البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إمكان المعرفة الأخلاقية

الباحث :  محمّد علي عبد اللهي - محمّد سعيد عبد اللهي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  33
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث :  524
تحميل  ( 465.416 KB )
الملخص
ذهب أنصار نظرية التخطئة إلى الاعتقاد بعدم إمكان العثور على أيّ معرفة أخلاقية. وهم يرون أن الأخلاق هي الأسطورة المُستعذبة الوحيدة التي ورثناها عن أسلافنا. يذهب الفيلسوف المعاصر الشهير روس شيفر لاندو إلى الاعتقاد بأن ما يقوم به المدافعون عن نظرية التخطئة ليس مجرّد هجوم على رؤية أخلاقية محدّدة، وإنما يسعون إلى تقويض جميع النظريّات الأخلاقيّة. يرى شيفر لاندو أن على أتباع نظرية التخطئة في إطار الدفاع عن مدعاهم أن يثبتوا أوّلًا: أن القبول بالأخلاق رهن بالالتزام بالعينية الأخلاقية وإطلاق الأدلة الأخلاقية. وثانيًا: حتى لو افترضنا أن الأخلاق قد بنيت على هاتين الفرضيتين، فإن واحدة من هاتين الفرضيتين في الحدّ الأدنى كاذبة. سوف نعمل في هذه المقالة ـ من خلال بحث أقوى الأدلة ـ ضدّ العينية الأخلاقية من وجهة نظر شيفر لاندو وإظهار عدم جدوائيتها ـ على إثبات أن أدلة المدافعين عن نظرية التخطئة وبراهينهم على الأخلاق العينيّة، في أفضل وأقوى حالاتها عقيمة، وعلى هذا الأساس لا يكون التشكيك والقول بعدم إمكان المعرفة الأخلاقية رأيًا صائبًا في باب الأخلاق.

الكلمات المفتاحيّة: نظرية التخطئة، المعرفة الأخلاقيّة، روس شيفر لاندو، الشك الأخلاقي.


1 ـ المقدمة
لقد برزت على الدوام طوال تاريخ فلسفة الأخلاق الكثير من الهواجس التشكيكية حول الأخلاق. لقد ظهر الشك في حقل الأخلاق على مختلف الأشكال والبراهين. إن المفاهيم التشكيكية تتحدّى الأهمية المعرفية أو الحجية العقلانية للأخلاق. لو لم يكن هناك وجود للحقائق الأخلاقية التي يمكن أن تقع معلومة لنا، فلن تكون هناك أيّ ضمانة على توفّر أدلة لتطبيق واتباع التوصيات الأخلاقية أبدًا. إن الشك الأخلاقي رؤية تقوم على القول بتخطئة العينية الأخلاقية، وعلى هذا الأساس ليس هناك من وجود لأيّ قاعدة وحقيقة أخلاقية عينية. إن الأبعاد الإيجابية والسلبية للعينية الأخلاقية والشك الأخلاقي انعكاس على صفحات مرايا بعضهما. من هنا فإنه كما هو الحال في كل موردين متناقضين، يثير كل دليل كبير يقوم على دعم أحد الطرفين امتعاض الطرف الآخر. ربما أمكن القول إن الدليل الأكبر على أن الكثير من الناس يعانون من الشك الأخلاقي يعود إلى الظن القائل بأن الأخلاق لا يمكن أن تكون عينية[2].

وكذلك يبدو من خلال القيام بدراسة تاريخية وثقافية أن الشك في حقل الحقيقة الأخلاقية -بغض النظر عن الأدلة التشكيكية- له حياة ونشاط أوفر في الثقافات العلمانية. ومع ذلك فإن المشككين في حقل الحقيقة الأخلاقية يستدلون في بعض الموارد على وجود أسباب للدخول بطريقة الحكم الأخلاقي في باب الأمور[3]. لكل واحد منا شكوكه في حقل الأخلاق. إن الكثير من هذه الموارد تمثّل انعكاسًا للاضطراب الذي يعترينا من حين لآخر في باب مسألة صوابية وعدم صوابية المسائل الأخلاقية المتنوّعة. ولكن هناك نوع آخر من الشك أيضًا، وهو شك يمكن أن يُضعف كل اعتمادنا على الأخلاق. وهو نوع من الاضطراب لا يرتبط بمحتوى مسألة خاصّة في الأخلاق، بل يرتبط بوضعيته. إن الهاجس والخوف يكمن في أن الشك الأخلاقي يمثل إنكارًا للمعايير الأخلاقية والعينية الصحيحة، وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق لا تشتمل على أيّ نوع من الاقتدار الواقعي ولا تنطوي على أيّ معرفة أخلاقية.

إن الكلام عن المعرفة الأخلاقية يُعدّ من أهم المسائل في فلسفة الأخلاق، وإن اتجاه فيلسوف الأخلاق في هذا الشأن له ارتباط ونسبة وثيقة مع الأبعاد الأخرى من فلسفة الأخلاق. لا شك في أن فيلسوف الأخلاق ما لم يبيّن موقفه في هذه المسألة، لن يمكنه بيان أفكاره حول سائر الأبعاد الأخرى في حقل ما وراء الأخلاق، والأخلاق المعيارية، والأخلاق المقارنة. إن التحاور حول المعرفة الأخلاقية يعود بجذوره إلى بداية التاريخ، وقد وجد لنفسه في المرحلة الحديثة موقعًا خاصًا بين فلاسفة الأخلاق أيضًا. إن من بين أهم الاتجاهات التشكيكية التي تنطوي على بُعد معرفي وإبستمولوجي، عبارة عن نظرية التخطئة[4]. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن مسألة الشك الأخلاقي، ونظرية التخطئة على وجه التحديد ـ والتي هي من أبرز تجليات الشك في الأخلاق، تلعب دورًا محوريًا في سماء الأخلاق. ومن هنا يجب على فلاسفة الأخلاق من خلال تحليلهم ودراستهم الدقيقة لنظرية التخطئة، أن يدلوا بدلوهم في حقل هذه النظرية، والعمل تبعًا لذلك على تشخيص المعرفة الأخلاقية والأخلاق العينية.
من خلال نظرة نلقيها على التيارات الرئيسة والمحورية في القرن الأخير لفلسفة الأخلاق، ندرك أن فلاسفة الأخلاق البراغماتيين كانت لديهم رؤية أوضح وأكثر تحديدًا في هذا المجال. وهناك منهم من يعتقد صراحة أن الأمور الأخلاقية منفصلة تمامًا ومستقلة عنا، وعن روحياتنا ورغباتنا وآرائنا ومعتقداتنا. في هذا الاتجاه يتم اكتشاف الأمور الأخلاقية وليس وضعها، ويمكن لمعتقداتنا وأحكامنا الأخلاقية، أن تكون -في ضوء تطابقها أو عدم تطابقها مع الحقائق الأخلاقية- صحيحة أو خاطئة[5]. ويذهب بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الحقائق الأخلاقية موجودة، وأن وجودها وماهيتها مستقلة عن معتقداتنا بشأن الصواب والخطأ. وكذلك فإن الأحكام والمصطلحات الأخلاقية تشير في العادة إلى الحقائق والخصائص الأخلاقية الواقعية التي تعني الاعتقاد المفهومي وإمكانية الحصول على الحدّ الأدنى من المعرفة الأخلاقية التقريبية، وهذه النقطة بدورها تعكس الاعتقاد المعرفي أيضًا[6]. وهناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن الألفاظ والمفاهيم الأخلاقية في الكثير من الموارد تشير في الوهلة الأولى إلى الخصائص الأخلاقية، وفي الوهلة الثانية فإن البيانات والكلمات الأخلاقية تحكي عن القضايا التي تقبل الصدق والكذب، والنقطة الأخرى هي أن الحقائق الأخلاقية مستقلة عن المعتقدات والمشاعر الأخلاقية وكذلك عن الآداب والتقاليد[7].

إن رؤية نظرية التخطئة -كما سيتضح لاحقًا- قد بدأت بكتابات جي. إل. ماكي، ثم تواصلت على يد أشخاص من أمثال ريتشارد جويس بعد إجراء بعض التعديلات والتصحيحات عليها. وربما أمكن القول إن الجهود الساطعة التي ظهرت باسم الواقعية في أواخر القرن العشرين كانت في الواقع تمثّل ردًّا على آراء ماكي وأتباعه، وسعيًا إلى التخلّص من التحدّي الذي فرضه ماكي بالنسبة إلى الواقعيين في حقل الأخلاق. وعلى هذا الأساس فإن ماكي وأتباعه والمدافعين عنه قد أوجدوا برؤيتهم التشكيكية وغير الواقعية تيارًا أدّى إلى انتظام أفكار الواقعيين في سماء الفلسفة وفي فلسفة الأخلاق على وجه التحديد.

2 ـ تعريف وبيان نظرية التخطئة
إن نظريّة محوريّة التخطئة في حقل فلسفة الأخلاق اتجاه يقوم على أن هناك من الأشخاص الذين يعملون على توظيف لغة الأخلاق، ويذكرون في الكثير من المواقع مدعيات تستتبع الوقوع في الأخطاء. إن المفاهيم الموجودة في فلسفة الأخلاق تضع بأيدينا أسلوبًا خاطئًا ومقرونًا بالخطأ لفهم العالم أو توظيف التعقّل العملي. يذهب الفيلسوف الإنجليزي المعروف سايمون بلكبرن إلى الاعتقاد بأن هذه النظرية قد ظهرت في أكثر صورها تأثيرًا من قبل ماكي[8]. وقد ذكر سميث بمثال بسيط كيف يكون القول بنظرية التخطئة. فهو يقول: هناك احتمال كبير في أن تكون من القائلين بنظرية التخطئة في مورد أفكار السحرة أو مفهوم السحر؛ وذلك لأنك تعتقد بأن السحرة إنما يكون لهم وجود فيما لو كان هناك وجود لنساء يمتلكن قدرات خارقة وغير طبيعية، وبالتالي فإنك تعتقد بأنه ليس هناك شخص يمتلك قوى غير طبيعية، وعلى هذا الأساس لا تعتقدون بوجود أيّ ساحر[9]. ومن هنا لو قال شخص أن المرأة فلانة ساحرة، ندرك أنه قد تعرّض في حكمه إلى خطأ بنيوي. يذهب بعض الأشخاص من أمثال ماكي وجويس وأولسن إلى الاعتقاد بأننا كما سلكنا في مثال الساحرة، علينا أن نكون في حقل الأخلاق من القائلين بنظرية التخطئة، وأن الأخلاق حكاية خرافية حالها حال قضية الساحر سواء بسواء[10].

إن عبارة «الأخلاق: اختراع الصواب والخطأ»[11] عنوان كتاب ألفه الفيلسوف الأسترالي المهم جان. لزلي. ماكي سنة 1977م. وبعد تسمية هذا الكتاب الواضحة جدًا في اشتمالها على معنى كنائي، بدأ ماكي كتابه بهذه الجملة: «ليست هناك أيّ قيمة عينية أبدًا»[12]. كما أن لماكي مقالة مهمّة بعنوان «ذهنية القيَم»[13] في حقل إثبات أن القيَم ليست عينية وإنما هي ذهنية تمامًا. فهو يرى أن منشأ الأحكام الأخلاقية إنما هو التوجهات الذهنية لبني البشر. وإن الأحكام الأخلاقية -من وجهة نظره- لا تمثّل وصفًا للحقائق بحال من الأحوال. يرى ماكي أن لا وجود للقيَم الأخلاقيّة بشكل مستقل عن رغباتنا وحالاتنا النفسية والروحية وعواطفنا ومشاعرنا نحن البشر. إنه لا يعتبر القيَم الأخلاقية ذهنية فحسب، بل يرى أن القيَم الجمالية بدورها إنما يتمّ تعريفها بأسرها ضمن المساحة الذهنية أيضًا[14]. يذهب ماكي إلى الاعتقاد بأننا في هذه الحالة نواجه مشكلة معرفية تضعنا أمام صعوبة فهمنا وإدراكنا للقيَم الأخلاقية. وذلك لأن القيَم العينية حتى إذا كانت موجودة، فهي ليست سوى صفات عجيبة وغريبة لا يمكن أن تكون مرشدة لعمل ومحفزًا لنا نحو القيام بالأعمال الأخلاقية أبدًا[15]. لا بد من الالتفات إلى أن ماكي وغيره من المدافعين عن نظرية التخطئة يبذلون كل ما بوسعهم من أجل إثبات هذه النقطة، وهي أن الأحكام والمدعيات الأخلاقية إنما تعمل على افتراض وجود أشياء لا وجود لها على الإطلاق.

إن بيت القصيد في كلام ماكي حول إثبات مدعياته في حقل ذهنية القيَم، قد ورد ذكره في برهانيه، وهما: «الاستدلال من طريق النسبية»[16]، و«الاستدلال من طريق الغرابة»[17]. وقد تعرّض في استدلاله من طريق النسبية إلى اختلاف وتفاوت الثقافات الموجودة، وأشار في الختام إلى تنوّع واختلاف الأحكام الأخلاقيّة في الثقافات والأزمنة المختلفة. يتمسّك ماكي بالشهودات الأخلاقيّة، ويُشير بهذه الطريقة إلى تعددية القوانين الأخلاقية في الثقافات المتنوّعة. إنه من خلال الأمثلة والنماذج التي يذكرها يُشير إلى أن بعض الأمور في الكثير من المجتمعات تعتبر قبيحة للغاية ومرفوضة جدًّا، في حين أنها لا تعدّ في المجتعات الأخرى قبيحة أبدًا، بل وهي شائعة جدًا؛ وعليه لا يمكن أن نتوقع نوعًا من الكلية في الأخلاق أبدًا[18]. يرى ماكي أننا لا نمتلك أي دليل أو سبب وجيه يثبت أن الحقائق الأخلاقية عينية، وإذا تصوّرنا أن بعض الأمور صحيحة أو خاطئة بشكل عيني، من قبيل قولنا ـ مثلًا ـ أن الفرح أفضل من الحزن والألم، فهذا لا يعدو أن يكون مجرّد ترجيحات ذهنية لدى الناس، ولو قال بها أشخاص آخرون فسوف يكون ذلك بدوره عبارة عن تواطؤ ذهني بينهم أيضًا. وعلى هذا الأساس عندما ننظر إلى أحكامنا الأخلاقية بميزان الفلسفة، فسوف نضطر إلى القول بعدم وجود العينية الأخلاقية. وكذلك فإن النقطة التي يُشير إليها بعض الفلاسفة مهمة، وهي أن المدعيات والمعتقدات الأخلاقية من وجهة نظر ماكي -سواء أكانت مبرّرة أو غير مبرّرة- ليس لها أيّ قيمة، وهي خاطئة بالكامل[19].

كما يلوح من عنوان كتاب ماكي، فإنه يرى أن الأخلاق عبارة عن اختراع. ولكن لو افترضا صحّة كلام ماكي، وكانت هذه الأمور من مخترعاتنا؛ فلا بدّ من الالتفات إلى أننا -على سبيل المثال- ندرك جيّدًا أنه ليس هناك أيّ بديل عن الصدق. بل حتى إذا قمنا منذ البداية -على نحو ما أشار إليه ماكي- باختراع جميع مفاهيمنا الأخلاقيّة، سوف تبقى الأخلاق موضوعًا عينيًّا، بمعنى أن هذه الأمور الأخلاقية تقوم بوظائفها وتؤدّي دورها في الحياة. إي يوجد هناك موضوع لكي يُكتشف. وإن الأخلاق تكشف عن ذلك الشيء الذي يخدم مصالح الناس ويلبّي احتياجاتهم. واكتشاف تلك الأصول والأعراف التي تعمل على الترويج والدعوة إلى أفضل أشكال الحياة الصالحة على المستوى الفردي والاجتماعي[20].
كما ذهب بعض الفلاسفة -من أمثال مايكل سمث[21]- بدورهم إلى الاعتقاد بأن ماكي هو الذي قام قبل سنوات خلت باتخاذ الخطوة المحكمة الأولى لإثبات نظرية التخطئة، وبعد الانتقادات الأولى التي وجهها إليه بعض المفكرين -من أمثال: سايمون بلكبرن[22]، وماك داول[23]- تغيّرت الأوضاع شيئًا فشيئًا، وقام الكثير من فلاسفة الأخلاق -من أمثال: جويس، لويس[24] وغارنر[25]- بتأييد ماكي والثناء عليه. والآن بعد الكثير من الحوارات والمباحثات حول نظرية التخطئة، وسماع آراء الموافقين والمخالفين لها، فما هو الصحيح من بين هذه الآراء؟ هل لا يزال ماكي يستحق الثناء أم لا؟ يقول سمث: لقد كنت بدوري على رأي ماكي، ولكني بعد البحث والتحقق وإجراء مختلف الاختبارات والتجارب توصّلت إلى الاعتقاد بأن مشروع ماكي محكوم عليه بالفشل[26].

ومن ناحية أخرى فإن من بين المعتقدات السائدة بين الكثير من الفلاسفة، هي وجوب العثور على نظرية التخطئة في آراء الفيلسوف الإسكتلندي الشهير ديفد هيوم. وقد ذهب جوناس أولسن[27] إلى القول بأنه وإن بدا ذلك في الوهلة الأولى، ولكن لا يمكن نسبة ذلك إليه بشكل قاطع. يرى أولسن أن المفسرين قد نسبوا الكثير من الاتجاهات ما وراء الأخلاقية إلى ديفد هيوم. والسؤال الرئيس هو: هل يُعدّ ديفد هيوم منظرًا للتخطئة في الأخلاق أم لا؟[28] ويعدّ ريتشارد جويس من بين المدافعين البارزين والمهمّين عن نظرية التخطئة[29]. وقد ذهب في حقل نظرية التخطئة إلى الاعتقاد بأن الفيلسوف القائل بنظرية التخطئة، يقول: على الرغم من أن الأحكام الأخلاقية تميل إلى الصدق، ولكنها لم تمتلك يومًا القدرة على الوصول إلى الصدق. وربما أمكن القول إن المنظر لمفهوم التخطئة حول الأخلاق له موقف يشبه موقف الملحد في حقل الدين. ببيان أنه من وجهة نظر المؤمنين بالله عندما يقول الشخص المتديّن «إن الله موجود» فهو في كلامه يتحدّث عن شيء يميل إلى الصدق، وعلى هذا الأساس فإن التخطئة لا تعدّ من وجهة نظر المؤمن بالله مسألة مبرّرة ومعقولة. ولكن على المقلب الآخر من المضمار، يذهب الملحد بالله إلى إنكار وتكذيب هذا الادعاء بشكل كامل، فهو يرى أن أسلوب مواجهة المتدينين بهذه المسائل عرضة للخطأ[30]. لقد قام جويس في كتابه المهم تحت عنوان «أسطورة الأخلاق»[31] الذي صدر عام 2001م، بشرح وتوضيح نظرية التخطة والمسائل المرتبطة بها بالتفصيل[32]. وأما شيفر لاندو فيذهب إلى الاعتقاد بأن جويس يسعى في أعماله -من خلال الدفاع عن نظرية التخطئة- إلى خفض الأخلاق إلى مستوى القصة الخيالية، ويقول إن اعتبار ومنزلة المدعيات الأخلاقية تشبه تمامًا مدعيات الوثنيين الأوائل الذين كانوا يعبدون آلهات الشمس، وبذلك تكون ساقطة عن الاعتبار مثلها. يرى شيفر لاندو أن جويس من خلال التمثيل بـ«الحصان ذي القرن»[33]، ومفهوم القضايا غير القابلة للنقاش[34]، إلى القيام بدفاع مستميت وحازم عن نظرية التخطئة[35]. إن القضايا غير القابلة للنقاش، من الناحية المفهومية هي القضايا المدرجة ضمن النظريات ويكون لها دور خاص تقوم به. إن هذه القضايا غير القابلة للنقاش تعدّ من الناحية المفهومية شرائط ضرورية، بحيث أن عدم صوابيتها يقوّض جميع الأسس الفكرية التي قامت على دعائمها. من ذلك -على سبيل المثال- أن الشيء مورد البحث يُشبه الحصان الذي له قرن ناتئ في ناصيته. إن كل شيء لا يمكنه تلبية هذه الضرورات، لا يمكن له أن يكون واجدًا لشرائط الحصان ذي القرن. وحيث لا يكون هناك في الواقع أي شيء يعمل على تلبية هذه الضرورات، فسوف يحقّ لنا أن نكون -في مورد جميع أنواع المدعيات الصادقة القائلة بوجود الخيول من ذوات القرون الوحيدة- من القائلين بنظرية التخطئة.

يرى شيفر لاندو أن جويس يسلك مسارًا مشابهًا في الاستدلال والبرهان الذي يقيمه في معرض الدفاع عن نظرية التخطئة. فهو يعمل في الخطوة الأولى على تحديد ذلك الشيء الذي لا يكون من الناحية المفهومية في مورد الأخلاق قابلًا للنقاش، وفي الخطوة الثانية يستدل على عدم تحصيل هذا العنصر الضروري، ببيان عدم وجود دليل منطقي في الأخلاق. والنتيجة هي أن الأخلاق ليست سوى حكاية خيالية. يقول شيفر لاندو: علينا الآن أن نرى ما هو العنصر الذي لا يقبل النقاش. يذهب جويس إلى التعريف به بوصفه قدرة الدليل المطلق. ببيان أن المطالب الأخلاقيّة تقدّم بالضرورة أدلة إلى العاملين الأخلاقيين، وهذا الأمر مستقل بالكامل عمّا إذا كانت القضايا الأخلاقيّة إنما هي لتلبية الرغبات أصلًا أو هي مفيدة لتلبية المطالب أو الاحتياجات الفردية أم لا. إن ذات مفهوم الطلب الأخلاقي يقترن بهذا الافتراض القائل بأن هذه المطالب تفرض دليلًا على العاملين الأخلاقيين، بغض النظر عمّا إذا كان القيام بهذا الفعل يخدم أهدافهم وغاياتهم أم لا[36]. إن الأدلة الأخلاقية المطلقة[37] هي الأدلة التي يعمل بها العاملون الأخلاقيون بغض النظر عمّا إذا كانت تلبّي مطلبًا أو عددًا من مطالبهم أم لا. من ذلك -على سبيل المثال- أن شخصًا ما تكون له أسباب أخلاقية قاطعة من أجل مساعدة الفقراء، بغض النظر عمّا إذا كان قيامه بهذا الفعل يُلبّي رغبته في الحصول على الثناء والمدح من قبل الآخرين أم لا[38][39].

إن جويس لا يؤمن بوجود الأدلة المطلقة، وحيث إن الأخلاق تتوقف على هذا النوع من الأدلة، لا تكون المدعيات الأخلاقية صادقة أبدًا. إن النتيجة التي يستخلصها ريتشارد جويس تنسجم مع نظرية التخطئة أو مختلف أشكال النظريات غير المعرفية. فيما يتعلق بما إذا كنا قد تعرّضنا إلى الخطأ، فهو رهن بماهية فرضياتنا غير القابلة للنقاش في مورد الأخلاق. يذهب جويس إلى الاعتقاد بأن إدراكنا الاعتيادي للأخلاق يشتمل على افتراض أساسي لا يمكن إثباته. إن الافتراض غير القابل للإثبات عند جويس، هو أن الوظائف الأخلاقيّة تعمل على إيجاد أدلة مطلقة. إن هذا الافتراض مجانب للصواب، ومن هنا فإنه يكون خاطئًا.
بيد أن شيفر لاندو يذهب إلى الاعتقاد بأن ريتشارد جويس في تنظيم نظرية التخطئة لا يصل إلى شيء. فأوّلًا لم يتضح من تعبير جويس ما إذا كانت الأدلة المطلقة تعدّ من الناحية المفهومية عنصرًا غير قابل للمناقشة في الأخلاق. يُضاف إلى ذلك حتى إذا تماهينا مع أسلوب وطريقة تحليل جويس، فإن أدلة جويس في قبال هذه الأدلة ليست كافية[40]. سوف نقتصر في هذا القسم من المقالة على بيان الاتجاهات الأصلية لنظرية التخطئة، وبعد ذلك وفي قسم أدلة المدافعين عن نظرية التخطئة في هذه المقالة والأدلة القائمة على أساس الأدلة المطلقة، فسوف ننقل جواب شيفر لاندو إلى مسألة افتراض الأدلة المطلقة في الأخلاق.

إن شيفر لاندو بدوره قد لجأ في توضيح نظرية التخطئة -مثل جويس- إلى القياس. فهو يقول: إن جميع المنظرين القائلين بالتخطئة والملحدين بالله من القائلين بالشك. إن الملحدين ينكرون حقيقة العقيدة المقبولة على نطاق واسع. إنهم يقومون بذلك في سعي منهم إلى تحديد خطأ يقال إنه موجود في صُلب البنية والنظام الذي يخالفونه. إن الملحدين من القائلين بنظرية التخطئة في مورد الدين. ويذهبون إلى الاعتقاد بعدم وجود أي خصيصة دينية في العالم، ولا يوجد ادعاء ديني صائب، وأن المتدينين يقومون في جهدهم من أجل بيان الحقيقة في مورد الله بسعي محكوم عليه بالفشل. وبطبيعة الحال فإن الملحدين إنما يستطيعون الدفاع عن رؤيتهم بنجاح فيما لو تمكنوا من إثبات وجود خطأ في صُلب الاعتقاد الديني. وإن القائلين بنظرية التخطئة في الأخلاق إنما يستطيعون بدورهم إثبات رؤيتهم فيما لو أمكن لهم أن يثبتوا وجود خلل قاتل في صُلب الأخلاق[41].

3 ـ تحليل المدعيات الأساسية لنظرية التخطئة من وجهة نظر شيفر لاندو
لقد عمد المنظرون لنظرية التخطئة إلى أقامة سقف مدعياتهم واستنتاجاتهم على دعائم الشك والكثير من أنواع الريب. من قبيل: إن الأخلاق برمّتها كذبة، وأنه ليس هناك أيّ مصدر قوّة أو مرجعية للأخلاق، وأنها مجرّد أسطورة محبّبة. إن هذا الشك والترديد قد دفع بالكثير من الأشخاص إلى الاعتقاد بأن القواعد الأخلاقية قد بُنيَت على أساس الخرافة والجهل والمخاوف البشرية، ومن هنا فليس من الشطط أن لا نرى أيّ مسار في الأفق للوصول إلى المعرفة الأخلاقية. يذهب الفيلسوف الأمريكي الشهير روس شيفر لاندو -الذي كان يبحث منذ سنوات طوال ويؤلف في مختلف مجالات فلسفة الأخلاق ولا سيّما ما وراء الأخلاقية منها على وجه التحديد- إلى الاعتقاد بأن نظرية التخطئة تقوم على ثلاثة مدّعيات محورية، وفي ضوء هذه المدعيات الثلاثة تعمل نظرية التخطئة على إفراز نتائجها:

أ- في العالم الذي نعيش فيه لا يمكن العثور على أيّ صبغة أخلاقية[42]. لا يمكن الحديث في أي باب علمي عن أيّ شيء حسن/ قبيح، أو صائب/ غير صائب، أو فضيلة/ غير فضيلة من الناحية الأخلاقية. يمكن لنا تسويد قائمة طويلة عريضة نشرح فيها مختلف الكيفيات العلمية الموجودة في هذا العالم، من قبيل: كون الشيء مستديرًا أو مستطيلًا، أو سائلًا أو جامدًا، مع بيان مقدار طول الأشخاص، وما إلى ذلك، ولكن لن يكون ثمّة متسع في هذه القائمة لأيّ واحد من الخصائص الأخلاقية.
ب- لا شيء من الأحكام الأخلاقية[43] التي نقوم بها، صادق. ولكن لماذا؟ لا يوجد هناك أيّ شيء يمكن للأحكام الأخلاقية المذكورة أن تكون صادقة بشأنه. لا يمكن العثور على أيّ واقعية أخلاقية، ولا يحظى أي مدّعى أخلاقي بنصيب من الصحّة.
ج- إن أحكامنا الأخلاقية الخالصة[44] في إطار سعينا من أجل توصيف الخصائص الأخلاقية لمختلف الأشياء، تواجه الفشل جهارًا، ومن هنا تمامًا حيث نسعى من حين إلى آخر إلى التفكير بواسطة الاستعانة بالمصطلحات الأخلاقية، نكون سائرين في الطريق الخاطئ. نحن نسعى على الدوام إلى صياغة مدعيات صحيحة في مقام الحكم الأخلاقي من خلال توصيف الخصائص الأخلاقية للأمور، ولكن حيث لا يوجد أيّ خصوصية أخلاقية في حقل الواقعية، فإننا نسير في مسار خاطئ[45].

إن الموارد الثلاثة التي تقدّم أن ذكرنا بيانها، إنما هي تقريرات شيفر لاندو عن أهمّ مدّعيات المدافعين عن نظرية التخطئة. إن هؤلاء المدافعين بعد إظهار مدعياتهم الأساسيّة، يصلون إلى هذه النتيجة:
ليس هناك من وجود لأيّ معرفة أخلاقية. وحيث لا يمكن العثور على حقيقة أخلاقية، وحيث إن المعرفة بدورها تحتاج في ظهورها إلى الحقيقة، إذن لا ينبغي السير عبثًا وراء المعرفة الأخلاقيّة.

4 ـ أهم أدلة المدافعين عن نظرية التخطئة من وجهة نظر شيفر لاندو وجوابها
إن نظرية التخطئة تمثّل هاجسًا قديمًا في حقل الأخلاق. وأن الأخلاق مجرّد حكاية أمكن لها أن تقنع عددًا من الفلاسفة[46]. بالنظر إلى نظرية التخطئة لو اعتبر شخص نفسه ملتزمًا بالأخلاق، يكون قد ارتكب خطأ كبيرًا، وفي ضوء هذا الاتجاه تكون جميع الآراء الأخلاقية فارغة من أيّ حقيقة أو صواب بنفس الدرجة. ولكن يجب الالتفات إلى هذه النقطة المحورية أيضًا، وهي أن المدافعين عن نظرية التخطئة بدورهم لم يسلكوا طريقًا سهلًا لإثبات مدعياتهم. ما هو الخلل الذي يدفع الأخلاق نحو الانهيار؟ هل يتفق جميع المؤسسين لنظرية التخطئة على خطأ مهلك وواحد؟ أو يمكن لنا أن نذكر الكثير من الأخطاء، والعمل على تقرير نظرية التخطئة من خلال هذا المسار المتعدّد؟

يذهب الفيلسوف الأمريكي المعاصر إلى الاعتقاد بأن جميع المدافعين عن نظرية التخطئة يقولون بأن ذلك الخطأ القاتل الذي يقضي على الأخلاق مرّة واحدة، عبارة عن هذه الفرضية القائلة بوجود الخصائص الأخلاقيّة العينيّة[47] حيث يمكن الحصول من خلالها على أدلة مطلقة. وعليه لو أمكن للمدافعين عن نظرية التخطئة أن يثبتوا بمدعياتهم أن هذا الافتراض المسبق خاطئ، يمكنهم الحديث بأريحية عن عدم اعتبار الأخلاق[48]. ومن ناحية أخرى هناك مسألتان محوريتان أخريان أيضًا، حيث يتعيّن على المؤسسين لنظرية التخطئة أن يقدّموا توضيحًا مقنعًا في هذا الشأن. المسألة الأولى أن القبول بالأخلاق رهن بالالتزام بالعينية الأخلاقية وإطلاق الأدلة الأخلاقية. والمسألة الثانية: أنه حتى في حالة قيام الأخلاق على هاتين الفرضيتين المسبقتين، فسوف تكون إحدى هاتين الفرضيتين في الحدّ الأدنى كاذبة.
بالنظر إلى المطالب التي سبق بيانها، يتعيّن علينا الآن أن نبحث في أدلة المدافعين عن نظرية التخطئة، وأن نعمل على تقويم ملاكات ومعايير أدلتهم التي يقيمونها إلى الضد من عينية الخصائص الأخلاقية، ونرى هل أنها في أفضل وأقوى براهينها تمتلك القدرة على إثبات مدعياتها وتأكيد أن المعرفة الأخلاقية مجرّد سراب، أم تبقى أدلتهم عقيمة، وعندها نستطيع مواصلة مسارنا من أجل الحصول على المعرفة الأخلاقيّة.

وحيث لا يمكن لنا تقويم جميع أدلة المؤسسين لنظرية التخطئة، لذلك سوف نضطر إلى الاكتفاء بمناقشة وبحث بعض الأدلة التي تعدّ من وجهة نظر شيفر لاندو من بين أهم تلك الأدلة، وسوف نثبت كيف أن هذه الأدلة لن تؤدّي إلى شيء.

4/ 1ـ الاستدلال على أساس اختلاف الآراء[49]
لقد كان من بين الأدلة الموجودة منذ القدم على نقض القول بوجود العينية في الأخلاق، الحديث حول وجود الكثير من الاختلاف في الآراء بشأن الأخلاق. إن الاستدلال على أساس اختلاف الآراء، استدلال تقليدي ينشأ من مشاهدة ابتدائية، وهي أن اختلاف الرأي في الأخلاق أكثر بكثير من اختلاف الآراء في العلوم، ويوجد هناك إيضاح جاهز لهذه المسألة، وهو أن العلماء في سعيهم من أجل إدراك الماهية والواقعية العينية، في حين أن الواقعية العينية في الأخلاق غير قابلة للاكتشاف.[50] من ذلك -على سبيل المثال- أن الاختلافات الموجودة في العلوم التجريبية، لا يمكن مقارنتها بالاختلافات الموجودة في الأخلاق؛ إذ هي أقل منها بكثير. يمكن للعلماء في مختلف العلوم التجريبيّة في أيّ بقعة من العالم أن يتفقوا فيما بينهم على نحو بسيط بأدبيات مشتركة حول العديد من الحقائق، دون أن تترك الخلافات القوميّة والدينيّة والثقافيّة لديهم أي تأثر عليها، في حين أن الأمر في حقل الأخلاق ليس كذلك، وإن آراءنا تتأثر بالبيئة القومية والثقافية التي نعيش فيها بشكل ملحوظ. وإن الطريقة التي تربينا عليها ونشأنا فيها تعلب دورًا مهمًا في بلورة أفكارنا وأحكامنا الأخلاقية.

لقد ذهب جي. إل. ماكي -الذي سبق أن تحدّثنا عن رؤيته حول نظرية التخطئة- بدوره إلى الاعتقاد بأن الأخلاق كلها تقوم على أساس هذه الفرضيّة المسبقة الكاذبة وهي القول بوجود القيَم العينية الأخلاقية، وقد استفاد لإثبات مدّعاه من هذا الاتجاه أيضًا. يذهب ماكي في استدلاله إلى الاعتقاد بأننا لو كنا نمتلك قيَمًا عينيّة، يجب عندها أن لا نشهد اختلافًا في المجتمعات حول القيَم. ومن خلال الاستفادة من هذه النقطة وهي أن القيَم الأخلاقية في المجتمعات المتنوّعة مختلفة، يصل إلى هذه النتيجة وهي أن القيَم الأخلاقية ليست عينية. في حين يجب عليه أولًا أن يثبت أنه هل يوجد اختلاف بين القيَم الأخلاقية وبين ذهنياتهم، وهل توجد صلة منطقية أم لا؟ يُضاف إلى ذلك أنه يمكن لنا أن لا نعتبر وجود الاختلاف في الأحكام الأخلاقية ناشئًا عن ذهنية هذه الأمور. ومن ناحية أخرى فإنه كما أنّ عمومية موضوع ما وعدم الاختلاف حوله لا يشكل دليلًا على صدقه، كذلك فإن عدم التعميم ووجود الاختلاف حول موضوع ما لا يُشكل دليلًا على كذبه. وعلى هذا الأساس فإن وجود الاختلاف في حقل الأخلاق والأحكام والآراء بدوره لا يحكي عن ذهنيتها. وكذلك يمكن اعتبار بعض الاختلافات الموجودة في الثقافة مجرّد أمر ظاهري، وعدم القول بورودها في الأصول والأحكام. إن التنوّع الثقافي -على الرغم من جميع التوضيحات التي يذكرها ماكي- لا يُشكل دليلًا قويًا في قبال النواة العينية للأخلاق. إن اختلاف الآراء والنظريات الأخلاقية يمكن أن يكون ناشئًا عن الجهل أو السذاجة أو الإهمال الأخلاقي أو الخرافة أو الاعتماد على مرجعية غير عقلانية[51].

وأما روس شيفر لاندو، فقد عمد في كتابه إلى تحليل وتبويب هذا الاستدلال من قبل المدافعين عن نظرية التخطئة على النحو أدناه[52]:

1ـ لو اختلفت آراء العقلاء على الدوام حول ادعاء ما بعيدًا عن أيّ نوع من أنواع العصبية والأحكام المسبقة، لا يكون ذلك الادعاء صادقًا على نحو عيني.
2ـ إن هؤلاء العقلاء قد اختلفوا على الدوام بشأن الادعاءات الأخلاقية، بعيدًا عن أيّ نوع من أنواع العصبية والأحكام المسبقة.
3ـ النتيجة: لا شيء من المدعيات الأخلاقية صادق من الناحية العينية.

والآن يجب علينا تقويم صدق المقدمتين وكذبهما في هذا الاستدلال. من خلال نظرة عابرة إلى تاريخ الأدلة والبراهين في العلوم المختلفة وفي العلوم التجريبيّة يمكن بسهولة بيان الكثير من الأمثلة النقضية في هذا الشأن. ألم يبحث الفلاسفة على مدى سنوات طويلة حول وجود الله واختلفوا فيما بينهم كثيرًا في الآراء بشأن وجوده. كما يختلف الكثير من علماء الكيمياء والفيزياء فيما بينهم حول الكثير من الأمور، ابتداء من بنية الذرّة وصولًا إلى سائر المسائل الأخرى. وعلى الرغم من ذلك توجد هناك في كل واحد من هذه العلوم حقائق عينية مختلفة. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن المقدمة الأولى كاذبة.
ومن ناحية أخرى يوجد الكثير من الاختلاف في الآراء حول هذه المقدّمة أيضًا. فهناك الكثير من العقلاء يستدلون حول صدق وكذب هذه المقدمة. وعليه فإن وجود هذا النوع من اختلاف الآراء لا يشكل مانعًا يدعو إلى رفع اليد عن الحقيقة العينيّة، وإن اختلاف الآراء ينسجم مع القول بعينية الأخلاق[53]. وفيما يتعلق بالمقدّمة الثانية يجب القول بأنها تمثل ادعاء جزافيًا واعتباطيًا؛ وبذلك فإنها تحتاج إلى تحقيق خاص، ولا يصحّ الحديث حولها بهذا النحو من القطع. ربما يكون هناك على الدوام بعض الأشخاص الذين يفكرون في مسألة أخلاقية بشكل مختلف عن الآخرين، ولكن من الممكن في الوقت نفسه أن لا يكون هؤلاء الأشخاص عقلاء تمامًا أو بكامل وعيهم.

كما تقدّم فإن شيفر لاندو قد أدرك بشكل صائب أن مسألة اختلاف الآراء كانت واحدة من الذرائع المهمة في يد المدافعين عن نظرية التخطئة وسائر الناقدين للأخلاق العينية. إن سعيه من أجل الحصول على تبويب منطقي يدعو إلى التأمل، كما أنه يسعى من خلال الطعن في المقدمتين إلى إبطال استدلال الناقدين، بيد أن النقاط التي يذكرها في ردّ المقدّمتين مجملة وضعيفة جدًّا، في حين أنّ هناك أشخاصًا آخرين قد ذكروا بعض النقاط الدقيقة والمتينة في إبطال هاتين المقدمتين، ويمكن الإشارة من بينها إلى رأي الفيلسوف الأمريكي الشهير لويس بويمان.

4/ 2ـ الاستدلال على أساس الأدلة المطلقة[54]
إن من بين الأدلة التي يسوقها بعض فلاسفة الأخلاق ضدّ عينية الأخلاق ما يعود إلى كيفية إمكان الأدلة المطلقة. إن فهم وتحليل هذه المسألة في غاية الصعوبة والتعقيد بالنسبة إليهم. ويعود هذا الاستدلال بجذوره إلى تحليل الوظائف الأخلاقية. فالوظائف الأخلاقية تحتوي في صلبها على قوّة خاصّة تدفع الإنسان نحو العمل بتلك الوظائف، حتّى لكأنّها تحتوي على أدلة في صلبها. إذا كان من واجبي أن أعمل على مساعدة أبناء وطني الذين تعرّضوا لكارثة السيل، إذن سوف يكون لدي سبب وجيه للقيام بهذا الأمر، ولكن هذه الأمور بأجمعها عبارة عن خصائص أسباب أخلاقية غير عامّة؛ وذلك لأن أسبابي في بعض الأمور رهن بالأشياء التي تحظى بأهمية بالنسبة إلى شخصي، وليست مطلقة. ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أن الأسباب المنبثقة عن الأخلاق مطلقة، وهي بغض النظر عن الأشياء التي نهتم بها تحتوي على أوضاع وأحوال تخصّ جميع الأشخاص. وقد قدّم شيفر لاندو مثل هذا التبويب المنطقي عن هذا الاستدلال الذي يقدّمه المدافعون عن نظرية التخطئة[55]:

1ـ إذا كان ثمّة من وجود للوظائف الأخلاقيّة العينيّة، إذن يجب أن يكون ثمّة وجود للأسباب المطلقة من أجل إطاعة هذه الوظائف وامتثالها.
2ـ ليس هناك من وجود لأيّ دليل مطلق.
3ـ النتيجة: لا وجود لأيّ وظيفة أخلاقية عينية.

إن الواضح في الوهلة الأولى هو صحّة هذا الاستدلال من الناحية المنطقيّة. وعلى هذا الأساس فإن الفلاسفة الذين تهفو قلوبهم إلى الأخلاق العينية والمعرفة الأخلاقية، يجب أن يعملوا على إبطال واحدة من مقدمتي الاستدلال. فيما يتعلق بالمقدمة الأولى يمكن القول بأن بعض الأشخاص يقومون بالأمور الأخلاقية التي تقع موردًا للإلزام الأخلاقي دون أن يمتلكوا دليلًا على ذلك. وعليه ليس الأمر كما لو كان يجب على الوظائف الأخلاقية العينية أن تعمل أبدًا على وضع أدلة وأسباب خاصّة في متناول الشخص دائمًا.

وكذلك يمكن لنا من خلال الدفاع عن المقدمة الأولى، أن نبادر إلى مجرّد إنكار المقدّمة الثانية. وذلك ببيان أن الوظائف الأخلاقية العينية موجودة، وأنها تقدّم لنا أدلة مطلقة بحق. يسعى شيفر لاندو من خلال ذكر نموذج واحد إلى إقناع مخاطبه. لنفترض أنك كنت تتجول في طريق صخري، وفي الأثناء صادفت شخصًا غريبًا يوشك أن يسقط نحو الهاوية، يوجد سبب لتحذيرك إياه من خطر السقوط، وهو سبب يشملك أيضًا، حتى إذا كنت لا تهتم بذلك الشخص أبدًا، ولم يكن تشجيع الآخرين بعد الاطلاع على الحادث يعني لك شيئًا أبدًا، مع ذلك يكون هناك شيء في تحذيرك لذلك الشخص من خطر السقوط، وهو شيء يعمل على تبرير يدعم ما قمت به ويضفي علية الشرعية[56]. على هذا الأساس وبالنظر إلى كلام شيفر لاندو فإن هذه الأمور بأجمعها تعني أن لديك سببًا وجيهًا لتقديم المساعدة لهذا الشخص. وإن كانت نتيجة هذا العمل لا تنطوي على أيّ أهمية بالنسبة لك.
لقد سعى شيفر لاندو في بحث وإبطال هذا الاستدلال بحق إلى التأكيد على الأبعاد النفسية للعوامل الأخلاقية، بمعنى ذات الدوافع التي تفرض علينا نحن البشر من الخارج، وتلعب دور الأسباب المطلقة بالنسبة إلى العوامل الأخلاقيّة، وهنا تتسع دائرة الأسباب من تلقائها وتشمل الدوافع والعواطف والمسائل الأخرى التي تترك تأثيرها على هذا الإنسان المخلوق من لحم ودم. ومن هنا يمكن أن لا تشتمل الوظائف الأخلاقية العينية بحسب الظاهر على أدلة وأسباب للعمل عند العامل الأخلاقي، ولكن توجد ناحية أخرى تحمله على القيام بتلك الوظيفة. وإن مثال الشخص الذي يوشك على السقوط من الصخرة نحو الهاوية إنما يُفهم بدوره في ظلّ هذا الفضاء. وقد أخذ فلاسفة الأخلاق في الوقت الراهن يلتفتون إلى أهمية الأسباب والدوافع نحو العمل أكثر من أيّ وقت مضى، بل ويستعينون في بعض الموارد حتى من علم النفس الأخلاقي أيضًا.

4/ 3ـ الاستدلال على أساس الإلحاد
إن الاستدلال الآخر الذي يقام على الضدّ من عينية الأخلاق، يرد من القناة التقليدية. ثمّة من يرى أن وجود الأخلاق قد ارتبط بوجود الله، فإذا لم يكن الله موجودًا، فسوف تكون الأخلاق برمّتها أكذوبة وخرافة، فما دام صرح الأخلاق غير مستند إلى الله وأنها لم ترد عنه، فلن يكون لها أيّ نصيب من الحقيقة. وعلى هذا الأساس ذهب عدد من الملحدين إلى التمسّك بهذا الاستدلال، وقد قام شيفر لاندو بترتيب هذا الاستدلال على هذه الصورة المنطقيّة:

1ـ إن الأخلاق إنما تكون عينية فيما إذا كان الله موجودًا.
2ـ إن الله غير موجود.
3ـ النتيجة: إن الأخلاق ليست عينية[57].

إن المقدّمة الأولى تعود بجذورها إلى هذا الافتراض، وهو أن كل قانون يحتاج إلى مقنّن. وإن القوانين الأخلاقية -مثل سائر القوانين الأخرى- تحتاج إلى مقنّن. وحيث يجب أن تكون القوانين عينية؛ إذن بالنظر إلى تعريف العينية لا يمكن افتراض أن الناس هم المقنّنون لهذه القوانين. إذ نعلم أن الحقائق العينية صادقة بغض النظر عن الناس. وعلى هذا الأساس يكون الله وحده هو القادر على وضع هذه القوانين.

يذهب شيفر لاندو إلى الاعتقاد بأننا لو أخذنا رؤية الملحد بنظر الاعتبار بوصفها رؤية صادقة، عندها سوف يكون الافتراض المسبق المذكور أعلاه كاذبًا بالمرّة، ولن يحتاج أيّ قانون إلى مشرّع. ولكن ثمّة من وجهة نظر الملحدين قوانين عينية مثل سائر القوانين الموجودة في الفيزياء والمنطق وما إلى ذلك. تصوّر الآن أن الله غير موجود؛ فما الذي سوف يحدث؟ إن هذه القوانين لن يكون لها واضع ومشرّع. نحن نكتشف هذه القوانين ونخلق لها ألفاظًا لكي نصفها بها. ومن ناحية أخرى فإن صدقها عيني وليس ذهنيًا، ولا يكمن صدقها في أننا نعتبرها صادقة أبدًا[58]. يسعى شيفر لاندو من خلال الإشارة إلى دليل الملحدين وبالنظر إلى رأيهم، إلى أن يفرض تحديًا على هذا الاستدلال. فهو يقول إن الملحد يقرّ بوجود الكثير من القوانين العينية في سائر العلوم الأخرى، وهي قوانين قابلة للإثبات، ويمكن لها أن تجتاز الاختبارات التجريبية بسهولة. فكيف توجد هذه القوانين؟ أليس الأمر بأن هذه القوانين الثابتة لا توجد إلا في ظل وجود الله؟ كما أنها قوانين عينية وصدقها ليس ذهنيًا ولا تكون رهنًا بالإنسان. وعلى هذا الأساس لا تكون مقدمتا الملحد متناغمتين فيما بينهما، ويجب علينا القول: لا يحتاج أيّ قانون إلى مشرّع، وإن الأخلاق بدورها من هذا القبيل وتصدق عليها ذات هذه الحكاية.

4/ 4ـ الاستدلال على أساس الاختبار العلمية للواقعية[59]
يُصرّ بعض الفلاسفة والمفكرين باستمرار على هذه الرؤية، وهي أن الميتافيزيقا ليس لها أيّ موضع في منظومة العلم والمعرفة على الإطلاق. والعلم التجريبي هو المستمسك الوحيد لنا في المسار نحو الحقيقة. ولا ينبغي فتح الباب للخصائص الأخلاقية نحو دائرة العلوم أبدًا، فلا يمكن لشيء أن يدخل في مضمار هذه اللعبة إلّا إذا تمّ تأييد وجوده من قِبَل العلم التجريبي. وعلى هذا الأساس لن يكون للمعايير العينية الأخلاقية بدورها أيّ موضع من الاعتبار والاهتمام أيضًا.

وقد عمد روس شيفر لاندو إلى تقرير استدلال المدافعين عن نظرية التخطئة من الناحية المنطقية على النحو أدناه:
1ـ لو لم تكن لدى العلم التجريبي قدرة على تأييد وجود (أ)، فإن أفضل الشواهد في مثل هذه الحالة سوف تقول لنا: ليس ثمّة وجود لـ(أ).
2ـ إن العلم التجريبي لا يمتلك القدرة على إثبات المعايير الأخلاقية العينية.
3ـ النتيجة: إن أفضل الشواهد تثبت أن المعايير الأخلاقية العينية لا وجود لها[60].

كما يبدو من التبويب المنطقي لشيفر لاندو أيضًا أن هذا الاستدلال متأثر بالاتجاه الذي تكون فيه الكلمة الأولى لعبادة العلم. وهو الاتجاه الذي يرى بيان جميع الأشياء الموجودة في العالم من قناة العلوم التجريبية. وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق العينية لا تمتلك أيّ فرصة للنجاة في هذه الرؤية. ولكن هل مقدمات هذا الاستدلال صادقة؟ وهل العلم التجريبي هو المعيار الوحيد في الوصول إلى الواقعية حقًا؟

يذهب روس شيفر لاندو إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي يعاني بدوره من بعض المحدوديات أيضًا، فالعلم التجريبي يستطيع أن يقول لنا الكثير من الأشياء، ولكنه لا يستطيع قول كل شيء. من ذلك -على سبيل المثال- أن العلم عندما يسعى إلى الحديث حول الأهداف الأصلية من الحياة والمعايير الغائية في حياة الإنسان، سوف ينعقد لسانه ونجده مفتقرًا إلى العمق اللازم. وقد أقام شيفر لاندو دليلًا على رأيه أيضًا؛ حيث قال:

1ـ إن الادعاء (أ) إنما يكون صادقًا فيما لو كان بمقدور العلم التجريبي أن يقوم بتأييده.
2ـ إن الادعاء (أ) لا يمكن أن يكون صادقًا؛ إذ ليس بمقدور العلم التجريبي أن يقوم بتأييده.
3ـ إن القضية (أ) لا تُعدّ قضية علمية.

والآن علينا الالتفات إلى هذه النقطة وهي أننا لا نستطيع من خلال تجزئة وتحليل الأشياء التي نراها ونتذوّقها و...، أن نعمل على تقويم صدق هذه القضية أبدًا. لا يمكن لأيّ تحقيق وبحث مخبري أن يعمل على إثباتها وتأييدها. وعليه حيث تكون القضية (أ) كاذبة، يمكن لنا أن نستنتج أنه يمكن العثور على حقائق لا يستطيع العلم التجريبي أن يعمل على إثباتها أبدًا، وربما كان الأهم من ذلك أن الحقائق الأخلاقية لا تندرج ضمن هذا النوع من الحقائق. ومن ناحية أخرى لا يمكن في بعض الموارد لغير الفلسفة أن تعمل على تأييد القضية. لو قلنا إن اعتقاد الأشخاص بشيء محدد إنما يكون مبرّرًا فيما لو أمكن للعلم التجريبي أن يثبته، عندها سوف نواجه إشكالًا أيضًا؛ إذ ليس بمقدور العلم التجريبي أن يعمل على تأييدها. وعلى هذا الأساس فالقول إن العلم التجريبي مصدر وحيد لإثبات الحقيقة ليس صائبًا، ولا يعدّ كلامًا صحيحًا[61].
لقد أثبت شيفر لاندو من خلال أجوبته عن مختلف الأدلة وإثبات ضعف البراهين، إلى أيّ حدّ يحمل هاجس العينية في الأخلاق والمعرفة الأخلاقية، فقد قال في مقالة له[62] في عام 2005 م: "لا أعتقد أن الأخلاق أسطورة أو حكاية خيالية أبدًا، وإنما أرى الأخلاق عينية، وذلك بالمعنى القوي والشديد لها"[63]. يرى شيفر لاندو أن مفهوم العينية يجب توضيحه وبيانه بشكل دقيق. إن المعايير الأخلاقية العينية، هي الأمور التي تصدق في مورد الجميع، حتى إذا لم يؤمن بها الناس، وحتى إذا تجاهلها الناس، وحتى إذا كانت إطاعتها لا تلبي رغبة أحد منهم. ثمّة ملايين الحقائق العينية. من ذلك على سبيل المثال: أن كوكب المشتري أكبر من كوكب عطارد، وإن جون ميلتون قد ألف كتاب الفردوس المفقود، وإن غاليليو قد مات. ليس مهمًا كيف يكون تفكيري وتفكيرك بالنسبة إلى هذه الموارد، وليس مهمًا ما إذا كنا نهتم بهذه الأمور أم لا، وليس مهمًا أن تكون إطاعة أي واحد منها يحقق لنا رغباتنا ومطالبنا أم لا. ولا يمكن لأيّ من الرؤية الشخصية والذكاء المتعارف[64] أن يصنع هذه الأمور. فهي أمور حقيقية، وسوف تبقى صادقة حتى إذا لم يؤمن بها أحد. إن العينية الأخلاقية لهذا الرأي هي أن بعض المعايير الأخلاقية من الناحية العينية صحيحة، وبعض المدعيات الأخلاقية من الناحية العينية صادقة. إن المدعيات الأخلاقية إنما تكون بدورها صادقة فيما لو أمكن لها أن تقول لنا بشكل دقيق ما هي هذه المعايير الأخلاقية العينية وما الذي تريده منا[65].

بغض النظر عن وزن وكيفية الإجابات التي يقدّمها الفيلسوف الأمريكي المعاصر في مواجهته لاتجاه المؤسسين لنظرية التخطئة، فإن جهود روس شيفر لاندو تمثّل خطوة مهمّة في مناقشة أهم أدلة وبراهين المدافعين عن هذه النظرية وإثبات ضعفها وعقمها، وإيضاح هذه الناحية المهمّة المتمثّلة في جعل وصولنا إلى المعرفة الأخلاقية أمرًا ممكنًا، ويمكن القول بالعينية الأخلاقية. وكما تقدّم فإن أقوى البراهين النقدية التي يسوقها المدافعون عن نظرية التخطئة التي فرضت تحديًا على الأخلاق العينية والأدلة المطلقة، هي في أفضل حالتها تعدّ -من وجهة نظر شيفر لاندو- عقيمة وقد بقيت دون نتيجة. ويجب في الوقت نفسه عدم إغفال هذه النقطة أيضًا، وهي أن عدم انتظام أدلة وبراهين المؤسسين لنظرية التخطئة، ليس الغرض منها أن نقول إن الأخلاق تعيش ظروفًا مثالية ومناسبة للغاية. ومن ناحية أخرى فإنه في بعض الموارد، من قبيل الإجابة عن الاستدلال على أساس الاختبار العلمي للواقعية، إنما يُعْمِل أسلوب ومعيار الجواب على مجرّد إغلاق الطريق على المخالف، ويهدم جانبًا من مدعيات المخالف، ولكنه لا يعمل أبدًا على إثبات وجود القيَم الأخلاقية العينية. وأما الأجوبة المتقدّمة عن هذه الأدلة فإنها تنطوي في الحدّ الأدنى على هذه الفائدة وهي إثبات أن الشك وعدم إمكان المعرفة الأخلاقية لا ينبغي اعتبارها فرضية أولية في حقل الأخلاق.

5ـ النتيجة
يمكن مما تقدم أن نصل إلى هذه النقاط، بوصفها نتائج تفرزها هذه المقالة:
1ـ إن مسألة المعرفة الأخلاقية من الأهمية بحيث يكون لاتجاه فيلسوف الأخلاق في هذا الشأن علاقة ونسبة وثيقة بسائر أبعاد فلسفة الأخلاق. لا شك في أن فيلسوف الأخلاق ما لم يحدّد موقفه في حقل هذه المسألة، لن يمكنه بيان رؤيته في الأبعاد والمجالات الأخرى، من قبيل: ما وراء الأخلاق، والأخلاق المعياريّة، والأخلاق المقارنة أيضًا. إن من بين أهم الاتجاهات التشكيكية التي تنطوي على بُعد معرفي، عبارة عن نظرية التخطئة. إن الكلام الأصلي في هذه المقالة يدور حول الشك الذي يمكنه زعزعة ثقتنا بالأخلاق بشكل كامل. وهو نوع من الاضطراب الذي لا صلة له بمحتوى مسألة خاصّة في الأخلاق، وإنما يرتبط بحالتها. هذا الهاجس وهو أن التشكيك الأخلاقي وإنكار المعايير الأخلاقية والعينية صحيح، وأن الأخلاق لا تشتمل على أيّ نوع من أنواع الاقتدار الواقعي والمعرفة الأخلاقية.

2ـ إن نظرية محورية التخطئة في حقل الأخلاق، اتجاه يقوم على أن هناك من الأشخاص الذين يعملون على توظيف لغة الأخلاق، يذكرون في الكثير من المواقع مدعيات تستتبع الوقوع في الأخطاء. إن المفاهيم الموجودة في فلسفة الأخلاق تضع بأيدينا أسلوبًا خاطئًا ومقرونًا بالخطأ لفهم العالم أو توظيف التعقّل العملي. إن هذه النظرة قد تمّ بيانها في أكثر جوانبها تأثيرًا من قبل ماكي. يذهب ماكي إلى الاعتقاد بأننا نواجه معضلة معرفية وإبستمولوجية تفرض علينا صعوبة فهم القيَم الأخلاقية. إنه يذهب إلى الاعتقاد بأن العامل الأخلاقي عندما يتحدّث عن الأحكام الأخلاقية، لا ينبغي أن يذهب بنا التصوّر إلى أنه يتحدّث عن توصيف عيني، إذ لا وجود لمثل هذا الشيء، وعلى هذا الأساس تكون جميع المدعيات الأخلاقية كاذبة.

3ـ يذهب روس شيفر لاندو إلى الاعتقاد بأن نظرية التخطئة تقوم على ثلاثة مدّعيات محورية، ونتيجة ذلك أنه لا وجود لأيّ معرفة أخلاقية، وبالتالي حيث لا يمكن العثور على حقيقة أخلاقية، وإن المعرفة بدورها تحتاج في ظهورها إلى الحقيقة، إذن لا ينبغي السير عبثًا وراء المعرفة الأخلاقية. بالنظر إلى نظرية التخطئة لو اعتبر شخص نفسه ملتزمًا بالأخلاق، يكون قد ارتكب خطأ كبيرًا، وفي ضوء هذا الاتجاه تكون جميع الآراء الأخلاقية فارغة من أيّ حقيقة أو صواب بنفس الدرجة. إن جميع المنظرين والمدافعين عن نظرية التخطئة يركزون على هذا الخطأ المحدّد، ويعتقدون بأن ذلك الخطأ المدمّر الذي يقضي على الأخلاق بالمرّة، هو الافتراض القائل بإمكان العثور على خصائص أخلاقية عينية، بحيث يمكن الحصول من قناتها على أدلة مطلقة. لو أمكن للمدافعين عن نظرية التخطئة أن يثبتوا بمدعياتهم أن هذا الافتراض المسبق خاطئ، يمكنهم الحديث عن عدم اعتبار الأخلاق. ومن ناحية أخرى توجد مسألتان محوريتان أخريان أيضًا، حيث يتعيّن على المؤسسين لنظرية التخطئة أن يقدّموا توضيحًا مقنعًا في هذا الشأن. المسألة الأولى أن القبول بالأخلاق رهن بالالتزام بالعينية الأخلاقية وإطلاق الأدلة الأخلاقية. والمسألة الثانية: أنه حتى في حالة قيام الأخلاق على هاتين الفرضيتين المسبقتين، فسوف تكون إحدى هاتين الفرضيتين في الحدّ الأدنى كاذبة. لقد أثبت شيفر لاندو من خلال دراسته ومناقشته لأدلة المدافعين أن المدافعين عن نظرية التخطئة لا يمكنهم الوصول إلى شيء.

4ـ لقد عمل شيفر لاندو -من خلال تحليله لكل واحد من مقدمات الأدلة المختلفة للمدافعين عن نظرية التخطئة- على إثبات ضعف وعدم جدوائية هذه المقدمات، وأن يثبت نتيجة لذلك ضعف هذه الأدلة. وقد ذكر أن المؤسسين لنظرية التخطئة في الأخلاق لا يمكن لهم -من خلال هذه الأدلة- أن يثبتوا خطأ هذا الافتراض القائل: "إن المعايير الأخلاقية العينية موجودة بحيث يمكن الحصول بواسطتها على أدلة مطلقة". ومن هنا تكون المعرفة الأخلاقية موجودة، ويمكن الحديث عن الأخلاق العينية.

لائحة المصادر والمراجع
1ـ بلكبرن، سايمون، نظريه خطا مدار درباره فلسفه اخلاق، دانشنامه فلسفه اخلاق، تحقيق: بول إدواردز، ترجمه إلى اللغة الفارسية: إن شاء الله رحمتي، نشر سوفيا، طهران، 1399هـ.ش.
2ـ باب، ديفد، شكاكيت أخلاقي: دانشنامه فلسفه أخلاق، تحقيق: بل إدواردز، ترجمه إلى اللغة الفارسية: إن شاء الله رحمتي، نشر سوفيا، طهران، 1399هـ.ش.
3ـ ناتن، ديفد، نگاه اخلاقي: درآمدي به فلسفه اخلاق، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن ميانداري، انتشارات سمت، طهران، 1383هـ.ش.
Brink, David. (1986). Externalist moral realism, The Southern Journal of Philosophy, Vol. XXIV, Supplement: 23 - 41.
Dreier, J. (1997). Humean Doubts About the Practical Justification of Morality. In Ethics and Practical Reason, ed. G. Cullity and B. Gaut, 81 – 100 Oxford: OUP.
Joyce, Richard. (2001). The Myth of Morality, Cambridge University Press.
Joyce, Richard. (2021). Moral Anti-Realism, In: The Stanford Encyclopedia of Philosophy. at: https://plato.stanford.edu/archives/win2021/entries/moral-anti-realism/>.
Kalf, Wouter Floris. (2018). Moral Error Theory, Palgrave Macmillan.
Mackie, John Leslie. (1977). Ethics: Inventing Right and Wrong, New York, Penguin.
Mackie, John Leslie. (1988). The Subjectivity of Values, in Essays on Moral Realism, ed. by Geoffrey Sayre McCord, New York, Cornell University Press.
McDowell, John Henry. (1998). Mind, Value and Reality, London, Harvard.
Olson, J. (2014). Moral Error Theory: History, Critique, Defence. Oxford.
Olson, J (2010). In Defence of Moral Error Theory. In New Waves in Metaethics, ed. M. Brady, 62 - 84. London: Palgrave Macmillan.
Pojman, Louis, P. (2011). Ethics Discovering Right and Wrong, USA, Wadsworth.
Sayre - McCord, g. (2010). Moral Skepticism in the Routledge Companion to Epistemology, edited by Stiven Bernecker and Duncan Pritchard (Routledge, 2010).
Shafer - Landau, Russ. (2003). Moral Realism: A Defence, Oxford University Press.
Shafer - Landau, Russ. (2005). ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity.
Shafer - Landau, Russ. (2012). Fundamentals of Ethics, Oxford University Press.
Shafer - Landau, Russ. (2018). Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press.
Smith, M. (1994). The Moral Problem. Oxford: OUP.
Smith, M. (2006). Beyond the Error Theory, In: A World Without Values Essays on John Mackie’s Moral Error Theory, Richard Joyce· Simon Kirchin Editors, Springer Dordrecht Heidelberg London New York.
Sturgeon, Nicholas. (1986). What Difference does it make whether moral realism is true?, The Southern Journal of Philosophy, Vol. XXIV, Supplement.

----------------------
[1]*ـ نشرت هذه المقالة في نصّها الفارسي تحت عنوان (آيا معرفت اخلاقي ممكن است؟: ارزيابي ديدگاه انتقادي راس شيفر لاندو در باب نظريه ي خطا)، وذلك في مجلة (غرب شناسي بنيادي، پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي) فصلية/ علمية، السنة الثالثة عشرة، العدد: 2، خريف وشتاء عام: 1401هـ.ش، من ص 29 إلى 49.
**ـ طالب على مستوى الدكتوراه في حقل فلسفة الأخلاق من كلية الإلهيات في جامعة قم.
***ـ أستاذ مساعد في حقلة الفلسفة، جامعة طهران (كلية الفارابي). (كاتب مسؤول).
[2]- See: Shafer-Landau, Russ. 2012, Fundamentals of Ethics, Oxford University Press. P. 320.
[3]- انظر: كاب، ص784-786.
[4]- Error Theory.
[5]- انظر: مك ناتن، ديفد، نگاه اخلاقي: درآمدي به فلسفه اخلاق، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن ميانداري، ص11-20؛
Shafer – Landau, Russ. 2003, p. Moral Realism: A Defence, Oxford University Press. 17.
[6]- See: Brink, David. 1986, Externalist moral realism, The Southern Journal of Philosophy, Vol. XXIV, Supplement: p. 24.
[7]- See: Sturgeon, Nicholas. 1986, What Difference does it make whether moral realism is true?, The Southern Journal of Philosophy, Vol. XXIV, Supplement: p. 116- 117.
[8]- انظر: بلكبرن، سايمون، نظريه خطا مدار درباره فلسفه اخلاق، دانشنامه فلسفه اخلاق، ص788.
[9]- See: Smith, M. 1994, The Moral Problem. Oxford: OUP. p. 64.
[10]- إن الكتب أدناه المؤلفة من قبل هؤلاء الفلاسفة الثلاثة المقتدرين، تساعد على اتضاح بحث نظرية التخطئة بشكل أكبر:
- Mackie, John Leslie. 1977. Ethics: Inventing Right and Wrong.
- Joyce, R. 2001. The Myth of Morality.4
- Olson, J. 2014. Moral Error Theory: History, Critique, Defence.
[11][4]- Ethics: Inventing Right and Wrong.
[12]- See: Mackie, John Leslie. 1977. Ethics: Inventing Right and Wrong, New York، Penguin. P. 15.
[13]- The Subjectivity of Values.
[14]- See: Mackie, John Leslie. 1977. Ethics: Inventing Right and Wrong. P. 15.
[15]- See: Mackie, John Leslie. 1988, The Subjectivity of Values, in Essays on Moral Realism, ed. By Geoffrey Sayre McCord, New York، Cornell University Press. p. 49.
[16]- Argument from relativity.
[17]- Argument from queerness.
[18]- See: McDowell, John Henry. 1998, Mind, Value and Reality, London، Harvard. p. 109.
[19]- See: Sayre - McCord, g. 2010, Moral Skepticism in the Routledge Companion to Epistemology, edited by Stiven Bernecker and Duncan Pritchard (Routledge, 2010), p. 467.
[20]- See: Pojman, Louis, 2011, Ethics Discovering Right and Wrong, USA, Wadsworth. p. 227.
[21]- Michael Smith.
[22]- Blackburn.
[23]- McDowell.
[24]- Lewis.
[25]- Garner.
[26]- See: Smith, M. 2006, Beyond the Error Theory, In: A World Without Values Essays on John Mackie’s Moral Error Theory, Richard Joyce · Simon Kirchin Editors, Springer Dordrecht Heidelberg London New York p. 119.
[27]- Jonas Olson.
[28]- See: Olson, J. 2014, Moral Error Theory: History, Critique, Defence. Oxford. p. 21.
[29]- لقد ذكر شيفر لاندو اسم هذا الفيلسوف في أعماله كثيرًا، وتعرّض إلى مناقشة وتحليل آرائه، انظر على سبيل المثال:
Shafer - Landau, Russ (2005) ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity, p. 108.
[30]- See: Joyce, Richard. 2021, The Myth of Morality, Cambridge University Press. p. 22.
[31]- The Myth of Morality.
[32]- انظر: الفصل الأول من كتاب ريتشارد جويش تحت عنوان "نظرية التخطئة والدافع"، والفصل الثاني من كتاب "نظرية التخطئة وأدلتها".
[33]- unicorn.
[34]- non – negotiable.
[35]- See: Shafer - Landau, Russ. 2005, ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity, p. 108.
[36]- Shafer – Landau, Russ. 2005, ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity, p. 108 – 109.
[37]- Categorical moral reasons.
[38]- للمزيد من القراءة حول الأدلة المطلقة وتحليل هذا المفهوم من وجهة نظر بعض الفلاسفة المعروفين، انظر الموارد أدناه:
(Mackie, John Leslie. 1977, Ethics: Inventing Right and Wrong, New York، Penguin. p. 35; Joyce, Richard. 2001, The Myth of Morality, Cambridge University Press. p. 5; Dreier, J. 1997, Humean Doubts About the Practical Justification of Morality. In Ethics and Practical Reason, ed. G. Cullity and B. Gaut, 81 - 100 Oxford: OUP. p. 84; Olson, J. 2010, In Defence of Moral Error Theory. In New Waves in Metaethics, ed. M. Brady, 62 - 84. London: Palgrave Macmillan. pp. 64 - 65).
[39]- See: Kalf, Wouter Floris. 2018, Moral Error Theory, Palgrave Macmillan. p. 4.
[40]- See: Shafer - Landau, Russ. 2005, ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity, p. 117 - 118.
[41]- See: Shafer - Landau, Russ. 2012, Fundamentals of Ethics, Oxford University Press. p. 308.
[42]- moral features.
[43]- Moral Judgments.
[44][1]- Sincere.
[45]- See: Shafer - Landau, Russ. 2018, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 30.
[46]- See: Shafer - Landau, Russ. 2005, ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity, p. 108.
[47]- objective moral standards.
[48]- See: Shafer - Landau, Russ. 2012, Fundamentals of Ethics, Oxford University Press. p. 31.
[49]- Disagreement.
[50]- See: Shafer - Landau, Russ. 2012, Fundamentals of Ethics, Oxford University Press. p. 327.
[51]- See: Pojman, Louis, 2011, Ethics Discovering Right and Wrong, USA, Wadsworth. p. 229.
[52]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 30.
[53]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 32.
[54]- Categorical Reasons.
[55]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 34.
[56]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 34.
[57]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 32.
[58]- See: Shafer-Landau, Russ. 2012, Fundamentals of Ethics, Oxford University Press. P. 329.
[59]- Reality Scientific Test of.
[60]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019, Living Ethics: An Introduction with Readings, Oxford University Press. p. 33.
[61]- See: Shafer - Landau, Russ. 2019. p. 33.
[62]- ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS.
[63]- See: Shafer - Landau, Russ. 2005, ERROR THEORY AND THE POSSIBILITY OF NORMATIVE ETHICS, Philosophical Issues, 15, Normativity, p. 107.
[64]- conventional wisdom.
[65]- See: Shafer-Landau, Russ. 2012. P. 289 - 290.