بأشكاله المختلفة، وخصوصًا حين يجري الحديث عن إشكاليّة التغريب بمفاهيمه وأبعاده المتعدّدة، ولعل أكثر ما شهدته المجادلات من حيويّة وتوسّع هي تلك التي بدأت ارهاصاتها بين نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين مع توسُّع الحركة الاستعماريّة الغربيّة نحو الشرق. ومن المعروف أنّ هذه الإرهاصات ظهرت على نحو متعدّد الأشكال والتداعيات: من التغريب السياسيّ – الفكريّ، إلى التغريب الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. أمّا الغاية الكبرى من فهم الظاهرة التغريبيّة، فهي السعي نحو بلورة وعي نهضويّ يؤسّس لمواجهات حقيقيّة لإستراتيجيّات الهيمنة الكولونياليّة الغربيّة القديمة والحديثة.
مناسبة هذه المطالعة التمهيديّة كتاب صدر حديثًا عن المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة تحت عنوان «نحن والتغريب»، وهذا الكتاب يندرج ضمن سلسلة إستراتيجيّات معرفيّة التي يصدرها المركز، وقد احتوى أربعة عشر دراسة تناقش فكرة التغريب بمفاهيمها وأبنيتها المعرفيّة ومصطلحاتها، وما يدور حولها من جدل مديد طاول أبعادها السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة والثقافيّة.

في ميدان تأصيل مفهوم التغريب نقرأ مجموعة أبحاث وآراء حول الاختلافات المفهوميّة للتغريب، أهمّها وأبرزها دراسة مقارنة بين آراء أحمد فرديد وجلال أحمد (محمود مقدّس والدكتور أحمد ساعي الإيرانيّان)، وتركّزت على كون التغريب إحالة تاريخيّة للشرق، وعلى اعتبار الحداثة والمكننة هي أحد عوامل زوال الهويّة، ثمّ إلى موضوعات شتّى من التغريب إلى عدم التنمية، ومن الفلسفة إلى التنوير(محمّد تقي الطباطبائيّ)، إلى فكرة التغريب والاستشراق كتشويه القيم وتصنيع الوعي تبعًا لإستراتيجيّات السيطرة الغربيّة (خضر إبراهيم حيدر)، إلى مقارنة بين رؤية جلال آل أحمد ومصطفى لطفي المنفلوطي، (رضا فرحتي جويباري وفاطمة رحيمي)، إلى التغريب الأكاديميّ لرؤية تحليليّة نقديّة في الاستتباع المعرفيّ للغرب (ثريا بن مسمية)، إلى الإمبرياليّة السياحيّة واخفاقات الحداثة الغربيّة في البلاد العربيّة (عادل الوشَّاني)، إلى مقالة بعنوان «التطوّر المنشود لعالمنا الإسلاميّ ليس تغريبًا ولا تحديثًا، للدكتور بهاء درويش... ثمّ معنى التغريب وتاريخه في العالم الإسلاميّ الحديث والمعاصر (د.غيضان السيّد علي)، إلى عوامل التغريب في العالم الإسلاميّ (سارة دبوسي)، ومعالم التغريب في الثقافة الغربيّة وتأثيرها على قيمنا الأخلاقيّة والحضاريّة (عبد الخالق الغزّاوي)، إلى مقالة حول تيّارات التغريب في العالم الإسلاميّ الحديث والمعاصر (رمضان خلق محمد رسلان)، ويختم الكتاب عناوينه بمبحث بعنوان: «أوروبا البلاد التونسيّة في دولة الاستقلال» (لمحمد بشير رزاقي)، ويعرض فيها الكاتب إلى الحياة الريفيّة اليوميّة في تونس والتغريب.
من الجدير بالذكر أنّ الدراسات والموضوعات التي طَرَقها الكتاب الجماعيّ تشكّل مساهمة في رفد مشروع إستراتيجيّ معرفيّ كبير يعكف عليه المركز منذ سنوات، وغايته التأسيس لعلم الاستغراب. وحسب مقدّمة المركز فإنّ هذا المشروع يهدف إلى رسم خريطة طريق لوضع إستراتيجيّة معرفيّة بعيدة المدى للتعامل مع الغرب والتعرف إلى أزماته ومشكلاته المعرفيّة والثقاية والحضاريّة، والتي لم يعد الغرب قادرًا على تجاوزها، في حين يمضي ببسط نفوذه وقيمه في جميع أرجاء المعمورة. تنطلق إستراتيجيّة التأسيس المشار إليها من فرضيّة مبدئيّة تقوم على أنّ حضارة الغرب ليست هي الحضارة المتكاملة من جميع الجوانب، أو أنّها الحضارة الوحيدة التي ستبقى إلى الأبد، أو أنّها صالحة لكلّ زمان ومكان. فالتحوّلات التي شهدها العالم مع بداية القرن الحادي والعشرين أثبتت بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ هناك حضارات عالميّة لها قيمها ومُثُلها الخاصّة، تعيش إلى جانب الحضارة الغربيّة بل وتنافسها ثقافيًّا وجغرافيّا وسياسيًّا وحضاريًّا. وهذا ما حمل بعض مفكّري الغرب إلى طرح نظريّة صراع الحضارات. وصراع الحضارات هو في الواقع صراع ثقافيّ فكريّ معرفيّ قبل كلّ شيء، إذ الصراع العسكريّ لم يكن صراعًا مستمرًّا، بل به نقطة بداية ونهاية، كما في جميع الحروب التي شهدتها البشريّة، أمّا الذي يدوم ويستمرّ فهو الصراع الثقافيّ والهيمنة المعرفيّة والعلميّة؛ ولذا كان على العقل الغربيّ أن يتّخذ الوسائط الفكريّة والثقافيّة لتحقيق هيمنة الغرب الكاملة على الشرق، ولا سيّما العالم الإسلاميّ.

وحدة الغاية وتنوّع زوايا النظر
لدى قراءة الدراسات والبحوث التي شارك فيها عدد من الباحثين المتخصّصين من العالمين العربيّ والإسلاميّ، ستطالعنا بوضوح وحدة الهدف والغاية من إعداد هذا الكتاب، وذلك على الرغم من اختلاف العناوين ووجهات النظر التي تناولت أطروحة التغريب. وفي ما يلي نعرض إلى أبرز هذه الدراسات وما تضمّنته من أفكار ورؤى ومقاربات.
في دراسته التي جاءت تحت عنوان: «التغريب هو الوجه الآخر للهيمنة الغربيّة» حقبة الخلافة العثمانيّة نموذجًا يؤسّس الباحث الإسلاميّ الدكتور هاشم الميلاني مقاربته على أنّ البدايات الفعليّة للتغريب حصل في العالم الإسلاميّ مع نهايات السلطنة العثمانيّة والتكيُّف الشامل الذي قامت به العلمانيّة التركيّة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. وهكذا تقوم الدراسة على إجراءات تطبيقيّة للتغريب على حقبة الخلافة العثمانيّة في أواخر عقودها، حيث يتركّز البحث على الآليّات التي استطاع فيها الغرب الكولونياليّ من الدخول إلى المجتمعات الإسلاميّة عبر أجهزة الدولة العثمانيّة والسفراء والنخب والمثقّفين والتيّارات والأحزاب إلى الصحافة والترجمة ونظام التعليم والفنّ، ثمّ إلى ما يسمّيه الباحث تغريب المنظومة السياسيّة والاقتصاديّة... ومن البيِّن أن كلّ هذه العناوين أخذت تطرح إشكاليّة غلبة الغرب على مؤسّسات الشرق... إن لم نقل على عقله... وفي سياق تحليله للتجربة التركيّة بعد سقوط الدولة العثمانيةّ أنّ عوامل التغريب أنتجت معالم استتباعيّة مسّت الدولة والاقتصاد والمجتمع، حتّى أنّ الدين لم يسلم من الغربنة وتداعياتها. ويرى الباحث أنّ نموذج الدولة العثمانيّة خير دليل ملموس على فشل الآراء والنظريّات التي ترى أنّ التقدّم والرقيّ يحصل باقتفاء النموذج الغربيّ؛ إذ إنّ هذا لو كان متاحًا وصحيحًا لما انهارت الدولة العثمانيّة التي سعت بكلّ جهدها إلى اللهاث وراء الغرب واقتفاء أثره، حتّى أنّ علمانيّة أتاتورك الصارخة لم تكن شفيعة لتركيا كي تدخل في حقل الدول الأوروبيّة وتلحق بهم، بل بقيت محسوبة على دول الشرق الأوسط المصنّفة ضمن العالم الثالث، وعليه فقد بات سراب الغرب مكشوفًا أمام الناظرين، حيث إنّه لا يزيد الظمآن إلّا عطشًا ولَهاثًا.
ولعلّ أبرز الخلاصات التي انتهى إليها البحث هي أنّ ما يحتاجه العالم الإسلاميّ اليوم في سبيل إعادة نهضته ليس هو نفي الغرب بتاتًا ولا هو التغريب، بل الاعتماد على النفس، وتفعيل الطاقات الكامنة في جسد الأمّة، مع الاستفادة من آخر ما توصّل إليه العلم، ومحاولة الإسهام فيه؛ إذ العلم ليس حكرًا على أحد وكذلك المعرفة والإبداع، بل هو متاح للبشر جميعًا، ولكن تحصيله يحتاج إلى تفعيل وجهد ومثابرة؛ إذ «ليس للإنسان إلّا ما سعى». وكأنّما غاب عنّا أنّ الانفتاح على العالم من حولنا والانتفاع بثقافاته وعلومه أمر، وأنّ نفي الذات وتغيير الجلود والاغتراب في الآخر أمر آخر. فعندما نأخذ ونقتبس من الآخر، لا نبقى أمامه مكتوفي الأيدي، منبهرين، بل نشاطره الرأي والإبداع، ونستفيد لنضيف إلى عجلة العلم جديدًا، فنحن لا نتحرّج في التعلّم من أحد لتحصيل العلم والمعرفة -شرقًا أو غربًا- إنّما لا نريد أن نبقى تلاميذ إلى الأبد.!
تحت عنوان «الأمركة بوصفها تغريبًا للعالم» يحدّد الباحث الدكتور محمود حيدر، إطارًا للتغريب يقوم على اعتبار التجربة الأميركيّة هي النموذج الغربيّ الأكثر قدرة من النموذج الاستعماريّ الأوروبيّ على ممارسة التغريب وتحويل أنماط الحياة في البلدان التي تجري فيها وقائع الهيمنة بأشكالها الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة، فبعد أن يشرّح حيدر ماهيّة أميركا وهويّتها كونها أمبراطوريّة فوق العالم، يحرّك الكاتب مفهومي الأمركة وفلسفة الحرب على الغير، ومسار تغريب العالم... إلى النزعة القوميّة وأثرها في أمركة العالم وبالصوت والصورة يختم بنقديّة شاملة لأمركة العالم (ص151)، حيث اعتبر أنّ التاريخ الأميركيّ يظهر كشريط متّصل عنوانه الكلّيّ أمركة العالم عبر آليّات قهريّة متعدّدة الأشكال؛ لأنّ أطروحتها الإيديولوجيّة بدأت بالهيمنة والاستعلاء، ثم ما لبث أن عصف الوهن بها في مطالع القرن الحادي والعشرين بعدما أصبحت إدارة العالم بقوة الحديد والنار عبئًا عليها، بل عبئًا يفوق قدراتها، دون أن ينفي أنّ الغريزة الأيديولوجيّة لا تزال كامنة في الروح الأميركيّة (ص101).

التقنيّة كعامل تغريب
تعدّ القضيّة التقنيّة وتطوّراتها المذهلة من أبرز العوامل التي ساهمت في تغريب المجتمعات الشرقيّة. في هذا السياق يبيِّن البحث المقارن بين رؤية كلّ من المفكّرَين الإيرانيَّين جلال آل أحمد وأحمد فرديد مدى التباين بين المفكّرَين حول حقيقة التغريب.
يرى جلال آل أحمد أنّ معيار الفصل بين المجتمعات الحديثة وغير الحديثة -الشرق والغرب- يكمن في الآلة. وبعبارة أخرى: إنّ الميزة البارزة للغرب تكمن في امتلاك هذا الغرب لآلات وأدوات إنتاج البضائع بواسطتها؛ في حين أنّ الشرق يفتقر إلى أدوات الإنتاج ويمتلك المواد الخام. ويذهب آل أحمد إلى الاعتقاد بـ«أنّ البحث لا يدور حول نبذ الآلة... فإنّ استحواذ الآلة على العالم يعدّ جبرًا تاريخيًّا. إنّما البحث يكمن في أساليب التعاطي والتعامل مع الآلات والتكنولوجيا».

ولا شكّ فإنّ الإضاءة على الاختلافات المفهوميّة للتغريب بين آراء أحمد فرديد وجلال آل أحمد يعني أنّ الشعوب المفتقرة إلى أدوات الإنتاج، تفقد هويّتها التاريخيّة والثقافيّة أمام الهجوم الكاسح والقهريّ لهذه الأدوات، وتتحوّل إلى بضاعة لهذه الأدوات والآلات الغربيّة وحسب، حيث إنّ هذا هو مراده الأصليّ من التغريب؛ إذ: «إنّنا لم نستطع الحفاظ على شخصيّتنا (الثقافيّة/ التاريخيّة) في قبال الآلة وهجومها الجبريّ الكاسح. وإنّما ذبنا فيها... وكلّ الكلام يكمن في أنّنا ما دمنا غير مدركين لماهيّة حضارة الغرب، وأساسها وفلسفتها، واكتفينا بمحاكاة الغرب على المستوى الظاهريّ... فسوف نكون تمامًا ذلك الحمار الذي تقمَّص شخصيّة الأسد». ومع ذلك فإنّ جلال آل أحمد يرى أنّ التغريب -بمعنى سيطرة الآلة على الإنسان الشرقيّ- يقوم على أصلين بديهيّين؛ اأاصل البديهيّ الأوّل: هو «أنّنا ما دمنا مستهلكين وحسب، وما لم نصنع الآلة بأنفسنا، فسوف نبقى مستغربين... وعندما نصنع الآلة سوف نُصاب بداء المكننة». والأصل البديهيّ الآخر: يقوم على «أنّ الغرب عندما يُطلق علينا عنوان (الشرق)/ يكون قد استيقظ توًّا من نومه الشتويّ القروسطيّ». وبالتالي لم نعرف ما إذا كان يتعيّن على الإنسان الشرقيّ أن يستخدم الآلة أم لا. من الواضح أنّ جلال آل أحمد برغم اعتباره التكنولوجيا أمرًا لا بدّ منه، ولكنّه يمقتها ويبغضها.

يسعى جلال آل أحمد في كتابه (كارنامه سه ساله) إلى تقديم صورة واضحة عن التغريب؛ حيث يعمّ في هذا الكتاب صراحة إلى تعريف مفهوم التغريب، قائلًا: «إنّ التغريب يعني عوارض العلاقة الاقتصاديّة الخاصّة (والسياسيّة قطعًا) القائمة بين هاتين المجموعتين من البلدان الشرقيّة والغربيّة، وهي ليست من نوع العلاقة التبادليّة، أو العلاقة القائمة على عقد ملزم لطرفين. بل هي نوع من العلاقة التي تقوم بين العبد والسيّد». ومن ناحية أخرى، يقول جلال آل أحمد: «إنّي أسمِّي هذه العلاقة بالتغريب... ومن هنا فإنّ البحث يدور حول ما اذا كانت هذه العلاقة قابلة للاستمرار أم لا».
وعلى الرغم من اعتقاده أنّ الآلة جزء من المصير الجبريّ والقهريّ المفروض على الإنسان الشرقيّ، إلّا أنّه يؤمن من ناحية أخرى بأن الشاري والبائع لهذه الآلة شخص واحد «بمعنى أنّ الغرب نفسه هو الذي يحدّد سعر بيع المواد الخام وشرائها... وبعبارة أخرى: إنّ الغرب هو الذي يحدِّد مصير السوق العالميّة». ومن هنا يسعى جلال آل أحمد جاهدًا إلى البحث عن مهرب للخلاص من ربقة هذه التبعيّة، كي يضع حدًّا لهذا المصير المحتوم. «أرى أنّ هذا التغريب دائرة مغلفة، ويجب العمل على فتحها مهما أمكن»[2].

هذه الإشكالية نفسها سنجدها أيضًا كحقل ثري للمقاربة والنقاش من خلال دراسة مقارنة بين أعمال مصطفى لطفي المنفلوطي المصريّ، وجلال آل أحمد الإيرانيّ، حيث رأى كلاهما أنّ نجاة شعبيهما وازدهارهما رهنٌ بالعودة إلى الدين الإسلاميّ الحنيف، وكلاهما يرى أنّ التغريب هو السبب الرئيس في انحطاط الأوضاع وانهيارها في كلّ من مصر وإيران. فالمنفلوطي يقبل بالمنتج الغربيّ ما لم يتنافى مع الإسلام وتعاليمه، أمّا جلال آل أحمد فيذهب في تحليلاته إلى اعتبار التغريب آفة، كسوسة القمع والوباء أو الطاعون، ولكنّه يلتقي مع المنفلوطي في أنّ المنتجات الغربيّة والمعطيات ليست كلّها سيّئة أو ضارّة، وإنّ علينا في مواجهة الغرب العمل على أخذ العناصر النافعة والمفيدة من الحضارة الغربيّة، من قبيل الماكنة والتكنولوجيا والعلوم التجريبيّة والتقنيّة والديمقراطيّة الجوهريّة على صورتها الأصوليّة.. وأمّا سائر الموارد الأخرى، فإنّها لا تجدينا شيئًا ولا تضمد جراحنا، بل تعمل على تدمير مجتمعنا وثقافتنا، وعلينا اجتنابها ورفضها جملة وتفصيلًا (رضا فرحتي جيباري وفاطمة رحيمي دون).
ثمّة في كتاب «نحن والتغريب» بعض النقاط التي لا بدّ من التقاطها لدى بعض المشاركين، فالكاتب السوريّ نبيل علي صالح أحاط اللثام عن مفهوم التغريب في لسان العرب عند ابن منظور، مستخدمًا المعنى اللغويّ بدقة، وليذهب به إلى الإصطلاح الفكريّ والسياسيّ الذي استخدمه المثقفون والنخب من المحدَثين: (الغربة والغرب... النزوح عن الوطن، والاغتراب... غرّبه وأغربه: نحَّاه وصرفه/ التغريب: النفي عن البلد، أي المنفى... التغريب هو المنفى)... (ص110). هذا في المعنى اللغويّ–الثقافيّ، أمّا في المعنى الفكريّ الإصطلاحيّ، فنرى أنّ التغريب والاستشراق كما يبحث خضر حيدر في فهم العلاقة بين الغرب والإسلام بوصف الإسلام شرقًا، أي أنّ التعريب الفرنسيّ للتغريب هو ما «جعل الشرق تابعًا للغرب في الثقافة وأساليب العيش وطرائق التفكير»، ويذهب إلى دلالة أنّ الفهم الأكثر مطابقة لمعنى الاستشراق هو الذهنيّة التي تترجم فهم الغرب للشرق من دون أن يكون للشرق حرّيّة التعريف بنفسه كما هي في الواقع، حيث يستشهد الكاتب حيدر بالمفكر أدوارد سعيد الذي يقول: «إنّنا لم نكتنه الاستشراق بوصفه إنشاءً، فلن يكون بوسعنا أبدًا أن نفهم الفرع المنظّم تنظيمًا عاليًا، والذي استطاعت الثقافة الغربيّة عن طريقه أن تتدّبر الشرق، حتى أن تنتجه سياسيًّا، اجتماعيًّا، عسكريًّا، عقائديًّا، علميًّا، وتخيّليًّا».

إذًا، يتجسَّد الصراع بين الغرب والشرق (والذي هو صراع حضاريّ) بين هويّات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، وهو ما سعى الغرب في عملية الاستشراق أن يوجده بغية السيطرة على الشرق الذي من ضمنه الحاضرة الإسلاميّة... وهذا ما يؤكّد عليه إدوار سعيد في كتابه الاستشراق حين يقول ما يلي: «إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة انطلاق محدّدة تحديدًا تقريبًا، فإنّ الاستشراق يمكن أن يناقش ويحلّل بوصفه المؤسّسة المشتركة للتعامل مع الشرق.. أي التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وتدريسه والاستقرار فيه، وامتلاك السيادة عليه» (ص198). وتبعًا لهذا المسار تحتدم العلاقة بين الشرق والغرب، وخاصّة بين الإسلام والعالم الغربيّ على أساس المصلحة العليا للجهة المسيطرة، ويمكن ضمن هذا النطاق، إيجاد مسوِّغات دينيّة وثقافيّة وعرقيّة واجتماعيّة وسياسيّة لطرح فكرة الاستعمار، حيث يبقى الغرض نهب الخيرات الطبيعيّة للجهة المُسيطر عليها بوضع اليد على مصادرها الاقتصاديّة والطبيعيّة، تارة باسم الاضطهاد الدينيّ، وطورًا باسم الإصلاح السياسيّ الاجتماعيّ.. وهو ما ابتدعه ميكافيل في كتابه «الأمير» عبر إباحة المحظور واللامحظور في سبيل الوصول إلى الدولة أو السلطة، أو مصادر الحياة والطاقة، وهو ما يمارسه الاستعمار الغربيّ حتى وقتنا هذا، كلّ هذا باسم فائض القوّة والتحكُّم بمصائر الشعوب الأخرى.
وتتحدّث الباحثة التونسيّة ثريّا بن مسمية عن فكرة التغريب الأكاديميّ عبر الاستنتاج المعرفيّ للغرب، فترى أنّ الوجه الحقيقيّ للغرب كان مخفيًّا، حيث إنّ دعاة الإصلاح المستفيدين منه -أي الغرب- معذورون في اعتبارهم أنّ طريق التقدّم واحد، ويتمثّل في الإصلاح السياسيّ والتنظيمات السياسيّة، والفصل بين السلطات. وتحديد المناهج التربويّة والتعليميّة... لكن دعاة التغريب غير معذورين؛ لأنّ حقيقة أمر الغرب باتت واضحة، وعمادها حركات توسُّع وإرادة هيمنة ورغبة في التفوّق لقيادة العالم بالقوّة والغطرسة، وهكذا تتعاظم المسؤوليّة على من أدرك الحقّ وأغفى عنه... مشدّدة على أنّ أفضل طريق لمقاومة التغريب إنّما هو تشجيع حركة التعريب نشرًا للسان العربيّ للقارئ، بما يفكر فيه الآخر، حتى تتوسَّع دوائر الإطلاع والحوار والنقد، معتبرة بدورها أنّ التراث ليس بضاعة مادّيّة، فمنه ما هو مادّيّ، ومنه ما هو غير مادّيّ ولا مرئيّ؛ وهو مخزون نفسيّ يشكّل أعمارًا، وماضيًا يعيش حيًّا نابضًا في العصر الذي نعيش فيه ونتقدّم منه إلى عصور أخرى... وتؤكّد الكاتبة على أنّ الحضارة الغربيّة ذاتها تعود إلى قديم الحضارة اليونانيّة، وأنّ الماضي هو الحقل الثقافيّ والفكريّ والمعرفيّ الذي لا ينضب، وأنّ الحداثة حداثات، وأنّ اشتراك الإنسانيّة في كثير من عناصر المصير المشترك لا يقضي سجال على الخصوصيّات الثقافيّة والانتماءات المتنوّعة والمختلفة. وهكذا يتبيّن أنّ التغريب الأكاديميّ ليس إلّا أداة تحجب فاعليّة الرغبة في الهيمنة والسيطرة، مما يناقض جوهريًّا العمل الأكاديميّ الذي يقوم أساسًا على الموضوعيّة والجدّيّة والبحث الدقيق والتمحيص العميق من أجل إزاحة الحجب عن الحقائق المخفية».. (ص259).

يبدو أنّ مشكلتنا مع الغرب، مشكلة دينيّة بحتة، حتّى المصطلحات العلميّة التي استعملها الغرب كانت بمجملها تكريسًا لمفهوم الشرق وعناوينه المختلفة والمتعدّدة، حيث كانت ثقافة المجتمع العربيّ والإسلاميّ تشير إلى تظهير فنّيّ عالي الجودة، مع المعتزلة، والصوفية، واشتراكية عليّ بن أبي طالب، وطبيعة الفكر المدنيّ المرتكز على العلم الذي ارتجاه القاموس اللغويّ الدينيّ من حضارات قديمة وأسرَّ بها، من الكيمياء والفيزياء، وعوم الفضاء(ميثولوجيا الثور المجنّح أو الفرس الطائر أو بساط الريح) عند السومريّين وبناء الألسنيّة وتشتّتها كما عند البابليّين، إلى العرب كمفهوم حضاريّ غير مرتكز بطبيعته على الدين الحنيف فحسب، وإنّما جاءت الرسالة المحمّديّة لتقول: «بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»، أي ما سلف قبله من قيم وحضارات وعلوم وإنجازات.

التغريب والإمبرياليّة السياحيّة
بصدد المعنى الثقافيّ للتغريب يشير الباحث التونسيّ في الأنثروبولوجيا السياحيّة عادل الوشَّاني، إلى مسألة لافتة في إستراتيجيّات الهيمخنة الكولونياليّة، وهي استنباط الغرب لفكرة القطاع السياحيّ في بعض الدول النامية وإخضاعها لإملاءات الغرب الرأسماليّ.
يرى الوشّاني «إنّ السفر السياحيّ إلى المجتمعات العربيّة هو آليّة من آليّات إعادة الأمل، وذلك من خلال فعل نفسيّ يحوِّل هذا السفر إلى طقس من طقوس الانفتاح على الأسطوريّ والخياليّ والعوالم الشرقيّة الغرائبيّة، فالغرب بعد أن اغتصب مُثُل الحداثة التي استند اليها عصر الأنوار كما يقول «ليوتار»، بدأ يبحث عن عوالم غرائبيّة وعن أساطير مرجعيّة حائرة في كلّ مكان، يصعِّد فيها أزماته، ويخفِّض فيها توتراته ويستجيب فيها لانتظاراته... كيف ذلك؟» يجيب في هذا الاطار: «إنّ الإنسان الحديث يعاني الاغتراب والتشتّت والسطحيّة، وبالتالي فإنّ السياحة تمثُّل بالنسبة إليه مصطنعًا يخفض فيه التوتّر ويمارس فيه المتعة الخالصة ويعيد فيه إنتاج المعنى، ويفتح فيه إمكانيّة جديدة للفعل في كلّ ممكناته النزويّة والرغائبيّة والغرائبيّة والرغبويّة حتّى الشذوذيّة؟» (ص279).
واستنادّا إلى هذه الفكرة نفهم أنّ الكاتب المصريّ رمضان خلف محمّد رمضان يجد في بحثه عن تيّارات التغرّب في العالم الإسلاميّ الحديث والمعاصر «أن تبنّي بعض المفكّرين العرب والمسلمين أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسيّ التيّار الليبراليّ الديمقراطيّ الغربيّ في فكرهم السياسيّ وتقليد هذا التيّار وفرض رؤيته في المجتمع العربيّ والإسلاميّ بإطلاق الحرّيّة الكاملة للفرد، وتبنّي كلّ من قاسم أمين وسلامه موسى وإسماعيل مظهر وعلي عبد الرازّق التيّار العلمانيّ في الجانب الاجتماعيّ، وذلك ببثِّهم لفكر هذا التيّار في فكرنا العربيّ المعاصر ومجتمعنا العربيّ الإسلاميّ من خلال تحرير المرأة من كلّ تقاليدها وعاداتها وثقافتها الأصيلة العربيّة والإسلاميّة»... (ص384).
إنّ هذا المفهوم للإمبرياليّة الثقافيّة الغربيّة، يحيلنا إلى مفهوم الثقافة كشكل ومعنى، لنعرف إذا كنّا نحن في التغريب الكامل عن نشاطنا وبيئاتنا وأفكارنا، ويستولد فينا إعادة النظر في تسويق التغريب كمفهوم سياسيّ جهويّ، أو الغربة عن أنفسنا من خلال اجتراح القرائن التي تشير إلى عجزنا في أن نكون حضارة في هذا الشرق، ولكي لا يتعثّر المفهوم بحسب ما تقتضيه الحاجة أو المصلحة، صار لا بدَّ أن نتخيَّر بين الثقافة والعلم، وبين العروبة والإسلام، وبين الأمركة والبلقنة والعرقنة والصهينة، وبين التعريب والتغريب والتتريك، وبين الغرب كأصول دينيّة كان نتاجه قتل عشرين مليون قتيل بين المسيحيّة ببعضها، وهي لم تكن حربًا دينيّة، وإنّما كانت حرب سيطرة ومصالح وتفوّق...

لكن حين يتحوّل التغريب إلى غربة، وتصبح الغربة غرابة، يصبح الغرب شرقًا، والشرق غربًا وشمالًا وجنوبًا... تبدأ خاصّيّة الجهات هي الاستعداد إلى الدخول في المنفى.. أي نفي الذات، ونفي القيم التي تحملها الذات الإنسانيّة بكل أبعادها وتفاصيلها، وعلى الهويّات الصغرى تحمّل مسؤوليّة المواجهة الفكريّة والثقافيّة.
وهكذا ينتهي الكتاب إلى فكرة مركزيّة استشعرها الباحثون من خلال مفهوم صراع الحضارات بين الشرق والغرب، حيث لا يُنظر إلى مفهوم التغريب بما هو قضيّة ذات بعد دينيّ أو قوميّ بقدر ما تشمل أبعادًا فكريّة وثقافيّة وسياسيّة وحضاريّة.
ومن الواضح أنّ اتّساق الأبحاث بجملتها في تظهير الحالة التغريبيّة مفهوميًّا واصطلاحيًّا ومن خلال تداعياتها في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، إنّما تشكّل سِمَة مميَّزة لهذا الكتاب، وهو الأمر الذي يدلّ بطبيعة الحال على خاصّة الوضوح والانسجام والتكامل التي يسعى إليها المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة لناحية تعزيز وتعميق مشروعه الفكريّ في التأسيس لعلم الاستغراب.


الكتاب: نحن والتغريب
التأليف: مجموعة مؤلّفين
الناشر: المركز الإسلاميّ للدراسات الإستراتيجيّة - النجف الأشرف/ العراق 2021


-----------------------
[1][*]- كاتب وباحث في الفلسفة السياسيّة- لبنان.
[2]- راجع: نحن والتغريب، ص162.