البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلسفة حقوق الإنسان في رؤية آية الله جوادي الآملي

الباحث :  حميد پارسانيا
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  33
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث :  267
تحميل  ( 404.779 KB )
الملخص
تستند حقوق الإنسان إلى الأرضيّات الوجوديّة المعرفيّة وغير المعرفيّة، وأرضيّاتها الوجوديّة المعرفيّة عبارة عن: المباني والمبادئ أو الأسس الاعتقاديّة، التي تشمل الأسس الأنطولوجيّة، والأنثروبولوجيّة، والإبستمولوجيّة. يمكن لفلسفة حقوق الإنسان أن يتمّ بيانها بمعنيين؛ أحدهما: علم من الدرجة الثانية، يبحث عن صلة حقوق الإنسان بالمباني والأسس الاعتقادية، إن فلسفة حقوق الإنسان بهذا المعنى تمثل جزءًا من المنهجية التأسيسية لحقوق الإنسان. والآخر: علم بشأن المباني والأسس الاعتقادية والميتافيزيقية لحقوق الإنسان، حيث يعمل على تقويم صحّتها وسقمها. وفلسفة حقوق الإنسان في المعنى الأخير سوف تكون جزءًا من الميتافيزيقا.

سوف نبحث في هذه المقالة أوّلًا عن الحدّ الأدنى من الأسس الاعتقادية الضرورية واللازمة للتدوين العالمي لحقوق الإنسان، ثم ننتقل بعد ذلك إلى بحث المبادئ الأنطولوجية والإنثروبولوجية والإبستمولوجية لحقوق الإنسان الإسلامية. ثم نعمل على بيان المصادر والمبادئ المتخذة من تلك الأصول، وفي نهاية المطاف سوف نعمل ضمن بحث مقارن على بيان امتياز حقوق الإنسان الإسلامية بالقياس إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

الكلمات المفتاحيّة: فلسفة حقوق الإنسان، الأسس الاعتقادية، والميتافيزيقا، وحقوق الإنسان الإسلامية، والإبستمولوجيا، والإنثروبولوجيا.

المقدّمة
ليست حقوق الإنسان مجموعة من المفاهيم والمباني والقواعد والقوانين المستقلة عن سائر الحقول المعرفيّة الأخرى. وهذه الحقوق من الناحية المعرفية والمنطقية متأخرة عن بعض المعارف الأخرى؛ كما أنها تتقدّم على جزء من المعارف أيضًا، وإن التكوين والتحقق التاريخي والثقافي لحقوق الإنسان يأتي ضمن التعامل مع الحضور والتحقق التاريخي للمجموعات المعرفية أو غير المعرفية الأخرى. ومن بين المعارف التي تتقدّم من الناحية المنطقية على حقوق الإنسان، المباني والمصادر التي تستفيد منها الحقوق. إن المباني عبارة عن مجموعة من الأصول والقواعد التي تستفيد منها شرعة حقوق الإنسان، من قبيل: الأصول التي يرد ذكرها في باب العدالة والحرية وملكية وسعادة الإنسان. والمصادر بدورها هي الأمور التي تؤخذ منها الأصول والقواعد والحقوق، من قبيل: العقل والوحي والعُرف والثقافة والتاريخ وما إلى ذلك.
في السلسلة المنطقية للمفاهيم، تتوقف المباني والأصول والقواعد والمصادر الحقوقيّة، على المباني والأسس الاعتقاديّة، وهي الأخرى تسجّل حضورها في الأبعاد الثلاثة الأنطولوجيّة والإنثروبولوجيّة والإبستمولوجيّة.
إنّ الذين يعملون على تدوين حقوق الإنسان، يستفيدون من المبادئ والمصادر المقبولة، فهم في مقام تدوين حقوق الإنسان، لا يتكفلون بالبحث عن المبادئ والمصادر، وكذلك الأسس الاعتقادية المرتبطة بها؛ وإنما يقع البحث عن هذه المجموعة في دائرة "فلسفة حقوق الإنسان".

مفهومان لفلسفة حقوق الإنسان
يمكن لفلسفة حقوق الإنسان أن تُستعمل في معنيين، أحدهما: العلم الذي يتحدّث عن ربط المجموعات الحقوقية بالمباني والمصادر، وكذلك بالأسس والأرضيّات الأنطولوجيّة والإبستمولوجيّة والإنثروبولوجيّة؛ والآخر: العلم الذي يبحث عن الأسس الفلسفيّة والميتافيزيقيّة لحقوق الإنسان.
إن فلسفة حقوق الإنسان في معناها الأول، تمثّل نوعًا من العلم من الدرجة الثانية؛ بمعنى أنها لا تخوض في الأبحاث الحقوقية، ولا تتكفّل بحل المسائل الميتافيزيقيّة أو الإنثروبولوجيّة أو غير ذلك؛ وإنما تُخبر عن الارتباط المنطقي بين المجموعات المعرفية، ويمكن لهذا الإخبار أن يكون على شكل القضايا الشرطية كأن يُقال: إذا كانت الأنطولوجيا إلهية، والإنثروبولوجيا دينية، أو الإبستموبوجيا -على سبيل المثال- عقلانيّة ووحيانيّة، فإن حقوق الإنسان سوف تكتسب مثل هذه الخصائص، أو يُقال إن حقوق الإنسان الراهنة قد تمّ تدوينها على أساس الأنطولوجيا العلمانية.
إنّ فلسفة حقوق الإنسان في المفهوم الأوّل جزء من المنهج الأساسي؛ بمعنى أنها تبحث عن الجانب المنطقي والمعرفي لمسارات تبلورت نظريات حقوق الإنسان في أحضانها؛ وأمّا فلسفة حقوق الإنسان في المفهوم الثاني، فهي تمثّل جانبًا من الميتافيزيقا أو العلوم التي تضمن مباني علم الحقوق أو حقوق الإنسان. إن فيلسوف حقوق الإنسان في هذا المعنى، يدخل في الأبحاث الميتافيزيقيّة والإنثروبولوجيّة أو الإبستمولوجيّة، ويعمل على إثبات النبوّة، ويدافع عن مرجعية الوحي، والأبعاد المجرّدة والخالدة من حياة الإنسان، وما إلى ذلك.

لقد تعرّض سماحة آية الله جوادي الآملي إلى بحث فلسفة حقوق الإنسان بكلا مفهوميها. إن سماحته بلحاظ كونه فيلسوفًا، فقد تعرّض في آثاره الفلسفية المتعدّدة إلى بحث المباني الأنثروبولوجيّة والأبستمولوجيّة والأنطولوجيّة لحقوق الإنسان، وحيث أنه يحقق في الامتداد الاجتماعي والحقوقي لتلك الأبحاث، فإنه يعمل على تحديد اللوازم والتداعيات المنطقية لتلك الأبحاث في حقل حقوق الإنسان، ويعمل في بعض الأحيان على تتبّع المبادئ الفلسفية للحقوق المدوّنة للإنسان، وتحدّث بشكل مقارن عن التبعات والتداعيات الحقوقيّة لمختلف المبادئ.

إن حقوق الإنسان تشتمل على مبادئ ومبان وأسس اعتقادية، وإن تدوينها يتبلور على أساس بعض الأصول والقواعد، من قبيل: العدالة والسعادة والحرية والملكية وكذلك الأصول والقواعد المستنبطة من بعض المصادر، من قبيل: العُرف والعقل والثقافة والوحي. كما أن المصادر بدورها تقوم على أساس المبادئ أو الأسس الاعتقادية التي يمكن تتبّعها وبحثها ضمن الأبعاد الثلاثة الأنطولوجيّة والإنثروبولوجيّة والإبستمولوجيّة.

الأبعاد المعرفية والتاريخيّة لحقوق الإنسان
يمكن بحث حقوق الإنسان من خلال البُعدين؛ المعرفي/ المنطقي، والتاريخي/ الثقافي، حيث الإمكان المعرفي/ المنطقي منه رهن بتوفّر بعض الأصول والأسس الفلسفية؛ كما أن التواجد التاريخي له يحتاج إلى بعض الخلفيات الثقافيّة/ الاجتماعيّة.

وبعبارة أخرى: كما أن بعض العناصر التاريخية تحول دون تحقق حقوق الإنسان، فإن بعض المبادئ الفلسفية بدورها تحول دون التدوين والدفاع المنطقي/ المعرفي عن حقوق الإنسان أيضًا. يمكن رسم حقوق وقوانين خاصة لمختلف الجماعات الإنسانية في المجتمعات المختلفة بسهولة؛ وذلك لأن كل مجموعة أو مجتمع يعمل على تعريف حقوقه المشتركة على أساس الأرضيات المعرفية المشتركة التي يمتلكها؛ بيد أن تقديم صورة عن الحقوق الشاملة للبشرية جمعاء والإنسانية بأسرها على نحو مطلق ـ بغض النظر عن الموانع الثقافيّة/ التاريخيّة التي يمكن أن تحول دون القبول بها من قبل الجميع ـ يُعدّ صعبًا من الناحية المنطقية والمعرفية أيضًا.

الشروط المنطقية اللازمة لتدوين حقوق الإنسان
إن الحقوق المشتركة إنما تكون قابلة للتصوّر فيما إذا كانت قائمة على أساس المباني الإنثروبولوجيّة في المفهوم المشترك للإنسانية -بغض النظر عن الظروف والشرائط الإقليميّة والتاريخيّة- وأن يكون المبنى الإبستمولوجي بدوره، بحيث يوفّر الأرضية اللازمة للتعرّف على تلك الحقيقة المشتركة؛ ولهذا السبب فإن الآراء التي لا تقبل حقيقة واحدة في البُعد الأنطولوجي، أو التي ترى استحالة الوصول إلى الحقيقة في البُعد الإبستمولوجي، تتحدّث عن نسبية الفهم، أو أنها في البُعد الإنثروبولوجي لا تعتبر الإنسان حقيقة واحدة، وترى للإنسان هوية تاريخيّة/ ثقافيّة لا يمكنها الدفاع من الناحية المعرفية والمنطقية عن الحقوق المشتركة للبشر.

قال آية الله جوادي الآملي ضمن الإشارة إلى المبادئ الضرورية لتدوين الحقوق المشتركة: «على كل حال، إنما يمكن إقامة البرهان العقلي على شكل قضية حقيقية لإثبات التساوي بين الكثير من الأشخاص في الحقوق، حيث يتمّ إثبات وحدة حقيقية وعينيّة جامعة بين الأشخاص المتفرّقين، ليكون ذلك الجامع الحقيقي -وليس الاعتباري- والعيني -وليس الذهني المحض- هو موضوع القضية الحقيقية، ويثبت له محمول، وإن هذا المطلب إنما يكون حيث نروم من خلال المصدر العقلي إثبات حقوق ذلك الجامع بين الأفراد الكثيرين، وأما إذا أردنا أن نتحدّث بعنوان كليّ وعام عن أشخاص كثيرين بوصف الجمع في التعبير والسهولة في التقرير دون أن يكون بينها جامع حقيقي وعيني، فإن البحث عن البرهان العقلي الذي يُعدّ محمولًا في اللوازم الذاتية للموضوع سوف يكون خارجًا عن موضوع البحث»[3].

المبادئ الأنطولوجيّة
إن الحقوق المشتركة للإنسان، تحتاج إلى نوع من الأنطولوجيا التي يمكنها توفير المبنى المشترك لجميع أفراد البشر. والأرضية الأنطولوجية للحقوق المشتركة لا يمكن أن تعود إلى الوجودات المتغيّرة والمحدودة من قبيل القدرات الاجتماعيّة للبشر والثقافات المتحوّلة والتاريخيّة. إن الوجودات المتغيّرة من قبيل الخصائص الخاصة بكل شعب، والقدرات التاريخيّة والإقليميّة، والآداب والتقاليد والأعراف، يمكنها أن تلعب دورًا ملحوظًا في تدوين القوانين العادية والوطنية وكذلك كيفية تطبيق القانون، ولكنها لا تجدي شيئًا في تدوين القانون المشترك للبشرية وفي عرف الحقوق الدولية.

إن الحقوق المشتركة بين البشر، تقوم على نوع من الأنطولوجيا التي تعمل بنحو من الأنحاء على ضمان المبدأ الفاعلي والغائي للحقوق بحيث يذهب إلى أبعد من حدود الأقاليم والأزمنة والقوميات المختلفة. تحتوي الأنطولوجيا التوحيدية على هذه الخصوصية، والله سبحانه وتعالى مصداق لقوله: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ) (الحديد: 3) والمبدأ الفاعلي والغائي للحقوق. إن التوحيد الربوبي والتوحيد الإلهي يُعدّ من جملة المبادئ الأنطولوجية التي تضمن من حيث البُعد المنطقي موقعًا واحدًا وثابتًا لتدوين حقوق مشتركة لجميع أفراد البشر.
إن الله سبحانه وتعالى ـ في ضوء الأنطولوجيا التوحيدية ـ وجود وحق محض؛ وفي ذلك يقول تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)[4]، وهو يتصف بكل كمال ويتنزّه عن كل نقص. وبالإضافة إلى الحق المحض، تعود إليه جميع الحقوق الأخرى، وتكتسب وجودها منها: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ)[5]، وحيث يكون الله سبحانه وتعالى هو الحق المحض، فهو كذلك وليّ على التكوين ووليّ على التشريع أيضًا، ولهذا السبب يكون الحكم في سلسلة التشريع والحقوق التشريعية منه وإليه وحده فقط: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)[6].

إن الرؤية التوحيدية ترى كل رؤية أخرى تثبت لغير الله حق التشريع ووضع القوانين وإصدار الأحكام، شركًا، ولا فرق في هذا الشأن بين أن تكون هذه الرؤية صادرة عن الأنظمة الدكتاتورية أو الديمقراطية:

«ثمّة الكثير من الآراء المتنوّعة حول مصدر ومنشأ حقوق الإنسان. فهناك من يرى أنها تستند إلى آراء الناس (الديمقراطية)، ويرى بعضهم أنها مستندة إلى مصادر أخرى، من قبيل: إرادة أهل الحل والعقد والنُخبة من بني البشر (طريقة حكم بعض المسلمين)، والطبيعة وموازينها (نظرية الحقوق الطبيعية)، والفطرة وقواعدها (نظرية الحقوق الفطرية)، والإرادة الفردية (الدكتاتورية). إن التوحيد الخالص يقوم على هذا الأساس القائل بأن حق التشريع ووضع القوانين إنما هو حق حصري لله سبحانه وتعالى. وإن جميع الآراء الحقوقية المذكورة تعدّ من الشرك، وخارجة عن دائرة التوحيد»[7].

المبادئ الإنثروبولوجية
إن الآراء التي لا تستطيع إثبات الوحدة النوعية بين البشر، لا يمكنها الحديث عن الحقوق المشتركة للإنسان. وعليه فإن الحدّ الأدنى من الشروط اللازمة في تدوين حقوق الإنسان عبارة عن إثبات الحقيقة الجامعة بين جميع الأفراد.

يرى آية الله جوادي الآملي -في ضوء تفسيره لنظرية أستاذه العلامة الطباطبائي- أن الإنسان مستخدم بالطبع ومدني بالفطرة؛ بمعنى أن له بُعدين: بُعد طبيعي، وبُعد فطري؛ حيث تكمن طبيعته في مستوى الحياة النباتية والحيوانية، وأما فطرته فلها هوية عقلانية[8].

والإنسان في بُعده النباتي والحيواني يمتلك مدركات حسية وخيالية ووهمية، وفيما لو لم تتفتح وتزدهر فطرته العقلانية، فإنه بعد تغلّب مختلف مراتب الشهوة والغضب أو الميول الوهمية، سيتخذ على التوالي صورة بهيميّة وسبُعية وشيطانية، وإذا عمل على تطوير فطرته العقلانية فسوف يكتسب سيرة ملائكية بل وحتى أكثر منها.
وفي ضوء مبنى الحكمة المتعالية، على الرغم من أن الإنسان نوع متوسط يكتسبه في واحدة من الصوَر الأربعة المذكورة أعلاه، فإنه بسبب الصوَر الثلاثة الأولى تبقى حياته العقلانيّة والمعنويّة موجودة بالقوّة، ويكون باعتبار هذا البُعد مالكًا لحقوق فطرية واحدة وثابتة.

والنقطة الجديرة بالالتفات في الفكر التوحيدي هي أنه حيث يكون الحق تعالى في هذا النوع من الأنطولوجيا هو المبدأ الفاعلي والغائي للحق، فإن الإنسان على كل حال لن يكون هو المبدأ الغائي والفاعلي لحقوق الإنسان، وإنما هو مجرّد مبدأ قابلي ومادي في ذلك؛ إذ إن القوانين والأنظمة الحقوقيّة بدورها هي المبدأ والعلّة الصورية لحقوق الإنسان. إن الإنسان بحكم قابلياته بلحاظ فطرته الإلهية، يكون منشأً ومصدرًا للحقوق البشرية الواحدة والمشتركة.

المبادئ الإبستمولوجيّة
إن الأسس والأصول الإبستمولوجيّة والمعرفية تُسهم بدورها في إمكان تدوين الحقوق المشتركة للإنسان. لو أمكن للاتجاهات الحسية من حيث البُعد المنطقي أن تؤدّي إلى معرفة مشتركة، فإنها سوف تستدعي خلفها معرفة علمية وضعية لا تمتلك إمكانية الحكم بشأن القيَم، ومن بينها القضايا الحقوقية، وحيث لا يكون هناك من طريق منطقي وعلمي لتدوين حقوق الإنسان، فسوف يؤدّي الأمر لا محالة إلى التوافقات الاجتماعية التي تتبلور تحت تاثير العوامل التاريخيّة/ الثقافيّة المتغيّرة والمتكثّرة.

إن وجود معرفة علميّة مشتركة بين البشر، بحيث تكون لديها القدرة على الحكم بشأن القواعد والقوانين العالمية للحياة، وكذلك إمكانية الحكم في مورد مبادئ هذه القوانين، تمثّل الشرط المعرفي الأدنى لتدوين الحقوق العالمية للإنسان. وبطبيعة الحال فإن الاتجاهات التجريبية وما بعد التجريبية لا تمتلك القدرة على بيان هذا النوع من الأصول المعرفية من أجل التدوين المنطقي لحقوق الإنسان العالمية؛ إذ لا يمكن لأيّ واحد من هذين الأمرين أن يخبر عن معرفة بحيث تكون أوّلًا: شاملة وعالمية، وثانيًا: تمتلك القدرة على إصدار الأحكام القيَمية والمعيارية.

يتحدّث آية الله جوادي الآملي عن العقل والوحي بوصفهما وسيلتين معرفيتين لتدوين الحقوق العالمية للإنسان. وإن للعقل -من وجهة نظره- مراتب مختلفة يُعدّ أدناها العقل التجريبي حيث يعمل من خلال الاستعانة بالحسّ على معرفة الأمور الجزئية والأحكام الكلية المرتبطة بها. وأعلى مرتبة له هي مرتبة العقل القدسي والشهودي الذي هو فوق المعرفة الاستدلالية والمفهومية. وهذا النوع من العقل ينتهي إلى المعرفة الوحيانية.
والعقل التجريبي جزء من العقل النظري، حيث ينشغل بمعرفة الأمور الطبيعية، والعقل الميتافيزيقي بدوره جزء آخر منه، حيث يبحث في ما وراء الطبيعة أو الأحكام المطلقة للوجود. أما العقل النظري الذي يقع في قبال العقل العملي، فيعمل في جميع مجالاته المختلفة على معرفة أحكام الوجودات التي يكتب لها التحقق بغض النظر عن الإرادة الإنسانيّة، والعقل العملي يطّلع على أحكام الوجودات التي تكون إرادة الناس وإدراكهم مقوّمًا لها.

إن القواعد الحقوقيّة بشكل عام والحقوق العالمية للإنسان بشكل خاص، من الحقائق التي يتوقّف تحققها على إرادة الإنسان، ومن هنا فإن الحكم بشأنها يقع على عاتق العقل العملي.

العلاقة بين العقل النظري والعقل العملي
إن النقطة الجديرة بالملاحظة في فكر آية الله جوادي الآملي هي أن العقل العملي يحتاج في أحكامه إلى بعض المبادئ الميتافيزيقية التي يعرفها العقل النظري والميتافيزيقي، والعقل العملي من جهة هذه المجموعة من المبادئ يحتاج إلى العقل الميتافيزيقي، والعقل العملي -خلافًا لما تصوّره إيمانوئيل كانط- لا يستطيع أن يملأ فراغ العقل النظري[9]. وعلى هذا الأساس فإن العقل النظري يعمل على توفير المبادئ الميتافيزيقية لحقوق الإنسان، والعقل العملي بدوره يُعدّ وسيلة تنشط في معرفة الأصول والقواعد والأحكام الحقوقية.
إن العقل العملي -من وجهة نظر آية الله جوادي الآملي- وإن كان في بيان الأحكام الحقوقية يحتاج إلى بعض المبادئ التي يتمّ توفيرها من طريق العقل العملي، إلا أنه لا يقبل التقليل إلى العقل النظري. وبعبارة أخرى: إن القضايا التي يعمل العقل العملي على بيانها، لا تقبل الإحالة إلى قضايا العقل النظري. يرى سماحته أن العقل العملي -مثل العقل النظري- يحتوي على نوعين من القضايا البديهية والنظرية، والقضايا البديهية للعقل العملي، من قبيل: حُسن العدل وقبح الظلم، تختلف بحسب ذاتها وماهيتها عن القضايا البديهية الأولية للعقل النظري، من قبيل: أصل الواقعية أو مبدأ عدم التناقض. يرى سماحته أن معنى الحُسن والقبح في العلوم النظرية، في الإلهيات والكلام، ليس من قبيل الحُسن والقبح في العلوم العملية التي تتحدّث في دائرة الوجودات الاعتبارية. إن رأي سماحته -كما هو رأي أستاذه العلامة الطباطبائي- على خلاف رأي الذين يحيلون القضايا الاعتبارية إلى الضرورة بالقياس إلى الغير[10]، أو الضرورة بالغير[11].

كما كان لسماحة آية الله جوادي الآملي مباحث بديعة في بيان الحُسن والقبح العقلي وفي تفسير رأي أستاذه. في هذا التفسير بالإضافة إلى الحفاظ على استقلال العقل العملي، وعدم إحالة قضايا العقل العملي إلى قضايا العقل النظري، يتم إبطال ونفي الأفهام التي ترى اعتبارية قضايا العقل العملي بمعنى نسبيتها، وبذلك يتمّ العمل -من خلال الحفاظ على الارتباط بين العقل العملي والعقل النظري- على توفير الأرضية المناسبة لتدوين الحقوق الجامعة للإنسان[12].

الوحي والعقل الاستنباطي
إن الوحي وسيلة معرفية أخرى مؤثرة في تدوين وتكوين حقوق الإنسان. والوحي -من وجهة نظر سماحة آية الله جوادي الآملي- لا يقع في تقابل مع العقل، بل هو محيط به، ولهذا السبب فإنه بالإضافة إلى معطيات ومدركات العقل، يُخبر عن آفاق أسمى من العقل أيضًا. وهو يرى أن آيات من قبيل قوله تعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم) (النساء: 113)، وقوله تعالى: (يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 151)، ناظرة إلى هذا المعنى.
إن الوحي -من وجهة نظر سماحة الأستاذ- ليس بمعنى الدين والشريعة وما إلى ذلك؛ بل الوحي هو مثل العقل، يمثّل نوعًا أو مستوى من المعرفة التي يتم بها اكتشاف الدين والشريعة والإرادة التشريعية أو حتى الإرادة التكوينية لله سبحانه وتعالى. والوحي يضع الكلام والخطاب الإلهي بواسطة النقل بين أيدي المخاطبين المحرومين من الحصول عليه مباشرة، والإنسان يستفيد من النقل بواسطة عقله، ومن هنا فإن الإنسان غير العاقل لا يكون مخاطبًا بالوحي.

كما يُعرف العقل في دراسات الطبيعة، بعناوين من قبيل: العقل التجريبي، والعقل الآلي، وفي دراسات الرياضيات والميتافيزيقا بعناوين من قبيل: العقل التجريدي أو الميتافيزيقي، ويكتسب في حقل دراسات الوجودات المقدورة والإنسانيّة عنوان العقل العملي، يمكن له كذلك في فهم النقل والاستنباط أن يكتسب عناوين، من قبيل: العقل الاستنباطي أو الاجتهادي أيضًا.

معنى قاعدة الملازمة
في ضوء المبادئ الأنطولوجية للحقوق وما يُعرف من التوحيد الربوبي والألوهية والولاية الإلهية على التشريع، لا يكمن الاختلاف بين العقل والنقل في أن النقل يعمل على بيان الأحكام والقوانين الإلهية، وأن العقل يعمل على بيان حكمه، كما أن قاعدة الملازمة لا تعني أن الشريعة والنقل لا يفتيان على خلاف حكم العقل أبدًا؛ إذ حيث تكون الربوبية والألوهية مختصة بذات الله عزّ وجل وأنه هو الولي على التشريع وأن الحكم مختص به، إذًا فالنقل والعقل لا يبديان حكمًا من جهتهما، بل كلاهما يكشف عن الحكم الإلهي. وعلى هذا الأساس كلما حكم العقل بقبح الظلم أو حُسن العدل، أو تحدّث عن حُسن الشكر وعبودية العبد لله سبحانه وتعالى، فإنه في الحقيقة يكتشف هذه الأحكام وضرورتها التي تعيّنت من جهة الله سبحانه وتعالى، ولا خلاف في هذا الشأن بين العقل والنقل، حيث كلاهما يكشف عن الأحكام الإلهية.

عندما يعجز العقل في المسائل الأنطولوجية والإنثروبولوجية عن معرفة التوحيد الربوبي، ولا يرى كرامة الإنسان في خلافته، بل يراه مستقلًا عن الحق، فسوف يتصوّر الإنسان أو عقله متربّعًا على مسند الحكم، وبدلًا من الحديث عن كشف الأحكام الإلهية بواسطة الإنسان أو عقله، سوف يدّعون أن الإنسان وعقله هو المنشأ لحقوق الإنسان.
إن ما قيل بشأن العقل والعقلاء، يصدق في مورد الوحي والأنبياء أيضًا؛ بمعنى أن الأنبياء والأولياء الإلهيين بدورهم ليسوا مشرّعين أيضًا. وعلى حدّ تعبير سماحة الشيخ: «ليس لأحد حق التشريع غير الله سبحانه وتعالى، وما يقوم به الأنبياء والأئمة ليس سوى إبلاغ الأحكام الإلهية، ودعوة الناس إلى امتثال الأوامر الإلهية. وللتأكيد على هذا المعنى يمكن لنا أن نستعين بآية أخرى حيث نجد في ضوئها أن الحكم إنما هو لله سواء في مورد الحرب والسلم أو في مورد اندحار الكفار أو قبول توبتهم أو تعذيبهم وفي جميع الأحوال الأخرى؛ إذ يقول الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (آل عمران: 128). وهذا هو التوحيد الخالص والأصيل»[13].

مصادر حقوق الإنسان
إن المصدر الحقوقي الأهم، هو الإرادة التشريعية لله سبحانه وتعالى، وهذه الإرادة سوف يتمّ اكتشافها من طريق معرفة الإنسان والعالم، ومن بينها معرفة الفطرة الإلهية للناس، وما يرتبط بكماله وسعادته. من خلال التعرّف على حقيقة وفطرة الإنسان يتمّ التعرّف على احتياجاته الحقيقيّة، وبهذه الطريقة تتضح الأحكام والقواعد التي تمّ إقرارها من قبل الله سبحانه وتعالى لتلبية هذه الاحتياجات.
قال سماحة الشيخ في بيان دور فطرة الإنسان بوصفها مصدرًا لمعرفة حقوق الإنسان: «نحن نعتقد أن جميع الناس يمكنهم العيش مع بعضهم في صلح وسلام ومحبة. ويعود سبب ذلك إلى أن هناك جهة مشتركة وثابتة بين جميع أفراد البشر، وهذه الجهة هي التي تستطيع ضمان سعادة الإنسان وتوفير سبل الرفاه له، والقرآن الكريم يُسمّي هذه الجهة بالروح، ويقول إن هذه الروح تشتمل على فطرة إلهية. وهذا الأصل المشترك (أي: الفطرة) -من وجهة نظر القرآن- يحتوي على ثلاث خصائص، وهي أولًا: إنها تريد وجه الله فقط. وثانيًا: إن هذه الفطرة قد أودعت لدى جميع الناس. وثالثًا: إن هذه الفطرة في مأمن من جميع أنواع التغيير والتبدّل. قال الله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30).

وبذلك يكون من الواضح أن ما يتمّ القبول به بوصفه أصلًا مشتركًا بين جميع الناس، هي الفطرة الإلهية. وعلى هذا الأساس لا يمكن الاعتماد في تعيين ومعرفة مصادر الحقوق إلا بهذا الأصل المشترك، ولا يجب الاستناد أبدًا إلى أبعاد من وجود الإنسان التي تعود إلى طبيعته. عندما يتم القبول بهذا الأصل، يتضح أن واضع حقوق الإنسان هو الذي أودع هذه الفطرة في وجوده وإنه يعرفه أكثر من أي شخص سواه[14].
كما أن العقل مصدر آخر يستطيع الإنسان بواسطته التعرّف على حقوقه الإلهية؛ ولكنه حيث يكون محدودًا في معرفته، فإنه من دون حضور الوحي والاستعانة به لا يستطيع التعرّف على الحقوق التي تضمن سعادته وهدايته، ومن هنا فإنه يتمّ الحديث عن الوحي بوصفه هو المصدر الأهم؛ بمعنى أن أهميته تفوق حتى الفطرة نفسها[15].

إن الإرادة التشريعية لله، والفطرة الإلهية للإنسان، والوحي والعقل، هي من المصادر التي تعدّ في ضوء العقيدة التوحيدية معتبرة في تدوين حقوق الإنسان، ويتمّ ذكر هذه المصادر في قبال مصادر من قبيل: العرف، والرغبات النفسانية لمختلف الأشخاص والأمم والتي يتمّ التعريف بها في ضوء تصوّرات الشرك بوصفها مصادر لحقوق الإنسان.

مباني حقوق الإنسان
لقد تحدّث سماحة آية الله جوادي الآملي عن ثلاثة مبان لحقوق الإنسان في الإسلام؛ حيث هي بحكم الأصول والقواعد العامّة لتدوين حقوق الإنسان، وبطبيعة الحال فقد تمّ بيان هذه الأصول على نحو الاستقراء دون الحصر، ويمكن العثور في العديد من آثاره على مبان أخرى، من قبيل: الأمن والملكية أيضًا. وهذه المباني الثلاثة عبارة عن: الحياة، والحرية، والعدالة.

1 ـ حق الحياة
إن حق الحياة من وجهة نظر القرآن إنما تمّ منحه من قبل الله إلى الإنسان فقط، ومن هنا فإنه وحده الذي يحق له التصرّف فيها. إن الحياة على نوعين: مادية ومعنوية، ولا يحق لأحد أن يسلبها من نفسه أو من الآخرين. إن سلب الحياة المادية يكون بالقتل، وسلب الحياة المعنوية يكون بالإضلال عن طريق الهداية والصواب، وإن الذي يُضل الآخرين بأيّ شكل من الأشكال، يكون قد سلبهم حقهم في الحياة المعنوية. ومن هنا فإن القرآن الكريم يعتبر الذين يستسلمون للثقافة الجاهلية أمواتًا، ولذلك فإنه يقول في وصفهم: (كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) (البقرة: 28).

لقد حرّم الإسلام الانتحار وقتل الآخرين، وقد نهى الله عن ذلك في الكثير من آيات القرآن الكريم، بل وأخذ الميثاق منهم على رعاية حرمة دماء الناس: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) (البقرة: 84).

يقول سماحة الشيخ في تفسير هذه الآية: إن هذا الميثاق لا يقتصر على فئة خاصّة من الناس؛ بل هي مطلقة وتشمل جميع الشرائع الإلهية. وكذلك حكم القصاص الذي هو وسيلة للردع عن إراقة الدماء، فإنه يجري في جميع الشرائع الإلهية وتمّ القبول به في الإسلام أيضًا[16]. وكما أن لسلب الحياة المادية عقوبة رادعة تهدف إلى الحفاظ على الحياة المادية، كذلك فإن لسلب الحياة المعنوية عقوبة رادعة أيضًا. وإن الحياة المعنوية -من وجهة نظر الإسلام- أسمى من الحياة المادية والدنيوية.

2 ـ حق الحرية
الحرية مفهوم يكتب له التحقق والتعيّن على الدوام من خلال الإضافة إلى أمور أخرى، وهو يكون على الدوام لشيء ومن أجل شيء. إن الحرية من حيث هي وصف، لها إضافة ونسبة إلى الموصوف أيضًا؛ بمعنى أن الحرية ترتبط بشخص أو أمر يتصف بذلك الوصف.
وحرية الإنسان في الإسلام تعني انعتاقه من قيود العبودية والطاعة لغير الله عزّ وجل، إذ إن الإنسان بحسب فطرته وحقيقته باحث عن الله، وإنه في توقه إلى الحركة نحو الله، ينطلق بوحي من سلوكه الاختياري؛ وأما من وجهة نظر الإنسان الحداثوي، فإن الحرية تعني تحرر الأهواء النفسية للإنسان، وهذا يعني حشر الإنسان في شرنقة شهواته ومنعه من التقرّب من الله سبحانه وتعالى.

وعلى حدّ تعبير سماحة الشيخ؛ إن الاختلاف في فهم معنى الحرية وتفسيرها قد أدّى بأتباع المدارس الحقوقية الأخرى إلى الانحراف وتنكّب الطريق في تدوين المواد الحقوقية، وفي ذلك يقول سماحته:

«في الفضاء المظلم والمضبّب بالإلحاد والاستبداد، تكون الحرية السياسية بمعنى أن تكون للأشخاص حرية المشاركة في الانتخابات؛ وعليه يقوم كل شخص أو جماعة بالإدلاء بآرائهم، ويغبطون أنفسهم على هذه الديمقراطية. وأما في فضاء المنهج التوحيدي، فإن الحرية السياسية لا تنحصر أبدًا أو يتمّ تفسيرها ضمن هذا المحور فقط ... لا ينبغي الظن -على طريقة الفاقدين للثقة بأنفسهم- بأن الإسلام بدوره يؤمن بالديمقراطية أيضًا ... إن الذي تلعب آراء الناس دورًا فيه عبارة عن ولاية الفقيه، وليس توكيله. في ضوء الرؤية الإسلامية فإن الله سبحانه وتعالى بواسطة المعصومينb قد اختار الفقيه الجامع للشرائط ليقوم بقيادة المجتمع الإنساني. إن المجتمع يُعلن من خلال إدلائه بأصواته عن قبوله بولاية هذا القائد، كما أنه بدوره يقبل بولايته، ولا يؤدّي أيّ دور في فرض وتنصيب نفسه على سدّة الحكم أبدًا؛ ومن هنا فإنه بوصفه شخصًا حقيقيًا يرضخ لشخصيته الحقوقية، ونعني بها الفقاهة المقرونة بالشرائط أيضًا؛ وعلى هذا الأساس فلو أنه أصدر حكمًا في ضوء اختياراته وصلاحياته، لا يجوز التمرّد على ذلك الحكم من قبل الآخرين فقط، بل لا يجوز للولي الفقيه بدوره أن يقوم بما ينقض هذا الحكم أيضًا[17].
في ضوء الرأي أعلاه، يضطلع الناس بواسطة خبرائهم بمسؤولية حراسة حرم الولاية، وفيما لو خرج قائد المجتمع عن مسار الولاية، لن يكون الرضى العام من قبل الناس دليلًا على إضفاء الشرعية عليه.

وفي حقل حرية العقيدة والبيان، نجد أن القرآن بالإضافة إلى دعوة العباد والمكلفين إلى الاستماع إلى أقوال الآخرين، ألقى على عاتقهم مهمّة ومسؤولية اختيار أحسن الأقوال أيضًا، وعلاوة على ذلك عمد إلى التعريف بكلمة التوحيد بوصفها مصداقًا للقول الأحسن. إن اختلاف هذا الرأي -القائم على المبادئ الأنطولوجية والإبستمولوجية التوحيدية- عن الآراء الأخرى التي تنكر أصل الحقيقة، أو تعتبر طريق معرفته مغلقًا، يكمن في أنهم لا يستطيعون الحديث عن مسؤولية الإنسان تجاه كلام خاص؛ حيث يؤدّي رأيهم من الناحية المنطقية إلى الهرج والمرج المعرفي والسلوكي.
النموذج الآخر هو الحرية الاقتصادية حيث تكتسب مفهومها ومعناها في الإسلام في إطار العبودية لله واحترام حدود الحلال والحرام، وأما في التفكير المادي فليس هناك من أثر لاحترام هذه الحدود.

كما أن حرية اختيار الوطن في الإسلام لن يكون بدوره منفصلًا عن مسؤولية صيانة الحياة المادية والمعنوية. ومن هنا فإن البقاء في وطن يعرّض الحياة المعنوية للإنسان وحريته الأصيلة للخطر، لا يكون جائزًا.
وقد كان التأكيد على الفصل بين الاختيار التكويني والتشريعي للإنسان من الأمور التي حظيت باهتمام سماحة الأستاذ في مسألة الحرية. فإنه بالنظر إلى هذا الفصل قد ذهب إلى الاعتقاد بأن هذه الحرية التكوينية لا يمكن أن نستنتج منها هذا الفهم والقول بأن الإنسان في مرحلة التشريع واختيار العقيدة يمكنه الذهاب إلى أيّ اتجاه يريد، وأن الله سبحانه سوف يحترم قراره. وإن تلك الحرية التكوينية إنما يمكن تفسرها بالنظر إلى الوظيفة التشريعية، قال الله تعالى: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)[18].

إن الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى الإعلان عن الحرية التكوينية للإنسان، قد وضع وظيفته التشريعية في إطار الإيمان بالحق والعمل به، حيث يقول تعالى: (خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[19].

3 ـ حق العدالة
والعدل يعني وضع كل شيء في موضعه، وعلى الرغم من أنّ العدل في هذا التعريف لا ينطوي على إبهام وغموض، إلّا أن معرفة موضع الأشياء بالنظر إلى اختلاف المعتقدات والآراء يكون متعدّدًا. فإن الأنطولوجيا التوحيدية أوّلًا: لا تحصر جغرافيا الوجود بالحياة في هذه الدنيا، وثانيًا: إن ظرفية الإنسان ومنزلته لا تقيّده بأغلال الطبيعة، وثالثًا: إنها لا تقيّد معرفة الظرفيات واستحقاقات الإنسان بحقل المعرفة الحسية والعقلية فقط، وإنما تقول بضرورة وأهمية حضور الوحي في هذا الشأن أيضًا.

ومجموع هذه الأمور لها دخل وتأثير في تفسير وبيان معنى العدل وتحقّقه العيني.
في الرؤية التوحيدية على الرغم من قيام السماوات والأرض والنظام التكويني على أساس العدل، بيد أن العدل لا ينحصر بمعناه التكويني فقط، ومعناه الاعتباري الذي يشترك معنويًا مع مفهومه التكويني يقبل التحقق في حقل الحياة الإنسانية، وتقع مسؤولية تحققه على عاتق الناس أيضًا؛ وذلك لأن الجميع قد أمروا في حقل التشريع بالقسط والعدل؛ إذ يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْط)، والأنبياءb بدورهم قد بُعثوا من أجل إقامة القسط والعدل أيضًا: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).

إن العدالة الإسلامية في ضوء هذا الرأي، يتمّ تطبيقها وإجراؤها بالنظرة إلى الفطرة الإلهية لدى الإنسان ورعاية الحقوق المرتبطة بها؛ ولهذا السبب فإن معرفة الحق ومصاديقه متقدّمة على معرفة العدالة ومصاديقها.

الدراسة المقارنة ومزايا حقوق الإنسان في الإسلام
إن المباني الفلسفية المختلفة، سوف تؤدّي إلى مواد حقوقية متفاوتة. وعندما تقوم حقوق الإنسان على الأسس الميتافيزيقية الإلهية والتوحيدية، فسوف تكون مختلفة عنها عندما تقوم على الأسس العلمانية والدنيوية، حيث يمكن مشاهدة نماذج من هذه الاختلافات في المواد القانونية حول حقوق الملكية أو حقوق الأطفال.

الملكية أصل مقبول في جميع الأديان التوحيدية. فالإنسان في النظام الحقوقي الإسلامي لا يمتلك في قبال الله سبحانه وتعالى أمرًا لا على المستوى التكويني ولا على المستوى التشريعي؛ وكل ما بحوزته إنما هو أمانة قد استأمنه الله عليها، وهو خليفة الله في العمل على استثمار هذا المال، ولا يستطيع أن يستثمره إلا بما يرضي مالكه الأصلي. والإنسان مكلّف باستخدام النعم الإلهية في المسار الذي يأمر به الله، قال الله سبحانه وتعالى:

ـ (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ) (النور: 33).
ـ (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد: 7).

وفي قبال هذا الاعتقاد يذهب القائمون على تدوين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى القول بأن للإنسان كامل الحرية في التصرّف بأمواله وممتلكاته كما يحلو له سواء أخذ ارتباطه مع الله بنظر الاعتبار أم لا. إن مسألة الارتباط بالله في هذه الرؤية تعدّ مسألة أخلاقية، وليس هناك أيّ دور لرعاية هذا الارتباط في دائرة الحقوق[20].

في ضوء مبنى الرؤية القائلة بوجود الفطرة الإلهية لدى الإنسان، لا تكون روح الطفل صفحة بيضاء، بل هي صفحة تحتوي على فطرة مودعة فيه من عند الله، ومن هذه الناحية تكون الجهات التربوية والتعليمية مسؤولة عن الحفاظ على هذه الوديعة الإلهية، وإلّا فإن إهمالهم لهذه الوديعة سوف يعدّ خيانة في الأمانة؛ هذا في حين أنه في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان «لا يجوز لأحد أن يربّي الطفل على معتقده وأن يُنشّئه على الدين والطريق الذي اختاره. إن منشأ هذا المنهج التربوي والتعليمي يعود إلى ذات الرؤية الإلحادية التي ترى تساوي جميع الأشخاص في بداية الأمر من الناحية الثقافية والثروة الاعتقادية، ثم يتّجه كل واحد منهم إلى الطريقة التي يختارها في ضوء علمه وتجربته الخاصة»[21].

مزايا النظام الحقوقي في الإسلام
لقد تحدّث سماحة الأستاذ [آية الله جوادي الآملي] -في إطار المقارنة بين النظام الحقوقي للإسلام وبين الأنظمة المشركة واللادينيّة- عن خمس مزايا للنظام الإسلامي:

أوّلًا: أفضلية الأسس الداخلية الفاعلية والغائية: إن النظام الحقوقي في الإسلام لم يقتصر على الاكتفاء بالأسس الداخلية وبمادة وصورة حقوق الإنسان فقط، بل وقد أكّد كذلك على النظام الفاعلي والغائي للحقوق أيضًا. يُضاف إلى ذلك أن الإنسان ليس حقيقة دنيوية محصورة في هذا العالم، وإنما يتمّ أخذه بنظر الاعتبار مع فطرته الإلهية. إن المبدأ الفاعلي لهذا النظام عبارة عن الحكمة والهداية الإلهية، وإن المبدأ الغائي له عبارة عن العلم والتقرّب منه. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن الغاية من خلق السماوات والأرض هي علم الإنسان به؛ إذ يقول عزّ من قائل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق: 12).
ثانيًا: إمكانية البرهنة: إن حقوق الإنسان الإسلاميّة ليست مجرّد أمر اعتباري وقائم على العقود العُرفية والعلمانية، كي لا تكون لها قابلية الاستدلال والبرهان، بل إن هذه المجموعة من القوانين الاعتبارية تعود بجذورها إلى التكوين، ويتمّ إثباتها بالبرهان اللمّي من خلال العقل العملي وتستند في بعض الموارد إلى الكلام الإلهي.
ثالثًا: الاستفادة من الضمانة التنفيذية: إن الضمانة التنفيذية للحقوق الإسلامية لا تقتصر على العناصر التنفيذية الخارجية أو العناصر الاجتماعية والثقافية فقط؛ وذلك لأن جميع هذه العناصر قد تفقد عنصر السيطرة لديها في بعض الشرائط والظروف. إن الضامن التنفيذي لهذه الحقوق في المجتمع والثقافة الدينية وبالنسبة إلى المؤمنين هو الله الواحد الأحد الحاضر مع الجميع في جميع الأحوال، والمطلع على أعمال الجميع: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4).
رابعًا: التناغم والانسجام: لقد بيّن القرآن الكريم سرّ هذا التناغم والانسجام في قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). (النساء: 82) يمكن لنا أن نستنتج من هذا القياس الاستثنائي ما يلي: إن كل ما يكون من عند الله يحتوي على تناغم وانسجام، وكل ما يكون من عند الآخرين، يعاني من الفوضى والاضطراب، وهذا هو شأن النظام الحقوقي للإنسان[22].

خامسًا: إمكانية النقد والاستفادة من الأدوات التقويميّة: لقد أقرّ الإسلام العقل والنقل بوصفهما أداتين لتقويم حقوق الإنسان، وقد عرّف الإسلام كذلك بموازين خاصّة من طريق هذين الأمرين أيضًا، ومن بينها أن يجعل الإنسان من نفسه معيارًا؛ فيحبّ للآخرين ما يحبّ لنفسه، ويكره للآخرين ما يكره لنفسه؛ فقد روي عن أمير المؤمنينA، أنه قال: «اجعل نفسك ميزانًا بينك وبين غيرك»[23]. ومن هنا يجب عليك أن تجعل من إرادتك معيارًا في العلاقة بينك وبين الآخرين، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (المائدة: 105).

النتيجة
تقوم حقوق الإنسان على أساس المباني والمبادئ. وهذه المباني عبارة عن مجموعة من الأصول والقواعد التي تعمل الحقوق على الاستفادة منها، من قبيل: حق العدالة والحرية والأمن. هناك مصادر أصولية تتخذ منها الأصول والقواعد وبالتالي تؤخذ منها الحقوق، مثل: العقل والوحي والعُرف. وهناك المبادئ والأسس الاعتقاديّة الموجودة في المساحة الأنطولوجيّة، والإبستمولوجيّة والإنثروبولوجيّة التي تتقدّم من الناحية المنطقية على المباني والمصادر والحقوق.
يمكن لفلسفة حقوق الإنسان أن تستعمل في معنيين، أحدهما: العلم الذي يبحث حول الحكم بشأن صحّة وسقم مبادئ حقوق الإنسان، وحيث إن أهم مبادئ حقوق الإنسان تقع ضمن المسائل الميتافيزيقية والفلسفية، فإن فلسفة حقوق الإسلام في هذا المعنى تكون جزءًا من الميتافيزيقا. والمعنى الثاني: العلم الذي يبحث في العلاقات المنطقية لمختلف الأنظمة. وقد تعرّض آية الله جوادي الآملي في العديد من مؤلفاته إلى المبادئ الميتافيزيقية لحقوق الإنسان، وقد عمد -في كتابه (حقوق الإنسان في الإسلام)[24]- إلى بيان الارتباط المنطقي للمبادئ الإسلامية بمباني ومصادر حقوق الإنسان، وقارن بين التأثيرات التي تتركها الفلسفات الحديثة على مباني ومصادر حقوق الإنسان.

إن الإرادة التشريعية لله المتعلقة بالفطرة الإلهية للإنسان، تعد الوحي والعقل من جملة مصادر حقوق الإنسان التي يتم تحديدها على أساس المبادئ الإسلامية، وفي المقابل يقع العُرف والسنن التاريخية والرغبات النفسانية للأمم والجماعات المختلفة. إن حق الحياة، والحرية والعدالة، تعدّ من بين المباني الحقوقية، حيث تكتسب تفسيرًا خاصًا في ضوء المصادر والمبادئ الإسلامية، التي تستتبع بعض المزايا لحقوق الإنسان على مختلف الجهات؛ ومن بينها قيام حقوق الإنسان على أساس الجهات الفاعلية والغائية، وإمكانية البرهان، والاشتمال على الضمانة التنفيذية القوية، والتناغم والانسجام، وإمكانية النقد والاستفادة من موازين التقويم.


لائحة المصادر والمراجع
1. جوادي الآملي، عبد الله، توحيد در قرآن: تفسير موضوعي قرآن كريم، نشر إسراء، قم، 1383هـ.ش.
2. جوادي الآملي، عبد الله، شريعت در آينه معرفت، نشر إسراء، قم، 1387هـ.ش.
3. جوادي الآملي، عبد الله، تبيين براهين إثبات خدا، نشر إسراء، قم، 1384هـ.ش.
4. جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، شر إسراء، قم، 1375هـ.ش.
5. الحائري اليزدي، مهدي، كاوش هاي عقل عملي، مركز مطالعات و تحقيقات فرهنگي، طهران، 1361هـ.ش.
6. مصباح اليزدي، محمد تقي، فلسفه اخلاق، نشر بين الملل، طهران، 1380هـ.ش.

------------------------------------
[1]*- نشرت هذه المقالة باللغة الفارسية في مجلة إسراء الفصلية، السنة الثالثة، العدد 3، العدد المتتابع 7، ربيع عام 1390هـ.ش. من ص129-146.
**. أستاذ مساعد في جامعة باقر العلومA.
ـ تعريب: حسن علي مطر
[3]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص 26-27. (مصدر فارسي).
[4]- سورة الحج (22): 6، و62؛ سورة لقمان (31): 30.
[5]- سورة البقرة (2): 147؛ سورة آل عمران (3): 60؛ سورة يونس (10): 94؛ سورة هود (11): 17؛ سورة الحج (22): 54؛ سورة السجدة (32): 3.
[6]- سورة الأنعام (6): 57؛ سورة يوسف (12): 40، و67.
[7]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص116-117. (مصدر فارسي).
[8]- انظر: المصدر أعلاه، ص 135-136؛ جوادي الآملي، عبد الله، شريعت در آينه معرفت، ص383-403. (مصدر فارسي).
[9]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، تبيين براهين إثبات خدا، ص284. (مصدر فارسي).
[10]- انظر: اليزدي، محمد تقي مصباح، فلسفه اخلاق، ص58. (مصدر فارسي).
[11]- انظر: اليزدي، مهدي الحائري، كاوش هاي عقل عملي، ص102. (مصدر فارسي).
[12]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص40-71.(مصدر فارسي).
[13]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص116. (مصدر فارسي).
[14]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص104-105. (مصدر فارسي).
[15]- انظر: م.ن، ص105.
[16]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص184.
[17]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص190-191.
[18]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص 196. (مصدر فارسي).
[19]- سورة البقرة (2): 63، و93؛ سورة الأعراف (7): 171.
[20]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص 232-233. (مصدر فارسي).
[21]- انظر: م.ن، ص 237.
[22]- انظر: جوادي الآملي، عبد الله، فلسفه حقوق بشر، ص252. (مصدر فارسي).
[23]- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 31، الفرة رقم: 54.
[24]- عنوانه باللغة الفارسية: (حقوق بشر در اسلام).