البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

منشأ الحقّ وأصوله الموضوعة

الباحث :  الشيخ محمد تقي مصباح يزدي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  33
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث :  394
تحميل  ( 460.210 KB )
الملخص
يسلّط هذا البحث الضّوء على الحقوق من وجهة نظر الإسلام، وسائر المدارس الحقوقيّة، ويحاول الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما هو الحقّ؟ وكيف يحصل؟ وما هو منشأه؟

ولأجل إدراك الغاية المرجوّة يعالج الكاتب الموضوع في نقطتين أساسيّتين: الأولى تبحث في منشأ الحقّ، وفيها يعرض للحقوق الطبيعيّة والوضعيّة ويختمها بالحقوق في النظرة الإسلاميّة. والثانية تعرض للأصول الموضوعة لحقوق الإنسان، ويعدّد مجموعة من الأصول من قبيل: أصل التوحيد، وأصل حكمة الله البالغة، وأصل خلود الروح، وأصل ارتباط الدنيا بالآخرة...

الكلمات المفتاحيّة: الحقّ - الإسلام - الحقوق الوضعيّة - الحقوق الطبيعيّة - الأصول الموضوعة.

المقدّمة
إنّ كلّ الأنظمة الحقوقيّة تذعن بوجود حقوق للإنسان، فلكلّ إنسان مع ما يحمل من عقائد وأفكار ومذاهب وفلسفة، وفي أيّ مجتمع كان، حقوق لنفسه ولغيره كحقّ الحياة وحقّ السكن وحقّ الملك وحقّ العمل ونحوها، فأصل وجود حقوقٍ للإنسان متّفق عليه، وما يطاله البحث والتحقيق هذا السؤال المتعلّق بفلسفة الحقوق السائل عن منشأ حقوق الإنسان، وما هو الملاك في وجود حقّ لشخص على الآخر؟
ففي العلوم التجريبيّة المتعلّقة بالأمور العينيّة، إذا أرادوا الوقوف على صحّة قضيّة أو عدم صحّتها، يستعينون بالمنهج التجريبي، فإذا أرادوا إثبات غليان الماء في الدرجة المئة مثلًا، يبدأون بتسخين الماء ليروا هل يغلي في الدرجة المئة أم لا. كما توجد مناهج خاصة لإثبات صحّة القضايا العقليّة والفلسفيّة أو عدم صحّتها، منها الرجوع إلى البديهيّات الأوّليّة المتعلّقة بمسائل الفلسفة ونظريّة المعرفة.

ولكن ما هو السبيل في القضايا القيميّة والاعتباريّة، من قبيل الينبغي واللاينبغي في الأخلاق والحقوق أو الدين، فكيف يتمّ تقويم هذه القضايا؟ فلو قيل بوجود حقّ الملكيّة، أو أنّ للأب حقًّا على الابن أو العكس، أو وجود حقوق بين أفراد المجتمع، أو ثبوت حقّ الحياة لكلّ إنسان وعدم جواز التعدّي على هذا الحقّ، فكيف تثبت جميع هذه الحقوق؟ وما هو ملاك صحّتها أو عدم صحّتها؟ وما هي شرائط ظهور الحق؟ وهذه الشرائط من أين تأتي وكيف ومن الذي يسنّها؟ فما يطرح في الفلسفة من مباحث (ملاك ثبوت الحقّ) أو (منشأ الحقّ) ناظر إلى هذا الموضوع ومن أجل الإجابة على هذه الأسئلة.

أوّلًا: منشأ الحق
الآراء الواردة في منشأ الحقّ
لم نقف لحدّ الآن على جواب مقنع وكافٍ لكبار فلاسفة العالم في الإجابة على هذه المسألة. توجد هنا نظريّتان أساسيّتان: الأولى نظريّة الحقوق الطبيعيّة، والثانية الحقوق الوضعيّة، وسنشير إجمالًا إليهما ثمّ نذكر رؤية الإسلام في مباني حقوق الإنسان.

مدرسة الحقوق الطبيعيّة
يقول أنصار هذه المدرسة: إنّ منشأ حقوق الإنسان هي الطبيعة، بمعنى أنّ الطبيعة تهب هذه الحقوق للإنسان. فعندما نقول مثلًا إنّ للإنسان حقّ الحياة، وحقّ الاستفادة من الغذاء للاستمرار في الحياة، ففي الواقع إنّ طبيعة الإنسان هي التي تهب له هذا الحقّ. فإذا منعنا الإنسان من الطعام، ولم يتمكّن من الاستمرار في الحياة، لانقرض نسل البشر، وعليه فإنّ طبيعة الإنسان هي التي تهبه حق استمراريّة الحياة والتناسل، فما يقال ونسمعه في المجتمع أنّ (هذا من حقّ الإنسان الطبيعي) ناشئ من فكرة الحقوق الطبيعيّة. علمًا بأنّ هذا التعبير لم يرد في تعاليم الإسلام والثقافة الإسلاميّة، وهذه الفكرة قد اشتهرت في المجتمع الإسلامي بمعزل عن تعاليم الإسلام وأخذت أخذ المسلّمات بأنّ للإنسان حقوقًا طبيعيّة. ولكن من حقّنا أن نتساءل عن سبب وجود الحقوق الطبيعيّة للإنسان، وهل لهذا المدعى دليل منطقي وعقلائي؟ وعلى أيّ أساس فلسفي وبأيّ ملاك يكون للإنسان حقوق طبيعيّة؟ وهل حقوق الإنسان الطبيعيّة مطلقة أو مقيّدة؟ فإذا ثبت حقّ الحياة للإنسان مثلًا، فهل هذا الحق ثابت له في جميع الشرائط من دون استثناء؟ فإذا تمّ بيان فلسفة الحقوق الطبيعيّة وملاكها، لاتّضحت أجوبة هذه الأسئلة أيضًا.

وبخصوص حقّ الحياة مثلًا والوارد في منشور حقوق الإنسان العالمي أيضًا يوجد خلاف أساسي بين الرؤية الغربيّة والرؤية الإسلاميّة. وهو من الموارد التي اتّهم الغربُ الإسلامَ بنقض حقوق الإنسان، وعلى سبيل المثال فنحن نحكم بإعدام من يقوم بتهريب كميات كبيرة من المواد المخدّرة، لكنّهم يقولون إنّ إعدامه يخالف حقوق الإنسان، لأنّ الإعدام يسلب حقّ الحياة من الإنسان.

ونحن هنا لا نريد بيان الموقف والحكم بين هاتين الرؤيتين، بل نريد الإشارة إلى الأسئلة الأساسيّة في منشأ حقوق الإنسان، وهل يوجد ملاك خاصّ لإثبات الحق أو سلبه؟ فلو كان الجواب إيجابيًّا فما هو ذلك الملاك؟
فكما قلنا فإنّ بعض الباحثين في مقام الإجابة على هذا السؤال ذهبوا إلى أنّ الطبيعة هي منشأ حقوق الإنسان.

تحليل نظريّة الحقوق الطبيعيّة
لا بدّ في البداية من الوقوف على المقصود من (الطبيعة) عند أنصار هذه النظريّة. فلو كان غرضهم أنّ مع قطع النظر عن أنواع موجودات العالم يوجد في الواقع شيء باسم الطبيعة يهب الحقوق إلى الإنسان، فهذا المدّعى غير علمي بشكل قاطع، لعدم وجود شيء آخر باسم الطبيعة، عدا وجود الإنسان وسائر الموجودات، كي تكون خالق الموجودات ومنها الإنسان. نعم إنّ نفي الطبيعة بهذا المعنى لا علاقة له بالمباني الدينيّة والإذعان بوجود الله، بل إنّ سؤالنا مع قطع النظر عن وجود الله أو عدمه: هل يوجد شيء باسم الطبيعة يخلق الإنسان ويهبهم الحقوق ويضمن لهم حق الاستفادة منها؟! إنّ أيّ عاقل لا يمكنه قبول هذا المدّعى، أو لا يوجد أيّ دليل على الأقل لإثباته، كما لا يمكن إثباته علميًّا. وعلى أيّ حال فإنّ وهن هذا المدّعى واضح وبيّن، وعليه لا بدّ من البحث عن مبرّر لنظريّة الحقوق الطبيعيّة يجعلها مقبولة ومنطقيّة إلى حدٍّ ما.

إنّ التفسير المتناسب لهذه النظريّة أن يقال: إنّ حق الحياة من اقتضاءات طبيعة الإنسان، بمعنى أنّ من لوازم حياة موجود باسم الإنسان على الأرض أن يحفظ حياته وأن يحق له التمتّع من إمكانات الحياة، فلو لم تُضمن هذه الحقوق ولم تُعتبر للإنسان، لا يمكنه الاستمرار في الحياة، ولا ينال الكمالات المتناسبة مع الإنسان، فهذا التلقّي للحقوق الطبيعيّة -والمخالف للمعنى الأوّل- قابل للتأمّل ويمكن فتح باب البحث حوله.
وأوّل سؤال يُذكر هنا يتعلّق بحدود هذا الحقّ الطبيعي، فلو اقتضت طبيعة الإنسان مثلًا حقّ تناول الطعام، فهل هذا يعني إمكان تناول أيّ طعام، وهل تقتضي طبيعة الإنسان حقّ الاستفادة من الطعام مطلقًا وبأيّ طريق؟ أو أنّ طبيعة الإنسان تقتضي أصل تحقّق هذا الحقّ فقط، أمّا إطلاق هذا الحقّ وإمكان تناول أيّ طعام وبأيّ نحو حصل، فلا يمكن إثباته. ونفس هذا السؤال يرد في أصل حقّ الحياة، فعلى افتراض أنّ حفظ الحياة يُعدّ من حقّ الإنسان الطبيعي، فهل هذا الحقّ ثابت مطلقًا؟ ولو أنّ شخصًا قتل شخصًا أو أشخاصًا فهل له حقّ الحياة أيضًا؟ أو أنّ طبيعة الإنسان تقتضي إجمالًا حقًّا باسم حقّ الحياة، أمّا هل أنّ هذا الحقّ مطلق وثابت في أيّ وقتٍ، فلا تقتضي ذلك.

ويظهر أنّنا لو أذعنّا بالحقوق الطبيعيّة بهذا المعنى، أمكننا إثبات أصل الحقوق، ولكن لا يمكن إثبات المدّعى القائل بثبوت هذه الحقوق مطلقًا وفي أيّ وقت وحال، إذ من البديهي أنّ حق الطعام ثابت إلى حين عدم خروجه من المسير الصحيح، وأن يتحقّق بشرائط خاصّة، وهذا لا يعني أنّ الإنسان بما أنّ له حقّ الطعام يمكنه أن يسلب هذا الحقّ من الآخرين. كما أنّ حق حياة الإنسان ثابت ومعترف به ما دام لم يسلب هذا الإنسان حقّ حياة الآخرين، وإلّا سوف يُسلب منه حقّ الحياة، فسلب حقّ الحياة من هذا الشخص لم يكن غير صحيح، بل إنّه عين الحق. وقد قال القرآن الكريم بهذا الصدد: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151).

نعم، إنّ القرآن وبشكل عام يحترم حقّ حياة الإنسان ولا يجوّز سلبه، ولكن توجد موارد لم يكن فيها قتل النفس سلبًا لهذا الحق، بل يكون أمرًا واجبًا ولازمًا، ولولاه لحصل فساد وتضييع لحقوق الآخرين، ولتعرّض المجتمع إلى الخطر: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 179)، فلو لم يُقتل القاتل لأدّى ذلك إلى قتل المئات، فلأجل الحفاظ على حياة الإنسان لا بدّ من قتل من ارتكب جريمة القتل، كي ينسدّ باب التعدّي على حقّ حياة الآخرين.

ولكن لا تقرّ لائحة حقوق الإنسان العالميّة هذه الملاحظات، وتدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام مطلقًا. ولنا أن نتساءل من وجهة نظر علميّة -مع قطع النظر عن السلوك السياسي- عن الدليل المنطقي لإطلاق هذه الحقوق وعدم وجود أيّ استثناء فيها؟ فإذا قالوا إنّ الدليل إنّما هو بسبب هبة الطبيعة لذلك، قلنا إنّ حق الطعام كذلك أيضًا، فهل هذا الحقّ مطلق أيضًا، ويحقّ للإنسان تناول أيّ طعام ومن أيّ وجهٍ كان؟ وهل يمكنه التصرّف في أموال الآخرين لأنّه جائع؟ ومع قطع النظر عن هذا، فلو كانت جميع الحقوق مطلقة، لكان وضع القانون لغوًا، أي لكانت القوانين الموضوعة في البلدان لتحديد سلوك الأشخاص وبيان نطاق عملهم لغوًا.

وعليه فإنّ الحقوق الطبيعيّة التي تعني قبول موجود اسمه (الطبيعة) يهب حقوقًا للإنسان، لا يمكن إثباتها عقلًا ومنطقيًّا. ويمكن أن يكون المعنى المقبول للحقوق الطبيعيّة أنّ مقتضى طبيعة الموجود وماهيّته، التمتّع بسلسلة حقوق تكون سبب بقائه ودوامه، فبهذا التفسير من الحقوق الطبيعيّة يمكننا إثبات بعض الحقوق إجمالًا. ولكن لا يدلّ هذا على إطلاق تلك الحقوق وعدم وجود أيّ استثناء فيها.

الحقوق الوضعيّة
بعد ظهور عصر النهضة باتت الحقوق الطبيعيّة موضع نقد واعتراض وآلت إلى الأفول، واستُبدلت بنظريّة الحقوق الوضعيّة، والمدّعى الأساسي للحقوق الوضعيّة أنّ منشأ الحقوق هو التوافق الجمعي والمواضعة. إنّ ما يسبّب وضع الحق وإيجاده قبول أفراد المجتمع لذلك الحقّ، ولا معنى لوجود الحقّ الفلاني أو عدم وجوده سوى قبول المجتمع له أو عدم قبوله. فلو قبل المجتمع وجود حقوق للأب على الابن في الأسرة، وأنّ للابن أيضًا حقوقًا على الأب، يمكن إثبات هذه الحقوق، لأنّ المجتمع توافق على قبولها، فمنشأ ثبوت الحق هو التوافق الاجتماعي، ولو ذهب هذا التوافق لزال ذلك الحقّ وتغيّر.

ومن الواضح أنّ هذه الرؤية لا يمكنها إثبات الحقوق الثابتة، وكذلك إثبات حقوق الإنسان العالميّة، إذ لكلّ مجتمع حقوق خاصّة في الأزمان المختلفة، وعليه لا يحقّ لأيّ مجتمع فرض نظامه على مجتمع آخر.

الرؤية الإسلاميّة
قبل الخوض في بيان رؤية الإسلام حول منشأ الحقوق، لا بدّ من الالتفات إلى نقطتين:
سعة مفهوم الحقّ في الرؤية الإسلاميّة
إنّ مفهوم الحقّ في الثقافة الدينيّة أوسع من مفهومه في الأخلاق والحقوق، فمضافًا إلى الحقّ الأخلاقي والحقوقي، للحقّ مصاديق أُخرى منها حقّ الله على الإنسان؛ لذا فإنّ المفهوم الديني والإسلامي للحق، يختلف عن مفهومه الحقوقي والأخلاقي من هذا الوجه.

الرؤية التكليفيّة في الإسلام
إنّ رسالة الإسلام هداية الإنسان وسوقه نحو السعادة والكمال الإنساني، لذا فإنّ أكثر توجّه الدين ينعطف نحو التكاليف والمسؤوليّات التي توجب كمال البشر وسعادتهم. أمّا الحقوق التي لا يوجد إلزام فيها، وتبيّن لمجرّد منفعتها للإنسان، تكون في الدرجة الثانية من الأهميّة. إنّ سبب اهتمام الدين الأكثر ببيان الحقوق من النوع الأوّل، إنّما هو وجود رغبات وحوائج في الإنسان يسعى بحسب الغريزة والطبيعة إلى تأمينها، لذا يحتاج إلى قانون وأوامر وتكاليف، وعلى سبيل المثال فإنّ طبيعة الإنسان تقتضي التنفّس وتناول الطعام والماء ونحوه. لذا لا حاجة إلى أن يُقال للإنسان لك حق التنفّس وشرب الماء وأكل الطعام؛ لأنّه يعمل هذه الأمور بطبيعته، والمهم في هذه الموارد بيان وتحديد الحقوق ورعاية حق الآخرين. إنّ ما يوجب كمال إنسانيّة الإنسان في الرؤية الدينيّة، الالتفات إلى التكاليف الملقاة على عاتقه. نعم، إنّ الحقّ والتكليف وجهان لعملة واحدة، بمعنى وجود حقوق للإنسان بإزاء التكاليف الملقاة على عاتقه. والسؤال المطروح هنا أنّ الرؤية الإسلاميّة إلى أيّ الوجهين تميل بنحو أكثر، فهل الإسلام يؤكّد على المسؤوليّات والتكاليف أكثر من الحقوق؟

إنّ النصوص الدينيّة تتحدّث في الغالب عن رعاية حقوق الإنسان، بمعنى التأكيد على التكاليف التي توجد لكلّ شخص أمام الآخرين، فبما أنّ رسالة الدين إنّما هي التعليم والتربية، فيتمّ التركيز في مقام البيان على المسوؤليّات [والتكاليف].
وللإمام السجّاد (عليه السلام) كلام جميل في هذا المورد، حيث يقول: «اعلم -رحمك الله- أنّ لله عليك حقوقًا محيطة بك في كلّ حركة تحرّكتها أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلّبتها، أو آلة تصرّفت بها بعضًا أكبر من بعض، وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى، وهو أصل الحقوق ومنه تتفرّع سائر الحقوق...»[2].

فقوله(عليه السلام): «إنّ لله عليك حقوقًا محيطة بك» يدلّ على عدم خلوّ أيّ شأن من شؤون حياتك من حقوقٍ إلهيّة، فربّما تشكّل حركة من حركاتك عدّة حقوق إلهيّة، بمعنى وجود مجموعة من التكاليف والمسؤوليّات على عاتقك من قبل الله تعالى. ولم يقل إنّ لك حقوقًا على الآخرين يلزم مراعاتهم لها، بل يقول: إنّ حقوقًا قد أحاطتك أي حقوق الآخرين عليك والتي يلزم عليك مراعاتها، علمًا بأنّ قيمة هذه الحقوق لم تكن متساوية بل يكون بعضها أكبر وبعضها أصغر، فأكبر حق على عاتقك إنّما هو حقّ الله عليك.
ثمّ إنّ الإمام السجّاد(عليه السلام) يشير إلى نقطة جوهريّة في فلسفة الحقوق الإسلاميّة، إذ يقول: «وهو أصل الحقوق ومنه تتفرّع سائر الحقوق». فأصل الحقوق هو حقّ الله وتتفرّع عنه سائر الحقوق، فلو افترضنا جميع الحقوق بمثابة الشجرة فجذرها هو حقّ الله على عباده، أمّا سائر الحقوق فهي الأغصان النامية من هذا الجذر.

وفي الواقع إنّ الإشارة إلى حقّ الله كحقّ أعلى، يُذكر في الثقافة الدينيّة فقط، أمّا في الحقوق العرفيّة وحتّى في الأخلاق التقليديّة والكلاسيكيّة، فلا يوجد أيّ مورد لحقّ الله. والأمر المهم في الثقافة الدينيّة، أنّ حقّ الله يعدّ بمثابة الجذر ومنشأ سائر الحقوق، بحيث لا يتحقّق أيّ حقّ من دونه.

حقّ الله منشأ حقوق الإنسان
لأجل إثبات هذا المدّعى، أي منشأيّة حقّ الله لحقوق الإنسان، لا بدّ في البداية من إثبات وجود الله بالبرهان، وهذا الأمر يخصّ علم الكلام وخارج عن نطاق الحقوق. ثمّ لا بدّ من إثبات وجود حق لله تعالى على مخلوقاته بالبرهان أيضًا، وهذا يتعلّق بمبحثنا الحالي وله صبغة حقوقيّة.

إنّ ثبوت الحقّ من وجهة نظر عقليّة فرع ثبوت الملكيّة، بمعنى أنّ للمالك فقط حقّ التصرّف في ملكه، أمّا الذي لم يكن مالكًا أو من لم يأذن له المالك لا حقّ له في التصرّف أبدًا. وهذا الأمر من الأحكام والإدراكات القطعيّة بل يُعدّ من بديهيّات العقل.
ومن جهة ثانية فقد ثبت في الإلهيّات أنّ الله خالق جميع الوجود ومالكه، وأنّ جميع الموجودات تستلهم منه فيض الوجود، وهو الموجود الوحيد القائم بالذات ولم يأخذ فيض الوجود من أيّ موجود آخر، بل هو عين الوجود؛ لذا لا يحتاج إلى أيّ علّة. فمع لحاظ هاتين المقدّمتين (أي حق تصرّف المالك في ملكه، وخالقيّة الله لجميع الوجود واستغناؤه الذاتي) نقول:

بما أنّ الله خالق الكون والإنسان، فهو المالك الحقيقي لهما، وله بطبيعة الحال حقّ أي نوع من التصرّف فيهما. ومن جهة أُخرى لا يوجد أيّ حق لغير الله على الله وعلى سائر الموجودات أيضًا، لعدم كونه خالقًا ومالكًا لها، ويتحقّق الحقّ حصرًا فيما لو أعطى خالق الوجود ذلك الحقّ لشخص أو لشيء. إذ إنّ جميع الوجود ومنه الإنسان إنّما وُجد بإرادته تعالى ويبقى بإرادته أيضًا:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82). فلو رفع الله تعالى إرادته هذه، لم يبق ذلك الشيء، فبقاء أيّ موجود ودوام بقائه إنما هو بإرادته تعالى. وعليه فإنّ الرؤية الدينيّة تحتوي على البرهان العقلي في منشأ الحقّ، ولكن في الرؤية غير الدينيّة والحقوق العرفيّة لا يمكن إقامة البرهان العقلي.

التبيين الفلسفي لوضع الحقوق من قبل الله
عندما نقول إنّ جميع الحقوق تنشأ من الله تعالى، فهل المراد أنّ الحقوق مجموعة اعتبارات تنشأ من وجود الله تعالى؟ فلو كان الأمر هكذا، ومع لحاظ عدم إمكان تحقّق الاعتبار في مقام الألوهيّة، وأنّ كل ما هو موجود إنّما هو حقيقي وتكويني، إذًا ما معنى استناد الأمور الاعتباريّة إلى الله تعالى؟

وجواب هذا السؤال أنّ الاعتبار يكون تارة لرعاية حال المعتبِر، ويكون تارة أخرى لرعاية حال من اعتُبر له. فالاعتبار من قبل الله تعالى لم يكن للحاظ ذاته، بل لرعاية حال الإنسان. وبما أنّ الإنسان يتعاطى مع المفاهيم، ويستعين بالألفاظ والمفاهيم للإفهام والتفاهم وانتقال ما في ذهنه وضميره إلى الآخرين، وكذلك الله تعالى، فإنّه يستفيد من المفاهيم والألفاظ للارتباط مع الإنسان، وإلّا لم يتوصّل الإنسان إلى مقصود الله تعالى وغرضه.

فعندما نقول في المسائل الحقوقيّة والاعتباريّة أنّ لله حقًّا، إنّما هو لجهة رعاية حال الإنسان، لأنّ الإنسان يتعاطى المفاهيم، وأيّ موجود يريد التعاطي مع الإنسان والارتباط معه لا بدّ أن يستعين بالمفاهيم أيضًا.
فهذه المسألة -من وجهة نظر فلسفيّة- لم تكن من جهة نقص الفاعل بل تتعلّق بنقص القابل. إنّ ألوهيّة الله تعالى مقام تكويني وحقيقيّ، أو بعبارة أخرى ما فوق الاعتباريّات، والله تعالى يستعين بالمفاهيم والاعتباريّات للنقص الموجود في القابل أي الإنسان.

وعليه فإنّ الرؤية الإسلاميّة تقتضي أن تكون جميع الحقوق، أعمّ من الحقوق الاصطلاحيّة والاجتماعيّة والقانونيّة والأخلاقيّة تابعة لحقّ الله تعالى. فحقّ الله هو أصل جميع الحقوق ومنه تنشأ جميع الحقوق. فإذا قال: (كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام: 12) لا يعني أنّ الله دوّن كتاب قانونٍ تكون الفقرة الأولى منه مثلًا أنّ الله كتب على نفسه الرحمة لعباده، فلم يكن الأمر بحيث يكون له جعل واعتبار هكذا. بل الحقيقة أنّ وجود الله تعالى يقتضي الرحمة، أي أنّ اللازم الحقيقي والتكويني لهكذا وجود أن يكون رحيمًا بعباده، فلو سألنا لماذا استخدم هذه العبارة، فالجواب أنّ كيفيّة الارتباط مع الإنسان لا بد أن يكون في قالب المفاهيم والألفاظ والاعتباريّات، كي يتمكّن الإنسان من فهمها.

إثبات جميع الحقوق على ضوء حقّ الله
كما قلنا فإنّ جميع الحقوق في الرؤية الإسلاميّة ترجع إلى الله تعالى، ولا يحقّ للإنسان أن يضع حقًّا على الله أو على إنسان آخر من دون أن يهب الله تعالى له هذا الحقّ، لأنّ الإنسان لا يملك شيئًا كي يكون له الحق، وعليه فإنّ سُلّم الحق يبدأ من الله تعالى، ولو لم نلحظ الله وكذلك ارتباط الإنسان به، لا يمكن إثبات أيّ حق لإنسان على إنسان آخر من وجهة نظر البرهان العقلي، لذا يقول الإمام السجّاد(عليه السلام): «وهو أصل الحقوق ومنه تتفرّع».

ولا بدّ من الالتفات إلى هذين المثالين لتبيين هذه الحقيقة:
إنّ من جملة الحقوق الأساسيّة الثابتة لكلّ إنسان إنّما هي حقّ الحياة، ويحقّ له -بتبع هذا الحق- تهيئة كل ما يقوّم حياته. والسؤال الأساسي الذي يُذكر بخصوص حقّ الحياة هو أنّه من أين ينشأ؟ من الذي أعطى حقّ الحياة للإنسان؟ فمن البديهي أنّ أصل وجود الإنسان من الله تعالى، ولم يكن هناك بشر قبل أن يخلق الله تعالى الإنسان ليكون له الحق، فالحياة التي يراها الإنسان من حقّه إنّما وهبها الله تعالى له، بمعنى أنّ حقّ الحياة تتحقّق بإرادة الله تعالى، وإذا لم يشأ الله لما تحقّقت الحياة للإنسان كي يدّعيها لنفسه، ومن الحقوق الأساسيّة الأخرى حقّ الملكيّة وحقّ الاستفادة من النعم التي تتوقّف عليها حياة الإنسان كحقّ السكن وحقّ الطعام وحقّ اللباس ونحوها، فمن أين تنشأ هذه الحقوق؟ فلو كان الإنسان كسائر الجمادات وإنّ الله تعالى خلقه بحيث لا يتمكّن من أكل الطعام، فهل كان يثبت له حقّ الطعام حينئذٍ؟ فالله تعالى خلق الإنسان آكلًا، وخلق له أنواع الأطعمة، فالله إذن هو واهب حقّ الأكل للإنسان.

وكذلك الأمر في حقّ السكن، حيث يُعدّ من جملة حقوق الإنسان، وقد ورد في منشور حقوق الإنسان أيضًا، فكل إنسان يحقّ له أن يختار مكانًا على الكرة الأرضيّة للسكن، لأنّ الله خلق الإنسان محتاجًا إلى السكن، ومن جهة أُخرى خلق الطبيعة المحيطة به وهيّأ الشرائط بحيث يتمكّن الإنسان من اختيار سكن له، فلو خلق الله الإنسان كالجمادات لما احتاج إلى السكن، ومن جهة أخرى إذا لم يخلق الطبيعة هكذا، لما أمكن تبيين اعتبار حقّ السكن للإنسان.

مضافًا إلى هذا فعندما نقول إنّ أصل جميع الحقوق تعود إلى الله، يعني أنّ الله خلق الإنسان مريدًا مختارًا، فلو خلقه من دون شعور واختيار، فهل تثبت له حقوق حينئذٍ؟ إنّ الله خلق الشجرة مثلًا بحيث لم يكن لها حق اختيار مكان غرسها، وعليها أن تنمو في أيّ مكان غُرست، فلو خُلق الإنسان أيضًا هكذا، لم يكن له حق على الله كي يمنحه حقّ الاختيار أو الانتخاب.
فسبب وجود الاختيار وحقّ الانتخاب للإنسان إنّما هو لأجل خلقة الله تعالى له هكذا وأراد منه أن ينتخب طريق الكمال بإرادته، طبعًا كان بإمكانه أن يخلق الإنسان كسائر الموجودات بحيث تنساق جبرًا إلى هنا وهناك (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ) (الأنعام: 35)، فلو شاء الله لجعل الإنسان كالملائكة بحيث لا يختار إلّا الطريق الصحيح، فالله تعالى هو الذي منح حقّ الاختيار للإنسان، وأنّ الحق ينشأ من ذاته المقدّسة.

فالله تعالى الذي منح الوجود والاختيار للإنسان، يحقّ له أن يأمر الإنسان بالاستفادة من هذا الاختيار والإرادة الإلهيّة الممنوحة له في طريق خاصّ وكما يريد، فالله يقول إنّي خلقتكم لتصلوا إلى الكمال، وإنّ كمالكم في التقرّب إليّ، فتقرّبوا إليّ. فإذا كانت هذه هي إرادة الله فعلى الإنسان الالتزام بها. إنّ الله يريد أن تكون شرائط المجتمع بحيث يتمكّن طالب الكمال والسعادة (أي القرب إلى الله) من الوصول إليها.
إنّ ارادة الله هي أيضًا منشأ حقّ الناس في الحكومة، فبما أنّ إرادة الله هي هكذا، كلّف الحكومة الإسلاميّة بتهيئة أرضيّة عبادة الله والتقرّب إليه في المجتمع، وهذا حقّ الناس المسلّم على الحكومة، ومقتضى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، ونحوه حقّ الناس في السكنى في مجتمع يهيّئ لهم أسباب عبادة الله بكل سهولة، والحكومة مكلّفة أيضًا تهيئة الشرائط الاجتماعيّة بالنحو المطلوب مع رفع الموانع، وعلى الحاكم الإسلامي الوقوف أمام المفاسد الخُلقيّة في المجتمع كي تتهيّأ ظروف تعالي البشر وكمالهم.

وعلى أيّ حال، فإنّ مدّعانا أنّ منشأ الحقّ لا يمكن بيانه إلّا من خلال الرؤية الإلهيّة، فقد جعل الإمام السجّاد(عليه السلام) حقّ الله على الإنسان أساس جميع الحقوق، وأنّها تتفرّع منه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم: 24-25).

فلو لم يكن هذا الجذر لكانت الحقوق كالشجرة المقتلعة من الجذور، وعلى حدّ تعبير القرآن Nمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍM (إبراهيم: 26) فالشجرة التي ليس لها جذر في الأرض إما أن تتعفّن أو تفسد ثمّ تجف ولا يكون لها ثمر، ولكن لو كانت الشجرة متجذّرة في الأرض فهي وإن يبست بعض غصونها تارة، لكنّها تنمو مرة أخرى لكونها متجذّرة في الأرض.

ملاك جعل الحقوق من قبل الله
إنّ حقّ الله تعالى أصل الحقوق، وبعبارة أُخرى إنّ الله جاعل جميع الحقوق، فهل الله يعطي الحقّ اعتباطًا من دون دليل، أو أنّ اعتبار الحقوق والتكاليف من قبل الله يخضع للحكمة؟
إنّ من يعرف الإسلام بشكل حقيقي، يرى أنّ إرادة الله تتبع المصلحة والحكمة دائمًا، وأنّ الأحكام المشرّعة تتبع أيضًا المصالح والحكم. ونحن قد نجهل هذه الحكم، ولكن فإنّ هذا الحكم والإرادة مطابق في الحقيقة للمصلحة. وكذلك الأمر في الحاكميّة، فعندما يمنح الله حقّ الحاكميّة لشخص، فإنّها تتأطّر بإطار أحكام الإسلام الإلهيّة ومصالح الناس، ولو أنّ الحاكم أمر أو نهي خلافًا للأحكام الإلهيّة وقيم الإسلام ومصالح الناس، لا يكون له أيّ اعتبار؛ لأنّه: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[3].

يمكن إثبات مدعانا في أنّ حقّ الله أوّل حقّ وأهمّه، من طريقين عقلي ونقلي:

البرهان النقلي على منشأية حق الله
فإحدى الطرق أن نثبت حقّ الله من رؤية دينيّة وبالأدلة الشرعيّة والتعبديّة، بمعنى مراجعة المصادر الدينيّة، والوصول إلى هذا الأمر عن طريق الآيات والروايات الواردة عن أئمّة الدين، وقد أوردنا رواية الإمام السجّاد(عليه السلام)، حيث يصرّح فيها أنّ حقّ الله هو أصل الحقوق وتتفرّع منه سائر الحقوق. وقد قال أمير المؤمنين(عليه السلام) أيضًا: «ولكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلًا منه وتوسّعًا بما هو من المزيد أهله، ثمّ جعل سبحانه من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض... وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعيّة وحقّ الرعيّة على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل»[4].
يستفاد من هذا الكلام أنّ أصل جميع الحقوق هو حقّ الله بأن يأمر الناس وبأن يمتثلوا أوامره، فلو دقّقنا النظر بذهن خال من الشبهات في هذه العبارة، لأدركنا بشكل جيّد رؤية أمير المؤمنين(عليه السلام) بلزوم نشأة أيّ حق - ثبت في مكان مّا لصالح أيّ شخص أو ضرره- من الحق الإلهي، إذ لا يوجد أيّ حقّ لشخص بالذات على الآخرين في الرؤية الإسلاميّة، إلّا الله حيث له الحقّ ذاتًا وبالأصالة على عباده، وهو الذي يسنّ الحقوق بناء على هذا الحقّ الثابت له.

وقد استعنّا في هذا البيان بمنهج الاستدلال التعبّدي، بمعنى أنّنا نقلنا رؤية الإسلام، ودليله الروايتان المنقولتان عن أمير المؤمنين(عليه السلام) والإمام السجّاد(عليه السلام)، علمًا بأنّ هذا الاستدلال لا يكون مقبولًا إلّا عند من أذعن بشكل مسبق بإمامة هؤلاء الأئمّة وعصمتهم.

البرهان العقلي على منشأيّة حقّ الله
لو أراد شخص الخوض في هذه المسألة من خارج دائرة الدين، فلا بد من الاستماع إلى حكم العقل. فهل يمكن إثبات منشأيّة حقّ الله لسائر الحقوق عقلًا، وأنّ حقوق الإنسان لا بدّ أن تنشأ وتتفرّع من حقّه؟ علمًا بأنّ الدليل العقلي هذا يتوقّف على فرضيّة مسبقة تذعن بوجود الله ووجود حقّ له. ونحن هنا نريد إثبات منشأيّة حقّ الله لجميع الحقوق عقلًا، أمّا الذي ينكر وجود الله رأسًا فلا فائدة له في هذا البحث منطقيًّا.

نحن نفترض في هذا البحث وجود الله الخالق للكون والإنسانيّة، لذا نريد أوّلًا إثبات وجود الحقّ لله على العباد بالدليل العقلي، وثانيًا رجوع جميع الحقوق إلى حقّ الله، وأن لا اعتبار لأيّ حق إلّا ما جعله الله تعالى.

تحليل مفهوم الحقّ
لأجل إثبات وجود حقّ لله على عباده عقلًا، لا بدّ من تقديم مقدّمات. ينبغي أوّلًا تحليل مفهوم الحقّ، وأنّ الحقّ المبحوث في الحقوق والسياسة من أي مقولة هو؟ وكيف يحصل هذا الحق وما هو مِلاكه؟ وتعدّ هذه المباحث والمقدّمات من أعقد المباحث العقليّة وأدقّها.

إنّ المفاهيم التي يتعاطها الإنسان على قسمين: المفاهيم التي لها ما بإزاء خارجي وعيني كالأرض والسماء والإنسان ونحوها التي يشير كلّ واحد منها إلى موجود عيني خاصّ في الخارج. ويطلق على هذه المفاهيم في الاصطلاح (المفاهيم الحقيقيّة) أو (المفاهيم الماهويّة). ويوجد في قبالها سلسلة مفاهيم أُخرى لا تدلّ على شيء خارجي خاصّ، بل إنّ قوامها يكون بالاعتبارات العقليّة والذهنيّة، فعندما نقول مثلًا إنّ الصلاة واجبة، أمكن عدّ الصلاة مجموعة من الحركات العينيّة الخارجيّة، ولكن الواجب لا يشير إلى موجود خارجي أو صفة مرتبطة بالموجودات الخارجيّة، بل إنّه معنى يدركه العقل فقط. فالحقّ يعدّ من قبيل هذه المفاهيم، أي أنّه أمر اعتباري.

التسلسل في مفهوم الحق
إنّ من خواص المفاهيم الاعتباريّة أنّها قابلة للتسلسل، وعلى سبيل المثال نقول: إنّ من يسعى ويعمل عملًا على مادّة خام كان له حقّ التملّك عليها. فإذا قطع جذعًا من شجرة الغابة، فعمله هذا يعدّ نوعًا من العمل، ثمّ يمكنه أن يصنع من هذه القطعة الخشبيّة صورة خاصّة كالباب أو النافذة أو عملٍ فنّي آخر، فلأجل هذا العمل الذي عمله على هذه المادّة الخام، نقول إنّ لهذا الشخص حقّ التملّك على هذه البضاعة، فالملكيّة أمر اعتباري بمعنى أنّه لا يوجد شيء في الخارج باسم المالكيّة سوى الإنسان والخشب والأعمال التي أُجريت على الخشب.

ومن خواص هذا المفهوم الاعتباري (المالكيّة) إمكان أخذ مفاهيم اعتباريّة أخرى متعدّدة منه، وعلى سبيل المثال فالعامل الذي يعمل على الخشب ويخلق أثرًا فنيًّا يكون مالكًا له، وللمالك حقّ التصرّف في ملكه، فهنا مضافًا إلى مفهوم الملكيّة الاعتباري، يتولّد مفهوم الحق، أي بما أنّه مالك فله حق التصرّف في ملكه.
وعند تحليل مفهوم الحق يتولّد هذا السؤال: هل لصاحب الحق أن يتنازل عن حقّه لصالح الآخر، بأن يبيعه مثلًا إزاء مبلغ من المال؟ فالجواب نعم، فللإنسان أن يتبادل حقوقه أو يتنازل عنها، ففي هذه الحالة يكون الإنسان مالك التصرّف في ملكه أيضًا، وبعبارة أُخرى بعدما يُصبح مالكًا يحقّ له الانتفاع من ملكه، فهنا يتولّد مفهوم آخر على المالكيّة سوى الحق، وهو حقّ التصرّف والتبادل، وهذا التوالد المفهومي يمكنه أن يستمر ويتسلسل هكذا، وهذا التسلسل من خواص المفاهيم الاعتباريّة، والحال أنّ المفاهيم الحقيقيّة كالإنسان لم تكن هكذا ولا يوجد إنسان آخر داخل هذا الإنسان أو محموله. فعندما نقول: يحقّ للإنسان أن يفعل كذا، ثمّ نقول: له أن يتنازل عن حقّه هذا، فهنا يرتبط حقٌّ بحقٍّ آخر ويتعلّق به، أي بما أنّ له الحق الأوّل يملك الحقّ الثاني، وعلى هذا فالحقّ الثاني الذي يعد مفهومًا اعتباريًّا يرتبط بالحقّ الأوّل. فمن إحدى علامات اعتباريّة مفهوم الحقّ أنّه يتسلسل ويتعلّق بعضه ببعض الحقوق الأخرى خلافًا للمفاهيم الماهويّة.

إنّ أشهر الفلاسفة الذين التفتوا إلى تسلسل الاعتبارات العقليّة والمفاهيم الاعتباريّة شيخ الإشراق، فقد خصّص في كتابه حكمة الإشراق وسائر كتبه فصلًا مهمًّا لكيفيّة معرفة الاعتبارت العقليّة، وقد اقتبس منه سائر الفلاسفة هذا الأمر كصدر المتألّهين وغيره.

لقد علمنا لحدّ الآن أنّ الحق مفهوم اعتباري أبدعه العقل، من دون أن يؤخذ من شيء خارجي مستقلّ. ومن الواضح أيضًا من جهة أُخرى أنّ (الخلق) يعني إحداث الوجود وإيجاد شيء في الخارج. فمع لحاظ هذين الأمرين يتّضح أنّ الخلق والإيجاد لا يتعلّقان بالمفاهيم الاعتباريّة كالحقّ، بمعنى أنّ المفاهيم الاعتباريّة لا وجود لها بالاستقلال وبمعزلٍ عن الموجودات الخارجيّة. لذا عندما نقول إنّ لله حقًّا، لا يعني وجود شيء مستقلّ عن الله ومضاف إلى ذاته اسمه الحقّ، بل إنّه انتزاع يعمله العقل ولا يوجد في الخارج إلّا موجود عيني اسمه الله تعالى.

كيفيّة ظهور المفاهيم الاعتباريّة
عندما نستعمل مفهوم الحقّ الاعتباري ونقول: لفلان الحقّ وليس لفلان الحق، يرد سؤال عن كيفيّة انتزاع العقل للمفاهيم الاعتباريّة؟ وبحدود ما نعلم فإنّ العلّامة الطباطبائي (قدّس سرّه) أوّل من بيّن كيفيّة ظهور المفاهيم الاعتباريّة بشكل جيّد. إنّه لتوضيح كلامه يستشهد بهذا المثال (الفارسي) ويقول: كثيرًا ما نستعمل في المفاهيم الاجتماعيّة أو السياسيّة [في اللغة الفارسيّة] كلمة الرأس (سَرْ) ومشتقّاتها من قبيل: سردمدار أو سرکارگر [بمعنى الزعيم ورئيس العمّال] فكلمة الرئيس والرئاسة مأخوذة من كلمة الرأس، فالرئيس يعني الزعيم والمتولّي، والرئاسة تعني الترؤس والهيمنة. فمقام الرئاسة مفهوم اعتباري ناشئ من الاعتبار وليس واقعًا عينيًّا خارجيًّا، فهي صرف الاعتبار، حيث تُمنح اليوم لشخص وتُسلب منه في اليوم الثاني، والسؤال الأساسي عن كيفيّة اعتبار مفهوم الرئاسة الاعتباري، وكيف يستعملها الإنسان في محاورته اليوميّة؟

يقول العلّامة الطباطبائي إنّ الإنسان يلحظ في البداية وجوده والدور الذي يقوم به الرأس في جسده، وأنّ جميع أعضاء الجسم رغم أهميّة أعمال كل واحد منها، تأتمر بأوامر الرأس، فالمخ هو مركز القيادة في الجسم، ويأمر جميع الأعضاء من خلال سلسلة الأعصاب، فقيادة جميع الأعضاء تكون عبر الرأس وفيه تتمركز، فعندما أردنا نقل شبيه هذه الحالة إلى المجتمع نقول: إنّ المقام الذي يحقّ له الأمر والنهي ويلزم على الآخرين طاعته، إنّما يكون لمن يملك مقام القيادة ويكون في الرأس -المعبّر عنه في العربية بالرئاسة- وبناء على هذا، فإنّ المفاهيم الاعتباريّة تؤخذ عارية واستعارة من الأمور العينيّة والحقيقيّة كمفهوم (الرأس)، حيث نلحظه في البداية مضافًا إلى الجسم، ثمّ نستعيره ونستعمله في المجتمع.

الحقّ والسلطة
أمّا الآن فعندما نقول إنّ لله حقًّا، فلنا أن نتساءل عن منشأ هذا المفهوم الاعتباري أي الحق وعن كيفيّة انتزاعه واعتباره. فما معنى قولنا: لفلان الحق؟ لقد عبّر بعض المفكّرين والمحقّقين عن مفهوم الحقّ بنوع من السلطة، أي عندما نستخدم كلمة الحق نواجه نوعًا من السلطة والإحاطة والفوقيّة، فعندما نقول: لفلان الحق، نلحظ له نوعًا من السلطة أو الامتياز، وبناءً على هذا يتساوى هنا مفهوم السلطة مع الحقّ، وعندما نقول يحقّ للأب أن يأمر ابنه، يعني أنّ له نوعًا من السلطة والفوقيّة وأنّ الابن خاضع له. أو عندما نقول: يحقّ للإنسان التصرّف في أمواله، يعني هذا أنّ له السلطة على أمواله ولباسه وسكنه وطعامه وغيرها.

وللسلطة مصداق تكويني نلحظه نحن، وهو سلطة الإنسان على أعضائه مثلًا، وعلى أساس هذه السلطة التكوينيّة يُبنى مفهوم السلطة الاعتباري ويُفهم، وكلّما تحقّقت السلطة والقاهريّة على أمر، يمكن اعتبار مفهوم الحقّ أيضًا نوعًا مّا، وكلّما لم نتمكّن من اعتبار هذه السلطة لا يستخدم مفهوم الحق فيه.
ويرى بعض فلاسفة الحقوق وأساتذة الفقه أنّ الحق والملك مفهوم مشكّك. فالحقّ هو الملك الضعيف، والملك هو الحقّ القوي. علمًا بأنّنا لسنا بصدد تأييد هذه النظريّة، غير أنّه يمكن تبريرها والقول بوجود نوع من السلطة على المملوك في المِلك، وكذلك يوجد نوع من السلطة في الحق أيضًا ولكن بشكل أضعف. وعندما تتحقّق المالكيّة تتحقّق الحقوق المختلفة وفي أبعاد متفاوتة، ولكن ربّما يكون الحق في بُعد واحد. وعلى أيّ حال، فإنّ ملاك اعتبار الحق وجود نوع من السلطة والقدرة والقاهريّة.

فاتّضح لحد الآن أنّ ملاك اعتبار الحق إنّما هو المالكيّة والسلطة، فحينئذٍ أي سلطة في ساحة الوجود تكون أقوى وأكثر أصالة وقهّارية وأنفذ من سلطة الله تعالى، وقبل أن نعتبر ونجعل لله تعالى الحق، وقبل استعمالنا للمفاهيم الاعتباريّة وإطلاقها عليه، فله تعالى سلطة تكوينيّة على ما سواه، ولا يوجد أي موجود خارج عن سلطته وقدرته: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16) (وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (ص: 65) وهو الواحد الذي له كامل السلطة والقدرة على جميع الأشياء.

فإذا أردنا اعتبار مفهوم من السلطة والقدرة والقاهريّة، فأعلى مصداق لهذا المفهوم وأبرزه يتعلّق بالذات الإلهيّة المقدّسة، لأنّ قدرته وسلطته على جميع الأشياء أكثر وأوسع. وكلّ مقتدر فمنه يستمدّ القدرة وليس له شيء لحاله. فمن الذي وهب لنا هذه القدرة التكوينيّة التي نمتلكها على أعضائنا؟ فهذه الأعضاء أي اليد والرجل وسائر الأعضاء، وإن كانت من أجزاء كياني ووجودي، ولكن من الذي أعطاني القدرة على استعمالها؟ نعم، إنّه الذي يسلبها منّي متى شاء. ربّما يكون للإنسان يد، لكن ربما لا يمكنه استخدامها لشلل أصابها، فالله مضافًا إلى إعطائه اليد، لا بد أن يهب لي أيضًا القدرة على التصرّف. فالحقّ الذي يكون ملاكه السلطة والقدرة والقاهريّة يرجع أصله إليه تعالى.
فتحصّل من هذا البرهان الفلسفي المبتني على عدّة مقدّمات صغرويّة وكبرويّة، عدّة نتائج، منها أنّ الله تعالى أصل جميع الحقوق، ولا يوجد أيّ حقّ آخر قبل تحقّق اعتبار الحقّ له تعالى، فحقّه منشأ ومبدأ حقوق العباد: «ثمّ جعل سبحانه من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض... فريضة فرضها الله سبحانه لكلّ على كلّ»[5].

فلو لم يجعل الله تعالى هذا الحق للناس، لما نشأ الحق من وجود الإنسان؛ لذا فما يقال بخصوص الحقوق كحقوق الإنسان والحقوق الطبيعيّة أو الفطريّة، كلّها كلام لا أساس له: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم: 26) فالحقّ الحقيقي هو الذي يمنحه الله تعالى: «فريضة فرضها الله سبحانه»[6] فلو لم يجعل الله الحق لشخصٍ، لا يتحقّق أيّ حق لأحدٍ بنفسه.

ثانيًا: الأصول الموضوعة لحقوق الإنسان
إنّ حقوق الإنسان وتكاليفه في الإسلام تبتني على أصول موضوعة، ترتبط من جهة بالنظرة الكونيّة (الوجود والعدم) ومن جهة أُخرى بالإيديولوجيا ومجموعة نظام القيم (الأوامر والنواهي الأخلاقيّة) المنبثقة من النظرة الكونيّة. وهذه الأصول الدالّة على ارتباط النظام الحقوقي مع الرؤية النظريّة والعمليّة، عبارة عن:

أصل التوحيد
لأجل تعيين حقوق الإنسان وتكاليفه، لا بدّ من لحاظ علاقته الوجوديّة مع الله تعالى قبل كلّ شيء، الله الذي لا يفتقر إلى غيره في وجوده، بل إنّ جميع الكون مفتقر ومحتاج إليه والإنسان كسائر الموجودات الأخرى قائم في وجود جميع شؤونه بالله الواحد تعالى؛ لأنّ كل ما سوى الله عبد محض له تكوينًا، ويستحيل الخروج من هذه العبوديّة التكوينيّة، لأنّ الخروج منها يستلزم العدم والفناء. فالإنسان إمّا هو موجود وله وجود غير مستقلّ أو لا، ولا يمكن تحقّق الشقّ الثالث بأن يكون له وجود مستقلّ. فهذه الرؤية تُطلق الإنسان من التوهّم الباطل القائل باستقلاليّة الإنسان في حياته وعدم حاجته إلى طاعة أيّ شخص. فالحريّة المطلقة غير مقبولة فلسفيًّا. وعليه يكون التوحيد والمسائل المتفرّعة منه أساس تعيين حقوق الإنسان وتكاليفه.

أصل حكمة الله البالغة
إنّ الحكمة الإلهيّة -كأصل التوحيد- نافعة في جميع المباحث والمسائل القيميّة (الأخلاق والحقوق)، إذ لا يمكن التبيين والشرح العقلائي لأجزاء النظام الحقوقي الإسلامي وعناصره من دون لحاظ حكمة الله تعالى بشكل جيّد وتام. فأوّل حقوق الإنسان وتكاليفه وأهمّها لا يمكن بيانها إلّا من خلال الاستناد إلى اقتضاء الغاية من الخلقة وحكمة الله البالغة، فالله تعالى حكيم، والحكيم يُطلق على من تكون أعماله حكيمة تهدف للوصول إلى أهداف نبيلة. وتنشأ الأوامر والنواهي والحقوق والتكاليف من تناسب الهدف مع العمل الحكيم. نعم، إنّ لله تعالى ربوبيّة مطلقة على الإنسان والعالم، ويتحقّق هذا التدبير العام على أساس الحكمة، فلو أُغلقت الحكمة وتناسى الإنسان هدف الخِلقة أو تمّ التغافل عنها، فلا يمكن إثبات أيّ حق وتكليف.

نستنتج من هذا الأصل القائل بحكمة الله وأنّ العالم مخلوق لغاية نبيلة لزوم سير عالم الخلقة نحو الكمال، فحكمة الله تقتضي أن يسير الإنسان في مسير الكمال كي يتحقّق الكمال الأكثر في الكون. ونستنتج أمرين من هذه الحقيقة:

الأوّل: لزوم فداء الموجود الناقص للموجود الكامل عند التعارض، فعند دوران الأمر مثلًا بين بقاء حياة الإنسان أو الحيوان، لا بدّ أن يفدي الحيوان الإنسان. فالإشكال الأساسي في الحقوق غير الدينيّة عدم قدرتهم على تبرير حق تصرّف الإنسان في سائر الأشياء والموجودات وجعلوه أمرًا مسلّمًا. ولكن من السهل التبيين العقلاني لتصرّف الإنسان بناء على حكمة الله، فلو افترضنا عدم القدرة على حفظ حياة الإنسان إلّا بقتل خروف، يلزم قتل ذلك الخروف كي يحيا الإنسان؛ لأنّ حكمة الله تقتضي تحقّق الكمال الأعلى في نظام الكون، ولا يتحقّق هذا الهدف إلّا بافتداء الموجود الناقص.

الثاني: عند دوران الأمر بين كمالين في موجود واحد، لا بدّ من افتداء الكمال الأقل أهميّة للكمال الأفضل. فلو تعارضت إحدى كمالات الإنسان المعنويّة والروحيّة مع إحدى كمالاته الماديّة والجسمانيّة مثلًا، فلا بد من افتداء الكمال المادّي الأقل أهميّة للكمال المعنوي الأفضل.

هذان الأصلان يتعلّقان بمعرفة الله، فأصل التوحيد يثبت مخلوقيّة جميع الموجودات وعلقتها واحتياجها وعبوديّتها لله تعالى، وأصل الحكمة يبيّن حكمة نظام الخلقة وغائيّته ولزوم تحقّق الكمال الأكثر في العالم.

أصل خلود الروح
يمتلك الإنسان الروح مضافًا إلى الجسم، والروح التي لم تكن من سنخ الماديّات أبديّة وخالدة ولا تندثر بموت الجسم، وعليه فللإنسان حياة دائمة، ولم يكن الموت سوى الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، فللإنسان اذا حياتين: الحياة الدنيويّة المؤقتة والزائلة، والحياة الأخرويّة الدائمة.

أصل ارتباط الدنيا والآخرة
تعدّ الحياة في هذا العالم مقدّمة للحياة الاخرويّة. وتكون النعم والمواهب الطبيعيّة أداة لتحصيل الكمالات المعنويّة وسعادة الإنسان الدائميّة. وأثر هذين الأصلين (أصل خلود الروح وارتباط الدنيا والآخرة) المتعلّقين بمبحث المعاد في الرؤية الكونيّة الإسلاميّة يظهر في نظام الحقوق الإسلاميّة عند دوران الأمر بين المنافع الدنيويّة الماديّة والمصالح المعنويّة والأخرويّة، حيث يلزم تقديم المصالح المعنويّة كي لا تتعرّض سعادة الإنسان الأبديّة والأخرويّة للخطر. ولا بد من رعاية هذه القاعدة في المسائل الأخلاقيّة والأمور الفرديّة أيضًا؛ لأنّ الحياة الفرديّة والاجتماعيّة الدنيويّة وسيلة للسعادة الأخرويّة، ومن البديهي لزوم افتداء الوسيلة للهدف لا العكس.

أصل كرامة الإنسان
لحقّ كرامة الإنسان في المجتمع أهميّة بالغة كسائر الأصول النظريّة لحقوق الإنسان. إنّ فلسفة خلقة الإنسان الوصول إلى الكمال، ولأجل تهيئة الأرضيّة المناسبة لتكامل الإنسان لا بدّ أوّلًا من حفظ الاحترام الاجتماعي للإنسان والذي يعد حاجة فطريّة وطبيعيّة له، وثانيًا تتهيّأ له فرصة الاستفادة من النعم الموجودة. والإسلام -إن لم يكن أكثر من سائر المدارس فعلى موازاتها - يحترم حقّ كرامة الإنسان ويراها ضروريّة، والكرامة على نوعين: إحداها الكرامة الذاتيّة أو الممنوحة من قبل الله، والثانية الكرامة الاكتسابيّة من خلال الأفعال الاختياريّة.

أصل الاختيار
إنّ هدف الخلقة تحقّق أكثر قدر من الكمالات في العالم. وبهذا الخصوص فللإنسان كماله الخاص المختلف مع كمال غيره من الموجودات، وما يوجب تمايز كمال الإنسان عن سائر الكمالات كونها اختياريّة. إذ الكمالات المتحقّقة للجماد والنبات والحيوان لم تكن اختياريّة، فالشجرة مثلًا تنمو وتثمر وتورق من دون اختيار. نعم، إنّ الإنسان يشترك مع الحيوان والنبات والجماد في الكمالات غير الإراديّة، ولكن لا يتحصّل كمال الإنسان الحقيقي إلّا عن طريق إعمال الإرادة. وهذا الكمال الحقيقي أفضل من جميع الكمالات، وتكون نسبته معها نسبة ذي المقدّمة للمقدّمة. ولا يمكن لأيّ أحد أن يصل إلى هذا الكمال من دون علم ومعرفة، ولا تأثير للإكراه والإجبار في تحقّقه.

إنّ تحصيل هذا الكمال لا يكون إلّا عن طريق الاختيار والأفعال الاختياريّة، ولو جعل الله تعالى للإنسان في الدينا طريقًا واحدًا فقط، لانتقضت غاية الخلقة التي هي وصول الإنسان إلى كماله الحقيقي، لأنّ الانتخاب الحرّ يتحقّق فيما لو كان الإنسان أمام طريقين أو أكثر، لذا فإن الحكمة الإلهيّة وهدف الخلقة يقتضي وجود خيار للانتخاب عند مفترق الطرق، كي يتمكّن من الانتخاب الحرّ والوصول إلى الكمال الحقيقي.

ثمّ إنّ طريق الكمال الصحيح وإن كان واحدًا، ولكن لو لم توجد طرق أخرى لم يتحقّق الانتخاب والاستكمال، وعليه فإنّ طرق الهبوط والنقص تهيّئ أرضيّة الترقّي والتكامل.
إنّ الأصول الخمسة التي ذكرناها لحدّ الآن، أي أصل التوحيد (مخلوقيّة الإنسان لله تعالى وحاجته وعبوديّته وارتباطه بالله تعالى) أصل الحكمة الإلهيّة (تحقّق القدر الأكبر من الكمال وافتداء الكمال الناقص للكمال الكامل) أصل خلود الروح، أصل علاقة الدنيا والآخرة (كون الحياة الدنيويّة مقدّمة للحياة الاخرويّة). إنّ هذه الأصول الخمسة تعدّ من المسائل الفلسفيّة الصرفة، أي مجموعة من المسائل العقليّة المحضة الناظرة إلى العالم والخالق.

وهناك أصول موضوعة أُخرى يبتني عليها النظام القيمي (الإيديولوجيا الإسلاميّة)، ويمكن عدّ أهمّ الأصول النافعة والحيويّة في حلّ المسائل الأخلاقيّة والحقوقيّة كما يلي:

أصل الحياة الاجتماعيّة
إنّ الحياة الاجتماعيّة ضروريّة لأجل الوصول إلى الكمال الحقيقي والمطلوب. نعم، قد ادّعى بعضٌ أنّ الإنسانيّة حصيلة الحياة الاجتماعيّة، بحيث إنّ الإنسان خارج المجتمع لم يكن إنسانًا. ولكن هذا المدعى مبالغ فيه وغير مقبول، ونحن نعتقد أنّ الحياة الاجتماعيّة لو لم تتحقّق وعاش الإنسان بمفرده أو إذا كانت العلاقات الاجتماعيّة ضعيفة، لم تتحقّق حينئذٍ كمالات الإنسان بالنحو المطلوب. إذ الإنسان في معترك الحياة الاجتماعيّة يقع أمام مفترق الطرق ويتهيّأ له الانتخاب والاختيار، ثمّ إنّ المجتمع هو الذي يمنح الإنسان أدوات التكامل. والمصداق البارز لهذا الأمر مسألة التعليم والتربية وسائر الجهود العلميّة والفكريّة والثقافيّة حيث لا تتحقّق إلّا في المجتمع. والإنسان إذا لم يستفد من تراثه العلمي والفلسفي والعرفاني والديني والفني الماضي، لم يتمكّن من السير في طريق الكمال بالنحو المطلوب، ولا شك أنّ الحياة الاجتماعيّة أفضل من الحياة الفرديّة قطعًا، لما لها من إمكان تحقّق الكمالات الماديّة والمعنويّة بنحو أفضل. وبما أنّ الإنسان يسعى لنيل أكبر قدر من الكمالات، فلا بدّ أن يختار الحياة الاجتماعيّة.

ثمّ إنّ الاعتقاد بالتأثير الإيجابي للحياة الاجتماعيّة في تحقّق القدر الأعلى من الكمالات الإنسانيّة، يدلّ على أنّ النظام الحقوقي لا بدّ أن يهتم بمسـألة المجتمع والحياة الاجتماعيّة بشكل خاصّ، فالنظام الحقوقي الذي لا يعترف بأصل الحياة الاجتماعيّة، لا يتمكّن من تقديم مبنى مستحكم للمسائل الحقوقيّة؛ لذا يتمكّن كل شخص من رفض الحياة الاجتماعيّة وعدم رعاية القوانين والأحكام الاجتماعيّة، أي بأن لا يؤدّي تكاليفه أمام الآخرين، لذا فإنّ قبول أصل الحياة الاجتماعيّة يعدّ ضروريًّا لإثبات وتعيين حقوق الإنسان وتكاليفه وتنفيذها.

أصل ضرورة القانون
بما إنّ الوصول إلى كمالات الإنسان الحقيقيّة مرهون بالحياة الاجتماعيّة، لا بدّ من تأمين المسائل الأمنيّة للمجتمع والنظام الاجتماعي، ولازم هذا الأمر تحديد الحرّيّات الفرديّة، فلو كان يعيش على الكرة الأرضيّة إنسان واحد فقط، كان بإمكانه أن يعيش من دون أيّ قيود، وأن يتمتّع بالمواهب والنعم المادّيّة والطبيعيّة. ولكن إذا لم يكن الأمر هكذا، وعاش على الأرض أكثر من إنسان واحد، لا يوجد أمامنا إلّا طريقين: إمّا أن يتمتّع كلّ فرد بحرّيّات مطلقة وغير محدّدة بحيث لم يتحقّق المجتمع، وإمّا أن تتحقّق الحياة الاجتماعيّة، وهنا لا بدّ من تحديد الحرّيّات الفرديّة. إذ لا يمكن الجمع بين الحرّيّات المطلقة والتمتّع بخصائص الحياة الاجتماعيّة.

فإذا أراد أن يتعامل كل شخص مع الآخرين طبقًا لأهوائه الخاصّة، وأن يكون حرًّا في الاستفادة من الإمكانات الطبيعيّة والماديّة بشكل مطلق، فلا يتحقّق المجتمع حينئذٍ؛ لذا ولأجل تأسيس المجتمع وحفظ الحياة الاجتماعيّة لا مناص من تحديد الحرّيّات الفرديّة. وبعبارة أخرى فإنّ للحياة الاجتماعيّة ضوابط وحدودًا يلزم مراعاتها في مقام العمل. والخلاصة أنّ الحياة الاجتماعيّة تعدّ مناخًا مناسبًا لتحقّق الكمالات الإنسانيّة، كما إنّ الحياة الاجتماعيّة مرهونة أيضًا برعاية الحدود والضوابط الاجتماعيّة، وبالنتيجة تصبح القوانين والأحكام الاجتماعيّة ضروريّة، فالقانون بتحديده للحريّات الفرديّة، يهيّئ إمكانيّة تقسيم المواهب والنعم الطبيعيّة والمادّيّة بشكل عادل بين جميع المواطنين.

أصل تلازم الحقّ والتكليف
نقصد من أصل تلازم الحقّ والتكليف أنّ القوانين الاجتماعيّة والحقوقيّة على نحوين، فمن جهة تثبت الحقّ والاختيار للإنسان، ومن جهة ثانية تثبت التكليف على الآخرين، فالحقّ والتكليف متلازمان بهذا المعنى. وبهذه الرؤية فإنّ الاعتبارات العقليّة تكون صحيحة فيما لو كانت لها آثار عمليّة، بمعنى أنّ اعتبار الحق للإنسان يكون صحيحًا ومعقولًا فيما لو كُلّف الآخرون برعاية ذلك الحق، وإلّا سيكون لغوًا وصوريًّا. فلو عاش مثلًا إنسان واحد على الأرض لكان تعيين وإثبات الحق له لغوًا، إذ لولا وجود أشخاص آخرين يُلزمون ويكلّفون برعاية حقوقه، لم يكن لاعتبار الحق هذا أيّ ثمرة عمليّة.

ثمّ إنّ المقصود من الحقّ هنا الحقّ الحقوقي والاجتماعي فقط، ولا يشمل الحقّ الأخلاقي والديني، وعمومًا عندما يُعتير ويُوضح الحقّ لموجود مّا، لا بدّ من لحاظ موجود ذي شعور ليكلّف برعاية ذلك الحقّ، وعليه لا يمكن القول بأنّ حق جبل دماوند أن يقع في سلسلة جبال البرز مثلًا، لعدم وجود شخص يُكلّف برعاية هذا الحق، كما لا يمكن اعتبار الحق في جريان النهر في الأرض الفلانيّة الخاصّة، للغويّة هذا الاعتبار.

ولكن لو جعل حق السقي للنباتات البيتيّة أو الأشجار لم يكن هذا الحق لغوًا، لأنّ صاحب الدار مكلّف بسقيها، وليس من الضروري أن يكون صاحب الحق موجودًا ذا شعور، ولكن الذي يُكلّف لا بدّ أن يكون موجودًا ذا شعور كالإنسان، لذا فإنّ للحيوان والنبات وحتّى الجماد حقوقًا يُكلّف الإنسان برعايتها، فلا يحق وضع الأمتعة الثقيلة على الدابة مثلًا بما يفوق طاقتها، كما لا يحقّ تجويع الحيوان البيتي، أو لزوم إحياء الأراضي الموات وما شاكل. ولكن لا يمكن التكلّم أبدًا عن حقّ الشجرة على الجبل، أو حقّ الجبل على البحر، أو حقّ البحر على السمك، والخلاصة أنّ اعتبار الحقّ ووضعه بالمعنى الحقوقي والاجتماعي، يكون صحيحًا ومعقولًا حينما يكلّف الإنسان برعاية ذلك الحقّ فقط.
ثمّ إنّ لهذا التضايف والتلازم بين الحق والتكليف دورًا أساسيًّا في فهم علاقة الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة في علم أصول الفقه. فلعلماء علم الأصول بحوث كثيرة في منشأيّة أحدهما للآخر. فذهب بعضهم إلى أنّ الأحكام الوضعيّة ناشئة من الأحكام التكليفيّة، وذهب آخرون إلى عكسه. والحقيقة أنّهما متلازمان ولا يمكن اعتبار أحدهما دون الآخر. فمعنى وضع الحق لموجود إثبات التكليف على سائر الموجودات المختارة وكذلك العكس، فلا يلزم أن يكون أحدهما أصلًا والثاني فرعًا، لأنّ الحق والتكليف متلازمان سيّما في الأمور الاجتماعيّة.

وعلى أيّ حال فإنّ ضرورة القانون والأحكام الاجتماعيّة، يعني لزوم وجود حقوق وتكاليف للإنسان في المجتمع، وعليه لا يعقل الالتفات إلى الحقوق والحرّيّات وإغفال التكاليف والمسؤوليّات أو التغافل عنها.

أصل رعاية المعايير
إنّ بقاء المجتمع واستمرار الحياة الاجتماعيّة يستلزم قبول الحدود والضوابط الحقوقيّة وإثبات الحقوق والتكاليف. ثمّ إنّ تعيين الحدود الحقوقيّة والاجتماعيّة تحتاج إلى ملاكات ومعايير يلزم مراعاتها، وتنقسم هذه المعايير إلى معايير كمّيّة وكيفيّة. ولا بدّ أن يكلف كل فرد أو مجموعة من المجتمع بلزوم الاستفادة من النعم بالمقدار المعيّن، وهذا التعبير يبيّن الحالة الإيجابيّة الدالّة على حق الفرد أو المجموعة حيث يُكلّف الآخرون بمراعاتها. والتعبير عن (المقدار المعيّن) يبيّن حقّ الآخرين الذي يلزم على الفرد أو المجموعة مراعاتها، علمًا بأن تعيين مقدار حق الانتفاع للأفراد والمجموعات عند التزاحم، يُبيّن على أساس المعايير الكميّة والكيفيّة.

فإذا حصل تزاحم بين فئتين غير متوازنتين عند التمتّع بالنعم، تُقدّم حينئذٍ الفئة الأكثر، لأنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي تحقّق الكمال الأكثر في المنظومة الكونيّة، وهذا المعنى يحصل بافتداء الفئة الأقل للأكثر. وعليه لو توقّفت حياة أكثريّة المجتمع على شيء تملكه الأقليّة، يلزم إخراج ذلك الشيء من يد الأقليّة وإعطاؤه للأكثريّة، هذا هو المعيار الكمّي، ففي المعيار الكمّي يُعتمد على الكميّة والعدد.
أمّا المعيار الكيفي، فيؤكّد على نوع المصلحة، فلو تعارض تحصيل مصلحة فئة مع فئة أُخرى مساوية لها، ولكن اختلفت المصلحة كيفيًّا، بأن تكون إحداها ماديّة والأخرى معنويّة، فتقدّم الفئة التي تملك المصلحة المعنويّة على الأخرى التي تملك المصلحة الماديّة، لأنّ هذا هو مقتضى الحكمة الإلهيّة.

فلو تزاحمت المصلحة الماديّة والدنيويّة لنصف المجتمع مع المصلحة المعنويّة والأخرويّة للنصف الآخر من المجتمع، فلا بدّ من افتداء المصلحة الدنيويّة للمصلحة الأخرويّة، لأنّ الأصالة للدين لا الدنيا، ولا بدّ من افتداء المال للعقيدة لا العقيدة للمال، ولا بدّ من غضّ الطرف من المنافع الدنيويّة لأجل نشر حقائق الدين ومعارفه في العالم، هذا فيما لو حصل تزاحم بين المصالح طبعًا، وإلّا يلزم استيفاء جميع المصالح أعم من الأكثريّة والأقليّة، الدنيويّة والأخرويّة، الماديّة والمعنويّة.

أصل الحرّيّة
إنّ الكمال الحقيقي المختصّ بالإنسان يحصل عن طريق الفعل الاختياري حصرًا، وكلّما كانت أرضيّة الانتخاب أوفر، تتحقّق الكمالات بشكل أفضل، وبعبارة أُخرى بما أنّ قيمة كمال الإنسان بصدوره اختياريًّا، فكلما كانت أفعال الإنسان عن اختيار، وقعت في طريق الاستكمال بشكل أفضل؛ لذا في إدارة المجتمع وتدبيره يلزم حرّيّة الإنسان -في حدّه الممكن- عند أداء وظائفه، حتّى أن الأعمال التي يلوح منها أنها ضروريّة، يلزم أن تُذكر في البداية على نحو الاقتراح كي ينتخبها الناس عن اختيار، لأنّ المطلوب هو أداء العمل بشكل تطوّعي ومن دون إجبار وإكراه.

فلو كان القرار تحديد الأعمال الاقتصاديّة نحو اتّجاه خاصّ مثلًا، أو لزم صرف بعض أموال الناس في المصارف العامّة، أو احتيج إلى أشخاص للدفاع عن الوطن، كل هذه الأمور لا بدّ أن تذكر للناس في البداية على نحو الاقتراح ليلتزم بها من يريد التكامل اختيارًا.
ففي هذه الصورة تتحقّق الكمالات الفرديّة كما يتمّ تأمين مصالح المجتمع، وهذا المنهج أفضل من الطريقة التي تستعملها الأنظمة السياسيّة الشموليّة. إنّ الأنظمة المستبدّة تسلب الحرّيّات من الناس، لذا لا يمكن تأمين المصالح الاجتماعيّة كما ينبغي، كما لا تتحقّق الكمالات الفرديّة.
وبما أنّ الشؤون الاجتماعيّة متعدّدة بشكل كبير، مما يصعب على الأفراد الاطّلاع على أحوال سائر الناس وأعمالهم، ولاحتمال حدوث تصادم كثير بين الناس لو تُركوا وحالهم، لزم وجود قوّة حاكمة تنسّق الأمور، وترشد الناس في الحدود الممكنة.

والخلاصة أنّ الإنسان مهما كان حرًّا في أداء الأعمال الصحيحة، لكان الكمال الحاصل منه أفضل، لذا لا بد للنظام الحقوقي أن يجعل حريّة الناس هي الأصل، ليكونوا في حريّة كاملة عند اختيار منهج الحياة ونوع العمل وكيفيّة أداء الوظائف الاجتماعيّة، كي يتحقّق تكاملهم بنحو أفضل.

أصل ضرورة الحكومة
إنّ من يزعم أنّ الإنسان يتمكّن من الترقّي بالتربية الصحيحة ليصل إلى مرتبة يسعى لمصالح الآخرين وكمالهم من دون أيّ عجب وأنانيّة، لا يكون إلّا متوهّمًا، كما لا يمكن أن يصبح الجميع كالملائكة، وفي الحقيقة يوجد في المجتمع دائمًا أشخاص يعملون على خلاف مصالح بني نوعهم المادّيّة والمعنويّة، فحرّيّة هكذا أشخاص لم تكن من المصلحة فحسب، بل تكون من لوازم انهيار النظام الاجتماعي؛ لأن الإنسان لم يكن بحيث أن يؤدّي جميع الناس وظائفهم بشكل تطوّعي وحر. فالنظرة الواقعيّة تفرض وجود حكومة تستعمل القوّة عند الضرورة، وتجبر من يتخلّى عن أداء وظائفه على أدائها كي يتحقّق هدف الخلقة، نعم لا يمكن لكلّ شخص أن يحتج بأصل ضرورة الحكومة ليتصدّى لها، إذ الحكومة المشروعة هي التي تنشأ عن إرادة الله، ويكون مقبوليّتها من قبل الناس، ولا بد من تعيين حدود صلاحيّة الحكومة واقتدارها من سائر الأصول.


--------------------------------
[1]*- مستل من كتاب ( نكاهي كذرا به حقوق بشر از ديدكاه اسلام ) للشيخ محمد تقي المصباح اليزدي .. تعريب: هاشم الميلاني.
[2]- بحار الأنوار للمجلسي 74: 10.
[3]- نهج البلاغة، الحكمة 156.
[4]- نهج البلاغة، الخطبة 207.
[5]- نهج البلاغة، الخطبة 207.
[6]- نهج البلاغة، الخطبة 216.