البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأدوات الاقتصادية وغير الاقتصاديّة في السيطرة والإخضاع

الباحث :  محمد نعمة فقيه
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  33
السنة :  شتاء 2024م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 16 / 2024
عدد زيارات البحث :  362
تحميل  ( 712.459 KB )
تمهيد
لا يُخفى على أحد بأن جهود استتباع وتثبيت تبعية الدول والمجتمعات البشريّة، التي تمارسها منظومة النّهب الدّولي، تتمّ بوسائل وأدوات مختلفة متشابكة ومتكاملة فيما بينها، وتشكّل الأدوات الاقتصاديّة من هذه الأدوات جانبًا فرعيًّا. مع أنّ الأهداف ذات الطابع الاقتصادي لسياسات الاستتباع وتثبيت التبعيّة، وصولًا إلى الإخضاع والسّحق الحضاري، تشكِّل حجر الرُّحى لهذه الجهود.

إلّا أنّ الأدوات الأكثر رواجًا التي يتمّ استخدامها، هي الأدوات السياسيّة بما تحتويه من قوى عسكرية وأجهزة أمنيّة وسلطات محليّة سياسيّة وأمنيّة. وكذلك الأدوات الثقافيّة، بما تحتويه من أجهزة إعلام ودعاية وأجهزة التلاعب بالعقول وإعادة صياغتها، من جامعات ومؤسسات ومعاهد تدريب وتنشئة «الدعاة» لتدمير عوامل المقاومة الحضاريّة لدى الشعوب، بالاعتماد على «جيوشٍ» من الأتباع المحلّيين الذين تمّت صياغة عقولهم وانصبّت مصالحهم بما يتلاءم مع غايات وأهداف ومصالح الجهات المحرّكة لهذه الأدوات.
وممّا لا شكّ فيه، هو أن هذه الأدوات كافة، من اقتصاديّة وسياسية وثقافية، تتشابك فيما بينها وتعمل في الوقت نفسه في خدمة تفعيل إحداها لغيرها من الأدوات ككتلة ضاغطة متكاملة، لتحقيق ما ترمي إليه المنظومة المحرّكة لتلك الأدوات. فلا عجب في أن نراها تخلق نموذجًا مضلِّلًا، وتبني عليه لنشر الأضاليل. ولا تتورّع عن تقويض النموذج الذي صنعته حين يؤدّي المطلوب منه، وتدفع به للانتقال إلى موقع أكثر تبعيّة وخضوعًا.

سنسعى في هذه المقالة إلى تلمُّس طرائق عمل هذه الأدوات منذ سيادة النظام العالمي القائم على أحاديّة القطب في العلاقات الدوليّة، أي بعد نهاية «الحرب الباردة» أوائل تسعينات القرن الماضي، في محاولة لرصد وتحليل تشابك أدوات السيطرة والإخضاع، وما الذي يميّز هذه الفترة من الفعل الإخضاعي عن الفترات السابقة، وكيف يشكّل الاختراق الاقتصادي للمجتمعات المستهدفة بالإخضاع، مدخلًا للاختراق الثقافي والحضاري الذي، بدوره، يخلق عوامل تثبيت وتعميق التبعية الاقتصاديّة، ويعزّز أواليات النّهب الاقتصادي، والتي يأتي من ضمن هذه الأواليات إشاعة الفساد المالي والإداري في المجتمع المستهدف بالإخضاع.

ولكن من المفيد بداية توضيح دلالة مفهومين رئيسين سنستعين بهما في هذه المقالة هما مفهوم «منظومة النّهب الدّولي»، ومفهوم «سلطان الطاغوت». فالمفهوم الأوّل يدلُّ على الجهاز الاستبدادي المتحكِّم بالسياسات الاقتصاديّة والماليّة والثقافيّة لمختلف دول العالم ومجتمعاته، بينما المفهوم الثاني يدلُّ على شكل وطبيعة النظام العالمي الذي تسعى منظومة النهب الدّولي لتثبيته وإشاعته في المجتمعات البشريّة. وأن فهم العلاقة التكامليّة الجدليّة حينًا، والتبعيّة حينًا آخر، فيما بين هذين المفهومين، يساعد على فهم الطبيعة المميّزة للنظام العالمي السّائد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

مفهوم منظومة النّهب الدّولي
يمكن، وباختصار شديد، تعريف منظومة النّهب الدّولي بأنّها النتيجة، أو الشكل الأخير، لتطوّر استثمار نتائج القرصنة في الإنتاج. وهي العملية التي بدأت حين التقت في صقلية مصالح قراصنة نورمانديين مع مصالح سماسرة يهود كانوا يعيشون في كنف المجتمع الإسلامي، بدأوا بتحويل منهوبات القراصنة إلى رأس مال، وذلك منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، حين احتل قراصنة نورمانديّون جزيرة صقلية من المسلمين، أي منذ أن بدأ هؤلاء السماسرة بمبادلة المنهوبات التي يحملها القراصنة من غزواتهم، باحتياجاتهم من المؤن والألبسة والأسلحة وصيانة المراكب والسفن، وصولًا إلى التزام أعمال تطوير السفن والأعتدة وسبك المدافع ومقذوفاتها. وقد أدّت هذه المبادلات إلى خلق البدايات الأولى لنشأة الرأسماليّة التي تشترط وجود منتجين ومموّلين للإنتاج ومستهلكين له لا صلة لهم بالمنتجين. وهي عملية تتجاوز مفهوم الإنتاج السلعي للاستهلاك العائلي والتبادل الضيق فيما بين المنتجين. وقد لعب السماسرة دور تمويل المنتجين وتوجيه الإنتاج حسب احتياجات أسواقهم، إضافة إلى دور الوسيط فيما بين المنتجين والمستهلكين.

وقد تطوّر شكل العلاقة فيما بين السماسرة وطرفي السوق الآخرين، أي المنتجين والمستهلكين، حتى بات السماسرة – المموّلون يسيطرون على كامل العملية، ومن طرفيها، ومن دون أن يكونوا جزءًا منها، وبالتالي لا يتحمّلون أعباء أو تبعات المغامرة والخسارة. فهم طوّروا دورهم من متلقٍ للمنهوبات، إلى دور يقوم على تنظيم غزوات القراصنة وتمويلها وتوجيهها إلى جهات محدّدة، مثلما كانوا يوجّهون المنتجين لإنتاج سلع وأسلحة وسفن بما يتلاءم مع احتياجات تدعيم القرصنة وتطويرها، حتى وصلت أعمال القرصنة إلى أوجها مع غزواتهم لسواحل بلاد الشام نهاية القرن الحادي عشر تحت مسمّى «الحروب الصليبيّة»، والتي كانت أضخم عملية قرصنة عبر التاريخ.
ضمن هذه الأسس كان ينشأ التراكم الأوّلي لرأس المال، وتنشأ الصيغة الأوليّة لعلاقات الإنتاج الرأسماليّة. تنشأ على هامش النظام الاقتصادي القائم وعلاقات إنتاجه الإقطاعيّة. وينشأ الاستثمار عبر التمويل للإنتاج من خارج المنشأة الإنتاجيّة التي تنتج لمستهلكين لا صلة للمُنتِج بهم، وتنشأ البذور الأولى للنظام المصرفي الذي سيتولّى في مراحل لاحقة تمويل عمليّات النّهب حول العالم تحت مسمّى «الحركة الاستعماريّة»، ليتحوّل هذا النظام المصرفي الذي سيضحى نظامًا عالميًّا مع نشأة الأمبراطوريّات القائمة على مستعمرات قيد النّهب. ومع هذا التطوّر سيتحوّل دور السماسرة اليهود الذين شاهدناهم في البدايات، إلى أصحاب البيوتات الماليّة اليهوديّة الضخمة القابضة على اقتصادات العالم بأسره.

استغرق تطوّر الأجهزة الاقتصاديّة بانتقالها من مرحلة إلى أخرى معظم قرون الألفية الثانية، من منتصف القرن الحادي عشر إلى أواخر عقود القرن العشرين. ولكنّ هذا التطوّر لم يَطَلْ الأدوات الاقتصاديّة فقط، وبالتالي لم ينتج الإمبراطوريات الماليّة العملاقة فقط، بل طال كل ما هو متاح من أدوات سياسية وثقافية، وكأنّ هذا التطوّر كان مشروطًا بتدمير البنى الحضاريّة الأصليّة للمجتمعات الأوروبية، ليس لأن تلك البنى معيقة للتطوّر العلمي كما تدّعي الدعاية الرأسماليّة، بل لأنها تعيق سطوة البيوتات الماليّة اليهوديّة على مجمل مناحي الحياة الأوروبية الغربية، على المستويات الاقتصاديّة والسياسية والثقافية كافة.
لذلك نرى بأن مراحل تطوّر السطوة الماليّة على اقتصادات الدول الاستعماريّة، كان مترافقًا مع تطور في القبض على مراكز القرار السياسي والثقافي فيها. وأن مسيرة التطوّر الاقتصادي ترافقت مع مسيرة تفكيك المجتمعات التي بدأت بتدمير الإيمان المسيحي عبر نشر التشكيك بالعهد القديم الذي يُعتبر ركيزة الإيمان المسيحي. وقد ترافق ذلك مع العمل على تدمير اللغة اللاتينيّة باعتبارها لغة موحِّدة للاجتماع الأوروبي الغربي، لصالح تشجيع ونشر اللهجات المحليّة وتحويلها إلى لغات قوميّة.

استلزم ذلك تشجيع الراهب الألماني مارتن لوثر في «الاحتجاج» الذي رفعه بوجه سلطة الكهنوت المسيحي، فعمل على ترجمة «الكتاب المقدّس» إلى إحدى اللهجات الألمانية وأباح ترجمته لغيرها من اللهجات. ولتبدأ، وبتمويل واضح من البيوتات المالية اليهوديّة، الحروب الدينية بين الكنيسة الكاثوليكية و«المحتجِّين» الذين أسسوا لمجموعات عدّة من «الكنائس الوطنية» والمعروفة باسم الكنائس البروتستانتيّة، ولتنتهي هذه الحروب بعد قرنين من الزمن وتنجلي عن تفكّك هائل للمجتمعات الأوروبية، وعن سطوة كبيرة للبيوتات المالية على تلك المجتمعات وثقافتها، ولتظهر مئات القوميات المتصارعة فيما بينها، والتي جاء مؤتمر فيينا (1814-1815) لتكريسها في دول وأشباه دول، ولتصبح الثقافة السائدة هي ثقافة تعزيز التناقضات القوميّة التي أنتجت حروبًا مدمّرة في أوروبا والعالم كانت البيوتات المالية نفسها هي التي تموّلها على مختلف الجبهات، وكانت هذه البيوتات هي الرابح الوحيد من تلك الحروب التي لم تكن الحربان العالميتان الأولى والثانية آخرها، بل الحروب التي استكملت تلك الحربين العالميتين في إطار ما يسمّى «الحرب الباردة»، أكان في كوريا أو فيتنام أو الحروب الصهيونية على المجتمعات العربية والحروب الهندية – الباكستانية والحرب العراقية على الجمهورية الإسلامية في إيران وغيرها عشرات الحروب حول العالم، فهي كلها تأتي في صميم عملية تثبيت سطوة منظومة متكاملة على مستوى عالمي، وعلى العالم بأسره.

هذه المنظومة المتكاملة هي ما أطلقنا عليها اسم «منظومة النّهب الدّولي»، فهي ليست مجرّد تكتلات اقتصادية عملاقة تسيطر على معظم النشاط الاقتصادي والمالي في العالم، بل هي إلى ذلك، مجموعة المؤسسات والمنظمات النّاشطة تحت مظلّة هيئة الأمم المتحدة، لاسيَما منها صندوق النّقد الدّولي والبنك الدّولي ومنظمة الصحة العالمية واليونيسف واليونسكو والمفوضية الدولية للاجئين. وهي أيضًا كل تلك الاتفاقات الدّوليّة تحت مسمّيات التجارة الحرّة والأسواق المفتوحة. وهي أيضًا سلسلة من الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث والتوجيه والإرشاد المنتشرة في العالم التي ترتبط بها تمويلًا وتوجيهًا وإعدادًا آلاف مراكز الدعاية والإعلام من فضائيات وإذاعات وصحف ودور نشر. وهي إلى ذلك أيضًا مجموعة متكاملة ومتناغمة من الجيوش العسكريّة والأمنية والجاسوسية والإلكترونية والأدمغة المصاغة لخدمة أهداف هذه المنظومة، وكذلك جيوش من المريدين والتّابعين الذين تمّ إعدادهم ليكونوا دمى و«روبوتات» بشرية. وهي أيضًا جملة من السلطات العميلة والمتواطئة تعمل في خدمة هذه المنظومة وتحت توجيهها وحمايتها.

هذه المنظومة بكل مكوّناتها وأذرعها وأدواتها تعمل لنهب خيرات البشريّة وتدمير مجتمعاتها وتكوينها الحضاري، ولتحويل البشر، كل البشر، إلى مخلوقات لا حول لها ولا قوّة، وإنهاء طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي وتحويله إلى كائنٍ مسخ مفرد بذاته لا ارتباط اجتماعي له عبر تدمير الأسرة ومفهومها وضرورتها في حياة الإنسان، أي جعل حياة البشر كحياة القطط، كل قط مسؤول بذاته عن ذاته لا ارتباط له بمحيط من جنسه، يعتمد في معيشته على ما يرميه له ولي أمره من فتات الطعام، والمحظوظون منها يحصلون على مأوى ورعاية مشروطة. ولتمكين الطاغوت من تعميم سلطانه على الأرض.

وسيتبيّن لنا خلال هذه المقالة كيف أنّ هذه المنظومة لا وطن لها ولا تنتمي إلى أي دولة، بينما تمارس سطوتها على العالم أجمع. فهي تسيطر على اقتصادات وإرادات العالم وعلى قرارات الحرب والسِّلم فيه، وعلى قرارات الدول وتوجّهاتها، من خارجها ومن دون أن يكون لها أي انتماء جغرافي، وإن بدت الإدارة الأميركيّة بمظهر الطاغوت، إلّا أنّ هذه الإدارة، بمختلف تشكيلاتها وتحوّلاتها، أضحت، ومنذ ما بعد الحرب الباردة بشكل خاص، العصا التي تلوِّح بها هذه المنظومة بوجه العصاة، أو تضرب بها حين تدعو الحاجة، بعد أن أصبحت هذه المنظومة هي التي تصنع تلك الإدارات ومؤسساتها، وتقبض عليها بكل تفاصيلها[2].

مفهوم «سلطان الطّاغوت»:
أمّا المفهوم الثاني الذي رأينا ضرورة تبرير صياغته وتوضيح مدلوله، فهو مفهوم «سلطان الطّاغوت» كبديلٍ جامع ونابذ في آنِ واحد لمفاهيم ومصطلحات سائدة عدّة، منها ما هو قاصر عن الإحاطة بالمعنى والمضمون للحالة المعنيّة، ومنها ما هو مضلِّل يقصد صرف الانتباه عن حقيقة هذه الحالة.

ومن المفاهيم والمصطلحات المتداولة المضلّلة مفهوم «النظام الدّولي» حيث تشي العبارة بأن هناك نظامًا قائمًا تراضت عليه دول العالم بإرادتها الحرّة ووضعت قوانينه وقواعده بالتشاور والتوافق بما يتلاءم مع مصالح جميع تلك الدول. أو مصطلحات من قبيل «دول الشمال ودول الجنوب» وكأن العالم منقسم جغرافيًّا ومناخيًّا، وأن الفقر والغنى حالات ناتجة عن الجغرافيا وملازمة لها. وكذلك المصطلح الذائع الصيت «العولمة» الذي تمّ نشره وتعميمه حتى باتت الألسن تلوك به دون أن تتمّ له صياغة مفهوميّة دالّة وواضحة رغم ملايين الصفحات التي تناولت هذا الموضوع في مختلف لغات العالم.
أمّا المفاهيم والمصطلحات التي حاولت الإحاطة بهذه الحالة، ولكنّها كانت قاصرة عن مبتغاها، أو أن التطوّرات التي شهدها العالم خلال العقود الثلاثة الماضية قد تجاوزتها، نجد مفهوم «الإمبريالية» و«الإمبريالية العالميّة» والتي جرت محاولات لتحديثه بمفهوم «إمبرياليّة الألفيّة الثالثة»، أو غيرها من مفاهيم ومصطلحات مشتقة أو مشابهة شاع استخدامها في الأدبين السياسي والاقتصادي خلال القرن العشرين. إلّا أن هذا المفهوم وتعديلاته بقي محصورًا إلى حدٍّ كبير بالمستوى الاقتصادي، رغم ظهور بعض الأبحاث التي تحدّثت عن «الأدب الإمبريالي» و«الثقافة الإمبريالية» وغيرها. ولكن حتّى هذه الأبحاث رأت إلى هذا «الأدب» و«الثقافة» من زاوية شديدة التماس، حتى الالتحام، مع المُعطيات الاقتصاديّة.

بداية كان هذا المفهوم -الإمبرياليّة- يدلُّ على دولة تتّصف بصفات السيطرة والهيمنة والاستيلاء بالقهر على مقدّرات دول وشعوب خارجها. ولذلك كان يُقال: «الدول الإمبرياليّة» و«المراكز الإمبرياليّة» و«السياسات الإمبريالية» لهذه الدولة أو تلك من الدول الاستعماريّة الكبرى.
ولكن بعد التغيّرات والتحوّلات الكبرى التي شهدتها الرأسماليّة عبر حلقات متتابعة، وبشكل خاص خلال القرن العشرين، ومن ثمّ ما أحدثته الثورات التكنولوجيّة المتلاحقة من تغيّرات إضافيّة وجوهريّة على البنية الداخلية للرأسماليّة والاقتصاد العالمي، منذ منتصف القرن وخاصة في الربع الأخير منه[3] امتدادًا إلى العقود الأولى من الألفية الثالثة، يترافق كل ذلك مع تغيّرات جذرية جيوسياسيّة على العلاقات الدوليّة، ما أدّى، بتضافر هذه العوامل كافة فيما بينها، إلى تعزيز أواليّات تخطّي الرأسمالية للحدود القوميّة للدولة الرأسماليّة، ولتأخذ استقلالها عن الجغرافيا وتقبض بنفسها على القرارات الدوليّة بمستوييها السياسي والاقتصادي.

بعد كل ذلك، أصبح العالم محكومًا بمنظومة ماليّة تستخدم عددًا من الأذرع الاقتصاديّة والثقافيّة والإعلاميّة والعسكريّة والاستخباريّة كأدوات لها لتنفيذ خياراتها وفرض مشيئتها. هذه الحالة، والتي تختلف جوهريًّا مع ما كانت عليه الرأسماليّة في المراحل السابقة، استدعت تعريفًا جديدًا. فمن المفكرين من اعتبرها «رأسمالية العولمة» أو «إمبرياليّة العولمة»، ليعطوها أبعادًا لم يُرِدْهَا مروّجوها، ومنهم كالدكتور فؤاد مرسي الذي اكتفى باعتبارها «الرأسماليّة المعاصرة» بعد أن جدّدت نفسها وأصبحت قادرة على التكيُّف مع الظروف المستجدّة ومع مقتضيات تموضعها في المجتمعات كافة[4]، ومنهم من قال أنّها «الرأسماليّة الهمجيّة» كالمفكر جلبير الأشقر[5]، ومنهم المفكر المغربي المهدي المنجرة الذي أطلق عليها اسم «الميغا إمبرياليّة»[6].
ولكن، بما أنَّ مفردة «عولمة» التي روّج لها السّاسة الغربيون ومثقفوهم جوفاء لا تفي بتوصيف الفعل، بل تنحصر دلالتها بتوصيف شكلي للواقع، أي أنّها لا تحتوي على فعل السيادة أو السيطرة، وهذا ما أراده مروّجوها؛ وبما أنّ مدلول مفردة «معاصرة» متحرِّك بين الأزمنة والمراحل التاريخيّة، فما كان معاصرًا في زمن ما، يصبح قديمًا أو سابقًا في زمنٍ آخر؛ وبما أن وصف الرأسماليّة بـ«الهمجيّة» لا يقدِّم سوى تقويم أخلاقيّ هو في الحقيقة كان قد لازم نشأة الرأسماليّة منذ بداياتها، هذا إذا لم نذهب أبعد؛ وبما أنّ مفردة «ميغا» تقتصرُ دلالتها على الحجم أو الوزن أو المسافة، فتعريف الإمبريالية بها يقدِّم تعريفًا لما هي عليه، الإمبرياليّة، من ضخامةٍ وتضاعفٍ مليوني لقوّتها، ولكن المفكِّر المهدي المنجرة، واضع التعريف، ومع كامل احترامنا وتقديرنا لاستشرافه وأصالته الفكريّة، لم يلحظ خروج هذه الإمبريالية المتضخّمة والمتعملقة من أطُر الكيانات السياسيّة التي احتضنتها ورعتها، أي الولايات المتّحدة الأميركيّة وغيرها من الدول الاستعماريّة.

وبما أنّ مفردة إمبرياليّة معرّبة أساسًا من الكلمة اللاتينية (Imperium)، والتي تعني «القوة العليا»، أو «السيادة»، وبما أنّ ممارسة مفاعيل هذه الصّفة لا تستوجب حصرًا ارتباطها بدولة أو بجغرافيا معيّنة؛ وبما أنّ المفردة العربيّة التي تفي بالدّلالة على ما هي عليه «إمبرياليّة الألفيّة الثالثة» أو «الإمبرياليّة المعاصرة» بكل ما تحتويه من ضخامة وقوّة عاتية، وتوحُّش وخروج على القيم الأخلاقيّة والمعايير الإنسانيّة، هي مفردة «الطاغوت»، وهي مفهوم قرآني يدلُّ على الطغيان والاستبداد والعدوان والقوّة الشيطانيّة التي تأمر بالمُنكر، أو توسوس به، وتصرف عمّا فيه خيرًا للبشريّة؛ وجدنا بأنّ هذه المفردة تحتوي من الدّلالات ما يكفي لاستخدامها كمفهوم دالٍّ على ما هي عليه «إمبرياليّة الألفيّة الثالثة»، الإمبرياليّة المتمتّعة بكل خصائص الطاغوت من طغيان على المستويات كافّة، وبيده وسائل الإعلام، أدوات الوسوسة التي تعمل على إعادة تشكيل العقول وصياغتها بما يتلاءم مع وجهة الطاغوت ومصالحه ورغباته.
وبذلك، فإننا نستخدم هنا مفردة الطّاغوت كمفهوم دالٍّ على النظام الدّولي بمستوياته كافة، السياسية والاقتصاديّة والثقافية، والتي تشكِّل فيما بينها منظومة طاغوتيّة تتحكَّم بمصائر الشعوب وتنهب ثرواتها، وتبثُّ فكرًا طاغوتيًّا يهدف إلى تعميم مدنيّات وسلوكيات مغايرة للطبيعة الإنسانيّة، وتفرض نمطًا استهلاكيًّا يخدم توجّهاتها حتّى ولو أدّى إلى هلاك البشريّة، وتمارس سياسة طاغوتيّة ترى الحقَّ حقًّا فتقاتله، وترى الشرَّ شرًّا فتناصره. فالنظام القائم راهنًا هو نظامٌ طاغوتيٌّ، والمنظومة التي تديره وتحرّكه منظومة طاغوتيّة، والذين بيدهم القرار في هذه المنظومة طواغيت.

وعليه، فنحن في هذه المقالة حين نفرز أدوات السيطرة والإخضاع فيما بين أدوات اقتصاديّة وأخرى غير اقتصاديّة، فهذا لا يعني أنّ هذه أو تلك من الأدوات تعمل بمفردها وبشكل مستقل عن غيرها من الأدوات، بل جميعها يعمل بشكل متضافر ومتكامل ضمن إطار تصوّرٍ مُسبَق وشامل وضعته الجهات الضابطة لسياسات الإخضاع والسيطرة على مستوى عالمي. وما الفرز إلّا عمليّة شكليّة لتسهيل البحث.

أولًا: الأدوات غير الاقتصاديّة للسيطرة والإخضاع:
بعد أن حطّت الحرب الباردة أوزارها، وبعد انتقال العلاقات الدوليّة إلى نظام القطب الواحد، اشتعلت حروبٌ وفوضى أمنيّة وسياسية في عددٍ من بقاع العالم، في الوقت الذي كانت تفرد الشركات المتعدّدة الجنسيات أجنحتها خارج بلدان المركز الإمبريالي، ولتتحوّل البؤر التي كانت قد انشأتها في عددٍ من دول «العالم الثالث» إلى «سلطنات» ماليّة ضخمة. فارتفعت ناطحات السحاب في تلك الدّول لتطلّ عن كثبٍ على جوارٍ لها يتكوَّم فيه ملايين البشر في أحياء الصّفيح وفي أكواخ الطّين الذين زادتهم الطفرة الاقتصاديّة في بلادهم فقرًا على فقر. وبعد أن انجلى غبار تلك الفوضى السياسية والحروب، تبيّن أن جهات ذات تنظيمٍ عالٍ كانت وراء كلّ ما حدث.

كان المشهد السياسي الدّولي بداية العقد الأخير من القرن العشرين ينمُّ عن فرصٍ استثنائيّة أمام منظومة النّهب الدّولي لتثبيت سلطان الطاغوت على العالم أجمع، ولذلك فكان إيقاع خطواتها سريعًا، وأحيانًا متسرّعًا[7]، تريد اقتناص ما أمامها من فرص لتحقيق سلطانها المطلق. وسنلقي الضوء فيما يلي على عدد من المحطّات.

سياسة «الفوضى الخلّاقة»
باشرت منظومة النّهب الدّولي عملية وضع اليد على مخلّفات الاتحاد السوفياتي بممارسة السياسة التي عُرفَت فيما بعد باسم «الفوضى الخلّاقة». فأشعلت الفوضى والحروب و«الثورات الملوّنة» فيها، من رومانيا تشاوشيسكو، وفوضى الانتقال المرير في الدول الاشتراكية من الاقتصاد الموجّه إلى اقتصاد السوق، والتشقّقات المأساويّة التي ضربت بعض تلك الدول كتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، وما رافقها من استعار حمّى النزعة القوميّة المتعصّبة لدى الصرب والكروات والبشناق والأوكران، وقد خلّفت تلك الفوضى والحروب مآسٍ وكوارث دمّرت مقوّمات تلك المجتمعات وحوّلتها إلى كيانات لا حول لها ولا قوّة.

وفي المشرق العربي، كان الإيحاء الأميركي للرئيس العراقي صدّام حسين عام 1990 بغزو الكويت، حيث كان ذاك الإيحاء بمثابة الشّرك الذي وقع فيه صدّام حسين وأوقع المنطقة العربيّة كلّها في أتون حروبٍ مازالت تتوالد. ومن جرّائها عاد الاحتلال العسكري الغربي المباشر يطغى على معظم دول المشرق العربي. ودخلت مشاريع تصفية قضية فلسطين حيّز التطبيق مع «مؤتمر مدريد» و«اتفاقية أوسلو» واتفاقية «وادي عربة»، وإسقاط منظمة التحرير الفلسطينية لشعار الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين واستعادة الفلسطينيين لأرضهم في وطنهم.

حتى الآن، لا يملك الباحث ما يكفي من الأدلّة ليقول مَنْ ذا الذي أشاع تلك الفوضى، ولا مَنْ أشعل تلك الحروب، سوى بعض التصريحات لمسؤولين أميركيين انغمسوا فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن بوسع المتابع أن يكتشف، وبلا عناء، أنّ كل ذلك، أكان في أوروبا الشرقيّة أو في المشرق العربي، وكذلك ما حدث في جنوبي شرق آسيا من ارتفاع لناطحات السّحاب، كلّه جاء متناسقًا ومتكاملًا في سياق هجوم أشبه ما يكون بتدفّق جيشٍ إلى قلاع العدو بعد أن انهارت دفاعاته وتحصيناته. وأنَّ كلَّ ذلك تمَّ تحت غطاء وابلٍ من قصفٍ إعلامي عُدّت له العُدّة مسبقًا ليتولّى التّلاعب بالعقول وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع «العهد الجديد» الذي حمل بشارته هذه المرّة «الفاسقون» الذين يريدون تحويل الهيكل إلى «مغارةٍ للصوص».
وقد يكتفي آخرون في تحميل مسؤولية كل المآسي التي نجمت عن فترة تثبيت سلطان الطاغوت للولايات المتحدة الأميركيّة اعتمادًا على ما كانت قد جاهرت به، وباعتزاز، وزيرة الخارجية الأميركية في إدارة الرئيس جورج بوش الابن غونداليزا رايس عام 2005 لصحيفة «الواشنطن بوست» عن نية الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية بالعالم العربي والبدء بتشكيل ما أطلقت عليه اسم «الشرق الأوسط الجديد»، عبر نشر «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط بالاعتماد على تجربتها في أوروبا الشرقية[8].

أمّا لو تعمّقنا أكثر وذهبنا إلى مصدر هذا المصطلح، الفوضى الخلّاقة، سنجد جذوره في أدبيات الماسونية القديمة، حيث ورد ذكره في أكثر من مرجع، وأشار إليه الباحث والكاتب الأميركي دان براون[9]. وإذا ما علمنا بأنّ أستاذ كونداليزا رايس في العلوم السياسية هو الدكتور جوزيف كوربيل، والد مادلين أولبرايت التي كانت وزيرة للخارجية الأميركية أيضًا، والذي وصفته رايس بقولها: «إنه كان بمثابة شخصية مركزية في حياتها»، وكوربيل هذا مصنَّف بأنّه، مع هنري كيسنجر، يشكلان الثنائي اليهودي الأكثر تأثيرًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركيّة[10]، إذا ما علمنا ذلك، سيكون واضحًا من أين تسلّل أحد المصطلحات الماسونيّة إلى عقيدة كونداليزا رايس السياسية.
ومصطلح «الفوضى الخلاقة» (Creative Chaos)‏ الذي دخل في علم السياسة، يُقصَد به الحالة السياسية النّاجمة عن مرحلة فوضى تعمّدت قوى ما بإحداثها بالاعتماد على أشخاصٍ أو مكوّنات هلاميّة تعمل على خلق أجواء تقوّض سلطة الدّولة والمجتمع على عموم السكّان، بدون الكشف عن هويتهم وأهدافهم، وذلك بهدف دفع الأمور باتجاه يتناسب مع رغبات القوى التي دفعت لهذه الفوضى. ويخلط بعض المهتمّين ما بين «الفوضى الخلّاقة» و«الفوضويّة». وهذا الأخير مصطلح تمّت ترجمته إلى العربية بشكل خاطئ عن الأصل الفرنسي (Anarchisme) أو مصطلح (Anarchism) باللغة الإنكليزيّة، والذي تعود جذوره إلى الفلسفة الكلبية والرواقيّة في القرن السادس قبل الميلاد، ولكنّه عاد وانتشر خلال القرن التاسع عشر في أوروبا. وهذا المصطلح يعني «اللاسلطويّة»، أي الحياة بلا سلطة. وكان روّاده يدعون إلى حلّ الدولة وقيام المجتمعات التي يتساوى أعضاؤها فيما بينهم ودون أن يكون أي شكل من أشكال السلطة أو الحكّام في هذه المجتمعات. تمامًا كمباراة لكرة القدم تدور دون حكّام ولا قوانين مسبقة، بل يتّفق اللّاعبون على قوانين اللعبة داخل الملعب. وكان من أبرز قادة هذا التيار الفيلسوف الفرنسي برودون[11]. بينما في «الفوضى الخلّاقة» هناك قوّة قابضة تحرّك الأمور من خلف الستار بهدف تأمين سُبُل القبض على مفاصل السلطة.

نُخَب ثقافية وسياسيّة متواطئة
وتشترط نظريّة «الفوضى الخلّاقة» وجود نُخَب ثقافيّة من المجتمع المستهدَف. وهؤلاء تم اعتبارهم «نُخبًا» لأن القيّمين على الأمر قد انتخبوهم من بين مجاميع مؤهّلة للعمل بخدمة الخارج. وتخضع هذه «النّخب» لتدريبٍ متقن على أساليب الدّعاية والإثارة والحشد والتعبئة بين السكّان. ويكون هذا الحشد تحت عناوين منتقاة بدقّة قادرة على استقطاب أكبر قدر ممكن من النّاس، ولا يكون الاستقطاب لصالح أشخاص أو قيادات محدَّدة، بل للعناوين المعلنة نفسها والتي لا يكون الهدف من إعلانها تحقيقها، بل هي المدخل لإثارة الفوضى وإخراج النّاس من السياق الاجتماعي الضّابط للمجتمع، ومن الولاء للسلطة المستهدفة والمطلوب تقويضها.

«النُّخب الثقافيّة» التي انتخبها المهاجمون لتغطية هجومهم وتبريره، لم تكن، بمعظمها، نتاج أوضاع راهنة، بل هي امتدادٌ لما كان قد أنتجه الفعل الاستعماري والإخضاعي في عصور غابرة، حيث لعبت «نُخب» مشابهة دور الأدوات المحليّة في تثبيت الهيمنة الاستعماريّة والدعاية لها. وكانت هذه الفئة من النّاس، كما هي عليه راهنًا، تتولّى إغداق الوعود لمواطنيها بأن المستعمرين سينقلون البلاد والعباد إلى عصرٍ من الازدهار والوئام والاستقرار. وها هي «النخب» المعاصرة تقدِّم الوعود نفسها وتدّعي أن الدخول تحت عباءة النيو ليبرالية والعولمة، التي قالوا إنّها فرضت نفسها على الواقع، سيكون بمثابة «العصا السحريّة» لدخول المجتمع في «النّعيم». وروّجوا لمقولة «نهاية التاريخ» وأن الإيديولوجيّات قد سقطت، والتمايز الحضاري أصبح شيئًا من الماضي، وما على البشريّة سوى الاستسلام، وهلمّوا لنتنعّم جميعًا بما بين أيدينا، والأفق مفتوحٌ أمام كلّ مُجدٍّ ليتبوّأ المكان الذي يستحقّه.

وإذا كانت الوعود التي كانت تطلقها مراكز الأبحاث والمعاهد المختلفة حول العالم في المرحلة السابقة تحت مسمّيات مواجهة التخلّف والتخطيط للتنمية تحمل في خطابها منطقًا يبررها، فإن ما تحمله الدعوات التي بدأت تظهر مع أفول الحرب الباردة تحت الشعارات الجديدة والوعود الخلّابة بالانتقال إلى «النعيم» لا تتعدّى كونها شعارات فضفاضة وفارغة بلا منطق يحكمها، وبلا أي معنى أخلاقي سوى أنّها تدفع إلى الفوضى لوضع المجتمعات التي صدّقتها وعملت بها، للوقوع فريسة منظومة النّهب الدّولي ونظامها الطاغوتي الذي بدأت تثبيته في ظل نظام دولي أحادي الجانب. وليصدق في تلك الوعود القول بأنّها «وعد إبليس بالجنّة».

إن التجارب التي شهدها العالم في ظل «وعد إبليس»، أكان على مستوى «الثورات الملوّنة» في دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أو إن كان على مستوى الاقتصادات الكرتونيّة في دول جنوبي شرق آسيا، وصولًا إلى ما عُرف باسم «الربيع العربي» في عدد من الدول العربية منذ عام 2011، قدّمت للعالم نماذج حيّة عمّا هي عليه حقيقة شعارات «الديموقراطية» و«النيو ليبرالية» وسلّة «الحقوق» التي تتّخذها تلك «النّخب» والجماعات المنخرطة في الترويج للنيو ليبراليّة التي تشكِّل عصب الإيديولوجيا التي تسعى منظومة النّهب الدّولي إلى نشرها وتعميمها في العالم، وتعمل لأن تكون قيم ومبادئ التحلُّل الاجتماعي التي تروّج لها بديلًا عمّا لدى الشعوب العريقة من قيَم ومبادئ قامت عليها الحضارات الإنسانيّة عبر العصور.

تمثّل «وعد إبليس بالجنّة» الذي أطلقته أجهزة الدّعاية والحشد بالاعتماد على تلك النّخَب، فيما أدّت إليه كل تلك «الثورات» في المجتمعات التي ابتلت بها، فقد تمثَّل ذاك «الوعد» بالنتائج الكارثيّة التي تركتها وراءها تلك «الثورات الملوّنة» في دول أوروبا الشرقيّة، حيث إنّها أخرجت الشعوب من ثوبها الاشتراكي، ولكنّها لم تحصل مقابل ذلك سوى على أسمال ثوبٍ رأسمالي مجدول بأصفاد وقيود منعتها من أن تبني أوطانًا لشعوبها تعتزّ بها، وحوّلتها إلى توابعٍ للنظام الدّولي. كما أنّ الوعود التي أدّت إلى خروج مصر ومنظمة التحرير الفلسطينيّة والأردن من حالة الحرب مع الكيان الصهيوني، والشروع في مساعي التطبيع معه، لم يؤدِّ إلى الازدهار والبحبوحة، بل لم ينل اقتصاد مصر والأردن سوى مزيدٍ من التعثُّر الاقتصادي والارتهان لمشيئة الخارج وارتفاع نسب البطالة والفقر واستشراء الفساد الذي تحميه منظومة النّهب الدّولي، ناهيك عن أنّه أخرج مصر من دورها الإقليمي القيادي لتكون جزءًا من محور يحرّكه الكيان الصهيوني. ولا هو أوقف آلة القتل عن الشعب الفلسطيني أو حدَّ من عمليات تهويد القدس والضفة الغربيّة، بل ارتفعت وتيرته بشكل مأساوي. أمّا فلسطينيو غزّة الذين رفضوا اتفاقية أوسلو تمكّنوا من حجز مقعدٍ متقدّمٍ لهم بين الشعوب المقاتلة ببسالة نادرة في سبيل حريّتها رغم كل المآسي المحيطة بهم، بعد أن جدّوا في توفير الظروف الملائمة لمواصلة المقاومة.

نشر الفساد والإفساد
تأتي عمليّة نشر الفساد والإفساد في المجتمع المستهدف بالإخضاع على رأس سلُّم الأولويّات لدى منظومة النّهب الدّولي. حيث تشكّل هذه العملية محورًا مفصليًّا في أواليات الإخضاع. وتتمحور حول هذا المفصل مختلف الأنشطة والعلائق التي تؤدّي إلى تأسيس مرتكزات وقواعد الإخضاع والاستتباع.

للأسف، تنطلي الأكاذيب التي تروّج لها أجهزة الدعاية والحشد التي توجهها منظومة النّهب الدّولي على كثيرٍ من المهتمين والباحثين غير المنخرطين أو المتواطئين مع سياسات منظومة النّهب الدّولي. وقد يكون ذلك بسبب عدم تدقيقهم بما يُبثُّ عليهم من تقارير مضلّلة، أو بسبب عدم امتلاكهم ما يكفي من معلومات حول عدد من الاقتصادات التي شهدت نموًّا اقتصاديًّا فجائيًّا كبيرًا، أو تغيب عنهم أواليات عمل منظومة النّهب الدّولي في الاستثمار وإعادة الاستثمار، فيقعون ضحيّة تلك الأكاذيب والأضاليل، ويبدأون في الكلام عن «المعجزات» الاقتصاديّة الآسيويّة كنماذج يجب أخذها بالاعتبار.
فبعد أن شهد عدد من الدول المصنّفة بأنّها من «دول العالم الثالث» أو «الدول النامية»، فورات اقتصاديّة هائلة، وذلك بالاعتماد على ما كانت تقدّمه مؤشرات النّمو والناتج القومي الخام والميزان التجاري، وهي بذاتها مؤشرات تضليليّة، فوضعتها هذه المؤشرات في مصاف الدّول الصناعيّة الكبرى خلال أقل من عقدٍ من الزمن، خاصة لجهة معدّلات النمو ومعدل دخل الفرد فيها التي باتت تضاهي دولًا كبرى في أوروبا الغربية. فانبرت منابر الفكر الاقتصادي الغربي، وامتداداته في المستعمرات، تتغنّى بتلك التجارب «التنمويّة» وتقدّمها كنماذج على دول «العالم المتخلّف» أن تقتدي بها[12].

فقد انتشرت مع ظاهرة «النّمو الهشّ» التي شهدتها تلك الاقتصادات، موجة من الضخّ الإعلامي تروّج لجملة من «النصائح» تم تقديمها ضمن مقولات تؤطّر مفاهيم التقدّم والتطوّر تحت مسمّيات تجاوزت شعارات «مواجهة التّخلّف» و«جهود التنمية» في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وحلّت محلّها شعارات من قبيل «نشر الديموقراطيّة» و«النيو ليبرالية» وحرية التجارة الدّوليّة وحريّة السّوق والحريّات الشخصيّة وجملة من الشعارات تحت عنوان «الحقوق» كحقوق الحيوان والإنسان والمرأة والطفل، وصولًا إلى حقوق الإجهاض والشّاذين. وتُعيد هذه المقولات كلَّ ما تعانيه مجتمعات المستعمرات، من «تخلّف» وفقر، لافتقار الحياة السياسيّة فيها لهذه القيَم، وأنّ هذا ما جعلها عاجزة عن مواكبة العصر. وتعتبر أنّ العمل على إرساء هذه القيَم في تلك المجتمعات مقدّمة لا بدّ منها للولوج إلى «نعيم الحياة الدّنيا». من دون أن تلتفت إلى أن الأنظمة السياسية في الدول المُخضَعة وأجهزتها الإداريّة والسياسية إنّما هي جزء من أدوات الإخضاع والاستتباع، وضعتها في مواقعها منظومة النّهب الدّولي وتحتمي بها.

فرغم مرور زهاء ثلاثة عقود على الصفعة التي وجهتها منظومة النّهب الدّولي لـ«نمور آسيا»[13] والتي كانت شديدة الوضوح للمراقبين بأنّها كانت شبيهة بصفعة ولي الأمر للولد المغترّ بنفسه ليعود إلى رشده، مازالت الأقلام تكتب والأفواه تنطق بـ«معجزات» اقتصاديّة تمّ تحقيقها في تلك الدّول، وتروي الأخبار الخرافيّة التي وضعتها أجهزة الدعاية والحشد، عن مكافحة الفساد والشفافيّة والمثابرة. ودون أن تعير تلك الأقلام والأفواه أي اهتمام للشقاء والبؤس الذي تعيشه شعوب تلك الدول في الأكواخ وأحياء البؤس التي تتكدّس فيها الغالبية العظمى منها، أكان ذلك في إندونيسيا أو تايلند أو حتى اليابان والصين والهند وسنغافورة.

وعلى سبيل المثال، حين رأى المعسكر الغربي في مرحلة الحرب الباردة مصلحة له في إزاحة الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو عن السلطة منتصف ستينات القرن الماضي، والذي كان واحدًا من الأعمدة الأربعة لحركة عدم الانحياز إلى جانب الرئيس جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو وجوزيف تيتو، وكان يقيم علاقات وديّة مع الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، كما أنّه كان مدعومًا بقوة من مختلف الأحزاب والحركات الوطنية والتحرريّة في البلاد بما فيها الحزب الشيوعي الإندونيسي، بدأت حملة دعائية مكثّفة منذ بداية عام 1965 ضد الشيوعيّة باسم الإسلام ودفاعًا عنه في الدولة التي تعتبر أكبر دولة إسلاميّة من حيث عدد السكان. وكانت هذه الحملة منسّقة مع حملات أخرى مشابهة ضد جمال عبد الناصر قادها الملك السعودي وشاه إيران وملك المغرب، ودعوات لإقامة الحلف الإسلامي. وفي أواخر شهر أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، ادّعى الجيش الإندونيسي بقيادة محمد سوهارتو أنه اكتشف محاولة انقلابيّة يدبّرها الحزب الشيوعي الإندونيسي لتبرير حملة اعتقالات وإعدامات ميدانيّة ولتنفيذ مجموعة من المجازر الموصوفة طالت كل القوى السياسية التحرريّة في إندونيسيا والتي راح ضحيتها، بحسب تقارير الأمم المتحدة، أكثر من مليون إنسان[14]. وكان ذلك كله يتمّ بدعم وتشجيعٍ من المعسكر الغربي الذي ما لبث أن دعم انقلاب سوهارتو على رئيس البلاد سوكارنو عام 1967، ليقيم نظامًا ديكتاتوريًّا على امتداد ثلاثة عقود (1967– 1998) تولّى خلالها تصفية كل الإنجازات التحرريّة التي كان قد حققها سلفه سوكارنو خلال خمسينات والنصف الأول من ستينات القرن العشرين.
فتح سوهارتو، خلال تلك العقود، البلاد على مصراعيها للاستثمارات الغربيّة لنهب البلاد وخلق طبقة من الوكلاء والسماسرة المحليين، من سياسيين ورجال أعمال وقيادات أمنيّة وعسكريّة، وتمّ وضعهم في خدمة الاستثمارات الأجنبيّة التي كانت تقدّم لهم الرّشى لسنّ القوانين والأنظمة الملائمة لها ولحماية مصالحها. وسرعان ما بدأت تظهر معدّلات النمو والدخل القومي الإجمالي المرتفعة، مترافقة مع ارتفاع معدّل دخل الفرد. مع أن ما ينمو هي استثمارات الشركات الأجنبيّة، ومن يرتفع دخله بشكل أسطوري هم أولئك السماسرة والوكلاء، بينما عامة الشعب ازدادوا فقرًا على فقر.

كان الفساد في إندونيسيا مستشريًا لدرجة أن سوهارتو أصبح عبئًا لا يُطاق على منظومة النّهب، فارتأت تغييره بآخر أكثر طواعيّة وأقل شهرة بفساده، رفض سوهارتو الانصياع وأصرّ على التجديد لنفسه لفترة رئاسيّة جديدة ملوّحًا بفتح بلاده أمام الاستثمارات الصينيّة إذا ما سحب الغربيّون رؤوس أموالهم من البلاد، فافتعلوا له أزمة اقتصاديّة طاحنة أصابت الاقتصاد الإندونيسي عام 1997، أدّت إلى انهيارات كبرى في بورصات جنوبي شرق آسيا وبشكل خاص في إندونيسيا وماليزيا وتايلند، وتمّ تحريك الشارع الإندونيسي المعارض له ممّا اضطره للاستقالة بعد زهاء شهرين من إعادة انتخابه لفترة إضافيّة[15]. وسنرى أجهزة الدعاية والحشد التي كانت تروّج له ولعظمته وحُسن إدارته للبلاد، حيث كانت تزعم بأن تلك الإدارة أدّت إلى النهضة الاقتصادية العظيمة فيها، سنراها تعلن العداء له وتفتح له ملفات الفساد والإثراء غير المشروع. وقد ذكرت التقارير التي نشرها القضاء الإندونيسي ولجان تحقيق دوليّة، أنّ مجموع ثروته مع أسرته ناهز 73 مليار دولار، علمًا بأن الفساد كان يحصل برعاية منظومة النّهب وحمايتها[16].

لا يقتصر الإفساد على الفئات العليا من السياسيين والإداريين ورجال الأعمال المحليين، بل يتخطاهم ليتغلغل في كافة مفاصل المجتمع بمختلف طبقاته وفئاته. وبينما تنتفع الفئات العليا منه، تكتوي الفئات الدنيا به، ولكنّها تنخرط فيه مرغمة، وقد يكون هذا الانخراط أحيانًا عن غير وعي.

كما أن الفساد لا يقتصر على المستوى الاقتصادي والمالي، بل يطال مختلف جوانب الحياة، والتي منها السعي لتدمير المنظومة الأخلاقيّة والثقافية للمجتمع والركائز التي ترتكز عليها وحدة المجتمع وأواليات إنتاج عناصر الثبات والمقاومة فيه، كتهميش اللغة الوطنيّة وتسفيهها، والتشويش على تاريخ البلاد والطعن بالشخصيات والمحطات البارزة في هذا التاريخ، وإبراز التناقضات الداخلية أكانت دينيّة أو عرقية أو إثنية. وتوجيه المناهج التربويّة لتعميم المدنيّات الغربيّة، والعمل على تفكيك المجتمع من خلال ضرب موقع الأسرة فيه، وتسفيه القيم والمبادئ الأخلاقية التي تسود في المجتمع.

ثانيًا: موجبات الهجوم على البنى الحضاريّة للمجتمعات
لم يكن تركيز قوى الإخضاع والاستتباع على تدمير البنى الحضاريّة للمجتمعات البشريّة عملًا هامشيًّا أو عرضيًّا جاء في خضم مسيرة تطور أواليات السيطرة والاستتباع للمستعمرات، بل هو سياسة لازمة ومتلازمة مع العمل الإخضاعي نفسه، ولا يستقيم هذا العمل من دونه. ومقولات علماء الاجتماع والاقتصاديين حول ضرورة اقتلاع ما أطلقوا عليه مصطلح «القطاع التقليدي» في المستعمرات لصالح تنمية ما أسموه «القطاع الحديث»، أي تدمير العمق الحضاري للمجتمعات المستهدفة بالتدمير، ليست مقولات حديثة، بل عمرها من عمر الحركة الاستعماريّة نفسها. ولكنّها شهدت زخمًا كبيرًا في الإشاعة والترويج مع عصر العولمة والنيو ليبرالية. يعتمد الترويج لهذه المقولات أساسًا على شبكات إعلاميّة تملأ الفضاء وشبكات المجتمعات الافتراضية، فتستلب العقول. وهي متداخلة مع مراكز أبحاث وجامعات ودور نشر تتحكَّم جميعها بالرّأي العام وتتلاعب بذوقه وتوجّهاته، فتجعل ممّا هو مقرفٍ بديعًا وممّا هو جميل منبوذًا ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا. وتفرض قيمًا تتلاءم مع ما تخطّط للترويج له. فهي التي تحدِّد ما هو مقبول وما هو غير مقبول. وكذلك ما هو تعدٍّ على حقوق الإنسان وما هو متوافق مع تلك الحقوق. ولا ينجو من مكائدها سوى من يمتلك مناعة ثقافية غير اعتياديّة، أو انتماءً أيديولوجيًّا صلبًا.

وكان من موجبات التركيز على البنى الحضاريّة للمجتمعات واستهدافها بالتدمير، هو أن تلك البنى وما تنتجه من انتماء أيديولوجي صلب في تكتلات اجتماعيّة – سياسيّة واقتصاديّة، كانت تشكّل على الدّوام ركائز المناعة الثقافيّة التي وفّرت للقوى الوطنيّة والتحرريّة أدوات الدفاع عن وجودها في مواجهة سياسات منظومة النّهب والاستتباع العالميّة. ولذلك تركّز هجوم تلك المنظومة على هذه البنية الصّلبة في معركتها لكسر وإلغاء المقوّمات الحضاريّة والثقافية التي ترتكز عليها القوى المناهضة لها. فكثّفَت جهودها الرّامية إلى تدمير تلك المرتكزات، لاسيّما منها المعتقدات الدّينيّة وقيمها وأخلاقها، واللغة الوطنيّة والآداب المرتبطة بها، باعتبارهما الجهاز المناعي الأهم لوحدة المجتمع.

تقويض الثقافة الوطنيّة
انطلقت الأبحاث والدراسات الاستشراقية في استنتاجاتها وتوصياتها للجهات التي موّلت أبحاثها من المقولات التي تُعيد ما تسمّيه تخلفًا في المستعمرات إلى البِنى الاجتماعية والاقتصاديّة السّائدة فيها، وتقول إنّ هذه البِنى «المتخلّفة» يحتضنها «القطاع التقليدي» الذي يقاوم التّحديث ويشكّل عقبة كَأداء أمام مخططات التنمية. في الوقت الذي كان ما يقوم به ما «القطاع التقليدي» إنّما هو أحد أشكال المقاومة المجتمعيّة لعمليات الإخضاع التي تمارسها القوى الاستعماريّة.

راهنت تلك المقولات، وفي سبيل القضاء على «القطاع التقليدي» وتحقيق الأهداف التي تعمل لها، على عوامل تلقائيّة في مجتمعات المستعمرات للتفاعل مع حركة الاستعمار بشكل تدريجي، مثل عامل المحاكاة وعامل إشاعة استعمال النَّقد في التبادل من خلال توسعة قاعدة العمل المأجور، وعامل تعاون السلطة السياسيّة المحليّة المتواطئة مع المستعمر لتشريع ما يتلاءم مع تدجين الثقافة الوطنيّة وتحويلها إلى حالة حياديّة.
بيد أنّ فشل تلك الرهانات أدّى، وبشكلٍ خاص منذ العقد الأخير من القرن العشرين وبدايات الألفيّة الثالثة، إلى ظهور حالة من العداء السّافر لكل ما يمتُّ بصلة للخصائص الحضاريّة والمجتمعيّة للشعوب المستهدفة، طالت رموزها الدّينيّة ومعتقداتها وتاريخها وآدابها، وكأنها تخوض حملة شعواء لا ضوابط لها، على تلك الثقافات والأيديولوجيّات المناهضة لها. وتتولّى مراكز أبحاث مُتخمة بالتّمويل والرعاية، دراسة الأمزجة حول العالم، والتخطيط لإعادة صياغتها. وتتبع لهذه المراكز شبكات إعلاميّة ودعائيّة تهيمن على صناعة الإعلام العالمي. وتتولّى هذه الشبكات ضخ قيَم ومفاهيم وأذواق وسلوكيّات تسعى لتعميمها على المجتمعات البشريّة، وغالبًا ما تستخدم مفردات برّاقة على طريقة «دسّ السُّمِّ في العسل» تحت شعارات خاوية تُصاغ بجملٍ إنشائيّة لا طعم لها ولا لون، ولكنّها شديدة السُمّيّة.

تندرج تلك المفردات التي تبثّها وتروِّجُ لها منظومة النّهب الدّولي في هجومها على القوى الاجتماعيّة والسياسيّة المناهضة لها، تحت عنوان «الحداثة» و«ما بعد الحداثة». وسنحاول فيما يلي الإطلالة، بأقلِّ قدرٍ ممكن من التوسيع، على جذور هذه المقولات التي ظهرت في الغرب ودوافع ظهورها ومضامينها وأهدافها.

حول مقولات الحداثة وما بعد الحداثة
يتعمّدُ عددُ من الكُتّاب في اللغة العربية الخلط ما بين «الحداثة» كمفهوم نظري، وبين التّحديث بمعنى التجديد والتطوير والإصلاح. فالتجديد والتطوير يطال امرًا ما، كمقولة او عادة أو حِرفة أو أسلوبٍ في الإدارة أو في الكتابة الأدبية أو فنٍّ من الفنون الخ. يكون، الأمر المُزمَع تحديثه، موجودًا في واقعٍ ما ويُراد إدخال التجديد والتطوير عليه ليتلاءم مع مستجدّات او احتياجات او معارف تمّ تحصيلها ومن المفيد إدخالها او الاستفادة ممّا فيها من إيجابيات. وبالتالي جعلها متلائمة مع متطلّبات العصر الرّاهن للجماعة أو المجتمع. وهذه سُنّة طبيعيّة وضروريّة وفُطرة فُطِر عليها الإنسان. أمّا «الحداثة» فهي مفردة أُدخِلَت إلى العربيّة كترجمة لمفهوم غربي هو «Modernism» والذي ينطوي على شروطٍ وإيحاءات ومتطلّبات لا تمتُّ بصلة لمدلول فعل التجديد والتحديث ولا حتّى الإصلاح والتطوير.

ويتأبّط الحداثيّون بفلاسفة وأدباء ما يُطلق عليه «عصر الأنوار» و«عصر النّهضة» في أوروبا، ويعتبرون مشاهير ذاك العصر مرجعيّة ودليلًا لهم في مأكلهم ومشربهم وطريقة مشيهم وحتى في طريقة عقدهم لربطة العنق على رقابهم. دون أن يهتمّوا بحيثيّات والدّوافع الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي أنتجت ذاك العصر بفلاسفته وأدبائه وفنّانيه.
ويقول النّاقد والباحث الفلسطيني الحداثي نبيل عودة في هذا الصّدد، أن «الحداثة ترتبط جذورها تاريخيًّا بعصر التنوير الأوروبي الأول وثم عصر التنوير الثاني ... وصولًا إلى عصر النهضة الأوروبية، ويُعتبر رسميًا الأديب الفرنسي شارل بودلير (1821-1867) المؤسس الرسمي لتيار الحداثة. كذلك نجد من أوائل الحداثيين الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير (1821-1880) والشاعر الفرنسي مالارميه (1842-1898) وهو من أبرز شعراء مدرسة المذهب الرمزي. والشاعر الروسي الشيوعي الشهير مايكوفوسكي، الذي نادى بنبذ الماضي والاندفاع نحو المستقبل، وعندما تعثَّر حلمه الحداثي، بسبب بيروقراطية النظام الجديد، انتحر. وهل نستطيع أن نضع آباء الماركسية (ماركس وإنجلز) خارج نهج الحداثة؟»[17].

هذا الخلط فيما بين بواعث الأدب والفكر والفنون وماهيتها في المجتمعات البشريّة، ومن ثم التأبُّط بما هو قائم في مجتمعٍ ما وإسقاطه عشوائيًّا على ما يجب أن يكون عليه الأدب والفكر والفن في مجتمعٍ آخر مغايرٍ له في البنية والأهداف والوقائع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، أوقع هذا المفهوم لدى متلقّفيه العرب في حيصٍ وبيصٍ. وهو ما قلنا إنّه ناتج عن عدم إيلاء أيّ أهميّة للأسباب التي دفعت بالفكر والأدب والفن في أوروبا الغربيّة خلال القرن التاسع عشر لتنحو هذا المنحى، للتعبير بداية عن ذات الكاتب أو الفنان، وهذه الذات التي لا تتأسّس ولا تحيا بذاتها المفردة، بقدر ما هي نتاج لواقعٍ محدّد مشحونة بما يحتويه من تناقضات وتفاعلات وتداعيات لتطورات سياسية واقتصاديّة، وما هي عليه طموحات وتطلّعات، وخيبات أيضًا، لهذا الكاتب أو الفنان أو ذاك المفكر، على المستويات كافة، الشخصية منها والعامة.
وأنتج الخلط فيما بين دلالات الحداثة كمفهوم وبين التجديد والتحديث، خَطَلًا في الفكر فكبح الإبداع، وعطّل عملية تجديد وتطوير الفكر والأدب بعيدًا عن الإسقاطات الغربيّة عليه، فاقتصرت علاقة المفكرين بالفكر السّابق على الاستعمار على البحث عن مكامن الخلل فيه، ليس لتطويرها وتحديثها أو دحضها، بل لتعميم هذا الخلل على الفكر بكلّيّته، وصولًا إلى تسفيهه والدّعوة إلى إحلال ما توصّل له آخرون في مجتمعاتهم، وكلّهم قناعة بأن هؤلاء قد «فكّروا عنهم وعنّا وكفونا مغبّة التفكير»، فإذ بالفكر والأدب والفن أضحى صدى، على شكل نعيق منكر، لعوالم أخرى، عوض أن يكون صدى للبيئة التي يحيا فيها المفكّر وعليه أن يعبِّر عن شؤونها وشجونها، والعمل على إصلاحها وتطويرها.

الحداثة وبلورة أيديولوجيا الرأسماليّة
قبل أن تكون الحداثة مفهومًا، كانت حالة. كانت حالة نتجت عن صعقة أصابت الوعي في المجتمع الأوروبي الغربي أخرجته عن صوابه وأصالته وجعلته دمية تتفاعل مع متطلّبات الأيديولوجيا الرأسماليّة الصّاعدة والآخذة بالهيمنة على كل مفاصل الحياة.

تمثّلت هذه الصّعقة بجملة من الأحداث الانقلابية في العلاقات الدّوليّة تركت عظيم الأثر على الاقتصاد والاجتماع الأوروبيين كان أبرزها ما شهدته الحركة الاستعماريّة الأوروبية حول العالم التي حوّلت العالم بأسره إلى حقلٍ للقوى الأوروبية تنهب منه ما تشاء وتتنافس فيما بينها على ثروات الشعوب والمجتمعات المستعمَرة. فتتدفّق المنهوبات من حول العالم لتصبّ في شرايين الاقتصاد الأوروبي، مثلما كانت الانتصارات العسكريّة لجيوش المستعمرين تصل إلى أسماع الناس فتتدفّق مشاعر الفخر والاعتزاز في عروقهم وتشدُّ عصبهم القومي ونظرتهم العنصريّة لشعوب العالم، وتزيدهم انبهارًا بما يُشاع بأنّه من إنجازات النظام الرأسمالي؛ فلذلك كانت الدّعوة إلى تصفية المجتمع من كل العادات والقيم السابقة على الرأسماليّة تبدو وكأنّها ضرورة لا بدّ منها لمزيدٍ من الانتصارات والإنجازات.

وكانت الأيديولوجيا الرأسماليّة تتبلور وتكوّن مخزونها الثقافي من خلال منتديات وجمعيّات ثقافية وفكريّة يرعاها الرأسماليّون وتروِّج لكل ما يؤدّي إلى كسر موقع الدّين في المجتمع. ودفعت باتجاه ضرب اللغة الموحّدة للقسم الأكبر من الأوروبيين الغربيين، ألا وهي اللغة اللاتينية، التي لم تعد هي لغة الكتاب المقدّس بعد ترجمته إلى عدد من اللغات واللهجات المحليّة، ولم تعد هي لغة القداديس في الكنائس المنشقة عن الكنيسة الكاثوليكيّة، ولا هي لغة الأدب والفلسفة والعلوم، بعد أن راجت الكتابة باللغات المحلّيّة، فظهرت اللغات المنشقة كالفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانيّة والباسكيّة وغيرها. ولتدعم هذه اللغات قيام الدّولة القوميّة كبديلٍ عن المجتمع المسيحي.
وقد افترى هؤلاء على الحقائق التاريخيّة واعتبروا أن الانطلاق نحو المجتمع الجديد يقتضي القضاء على كل القيم والتقاليد والموروثات القديمة، وبشكل خاص على الثنائي المعادي للتقدّم: الإقطاع والكنيسة. وليس على الكنيسة بما هي حاضرة في الواقع السياسي الأوروبي فقط، بل وعلى الإيمان نفسه. باعتبار أن الإيمان، بما يعنيه من أساطير ومفاهيم وقيم، يشكّل عقبة كبيرة أمام التقدّم. فقالوا كذبًا ونفاقًا إنّ الكنيسة وقفت بوجه تقدّم أوروبا ووصولها لما وصلت إليه، وأعادوا كل الإنجازات الحديثة للبروتستانتية واليهوديّة. مع أن الوقائع التاريخيّة تؤكد بأن أهم الاكتشافات الجغرافية و«الفتوحات» الأوروبية ما وراء البحار، قد تحققت بدعم وتوجيه من الكنيسة والإقطاع[18]. وهي المنجزات التي أمّنت الانقلاب في العلاقات الدوليّة ووفّرت الفائض الاقتصادي الضخم الذي ضُخّ في الاقتصادات الأوروبية ومكّنها من تطوير جهازها النّهبي والسيطرة على العالم[19].

فما أن كان القرن الثامن عشر قد بدأ بالأفول، حتى كانت القوى الاستعمارية الأوروبية قد تمكّنت من إخضاع العالم بأسره، وجعلته سوقًا لها تُخضعه وتنهب ثرواته وتستعبد أبناءه، وقد نجم عن ذلك، ممّا نجم عنه، شعورٌ أوروبيٌ غير مسبوق بالزّهوّ والتفوّق المتحقّق عبر العنف الذي أنتج هذه الانتصارات الباهرة للحركة الاستعمارية الناشطة حول العالم. وبدأت المدارس الفلسفيّة، لاسيما في ألمانيا والنمسا، تضع الأسس الفلسفية والنظريّة لهذا التفوّق. ولتثبيت قوانينها ومفرداتها السياسية والاجتماعيّة لتكوّن نمط حياة واجتماع متكامل في الواقع الأوروبي، وتسعى إلى نقل هذا النّمط إلى المستعمرات بالقدر الذي يتطلّبه حسن عمل أواليات النّهب والسيطرة في تلك المستعمرات.

دور الجاليات اليهوديّة في الحداثة الأوروبية
في هذه الأجواء قرأ الفيلسوف الألماني الشهير هيجل تاريخ العالم، على قاعدة هذا الشعور العنصري بالتفوّق الحضاري الأوروبي، فهو حوّل التفوّق العسكري، التفوّق الناجم عن الاستخدام الهمجي للعنف، إلى تفوّق حضاري بنيوي وأصلي كامن في الطبيعة الأصلية للشعوب.[20] وبهذه الرؤية الهيجلية العنصرية للتاريخ، انفتح الطريق أمام انتشار النظريات والآراء المتطرّفة التي ستجعل من القرن التاسع عشر قرن الراديكاليات السياسية من فوضوية وعدمية وشيوعية طوباوية واشتراكيات متطرّفة وحركات إرهابية وماسونيات متنوعة تراكمت في مجرى تأمل نتاج ونماذج من الثورة الفرنسية من جهة، ومن حركة الاستعمار المستشرية حول العالم، بما فيها عمليات الإبادة البشرية التي تستعر في القارّة الأميركية وأستراليا وجنوبي أفريقيا.

أسهمت الجاليات اليهودية المنتشرة في معظم المدن الأوروبية الكبرى، وبشكل خاص الفئات العليا من هذه الجاليات، في نشأة الحداثة الأوروبيّة بشكل واضح وصريح. وكان إسهامها اكثر وضوحًا في الاتجاهات المتطرّفة التي أسهمت في نشأتها وبلورتها إسهامًا فعّالًا. وقد تحوّلوا بفعل هذه الإسهامات إلى مرجعيات ثقافية في الثقافة الأوربية وتمكّنوا عبرها من الانخراط في مراكز القرار في المجتمعات الأوروبية المتشكّلة حديثًا على أنقاض مجتمعات وثقافات القرون الوسطى الأوروبية بما فيها الثقافة المسيحيّة التي أضحت في القرن التاسع عشر ثقافة ممجوجة في أوساط المثقفين الخارجين على الكنيسة، والمندفعين نحو بناء أوروبا حديثة.
ضخّ اليهود إفرازاتهم عبر النُّخَب المحرّكة للتيارات الثقافية المتطرّفة بمختلف تنوّعاتها. وكان هاجسهم الأساس، في هذه العملية البالغة التعقيد، هو كسر نظرة الجماعة التي يتحرّكون ضمنها باعتبارهم شيئًا مختلفًا بسبب انتمائهم اليهودي، وقد شكّلت الأبحاث التي تولّاها يهود تناولت موضوع تحريف التوراة وتزويرها وكذلك تسفيهها واعتبارها أساطير بابلية وكلدانية كتبها أحبار اليهود في زمن السّبي البابلي، شكّلت هذه الأبحاث عامودًا فقريًا في ضرب الإيمان المسيحي الذي يعتمد بشكل أساسي على العهد القديم، أي على التوراة. فوحدة «الشعب اليهودي» لا تقوم على أساسٍ ديني أو إيماني، بل تقوم على أسس عنصرية قومية باعتبارهم «شعب الله المختار»، ولذلك فلا يؤثر الكلام عن تحريف التوراة على هذه الوحدة، بينما يزعزع الإيمان المسيحي وحدة المجتمع المسيحي ويدفع به بعيدًا عن الأديان.

وفي هذه الأجواء تحوّلت هذه الحالة، الحالة الحداثية، إلى ظاهرة عمّت أوروبا الغربيّة وسيطرت على الأنشطة الفكريّة والأدبيّة والفنية. ثم جاء من يؤطّرها ويصنّفها ويحدِّد ما هو حداثي وما هو ملوّث بمفاهيم الماضي المتخلّف وطقوسه، ما هو إبداعي يجب الترويج له واعتباره مثالًا للتقدّم، وما هو ممجوج وتكرار للماضي المرذول يجب طمسه وإهماله.

الحداثة الأوروبية تعبير عن خراب أيديولوجي
إلّا أنّ القراءة التاريخية السوسيولوجيّة لشيوع وسيادة اتجاه «الحداثة» في الفكر والأدب والفنون تشير، وإلى حدٍّ كبير، إلى أنّه كان نتاج خراب الأيديولوجيا النّاظمة للمجتمع. فمنظومة الولاءات الاجتماعيّة والثقافية والسياسيّة تفكّكت بعد تحميل وزر الويلات والدّمار والموت الذي أصاب المجتمعات الأوروبية، خلال الحروب الدينيّة، للكنيسة الكاثوليكية وللسلطات السياسية الإقطاعيّة. بينما هي حروب رعتها وحرّضت عليها وموّلتها الرأسماليّة اليهوديّة. أي أنّ هذه الرأسماليّة كذبت في هذا المجال كذبتين: الأولى حين نسبت لنفسها منجزات الكنيسة والإقطاع فيما أُنجِزَ من منجزات اقتصاديّة عن طريق الكشوفات الجغرافيّة والعلمية التي كان لها الدّور الحاسم في تحقيق التفوّق الحربي الأوروبي وازدهار الحركة الاستعماريّة؛ والكذبة الثانية حين حمّلت الكنيسة والإقطاع مسؤولية الحروب الدينيّة التي عمّت أوروبا على امتداد قرنين من الزمن، في الوقت الذي كانت الرأسماليّة نفسها هي التي حرّضت وأعدّت وموّلت هذه الحروب.

كان على النّخب الثقافية التي تدور في فلك الرأسماليّة اليهوديّة الصّاعدة أن تروّج لهذه الادّعاءات كحقائق علميّة غير قابلة للنقاش. أي أن تنطلق منها كمسلّمات وتبني عليها نظريات وفلسفات كلّها تنطلق من الثالوث الكاذب، أوّل الأكاذيب: ثوريّة الرأسماليّة في قضائها على نفوذ الكنيسة ونظام الإقطاع ودورها المحوري في التطوّر الأوروبي، وثانيها: تفوُّق الجنس الأوروبي على غيره من الأجناس البشريّة، وثالثها: الدّور الحضاري للاستعمار في تمدين الشعوب حول العالم. فجاء هيجل ليقول إنّ انتصار العالم الجرماني والأوروبي الغربي على المجتمعات الأخرى «قدر إلهي»، وجاء كارل ماركس ليقول إنّ انتصار الرأسمالية وقيامها بدور تمدين الشعوب المتأخرة «حتميّة تاريخيّة»، وجاء البيولوجيان الإنكليزيان، مورغان وداروين، ليقولا إن «البقاء للأصلح» وأن الشعب الأصلح هو الشعب الأنجلو سكسوني. «وكان واحد من أبرز الإنجليز أهدى كتابًا ألّفه «إلى أولئك الذين يؤمنون بأن الإمبراطورية البريطانية هي، بعد العناية الإلهية، أعظم قوة تعمل للخير عرفها العالم»[21]. وجاء ر. هـ. تادني، وهو كاتب إنكليزي من العصر الفيكتوري، ليقول: «إنّ الله في مكانه، بعيد عن المشاكل الأرضيّة. وأن ملكيّة الله ملكيّة مقيّدة تمامًا كالملكيّات الموجودة على الأرض»[22]. ثم يأتي فيرنر سومبارت وماكس فيبر ليقولا إن روح الرأسماليّة نمت وترعرعت بفضل الأخلاق البروتستانتية. ومن المعلوم أن البروتستانتية هي الاختراق اليهودي للكنيسة[23].

استساغ المواطن الأوروبي تصديق كل ما يصله من أنباء عن انتصارات جيوش بلاده في غزو العالم، والمهمّة «السامية» التي تحققها تلك الجيوش في البلاد «المتأخّرة» و«المتوحّشة»، فانبهر بها واستسلم لمقولات تفوّق العرق الأوروبي على غيره من الأعراق البشريّة. وفي الوقت نفسه وجد نفسه وقد تفلّت من أنظمة القنانة في الريف، ومن استبداد الأسياد في كل مكان.

كان هذا المواطن، وفي هذه المعمعة، مستعدًّا لتصديق كل ما يُقال له من مروّجي الإيديولوجيا الرأسماليّة الجديدة وهم يقولون له: إن الفردوس الموعود الذي كانت تعد الكنيسة به أبناءها الصالحين في السماء، ها هو قاب قوسين أو أدنى منك على الأرض. أنت حرٌّ الآن لتقتنص فرصتك ولتعيش في نعيم فردوسك. اعمل واجتهد وعش يومك ودع وراءك الماضي بكل ما فيه، وتخلّص من كل آثام المعتقدات التي لوّثتك بها الكنيسة ورجالها، وانفض عنك القيود التي كبّلك بها سيّدك الإقطاعي. فلم تعد حدودك محصورة بالإقطاعة التي ولدت فيها قنًّا عند صاحبها، فالعالم كلّه أصبح مُتاحًا لك لتعيش تجربتك وتختبر إمكاناتك بكل حريّة. يمكنك أن تكون أجيرًا وتتقاضى مباشرة أجرك نقدًا تنفقه كيفما تشاء، ويمكنك أن تكون جنديًّا ترتقي إلى أعلى المناصب، فلم تعد المناصب العليا في جيش بلادك حكرًا على أبناء النبلاء. كما يمكنك أن تُبحر إلى ما وراء البحار مغامرًا بحثًا عن فرصتك، وابنِ عالمك الجديد بيديك.

هذا الخطاب، الذي وجهه المبهورون بالرأسماليّة ولم يجدوا فيها سوى الخير للبشريّة، قابله خطاب آخر، لم يكن مختلفًا معه في المنطلقات الأساسية التي انطلق منها، ولكنّه حضَّ على التكتُّل في المعامل والمنشآت الرأسمالية فيما بين العمّال ليتمكّنوا من تحصيل حقوقهم. وقد وصف هذا الخطاب الرأسماليّة بأنها كانت حالة ثوريّة حين كانت تقاوم الإقطاع والكنيسة وتزعزع أركان سلطتها، ولكنّها تحوّلت إلى حالة متوحشة تستغل الأيدي العاملة لمراكمة أرباحها من خلال سرقة قوّة عملهم، ويجب التكتّل بوجهها وخوض الصراع ضدّها ليتمكّن العمال من انتزاع حقوقهم منها غير منقوصة، واعتبر هذا التيار أنّ الرأسماليّة حوّلت الصراع الاجتماعي إلى صراع طبقي بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملك سوى قوّة عمله.

فمنذ منظِّر الرأسماليّة الأوّل في القرن الثامن عشر آدم سميث صاحب شعار «دعه يعمل دعه يمرّ» الذي قامت عليه النظرية الاقتصاديّة الليبراليّة، والذي كان أوّل من دعا إلى تشجيع المبادرة الفردية، والمنافسة الحرّة بقوله إنّها هي التي تضمن توازن الأسعار والأسواق، وطالب بالتشريع لما يحمي حرية التجارة، الداخليّة وبين الأمم، وقال إن مثل هذه السياسات مجتمعة من شأنها تحقيق أكبر قدر من الثروة للبلاد والرّخاء والسعادة للمواطنين. فمنذ تلك الفترة وحتى منتصف القرن التاسع عشر حيث ظهرت المقولات الاجتماعيّة والاشتراكيّة التي تدعو إلى العدالة في توزيع الثروة وإنصاف العمّال، من سان سيمون إلى برودون وماركس وغيرهم، لم يكن الفكر الاقتصادي والاجتماعي يخرج عن متطلّبات نمو الاقتصاد الرأسمالي. إن كان هذا النّمو هو بذاته يحمل الخلاص والازدهار للمجتمع، أو إن كان هذا النمو ضروريًّا لأنّه المدخل إلى هذا الخلاص الذي لن يتحقّق إلّا بالقضاء على الصراع الطبقي الذي أوجدته الرأسماليّة.

إذًا، نحن أمام مشهد مكتملٍ تحتشد فيه قوى متعدّدة تحمل شعارات يناوئ بعضها الآخرين، وتحتدم فيها الصراعات والمنازعات الفكريّة والفلسفيّة، ولكنّها جميعها تنطلق من أرضيّة واحدة ألا وهي السّعي لتصفية الوعي الأوروبي ممّا أسموه أدران الماضي، وتمجيد الإيديولوجيا الرأسماليّة وأخلاقها. وأسّسوا لما عُرف باسم «الحداثة» في الأدب والفنون والفكر وشكل الدّولة ومؤسساتها التي تتلاءم مع متطلّبات نمو الرأسماليّة وسطوتها على مفاصل الدولة والمجتمع الذي أخذت أوصاله بالتقطّع ليتحوّل إلى مجاميع من الأفراد.

وعلى ذلك فإن جوهر الفكر والأدب والفن المصنَّف بأنّه «حداثي» يتمحور حول السّعي لتصفية كل ما تبقّى من مخزون حضاريٍّ أوروبي، وهذا المخزون هو ما أُطلِقَ عليه اسم «ما قبل حداثي»، وتمّ لصق تهمة الصّنميّة والتحجُّر والتخلُّف على كل ما يمتُّ بصلة للمفاهيم والتقاليد الكنسيّة التي شكّلت في مرحلة من المراحل روح الحضارة الغربيّة ورافعتها وإطارها الأيديولوجي، بدءًا من مفهوم الأسرة وترابطها إلى قضايا الجسد التي اعتبروها شأنًا شخصيًّا لصاحبه حريّة التصرُّف به بما في ذلك حريّة التخلُّص منه، كحق الإجهاض والقتل الرّحيم[24]. كلُّ ذلك تحت شعارٍ هاجسي – مرضي هو شعار حريّة الفرد المقدّسة.

بواعث ما بعد الحداثة

دمغت تطورات النصف الأول من القرن العشرين الفكر والأدب والفنون الغربية بدمغتها. فمع التطوّر الذي طرأ على المواصلات مع بدء تشغيل خطوط السكك الحديديّة العابرة للقارات، والتطوّر الذي أصاب الطباعة وانعكاسها الإيجابي على الصحافة والسهولة النسبيّة في نقل المعلومات عمّا يجري في المستعمرات ونشرها، بدأت تسقط مقولات الدّور الحضاري للاستعمار حول العالم، بعد أن تكشّفت الجرائم البشعة التي ارتكبها المستعمرون بحق شعوب المستعمرات، وتوضَّح أن كل ما فعلته جيوش المستعمرين والفاتحين الأوروبيين في المستعمرات هو تدمير تلك المجتمعات ونهبها واستعباد شعوبها. فبدأت تتساقط المقولات حول الأهداف السّامية للحركة الاستعماريّة.

وسرعان ما بدأ يتكشّف أيضًا زيف ادعاء مريدي الرأسماليّة والمروجين لها بأنّ الرأسماليّة قامت على أنقاض أنظمة الاستبداد والتوحُّش التي كان يقودها رجال الإقطاع والكنيسة إلى حروب لا تنتهي. وفي الوقت الذي كانت النُّخب الثقافية تبحثُ عمّا يبرّر للحركة الاستعماريّة استخدام كل هذه الوحشيّة في المستعمرات، اندلعت الحروب الطّاحنة فيما بين الدول الأوروبية نفسها في الدّاخل الأوروبي، فأعادت إلى الأذهان هول قرون مضت من الحروب تحت شعارات دينيّة، فها هي تندلع تحت شعارات قوميّة، ولكنّها الآن أكثر وحشيّة ودمويّة، فقد كانت الرأسماليّة قد طوّرت أجهزة عنفها وباتت أشدّ فتكًا وتدميرًا بما لا يقاس مع ما سبقها من حروب.

وما أن بدأت الشعوب الأوروبية الاستفاقة من ويلات الحرب العالمية الأولى، حتى باغتتها الأزمة الاقتصادية الخانقة نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات، وبالكاد استطاعت أن تستعيد عافيتها، حتى وقعت في أتون الحرب العالمية الثانية التي ما أن حطّت أوزارها حتى تناسلت حروبًا دمويّة عمّت العالم بأسره تحت مظلّة الحرب الباردة، وهي الحرب التي وضعت العالم، وأوروبا الغربية بشكل خاص، أمام التهديد الدّائم بحرب جديدة من العيار النووي.

وإذا كانت القوى العظمى التي تتصارع فيما بينها تبحث عن أفضل السُّبُل للنهب وفرض السّطوة على أكبر قدرٍ ممكن من شعوب العالم، فإن انعكاس هذا الصراع على الفكر والفنون في أوروبا الغربية بشكل خاص، وفي ظل انعدام قدرة عامّةِ المثقفين على التأثير فيما يجري، وانعدام الخيارات المطروحة أمامهم إلّا بأشكالٍ جنينيّة غير متّضحة المعالم، فقد كان هذا الانعكاس مأساويًّا على مناحي الفكر والفنّ عمومًا، فأنتج فكرًا مضطربًا وفنونًا وآدابًا خارجة عن السياق العام للفن والأدب عبر التاريخ، حيث نشأت مدارس فنيّة وأدبيّة، خاصة في المحيط الثقافي الليبرالي، كانت تعبّر عن المأزق الشخصي للفنّان أو الأديب، وليس عن مآزق أو تطلّعات المجتمع وأهدافه العامّة. فظهرت الوجوديّة والسورياليّة والبوهيميّة[25] والعبثيّة والفوضويّة[26] والفنّ للفن. وقد تجانست هذه الاتجاهات في الفن والأدب مع التوجّه العام للرأسمالية في سعيها إلى فردنة المجتمع وتحويل اهتمامات النُّخَب عن قضايا المجتمع لتكون قضيّة فرديّة، أي أن يكون الفرد منهم معبِّرًا عن علاقة شخصيّة مع واقعه.

وفي المحيط الثقافي الآخر، الماركسي الانتماء أو النّزعة، حيث كان هذا المحيط يحتكر تقريبًا جلّ المهتمّين بالشأن العام والمحافظين على الدور الاجتماعي للفكر والفن والأدب، فقد انعكست على مثقفي هذا المحيط أصداء التجربة اللينينية في تطبيق الماركسيّة على غير ما تصوّرها أو توقّعها كارل ماركس. أي تطبيق الماركسيّة في بلدٍ واحد، وفي مجتمع زراعي ومتخلّف صناعيًّا. فوقع مثقّفو هذا المحيط في بلبلة فكريّة زادتها حدّة المرحلة الستالينيّة والحكم المطلق الذي كان التشهير به يعتبر الشغل الشّاغل للبروباغندا الرأسماليّة في حربها ضد النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، وتاليًا في مواجهتها لامتدادات الفكر الماركسي في العالم الغربي.

في هذه الأجواء نشأت أنواعٌ في الأدب والفن واتجاهات في الفكر والفلسفة ستُصنّف ضمن مفهوم «ما بعد الحداثة»، وهذه الأنواع والاتجاهات لم تكن تجديدًا أو تحديثًا لما نشأت عليه اتجاهات وأدبيات صنِّفَت تحت عنوان «الحداثة» أو عبّرت عن فحوى هذا المفهوم، بل نقضًا لها والنظر إليها كنتاجات لحالمين يتكلّمون عن عالمٍ مُتخيَّل يفتقر لمعطيات واقعيّة عمّا يجري ما وراء الستار. ولكنّها في الوقت نفسه أعادت الاعتبار لعدد من رسّامي وشعراء وأدباء القرن التاسع عشر، فمجّدت كل ما كان خارج المألوف منها ووضعتهم في مواضع متقدّمة. واعتبروا أنّ إسهامات «ثوّار» القرن التاسع عشر على المألوف وعلى القيم السّائدة والنظام المهيمن، هي المداميك الأولى في التمرُّد ونبذ الموروث، وأنّهم هم يطوّرون ما بدأه الأوّلون في الدَّفع نحو القيَم الجديدة للعالم الجديد.

ويمكن القول إن هذا المفهوم قام بشكل رئيس على مساهمات كلٍّ من المفكرين الفرنسيين جورج باتاي (١٨٩٧-١٩٦٢)، جاك لاكان (1901-١٩٨١)، رولان بارت (1915-1980)، ميشال فوكو (١٩٢٦-١٩٨٤م)، وجاك دريدا (١٩٣٠-٢٠٠٤). ولتأتي هذه المساهمات بالتوازي مع مساهمات أخرى كانت قد بدأت تظهر في الولايات المتحدة الأميركية فيما عُرف باسم «مدرسة جامعة شيكاغو» الاقتصاديّة في تنظيرها لمذهب النيو ليبراليّة.

توصّل الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت في أحد مقالاته إلى مقولة «موت المؤلِّف»، وهي تحمل في طيّاتها انسياقه في سياقٍ معرفي شاع في أوروبا الغربية مع النصف الثاني من القرن العشرين. وكان هذا الشيوع تعبيرًا عن إحباطٍ فكري عام ساد الوسط الثقافي الغربي في أجواء الحرب الباردة، في ظل مآزق الليبراليّة من جهة، ومن جهة أخرى تعمُّق أزمة الفكر الماركسي، وتفسُّخات الأحزاب الشيوعيّة الأوروبيّة وظهور ما عُرف باسم النزعات الإنسانيّة والرّوحانيّة كردّ فعلٍ على قلق الحرب المدمِّرة وعلى صرامة الأفكار والممارسات السياسيّة السّائدة. وكاستجابة لما كان قد أعلنه شبينغلر (1880-1936) عام 1918 بعد نهاية الحرب الأولى، عن «تدهور الغرب»، والعقم الحضاري الذي يعانيه، وبالتالي نهايته المحتومة[27]. ولذلك يمكن اعتبار الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) كواحدٍ من مؤسسي هذا الاتجاه، والفيلسوف الماركسي الفرنسي لوي آلتوسير (1918-1990) كواحدٍ من ضحاياه[28].

وقد تكون فكرة مجابهة الواقع المرفوض بواسطة افتراضٍ ذهني لموته، أي بدفع الذّهن، أو بالاستسلام لاندفاعته، نحو الاعتقاد بمُتخيَّل من نسج الذَهن نفسه، فيتراءى هذا المُتخيَّل كواقعٍ متجسِّد يتطلّب ثباته في الذَهن القطع مع واقعٍ تمّ تخيّله منقضيًا وآفلًا، قد تكون راجعة إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة الذي تجرّأ على الذّات الإلهيّة، فأعلن «موت الله» وصولًا إلى ميشال فوكو الذي عجز عن وعي إمكانية مجابهة توحُّش رأس المال المندفع نحو سحق إرادة البشريّة ومنعها عن الفعل الحر، فأعلن «موت الإنسان» ليعلن الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي (1931-2007) «نهاية الفلسفة النّسقيّة» ما إن قطع صلته مع تيار الفلسفة التحليلية الذي كان يُعتبر جزءًا منه، ومن ثم ليعلن فوكوياما[29] «نهاية التاريخ» كتعبيرٍ عن زهوه بالنيو ليبراليّة المنتصرة والمنتشرة في عهد الثنائي ريغان وتاتشر، ومن ثم هيمنة النظام أحادي القطب، في الاقتصاد العالمي والعلاقات الدوليّة، على حضارات العالم وتفكيكه لها. إلّا أن السنوات القليلة اللاحقة لمقولته جاءت لتثبت بأنّه، فوكوياما نفسه، ليس سوى بعض لحظة في تاريخٍ بالكاد يلاحظه فيه أحد.

و«الموت» هنا، رغم ما يثيره هذا المفهوم من مقتٍ وقلق، إلّا أنّه يأتي في معرض الزهوّ بالنّصر، فالذي «مات» في ضمير هذا القائل به أو ذاك، إنّما هو بالنسبة لهم «الآخر» المعاند لانتصارات الأيديولوجيا الجديدة التي بشّرت بها الرأسماليّة وتبع خطاها.
أمّا في الفكر والأدب في عالمنا العربي، فتأتي في هذا السياق أرجوزة[30] الشاعر السوري الشهير «أدونيس»، وهو من الذين ذهبوا بعيدًا جدًّا في حداثويّة الشعر العربي، وتجاوز ميدان الشعر إلى أن تمنطق بمنطق القائلين بكسر كلّ المحرّمات في الواقع الاجتماعي كشرطٍ لتحقيق الحريّة الشخصيّة بفرداويّتها وتفرّدها، فبات من أبرز مروّجي الحداثة ومفكّريها. وهو في هذه الأرجوزة يلخّص جانبًا من جوانب فكر ما بعد الحداثة فيقول: «إن الإنسان حين يخرق المُحرَّم يتساوى بالله». ويضيف: «إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله، فهذا التساوي يتضمن رفض العالم كما هو، أو رفضه كما نظمه الله، والرفض هنا يقف عند حدود هدمه، ولا يتجاوزها إلى إعادة بنائه، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه (كمبدأ العالم القديم) وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن يهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه»[31].

وبهذا يمكن استخلاص أن «الحداثة» ومن ثمّ «ما بعد الحداثة»، مقولات ليس لها صلة بالتحديث والتجديد والعصرنة والإصلاح؛ بل هي مقذوفات في حرب شعواء يشنّها النّاهب الدّولي على عوامل المقاومة في المجتمعات تهدف إلى إشاعة العبث بالقيم والمبادئ والأخلاق التي تقوم عليها المجتمعات البشريّة. هكذا نشأت وترعرعت في الغرب، وهذا ما كان عليه دورها ووظيفتها، وهي، وبكل شجونها ومجونها ونوازعها، يُراد تسريبها إلى الثقافة والفكر في عالمنا العربي، لتؤدّي الدّور نفسه.

المُلفت هو أن هناك من يعتقد بأن مثل هذا الأدب والفكر هو الذي أنتج الازدهار الاقتصادي في أوروبا، وأنه يستطيع من خلال نقل الأشكال الأدبيّة والفنيّة والخلاصات الفكريّة الغربيّة إلى محيطنا العربي، تحقيق مثل هذا الازدهار في بلادنا. إنّ مجرّد التفكير بمثل ذلك، وحتى قبل الوصول إلى درجة الاعتقاد، إنّما يعبِّر عن جهلٍ مطبق بقوانين التطوّر الاقتصادي وشروطه من جهة، ومن جهة أخرى يعبّر عن جهلٍ مطبقٍ أيضًا بالوقائع التاريخيّة التي أنتجت ما أنتجت في أوروبا الغربيّة. وبالتالي، فهو حتمًا لا يدرك ماهيّة الأدب والفكر ولا وظيفتهما في المجتمع ولا حقيقة أنّهما يعكسان الواقع ولا يغيّرانه.

ثالثًا: الاقتصاد والمال والعسكر في خدمة سلطان الطاغوت
أسهبنا في الصفحات السابقة في عرض أدوات وأهداف وغايات الهجوم الشّرس الذي تتعرّض له البنية الثقافية بما تحويه من عادات وقيَم ومبادئ ومعتقدات دينيّة وآداب وفنون، بما في ذلك المساعي الحثيثة لتشويه اللغة والتاريخ الجامع للمجتمع منذ أن سيطرت منظومة النّهب على النظام الدّولي وأخذت تعمل على فرض سطوتها ومحاولة سحق حضارات الشعوب وإلغائها وتحويل الشعوب إلى مجرّد أرقام أو مخلوقات يتم تحريكها عبر إيحاءات وسائل الإعلام وتوجيهاتها.

سنسعى في هذا المبحث لتوضيح بعض المفاصل في حركة التناقضات الدوليّة المعاصرة التي أمّنت بذاتها حسن عمل الأدوات السياسية لتوفّر لمنظومة النّهب الدّولي مستلزمات بسط سطوتها على العالم، وانتقالها من التموضع ضمن مراكز إمبرياليّة قوميّة بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة، إلى منظومة تتجاوز الجغرافيا وتفرض سطوتها على العالم بأسره دون أن تكون منتمية لوطن.

انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته
كان لانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين، الأثر الأعظم في توفير الظروف المؤاتية لدخول العالم بأسره تحت سيادة أحاديّة لأوّل مرة في التّاريخ. وبدت الولايات المتحدة الأميركيّة السلطة المتحكّمة بكبائر الأمور وصغائرها حول العالم. ولم يقتصر هذا المشهد على المستويات الاقتصاديّة والسياسية والعسكريّة فقط، بل طال مناحي حياة المجتمعات البشريّة كافّة، لاسيّما منها الفكر والثقافة والأدب والفنون التي تحوّلت، إلى سلعٍ تباعُ وتُشرى شأنها شأن كل السّلع الأخرى، حيث أصبحت صناعات متكاملة وقائمة بذاتها، تحكمها وتوجّهها كبريات الاحتكارات الماليّة والصناعيّة العالميّة كمثيلاتها من الصناعات الأخرى. وباتت هذه الآداب والفنون والثقافة هي القدوة والمقياس والمعيار للتقدّم والتخلُّف، للخطأ والصّواب، للخير والشرّ، مدعّمة ومدجّجة بأسلحة المتلاعبين بالعقول والأذواق والمفاهيم التي تتولّاها سلسلة غير متناهية من وسائل الإعلام والدعاية والترويج تعمل بكل كدٍّ وجدٍّ لتحقيق ما ترمي إليه السياسات العليا التي تديرها تلك الاحتكارات، بهدف الانتقال من حالة الإخضاع والاستتباع إلى حالة التفكيك والتدمير الدّاخلي للمجتمعات البشريّة، ولتحويلها إلى آذانٍ تصغي وتنفّذ ما تتلقّاه من «السيّد المطلق» القابض على مصائر الشعوب.

ونقول إنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة «بَدَتْ» على هذا النّحو، لأن الواقع ليس حقيقة على هذا النّحو، بل الحقيقة هي أنّ الولايات المتّحدة نفسها، بقرارها السياسي بما فيه المستوى العسكري منه، ترزح تحت وطأة مصالح رأس المال المالي القابض على مفاصل القرار فيها، مثلما هو قابض على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي في العالم، إن كان بشكلٍ إجمالي، أو بشكلٍ تفصيلي، أي كل دولة على حدة.
وقد تبلورت وتعمّقت سيطرة رأس المال المالي على مجمل الاقتصادات في العالم مع نهاية الحرب الباردة، وكانت قد بدأت هذه السيطرة تظهر منذ ولاية الرئيس الأميركي رونالد ريغان (1981 -1989)، إلّا أنّ التأسيس لها كان قد بدأ أوائل سبعينات القرن العشرين، وقد تكون زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي[32] هنري كيسنجر للصين (1971)، ومن ثم زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لها (1972)، المداميك الأولى في بناء صرح لاقتصادٍ عالمي الأبعاد بلا انتماءٍ قومي له، يتحكّم باقتصادات الدّول ومساراتها السياسيّة، دون أن يكون لأي من تلك الدّول أي سلطةٍ عليه.

وتقول الخبيرة البريطانية الرّائدة في اقتصادات العولمة نورينا هيرتس[33] وهي تصف الأوضاع مع بداية الألفيّة الثالثة في الدّول الغنيّة: «عالمٌ تتعادلُ فيه الاستهلاكيّة بالسيطرة الاقتصاديّة، تسيطر فيه مصالح الشركة، وتنفثُ فيه الشركات التجاريّة والصناعيّة لغتها الخاصة بها على موجات الفضاء، وتخنق الشعوب بحكمها الإمبريالي. لقد أصبحت هذه الشركات ذاك الحيوان الأسطوري الهائل المسمّى بهيموث (Behemoth)، عمالقة، ضخمة، عالميّة، في أيديها قوّة سياسيّة ضخمة تستخدمها»[34].
ومع أن البهيموث حسب وصف التوراة اليهوديّة له بأنّه من الحيوانات الإلهيّة الأليفة[35]، نرى تلك الشركات الضخمة والعملاقة عند هيرتس متوحّشة لا ترحم، تخلق عالمًا حسب مقاييس مصالحها، «عالم السيطرة الصّامتة، العالم في صبيحة الألف الجديدة حيث الحكومات تبدو مقيّدة، واعتمادنا على الشركات في ازدياد، والمؤسسات الصناعية والتجاريّة هي التي تتولّى عملية القيادة. والشركات الكبرى هي التي تحدّد قواعد اللعبة. وغدت الحكومات حُكّام «جمع حَكَمْ» هذه الألعاب الذين يطبّقون قواعدَ وضعها آخرون»[36].

لم يكن غياب الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية عن المشهد الدّولي شأنًا يعني شعوب تلك الدول وحسب، بل كان له عظيم الأثر على مجمل العلاقات الدوليّة وعلى قضايا الشعوب المستعمَرة بشكل خاص. وقد يكون التدمير الممنهج الذي تعرّض له العراق منذ بداية عقد التسعينات، أي في الوقت الذي كان الاتحاد السوفياتي مازال يلفظ أنفاسه، الأكثر تعبيرًا عن أثر الاختلال في التوازن الدّولي على شعوب العالم. وقبل أن ينتهي عقد التسعينات، بين 24 آذار و11 حزيران 1999، كانت طائرات وبوارج حلف الناتو تدك مدن جمهورية صربيا وتدمّرها وتفرض عليها الاستسلام لمشيئة الولايات المتحدة الأميركيّة، بما في ذلك اعتقال زعيمها ورمزها القومي رادوفان كاراديتش ومحاكمته كمجرم حرب.
والأثر الأكبر لسقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكيّة كان ما حقّقته منظومة النّهب الدّولي من مكاسب هائلة بحيث تمكّنت سريعًا من وضع يدها على ثروات خام لدولة من أكثر الدول غنى بالثروات الجوفيّة والمنجميّة من ذهب ومعادن مختلفة ونفط وغاز إضافة إلى فتح سوق ضخمٍ أمام نشاطاتها الاقتصاديّة المختلفة. إضافة إلى أن هذا السقوط فتح أمامها أسواق العالم بأسره من دون حسيبٍ أو رقيبٍ ولا منافس.

كما أنّه أسفر عن نظامٍ عالمي جديد يقوم على أحادية القطب لأول مرة في التاريخ، ووضع العالم تحت رحمة العدوانيّة الأميركية التي همّشت دور الأمم المتّحدة ومجلس أمنها وانتهى دورها كمؤسسة تحمي الأمن والسلام الدوليين. وفرضت على العالم سياسة «الأبواب المفتوحة» للتجارة عبر منظمة التجارة الدّوليّة ومعاهدة التجارة الحرّة. وقد تبيّن أنّ هذه الأبواب مفتوحة أمام الولايات المتحدة فقط، وهي تستطيع وَصْدَها أمام أي منافسٍ لها مثلما حدث فيما بعد مع الصادرات الصينية إلى الأسواق الأميركية التي وضعت الولايات المتحدة أمامها العراقيل ورفعت الرسوم الجمركيّة عليها بشكل كبير لحماية أسواقها، وبشكل يتناقض مع مضمون التجارة الحرّة التي فرضتها على دول العالم.

ومع سيادة النظام الدّولي الجديد تمّ تهميش حركة عدم الانحياز التي كانت تقوم على مبدأ عدم الانحياز إلى أي طرف من أطراف الصراع الدّولي وتناهض سياسة المحاور الدّوليّة بين المعسكرين، فقد أصبح العالم بأسره معسكرًا واحدًا بإمرة الولايات المتحدة، وأي دولة ترفض الانصياع لإملاءاتها تصنّف على أنّها دولة مارقة أو أنّها في «محور الشر».

غزو الاستثمارات الأجنبية للاقتصاد الصّيني
المقدّمات السياسيّة
قال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في كلمته الملقاة في المأدبة الترحيبية التي أُقيمت على شرفه لدى زيارته الصين في شباط 1972: «جئت لمصلحة الشعب الأميركي. فأنتم تؤمنون بنظامكم مثلما نؤمن بنظامنا. ما يجمعنا في اللقاء هنا ليس الإيمان المشترك، بل مصالحنا وآمالنا المشتركة. لا يوجد أي سبب لنكون خصومًا. قد آن الأوان لتسلق شعبينا قمة العظمة وخلق عالم جديد وأجمل». فيما «أكدت القيادة الصينية على ضرورة استيضاح نقاط الخلاف بين الجانبين والعمل على إيجاد الأرضية المشتركة بينهما، بما يشكل بداية جديدة للعلاقات بين البلدين»[37].

وفي إعلان المبادئ الصادر عن الطرفين الأميركي والصيني خلال هذه الزيارة والمعروف باسم «إعلان شنغهاي»، أكد الجانبان على الأرضية المشتركة بينهما، واتفقا على أهمية تعامل البلدين، بغضّ النظر عما هو عليه النظام الاجتماعي لهما. كما أكّد الجانبان على أن تطبيع العلاقات الصينية الأميركية أمرٌ يتّفق مع مصالح جميع الدول[38].
جاءت هذه التطوّرات في العلاقات الأميركية – الصينيّة لتفاجئ بعض المراقبين ولتصدم بعضًا آخر بعد زهاء ربع قرنٍ من العداء السّافر والدّموي بين الدّولتين (الحرب الكوريّة والحرب الفيتناميّة) حيث كانتا على طرفي نقيض. خاصة وأنّ الخلاف ضمن المعسكر الشيوعي وانشقاق بكين عن موسكو فيه منذ عام 1956، كان بسبب الانتقادات الكبيرة التي وجهها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ للقيادة السوفياتيّة التي أقرّت مبدأ «التعايش السّلمي مع المعسكر الرأسمالي»[39].
فما الذي كان يجري قبل هذه الزيارة التي شكّلت انقلابًا في مواقف الطرفين؟ ليس فقط في موقف أحدهما من الآخر على المستوى السياسي، وإنّما خرقت المحظورات في الخطاب الإيديولوجي لكليهما، وتركت أثرًا بارزًا في العلاقات الدّوليّة في زمن الحرب الباردة. وستؤدّي بضعة تشريعات صينية تقابلها بضعة مواقف وإجراءات أميركية إلى أن تجعل أبوب الصين مشرّعة أمام تدفُّق استثمارات الشركات المتعدّدة الجنسيّة ذات المنشأ الأميركي على الصين.
فبينما يتحفنا مروّجو النيو ليبراليّة بالنموذج الصيني، ومعه نماذج ما يُطلق عليه اسم «نمور آسيا» باقتصاداتها الكرتونيّة، وأضاف عليها خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين نموذج الهند، ويقدّمها كنماذج لاحتمال تحقيق التنمية الاقتصاديّة في «البلدان المتخلّفة»، سنحاول هنا تقديم ما يكفي من المعطيات لتأكيد أنّ هذه النماذج ليست في الحقيقة سوى نموٍّ مضطرد لرأس المال المالي في تحقيق سلطان الطاغوت العالمي، ولنكشف زيف هذا النمو الذي زاد الفقر فقرًا وزاد تبعيّة تلك الاقتصادات للنظام الطاغوتي العالمي.

ففي غمرة الصراع الدّموي فيما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين خلال حرب فيتنام، كان هناك من يتولّى نقل الرسائل بين قيادتي الدولتين ضمن ما سيُعرَف فيما بعد باسم «دبلوماسيّة البينغ بونغ» نظرًا للدور الذي لعبه تبادل الرسائل واللقاءات السريّة فيما بين مبعوثي الدولتين خلال مباريات متبادلة ومتكرّرة فيما بين فِرَق الدولتين في هذه اللعبة؛ إضافة إلى أن إجراءات «بناء الثقة» بين الطرفين كانت تستدعي أن يقوم أحدهما بخطوة يردُّ عليه الآخر بخطوة، أي كما هي عليه قواعد لعبة كرة الطاولة: «ضربة مني وضربة منك». فكان من ثمار تلك السياسة، الزيارة السريّة التي قام بها كيسنجر إلى الصين في تموز 1971.

أولى تداعيات زيارة كيسنجر كان غياب لين بياو عن المسرح السياسي بمقتله، وهو الذي كان يشغل منصب نائب رئيس مجلس الدولة ونائب رئيس الحزب الشيوعي، والقائد الفعلي للثورة الثقافية. أي أنّه كان الرجل الثاني في الحزب والدولة بعد ماو تسي تونغ، واشتهر بأنّه قائد الجناح اليساري المتشدِّد في الحزب، وهو الجناح القابض على كل مفاصل السلطة في الدولة. مقتل لين بياو الذي حدث في 13 أيلول 1971، لم يتمّ الإعلان عنه رسميًّا إلّا بعد عامٍ وثلاثة أشهر، أي أواخر عام 1972، رغم مسؤولياته الحكومية والحزبية الرفيعة. ويبقى مقتله لغزًا لم تستطع آلاف الصفحات التي كُتِبَت حوله شرقًا وغربًا حلّه بشكلٍ يتناسق مع الأحداث المواكبة واللاحقة. فالإعلان الرسمي ذكر أنّه توفي بحادث تحطّم طائرة يستقلّها مع أسرته فوق منغوليا؛ والكلام الذي ذُكر لاحقًا في أدبيات الحزب الشيوعي الصيني حول الحادث هو أن لين بياو قاد محاولة انقلابية ضد ماو تسي تونغ، وبسبب فشلها حاول الهرب مع أسرته إلى الاتحاد السوفياتي، فتحطمت طائرته وماتوا جميعًا على الفور[40]. فاللغز يبقى في الإجابة على السؤال: كيف لقائد محاولة انقلابية أن يهرب لينجو بنفسه وبأسرته دون أيٍّ من معاونيه في المحاولة؟ ولماذا لم يتمُّ التعرُّض لمعاونيه المفترضين، أي أقرب القادة الشيوعيين إليه الذين عرفوا فيما بعد باسم «عصابة الأربعة» الذين اعتقلوا بعد أكثر من خمس سنوات، أي بعد وفاة ماو عام 1976، وكانت من ضمنهم زوجة ماو نفسه، وتمّت محاكمتهم دون الإشارة إلى اشتراكهم في محاولة الانقلاب المزعومة؟

بعد مقتل لين بياو، أي على أعتاب انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ26 لعام 1971، ظهرت تسريبات لإعلاميين وتلميحات من موظفين في الإدارة الأميركيّة حول تبلور اتجاه في الإدارة لعدم معارضة أن تكون الصين الشعبيّة هي من يمثِّل الصين في الأمم المتحدة. وفي 25 تشرين الأول أقرّت الجمعيّة العامة القرار رقم 2758 بأغلبية ساحقة بأن تحلّ جمهورية الصين الشعبيّة محلّ «جمهورية الصين الوطنية» في عضويّة الأمم المتحدة، فحصلت بذلك على العضوية الدّائمة في مجلس الأمن الدّولي، وهو المقعد الذي شغلته الصين الوطنية منذ تأسيس مجلس الأمن، ولتضغط الولايات المتحدة على حليفتها «الوطنية» بأن تقبل بتغيير اسمها إلى تايوان، فتزيل كلمة الصين منه نزولًا عند طلب الصين الشعبية بأنه لا يوجد سوى صين واحدة عاصمتها بكين. لتلي ذلك زيارة الرئيس نيكسون في شباط 1972، وهي أول زيارة لرئيس أميركي لدولة لا تقيم دولته علاقات دبلوماسية معها.

وتوالت إجراءات تطبيع العلاقات بين الدولتين، من دون الإعلان عن ترابطها، والتي كان منها استئناف المفاوضات الأميركية – الفيتنامية في باريس والإعلان عن «اتفاقية باريس للسلام» في 27 كانون الثاني 1973، التي وإن لم تنهِ الحرب، ولكنّها حدّدت وجهتها التي ستنتظر لأكثر من سنتين (30 نيسان 1975) حتى تدخل قوات فيتنام الشمالية، حليفة الصين، إلى سايغون ويتم جلاء القوات الأميركية من فيتنام وكامل الهند الصينية.

في الوقت نفسه كانت القيادة الصينية تقوم بتهيئة «البيت الصّيني» للدخول في «العصر الجديد»، وليظهر من جديد اسم دينغ شياو بينغ، الذي كان من قيادات الصف الأول في الحزب والدولة، فاعتقل مع بداية الثورة الثقافية وعُرِضَ على المحاكمة عام 1967 بجرائم الخيانة والفساد وبأنّه «متسوّل الرأسماليّة»، فتمّ تجريده من كل مناصبه ووضعه في الإقامة الجبرية تحت حراسة مشدّدة مع الأشغال الشاقة في مشغل لتصليح الجرارات في قرية نائية[41]. إنّما بعد الإعلان الرسمي عن مقتل لين بياو عام 1972، استُدعي دينغ زياو بينغ ليستعيد مناصبه في ظل رئيس مجلس الوزراء شو آن لاي، وهو القيادي الشيوعي الوحيد في الصين الذي كان يحرص على وضع ربطة العنق. ووبعد أن أصيب شو آن لاي بمرضٍ أقعده عن ممارسة مهامه، أعيد تعيين دنغ شياو بينغ نائبًا لرئيس الوزراء ونائبًا لرئيس اللجنة المركزية، ونائبًا لرئيس اللجنة العسكرية المركزية ورئيس هيئة الأركان العامة لجيش التحرير الشعبي، وبذلك حل محل تشو آن لاي بصفته المسؤول عن جميع الأعمال الروتينية للحزب والدولة[42]. وحين توفي شو آن لاي في كانون الثاني عام 1976 بسرطان المثانة، حسبما جاء في الإعلان الرسمي عن الوفاة، تولّى دينغ شياو بينغ هذه المهام بالأصالة، وانتظر حتى وفاة ماو نفسه في أيلول من العام نفسه، حتى يشن حملته القاسية على الجناح الماوي المتشدّد في الحزب ويعتقل زعماءه الأكثر شهرة، وهم أربع قياديين من ضمنهم زوجة ماو نفسه، وقد وصفهم بأنّهم «عصابة الأربعة». ليتمّ بعدها تكثيف الانتقادات لما حدث خلال الثورة الثقافية، وتجريم ممارسات قادتها وتحميلهم مسؤولية موت ملايين الناس. وخلال بضعة أشهر كان التيار الماركسي – الماوي في الحزب الشيوعي الصيني قد تشتّت وتحلّل، وسيطر عاقدو ربطة العنق على المشهد السياسي الرسمي في البلاد. ولم يبقَ من الحزب الشيوعي الصيني سوى الاسم والأجهزة الأمنيّة ومجموعة لا تعدُّ ولا تُحصى من تماثيل ماو تسي تونغ.

وستبدأ بالظهور سلسلة من التشريعات والإجراءات التنظيميّة على المستويين الاقتصادي والمالي، تحت شعار» ليس المهم أن تكون القطة سوداء أو بيضاء طالما تمسك بالفئران«، الذي كان قد رفعه دينغ شياو بنغ في ستينات القرن الماضي، قبل اعتقاله وإدانته في المحكمة على مقاصده من هذا الشعار[43]؛ وهذه الإجراءات والتشريعات ستتيح للرئيس الأميركي جيمي كارتر في 15 كانون الأول 1978 أن يقول، في إعلان خاص له حول الصين، بأن الصين الشعبية أصبحت مكانًا آمنًا للاستثمارات الأميركية وأنّ حركة رؤوس الأموال العالميّة منها وإليها باتت آمنة.

ويقول الرئيس كارتر في «مذكرات البيض الأبيض» إن دينج شياو بينج أعلن بعد يومين من إعلان كارتر الخاص حول الصين «أن الصين سوف تتبنّى تغيرات عميقة في هيكلها السياسي والاقتصادي الأساسي، ممّا سيسمح بالنظام المؤسّسي الحر غير المسبوق، وفتح التجارة مع كثير من الدول الأخرى، وتخفيف القيود على حركة المواطنين وحريّة العبادة وضمان الحريات الأخرى»[44]. وما لم يقله كارتر في سياق كلامه عمّا ستقوم به الصين في طريقها للدخول في «النعيم الأميركي» قاله في الكتاب نفسه، في مذكّراته عن يوم 28 تشرين الثاني 1979، حيث كشف عن تحالفٍ تجسّسي سرّي بين الولايات المتحدة والصين للتجسّس على الأنشطة العسكريّة في الاتحاد السوفياتي من خلال إقامة محطّة رصد واستطلاع إلكترونيّة على الأرض الصينية لهذا الغرض؛ حيث قال كارتر ما نصّه: «تريد الصّين التوصُّل إلى اتفاق رسمي في المساعدة في رصد (النشاطات العسكريّة في الاتحاد السوفياتي)، لكنّنا نريد أن يبقى الاتفاق شفهيًّا حتى لا نضطر للكشف عن التفاصيل للكونغرس وبالتالي للعامة... كان هذا موقعًا إلكترونيًا للرصد في غاية السريّة يقع في غرب الصين ويقدّم معلومات قيّمة عن الجزء الشرقي من الاتحاد السوفياتي. وكنتُ متردّدًا في إبلاغ أيٍّ من أعضاء الكونغرس بسبب احتمال أن يثير الإعلان عن وجوده رد فعل حادّ من جانب موسكو. وقرّرتُ سريعًا إطلاع رؤساء لجان الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ فقط»[45].

ويستنتج الرئيس كارتر من جملة الإجراءات والتشريعات والتسهيلات الصينية للولايات المتحدة في الصين بقوله: «هذه القرارات من داخل الصين، بالإضافة إلى القرارات المؤثّرة على العلاقات بين البلدين، ربّما أدّت إلى التغييرات الأكثر أهميّة في الخريطة العالمية الاقتصاديّة والسياسية خلال الثلاثين سنة الماضية»[46].
وما يعنيه كارتر هنا، بلا شك، هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان ومن ثم انهياره مع منظومته الاشتراكيّة، والتطوّرات التي طرأت على حركة رؤوس الأموال العالمية وبروز الاقتصادات «سريعة النمو» في دول خارج أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة. فـ«الثلاثين سنة» التي يقصدها كارتر في كتابه الصادر عام 2010، هي بالضبط السنوات التي شهدت تلك التغييرات والتحوّلات في العلاقات الدوليّة، وفي أنشطة «الشركات المتعددة الجنسيات» لاختراق «العالم الجديد» للقرن العشرين، العالم الصيني، ولتثبيت سلطان الطاغوت لركائزه في أرجاء المعمورة.

النتائج الاقتصاديّة
تلقّفت الشركات المتعدّدة الجنسيات أخبار اتجاه الصين نحو «الإصلاح الاقتصادي» و«الانفتاح على الخارج» المُزمَع إقراره، فبدأ مديرو هذه الشركات ومستشاروها برحلات «حج» إلى تلك البلاد لدراسة سُبُل الاستفادة من هذه الفرصة التاريخيّة التي باتت على الأبواب. وبما أن القوانين المنظّمة للعلاقات الاقتصادية الأجنبية في الصين لم تكن تلحظ ما قبل عام 1978 أي مادة من موادها الاستثمار الأجنبي في البلاد، لأنّه لم يكن يوجد مثل هذه الاستثمارات؛ فقد دفعت تلك الشركات بالحكومة الصينية لإصدار قانون يملأ هذا الفراغ التنظيمي لمثل هذه الاستثمارات.

وفور إعلان الرئيس الأميركي جيمي كارتر إعلانه الخاص حول الصين في 15 كانون الأول 1978 واعتباره أن الصين باتت مفتوحة أمام الاستثمارات الأميركية، التأمت «الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني سنة 1978، في الفترة من 18 إلى 22 كانون الأول بمدينة بكين، والتي اتخذت قرارًا بتعديل مركز ثقل عمل الحزب، وتكوَّنت فيها المجموعة القيادية للجنة الحزب الشيوعي الصيني المركزية التي كان دينغ شياو بينغ نواة لها، وطُرحت فكرة أنّ المهمة الأساسية أمامها هي جعل الديمقراطية نظامًا، وأن يكون تطبيقها بحماية القانون. وقررت الدورة تبنّي سياسة الإصلاح والانفتاح، وتحوُّل مركز ثقل عمل الحزب من «اتخاذ النضال الطبقي منهج كل الأعمال»، إلى اتخاذ «البناء الاقتصادي مركز ثقل أعماله وتطبيق الانفتاح على الخارج» وليصدر على عجل أول قانون لتعزيز اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار المباشر تحت عنوان: «قانون جمهورية الصين الشعبية للمشاريع المشتركة الصينية – الأجنبيّة»[47].

والملفت في هذا القانون أنّه جاء دون تحديد أي سقفٍ لنسبة الرأسمال الأجنبي في المشاريع الاستثماريّة، بل على العكس من ذلك، فقد اشترط أن لا تكون نسبة مساهمة رأس المال الأجنبي بأقل من 25% في المشروع ليحصل على الامتيازات التي لحظها القانون. ولكنّه اشترط أن يكون رئيس المشروع مواطنًا صينيًّا، ويختاره المساهمون الصينيّون في المشروع المعني[48].

تدفقت رؤوس الأموال للاستثمار في الصين بعد صدور هذا القانون بشكل كثيف، مستفيدة من الميزات الكبرى التي يقدّمها هذا القانون لتلك الاستثمارات. ولكن لم تكن رؤوس الأموال هذه على شاكلة رؤوس أموال للاكتتاب في أسهم شركات أو مشاريع شركات صينيّة؛ بل كانت للاستثمار المباشر، أي أن صاحب رأس المال يبقى هو المشرف والمتحكِّم برأس المال وبمردوده ويحرّكه وفقًا لإرادته ومصالحه. وكانت الميزات التي يقدّمها هذا القانون تتطوّر بشكل تصاعدي، فاستمرّت التشريعات والتنظيمات والتعديلات على القانون نفسه تأتي بما يتلاءم مع متطلّبات تلك الاستثمارات.

وكان من أهم هذه التشريعات تلك التي بدأتها القيادة الصينية في منتصف شهر تموز 1979 حيث شرّعت إقامة المناطق الاقتصاديّة المفتوحة أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة في ثلاثة مدن في مقاطعة كوانغ دونغ الواقعة على الساحل الجنوبي الشرقي من البلاد، وهي محاذية مباشرة لمقاطعة هونغ كونغ التي كانت لاتزال مستعمرة بريطانية. ومن ثم أضافت في منتصف شهر آب من العام نفسه مدينة شيامين في مقاطعة فوجيان إلى لائحة هذه المناطق الاقتصادية المفتوحة، وهي بدورها محاذية مباشرة لتايوان، حيث لا تبعد إحدى الجزر التايوانية عنها أكثر من ستة كيلومترات. وقد يكون الهدف من اختيار هذه المناطق المتاخمة لهونغ كونغ وتايوان، كمناطق اقتصادية مفتوحة، استدراج رؤوس الأموال الصينية المستثمَرة فيما تعتبره الصين أراضٍ صينيّة تسعى لاستعادة سيادتها عليها، من جهة، ومن جهة أخرى إضفاء الصفة الوطنيّة على مشاريعها الاقتصادية قدر الإمكان، خاصة وأنّها تعاملت مع رؤوس الأموال المسجّلة بأسماء مواطني تايوان وهونغ كونغ كرؤوس أموال وطنيّة منحتها حقوقًا إضافيّة، منها حق رئاسة المشاريع المشتركة.
وستشهد سياسة إقامة المناطق الاقتصاديّة المفتوحة، وشبه المفتوحة، أمام الاستثمار الأجنبي، خلال ثمانينات القرن الماضي مزيدًا من التّوسّع، ولتشمل في التسعينات معظم المناطق الساحليّة للصين بما فيها المدينة الصينيّة الأضخم من حيث المساحة وعدد السكان، شنغهاي[49].

في المحصلة، فإن القيادة الصينيّة فتحت البلاد، أرضًا وشعبًا، أمام الشركات المتعددة الجنسيات لتكون البلاد بأسرها مرتعًا لها، فتحوّلت إلى مصنعٍ ضخمٍ للعالم تستحوذ على أعلى معدلات النمو الاقتصادي السنوي على امتداد عقود ما بين أواخر القرن العشرين حتى بدايات العقد الثالث من القرن الحالي، وما يتوفّر من مؤشرات يدلُّ على أنّها، في المستقبل المنظور، ستحافظ على موقعها المتقدِّم في الاقتصاد الدّولي، وإن كانت بعض المؤشّرات تفيد بأن ساحات أخرى ستحظى بنموٍّ مضطرد في نموّها الاقتصادي، الهند مثلًا، لتشارك الصين في هذا الموقع.

رابعًا: نظام الشركات المتعددة الجنسيات يُنهي نظام التمركُز الإمبريالي
أدّى سقوط الصين تحت قبضة الشركات المتعددة الجنسيات، ومن ثم سقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكيّة تحت قبضة المافيات المقبوض على رقابها من قِبَل تلك الشركات وأدواتها السياسية في دول المركز الإمبريالي، وبالتالي نهاية الحرب الباردة، إلى تداعيات جوهريّة كان لها الأثر الأكثر أهميّة في بلورة مرحلة جديدة من مراحل تطوّر منظومة النّهب الدّولي، نظام الطاغوت. وهذه المرحلة ستتّسم بسمة تتّضح فيها معالم تقسيم عملٍ من نوع جديد ضمن نظام الطاغوت نفسه، يقوم على تعدُّد الأذرع وتكاملها والمتباينة في مهامها، لتحسين عمل منظومة النّهب الدّولي، وفي الوقت نفسه تأمين سطوة هذا النظام على أدواته وأذرعه المختلفة. وحين ستداهم العالم جائحة كورونا (كوفيد19)، ومن ثم الحرب الروسية – الأوكرانيّة، مع بداية هذا العقد، سنجد أنها أمّنت المزيد من عوامل دفع أواليات عمل هذا النظام إلى التبلور وتثبيت هيمنته على مقدّرات البشريّة جمعاء، وليُسدل الستار، على العرض الأخير، لمرحلة اتّسمت بظاهرة تمركز رأس المال في دول المركز الرأسمالي، ولينشئ نظام الطاغوت.

نظرة حول هذه الشركات وموقعها في المركز الإمبريالي:
وفّرت الشركات المتعدّدة الجنسيات الأرضيّة التي قام عليها الاقتصاد العالمي خلال الفترة التي تلت الحرب العالميّة الثانية، وبشكل خاص بعد المباشرة بتنفيذ مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا (1948). وقد تطوّرت هذه الشركات من مجرّد كونها عبارة عن تشارك فيما بين شركات وأشخاص من دول وجنسيات مختلفة، إلى أن أضحت في نهاية سبعينات القرن الماضي شركات ضخمة تتجاوز انتماءها لأي دولة من الدول.

وتكفي قراءة سريعة في حركة رؤوس الأموال الدوليّة خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية لاكتشاف أنّها كانت تتجه نحو التركُّز الكثيف في الدول الأكثر تقدّمًا على الصعيد الصناعي. وقد أشار حمزة علوي عام 1964 إلى أن الاتجاه العام لدول المركز هو الدفع باتجاه تركيز استثماراتها الأكثر أهمية في البلدان الغربية المتقدِّمة بهدف تنمية قدراتها الإنتاجية القومية لتتمكن عبرها من إحكام «السيطرة على السوق العالمية الذي تبني عليه استمرارها بشتى الوسائل وتستعمل المساعدات والاستثمار ما وراء البحار لهذه الغاية»[50].

ويمكن اعتبار ما ذهب إليه حمزة علوي في كلامه هذا بأن تلك المرحلة وهذا التوجّه لرؤوس الأموال الدوليّة شكلا أحد العوامل التي قام عليها بناء عالم السيطرة والاستتباع في مرحلة «الاستعمار الجديد»، أو ما يُطلق عليه في الفكر الغربي المُستحدَث اسم مرحلة «ما بعد الاستعمار». وهو البناء الذي شيّدته الشركات المتعدّدة الجنسيات. كما يمكن لتلك الرؤية أن تسهم في تفسير أواليات انتقال النظام العالمي من طور الإمبريالية المهيمنة على المستعمرات، إلى طور جديد، طور تكون فيه هذه الشركات مسيطرة، وبسطوة متعاظمة، على العالم بأسره، بما فيه الدول المتقدّمة صناعيًّا نفسها.
وقد لا يعجب هذا الاستنتاج أولئك المتمسّكين بالمقولة اللينينيّة الشهيرة «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة». ففي دفاع له عن اللينينية، يعتبر منير شفيق أن من يعطي للشركات المتعددة الجنسيات أي أهمية تختلف من حيث الجوهر عن الأهمية التي أعطاها لينين للشركات «الاحتكارية العالمية التي سبقت نهاية الحرب العالمية الثانية، أي الكارتيلات التي تحدث عنها لينين في كتابه الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»[51] من يعطي هذه الأهمية، عليه أن يعترف بأنه ينقض لينين ويقطع صلته باللينينية[52].

وينطلق منير شفيق في رفضه لوجود أي متغيّر جوهري على طبيعة الشركات الاحتكاريّة ناجم عن تعدد جنسيات مالكيها من اعتباره أن التناقضات فيما بين المراكز الإمبريالية هي التي تشكِّل العامل الحاسم فيما بينها، وليس الشراكة والتعاون، معتبرًا «أن الأساسي والجوهري والدائم في العلاقات فيما بين الكتل الرأسمالية المالية، وكذلك فيما بين الدول الإمبريالية، ليس الوحدة والشراكة والوئام، وإنما التناقضات وأشد الصراعات شراسة»[53].

وعلى قاعدة أن «المفكِّر شاهد عصره»، فإنّ لينين، شأنه شأن غيره من المفكرين، إنّما يقدّمون توصيفًا لما هو عليه واقع الحال كلٌّ في عصره، والعصر الذي كتب فيه لينين كتابه المذكور، جاء ليقدّم توصيفًا لحركة رؤوس الأموال الدوليّة في عصره، ألا وهو العقد الثاني من القرن العشرين مع استشرافٍ لما يمكن أن تؤول إليه الأمور تبعًا للمعطيات المتوفرة بين يديه. فبصرف النظر عن تقدير الأهمية العلمية للينين، إلّا أن الزمن الذي قرأ فيه واقع الرأسمالية العالمية هو الزمن الذي لم تكن الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها بعد، ولا حدثت الأزمة الاقتصاديّة العالمية أواخر عشرينات وبداية ثلاثينات القرن العشرين، ولا كان قد تم التوافق على اتفاقية بريتون وودز المالية، ولا كانت العلاقات الدوليّة قد أفرزت بعد ما أفرزته الحرب العالمية الثانية. لذلك فإن إعطاء كتاب لينين «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» أهمية تتعدى المرحلة التي كتب بها والشأن الذي كتب لأجله، يشكّل مقتل العديد من الأبحاث التي تسعى دائمًا للهرب من متاعب الخروج عن النّص السّائد، وتحتمي وراء الأهمية الفكريّة لهذا المفكر الكبير أو غيره.

فعلى ذلك، لا يكفي على الإطلاق أن نفهم سيرورة التحوّل الإمبريالي وصيرورته عند لينين، لنعرف ما يحكم العلاقات بين دول المركز الرأسمالي راهنًا. فاكتشاف منير شفيق للطابع المسيطر والمهيمن للرأسمال المالي الأميركي على الشركات المتعددة الجنسيات، لا يساعدنا على الإطلاق في الاستنتاج بأن ما يحكم العلاقات بين الكتل الرأسمالية هو التناقض والتصارع وليس الوحدة والشراكة. بل على العكس من ذلك، يدفعنا إلى التطرف في الاستنتاج المضاد، ألا وهو أن هذا الطابع المهيمن هو وليد ظرف موضوعي مؤات للرأسمال المالي الأميركي والاحتكارات الأميركية بشكل عام، نتج عن ضرب وتفتيت مقوّمات وأدوات السيطرة عند الكتل الرأسمالية الأخرى في ظل ظروف دولية (سياسية، عسكرية واقتصادية) معقّدة فرضت على هذه الكتل الانضواء (مع التأكيد على ما تتضمنه حالة الفرض) تحت حماية النظام الاقتصادي العالمي الآخذ بالتبلور في الولايات المتحدة الأميركية، مستفيدًا من نفوذها ومختلف عناصر قوّتها السياسية والاقتصاديّة في العالم.

وقد أتاح ذلك الفرص لأن يتشكل نظام إمبريالي عالمي مشدود إلى بعضه بإحكام بزعامة الولايات المتحدة، وإن كان محكومًا ببضعة من عوامل التنافر، إلّا أن عناصر الجذب التي ينتجها التفوُّق الحاسم للولايات المتحدة في هذا النظام، تبقى قادرة أكثر على أن تلعب الدور الحاسم في أي صراع ينتج عن تنافر المصالح بين أقطابه. وهذا ما أتاح لهذا النظام أن يهيمن على النظام الاقتصادي العالمي زهاء نصف قرن من الزمن، ولينتج من رحمه، في المرحلة التالية، نظامًا عالميًا جديدًا ما فوق الجغرافيا السياسية الدّوليّة، ويعمل على إخضاع هذه الجغرافيا برمّتها لمشيئته.

ش.م.ج صاغت طبيعة العلاقات داخل المركز
وبقليلٍ من الجهد، يمكننا أن نتبين بوضوح ما كانت عليه العلاقات التي تربط البلدان الصناعية المتقدمة، وهي تحرّك في حديقة الإمبريالية الأميركية، وكيف تمكّنت الشركات المتعددة الجنسيات من إعادة صياغة العلاقات فيما بين دول المركز الإمبريالي عبر ضبط اقتصاداتها ومحورتها حول حلقة مركزية مشدودة إليها هذه البلدان كافة. فإن عناصر التنافر الموجودة ضمن هذه الحلقة، والمحكومة بعناصر تجاذب أخرى، أو متولِّدة من عناصر التنافر نفسها، تدفع العلائق بين هذه البلدان نحو أشكال بالغة التعقيد لا يكفي الحيّز المحدّد لها في هذه الدراسة لمناقشتها وتبيُّن خطوطها. إلّا أنّنا نرى وجوبًا الإشارة إلى بعض عناصر التنافر وعناصر التجاذب، حيث نختصر الأولى بعنصرين هما:

1– سياسة الوفاق الدولي التي كانت تسود ما بين المعسكرين الاشتراكي والإمبريالي والتي تعني أصلًا الوفاق فيما بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. هذه السياسة خففت من حدة الحاجة الأوروبية للتحالف مع الولايات المتحدة وساعدت على إبراز شعار «أوروبا الأوروبية» كبديل لشعار «أوروبا الأطلسية».
2– التطور اللامتكافئ بين نمو القدرة الإنتاجية الأوروبية الغربية واليابانية المتفوقة بالتقارن النسبي مع نمو القدرة الإنتاجية للولايات المتحدة (خاصة فترة الخمسينات وحتى أواسط الستينات) وعودة الاقتصاد الأوروبي الغربي والياباني إلى الاقتصاد العالمي كشريك للولايات المتحدة ورفضه، على الأقل النظري، أن يكون تابعًا؛ مما دفع بعجلة التناقض بين الولايات المتحدة وحلفائها إلى الأمام.

إن هاتين المسألتين شكلتا الدوافع الرئيسية لبروز التناقض ضمن المركز الإمبريالي والتي نرى أن الفترة (1965-1973) كانت تشكّل أوج هذا التناقض[54] الذي بدأ يتجه نحو الركود، دون الانتفاء، مع نهاية عام 1971 وأزمة النقد الدولية ومن ثم مؤتمر الامبرياليين العشرة في واشنطن (كانون الأول 1971) الذي افتتح حوارًا للوقوف أمام هذا الوضع كان قد توقف منذ زمن. إلا أن هذا الركود لم يتحقق بشكل كامل إلا مع بداية عام 1974 بعد أن وجّهت الولايات المتّحدة لحلفائها الضربة «المقنّعة» عبر قطعها للنفط عنها في نهاية 1973. وركود هذا التناقض، كما سبق وذكرنا، لا يعني انتفاءه بعد فترة وجيزة عاد للنشاط وبرزت التحركات الاستقلالية لدى الأوروبيين، لا سيّما ألمانيا الغربية وفرنسا تبعًا لعودة النشاط إلى الاقتصاد الأوروبي الغربي واليابان في أواخر السبعينات على حساب الاقتصاد الأميركي، أي عودة التطور اللامتكافئ للبروز، مما دفع بإدارة الرئيس الأميركي ريغان حينها إلى «إعادة الأمور إلى نصابها» فرفع معدلات الفائدة على الدولار في الولايات المتحدة، فعادت رؤوس الأموال المالية الموظّفة بالحافظة في أوروبا واليابان إلى قواعدها... إلى الولايات المتحدة. مما أدى إلى أن يخفت التناقض وإلى ركود جديد في الاقتصاد الأوروبي، وبالتالي في اتجاهات الاستقلال.

وإن كنا رأينا بأن عناصر تبعية أوروبا الغربية واليابان للولايات المتحدة كانت تتولَّد من ذاتها فيما ذكر أعلاه، إلّا أن هناك عناصر أخرى مهمّة شكّلت وتشكّل عوامل جذب للكتل الرأسمالية الدولية وتدفعها أكثر فأكثر نحو الوحدة، وهي:

1– تنامي حركات التحرر الوطني في المستعمرات والبلدان التابعة وتبلور اتجاهات أكثر جذرية في التحرر من ربقة التبعية، وتأثيرات هذا التنامي على مجمل النظام الإمبريالي. والتي كان من أشدّها خطورة على تلك البلدان نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979 وما طرحته من تحدّيات على مجمل النظام السياسي الدّولي السّائد.
2– إن وجود المعسكر الاشتراكي وقدراته العسكرية الوازنة كان يلعب دور الورقة الرابحة بأيدي الإدارات الأميركيّة للضغط والتهويل على حلفائهم الأوروبيين، فإن زيادة في حدة التوتر بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة كانت تفرض على أوروبا الغربية واليابان مزيدًا من اللجوء للولايات المتحدة.
3– الوجود الكثيف والفاعل للرساميل الأميركية عبر التوظيف المباشر في أوروبا الغربية واليابان.
4– اتفاقية بريتون وودز، رغم تجاوزها من جانب معظم الشركاء، إلّا أنها كانت لا تزال الإطار العام الحاكم والمنظّم للعلاقات النقدية الدولية وتفرض تبعية النقد للدولار، هذه التبعية التي تعزّزت مع إجراءات الرئيس نيكسون عام 1971 (إلغاء تحويل الدولار إلى ذهب).
5– وللأزمات الاقتصادية دور مهمّ في الدفع نحو الترابط الإمبريالي، فنظرًا للترابط المُحكَم والجدلي فيما بين مراكز الاقتصاد الإمبريالي، فكان من الطبيعي أن تؤثّر الأزمات الاقتصادية على مجمل الوضع الاقتصادي للمعسكر الإمبريالي برمّته، مما يدفع نحو البحث المشترك عن الحلول لهذه الأزمات، وإلى الحرص المتبادل على توفير ما أمكن من شروط الحد من تفاقمها، ودعم أواليات مشتركة لمواجهة احتمالات حدوث الأزمة.

أخذ التشابك الاقتصادي بين بلدان المركز الإمبريالي مع ستينات القرن العشرين أبعادًا هائلة لم تكن متوفرة من قبل، والمتأتي أساسًا من تلك الحركة النّشطة لرؤوس الأموال فيما بين البلدان الإمبريالية نفسها للتوظيف والاستثمار المباشر، وهو ما سبق أن أشرنا إليه. وقد دفع هذا التشابك باتجاه سيادة سلطة الشركات المتعددة الجنسيات على مجمل الاقتصاد العالمي. وهو ما أكّد مرة أخرى على أن جوهر تطور الرأسمالية إنّما هو تطور احتكاراتها، وتطوّر هذه الاحتكارات أخذ منحى إزاحة التّمايزات القوميّة عن التأثير المباشر فيما بينها، ولتأخذ صفتها العالمية، وبالتالي وضع الصراع فيما بين المراكز الإمبريالية جانبًا، أو إلى مواقعٍ خلفيّة. ولم تعد «عالميّة» تلك الاحتكارات تقتصر على ما كانت عليه في عصر لينين، أي شركات ضخمة مقيمة في أحد المراكز الإمبرياليّة تمتدُّ أذرعتها إلى خارج حدودها القوميّة، فتنشئ فروعًا لها في المستعمرات لخدمة مركزها الرئيس في المتروبول، إن كان ذلك في الصناعات الاستخراجية أو التمهيدية أو فيما يساعد على توسعة أسواق تصريف منتجاتها.

وكمثالٍ على ذلك، فإن شركة «جنرال موتورز» الأميركية الشهيرة لصناعة السيارات لم تعد أذرعتها في الخارج، خلال تلك المرحلة، عبارة عن مجموعة من الشركات في المستعمرات تعمل على استخراج المواد الأولية وتمهيدها لاستخدامها في صناعتها، بل تعدَّت ذلك؛ لأنها أصبحت تمتلك فروعًا لها أو تساهم في شركات أخرى وتضمّها إلى كارتيلها في البلدان المتقدّمة نفسها ولصناعة السيارات الجاهزة للتصدير أيضًا (ألمانيا الغربية واليابان بشكل خاص) لا سيّما تلك الشركات التي كانت إلى أمد قريب متنافسة معها على السوق العالمية. إن «جنرال موتورز» انتهى دورها كشركة أميركية بحتة، أو شركة أميركية ممتدة إلى أسواق الولايات المتحدة في الخارج فقط، بل أصبحت شركة إمبريالية عالمية بكل ما في الكلمة من معنى.

مع هذا التطور الذي ساد على توظيفات رؤوس الأموال، لم يعد التنافس بين احتكار من دولة مع احتكار آخر من دولة أخرى يعني التنافس بين هاتين الدولتين يدفع بهاتين الدولتين إلى التناحر والتقاتل كما كان في النصف الأول من القرن العشرين. فإنّ الاحتكارات تخطّت حدودها القومية وأصبحت مصالحها في كافة الدول المتقدمة، ناهيك عن الدول التابعة. فـ«جنرال موتورز» لا تتنافس مع «ايسوو» اليابانية، وهي مندمجة معها، بل تتنافس مع «كرايسلر» الأميركية الجنسية أيضًا، وتندمج معها شركة «ميتسوبيشي» اليابانية أيضًا. وكذلك هو الحال بالنسبة لشركات إنتاج الحاسبات والآلات الإلكترونية الأكثر تعقيدًا، فالتنافس الأكثر أهمية هو بين «آي.بي.أم» الأميركية وشركة «أن.سي.آر» التي يحمل أكثرية أسهمها أميركيون أيضًا، وهما تسيطران تقريبًا على معظم عمليات إنتاج الآلات الإلكترونية في العالم.

وعلّ هذا التشابك يبدو أكثر وضوحًا في شركات النفط وغيرها من شركات استخراج المواد الأولية حيث تتشابك المصالح ورؤوس الأموال لبلدان المركز الإمبريالي كافة فيما بينها، وتكاد أن تنتفي الجنسية عن أي من هذه الشركات[55].
إن الكلام عن تناقض يقوم ضمن بلدان المركز الإمبريالي، في زمن الشركات متعددة الجنسيات، أصبح من الماضي، فهو يعود إلى مرحلة «الإمبرياليات القوميّة» و«شركاتها القوميّة» التي أنتجب حروبًا قوميّة. وهذا التناقض أصبح من الماضي كما هي حال الدولة القوميّة التي أصبحت أيضًا من الماضي. وأن عودة التناقض التناحري يستدعي أولًا، وقبل كل شيء، عودة المشاعر القوميّة في دول المركز الإمبريالي إلى التأجّج والاشتعال، ويكون بمقدرة هذا التأجّج للمشاعر القوميّة أن يطيح بهيمنة الشركات المتعدّدة الجنسيّات على القرار السياسي والاقتصادي في تلك الدول. وحتّى ذاك الحين، فإن كان من ملاحظة بروز تناقضٍ ما في مدارات الجسم الرأسمالي، فإنّما يعبّر عن محاولات الشركات القوميّة لحماية نفسها والمحافظة على استقلاليتها بمواجهة الشركات المتعدّدة الجنسيات التي لا تتردّد في اقتحام مواقعها وتسعى للسيطرة عليها. ولكنّه رغم ذلك، فهو يبقى تناقضًا تحت السيطرة، والكلام عنه يجب وضعه ضمن سياقه الموضوعي وحجمه الطبيعي ويتم ربطه بمجموعة المسائل التي تمنع استفحاله وتنظّم مجمل العلاقات فيما بينها، فهو تناقض أقرب ما يكون إلى التنافس المنظم والمهذب على مستوى مجمل البلدان الإمبريالية، من أن يكون تناقضًا بين دول تقف وراء احتكاراتها الوطنية يؤدّي إلى التناحر فيما بينها. وهذا التناقض يؤثر على العلاقات دون أن يحكمها أو يَسِمُها بطابعه، وتبقى نقاط التجاذب التي تتشكّل من مجموعة القضايا والمصالح المشتركة لبلدان المركز الإمبريالي هي السمة الغالبة على هذه العلاقات.

ج- ش.م.ج. تجدّد وسائل استتباع المستعمرات
رأينا بأن ما يفسّر تنامي أهمية رؤوس الأموال المتحركة ضمن بلدان المركز الإمبريالي إنما هو التطور الذي طال طبيعة الاحتكارات الذي نجم عنه بناء منظومة قابضة على مجمل اقتصادات العالم، المتطور منها والمتخلّف. أي أنّها ليست بسبب الأخطار السياسية أو «فقدان بريق مجموعة المسائل التي تشكّل جاذبًا لرؤوس الأموال من البلدان المتقدمة إلى البلدان المتأخّرة» كما ذكر بيار جالييه، ولا هي في سبيل «تنمية الإنتاج القومي في المركز الإمبريالي» كما ذكر حمزة علوي، فأواليات السيطرة على أسواق العالم تفعل منذ زمن، وهي في ارتقاء مستمرّ. فنمط الشركات المتعدّدة الجنسيات بدأ مع الهجوم الأميركي على المستعمرات الأوروبية السابقة لمشاركة احتكارات الدولة المسيطرة سابقًا في نهب مناجم ومزارع الدولة التابعة، وهذه المشاركة لم تتم بقرار سياسي أو بفعل تلكّؤ الاحتكار القديم في المحافظة على امتيازه، بل تم نتيجة دخول الرساميل الأميركية في الشركة الأم، في رأس هرم الاحتكار الموجود في المتروبول. أي أن اتجاه رؤوس الأموال المصدرة إلى الخارج من الولايات المتحدة نحو أوروبا الغربية واليابان، كان بهدف السيطرة على الشركات التي تسيطر بدورها على اقتصادات المستعمرات. وهذا ما دعم بشكل كبير سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على تلك المستعمرات وتنحية الإمبراطوريات الاستعماريّة السابقة عن الفعل الحاسم فيها.

أسهم هذا التطور في طبيعة الشركات المتعددة الجنسيات في مضاعفة سطوتها ونفوذها في العالم أجمع. وباتت القوة الضاربة والمتحكّمة باتجاهات الدول التابعة وسياساتها التنموية، والضاغطة على سياسات الدول الاستعماريّة السابقة لتنخرط أكثر فأكثر في توجّهاتها على مستوى عالمي. وأدخلت تعديلات على تقسيم العمل الدّولي بحيث لم يعد هذا التقسيم قائمًا على طرف يصدّر المواد الأولية، وآخر يصدّر السلع المصنّعة. فالتطوّرات التكنولوجية الهائلة التي أدخلت على الآلة والصناعات الضخمة والأساسية لم تعد في نظام الشركات المتعددة الجنسيات مستوطنة فقط في دول المركز الرأسمالي، بل إن العالم بأسره بات مركزًا لهذه الشركات ومرتعًا لمشاريعها ومنشآتها، إلّا أنّ أداة السيطرة والضبط متوفّرة من خلال الخريطة الصناعية والتجارية والاستخراجية التي تمسك بخيوطها هذه الشركات جيّدًا.

فلم تعد، على هذا النحو، الإمبريالية عقبة كأداء بوجه تصنيع البلدان «المتخلّفة» كما ذكر أرنست ماندل[56]، بل المسألة هي في أي صناعة هذه، وما هي مفاعيلها على السوق الداخلية، وهل تسهم في تنمية اقتصاد مستقل؟ أو أنّها تعيد إنتاج التبعيّة بصيغة موسَّعة؟
يعيد الدكتور مهدي الحافظ ظاهرة «التفاوت في التطور الاقتصادي والاجتماعي بين الأمم» إلى جانب كونها امتدادًا لعهود السيطرة الكولونيالية ولتقسيم العمل الرأسمالي الدولي، إلى أنها «انعكاس لهيمنة وممارسات الشركات متعددة الجنسيات في البلدان النامية، والتي تمثّل أخطر وسائل الرأسمال الاحتكاري لمواصلة الاستغلال الإمبريالي في الظروف العالمية المعاصرة»[57].

ويعرض الدكتور فؤاد مرسي مثلين حول عمل الشركات متعددة الجنسيات في المنطقة العربية، المثل الأول يأخذه من المملكة العربية السعودية، حيث طرحت شركة ماركونا الأميركية للتعدين وبناء السفن فكرة مشروع متكامل للصلب وكوّنت لتنفيذه مجموعة مالية مع عدد من الشركات الدولية تتقاسم كلّها مع شركة بترومين السعودية ملكية المشروع مناصفة بينهما. واتفق على أن تقوم الناقلات العملاقة بنقل خامات الحديد من البرازيل إلى المملكة، حيث يتمّ إنتاج الحديد والصلب على أن يتم تصدير الإنتاج إلى أوروبا واليابان. إنّ اعتماد هذه الصناعة على الغاز الطبيعي الذي تقدّمه المملكة للشركة بالمجان، يجعل تكلفة إنتاج الشركة أقل من تكلفة أي صلب في العالم.
والمثل الثاني يأخذه من البحرين، حيث تقوم شركة ألمنيوم البحرين (ألبا) التي تملك حكومة البحرين 19% من رأسمالها، بينما تتملك الباقي مصالح أميركية وبريطانية وألمانية وسويدية، قد اعتمدت على استيراد مادة الألمنيوم الخام (البوكسيت) من أستراليا لتتولى تحويلها في البحرين بفضل الغاز الطبيعي الموجود بوفرة فيها، والذي لم يكن بالوسع نقله إلّا بتكلفة عالية، وهكذا ينتج في البحرين ألمنيوم نقي بهدف التصدير إلى الخارج.

ويرى الدكتور مرسي من خلال هذين المثالين أن المشكلة الجوهرية؛ لهذا النمط من التصنيع هي «في أنه يتخذ من البلد العربيّ محطة للإنتاج فحسب، مستفيدًا -إن صح التعبير- من المزايا النسبية لهذا البلد وبخاصة من خاماته أو طاقاته أو موقعه لإنتاج منتجات معدّة للسوق العالمية؛ ولهذا فهو نمط للتصنيع يقيم في رأينا صناعة عابرة على غرار التجارة العابرة». ويرى بأنّ هذا النمط من التصنيع العابر إنما «يهمل عن قصد ومنذ البداية السوق المحلية من جانبيها: جانب العرض أي الإنتاج؛ إذ إنه لا يعنى بتحقيق أي تشابك صناعي أمامي أو خلفي في الاقتصاد القطري، وجانب الطلب أي الاستهلاك؛ إذ إنه لا يأخذ في الاعتبار الطلب المحلي»[58].

ويعرض الدكتور إسماعيل صبري عبد الله مثالًا من البرازيل وصناعة سيارة «فولكس فاغن» فيها والتي يتم توزيعها من خلال شبكات توزيع الشركة الأم حيث يستنتج بأن التبعية تمتد إلى المستوى التجاري ويقول: «فنمط التصنيع الذي يعتمد على التصدير يسلّم أمره بالضرورة للشركات متعددة الجنسيات، فالأسواق العالمية تحت سيطرة تلك الشركات، ولا سبيل لدولة نامية للتصدير على نطاق واسع إلا بالانضواء تحت لوائها، والدخول في إحدى شبكات التوزيع التي تنظمها، والقنوع بالثمن الأرخص والنصيب الأدنى»[59].
ونقدّم مثالًا آخر لعمل الشركات المتعددة الجنسيات من الصين: عام 2012 قامت شركات أجنبيّة بتأسيس شركة سجّلتها في الصين تحت اسم «الشركة الوطنية الصينية لنفط أوزباكستان» (CNPO) وعقدت اتفاقيات شراكة مع شركة النفط الصينية الحكوميّة (CNPC) حصلت الشركة الأجنبية بموجبه على حقوق الاستثمار باسم الشركة الحكومية الصينية في قطاع النفط والغاز في أوزباكستان وامتلاك حقوق تطوير حقول النفط في «جاللاباس» الأوزباكستانية، مقابل أن تكون للشركة الصينية الحكومية حصة في الأرباح والأفضليّة في شراء الإنتاج.

فما استحوذت عليه الشركات المتعددة الجنسيات من قوّة ونفوذ هائلين، ساعداها على فرض تبعية من درجة عالية على كافة الدول «المتخلّفة» وحتى على الشركات العملاقة القوميّة في الدول الرأسماليّة من خلال عدم التكافؤ بين كل من هذه الشركات وأي من تلك الدول، إن كان من حيث القوة المالية أو من حيث درجة التكنولوجيا، ولا حتى من حيث سعة المعرفة بالأسواق وشبكات التوزيع، وكذلك، وبشكل أساس، من حيث النفوذ السياسي والأمني على المستوى الدولي. فهذه العناصر أتاحت لهذه الشركات عددًا إضافيًّا من حيثيات تثبيت التبعية وتعميقها:

نهب ثروات وطاقات الدول المستتبعة في ظروف أفضل بأقل تكلفة وأكثر مردوديّة.
فتح مجالات أوسع وبشكل أكثر سلاسة لتحقيق مزيد من الاختراقات للبنية الاجتماعية بدمج إطارات محليّة من أبناء المستعمرات في أنشطة هذه الشركات. وإفساد جهات نافذة في مواقع القرار السياسي والاقتصادي وربطها بها من خلال السمسرة والعمولات والرشاوى مقابل تسهيل عمل هذه الشركات.

زج اقتصادات المستعمرات في سياسات اقتصاديّة غير منتجة (تجهيز البنى التحتية للاقتصاد كشق الطرق وتعبيدها وبناء الجسور وغيرها، وهي بذاتها لخدمة الاستثمارات الأجنبية بشكل خاص التي تتولّى بنفسها تحديد الأولويّات فيها وتنفّذها بنفسها على حساب ماليّة الدولة بموجب عقود دين عليها، ممّا يؤدّي إلى وقوع الاقتصاد في فخ الاستدانة الخارجيّة حيث تقتنص هذه الشركات عجز المستعمرة عن الوفاء بالدّين لتسليط يد صندوق النّقد الدّولي عليها، وهو أحد أذرع هذه الشركات، ولوضع السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة بما يضمن السيطرة على السلطة السياسية في البلاد وجعلها رهينة لهذه الشركات.

الطبيعة الرّاهنة للشركات المتعددة الجنسيات
وفي المحصلة، فإن الشركات المتعددة الجنسيات، بما كانت عليه في المرحلة السابقة كأداة للسيطرة وتعميقها متشكّلة ومتمركزة في قلب المركز الإمبريالي، طوّرت أدواتها ووظائفها لتأخذ موقعًا جديدًا أكثر عمقًا وفاعلية في إخضاع العالم ونهبه بشكل مباشر متجاوزة المراكز الإمبريالية. ومن ضمن ميزات هذا الشكل الجديد أنّها وَطَّنت بعض أذرعها خارج دول المركز الإمبريالي التقليديّة، وأنّها أعادت صياغة الشراكات الاقتصاديّة الدّوليّة على ضوابط جديدة تحت عناوين العولمة واتفاقيات التجارة الحرّة والأبواب المفتوحة أمام حركة السّلع والبضائع ورؤوس الأموال.

إن هذا النموذج الذي باشرت هذه الشركات بتنفيذه منذ العقد الأخير للحرب الباردة، وساد منذ تسعينات القرن الماضي، حيث بدأ يحكم العلاقة بين البلدان التابعة والبلدان المسيطرة، لم يكن في حقيقته إلا تعميقًا للتبعية وشكلًا أعلى وأكثر ضبطًا لها، وأدّى إلى إحداث تغيير في شكل تقسيم العمل الدولي الكلاسيكي، وطبعًا دون مساس الجوهر، ومن ضمن هذا التغيير الشكلي ظهور حركة كبيرة من الاستثمارات والتوظيفات الماليّة القادمة من دول آسيويّة في عدد كبير من الاقتصادات العالميّة، ومنها الاقتصادات العظمى كالاقتصاد الأميركي واقتصادات أوروبا الغربيّة. وقد أسهم كلُّ ذلك في التأسيس لسطوة النظام الطاغوتي الرّاهن.

إن التداخل الكبير فيما بين مصالح الشركات المتعددة الجنسيات العملاقة، وهي سبع شركات قابضة وكلها تحت قبضة البيوتات المالية اليهوديّة، جعلها هذا التداخل أبعد ما يكون عن التنافس فيما بينها ولتصبح جميعها تأتمر بتوجيهات ما يُطلق عليه اسم «المجلس الأعلى للشركات الأميركيّة» الذي أخضع العالم لنظامٍ أطلق عليه القرصان الاقتصادي الأميركي جو بركنز في اعترافاته اسم الـ(Corporatocracy).
بذلك أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات في المرحلة الرّاهنة تشكّل الوجه الاقتصادي لمنظومة النّهب الدّولي، وباتت تتّصف بأواليات صلدة ومرنة في آن معًا: صلدة في مواجهة أي تحدّيات تواجهها، ومرنة في علائق الاستثمار التي تنتجها. وهي صفات لم تكن متوفّرة لها في المرحلة السّابقة بسبب متطلّبات الجغرافيا السياسية وطبيعة العلاقات الدوليّة في ظل توازن القطبين الدوليين؛ ولذلك نرى التدخُّل العسكري، أو التّلويح به واردًا كلّما وأينما وجدت ذلك ضروريًّا لسلاسة انسياب مصالحها حول العالم. يتأتى ذلك من جبروتها المالي ومن كون خيوط تشكّل هذه الشركات يحكمه نسيج تأخذ كل عناصره أماكنها فيه بدقة وإحكام يصعب اختراقها ويستحيل تسرّب الوهن إلى مفاصلها. وهي بالتالي الإعلان الرأسمالي الصارم بعقم الطرح القائل بالاتجاه التاريخي الحتمي للرأسمالية نحو التعفُّن والانهيار بنفسها، إنه شكل تجدّد شباب رأس المال باستغلاله وقهره، ليس لقوة العمل فحسب، إنما للشعوب عامة، ولتتمظهر كمنظومة متكاملة للنّهب الدّولي، والمنظومات، بما هي تملك أدواتها الذاتيّة للتجدُّد، وليست محكومة بتناقضات أو منازعات داخليّة، فإنّ كسرها لا يتمّ من داخلها، إنّما بالمواجهة، والمواجهة من خارجها. فالمواجهة مع خارجها هي التي ستؤسّس لبروز التناقضات في داخلها.

الخاتمة
إن تطوّر الرأسماليّة وانتقالها إلى هذا الموقع المتقدِّم في السيطرة والإخضاع، لم يكن ممكنًا من دون ما أنجزته الأدوات السياسية والثقافية والإعلاميّة والتربويّة في هجومها على البنى الحضاريّة والثقافية للمجتمعات المستهدفة بالإخضاع. وهو ما أهّلها لفرض سيادة الأيديولوجيا الملائمة لمصالحها ولتطوّرها بدءًا من مجتمعات أوروبا الغربية، وصولًا إلى مجتمعات المستعمرات، وقد استخدمت في سبيل ذلك كل الوسائل المتاحة لاختراق وتدمير كلّ ما هو سابق عليها، بعد أن سفّهته وشوشّت عليه وعلى كل القيم والمبادئ الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تضبط وحدة تلك المجتمعات. وبالتالي، فإنّ استعادة تلك المجتمعات لحريتها يستوجب استعادتها لوحدتها المجتمعيّة التي تتجسّد في منظومة القيم الأصليّة التي قامت عليها مجتمعاتها. وإنّ أيّ تطوير أو تحديث لهذه القيم يجب أن يتم تبعًا لمدى احتياج المجتمع للتحديث ليكون هذا التحديث عملية ناتجة عن الإرادة الذاتية ولمصلحة تطوّر المجتمع وليس لمصلحة تطوّر قوانين الإخضاع والسيطرة.

لائحة المصادر والمراجع
كتب ومقالات:
عبد الله، إسماعيل صبري، «نحو نظام اقتصادي عالمي جديد»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977.
الأشقر، جلبير، «صدام الهمجيّات»، دار الطليعة، بيروت، 2002.
بركنز، جون، «اعترافات قاتل اقتصادي»، منشورات دار مكتبة الفقيه، بيروت، 2013.
بن عباس حمودي، «دور الاستثمار الأجنبي المباشر في التنمية الاقتصادية: حالة الصين»، كلية العلوم الاقتصادية، جامعة بسكرة، الجزائر، 2012.
التوراة اليهوديّة، «كتاب أيّوب»، 40: 15-24.
تيبيرمان، جوناثان، «الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالمٍ يتداعى»، ترجمة أشرف سليمان، سلسلة «عالم المعرفة» العدد 494، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، أيار 2022.
جالييه، بيار، «الإمبريالية عام 70»، ترجمة فؤاد مرقص، دار الحقيقة، بيروت، 1970.
جيمي كارتر، «مذكرات البيض الأبيض»، ترجمة سناء شوقي حرب، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، ط. الأولى، 2012.
حمزة علوي، «الإمبريالية الجديدة»، ترجمة كمال أبو الحسن، دار الطليعة، بيروت، 1970.
خليل أحمد خليل، «تاريخ الأفكار السياسيّة»، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط. الأولى، 1984.
شبينغلر، أوسفالد أرنولد: «تدهور الحضارة الغربية»، ترجمة احمد الشيباني، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1970.
صالح، هيثم، «فن العيش الحكيم لشوبنهاور»، مقالة في مجلة «الحداثة»، بيروت، العدد 217 – 220 صيف وخريف 2021.
فقيه، محمد نعمة، «منظومة النّهب الدولي: سيرورتها من القرصنة والاستعمار إلى العولمة وطغيان الطاغوت»، منشورات دار مكتبة الفقيه، بيروت، 2023.
فقيه، محمد نعمة، «التبرير الفلسفي لغزو العالم»، مقالة في مجلة «الاستغراب»، العدد 29.
مرسي، فؤاد، «الرأسمالية تجدّد نفسها»، سلسلة «عالم المعرفة» رقم 147، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 1990.
مرسي، فؤاد، «نحو استراتيجية شاملة للتنمية الاقتصادية العربية (2) – مأزق التنمية من خلال التكامل الدولي»، مجلة «دراسات عربية»، عدد شباط 1978، دار الطليعة، بيروت.
فوكوياما، يوشيهيرو فرانسيس، «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1993.
فيبر، ماكس، «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، ترجمة: محمد علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990.
فيبر، ماكس، «مقالات في علم الاجتماع الاقتصادي»، جمع وتحرير ريتشارد سويدبرغ، ترجمة ابتسام خضرا، «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، بيروت، 1921.
ماندل، أرنست، «النظرية الاقتصادية الماركسية»، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت، 1972، الجزء الثاني.
شفيق، منير، «الشركات المتعددة الجنسيات – ستار للنهب والقهر الإمبريالي الأمريكي»، مقال في مجلة «دراسات عربية»، شباط 1978، دار الطليعة، بيروت،
الحافظ، مهدي، «استراتيجية التنمية الدولية إلى أين»، دراسة في جريدة «السفير» البيروتية، 24/ 5/ 1981.
المهدي المنجرة، «الإهانة في عهد الميغا إمبرياليّة»، ط. الخامسة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2007.
عودة، نبيل، «ضد الانغلاق الفكري .. ضد الهرطقة النقديّة»، مقالة في صحيفة «دنيا الوطن» الفلسطينية، 11/11/2017.
نهرو، جواهر لال، «لمحات من تاريخ العالم»، منشورات دار مكتبة الفقيه، بيروت، 2022.
هيرتس، نورينا، «السيطرة الصّامتة: الرأسماليّة العالميّة وموت الديموقراطيّة»، ترجمة: صدقي حطّاب، سلسلة «عالم المعرفة» رقم 336، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 2007.
Dobbs, Michael: «Josef Korbel’s Enduring Foreign Policy Legacy», «Washington post”, 28/ 12/ 2000.
Shaoming Cheng, «From East to West: The Evolution of China’s FDI Preferential Policies». Journal of the Washington Institute of China Studies, spring 2006, V. 1, No. 1.
Sombart, Werner: «The Jews and Modern Capitalism», Translated by M. Epstein, Batoche Books, Kitchener, Ontario, Canada, 2001.

مراجع على شبكة الانترنت:
الفوضى الخلاقة: على موقع ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki الاطلاع الأخير: 15/ 6/ 2022.
Deng Xiaoping, People.com.cn, 10 /7 /2007، وثيقة مقدّمة لأعمال المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني وقد نُشرت في النشرة اليوميّة لـ«شبكة الصين» قبل انعقاد المؤتمر المُقرّر في تشرين الأول 2007 حول حياة ونضال دينغ شياو بينغ.

ويكيبيديا: سوهارتو https://ar.wikipedia.org/wiki
يانغ جيتشي، «احترام التاريخ واستشراف المستقبل والحفاظ على استقرار العلاقات الصينية - الأميركية»، مقالة في النشرة العربية لوكالة الأنباء الصينية الرسميّة. http://arabic.news.cn/2020-08/10/c_139279739.htm

الصين اليوم، متوفر على الانترنت:
http://www.chinatoday.com.cn/Arabic/2008n/0810/p9.htm


-----------------------------------
[1][*]- باحث ومحاضر في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي.
[2]- للتوسّع حول مفهوم «منظومة النّهب الدولي» في تكوّنها وتطوّرها وتحوّلها إلى سلطة طاغوتيّة تحكم العالم، راجع كتابنا: «منظومة النّهب الدّولي».
[3]- يمكن هنا الاستفادة من العمل القيِّم للاقتصادي المصري الدكتور فؤاد مرسي الذي رصد أواليّات ما شهدته الرأسماليّة في النصف الثاني من القرن العشرين من تحوّلات مكّنتها من الحصول على مزايا إضافيّة لتجديد نفسها وتطوير قدراتها على التكيّف في كتابه: «الرأسماليّة تجدّد نفسها»، سلسلة «عالم المعرفة» رقم 147.
[4]- د. مرسي، فؤاد «الرأسماليّة تجدّد نفسها»، م.س، ص7-8.
[5]- الأشقر، جلبير «صدام الهمجيّات».
[6]- المهدي المنجرة، «الإهانة في عهد الميغا إمبرياليّة»، ص8.
[7]- قد تكون إحدى الخطوات المتسرّعة هي إقدام الشركات القابضة على تجارة النفط عام 1990 على رفع سعر برميل النفط الشهري بشكل هستيري بهدف تحقيق الأرباح المباشرة مستغلّة اجتياح العراق للكويت. فقد ارتفع السعر من 17 دولارًا للبرميل إلى 40 دولارًا، وهو ما أمّن مداخيل إضافيّة للجمهورية الإسلاميّة في إيران التي كانت قد خرجت لتوِّها من حربٍ مدمّرة على مدى ثماني سنوات شنّتها عليها الولايات المتحدة الأميركيّة ومعسكرها الغربي وأدواتها الإقليميّة بواسطة نظام صدّام حسين في العراق. وقد وفّرت هذه المداخيل، وأيضًا حالة اصطفاف القوى المعادية لها في حربٍ كانت تتوخّى فيها بقاء إيران على الحياد، وفّرت لإيران المال والوقت الضروريين لإعادة بناء ما دمّرته الحرب وكذلك إعادة هيكلة اقتصاداتها وبناء قدراتها العسكريّة. وخطوة متسرّعة أخرى تتمثّل في إقدام البورصات على دفع سعر الذهب إلى الارتفاع بشكل كبير ما بين عامي 2005 و2011، حيث ارتفع سعر أونصة الذهب من 450 دولارًا إلى 1920 دولارًا ممّا وفّر لروسيا، وهي من أكبر منتجي الذهب في العالم، مداخيل نقديّة هائلة أعادت بها بناء اقتصادها وتعزيز قدراتها العسكريّة. وبالحالتين كان بالوسع تدارك ذلك، ولكن...؟
[8]- الفوضى الخلاقة: على موقع ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki الاطلاع الأخير: 15/ 6/ 2022.
[9]- م. ن.
[10]- Michael Dobbs, «Josef Korbel’s Enduring Foreign Policy Legacy», «Washington post», 28/12/2000
[11]- برودون، جوزيف Pierre-Josephe Proudhon، (1808-1865) فيلسوف واقتصادي وعالم اجتماع فرنسي. أول كتبه المهمّة هو كتاب «ما هي الملكيّة» الصادر عام 1840 والذي توصّل فيه إلى أن الملكيّة سرقة. توطّدت علاقته بكارل ماركس بعد صدور كتابه هذا وعملا معًا في إطار «المنظمة الدّوليّة للعمّال». وتخاصما بشدّة بعد صدور كتاب برودون «فلسفة البؤس» وردّ عليه كارل ماركس بسخرية شديدة في كتابه «بؤس الفلسفة» وهو ما أدّى إلى انشقاق في صفوف الحركة العمّاليّة بين اتجاه ماركسي يدعو لديكتاتوريّة البروليتاريا كخطوة على طريق بناء المجتمع الشيوعي، واتجاه نادى به برودون يدعو إلى اللاسلطويّة (Anarchisme). ولكن برودون انضمّ لاحقًا إلى المنظمة الماسونيّة وخاض الانتخابات باسمها ونجح لعضويّة المجلس الوطني التأسيسي الفرنسي عام 1848.
[12]- راجع حول ذلك:
- تيبيرمان، جوناثان «الإصلاح: كيف تنجو الأمم وتزدهر في عالمٍ يتداعى».
[13]- «نمور آسيا» أو «نمور جنوب شرقي آسيا»، هو لقب يطلق على اقتصادات دول: تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ، كوريا الجنوبية، اندونيسيا، ماليزيا وتايلاند.
[14]- موقع ويكيبيديا: سوهارتو https://ar.wikipedia.org/wiki
[15]- موقع ويكيبيديا: سوهارتو https://ar.wikipedia.org/wiki، م. س.
[16]- راجع حول دور منظومة النّهب الدّولي في تسهيل هذا الفساد عند:
- بركنز، جون «اعترافات قاتل اقتصادي»، ص45-53.
[17]- نبيل عودة، «ضد الانغلاق الفكري .. ضد الهرطقة النقديّة»، مقالة في صحيفة «دنيا الوطن» الفلسطينية، 11/ 11/ 2017. ومن المفيد هنا ملاحظة أن الأعلام الذين يقدّمهم عودة كمؤسسين للحداثة في القرن التاسع عشر عُرِف عنهم إعاقات نفسيّة وخلقية كالانفصام (فلوبير) والنرجسيّة (بودلير) والاكتئاب (مايكوفوسكي). وقد يكون من جراء ذلك نرى استمتاع فلوبير بسرد تفاصيل الخيانة الزوجية للمدام بوفاري وتبريره لهذه الخيانة، في الوقت الذي نرى استمتاعه بسرد تفاصيل معاناتها من السُّم الذي تجرّعته جزاء ما اقترفته من خيانة، حين دخلت في خلجات الموت. والأمر نفسه مع بودلير في «أزهار الشر» (Les Fleurs du Mal) الذي قال موضحًا في أول فرصة لتقديم الديوان، «لقد بدا لي الأمر مسلّيًا، وأكثر من ذلك جذابًا، أن أميط اللثام عن جمال الشر»، وهو الذي عانى في طفولته من اضطهاد زوج أمّه وتسلّطه، مثلما عانى في شبابه من مرضٍ جنسي (الزهري) فأودى بحياته.
[18]- للتوسُّع حول الدّور الذي اضطلعت به الكنيسة في تشجيع العلوم والاكتشافات العلميّة والجغرافيّة، راجع كتابنا: «منظومة النّهب...»، مرجع مذكور، «الكنيسة الكاثوليكية وتشجيع العلوم»، ص47 -50 .
[19]- يمكن هنا مراجعة أعمال ماكس فيبر، لا سيّما كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسماليّة» وأعمال فيرنر سومبارت لا سيّما منها:
Sombart, Werner: «The Jews and Modern Capitalism», Translated by M. Epstein, Batoche Books, Kitchener, Ontario, Canada, 2001.
[20]- توسّعنا في عرض ومناقشة هذه المسألة في مقالتنا «التبرير الفلسفي لغزو العالم»، مجلة «الاستغراب».
[21]- لال نهرو، جواهر «لمحات من تاريخ العالم».
[22]- م.ن.
[23]- ناقشنا هذه المقولات بمزيد من التفصيل خلال الفصلين الأوّل والثاني من كتابنا: «منظومة النّهب الدّولي».
[24]- اشتهر جورج باتاي (Georges Bataille) بكتاباته الرّافضة للقيم الاجتماعيّة الموروثة لاسيّما منها الضوابط الأسريّة وأخلاقيّاتها عبر مجموعة من الكتابات الشّبقيّة بقالبٍ سريالي، وهو سبق عالم النفس اليهودي سيغموند فرويد في تبرير سفاح المحارم في روايته «أمّي». وإذا كان فرويد اعتبر مثل هذه العلاقات الجنسيّة تنجم عن حالات نفسانيّة معيّنة، فإن باتاي في روايته تلك يبرّرها باعتبارها احتياجات ورغبات تولد في حينها كنتيجة لتفاعلات مباشرة.
[25]- يعود وصف «بوهيمي» إلى حياة الغجر في منطقة بوهيميا، وهي جمهورية تشيك الراهنة، ويعود التداول بهذه التسمية إلى منتصف القرن التاسع عشر حين نشر الفرنسي هنري مورجيه عام 1845مجموعة قصصية عن حياة الغجر باسم «مشاهد من الحياة البوهيمية»، إلّا أنّه لم يصبح مصطلحًا دالًّا على نمط تفكير أو كتابة أو حياة إلّا في القرن العشرين حيث بدأ يستخدم هذا المصطلح لوصف فنانين وكتّاب يعيشون ويدعون إلى التفكير الحر المطلق وبلا أي قيد اجتماعي أو أخلاقي، محاولة منهم لإضفاء أسلوب خاص في نتاجهم الأدبي أو الفني. لذلك فهم لا يمتثلون في سلوكهم وأعمالهم إلى أعراف المجتمع وتقاليده. بالإضافة إلى أنه استخدم لوصف نوع من الديكور العشوائي غير مقيد بفكرة محدّدة.
[26]- تعود «الفوضويّة» كمدلولٍ على توجّه فكري – سياسي إلى القرن التاسع عشر، ويمكن تلمُّس جذورها في الفلسفات الكلبيّة الإباحيّة التي اشتهرت في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد والتي رفض أتباعها القيَم والتقاليد كافة، سواء كانت باسم الدين، الأخلاق، أو كانت تتعلق باللباس، أو اللباقة أو غيرها من القيود الاجتماعية، ونادوا بأسلوب حياة بسيط وغير مادي يهدف إلى الفضيلة. وفي القرن التاسع عشر عاد هذا المفهوم للبروز مع الفيلسوف الألماني شوبنهاور ليقدّم آراء توحي بسلبية شديدة تجاه السلطات وبالقدر نفسه تجاه معارضيها، وعبّر عن ارتياب عام في نزاهة دوافع الآخرين، خصوصًا فيما يتعلّق بالدعوات الأخلاقية. (من المفيد مراجعة حياة شوبنهاور وأثر مجون والدته وانحرافاتها الأخلاقية في فلسفته، وقد أشار إليها الدكتور هيثم صالح في مقالته بمجلة «الحداثة» العدد 217 – 220 صيف وخريف 2021. وسيتبلور هذا المفهوم في القرن العشرين ليعبّر القائلون به عن رفضهم لأي شكل مفروض من أشكال السلطة ويروّجون لمقولة أن الجماعات البشريّة قادرة على تنظيم ذاتها تنظيمًا مستقلًا وفقًا لرغباتها وإراداتها بعيدًا عن السلطة السياسيّة. راجع حول ذلك:
- د. خليل أحمد خليل، «تاريخ الأفكار السياسيّة»، ص227-228.
[27]- أرنولد شبينغلر، أوسفالد (Oswald Arnold Gottfried Spengler) (1880-1936)، مؤرخ وفيلسوف ألماني، أشهر مؤلفاته الكتاب الذي ترجم إلى العربية بجزءين عام 1969 بعنوان «تدهور الحضارة الغربية» عن دار مكتبة الحياة في بيروت وترجمة أحمد الشيباني، والذي يعرض فيه نظريته عن قيام الحضارات وسقوطها، وأن ذلك يتم بشكل دوري، ويغطي كل تاريخ العالم. وقدّم نظرية جديدة جعل فيها عمر الحضارات محدودًا وأن مصيرها إلى الأفول، ولعلّه تأثّر بما كتبه العلّامة ابن خلدون حول أدوار الدول.
[28]- يُعتبر لوي ألتوسير من أهم منظّري الحزب الشيوعي الفرنسي في القرن العشرين، ولكن الإحباط الذي أصابه مع أزمة الفكر الماركسي دفع به إلى حائط مسدود وأن المجتمعات متّجهة نحو الوحشيّة. فوقع في اضطرابات نفسيّة شديدة أدّت إلى أن أقدم عام 1980 على قتل زوجته خنقا خوفًا عليها من أن تحيا في عالم وحشي. ولكن القضاء قرر أن ألتوسير لا يتحمّل المسؤولية القانونية عن أعماله ولم يحاكم بل أدخل إلى مستشفى سانت-آن النفسي.
[29]- يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما، Yoshihiro Francis Fukuyama، فيلسوف واقتصادي أميركي مواليد 1952، اشتهر بكتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الصّادر عام 1992، والذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان. ارتبط اسمه في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان بالمحافظين الجدد، ولكنه أبعد نفسه عنهم في فترات لاحقة. يعمل منذ 2010 في مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون بجامعة ستانفورد.
[30]- استعرنا هنا مفردة «أرجوزة» التي تستخدم عادة من مصدر الرَّجز، بمعنى قصيدة على بحر الرّجز، فاشتققناها من مصدر «الرِّجْزُ» أي الشِّرك، رِجْزُ الشيطان: وسوسته.
[31]- ورد عند نبيل عودة، المرجع المذكور.
[32]- أصبح وزيرًا للخارجية فيما بعد.
[33]- نورينا هيرتس (Noreena Hertz)، اقتصاديّة بريطانية معاصرة، عملت ضمن بعثة البنك الدولي إلى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتأسيس سوق للأوراق المالية في موسكو، وتقديم المشورة للسلطات الروسية حول برامج الخصخصة.
[34]- نورينا هيرتس، «السيطرة الصّامتة: الرأسماليّة العالميّة وموت الديموقراطيّة»، ص13.
[35]- التوراة، «كتاب أيّوب»، 40: 15-24.
[36]- هيرتس، م. س، ص14.
[37]- يانغ جيتشي، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، «احترام التاريخ واستشراف المستقبل والحفاظ على استقرار العلاقات الصينية الأميركية»، مقالة في النشرة العربية لوكالة الأنباء الصينية الرسميّة.
http://arabic.news.cn/2020-08/10/c_139279739.htm
[38]- م. س.
[39]- راجع حول الخلاف والانشقاق ما بين الأحزاب الشيوعيّة حول الموقف من قضايا المستعمرات وحركات التحرّر الوطني في كتابنا «منظومة النهب الدولي»، مرجع مذكور، في المبحث «ب- الماركسيون وقضايا المستعمرات» من الفصل الأول..
[40]- Deng Xiaoping, People.com.cn, 10/ 7/ 2007.
وثيقة مقدّمة لأعمال المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني وقد نُشرت في النشرة اليوميّة لـ«شبكة الصين» قبل انعقاد المؤتمر المُقرّر في تشرين الأول 2007 حول حياة ونضال دينغ شياو بينغ.
[41]- وثيقة مقدّمة لأعمال المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني وقد نُشرت في النشرة اليوميّة لـ«شبكة الصين» قبل انعقاد المؤتمر المُقرّر في تشرين الأول 2007 حول حياة ونضال دينغ شياو بينغ. م.س.
[42]- م. ن.
[43]- وثيقة مقدّمة لأعمال المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني، وقد نُشرت في النشرة اليوميّة لـ«شبكة الصين» قبل انعقاد المؤتمر المُقرّر في تشرين الأول 2007 حول حياة ونضال دينغ شياو بينغ. م. س.
[44]- جيمي كارتر، «مذكرات البيض الأبيض»، ص356.
[45]- م. ن، ص496. وقد حافظنا هنا على صياغة الترجمة كما وردت في النّص العربي، رغم ارتباك هذا النّص، حفظًا لأمانة النقل.
[46]- جيمي كارتر، «مذكرات البيض الأبيض»، ص356.
[47]- «الصين اليوم»، متوفر على الانترنت: http://www.chinatoday.com.cn/Arabic/2008n/0810/p9.htm
[48]- Shaoming Cheng, «From East to West: The Evolution of China’s FDI Preferential Policies». Journal of the Washington Institute of China Studies, spring 2006, V. 1, No. 1., p. 62.
ابتداءً من عام 1990 تمَّ إلغاء هذا الشرط وأصبح ممكنًا أن يختار المساهمون رئيسًا أجنبيًّا للمشروع أو للشركة القائمة.
[49]- راجع في خصوص ذلك: بن عباس حمودي، «دور الاستثمار الأجنبي المباشر في التنمية الاقتصادية: حالة الصين»، كلية العلوم الاقتصادية، جامعة بسكرة، الجزائر، 2012، ص104-105 و107-108.
[50]- علوي، حمزة، «الإمبريالية الجديدة»، ص59.
[51]- شفيق، منير، «الشركات المتعددة الجنسيات – ستار للنهب والقهر الإمبريالي الأمريكي»، مقال في مجلة «دراسات عربية»، ص80. بعد بضعة أشهر من صدور هذا المقال، قطع منير شفيق أي علاقة له بالماركسية واللينينية.
[52]- م. س، ص71.
[53]- شفيق، منير، «الشركات المتعددة الجنسيات – ستار للنهب والقهر الإمبريالي الأمريكي»، ص81.
[54]- يمكن تلمس حدّة هذا التناقض على المستوى السياسي من خلال مواقف ديغول تجاه الولايات المتحدة واتخاذه لمواقف مستقلة إزاء المشكلات الدولية ورفض السوق الأوروبية المشتركة إدخال بريطانيا إليها نظرًا لارتباطاتها مع الولايات المتحدة اقتصاديًا.
[55]- يمكن هنا مراجعة: جالييه، بيار: «الامبريالية عام 70»، ص63-64.
[56]- ماندل، أرنست، «النظرية الاقتصادية الماركسية»، الجزء الثاني، ص171.
[57]- الحافظ، مهدي، «استراتيجية التنمية الدولية إلى أين»، دراسة في جريدة «السفير» البيروتية، 24/ 5/ 1981.
[58]- مرسي، فؤاد، «نحو استراتيجية شاملة للتنمية الاقتصادية العربية (2) – مأزق التنمية من خلال التكامل الدولي»، مجلة «دراسات عربية»، ص24.
[59]- عبد الله، صبري، إسماعيل «نحو نظام اقتصادي عالمي جديد»، ص176.